الكتاب: مختصر الإنصاف والشرح الكبير (مطبوع ضمن مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الثاني) المؤلف: محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي (المتوفى: 1206هـ) المحقق: عبد العزيز بن زيد الرومي، د. محمد بلتاجي، د. سيد حجاب الناشر: مطابع الرياض - الرياض الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مختصر الإنصاف والشرح الكبير (مطبوع ضمن مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الثاني) محمد بن عبد الوهاب الكتاب: مختصر الإنصاف والشرح الكبير (مطبوع ضمن مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الثاني) المؤلف: محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي (المتوفى: 1206هـ) المحقق: عبد العزيز بن زيد الرومي، د. محمد بلتاجي، د. سيد حجاب الناشر: مطابع الرياض - الرياض الطبعة: الأولى عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مختصر الإنصاف والشرح الكبير تأليف: أبي عبد الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب ال مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه. أما بعد، فإن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله وأكرم مثواه، (1115-1206هـ) ، قد جدد ما اندرس من عقيدة التوحيد في البلاد النجدية، كما هو معلوم مشهود من حال الناس قبل قيامه لله داعياً إلى الدين الخالص، وما آلت إليه حالهم بدعوته المباركة، حيث صفت عقائدهم من شوائب الشرك، وتحقق ما أراد الله على يديه من خير لهذه البلاد. فبجهاده ومؤازرة الإمام (محمد بن سعود) له، انقشعت غيوم الشرك المتراكمة على سماء العقيدة، وأشرقت شمس الحق بنور التوحيد، فمزقت سحب الجهل، وبددت فلول الباطل؛ فلا مكان لطاغوت مضل، أو قبر يُعبد، أو وثن له يسجد. ولا قرار لمشعوذ يستخف عقول الناس، ويروج أباطيل الخرافة. ولقد امتدت آثار هذه الدعوة الميمونة إلى الأقطار، فمدت ظلالها على ربوع تلك الديار التي كانت هي الأخرى تعاني من فساد المعتقد، وتتخبط في ليل غابت نجومهن واعتكر ظلامهن لا يهتدي السائر فيه سبيلاً، ولا يجد الحائر إلى غايته دليلاً. ولئن كان الشيخ، يرحمه الله، معنياً بالدرجة الأولى بتصحيح تصور الناس نحو العقيدة، وتثبيت قواعدها، وتجريدها من الشوائب التي أُدخلت عليها، حتى ظن أنها من الدين، لئن كان يولي هذا الأمر جل اهتمامه، فإن له، أيضاً، المؤلفات والفتاوى والردود في المسائل الفروعية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وإليه يرجع فيها، وعلى ما قرره يعوّل. وكان من أبعد الناس عن التعصب والتقليد الأعمى، يدعو إلى التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يتوخى الدليل، ويرى الاقتداء بالأئمة فيما لم يقم الدليل على خلافه من اجتهاداتهم. والناظر في مؤلفاته يرى أنها على قسمين: منها ما ألّفه ابتداء، ومنها ما اختصره من أصوله المطولة لتيسير الانتفاع به. وقد اتجهت الرغبة منه، رحمه الله، إلى اختصار كتابين من أشهر وأوسع ما صنف في الفقه الحنبلي، لما رأى في زمنه من الحاجة لذلك. هذان الكتابان هما: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" على مذهب الإمام أحمد ابن حنبل. ومؤلفه العلامة الفقيه علاء الدين علي بن سليمان المرداوي الحنبلي (817-885هـ) . والثاني: "الشرح الكبير" ومؤلفه شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر بن قدامة المقدسي (597-682 هـ) . وكلا الكتابين شرح لكتاب "المقنع" لموفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي (541-620 هـ) . وتم ما أراده، رحمه الله، بمختصر لطيف، بدأ كل باب منه بما اختاره الشرح، وختمه بما استدركه من الإنصاف. وبحق، لقد أحسنت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حين تفضلت بطباعة ما تيسر من مؤلفات هذا الإمام، انطلاقاً من سياستها القائمة على الدعوة إلى الإسلام، والعناية بكل ما يهم المسلمين، ويربطهم بدينهم عقيدة وسلوكاً ومنهج حياة. فجزى الله القائمين عليها خيراً، ووفقهم لما فيه صلاح المسلمين. ثم إنه عهد إلينا من قِبل "أمانة أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب" بتصحيح كتاب "مختصر الإنصاف والشرح الكبير"، فلم نجد بداً من الإسهام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 بهذا العمل بقدر المستطاع. وهذا الكتاب قد طبع طبعته الأولى بالمطبعة السلفية بمصر عن نسخة خطية، ذكر ناشره محب الدين الخطيب في مقدمته أنه أرسلها إليه الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمد بن عبد اللطيف، وأنها معاصرة للطبقة الأولى من أبناء الشيخ، رحمه الله، كتبها سعد بن محمد الأخ الرشيد مرشد بن أحمد بن هوين، وفرغ من كتابتها يوم الثلاثاء لثلاث وعشرين خلون من جمادى الآخرة، أحد شهور سنة (1224هـ) . وفي آخرها أيضاً، ذكر اسم كاتبها وتاريخ الكتابة، إلا أنه قال: "بقلم ... عبده سعد بن محمد، كتبه للأخ الرشيد ... بن هوير" فليحرر. كما وجد لهذا الكتاب أصل مخطوط بالمكتبة السعودية بالرياض برقم (465/86) يقع في (312) 1 صفحة من الحجم المتوسط، على صفحة الغلاف اسم الكتاب ومؤلفه. وفي أعلى الصفحة الأولى: "سم الله الرحمن الرحيم، هذا منقول من الشرح الكبير والإنصاف أول كل باب من الشرح وآخر كل باب من الإنصاف". وفي آخره النص التالي: "آخره والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، بلغ مقابلة في ملكه عبد الرحمن بن أحمد بن قاسم، غفر الله له ولوالديه". لذا كان عملنا في جملته لا يعدو مقابلة إحدى النسختين على الأخرى، واستدراك ما أهمل في الطبعة السلفية مما تقتضيه أصول الطباعة الحديثة، وتلافي أخطاء الطباعة فيها، مع ترقيم الآيات، وتصويب الأخطاء الإملائية مما لم تخل منه النسختان. وقد تبين لنا نقص في مواضع متعددة من المطبوعة أثبتناه بين قوسين ونبهنا   1 بين لنا أثناء المقابلة سقط بين صحيفتي 311، 312 بما يعادل ورقتين تقريباً تلافيناه من المطبوعة ومخطوطة أخرى مخرومة توجد في المكتبة السعودية برقم (89/86) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 عليه في الحاشية، إما بقولنا: "ساقط من النسخة السلفية أو زيادة من المخطوطة". وعند الاشتباه أو التردد في لفظ أو جملة، نرجع إلى الأصل فنثبت عبارته، ما لم يكن أدخل عليها شيء من التصرف، فعندئذٍ نترك عبارة المختصر على ما هي عليه، وننقل عبارة الأصل في الهامش، وننبه إلى أننا حينما نطلق كلمة "الأصل" نعنى بها "الشرح الكبير" أو "الإنصاف"، كما نعني بالمطبوعة: نسخة المطبعة السلفية، وبالمخطوطة أو المختصر: نسخة المكتبة السعودية المنوه عنها، والتي اعتمدت أصلاً في طباعة هذا الكتاب. نسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجزي مؤلفي الأصلين والمختصر خيراً، وأن ينفع بعلومهم، كما نسأله أن يجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن يغفر لنا الزلات، ويتجاوز عن السيئات. وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم إلى يوم الدين. عبد العزيز بن زيد الرومي صالح بن محمد الحسن الرياض في 22/ 1/ 1398 هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 كتاب الطهارة باب المياه ... باب المياه 1 وهي ثلاثة: طهور، وهو الباقي على خلقته. وجملته أن كل صفة خلق عليها الماء وبقي عليها فهو طهور، لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم طهّرني بالثلج والبرد والماء البارد"، 2 وفي البحر: "هو الطهور ماؤه، الحلُّ ميتته" 3. وهذا قول أهل العلم إلا ما روي عن ابن عمرو في ماء البحر: "التيمم أعجب إليَّ منه"، والأول أولى، لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ، 4 وهذا واجد للماء. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن الوضوء بالماء الآجن جائز، سوى ابن سيرين، فإنه كره ذلك. والماء المتغير بورق الشجر، وما ينبت في الماء، أو تحمله الريح أو السيول، أو ما تغير في آنية الأدم والنحاس ونحوه، يعفى عن ذلك كله، لأنه يشق التحرز منه، أو ما يخالطه كالعود والدهن والعنبر إذا لم يستهلك فيه ولم يتحلل، لأنه تغير عن مجاورة، أو ما أصله الماء كالملح البحري، فإن كان معدنياً فهو كالزعفران، وكذلك الماء المتغير بالتراب، لأنه يوافق الماء في صفته أشبه الملح، أو ما تروح بريح ميتة إلى جانبه، لا نعلم في ذلك خلافاً، أو سخن بالشمس. وقال الشافعي: تكره الطهارة بماء قصد تشميسه، لحديث: "لا تفعلي فإنه يورث البرص"، رواه الدارقطني وقال: يرويه خالد بن إسماعيل، وهو متروك، وعمرو الأعسم، وهو منكر الحديث، ولأنه لو كره لأجل الضرر لما اختلف   1 أول كل باب ملخص من الشرح الكبير، وآخره من الإنصاف. 2 مسلم: الصلاة (476) , والترمذي: الدعوات (3547) , والنسائي: الغسل والتيمم (402، 403) , وأحمد (4/354) . 3 الترمذي: الطهارة (69) , والنسائي: المياه (332) والصيد والذبائح (4350) , وأبو داود: الطهارة (83) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (386) والصيد (3246) , وأحمد (2/237, 2/361, 2/378) , ومالك: الطهارة (43) , والدارمي: الطهارة (729) . 4سورة المائدة آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بقصد التشميس وعدمه، أو بطاهر كالحطب ونحوه، فلا يكره، لا نعلم فيه خلافاً، إلا ما روي عن مجاهد أنه كره الوضوء بالمسخن. وإن سخن بنجاسة فهل يكره؟ على روايتين. ولا يكره الغسل والوضوء بماء زمزم، لحديث أسامة، وعنه: يكره، لقول العباس: "لا أحلّها لمغتسل". وإذا خالط الماء طاهر لم يغيره، لم يمنع الطهارة. قال شيخنا: لا نعلم فيه خلافاً. وإذا وقع فيه ماء مستعمل عُفي عن يسيره، وهذا ظاهر حاله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، "لأنهم يتوضؤون من الأقداح". فإن كثر مُنع في إحدى الروايتين؛ وقال أصحاب الشافعي: إن كان الأكثر المستعمل مُنع، وإلا فلا. فإن كان معه ماء لا يكفيه لطهارته فكمله بمائع آخر لم يغيره، جاز الوضوء به، في إحدى الروايتين. الثاني: طاهر غير مطهر: وهو كل ماء خالطه طاهر، فغير اسمه حتى صار صبغاً أو خلاً، أو طُبخ فيه فصار مرقاً، فلا يجوز الوضوء به، لا نعلم فيه خلافاً؛ إلا أنه حكي عن أصحاب الشافعي وجه في ماء الباقلاء المغلي أنه يجوز الوضوء به. وحكي عن ابن أبي ليلى جواز الوضوء بالمياه المعتصرة، وسائر أهل العلم على خلافه، لأن هذا لا يقع عليه اسم الماء. فإن غيّر أحد أوصافه ففيه روايتان: إحداهما: أنه غير مطهّر، وهو قول مالك والشافعي، أشبه ماء الباقلاء المغلي. إذا ثبت هذا، فإن أصحابنا لا يفرّقون بين المذرور كالزعفران والأشنان وبين الحبوب من الباقلاء ونحوه. وقال الشافعية: ما كان مذروراً منع إذا غيّر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وما عداه لا يمنع، إلا أن ينحلّ في الماء، ووافقهم أصحابنا في الخشب والعيدان، وخالفوهم فيما ذكرنا. وشرط الخرقي الكثرة في الرائحة، لسرعة سرايتها، ولكونها تحصل عن مجاورة، فاعتبرت الكثرة ليعلم أنها عن مخالطة. والرواية الثانية: أنه باق على طهوريته؛ نقلها عن أحمد جماعة، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} 1 وهذا عام في كل ماء، لأنه نكرة في سياق النفي، و"لأن الصحابة كانوا يسافرون وغالب أسقيتهم الأدم، وهي تغيّر أوصاف الماء عادة، ولم يكونوا يتيممون معها". واختلف في المنفصل من المتوضئ عن الحدث والمغتسل من الجنابة، فروي أنه طاهر غير مطهّر، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة والشافعي، وإحدى الروايتين عن مالك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة"، 2 رواه أبو داود، ولولا أنه يفيد منعاً لم ينه عنه، ولأنه أزال به مانعاً من الصلاة. والثانية: أنه مطهّر، وهو قول الحسن وعطاء والنخعي، وإحدى الروايتين عن مالك، والقول الثاني للشافعي. وهو قول ابن المنذر. وروي عن علي وابن عمر: "فيمن نسي مسح رأسه، إذا وجد بللاً في لحيته: أجزأه أن يمسح رأسه به"، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم: "الماء لا يجنب"، 3 و"أنه اغتسل من الجنابة فرأى لمعة لم يصبها الماء، فعصر شعره عليها"، رواه أحمد، ولأنه أدى به فرضاً، فجاز أن يؤدي به غيره، كالثوب يصلي فيه مراراً. وقال أبو يوسف:   1 سورة المائدة آية: 6. 2 البخاري: الوضوء (239) , ومسلم: الطهارة (282, 283) , والترمذي: الطهارة (68) , والنسائي: الطهارة (57, 58, 220, 221) والغسل والتيمم (397, 398, 399, 400) , وأبو داود: الطهارة (70) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (344, 605) , وأحمد (2/259, 2/265, 2/288, 2/316, 2/346, 2/362, 2/394, 2/433, 2/464, 2/529, 2/532) , والدارمي: الطهارة (730) . 3 الترمذي: الطهارة (65) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (370) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 هو نجس لأنه يسمى طهارة، وهي لا تعقل إلا عن نجاسة، وتطهير الطاهر محال، ووجه طهارته: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صبّ على جابر من وضوئه"، والدليل على طهارة أعضاء المحدث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن لا ينجس". وأما المستعمل في طهارة مشروعة كالتجديد، ففيه روايتان، أو غمس فيه يد قائم من نوم الليل قبل غسلها ثلاثاً، فهل يسلب طهوريته؟ على روايتين: إحداهما: لا يسلبه، وهو الصحيح، لأن الماء قبله طهور فبقي على الأصل، والنهي عن الغمس إن كان لوهم النجاسة، فالوهم لا يزيل الطهورية، وإن كان تعبداً اقتصر على النص. والثانية: يسلبه للنهي، فلولا أنه يفيد منعاً لم ينه عنه، وروي عن أحمد: أحب إلي أن يريقه إذا غمس يده فيه. وهل يكون غمس بعض اليد كالجميع؟ فيه وجهان. ولا يجب غسلهما عند القيام من نوم النهار، وسوَّى الحسن بينهما، ولنا: قوله: "فإنّ أحدكم لا يدري أين باتت يده"، 1 والمبيت يكون في الليل خاصة. وإن كان القائم صبياً، ففيه وجهان. واختلفوا في النوم الذي يتعلق به هذا: فذكر القاضي أنه الذي ينقض الوضوء، وقال ابن عقيل: هو ما زاد على نصف الليل. وتجب النية للغسل في أحد الوجهين، والثاني: لا يفتقر، لأنه علل بوهم النجاسة. ولا يفتقر الغسل إلى تسمية، وقال أبو الخطاب: يفتقر، قياساً على الوضوء، وهو بعيد، لأنها لو وجبت في الوضوء وجبت تعبداً. وإذا وجد ماء قليلاً ولم يمكنه الاغتراف، ويداه نجستان، فإن أمكنه الاغتراف بفيه ويصب   1 البخاري: الوضوء (162) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 عليهما فَعل، وإلا تيمم. وإن كانتا بعد نوم الليل، فمن قال: إن غمسهما لا يؤثر، قال: يتوضأ. ومن جعله مؤثراً، قال: يتوضأ ويتمم معه. فإن توضأ من ماء كثير أو اغتسل منه بغمس أعضائه ولم ينو غسل اليد، فعند من أوجب النية له يرتفع حدثه، ولا يجزيه عن غسل اليد، لأن غسلهما إما تعبداً وإما لوهم النجاسة، وبقاء النجاسة على العضو لا يمنع ارتفاع الحدث. وإذا انغمس الجنب أو المحدث في ماء دون القلتين ينوي رفع الحدث، صار مستعملاً ولم يرتفع حدثه؛ وقال الشافعي: يصير مستعملاً ويرتفع حدثه، لأنه إنما يصير مستعملاً بارتفاع الحدث. ولنا: قوله: "لا يغتسلنّ أحدكم في الماء الدائم وهو جنب"، 1 والنهي يقتضي الفساد. وإذا اجتمع ماء مستعمل إلى قلتين، صار الكل طهوراً. وإن بلغ قلتين باجتماعه، فيحتمل أن يزول المنع بحديث القلتين. وإن انضم مستعمل إلى مستعمل وبلغ قلتين، ففيه احتمالان. وإن أزيلت به النجاسة فانفصل غير متغير بعد زوالها، فهو طاهر، رواية واحدة، إن كان المحل أرضاً. وقال أبو بكر: إنما يحكم بطهارته إذا نشفت أعيان البول، فإن كانت قائمة فجرى الماء عليها فطهّرها، ففي المنفصل روايتان، كغير الأرض. ولنا: قوله: "صبّوا على بول الإعرابي ذنوباً من ماء"، فلو كان المنفصل نجسا، ً لكان تكثيراً للنجاسة، ولم يفرّق بين نشافه وعدمه. والظاهر أنه إنما أمر عقيب البول. وإن كان غير الأرض، فهو طاهر في أصح الوجهين؛ وهو مذهب الشافعي. وإن خلت بالطهارة منه امرأة فهو طهور، ولا يجوز للرجل الطهارة به، لحديث الحكم بن عمرو. قال أحمد: جماعة كرهوه.   1 مسلم: الطهارة (283) , والنسائي: الطهارة (220) والغسل والتيمم (396) , وأبو داود: الطهارة (70) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (605) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وخصصناه بالخلوة لقول عبد الله بن سرجس: "توضأ أنت ههنا، وهي ههنا. فأما إذا خلت به فلا تقربنه". وفيه رواية: "يجوز، لحديث ميمونة". فإن خلت به في إزالة النجاسة، ففيه وجهان. وإن خلت به في بعض أعضائها أو تجديد أو استنجاء، فوجهان. وإن خلت به الذمية في غسل الحيض، فوجهان: أحدهما: المنع لأنها أبعد عن الطهارة، وقد تعلق به إباحة وطئها. والثاني: الجواز، لأن طهارتها لا تصح. ويجوز للرجل والمرأة أن يغتسلا ويتوضآ من إناء واحد من غير كراهة. ولا يجوز رفع الحدث إلا بالماء. وقال عكرمة: النبيذ وضوء من لم يجد الماء. وعن أبي حنيفة كقول عكرمة، لحديث ابن مسعود: "ثمرة طيبة وماء طهور". 1 ولنا: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ، 2 أوجب الانتقال إلى التيمم عند عدم الماء، وحديثهم لا يثبت. فأما غير النبيذ، فلا نعلم بين أهل العلم خلافاً أنه لا يجوز الوضوء به، غير ما ذكرنا في الماء المعتصر. القسم الثالث: نجس، وهو ما تغير بمخالطة النجاسة؛ فهو نجس بالإجماع؛ حكاه ابن المنذر. فإن لم يتغير، وهو يسير، فهل ينجس؟ على روايتين: إحداهما: ينجس، لحديث القلتين، وتحديده بهما يدل على نجاسة ما دونهما وإلا لم يكن مفيداً، "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم القائم من نومه عن غسل يده في الماء"، فدل على أنه يفيد منعاً، و"أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب وإراقة سؤره"، ولم يفرق بين ما تغير وبين ما لم يتغير.   1 الترمذي: الطهارة (88) , وأبو داود: الطهارة (84) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (384) , وأحمد (1/449) . 2 سورة المائدة آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 والثانية: "لا ينجس الماء إلا بالتغير، روي عن حذيفة وأبي هريرة وابن عباس والحسن". وهو مذهب الثوري وابن المنذر، لحديث بضاعة. وذهب أبو حنيفة إلى أن الكثير ينجس بالنجاسة من غير تغيّر، إلا أن يبلغ حداً يغلب على الظن أن النجاسة لا تصل إليه. واختلفوا في حده لقوله: "لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل منه"، 1 ولم يفرّق بين قليله وكثيره. ولنا: خبر القلتين وبئر بضاعة. وحديثهم لا بد من تخصيصه بما زاد على الحد الذي ذكروه؛ فتخصيصه بقول النبي صلى الله عليه وسلم أولى من تخصيصه بالرأي والتحكم من غير أصل. وما ذكروه من الحد تقدير من غير توقيف، ولا يصار إليه من غير نص ولا إجماع، مع أن حديثهم خاص بالبول، وهو قولنا في إحدى الروايتين جمعاً بين الحديثين؛ فنقصر الحكم على ما تناوله النص وهو البول، لأن له من التأكيد والانتشار ما ليس لغيره، إلا أن تكون النجاسة بولاً أو عذرة مائعة، ففيه روايتان: إحداهما: لا ينجس، وهو مذهب الشافعي وأكثر أهل العلم، لحديث القلتين. وحديث النهي عن البول فيه لا بد من تخصيصه بما لا يمكن نزحه إجماعاً. فتخصيصه بخبر القلتين أولى من تخصيصه بالرأي والتحكم. والأخرى: ينجس، لحديث النهي عن البول فيه، وإن كوثر النجس بماء يسير أو بغير الماء كالتراب ونحوه، فأزال التغير، لم يطهر في أحد الوجهين، والثاني يطهر لأن علة النجاسة زالت. فأما غير الماء إذا وقعت فيه نجاسة، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: ينجس وإن كثر، لقوله: "وإن كان مائعاً، فلا تقربوه"، 2 ولم يفرق بين قليله وكثيره. الثانية: أنها كالماء، لا ينجس منها ما بلغ قلتين إلا بالتغير، قياساً على الماء.   1 البخاري: الوضوء (239) , ومسلم: الطهارة (282, 283) , والنسائي: الطهارة (58, 221) والغسل والتيمم (397, 398, 399) , وأبو داود: الطهارة (70) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (344) , وأحمد (2/316, 2/346, 2/362, 2/394, 2/433, 2/464) , والدارمي: الطهارة (730) . 2 النسائي: الفرع والعتيرة (4260) , وأبو داود: الأطعمة (3842) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 قال حرب: سألت أحمد قلت: كلب ولغ في سمن أو زيت، قال: إذا كان في آنية كبيرة، مثل حُب أو نحوه، رجوت أن لا يكون به بأسٌ، يؤكل. وإن كان في آنية صغيرة، فلا يعجبني. والثالثة: أن ما أصله الماء كالخل التمري، يدفع النجاسة، وما لا فلا. والماء المستعمل في رفع الحدث وما كان طاهراً غير مطهِّر، ففيه احتمالان، ولا فرق بين يسير النجاسة وكثيرها، وما أدركه الطرف وما لم يدركه. وعن الشافعي: أن ما لا يدركه الطرف معفى عنه للمشقة، ولنا: أن دليل التنجس لا يفرق بين قليل النجاسة وكثيرها؛ فالتفريق تحكم، وما ذكروه من المشقة ممنوع، لأنا إنما نحكم بالنجاسة إذا علمنا وصولها، ثم إن المشقة بمجردها حكمة لا يجوز تعلق الحكم بها بمجردها، وجعل ما يدركه الطرف ضابطاً لها إنما يصحُّ بالتوقيف أو باعتبار الشرع له في موضع واحد، ولم يوجد واحد منهما. والقلتان: خمسمائة رطل بالعراقي، وعنه: أربعمائة رطل، وهل ذلك تقريب أو تحديد؟ على وجهين. ونقل عن أحمد التفريق بين الجاري والواقف، فإنه قال في حوض الحمام: قد قيل إنه بمنزلة الماء الجاري، وقال في البئر: تكون لها مادة وهو واقف ليس هو بمنزلة الجاري، فعلى هذا لا ينجس إلا بالتغير لأن الأصل طهارته، ولأنه بمجموعه يزيد على القلتين. فإن قيل فالجرية لا تبلغهما، قيل: تخصيص الجرية بهذا التقدير تحكم، وهذا اختيار شيخنا، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. وإن اشتبهت ثيابٌ طاهرة بنجسة، صلى في كل ثوب صلاةن بعدد النجس، وزاد صلاة. وقال أبو ثور: لا يصلي في شيء منهما. وقال أبو حنيفة والشافعي: يتحرى، كقولهما في الأواني والقبلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 فإن سقط عليه من طريقٍ ماء، لم يلزمه السؤال عنه. قال عمر: "يا صاحب الحوض لا تخبرنا؛ فإنا نرِد عليها وترد علينا"، رواه في الموطإ. قال ابن عقيل: لا يلزم ردّ الجواب، لخبر عمر. قال شيخنا: يحتمل أن يلزمه، لأنه سئل عن شرط الصلاة، كما لو سئل عن القبلة؛ وخبر عمر يدل على أن سؤر السباع طاهر. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وعند الشيخ: أن كل ما هو طاهر تحصل به الطهارة. وقال في ماء زمزم: وعنه: يكره الغسل وحده، اختاره الشيخ. وذكر عنه أيضاً في الماء المستعمل والمغموسة به يد القائم من نوم الليل: ولو نوى جنب بانغماسه كله أو بعضه في ماء قليل راكد رفْعَ حدثه، لم يرتفع، وقيل: يرتفع، اختاره الشيخ. والماء في محل التطهير لا يؤثر تغيّره، وقيل: يؤثر، اختاره الشيخ وقال: التفريق بينهما بوصف غير مؤثر لغة وشرعاً. وإن لم يتغير وهو يسير، فهل ينجس؟ الرواية الثانية: لا ينجس، اختارها الشيخ. وقيل بالفرق بين يسير الرائحة وغيرها، فيعفى عن يسير الرائحة، ذكره ابن البنا، ونصره ابن رجب في شرح البخاري. وأظن أنه اختيار الشيخ وابن القيم. وإذا لاقت النجاسة مائعاً، فاختار الشيخ أن حكمه حكم الماء. واختار أن الثياب الطاهرة والنجسة إذا اشتبهت، صلى في واحد منها بالتحري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 باب الآنية جميع الآنية الطاهرة يباح استعمالها، سواء كانت ثمينة أو لا، في قول عامة أهل العلم، إلا أنه روي عن ابن عمر أنه كره الوضوء في الصفر والنحاس والرصاص. وروي أن الملائكة تكره ريح النحاس. وقال الشافعي في أحد قوليه: ما كان ثميناً لنفاسة جوهره حرُم، لأن فيه نوع سرف، ولأن تحريم آنية الذهب والفضة تنبيه على تحريم ما هو أنفس منها. ولنا: ما روى البخاري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من تور من صفر". 1 وأما الجواهر فلا يصح قياسها على الأثمان، لأنها لا تُتخذ إلا نادراً. وجاز استعمال القصب من الثياب، وإن زادت قيمته على الحرير. ولو جعل فص خاتمه جوهرة ثمينة جاز، ولو جعله ذهباً لم يجز. قال: ولا يختلف المذهب في تحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة، وحكي عن الشافعي إباحته لتخصيص النهي بالاستعمال كاتخاذ ثياب الحرير. وأما المضبب بهما، فإن كان كثيراً حرُم بكل حال. وقال أبو حنيفة: يباح لأنه تابع للمباح. ولنا: حديث: "من شرب في إناء من ذهب أو فضة أو إناء فيه شيء من ذلك ... " الحديث رواه الدارقطني، 2 إلا أن تكون الضبة يسيرة من الفضة، كتشعيب القدح إذا لم يباشرها بالاستعمال؛ وممن رخص فيه طاووس وإسحاق وابن المنذر. و"كان ابن عمر لا يشرب   1 البخاري: الوضوء (197) . 2 في هامش الأصل: ذكر ابن تيمية أن الحديث ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 من قدح فيه فضة ولا ضبة". وكره الشرب في الإناء المفضض عطاء وسالم، ولعلهم كرهوا ما قصد به الزينة أو كان كثيراً. ويباح طعام أهل الكتاب واستعمال آنيتهم، قال: وهل يكره؟ على روايتين: إحداهما: لا يكره لقوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} ، 1 وحديث ابن المغفل، و"توضأ عمرُ من جرة نصرانية". والثانية: يُكره، لحديث أبي ثعلبة المتفق عليه. وأما ثيابهم، فما ولي عوراتهم كالسراويل فروي عن أحمد أنه قال: أحب إلي أن يعيد إذا صلى فيه. وأما غير أهل الكتاب، فحكم ثيابهم حكم ثياب أهل الذمة عملاً بالأصل. وأما أوانيهم، فمذهب الشافعي أن حكمها حكم أواني أهل الكتاب، "لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة". وقال القاضي: "لا يستعمل ما استعملوه منها إلا بعد غسله"، لحديث أبي ثعلبة. ولا نعلم خلافاً في إباحة الثوب الذي نسجوه. وتباح الصلاة في ثياب الصبيان والمربيات وثوب المرأة الذي تحيض فيه، "لصلاته صلى الله عليه وسلم وهو حامل أمامة"، والتوقي لذلك أوْلى لاحتمال النجاسة. ولأبي داود عن عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلّي في شعرنا ولحفنا". 2 ولا يجب غسل الثوب المصبوغ في حُب الصبّاغ، مسلماً كان أو كتابياً؛ فإن علمت نجاسته طهر بالغسل ولو بقي اللون، لقوله في الدم: "الماء يكفيك، ولا يضرّك أثره". 3 رواه أبو داود. ويستحب تخمير الأواني وإيكاء الأسقية، للحديث.   1 سورة المائدة آية: 5. 2 الترمذي: الجمعة (600) , والنسائي: الزينة (5366) , وأبو داود: الصلاة (645) , وأحمد (6/129) . 3 أبو داود: الطهارة (365) , وأحمد (2/364) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ولا يطهر جلد الميتة بالدباغ. وعنه: يطهر منها جلد ما كان طاهراً في الحياة. قال بعض أصحابنا: يطهر جلد مأكول اللحم؛ وهو مذهب الأوزاعي وإسحاق، لقوله: "ذكاة الأديم: دباغه"؛ 1 والذكاة إنما تُعمل في مأكول اللحم. والأول ظاهر كلام أحمد، لأن قوله: "أيما إهاب دُبغ، فقد طهر" 2 يتناول المأكول وغيره، خرج منه ما كان نجساً في الحياة، لكون الدبغ إنما يرفع نجاسة حادثة بالموت، وحديثهم يحتمل أنه أراد بالذكاة: الطيبة، كقولهم: رائحة ذكية. ويحتمل أنه أراد بها الطهارة؛ يدل عليه أنه لو أراد بالذكاة الذبح، لأضافه إلى الحيوان كله لا إلى الجلد. فأمّا جلود السباع، فلا يجوز الانتفاع بها، وبه قال الأوزاعي وإسحاق. وروي عن ابن سيرين وعروة: الرخصة في الركوب على جلود النمور. ومذهب الشافعي طهارة جلود الحيوانات كلها، إلا الكلب والخنزير. وحكي عن أبي يوسف طهارة كل جلد. وحكي عن مالك، لعموم: "أيما إهاب دُبغ، فقد طهر". 3 ولنا: "نهيه صلى الله عليه وسلم عن ركوب جلود النمور". رواه أبو داود. وله في حديث آخر: "نهى عن جلود السباع والركوب عليها". وإذا قلنا بطهارته بالدباغ، لم يحل أكله. فظاهر كلام الشافعي أنه إن كان من مأكول جاز، لأن الدباغ ذكاة، والأول أصح، لقوله: "إنما حرّم أكلها". 4 ولا يلزم من الطهارة إباحة الأكل. ولا يجوز بيعه قبل الدبغ، لا نعلم فيه خلافاً، وهل يطهر بالدبغ قبل الغسل؟ قيل: لا، لقوله: "يطهِّرها الماء والقرظ". 5 رواه أبو داود. وقيل: بلى، لقوله: "أيما أهاب دُبغ، فقد طهر". 6 ولا يطهر جلد غير المأكول بالذكاة، وقال مالك: يطهر، لقوله: "ذكاة الأديم دباغه"، ولنا: أن النهي عن جلود السباع عام، ولأنه ذبح لا يبيح اللحم؛ وقياس الذكاة على الدبغ لا يصح لأنه أقوى. ولبن الميتة نجسٌ لأنه مائع في وعاء نجس،   1 أحمد (3/476) . 2 مسلم: الحيض (366) , والترمذي: اللباس (1728) , والنسائي: الفرع والعتيرة (4241) , وأبو داود: اللباس (4123) , وابن ماجة: اللباس (3609) , وأحمد (1/219) , ومالك: الصيد (1079) , والدارمي: الأضاحي (1985) . 3 مسلم: الحيض (366) , والترمذي: اللباس (1728) , والنسائي: الفرع والعتيرة (4241) , وأبو داود: اللباس (4123) , وابن ماجة: اللباس (3609) , وأحمد (1/219) , ومالك: الصيد (1079) , والدارمي: الأضاحي (1985) . 4 مسلم: الحيض (363) , والنسائي: الفرع والعتيرة (4234) , وأبو داود: اللباس (4120) , وابن ماجة: اللباس (3610) , وأحمد (6/329) . 5 النسائي: الفرع والعتيرة (4248) , وأبو داود: اللباس (4126) . 6 الترمذي: اللباس (1728) , والنسائي: الفرع والعتيرة (4241) , وأبو داود: اللباس (4123) , وابن ماجة: اللباس (3609) , وأحمد (1/219) , والدارمي: الأضاحي (1985) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وكذلك أنفحتها، وروي أنها طاهرة؛ وهو قول أبي حنيفة وداود، لأن الصحابة أكلوا الجبن لما دخلوا المدائن، وهو يُعمل بالأنفحة، وذبائحهم ميتة. والأول أوْلى لأنه قيل: إن جزارهم اليهود والنصارى، ولو لم ينقل ذلك لكان الاحتمال كافياً؛ فإنه قد كان فيهم اليهود والنصارى. وقد روي "أن الصحابة لما قدموا العراق كسروا جيشاً منهم بعد أن وضعوا طعامهم، فلما فرغ المسلمون أكلوه"، وهو لا يخلو من اللحم ظاهراً. فلو حكم بنجاسة ما ذبح في بلدهم، لما أكلوا من لحمهم. وإن ماتت الدجاجة وفيها بيضة قد صلب قشرها، فهي طاهرة؛ وهو قول ابن المنذر. و"كرهها علي وابن عمر ومالك". وعظام الميتة نجسة، وهو قول مالك والشافعي. ورخص في الانتفاع بعظام الفيلة: ابن سيرين وابن جريج. وقال مالك: إن ذُكِّي الفيل فعظمه طاهر، لأنه مأكول عنده. وقال الثوري وأبو حنيفة: عظام الميتة طاهرة لأن الموت لا يحلها. ولنا: قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1 وتحريم كلِّ ذي ناب من السباع، وقولهم: العظام لا يحلها الموت ممنوع، لقوله: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} الآية 2، ولأن دليل الحياة: الإحساس والألم، وهو في العظم أشد منه في اللحم. والقرن والظفر والحافر كالعظم، لقوله: "ما يُقطع من البهيمة وهي حية، فهو كميته". 3 قال الترمذي: حسن غريب. ويحتمل أن هذا طاهر، والخبر أريد به ما يُقطع مما فيه حياة فيموت بفصله، بدليل الشعر. وصوفها وشعرها وريشها طاهر، وبه قال مالك وابن المنذر. وقال الشافعي: هو نجس لأنه ينمي من الحياة، فينجس بموته كأعضائه؛ وهذا   1 سورة المائدة آية: 3. 2 سورة يس آية: 78. 3 الترمذي: الأطعمة (1480) , وأبو داود: الصيد (2858) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 منتقض بالبيض. وشعر الآدمي طاهر في الحياة والموت. وقال الشافعي في أحد قوليه: ينجس بفصله. ولهم في شعر النبي صلى الله عليه وسلم وجهان. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم فرّق شعره بين أصحابه"، وما كان طاهراً منه، كان طاهراً من غيره. وهل يجوز الخرز بشعر الخنزير؟ فيه روايتان. ورخص فيه الحسن ومالك والأوزاعي. وعن أحمد أنه قال: لا بأس به؛ ولعله قال ذلك لأنه لا يسلم منه الناس، وفي تكليف غسله إتلاف أموال الناس. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": حكى ابن عقيل عن أبي الحسن التميمي أنه قال: إذا اتخذ مسعطاً أو قنديلاً أو نعلين أو مجمرة أو مدخنة ذهباً أو فضة كره، ولم يحرم. وفي الضبة أربع مسائل: كونها يسيرة بالشروط المتقدمة فتباح، وكبيرة لغير حاجة فلا تباح. واختار الشيخ الإباحة إذا كانت أقل مما فيه، وكبيرة لحاجة، ويسيرة لغير حاجة فلا تباح. وقيل: لا تحرم، اختاره الشيخ. وقال أبو بكر: يباح يسير الذهب، واختاره الشيخ وقال: قد غلط طائفة من الأصحاب حيث حكت قولا بإباحة يسير الذهب تبعاً في الآنية عن أبي بكر، وأبو بكر إنما قال ذلك في باب اللباس والتحلي وهما أوسع. وقال الشيخ أيضاً: يباح الاكتحال بميل الذهب والفضة، لأنها حاجةٌ. وإذا قلنا: يطهر جلد الميتة بالدباغ، فهل يختص بالمأكول أو ما كان طاهراً في حال الحياة؟ فيه وجهان: أحدهما: يشمل، اختاره الشيخ، واختار في الفتاوى المصرية اختصاصه بالمأكول. وعلى القول بأن الدباغ لا يطهر اختار الشيخ الانتفاع به في المائعات إن لم ينجس العين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ولا يطهر جلد غير المأكول بالذكاة، ولا يجوز ذبحه لأجل ذلك. قال الشيخ: ولو كان في النزع. وما طهر بدبغه جاز بيعه. وأطلق أبو الخطاب جواز بيعه مع نجاسته، قال في الفروع: فيتوجه منه جواز بيع نجاسة يجوز الانتفاع بها، ولا فرق ولا إجماع كما قيل. قال ابن قاسم المالكي: لا بأس ببيع الزبل. قال اللخمي: هذا من قوله يدل على بيع العذرة، وقال ابن الماجشون: لا بأس ببيع العذرة، لأنه من منافع الناس. ولبن الميتة وأنفحتها نجس. وعنه: أنه طاهر مباح، اختاره الشيخ. واختار طهارة عظمها وقرنها وظفرها، نقل الميموني: صوف الميتة ما أعلم أحداً كرهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 باب الاستنجاء يستحب لمن أراد دخول الخلاء أن يقول: "بسم الله"، لحديث علي، رواه ابن ماجة. ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس، الخبيث المخبث، الشيطان الرجيم"، لحديث أبي أمامة، رواه ابن ماجة، ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث"، لحديث أنس، متفق عليه، قال أبو عبيدة: الخبْث بسكون الباء: الشر، وبضمها وبضم الخاء: جمع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة. استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم. ولا يدخله بشيء فيه ذكر الله، "لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخله وضع خاتمه"، 1 قال الترمذي: صحيح غريب. ويقدم اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج، ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، ولا يتكلم "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام في هذه الحال". رواه مسلم. ولا يذكر الله بلسانه، "روي كراهته عن ابن عباس". وعن ابن سيرين: لا بأس به. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد السلام الذي يجب رده". فإن عطس، حمد الله بقلبه ولم يتكلم. وفي رواية: يحمد الله بلسانه. وإذا خرج قال: "غفرانك"، لحديث الترمذي وحسنه، ويقولُ: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني"، لحديث ابن ماجة. ولا بأس أن يبول في الإناء، لحديث أميمة، رواه أبو داود. وإن كان في الفضاء، أبعد، لما روى أبو داود في الاستتار والارتياد: "أنه صلى الله عليه وسلم إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد، واستتر، وارتاد مكاناً رخواً". 2 ويستحب أن يبول قاعداً، قال   1 الترمذي: اللباس (1746) , والنسائي: الزينة (5213) , وأبو داود: الطهارة (19) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (303) . 2 أبو داود: الطهارة (2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ابن مسعود: "من الجفاء أن تبول وأنت قائم"، و"رويت فيه الرخصة عن عمر وغيره"، لحديث حذيفة، ولعله فعله ليبين الجواز، أو كان في موضع لا يتمكن من الجلوس فيه. ولا يبول في شق ولا سرب ولا طريق ولا ظل نافع ولا تحت شجرة مثمرة، ومثلها موارد الماء، لما روى أبو داود: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجحر"، 1 قال قتادة: يقال: إنها مساكن الجن، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل"، 2 والبول تحت الشجرة المثمرة ينجس الثمرة. ويكره البول في الماء الراكد للنهي عنه، ولا يبول في المغتسل لما روى أبو داود عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم، أو يبول في مغتسله". 3 وقد رُوي أن عامة الوسواس منه. قال أحمد: إن صب عليه الماء فجرى في البالوعة، فلا بأس. ولا يستقبل الريح لئلا يتنجس. ولا يجوز أن يستقبل القبلة في الفضاء، وهذا قول أكثر أهل العلم، وفي استدبارها فيه واستقبالها في البنيان روايتان. ثم ذكر في النهي حديث أبي أيوب المتفق عليه وحديث أبي هريرة عند مسلم إلى أن قال: والثالثة: يجوز في البنيان، ولا يجوز في الفضاء، وهو الصحيح. ثم ذكر حديث مروان الأصغر عن ابن عمر، رواه أبو داود وقال: هذا تفسير للنهي العام، وفيه جمع بين الأحاديث. فإذا فرغ مسح بيسراه من أصل ذكره إلى رأسه، ثم ينتره ثلاثاً، لحديث: "إذا بال أحدكم، فلينتر ذكره ثلاث مرات ". 4 رواه أحمد. ولا يمسح ذكره بيمينه ولا يستجمر بها، لحديث: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه " 5.   1 أبو داود: الطهارة (29) , وأحمد (5/82) . 2 أبو داود: الطهارة (26) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (328) . 3 النسائي: الطهارة (238) , وأبو داود: الطهارة (28) , وأحمد (4/110, 5/369) . 4 ابن ماجة: الطهارة وسننها (326) , وأحمد (4/347) . 5 البخاري: الوضوء (153, 154) والأشربة (5630) , ومسلم: الطهارة (267) , والترمذي: الطهارة (15) , والنسائي: الطهارة (24, 25, 47) , وأبو داود: الطهارة (31) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (310) , وأحمد (4/383, 5/295, 5/296, 5/300, 5/309, 5/310, 5/311) , والدارمي: الطهارة (673) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 متفق عليه. وإن فعل لغير حاجة أجزأه عند الأكثر. وحكي عن بعض أهل الظاهر أنه لا يجزئه، للنهي، كما لو استنجى بالروث. والأول أولى، لأن الروث آلة الاستجمار، وبشرطه: واليد إنما يتناول بها الحجر الملاقي للمحل. والجمع بين الحجر والماء أفضل، قال أحمد: هو أحب إليَّ، لقول عائشة: "مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء من أثر الغائط والبول، فإني أستحييهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله". 1 قال الترمذي: حديث صحيح. ويجزئه أحدهما في قول الأكثر. وحكي عن سعد بن أبي وقاص وابن الزبير "أنهما أنكرا الاستنجاء بالماء"، قال ابن المسيب: وهل يفعل ذلك إلا النساء، وقال عطاء: غسل الدبر محدث. وأما الاقتصار على الاستجمار فجائز بغير خلاف، إلا أن يعدو الخارج موضع العادة، فلا يجزئ إلا الماء، وبهذا قال الشافعي وابن المنذر. والثيب إن تعدى بولها إلى مخرج الحيض، فقال أصحابنا: يجب غسله، قال شيخنا: ويحتمل أن لا يجب، لأنه لو لزم لبينه صلى الله عليه وسلم لأزواجه. و"إذا استنجى بالماء استحب له دلك يده بالأرض، لأنه صلى الله عليه وسلم فعله". رواه البخاري. قال حنبل: سألت أحمد قلت: أتوضأ وأستبرئ وأجد في نفسي أني قد أحدثت بعد، قال: إذا توضأت فاستبرئ، ثم خذ كفاً من ماء فرُشّه في فرجك ولا تلتفت إليه، فإنه يذهب إن شاء الله. والاستجمار بالخشب والخرق وما في معناهما مما ينقي جائز في قول الأكثر، وعنه: لا يجزئ إلا الأحجار، وهو مذهب داود، وفي حديث سلمان عند مسلم: "نهانا أن نستنجي برجيع أو عظم"، وتخصيصهما بالنهي يدل على أنه أراد الحجارة وما قام مقامها. ويشترط فيما يستجمر به أن   1 الترمذي: الطهارة (19) , والنسائي: الطهارة (46) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 يكون طاهراً، فإن كان نجساً لم يجزئه، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجزئه، ولنا: قوله في الروث: "هذا ركس" يعني: نجساً، رواه الترمذي. ولا يجوز بالروث والعظم. وقال أبو حنيفة: يجوز، وأباح مالك الاستنجاء بالطاهر منها. ولنا: ما روى مسلم عن ابن مسعود، وكذلك الطعام لأنه علل النهي عن العظم والروث، بأنه زاد الجن، فزادنا أولى. ولا يجزي أقل من ثلاث مسحات، إما بحجر ذي شعب أو ثلاثة أحجار، وعنه: لا يجزئ أقل من ثلاثة أحجار وهو قول ابن المنذر ويشترط الإنقاء وهو إزالة النجاسة وبلِّها، وقال مالك: يجزئ دون العدد إذا حصل الإنقاء، ولنا: حديث سلمان. ويقطع على وتر، لحديث أبي هريرة. ويجزئ في النادر كالمعتاد. ولأصحاب الشافعي وجه: أنه لا يجزئ في النادر; لأنه أمر بغسل الذكر من المذي. ويجب من كل خارج إلا الريح، وهذا قول أكثر أهل العلم، أعني: وجوب الاستنجاء في الجملة. وحكي عن ابن سيرين فيمن صلى بقوم ولم يستنج: لا أعلم به بأساً، وهذا مذهب أبي حنيفة. فإن توضأ قبله، فهل يصح وضوؤه؟ على روايتين. الثانية: يصح، وهي أصح، وهو مذهب الشافعي. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال أحمد في الدرهم إذا كان فيه اسم الله أو مكتوباً عليه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1 يكره أن يدخل اسم الله الخلاء. ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، يحتمل الكراهة إذا لم تكن حاجة؛ جزم به الشيخ في شرح العمدة. ويحتمل التحريم، وهي رواية عن أحمد. وحَمْدُ العاطس وإجابة المؤذن بقلبه، ويكره بلفظ؛ وعنه: لا يكره. قال الشيخ: يجيب المؤذن في الخلاء. ولا يستقبل الشمس ولا القمر،   1 سورة الإخلاص آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وقيل: لا يكره، اختاره في الفائق. ويحرم استقبال القبلة واستدبارها في الفضاء والبنيان، اختاره الشيخ وابن القيم، ويكفي انحرافه. وظاهر كلام صاحب المحرر وحفيد: لا يكفي. وإذا فرغ مسح ... إلخ. وقال الشيخ: يكره السلت والنتر. وظاهر كلام المصنف: لا يتنحنح، ولا يمشي بعد فراغه وقبل الاستنجاء، قال الشيخ: كل ذلك بدعة. واختار أنه يستجمر في الصفحتين والحشفة وغير ذلك، للعموم. ولا يجب غسل ما أمكن من داخل فرج ثيب من نجاسة وجنابة، نص عليه، واختاره المجد وحفيده. وأثر الاستجمار نجس يعفى عن يسيره، وعنه: طاهر. وظاهر كلام المصنف: جواز الاستجمار بالمغصوب، واختاره الشيخ في قواعده1. واختار الإجزاء بالروث والعظام، قال: لأنه لم ينه عنه لكونه لا ينقى، بل لإفساده. فإذا قيل يزول بطعامنا مع التحريم، فهذا أولى. واختار في قواعده الإجزاء بالمطعوم ونحوه.   1 اختيار الشيخ في الإنصاف اشتراط إباحة المستجمر به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 باب السواك وسنية الوضوء ... باب السواك وسنة الوضوء والسواك مسنون في جميع الأوقات، لا نعلم خلافاً في استحبابه وتأكده، إلا للصائم بعد الزوال، ولا نعلم أحداً، قال بوجوبه إلا إسحاق وداود. و"يتأكد استحبابه عند الصلاة وعند القيام من النوم"، لحديث حذيفة، وعند تغير رائحة الفم. ويستاك على أسنانه ولسانه، لقول أبي موسى: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستاك على لسانه"1. متفق عليه. فإن استاك بأصبعه أو خرقة، فهل يصيب السنة؟ على وجهين: أحدهما: لا يصيب. والثاني: يصيب بقدر ما يحصل من الإنقاء. ولا يترك القليل من السنة للعجز عن كثيرها، وهو الصحيح، لحديث أنس، مرفوعاً: "يجزئ من السواك الأصابع". رواه البيهقي، قال محمد بن عبد الواحد الحافظ: هذا إسناده لا أرى به بأساً. ويستاك عرضاً، فإن استاك على لسانه طولاً، فلا بأس، لحديث أبي موسى: "دخلت عليه وهو واضع طرف السواك على لسانه، يستن إلى فوق". ويدّهن غباً، لنهيه عن الترجل إلا غباً، قال أحمد: معناه يدهن يوماً ويوماً، ولأبي داود عنه صلى الله عليه وسلم: "من اكتحل فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج" 2. فصول في الفطرة. روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفطرة خمس: الختان، الاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط" 3.   1 مسلم: الطهارة (254) , والنسائي: الطهارة (3) , وأبو داود: الطهارة (49) , وأحمد (4/416) . 2 أبو داود: الطهارة (35) , وأحمد (2/351, 2/356, 2/371) , والدارمي: الطهارة (662) . 3 البخاري: اللباس (5891) , ومسلم: الطهارة (257) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 متفق عليه. ثم ذكر حديث ابن الزبير عن عائشة، مرفوعاً: "عشر من الفطرة". 1 أخرجه مسلم. وسئل أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره، أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه. قيل له: بلغك فيه شيء؟ قال: "كان ابن عمر يدفنه". قيل لأحمد: ترى أن يأخذ الرجل سفلته - أي عانته – بالمقراض، وإن لم يستقص؟ قال: أرجو أن يجزيه، إن شاء الله. ويستحب إعفاء اللحية، وهل يكره أخذ ما زاد على القبضة; فيه وجهان: أحدهما: يكره، لحديث ابن عمر، مرفوعاً: "خالفوا المشركين، احفو الشوارب وأوفوا اللحى". 2 متفق عليه. والثاني: "لا يكره، لأن ابن عمر كان يفعله"، رواه البخاري. وسئل أحمد عن: الرجل يتخذ الشعر؟ قال: سنة حسنة، لو أمكننا اتخذناه. وقال: "كان للنبي صلى الله عليه وسلم جمة". و"يستحب أن يكون شعر الإنسان على صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم إذا طال فإلى المنكب، وإذا قصر فإلى شحمة الأذن". وإن طوّله فلا بأس نص عليه. وقال أبو عبيدة: "كان له عقيصتان، وعثمان كان له عقيصتان". ويستحب ترجيل الشعر وإكرامه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان له شعر فليكرمه". 3 رواه أبو داود. ويستحب فرقه، "لأنه صلى الله عليه وسلم فرق وذكره في الفطرة". وهل يكره حلق الرأس في غير الحج والعمرة؟ فيه روايتان: إحداهما: يكره، لقوله في الخوارج: "سيماهم التحليق ". 4 والثانية: لا، "لنهيه صلى الله عليه وسلم عن القزع"، وقال: "احلقه كله، أو دعه كله". رواه أبو داود، قال ابن عبد البر: أجمع العلماء في جميع الأمصار على إباحة الحلق، وكفى بهذا حجة. فأما أخذه بالمقراض، فلا بأس، رواية واحدة؛ قال أحمد: إنما كرهوا الحلق بالموسى، وأما المقراض فليس به بأس. وحلقه للمرأة   1 مسلم: الطهارة (261) , والترمذي: الأدب (2757) , والنسائي: الزينة (5040, 5041، 5042) , وأبو داود: الطهارة (53) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (293) , وأحمد (6/137) . 2 مسلم: الطهارة (259) . 3 أبو داود: الترجل (4163) . 4 البخاري: التوحيد (7562) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 مكروه، رواية واحدة إلا لضرورة. قيل لأحمد: لا نقدر على الدهن وما يصلحه يقع فيه الدواب، فقال: إن كان لضرورة، فأرجو أن لا يكون به بأس. ويكره نتف الشيب، لحديث عمرو بن شعيب، وروي عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه لعن الواصلة والمستوصلة، والنامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة"، فهذه الخصال محرمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعلها. وأما الواصلة بغير الشعر، فإن كان مما يشد به فلا بأس، وإن كان أكثر من ذلك ففيه روايتان. والنامصة: التي تنتف الشعر من الوجه. وإن حلقه فلا بأس، لأن الخبر ورد في النتف، نص عليه. والواشرة: التي تبرد الأسنان لتحددها وتفلجها وتحسنها. وفي خبر آخر: "لعن الله الواشمة والمستوشمة" 1."ويستحب الطيب لأنه يعجبه صلى الله عليه وسلم". والنظر في المرآة، قال حنبل: كان لأبي عبد الله صينية فيها مرآة ومكحلة ومشط، فإذا فرغ من قراءة حزبه نظر في المرآة واكتحل وامتشط. ولأحمد عن أبي أيوب، مرفوعا: ً "أربع من سنن المرسلين: الحياء والتعطر والسواك والنكاح" 2. ويستحب خضاب الشيب بغير السواد. قيل لأحمد: تكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكر: "وجنبوه السواد". ويكره القزع وهو: حلق بعض الرأس، لنهيه عنه. ويجب الختان ما لم يخف على نفسه، لقوله لرجل أسلم: "ألق عنك شعر الكفر، واختتن". 3 رواه أبو داود، قال أحمد: "كان ابن عباس يشدد   1 البخاري: الطلاق (5347) , وأحمد (4/308) . 2 الترمذي: النكاح (1080) , وأحمد (5/421) . 3 أبو داود: الطهارة (356) , وأحمد (3/415) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 في أمره". وروي عنه: "لا حج له ولا صلاة". 1 ورخص الحسن في تركه قال: "قد أسلم الأسود والأبيض ولم يفتش واحد منهم، ولم يختتنوا". ويشرع في حق النساء، بقوله: "إذا التقى الختانان وجب الغسل". 2 قال مالك: يختتن يوم أسبوعه، وقال أحمد: لم أسمع فيه شيئاً. قال ابن المنذر: ليس فيه خبر حتى يرجع إليه ولا سنة تتبع، والأشياء على الإباحة. ويتيامن في سواكه وطهوره وانتعاله ودخوله المسجد، لقول عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله". 3 متفق عليه. (فصل) : وسنن الوضوء عشر: السواك، لقوله: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم مع كل وضوء بسواك". 4 رواه أحمد. والتسمية، وعنه: أنها واجبة مع الذكر، لقوله: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". 5 رواه أبو داود، وقال أحمد: ليس في هذا حديث. وغسل الكفين إن لم يكن قائما من نوم الليل، وإلا ففي وجوبه روايتان، لأن الذين وصفوا وضوءه صلى الله عليه وسلم ذكروا: "أنه غسَل كفيه ثلاثاً"، وأما عند القيام من نوم الليل، فروي عنه: أنه مستحب، وهو قول مالك والشافعي وابن المنذر، لأن الله قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} 6 الآية. والحديث محمول على الاستحباب. وهذا هو الصحيح إن شاء الله.   1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1081) . 2 الترمذي: الطهارة (109) , وأحمد (6/47, 6/97, 6/112, 6/123, 6/135, 6/161, 6/227, 6/239) , ومالك: الطهارة (104, 105, 106) . 3 صحيح البخاري: كتاب الوضوء (168) , وصحيح مسلم: كتاب الطهارة (268) . 4 أحمد (2/460) . 5 الترمذي: الطهارة (25) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (398) . 6 سورة المائدة آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 والبداءة بالمضمضة والاستنشاق والمبالغة فيهما، إلا أن يكون صائماً، لأن الذين وصفوا وضوءه صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك - أي الابتداء بهما - قبل الوجه. والمبالغة سنة، لقوله: "أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً". 1 صححه الترمذي، وقسنا عليه المضمضة، لأنها من الإسباغ. ويستحب المبالغة في سائر الأعضاء بالتخليل ودلك المواضع التي ينبو عنها الماء. و"يستحب مجاوزة موضع الوجوب بالغسل"، لحديث أبي هريرة، وتخليل اللحية، لحديث عثمان: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته". 2 صححه الترمذي. ويستحب أن يتعهد بقية شعور وجهه، ويمسح مآقيه، 3 لما روى أبو داود: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسح المأقين"، 4 وتخليل أصابع اليدين والرجلين، لما تقدم، وهو في الرجلين آكد، لقول المستورد: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ دلك أصابع رجليه بخنصره". 5 رواه أبو داود. وذكر ابن عقيل في استحباب تخليل أصابع اليدين روايتين: إحداهما: يستحب، لقوله: "إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك". 6 حسنه الترمذي. و"لا خلاف في استحباب البداءة باليمنى"، لحديث عائشة، قال أحمد: أنا أستحب أن يأخذ لأذنيه ماء جديداً؛ وهو قول مالك والشافعي. وقال ابن المنذر: ليس بمسنون. وحكى رواية عن أحمد، لأنه غير موجود في الأخبار، ولأن في حديث الرُّبيع: "مسح برأسه وأذنيه مرة واحدة". 7 رواه أبو داود. والغسلة الثانية والثالثة، أي: سنة وليس بواجب، لأنه توضأ مرة مرة. رواه البخاري   1 الترمذي: الصوم (788) , والنسائي: الطهارة (87, 114) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (407, 448) , والدارمي: الطهارة (705) . 2 الترمذي: الطهارة (31) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (430) . 3 مأق العين: مقدمها. وجمعه مآق. ومؤقها: مؤخرها. وجمعه آماق. 4 أبو داود: الطهارة (134) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (444) . 5 الترمذي: الطهارة (40) , وأبو داود: الطهارة (148) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (446) , وأحمد (4/229) . 6 الترمذي: الطهارة (39) . 7 الترمذي: الطهارة (34) , وأبو داود: الطهارة (129) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف". إلا لصائم بعد الزوال، وعنه: يستحب، اختاره الشيخ. قوله: ويدهن غباً، واختار الشيخ فعل الأصلح بالبدن، كالغسل بماء حار في بلد رطب. وقال: يجب الختان إذا وجبت الطهارة والصلاة. وكره أحمد الحجامة يوم السبت والأربعاء، وعنه: الوقف في الجمعة. قال في الفروع: ويتوجه احتمال: تكره يوم الثلاثاء، لخبر أبي بكرة، وفيه ضعف، قال: ولعله اختيار أبي داود، لاقتصاره على روايته، والصحيح أنه يستاك بيساره. قال الشيخ: ما علمت إماماً خالف فيه كانتثاره. وغسلهما تعبد، 1 وقيل: لوهم النجاسة، كالحدث بالنوم، وقيل: معلل بمبيت يده ملابسة للشيطان، ويغسلان لمعنى فيهما. وذكر أبو الحسين رواية: أنه لأجل إدخالهما الإناء، فيصح وضوؤه ولم يفسد الماء إذا استعمله من غير إدخال. قوله: "أخذ ماء جديداً للأذنين". وعنه: لا يستحب، بل يمسحان بماء الرأس، اختاره الشيخ. قال ابن القيم: الأذكار التي تقولها العامة عند كل عضو لا أصل لها.   1 أي يدي القائم من نوم الليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 باب فروض الوضوء وصفته فروضه ستة: غسل الوجه بالإجماع، للآية. وغسل اليدين، وهو الفرض الثاني. ومسح الرأس وهو الثالث. وغسل الرجلين وهو الرابع. والترتيب على ما ذكر الله وهو الخامس، ومذهب مالك: لا يجب، اختاره ابن المنذر، لأن الله عطف بواو الجمع، وأما ترتيب اليمنى على اليسرى فلا يجب بالإجماع، لأن الله ذكر مخرجهما واحداً، قال: {وَأَيْدِيَكُمْ} ، {وَأَرْجُلَكُمْ} . 1 وإن اجتمع الحدثان، سقط الترتيب والموالاة. والموالاة وهي السادس، وعنه: أنها غير واجبة، اختاره ابن المنذر. ووجه الأولى: حديث صاحب اللمعة، رواه أبو داود. والنية شرط لطهارة الأحداث كلها والتيمم، وقال الثوري: تشترط في التيمم دون طهارة الماء للآية. ولنا: "إنما الأعمال بالنيات". 2 والآية حجة لنا، فإن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} 3 أي: لها، كما يقال: إذا لقيت الأمير فترجل، أي: له، وقولهم مقتضى الأمر حصول الإجزاء به، قلنا: بل مقتضاه وجوب الفعل، ولا يمنع أن يشترط له شرطا آخر كآية التيمم. وقولهم: إنها طهارة، قلنا: إنها عبادة. ويستحب أن يتمضمض ويستنشق بيمينه ثم يستنثره بيساره، لما روي "أن عثمان غسل يديه ثلاثاً، ثم غرف بيمينه   1 سورة المائدة آية: 6. 2 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25, 1/43) . 3 سورة المائدة آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فتمضمض واستنشق بكف واحدة، واستنثر بيساره. فعل ذلك ثلاثاً. ثم ذكر سائر الوضوء. ثم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ لنا كما توضأت لكم" رواه سعيد. ولا يجب الترتيب بينهما وبين الوجه، لكن يستحب، لأن الذين وصفوا وضوءه صلى الله عليه وسلم ذكروا أنه بدأ بهما إلا شيئا نادراً. وهل يجب الترتيب بينهما وبين سائر الأعضاء؟ على روايتين: إحداهما: يجب. والثانية: لا، لما روى المقدام: أنه صلى الله عليه وسلم أتي بوضوء فذكره، وفيه: "أنه تمضمض واستنشق بعد غسل الوجه واليدين". رواه أبو داود. وهما واجبان في الطهارتين. وعنه: الواجب الاستنشاق وحده فيهما، وبه قال ابن المنذر لقوله: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر". 1 متفق عليه. وعنه: واجبان في الكبرى دون الصغرى. وقال مالك والشافعي: مسنونان فيهما، لحديث: "عشر من الفطرة"، 2 والفطرة: السنة. ولنا: حديث لقيط: "إذا توضأت فتمضمض". رواه أبو داود. وكل من وصف وضوءه ذكر "أنه فعلهما"، ومداومته تدل على وجوبهما، لأن فعله يصلح أن يكون بياناً لأمر الله، وكونهما من الفطرة لا ينفي وجوبهما، كالختان. ثم يغسل وجهه ثلاثاً، وحدّه: من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً مع ما استرسل من اللحية، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً. ولا اعتبار بالأصلع الذي ينحسر شعره عن مقدم رأسه، ولا بالأقرع الذي نزل شعره إلى وجهه، بل بغالب الناس. وقال مالك: ما بين اللحية والأذن ليس من الوجه، ولا يجب غسله. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من فقهاء الأمصار قال بقول مالك هذا. ويدخل في الوجه العذار وهو: الشعر الذي على العظم الناتيء سمت صماخ الأذن، والعارض الذي تحته نابت على الخد واللحيين، والذقن الذي على مجمع اللحيي؛، فهذه الشعور الثلاثة من الوجه. فأما الصدغ وهو: الذي فوق العذار فالصحيح أنه من   1 البخاري: الوضوء (162) , ومسلم: الطهارة (237) , والنسائي: الطهارة (88) , وأحمد (2/242, 2/289, 2/316, 2/401) , ومالك: الطهارة (33) . 2 مسلم: الطهارة (261) , والترمذي: الأدب (2757) , والنسائي: الزينة (5040, 5041، 5042) , وأبو داود: الطهارة (53) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (293) , وأحمد (6/137) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الرأس لأن في حديث الرُّبيع: "أنه مسح برأسه وصدغيه وأذنيه مرة واحدة". 1 رواه أبو داود. وعن أبي حنيفة: لا يجب غسل اللحية الكثيفة وما تحتها من البشرة، قال الخلال: الذي ثبت عن أبي عبد الله في اللحية: أنه لا يغسلها، وليست من الوجه؛ وظاهر هذا كمذهب أبي حنيفة، والمشهور في المذهب: وجوب غسلها، وما روي عن أحمد يحتمل أنه أراد غسل باطنها. وإن كان شعرها خفيفاً يصف البشرة وجب غسلها معه، وإن كان كثيفاً أجزأ غسل ظاهره، ويستحب تخليله ولا يجب؛ وهو قول أكثر أهل العلم، لأن الله لم يذكر التخليل، ولأن أكثر من حكى وضوءه صلى الله عليه وسلم لم يحكه، وهو كثيف اللحية؛ وفعله بعض الأحيان يدل على استحبابه. وقال إسحاق: إذا تركه عامداً أعاد الوضوء، لحديث أنس: "أنه صلى الله عليه وسلم أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه وخلل به لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل". 2 رواه أبو داود. وقال عطاء: يجب غسل ما تحت الشعور الكثيفة في الوضوء، قياساً على الجنابة، وقول الجمهور أولى، والفرْق أنه يشق في الوضوء لتكرره. ولا يستحب غسل داخل العينين في وضوء ولا غسل، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أمر به وفيه ضرر، وذكر عن أحمد: استحبابه في الغسل، وذكره أبو الخطاب من سنن الوضوء، لفعل ابن عمر. وما ذكره عنه يدل على كراهته لكونه ذهب ببصره. ويستحب التكثير في ماء الوجه، لأن فيه غضوناً ليصل الماء إلى جميعه. وروي عن علي في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أدخل يديه في الإناء جميعاً، فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بهما على وجهه، ثم الثانية ثم الثالثة مثل ذلك. ثم أخذ بكفه اليمنى قبضة من ماء فتركها تستن على وجهه". 3 رواه أبو داود، يعني: تسيل وتنصب.   1 الترمذي: الطهارة (34) , وأبو داود: الطهارة (129) . 2 أبو داود: الطهارة (145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 (فصل) : ثم يغسل يديه إلى المرفقين، ويدخلهما في الغسل، في قول الأكثر، وحكي عن بعض المالكية: لا يجب لقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، 1 و "إلى" لانتهاء الغاية. ولنا: أنها تستعمل بمعنى "مع" كقوله: {قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ، 2 {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} . 3 وقال المبرد: إذا كان الحدّ من جنس المحدود دخل فيه، كقولهم بعت الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف. وإذا كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء، فقيل: لا تصح الطهارة حتى يزيله، قال شيخنا: ويحتمل أن لا يجب، لأن هذا يستتر عادة؛ فلو كان واجباً لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم. و"قد عاب عليهم كونهم يدخلون عليه قلحاً، ورفغ أحدهم بين أنملته وظفره"، يعني: أن وسخ أرفاغهم تحت أظفارهم يصل إليه رائحة نتنها، ولو كان مبطلاً للطهارة لكان أهم من نتن الريح. ومن كان يتوضأ من ماء يسير يغترف منه، فغرف منه بيديه عند غسلهما لم يؤثر في الماء، وقال أصحاب الشافعي: يصير مستعملاً، لأنه موضع غسل اليد. ولنا: حديث عثمان، ولو كان هذا يفسد لكان النبي صلى الله عليه وسلم أحق بمعرفته ولبيّنه. ثم يمسح رأسه، وهو فرض بالإجماع، للآية: "يبدأ بيديه من مقدمه، ثم يمرهما إلى قفاه، ثم يردّهما إلى مقدمه"، كما روى عبد الله بن زيد في صفة مسحه صلى الله عليه وسلم. فإن كان ذا شعر يخاف أن ينتفش بردّ يديه لم يردّهما، نص عليه أحمد، لأنه قد روي عن الرُّبَيِّع: "أن رسول الله صلى الله   1 سورة البقرة آية: 187. 2 سورة هود آية: 52. 3 سورة النساء آية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 عليه وسلم توضأ عندها، فمسح الرأس كله من فوق الشعر كل ناحية لمصب الشعر، لا يحرك الشعر عن هيئته". 1 رواه أبو داود. وسئل أحمد: كيف تمسح المرأة؟ فقال: هكذا، ووضع يده على وسط رأسه، ثم جرها إلى مقدمه، ثم رفعها حيث منه بدأ، ثم جرها إلى مؤخره. قال القاضي: روي عنه: أنه يأخذ للردة ماء جديداً، وليس بصحيح. ويجب مسح جميعه مع الأذنين، وعنه: يجزئ مسح أكثره، اختلفت الرواية في قدر الواجب، فروى عنه الجميع في حق كل أحد، وهو مذهب مالك، لقوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} ، 2 والباء للإلصاق، فكأنه قال: وامسحوا رؤوسكم، وصار كقوله سبحانه في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ، 3 ولأن الذين وصفوا وضوءه صلى الله عليه وسلم ذكروا "أنه مسح برأسه كله"، وهو يصلح أن يكون بياناً للمأمور به. وعنه: يجزئ بعضه، ونقل عن سلمة بن الأكوع: "أنه كان يمسح مقدم رأسه، وابن عمر مسح اليافوخ". والظاهر عن أحمد في الرجل: وجوب الاستيعاب، والمرأة يجزيها مسح مقدم رأسها، "لأن عائشة كانت تمسح مقدم رأسها"، واحتج من أجاز مسح البعض بقول المغيرة: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين". 4 رواه مسلم. وقال أنس: "رأيته صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدمة رأسه، ولم ينقض العمامة". 5 رواه أبو داود، وبأن من مسح بعضه يقال: مسح برأسه، كما يقال: مسح برأس اليتيم. واختلفوا في قدر المجز:، فقال أحمد: لا يجزئه إلا الأكثر، وقال أبو حنيفة: ربعه، وقال الشافعي: ما يقع   1 أحمد (6/359) . 2 سورة المائدة آية: 6. 3 سورة المائدة آية: 6. 4 مسلم: الطهارة (274) , والترمذي: الطهارة (100) , والنسائي: الطهارة (109) , وأبو داود: الطهارة (150) . 5 أبو داود: الطهارة (147) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (564) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 عليه الاسم، حكي عنه: ثلاث شعرات. ويجب مسح الأذنين، وعنه: لا، قال الخلال: كلهم حكوا فيمن تركهما عامداً أنه يجزيه، لأنهما منه على وجه التبع، ولا يفهم من الإطلاق دخولهما فيه. ويستحب أن يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه، لأن في حديث الرُّبيع: "فأدخل إصبعيه في جحري أذنيه". 1 رواه أبو داود. ولا يجب مسح ما نزل عن الرأس من الشعر. ويمسح رأسه بماء جديد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، قاله الترمذي. وجوز الحسن وعروة وابن المنذر مسحه بفضل ذراعيه، لما روي عن عثمان "أنه مسح مقدم رأسه بيده مرة واحدة ولم يستأنف له ماء جديدا حين حكى وضوء النبي صلى الله عليه وسلم". رواه سعيد. وهل يستحب مسح العنق؟ فيه روايتان: إحداهما: يستحب، لما في المسند: أنه مسح حتى بلغ القذال وما يليه من مقدم العنق. والثانية: لا يستحب، لأن الله لم يأمر به، والذين حكوا وضوءه صلى الله عليه وسلم لم يذكروه، ولم يثبت فيه حديث. ولا يستحب تكراره، قال الترمذي: "العمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم"، وعنه: يستحب، لما روى أبو داود في حديث عثمان. ووجه الأولى: أحاديث الذين وصفوا وضوءه، وأحاديثهم لا يصح منها شيء، قال أبو داود: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة، فإن قيل: يجوز أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح مرة ومسح ثلاثاً ليبين الأفضل. قلنا: قول الراوي: هذا طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدل على الدوام لأنهم وصفوه لمن سألهم، فلو شاهدوا صفة أخرى لم يطلقوا هذا الإطلاق. ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً، ويدخلهما في الغسل. فإن كان أقطع غسل ما بقي من محل الفرض، فإن لم يبق شيء سقط. ويستحب أن يمس محل القطع   1 أبو داود: الطهارة (131) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (441) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 بالماء لئلا يخلو العضو من طهارة. ثم "يرفع نظره إلى السماء ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"، لما روى مسلم من حديث عمر، رواه الترمذي، وزاد فيه: "اللهم اجعلني من التّوابين واجعلني من المتطهرين" 1. ورواه أبو داود، وفي بعض رواياته: "فأحسن الوضوء ثم رفع نظره إلى السماء". والوضوء مرة مرة يجزي، والثلاث أفضل؛ وهذا قول أكثر أهل العلم، إلا أن مالكاً لم يوقت مرة ولا ثلاثاً، قال: إنما قال الله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، 2 وقال الأوزاعي: الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، إلا الرجلين فإنه ينقيهما. والأول أولى، لما ذكرنا من الأحاديث. وإن غسل بعض أعضائه أكثر من بعض فحسن، لحديث عبد الله بن زيد. وتكره الزيادة على الثلاث، لحديث أبي داود والنسائي، وفيه: "فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم". 3 وتباح معونته، لحديث المغيرة: "أنه أفرغ على النبي صلى الله عليه وسلم في وضوئه". رواه مسلم. وروي عن أحمد أنه قال: "ما أحب أن يعينني على وضوئي أحد، لأن عمر قال ذلك". ويباح تنشيف أعضائه، و"ممن روي عنه أخذ المنديل بعد الوضوء: عثمان وأنس" وكثير من أهل العلم. وروي عن ابن عباس: "أنه كرهه في الوضوء، ورويت الكراهة عن جابر وابن المسيب"، لحديث ميمونة، وفيه: "فأتيته بمنديل، فلم يردْها، وجعل ينفض الماء بيديه". 4 متفق عليه، والأول أصح، وهذه قضية عين، ولا يكره نفض الماء عن بدنه بيديه. و"يستحب تجديد الوضوء"، وعنه: أنه لا فضل فيه، والأول أصح، لحديث أنس، رواه البخاري. ولا بأس أن يصلي الصلوات بالوضوء الواحد، لا نعلم فيه خلافاً. ولا بأس بالوضوء   1 الترمذي: الطهارة (55) , والنسائي: الطهارة (148) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (470) . 2 سورة المائدة آية: 6. 3 النسائي: الطهارة (140) , وأبو داود: الطهارة (135) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (422) . 4 البخاري: الغسل (259, 274) , وأبو داود: الطهارة (245) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 في المسجد إذا لم يؤذ أحداً ولم يؤذ المسجد. قال ابن المنذر: أباح ذلك كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار، وروي عن أحمد: أنه كرهه صيانة للمسجد عن البصاق وما يخرج من فضلات الوضوء. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال الشيخ: تسقط الموالاة بالعذر، وقال: هو أشبه بأصول الشريعة وقواعد أحمد، وقوى ذلك وطرده في الترتيب، وقال: لو قيل بسقوطه للعذر - كما إذا ترك غسل وجهه فقط لمرض ونحوه، ثم زال قبل انتقاض وضوئه فغسله – لتوجه. ولو كان تحت أظفاره يسير وسخ يمنع وصول الماء، وألحق به كل يسير منع حيث كان من البدن، كدم وعجين ونحوهما. وقال: يجوز الاقتصار على البياض الذي فوق الأذنين دون الشعر، إذا قلنا يجزئ مسح بعض الرأس. ويستحب الزيادة على الفرض، وعنه: لا، قال أحمد: لا يغسل ما فوق المرفق، قال في الفائق: اختاره شيخنا. وقال الشيخ: لا يغسل في المسجد ميت. قال: ويجوز عمل مكان فيه للوضوء للمصلحة بلا محذور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 باب المسح على الخفين قال ابن المبارك: ليس في المسح على الخفين اختلاف، وعن جرير قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال، ثم توضأ ومسح على خفيه". 1 متفق عليه. قال إبراهيم: كان يعجبهم هذا الحديث، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. قال أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء; فيه أربعون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هو أفضل من الغسل، لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما طلبوا الأفضل؛ وهو مذهب الشافعي وإسحاق، لحديث: "إن الله يحب أن يؤخذ برُخصه"، 2 ولأن فيه مخالفة أهل البدع، وعنه: الغسل أفضل، لأنه المذكور في كتاب الله تعالى، والمسح رخصة. ويجوز المسحُ على الجرموقين، والجرموق مثال الخف، إلا أنه يلبس فوق الخف والجوربين. قال ابن المنذر: يروى إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من الصحابة، وبه قال ابن المسيب والثوري وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يجوز إلا أن ينعلا، لأنه لا يمكن متابعة المشي فيهما. ولنا: قول المغيرة: "مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجوربين والنعلين". 3 رواه أبو داود والترمذي وصححه. وهذا يدل على أنهما لم يكونا منعولين، لأنه لو كانا كذلك لم يذكر النعلين، فإنه لا يقال: مسح على الخف ونعله، و"لأن الصحابة فعلوه" ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم. وسئل أحمد عن: جورب الخرق؟ فكره المسح عليه، ولعله إنما كرهه لأن الغالب فيه الخفة، وأنه   1 البخاري: الصلاة (387) , ومسلم: الطهارة (272) , والترمذي: الطهارة (93, 94) والجمعة (611) , والنسائي: الطهارة (118) , وأبو داود: الطهارة (154) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (543) , وأحمد (4/358) . 2 أحمد (2/108) . 3 الترمذي: الطهارة (99) , وأبو داود: الطهارة (159) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (559) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 لا يثبت بنفسه. وإن كان مثل جورب الصوف في الصفاقة فلا فرق، فإن كان لا يثبت إلا بالنعل، أبيح المسح عليه ما دام في النعل، لحديث المغيرة. قال القاضي: يمسح على الجورب والنعل، كما في الحديث، والظاهر "أنه صلى الله عليه وسلم إنما مسح على سيور النعل التي على ظاهر القدم"، فأما أسفله وعقبه فلا يسن مسحه من الخف، فكذلك من النعل. و"ممن قال بجواز المسح على العمامة أبو بكر وعمر"، وهو قول ابن المنذر. وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي: لا يمسح عليها، لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} 1. ولنا: قول المغيرة: "توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفين والعمامة". 2 صححه الترمذي. وروى مسلم أيضاً معناه. وروى البخاري معناه أيضاً عن عمر وابن أمية، مرفوعاً، ولأنه قول من سمينا من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم. والآية لا تنفي ما ذكرنا، فإنه صلى الله عليه وسلم مبين لكلام الله، ومسحه يدل على أن المراد المسح على الرأس أو حائله. ويجوز المسح على الجبائر، لحديث صاحب الشجة، رواه أبو داود؛ وهذا قول مالك وأصحاب الرأي، وقال الشافعي في أحد قوليه: يعيد الصلاة لأن الله أمر بالغسل ولم يأت به. ووجه الأولى: ما ذكرنا، ولأنه مسح على حائل أبيح له المسح عليه، فلم تجب الإعادة. وفي المسح على القلانس وخمر النساء المدارة تحت حلوقهن روايتان، أراد: القلانس المبطنات كدنيات القضاة، فأما الكلتة فلا يجوز المسح عليها، لا نعلم فيه خلافاً، لأنها لا تستر جميع الرأس عادة ولا تدوم عليه. فأما القلانس التي ذكرنا، فعنه: لا يجوز المسح عليها،   1 سورة المائدة آية: 6. 2 مسلم: الطهارة (274) , والترمذي: الطهارة (100) , والنسائي: الطهارة (124) , وأحمد (4/244) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وبه قال مالك والشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً قال به، إلا أنه روي عن أنس: "أنه مسح على قلنسيته"، وعنه: يجوز، وهو اختيار الخلال، قال: لأنه روي عن صحابيين بأسانيد صحاح. وفي الخُمر روايتان، إحداهما: "يجوز، روي عن أم سلمة"، حكاه ابن المنذر. والثانية: لا يجوز، وهو قول مالك والشافعي. ولا نعلم خلافاً في اشتراط تقدم الطهارة لكل ما يجوز المسح عليه، إلا الجبيرة، ووجهه: حديث المغيرة، وفيه: "دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين". 1 متفق عليه. فأما إن غسل إحداهما ثم لبس الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف، لم يجز، وعنه: يجوز. واختلفت الرواية في الجبيرة، فعنه: لا يشترط تقدم الطهارة لها، لحديث صاحب الشجة، لأنه لم يذكر الطهارة، ويحتمل أن يشترط التيمم عند العجز عن الطهارة، لأن فيه: "إنما يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه، ثم يمسح عليها". 2 وعنه: يشترط الطهارة لها. فعليها، إذا خاف من نزعها تيمم، ولا يحتاج مع مسحها إلى التيمم. قال شيخنا: يحتمل أن يتيمم مع المسح فيما إذا تجاوز بها موضع الحاجة، لأن ما يمسح على موضع الحاجة يقتضي المسح، والزائد يقتضي التيمم. وكذا إذا شدها على غير طهارة، لأنه مختلف في جواز المسح عليها، فإذا جمع بينهما خرج من الخلاف. وللشافعي في الجمع بينهما قولان في الجملة، لحديث صاحب الشجة. ولنا: أنه محل واحد، فلا يجمع بين بدلين كالخف. وإن وضع على جرحه دواء وخاف من نزعه، مسح عليه، لما روى الأثرم عن ابن عمر: "أنه خرج بإبهامه قرحة فألقمها مرارة. وكان يتوضأ عليها". وإن كان في رجله شق وجعل فيه قير، فقال أحمد: ينزعه، هذا أهون، هذا لا يخاف منه؛ وتعليله يقتضي أنه متى خاف منه جاز المسح عليه. قال مالك في الظفر يسقط: يكسوه مصطكاً ويمسح عليه، فإن لم يكن على   1 البخاري: الوضوء (206) , ومسلم: الطهارة (274) , وأبو داود: الطهارة (151) , وأحمد (4/245) , والدارمي: الطهارة (713) . 2 أبو داود: الطهارة (336) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الجرح عصابة، غسل الصحيح، وتيمم للجريح ولم يمسح. وروى حنبل عن أحمد في المجروح والمجدور يخاف عليه: يمسح موضع الجرح ويغسل ما حوله، يعني: يمسح إذا لم يكن عصابة. ويمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، لا نعلم فيه خلافاً في المذهب. وقال الليث: يمسح ما بدا له، وكذلك قال مالك في المسافر، وعنه في المقيم روايتان، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه قيل له: أنمسح على الخفين؟ قال: نعم. قيل: يوماً؟ قال: ويومين. قيل: وثلاثة؟ قال: ما شئت". رواه أبو داود. ولنا: حديث علي، رواه مسلم. وعن عوف بن مالك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم". 1 رواه أحمد، وقال: هذا أجود حديث في المسح، لأنه في آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وحديثهم ليس بالقوي، وقد اختلف في إسناده، قاله أبو داود. وابتداء المدة: من الحدث بعد اللبس، وعنه: من المسح، وهو اختيار ابن المنذر، لقوله: "يمسح المسافر ثلاثة أيام"، ووجه الأول ما نقل في حديث صفوان: من الحدث إلى الحدث. ومن مسح مسافراً ثم أقام، أتم مسح مقيم، لا نعلم فيه خلافاً. وإن مسح مقيم ثم سافر، أتم مسح مقيم. وعنه: مسح مسافر، لحديث: "يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن"، وهذا مسافر. وإن أحدث ثم سافر قبل المسح، أتم مسح مسافر، لا نعلم فيه خلافاً. ولا يجوز إلا على ما يستر محل الفرض ويثبت بنفسه. وحكي عن الأوزاعي ومالك: جواز المسح على المقطوع دون الكعبين، فأما ما يسقط إذا مشى، فلا يشق نزعه، ولا يحتاج إلى المسح عليه. وقال الثوري وإسحاق وابن المنذر: يجوز المسح على كل خف، يعني: وإن ظهر بعض القدم. وقال الأوزاعي:   1 أحمد (6/27) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 يمسح على المخروق وعلى ما ظهر من رجله. وقال مالك: إن كثر وتفاحش لم يجز، وإلا جاز، وتعلقوا بعموم الحديث. ولا يجوز المسح على اللفائف والخرق، لا نعلم فيه خلافاً. وإن لبس خفاً فلم يحدث حتى لبس عليه آخر، جاز المسح على الفوقاني. ومنع منه مالك والشافعي في أحد قوليهما، لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب فلم يتعلق به رخصة عامة كالجبيرة. فأما إن لبس الفوقاني بعد أن أحدث، لم يجز المسح، لأنه لبس على غير طهارة. وقال بعض أصحاب الشافعي: يجوز. ويمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه: فيضع يده على الأصابع، ثم يمسح إلى ساقه، رواه الخلال من حديث المغيرة، قال أحمد: كيفما فعلت فهو جائز، باليد الواحدة أو باليدين. ولا يسن مسح أسفله ولا عقبه. و"روي مسح ظاهرهما وباطنهما عن سعد بن أبي وقاص وغيره لقول المغيرة: مسح أعلى الخف وأسفله". رواه أبو داود. ولنا: حديث علي: "لو كان الدِّين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من ظاهره. وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفَّيه". 1 رواه أبو داود. وحديثهم معلول، قاله الترمذي، قال: سألت أبا زرعة ومحمداً عنه، فقالا: ليس بصحيح. قال أحمد: هذا من وجه ضعيف، ولا خلاف أنه يجزئ الاقتصار على مسح ظاهرهما، حكاه ابن المنذر، والمجزئ أن يمسح أكثر مقدمه. وقال الشافعي: يجزئ القليل، لأنه أطلق ولم ينقل فيه تقدير. ولا يستحب التكرار، لأن في حديث المغيرة مسحة واحدة. والمستحب أن يفرج أصابعه إذا مسح. ومن شرط جواز المسح على العمامة: أن تكون ساترة لجميع الرأس، إلا ما جرت العادة بكشفه. ومتى كانت محنكة جاز المسح، رواية واحدة،   1 أبو داود: الطهارة (162) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 سواء كان لها ذؤابة أو لا، لأن هذه عمائم العرب. ولا يجوز على غير المحنكة إلا ذات الذؤابة، فيجوز في أحد الوجهين، لأنها لا تشبه عمائم أهل الذمة، إذ ليس من عادتهم الذؤابة. والثاني: لا يجوز، وهو الأظهر، "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتلحي، ونهى عن الاقتطاط". رواه أبو عبيد، قال: والاقتطاط: أن لا يكون تحت الحنك منها شيء. وما جرت العادة بكشفه من الرأس، استحب أن يمسح عليه مع العمامة، "لأنه صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعمامته" في حديث المغيرة، وهل يجب؟ فيه وجهان. ولا يجب مسح الأذنين معها، لا نعلم خلافاً. واختلفت الرواية في وجوب استيعابها بالمسح، فروي ما يدل على أنه يجزئ مسح أكثرها. ويمسح على الجبيرة إذا لم يتجاوز قدر الحاجة، لأنه لا يشق المسح عليها كلها، بخلاف الخف. فإن شدها على مكان يستغنى عن شدها عليه لم يجز، وروي عنه: أنه سهل فيه في مسألة الميموني والمروذي، لأن هذا لا ينضبط وهو شديد جداً؛ فعليه، لا بأس بالمسح على العصائب كيف شدها. ومتى ظهر قدم الماسح أو رأسه، أو انقضت المدة، استأنف الطهارة، وعنه: يجزئ مسح رأسه وغسل قدميه. وقال الحسن وقتادة: لا يتوضأ ولا يغسل قدميه، اختاره ابن المنذر. وإذا انقضت المدة لزمه الخلع واستئناف الطهارة على الأولى. وعلى الثانية: يجزيه مسح رأسه وغسل قدميه. ونزع أحد الخفين كنزعهما، في قول أكثر أهل العلم، وقال الزهري: يغسل القدم الذي نزع منه الخف ويمسح الآخر. فإن أخرج قدمه إلى ساق الخف فهو كخلعه. وقال الشافعي: لا يتبين لي أن عليه الوضوء إلا أن يظهر بعضها، قال أحمد: إذا زالت العمامة عن هامته لا بأس، ما لم ينقضها أو يفحش ذلك. ولا مدخل لحائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 في الطهارة الكبرى إلا الجبيرة، لحديث صفوان إلا من جنابة، فأما الجبيرة فيجوز، لحديث صاحب الشجة. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال الشيخ: وفصل الخطاب: أن الأفضل في حق كل واحد ما هو الموافق لحال قدمه؛ فالأفضل لمن قدماه مكشوفتان: غسلهما، ولا يتحرى لبس الخف ليمسح، كما "كان عليه أفضل الصلاة والسلام يغسل قدميه إن كانتا مكشوفتين، ويمسح إذا كان لابساً للخف". ويلبس بعد كمال الطهارة. وعنه: لا يشترط كمالها، اختاره الشيخ وصاحب الفائق، وقال: وعنه: لا تشترط الطهارة لمسح العمامة، ذكره ابن هبيرة. وحكى أبو الفرج رواية بعدم اشتراط تقدم الطهارة رأساً؛ فلو لبس محدثاً ثم توضأ وغسل رجليه في الخف جاز له المسح. قال الزركشي: وهو غريب بعيد. قلت: اختاره الشيخ وقال: يتوجه أن العمامة لا يشترط لها ابتداء اللبس على الطهارة، ويكفي فيها الطهارة المستدامة لأن العادة أن من توضأ مسح رأسه ورفع العمامة ثم أعادها، ولا يبقى مكشوف الرأس إلى آخر الوضوء. وقوله: ويمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام، وقيل: يمسح كالجبيرة؛ اختاره الشيخ. وفي الاختيارات: لا تتوقت مدة المسح في حق المسافر الذي يشق اشتغاله بالخلع واللبس، كالبريد المجهز في مصلحة المسلمين. واختار الشيخ أيضاً جواز المسح على المخرق، إلا أن يتخرق أكثره، 1 ما دام اسمه باقياً،   1 في الإنصاف: "قال في الاختيارات ويجوز المسح على الخف المخرق مادام اسمه باقياً والمشي فيه ممكن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 والمشي فيه ممكن. واختار أيضاً جواز المسح على الملبوس، ولو كان دون الكعبين. قوله: أو شد لفائفاً لم يجز المسح عليه، وجعله أبو البركات إجماعاً، وفيه وجه يجوز، اختاره الشيخ. واختار أيضاً جواز المسح على القدم ونعلها التي يشق نزعها إلا بيد أو رجل، كما جاءت به الآثار. قال: والاكتفاء هنا بأكثر القدم نفسها أو الظاهر منها، غسلاً أو مسحاً، أولى من مسح بعض الخف، ولهذا لا يتوقت كمسح العمامة. قال: ويجوز المسح على الخف المخرق، إلا أن يتخرق أكثره، فكالنعل. ويجوز أيضاً على ملبوس دون النعل. انتهى. قوله: إلا أن تكون ذات ذؤابة فيجوز، وهو مقتضى اختيار الشيخ، فإنه اختار جواز المسح على العمامة الصماء، فذات الذؤابة أوْلى، وقال في الصماء: هي كالقلانس. قوله: ومتى ظهر قدم الماسح ... إلخ، واختار الشيخ أن الطهارة لا تبطل كإزالة الشعر الممسوح عليه، ولو زالت الجبيرة فهي كالخف. واختار الشيخ بقاءها قبل البرء وبعده، كإزالة الشعر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 باب نواقض الوضوء (الأول) : الخارج من السبيلين إن كان معتاداً، كالمذي والودي والريح، نقض إجماعاً. ودم الاستحاضة ينقض في قول عامة أهل العلم، إلا ربيعة. وإن كان نادراً كالدم والدود فينقض أيضاً. وقال مالك: ليس في الدود الذي يخرج من الدبر وضوء؛ وروي عن مالك أنه لم يوجب الوضوء من هذا الضرب، لأنه نادر. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم أمر المستحاضة بالوضوء لكل صلاة"، ودمها غير معتاد. وسئل أحمد: عن رجل ربما ظهرت مقعدته، قال: إن علم أنه يظهر معها ندى توضأ، وإلا فلا شيء عليه. قال شيخنا: يحتمل أنه أراد ندى ينفصل؛ فأما الرطوبة اللازمة، فلا تنقض، لأنها لا تنفك عن رطوبة. والمذي ينقض إجماعاً، وهل يجب غسل الذكر والأنثيين منه؟ فيه روايتان: إحداهما: يجب، لما في حديث علي: "توضأْ، وانضح فرجك". 1 رواه مسلم. ولأبي داود: يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ؛ فعلى هذا يجزئه غسلة واحدة لقوله: "انضح فرجك"، سواء غسله قبل الوضوء أو بعده. والثانية: "لا يوجب إلا الاستنجاء والوضوء"، روي ذلك عن ابن عباس؛ وهو قول أكثر أهل العلم، لحديث سهل بن حنيف: "إنما يجزيك من ذلك الوضوء". 2 صححه الترمذي. و"الغسل في حديث علي محمول على الاستحباب". وقوله: "إنما يجزيك ... إلخ" صريح في حصول الإجزاء به. (الثاني) : "الخارج النجس من غير السبيلين، غير البول والغائط، ينقض   1 مسلم: الحيض (303) , والنسائي: الغسل والتيمم (438) , وأحمد (1/104) . 2 الترمذي: الطهارة (115) , وأبو داود: الطهارة (210) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (506) , وأحمد (3/485) , والدارمي: الطهارة (723) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 كثيره"، روي عن ابن عباس وابن عمر. وقال مالك والشافعي وابن المنذر: لا وضوء فيه، كالبصاق. ولنا: حديث ثوبان؛ قيل لأحمد: ثبت عندك؟ قال: نعم. ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "إنه دم عِرق، فتوضئي لكل صلاة ". رواه الترمذي، علل بكونه دم عرق، وهذا كذلك؛ فأما القليل فلا ينقض، حكاه القاضي رواية واحدة. وقيل: ينقض، وهو قول أبي حنيفة وسعيد بن جبير، فيما إذا سال الدم. ووجه الأولى أنه قد روي عن جماعة من الصحابة. قال أبو عبد الله: عدة من الصحابة تكلموا فيه. "أبو هريرة كان يدخل أصابعه في أنفه. وابن عمر عصر بثرة فخرج دم، فصلى ولم يتوضأ. وابن أبي أوفى عصر دملاً. وابن عباس قال: إذا كان فاحشاً فعليه الإعادة. وجابر أدخل أصابعه في أنفه". قيل لأحمد: ما الفاحش؟ قال: ما فحش في قلبك. والقيح والصديد كالدم فيما ذكرنا. قال أحمد: هما أخف حكماً من الدم. (الثالث) : زوال العقل على ضربين: نوم وغيره. فأما الجنون والإغماء والسكْر ونحوه، فينقض إجماعاً. وأما النوم فينقض في الجملة في قول عامة أهل العلم، إلا ما حكي عن أبي موسى الأشعري وأبي مجلز. وعن سعيد بن المسيب أنه كان ينام مراراً مضطجعاً ينتظر الصلاة، ثم يصلي ولا يعيد الوضوء. ولعلهم ذهبوا إلى أنه ليس بحدث في نفسه، والحدث مشكوك فيه، فلا يزول اليقين بالشك. ولنا: حديث صفوان بن عسال: "لكن من غائط وبول ونوم". حديث صحيح. ونوم المضطجع ينقض يسيره عند جميع القائلين بنقض الوضوء بالنوم. ونوم القاعد إن كان يسيراً لم ينقض، وهذا قول مالك. وقيل: متى خالط النوم القلب نقض بكل حال، وهذا قول إسحاق وأبي عبيد وابن المنذر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 لعموم الأحاديث. ولنا: ما روى مسلم عن أنس قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون، ثم يصلون ولا يتوضؤون". ولأبي داود: "ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم". وقال الشافعي: "لا ينقض وإن كثر، إذا كان قاعداً متمكناً مفضياً بمحل الحدث إلى الأرض"، لحديثي أنس، وبهما يتخصص العموم. ولنا: العموم وخصصناه بحديث أنس، وليس فيه بيان كثرة ولا قلة، فحملناه على اليقين. وأما نوم القائم والراكع والساجد ففيه روايتان: إحداهما: ينقض، وهو قول الشافعي، لأنه ليس في معنى المنصوص عليه. والثانية: حكمه حكم الجالس قياساً، وهذا قول سفيان وأصحاب الرأي، لحديث ابن عباس: "فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني". رواه مسلم. واختلفت الرواية في المستنِد والمحتبي، واختلفت في حد اليسير. قال شيخنا: الصحيح أنه لا حد له، لأن التحديد إنما يُعلم بالتوقيف. (الرابع) مس الذكر: واختلفت الرواية فيه على ثلاث: إحداها: "لا ينقض"، روي عن علي وعمار وابن مسعود وأصحاب الرأي وابن المنذر، لحديث: "إنما هو بضعة منك". 1 رواه أبو داود والترمذي وأحمد. والثانية: "ينقض بكل حال"، وهو مذهب ابن عمر وابن المسيب والشافعي، والمشهور عن مالك، لحديث بسرة، صححه الترمذي وأحمد. فأمّا حديث قيس، فقال أبو زرعة وأبو حاتم: قيس مما لا تقوم بروايته حجة ووهّناه ولم يثبتاه. والثالثة: لا ينقض إلا أن يقصد مسّه. وقال الشافعي ومالك: لا ينقض مسّه بظاهر الكف. ولا فرق بين ذكره وذكر غيره، خلافاً لداود. قال الزهري والأوزاعي: لا ينقض مسّ ذكر الصغير لأنه يجوز مسه والنظر إليه. ولنا: عموم الأحاديث. وفي مس الدبر ومس المرأة فرجها روايتان: إحداهما: ينقض لعموم قوله:   1 الترمذي: الطهارة (85) , والنسائي: الطهارة (165) , وأبو داود: الطهارة (182) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (483) , وأحمد (4/22) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 "مَن مسّ فرجه فليتوضأ". 1 رواه ابن ماجة عن أم حبيبة. قال أحمد وأبو زرعة: حديث أم حبيبة صحيح. (الخامس) أن تمس بشرته بشرة أنثى لشهوة: وعنه: لا ينقض. قال ابن مسعود: "القبلة من اللمس، وفيها الوضوء"، رواه الأثرم. وعن أحمد: "لا ينقض بحال"، يروى عن ابن عباس، وقول عائشة: "فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي"، متفق عليه، و"الآية أريد بها الجماع"، قاله ابن عباس. والرواية الثالثة: ينقض لشهوة، جمعاً بين الآية والأخبار؛ وهو مذهب مالك وإسحاق. فإن لمسها من وراء حائل لم ينقض، في قول أكثر أهل العلم. وقال مالك: ينقض إذا كان ثوباً رقيقاً، وكذا قال ربيعة: إذا غمزها من وراء ثوب رقيق لشهوة. وسئل أحمد: عن المرأة إذا مست زوجها؟ قال: ما سمعت فيه شيئاً، ولكن هي شقيقة الرجل، يعجبني أن تتوضأ. ولا ينقض لمس شعر المرأة، ويتخرج أن ينقض إذا كان لشهوة. وفي نقض وضوء الملموس روايتان. (السادس) غسل الميت: "لأن ابن عمر وابن عباس كانا يأمران غاسله بالوضوء". قال أبو هريرة: "أقل ما فيه الوضوء"، ولا نعلم لهم مخالفاًًً في الصحابة. وقيل: لا ينقض، وهو قول أكثر العلماء. قال شيخنا: وهو الصحيح لأنه لم يرد فيه نص، ولا هو في معنى المنصوص عليه. وكلام أحمد يدل على أنه مستحب، فإنه قال: أحب إليّ أن يتوضأ، وعلل نفي الوجوب بكون الخبر موقوفا على أبي هريرة. (السابع) أكل لحم الجزور: وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي: لا وضوء عليه. ومن العجب أنهم أوجبوا الوضوء بأحاديث ضعيفة تخالف الأصول، فأبو حنيفة أوجبه بالقهقهة في الصلاة دون خارجها، بحديث مرسل   1 الترمذي: الطهارة (82) , والنسائي: الغسل والتيمم (444) , وأبو داود: الطهارة (181) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (479) , وأحمد (6/406) , ومالك: الطهارة (91) , والدارمي: الطهارة (724, 725) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 من مراسيل أبي العالية. ومالك والشافعي أوجباه بمس الذكر، بحديث مختلف فيه معارض بمثله. فإن شرب من لبنها فعلى روايتين: إحداهما ينقض، لحديث أسيد بن حضير، رواه أحمد. وعن ابن عمر مثله. والثانية: لا وضوء عليه، لأن حديث أسيد فيه الحجاج بن أرطاة، وحديث ابن عمر فيه عطاء بن السائب، وقد اختلط في آخر عمره. وإن أكل من كبدها وطحالها، فعلى وجهين: أحدهما: لا ينقض. والثانية: ينقض، لأن اللحم يعبر به عن جملة الحيوان، كلحم الخنزير. (الثامن) الردة عن الإسلام: قال ابن المنذر: أجمع من نحفظ قوله على أن القذف وقول الزور لا ينقض. وقد روينا عن غير واحد من الأوائل أنهم أمروا بالوضوء من الكلام الخبيث، وذلك استحباب. وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف باللات، فليقلْ: لا إله إلا الله"، 1 ولم يأمره بالوضوء. ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة، بنى على اليقين؛ وبهذا قال عامة أهل العلم. وقال مالك: إذا شك في الحدث، إن كان يلحقه كثيراً فهو على وضوئه، وإلا توضأ؛ ولا يدخل في الصلاة مع الشك. ولنا: حديث أبي هريرة، وفيه: "فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً". 2 رواه مسلم. ومن أحدث حرُم عليه مسّ المصحف، وأباحه داود، لأنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر آية. ولنا: قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} . 3 وفي كتاب عمرو بن حزم: "أن لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر". ويجوز تقليبه بعود ومسّه به وكتب المصحف بيده من غير أن يمسّه. وذكر ابن عقيل في ذلك كله، وفي حمله بعلاقته روايتين، والصحيح   1 البخاري: تفسير القرآن (4860) والأدب (6107) والاستئذان (6301) والأيمان والنذور (6650) , ومسلم: الأيمان (1647) , والترمذي: النذور والأيمان (1545) , والنسائي: الأيمان والنذور (3775) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3247) , وابن ماجة: الكفارات (2096) , وأحمد (2/309) . 2 مسلم: الحيض (362) , والترمذي: الطهارة (75) , وأبو داود: الطهارة (177) , وأحمد (2/330, 2/414) , والدارمي: الطهارة (721) . 3 سورة الواقعة آية: 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الجواز، لأن النهي إنما تناول مسه. وفي مس الصبيان ألواحهم التي فيها القرآن وجهان. و"لا تجوز المسافرة بالمصحف إلى دار الحرب"، لحديث ابن عمر. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قوله: (الثاني) خروج سائر النجاسات من سائر البدن، واختار الشيخ: لا ينقض الكثير مطلقاً، وعنه: لا ينقض نوم الجالس وإن كان كثيراً، واختاره الشيخ. ونقل الميموني لا ينقض النوم بحال، واختاره الشيخ إن ظن بقاء طهره. الرابع: مس الذكر: وعنه: لا ينقض، بل يستحب الوضوء منه؛ اختاره الشيخ. الخامس: مس أنثى لشهوة: وعنه: لا ينقض مطلقاً، اختاره الشيخ. وحيث قلنا: لا ينقض، استحب الوضوء مطلقاً. وقال الشيخ: يستحب إن لمسها لشهوة، وإلا فلا. السادس: غسل الميت: وعنه: لا ينقض؛ اختاره الشيخ. السابع: أكل لحم الجزور: وعنه: لا ينقض؛ اختاره الشيخ. وعنه: لا يعيد إن طالت المدة. وقيل: لا يعيد متأول. وعنه: إن علم النهي نقض. فعليها عدم العلم بالنهي هو عدم العلم بالحديث، قاله الشيخ؛ فمن علم لا يعذر. وعنه: بلى، مع التأويل. وقال الشيخ: أما لحم الخبيث المباح للضرورة، كلحم السباع، فينبني الخلاف فيه على أن النقض بلحم الإبل تعبدي، فلا يتعدى، أو معقول المعنى، فيعطى حكمه، بل هو أبلغ منه. والصحيح من المذهب: أنه تعبدي. وقيل: معلل؛ فقد قيل: إنها من الشياطين كما جاء في الحديث الصحيح، رواه أبو داود؛ فإذا أكل منها أورث ذلك قوة شيطانية، فشرع الوضوء منها ليذهب سَورَة الشيطان. وفي حديث آخر: "على ذروة كل بعير شيطان". 1 والطواف يشترط له الطهارة، وعنه: يجزئه بلا طهارة ويجبره بدم. وعنه: وكذا الحائض؛ واختاره الشيخ، وقال: لا دم عليها لعذر.   1 أحمد (3/494) , والدارمي: الاستئذان (2667) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 باب الغسل وموجباته سبعة: أحدها: خروج المني الدافق بلذة من الرجل والمرأة، في اليقظة والنوم: هذا قول عامة الفقهاء، حكاه الترمذي، ولا نعلم فيه خلافاً. فإن خرج لمرض أو برودة من غير شهوة، لم يوجب. وقال الشافعي: يجب، لقوله: "إذا رأت الماء". ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم وصف المني الموجب بأنه غليظ أبيض، وقال لعلي: "إذا فضخت الماء فاغتسل". 1 رواه أبو داود. والفضخ: خروجه على وجه الشدة. وقال إبراهيم الحربي: بالعجلة. وقوله: "إذا رأت الماء" في الاحتلام. وهو إنما يخرج لشهوة، فإن رأى أنه احتلم ولم يجد بللاً، فلا غسل عليه؛ حكاه ابن المنذر إجماعاً. وإن انتبه فرأى منياً ولم يذكر احتلاماً، اغتسل؛ لا نعلم فيه اختلافاً. وإن انتبه فوجد بللاً لا يدري أمني أم غيره، فقد توقف أحمد فيها. فإن رأى في ثوبه منياً وكان لا ينام فيه غيره، اغتسل، "لأن عمر وعثمان اغتسلا حين رأياه في ثوبيهما". فإن أحس بانتقاله فأمسك ذكره فلم يخرج، فعلى روايتين. فإن خرج بعد الغسل، وقلنا: لا يجب بالانتقال، لزمه الغسل. الثاني: التقاء الختانين: وهو تغييب الحشفة في الفرج، ولو مس الختان الختان من غير إيلاج لم يجب الغسل إجماعاً. وإذا كان الواطئ أو الموطوءة صغيراً، فقال أحمد: يجب عليهما الغسل، وحمله القاضي على الاستحباب؛ وهو قول أصحاب الرأي. ولا يصح حمل كلامه على الاستحباب لتصريحه   1 النسائي: الطهارة (193) , وأبو داود: الطهارة (206) , وأحمد (1/109) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 بالوجوب، وذمه قول أصحاب الرأي بقوله: هو قول سوء. وقولهم: الصغير ليس من أهل التكليف، فليس معنى الوجوب في حقه التأثيم بتركه، بل أنه شرط لصحة الصلاة والطواف والقراءة. الثالث: إسلام الكافر: وهو قول مالك وابن المنذر. وقال أبو حنيفة: لا يجب، لأنه لو أمر كل من أسلم بالغسل، لنقل نقلاً متواتراً. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم أمر قيس بن عاصم لما أسلم أن يغتسل بماء وسدر". 1 قال الترمذي: حديث حسن. وقد روي أن مصعب بن عمير قال لسعد وأسيد لما سألاه: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر؟ قال: "نغتسل ونشهد شهادة الحق". فإن أجنب الكافر ثم أسلم لم يلزمه غسل الجنابة، وهذا قول من أوجب غسل الإسلام، وقول أبي حنيفة. وقال الشافعي: عليه الغسل. ويستحب أن يغتسل بماء وسدر، لما في حديث قيس. ويستحب أن يلقي شعره، لقوله: "ألق عنك شعر الكفر واختتن". 2 رواه أبو داود. الرابع: الموت. الخامس: الحيض. السادس: النفاس، وسيذكر في أبوابه. ومن لزمه الغسل، حرم عليه قراءة آية فصاعدا، وفي بعض آية روايتان. وقال الأوزاعي: لا يقرأ إلا آية الركوب والنزول: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} ، 3 {وقل رب أمزلني منزلا مبارك} . 4 وقال   1 الترمذي: الجمعة (605) , وأبو داود: الطهارة (355) , وأحمد (5/61) . 2 أبو داود: الطهارة (356) , وأحمد (3/415) . 3 سورة الزخرف آية: 13. 4 سورة المؤمنون آية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ابن عباس: "يقرأ ورده". وقال ابن المسيب: يقرأ القرآن؛ أليس هو في جوفه؟ وحكي عن مالك جواز القراءة للحائض دون الجنب. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحجبه من قراءة القرآن شيء، ليس الجنابة". 1 قال الترمذي: حسن صحيح. ويجوز له العبور في المسجد، ويحرم اللبث فيه إلا أن يتوضأ لقوله: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} الآية، 2 ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا أُحلّ المسجد لحائض ولا جنب". 3 رواه أبو داود.، فإن خاف أو لم يمكنه الخروج، تيمم وأقام فيه، لأنه روي عن علي وابن عباس في الآية: "يعني: مسافرين لا يجدون ماء فيتيممون". وقال بعض أصحابنا: يلبث بغير تيمم، لأنه لا يرفع الحدث، وهو غير صحيح لمخالفته قول الصحابة. وقال الثوري وإسحاق: لا يمر في المسجد إلا أن لا يجد بداً، فيتيمم؛ وهو قول أصحاب الرأي، لقوله: "لا أُحلّ المسجد لحائض ولا جنب". 4 ولنا: الآية، وقوله لعائشة: لما قال: "ناوليني الخمرة من المسجد. قالت: إني حائض. قال: حيضتك ليست في يدك". 5 وعن زيد بن أسلم قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون في المسجد وهم جنب". رواه ابن المنذر، وهذا إشارة إلى جميعهم، فيكون إجماعاً. فإن توضأ، فله اللبث فيه، وهو قول إسحاق. وقال الأكثرون: لا يجوز، للآية والخبر. ووجه الأولى قول زيد بن أسلم: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون في المسجد على غير وضوء، وكان الرجل يكون جنباً فيتوضأ ثم يدخل فيتحدث معهم"، وهذا إشارة إلى جميعهم، فيخص عموم الحديث. وعن عطاء بن يسار قال: "رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون، إذا توضؤوا   1 النسائي: الطهارة (265) , وأبو داود: الطهارة (229) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (594) , وأحمد (1/107) . 2 سورة النساء آية: 43. 3 أبو داود: الطهارة (232) . 4 أبو داود: الطهارة (232) . 5 مسلم: الحيض (298) , والترمذي: الطهارة (134) , والنسائي: الطهارة (271) والحيض والاستحاضة (384) , وأبو داود: الطهارة (261) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (632) , وأحمد (6/45, 6/114, 6/229, 6/245) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وضوء الصلاة". رواه سعيد والأثرم. وحكم الحائض إذا انقطع حيضها حكم الجنب، وأما قبله فلا، لأن وضوءها لا يصح. وأما المستحاضة ومن به سلس البول، فلهم اللبث فيه إذا أمنوا تلويثه، لأن بعض أزواجه صلى الله عليه وسلم اعتكفت معه وهي مستحاضة، رواه البخاري. فإن خاف التلويث، حرم لأن المسجد يُصان عن هذا. والأغسال المستحبة ثلاثة عشر: (أحدها) : للجمعة بغير خلاف، وفيه آثار كثيرة صحيحة، وليس بواجب؛ حكاه ابن عبد البر إجماعاً. (الثاني) : للعيدين، لحديث ابن ماجة. (الثالث) : الاستسقاء، لأنه عبادة يجتمع لها. (الرابع) : الكسوف، لأنه كالاستسقاء. (الخامس) : "من غسل الميت"، روي ذلك عن ابن عباس والشافعي وإسحاق وابن المنذر. وروي عن علي وأبي هريرة أنهما قالا: "من غسل ميتا فليغتسل". قال ابن المنذر: ليس فيه حديث يثبت، وكذلك لم يعمل به في وجوب الوضوء على حامله، لا نعلم به قائلاً. وحديث علي، قال الجوزجاني: ليس فيه أن علياً غسل أبا طالب. (السادس) : الغسل من الإغماء والجنون، "لأنه صلى الله عليه وسلم اغتسل من الإغماء"، متفق عليه. ولا يجب، حكاه ابن المنذر إجماعاً. (السابع) : غسل المستحاضة. (الثامن) : الغسل للإحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 (التاسع) : دخول مكة. (العاشر) : الوقوف بعرفة. (الحادي عشر) : المبيت بمزدلفة. (الثاني عشر) : رمي الجمار. (الثالث عشر) : الطواف. وصفة الغسل الكامل: أن يأتي فيه بعشرة أشياء: النية، والتسمية، وغسل يديه ثلاثاً، وغسل ما به من أذى، وقد ذكرنا الدليل على ذلك، والوضوء، ويحثي على رأسه ثلاثاً يروي بها أصول الشعر، ويبدأ بشقه الأيمن، ويدلك بدنه بيديه، وينتقل من موضع غسله فيغسل قدميه، ويخلل أصول شعر رأسه ولحيته بماء قبل إفاضته عليه، ووجهه: قول عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثاً، وتوضأ وضوءه للصلاة. ثم يخلل شعره بيديه، حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات. ثم غسل سائر جسده". 1 متفق عليه. وحديث ميمونة متفق عليه. ففي هذين الحديثين كثير من الخصال المسماة. والبداءة بشقه الأيمن، لقول عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب، فأخذ بكفيه فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر. ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه". 2 متفق عليه. واختلف عن أحمد في غسل الرجلين، فقال في رواية: بعد الوضوء، على حديث ميمونة. وقال في رواية: العمل على حديث عائشة. وقال في موضع غسل رجليه: في موضعه وبعده وقبله سواء. والمجزئ: أن يغسل ما به من أذى، وينوي   1 البخاري: الغسل (273) , ومسلم: الحيض (316) . 2 البخاري: الغسل (258) , ومسلم: الحيض (318) , والنسائي: الغسل والتيمم (424) , وأبو داود: الطهارة (240) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ويعمم بدنه بالغسل، لقوله تعالى: {كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} ، 1 وقوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} . 2 ويستحب إمرار يده على بدنه، ولا يجب إذا تيقن وغلب على ظنه وصول الماء؛ وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي. وقال مالك: إمرار يده إلى حيث تنال واجب، ونحوه قال أبو العالية. قالوا: لأن الله تعالى قال: {حتى تغتسلوا} ، ولا يقال: اغتسل إلا لمن دلك، ولنا: قوله: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء؛ فتطهرين". 3 رواه مسلم. وما ذكروه ممنوع، فإنه يقال: غسل الإناء، وإن لم يدلكه. ولا يجب الترتيب فيه لقوله: {فاطهروا} ، وقوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} ، ولا نعلم في هذا خلافاً. ولا يجب فيه موالاة، نص عليه؛ وهو قول أكثر أهل العلم. وقال ربيعة: من تعمَّده أعاد الغسل، وهو قول الليث. وإذا بقيت لمعة لم يصبها الماء، فمسحها بيده أو شعره، فروي عن أحمد أنه سئل: عن حديث العلاء بن زياد: "أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل فرأى لمعة لم يصبها الماء، فدلكها بشعره"، 4 فقال: نعم، أخذ به. وروي عنه: يأخذ لها ماء جديداً، فيه حديث لا يثبت، يعصر شعره. وذكر له حديث ابن عباس: "أنه صلى الله عليه وسلم عصر لمته على لمعة"، فضعّفه ولم يصححه. ونص أحمد على أنها تنقض الشعر في غسل الحيض. قيل له: كيف، وهي لا تنقضه من الجنابة؟ قال: حديث أسماء "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تنقضه". وهو قول طاووس والحسن وأكثر العلماء، لحديث عائشة. وللبخاري فيه: "انقضي رأسك وامتشطي". 5 وقيل: "مستحب"، روي عن عائشة وأم سلمة؛ وهو قول مالك والشافعي وأصحاب   1 سورة المائدة آية رقم: 6. 2 سورة النساء آية رقم: 43. 3 مسلم: الحيض (330) , والترمذي: الطهارة (105) , والنسائي: الطهارة (241) , وأبو داود: الطهارة (251) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (603) , وأحمد (6/289, 6/314) , والدارمي: الطهارة (1157) . 4 ابن ماجة: الطهارة وسننها (663) , وأحمد (1/243) . 5 البخاري: الحيض (316) , ومسلم: الحج (1211) , وأحمد (6/163, 6/177) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الرأي وأكثر العلماء، وهو الصحيح لأن في بعض ألفاظ حديث أم سلمة: "أفأنقضه للحيضة؟ قال: لا"، رواه مسلم. وحديث عائشة ليس فيه حجة، لأنه ليس في غسل الحيض، إنما هو للإحرام في حال الحيض. ولو ثبت الأمر حمل على الاستحباب، جمعاً بين الحديثين، ولأن فيه ما يدل على الاستحباب، وهو المشط والسدر. وغسل الحيض كغسل الجنابة، إلا أنه يستحب أن تغتسل بماء وسدر، وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع بها مجرى الدم والموضع الذي يصل إليه الماء من فرجها، ليزول عنها زفورة الدم، فإن لم تجد مسكاً فغيره من الطيب. والفرصة القطعة من كل شيء. ويتوضأ بالمدّ، ويغتسل بالصاع؛ فإن أسبغ بدونهما أجزأه، وهذا مذهب أكثر أهل العلم. وقيل: لا يجزئ في الغسل والوضوء دون ذلك. وحكي عن أبي حنيفة لقوله: يجزئ من الوضوء مدّ، ومن الجنابة صاع. ولنا: أن الله تعالى أمر بالغسل وقد أتى به، وعن عائشة: "أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريباً من ذلك". 1 فإن زاد على المد في الوضوء، وعلى الصاع في الغسل، جاز، فإن عائشة قالت: "كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد في قدح يقال له: الفرق". 2 والفرق: ثلاثة آصع. وقال أنس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد". 3 متفق عليه. ويكره الإسراف في الماء، للآثار. قال ابن عبد البر: المغتسل إذا عم بدنه ولم يتوضأ، فقد أدى ما عليه، لأن الله تعالى إنما افترض عليه الغسل؛ وهذا إجماع لا خلاف فيه، إلا أنهم أجمعوا على استحباب الوضوء فيه تأسياً به صلى الله عليه وسلم. ويستحب له إذا أراد النوم أو الأكل أو الوطء ثانياً،   1 مسلم: الحيض (321) . 2 البخاري: الغسل (250) , والنسائي: الطهارة (231) . 3 البخاري: الوضوء (201) , ومسلم: الحيض (325) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أن يغسل فرجه ويتوضأ. "وكان ابن عمر يتوضأ إلا غسل قدميه". وقال ابن المسيب: إذا أراد أن يأكل يغسل كفيه ويتمضمض، وحكي نحوه عن إمامنا وإسحاق. وقال مجاهد: يغسل كفيه، لما روي عن عائشة: "أنه كان إذا أراد أن يأكل وهو جنب، غسل يديه"، 1 رواه أبو داود. وقال ابن المسيب وأصحاب الرأي: "ينام ولا يمس ماء"، لحديث عائشة، رواه أبو داود. ولنا: "أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ فليرقد". 2 متفق عليه. ولمسلم من حديث أبي سعيد: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود، فليتوضأ". 3 وعن عائشة: "كان إذا أراد أن يأكل أو ينام توضأ"، يعني: وهو جنب، رواه أبو داود. فأما أحاديثهم فأحاديثنا أصح، ويمكن الجمع بحمل أحاديثنا على الاستحباب. وإذا غمست الحائض أو الجنب أو الكافر أيديهم في الماء فهو طاهر. قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن عرَق الجنب طاهر. وسئل أحمد عن جنب أدخل يده في ماء ينظر حره من برده، قال: إن كان إصبعاً فأرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان اليد أجمع فكأنه كرهه. وقال في الجنب والحائض يغمس يده في الإناء: إن كانتا نظيفتين، فلا بأس به. وقال في موضع: كنت لا أرى به بأساً، ثم حدثت عن شعبة عن محارب بن دثار عن ابن عمر، وكأني تهيبته. وبناء الحمّام وبيعه وشراؤه وكراؤه: مكروه عند أبي عبد الله، لما فيه من كشف العورات ودخول النساء. قال أحمد: إن علمت أن كل من في الحمام عليه إزار فادخلْه، وإلا فلا تدخل. فأما النساء فليس لهن دخوله إلا لعذر، ثم ذكر حديثين رواهما ابن ماجة في نهي النساء. ومن اغتسل عرياناً بين الناس لم يجز، أو إن كان وحده جاز، لأن موسى   1 النسائي: الطهارة (255, 256, 257) , وأبو داود: الطهارة (224) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (593) , وأحمد (6/102, 6/119, 6/126, 6/279) . 2 البخاري: الغسل (287) , ومسلم: الحيض (306) , والترمذي: الطهارة (120) , وأحمد (2/17, 2/102) . 3 مسلم: الحيض (308) , والترمذي: الطهارة (141) , والنسائي: الطهارة (262) , وأبو داود: الطهارة (220) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (587) , وأحمد (3/21, 3/28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 عليه السلام اغتسل عرياناً، وكذلك أيوب، رواهما البخاري. وقال أحمد: لا يعجبني أن يدخل الماء إلا مستتراً، إن للماء سكاناً. ولا بأس بذكر الله في الحمام، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه، رواه مسلم. فأما قراءة القرآن فيه، فكرهها أبو وائل والشعبي، ولم يكرهها النخعي ومالك لأنه لا نعلم حجة توجب الكراهة. فأما رد السلام، فقال أحمد: ما سمعت فيه شيئاً، والأولى جوازه من غير كراهة، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أفشوا السلام بينكم"، 1 ولأنه لم يرد فيه نص؛ والأشياء على الإباحة. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": يجب على الصبي الوضوء بموجباته، وجعله الشيخ مثل مسأله الغسل، إلزامه باستجمار ونحوه. وأن الرواية الثانية: لا غسل على الكافر، يعني: إذا أسلم، إلا إن وجد سببه قبله. ولو اغتسل في حال كفره أعاد. وقال الشيخ: لا إعادة إن اعتقد وجوبه، بناء على أنه يثاب على الطاعة في حال كفره إذا أسلم، كمن تزوج مطلقته ثلاثاً معتقداً حلها. وقيل: لا تمنع الحائض من قراءة القرآن مطلقاً، اختاره الشيخ. وكره الشيخ الذكر للجنب، لا لها. وأوجبه الشيخ على من له عرق أو ريح يتأذى به الناس، أي: غسل الجمعة. واختار عدم استحباب الغسل للوقوف وطواف الوداع والمبيت والرمي، قال: ولو قلنا باستحباب الغسل لدخول مكة، كان الغسل للطواف بعده فيه نوع عبث لا معنى له. واختار أنه لا يستحب لدخولها. ويجوز أن يتيمم لما يستحب الغسل له للحاجة، نقله صالح في الإحرام. ويستحب لما يستحب الوضوء له لعذر، وظاهر ما قدمه   1 مسلم: الإيمان (54) , والترمذي: الاستئذان والآداب (2688) , وأبو داود: الأدب (5193) , وابن ماجة: المقدمة (68) والأدب (3692) , وأحمد (2/391, 2/442, 2/477, 2/495, 2/512) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 في الرعاية: لا، قال في الفروع: وتيممه صلى الله عليه وسلم يحتمل عدم الماء. قال: ويتوجه احتمال في رد السلام، لفعله صلى الله عليه وسلم لئلا يفوت المقصود، وهو الرد على الفور. وجوز المجد وغيره التيمم لما يستحب الوضوء له مطلقاً، لأنها مستحبة، فخف أمرها. ويحثي على رأسه ثلاثاً، يروي بها أصول الشعر، يحتمل أنه يروي بمجموع الغرفات، وأن يروي بكل مرة. واستحب المصنف وغيره تخليل أصول شعر رأسه ولحيته قبل إفاضة الماء. ويفيض الماء على سائر جسده ثلاثاً، وقيل: مرة، اختاره الشيخ. وقال الزركشي: هو ظاهر الأحاديث. وإذا نوى الكبرى فقط، لا يجزي عن الصغرى. وقال الشيخ: يرفع الأصغر أيضاً. ويستحب للجنب إذا أراد النوم أن يغسل فرجه ويتوضأ. وعنه: يستحب للرجل فقط. قال ابن رجب في شرح البخاري: وهذا المنصوص عن أحمد. وقال الشيخ: في كلام أحمد ما ظاهره وجوبه. ولو أحدث بعد الوضوء لم يعده، وظاهر كلام الشيخ أنه يعيد حتى يبيت على إحدى الطهارتين، وقال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب". 1 رواه أبو داود. ويكره بناء الحمّام وبيعه وإجارته، وحرّمه القاضي، وحمله الشيخ على غير البلاد الباردة. وللمرأة دخوله لعذر، وقيل: يجوز لضرر يلحقها بتركه لنظافة بدنها، اختاره الشيخ.   1 أبو داود: الطهارة (227) , والدارمي: الاستئذان (2663) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 باب التيمم يشترط له ثلاثة: أحدها: دخول الوقت، وهذا قول مالك والشافعي، لأنه مستغن عنه، أشبه التيمم عند وجود الماء. وقال أبو حنيفة: يصح. وروي عن أحمد أنه قال: القياس أن التيمم بمنزلة الطهارة، حتى يجد الماء أو يحدث، فعليها يجوز قبل دخول الوقت. الثاني: العجز عن استعمال الماء لعدمه، لمن تيمم لعذر عدم الماء. الثالث: طلب الماء، وفيه خلاف نذكره، إن شاء الله تعالى. وعدم الماء يبيح التيمم في السفر الطويل والقصير؛ وهذا قول مالك والشافعي. وقال قوم: لا يباح إلا في الطويل، قياساً على سائر رخص السفر، ولنا: قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} الآية، 1 فدل على إباحته في كل سفر. وقياسهم لا يصح، لأنه يباح في الحضر، ولأنه عزيمة. فإن عدم الماء في الحضر تيمم، وهذا قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة في رواية: لا يصح، لأن الله شرط له السفر. ولنا: قوله: "الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين". 2 صححه الترمذي. وهذا عام. ولعل ذكر السفر في الآية خرج مخرج الغالب، كذكر السفر وعدم الكاتب في الرهن. وأبو حنيفة لا يقول بدليل الخطاب   1 سورة النساء آية: 43. 2 الترمذي: الطهارة (124) , والنسائي: الطهارة (322) , وأبو داود: الطهارة (332, 333) , وأحمد (5/180) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 على نفسه، تيمم ولا إعادة إجماعاً. وإن خاف على رفيقه أو بهائمه، فكذلك. وإن وجد عطشاناً يخاف تلفه، لزمه سقيه وتيمم. وقال القاضي: لا يلزمه بذله، لأنه محتاج إليه. ولنا: أن حرمة الآدمي تُقدم على الصلاة، إذا رأى حريقاً أو غريقاً عند ضيق الوقت، وقد غفر الله لبغيٍّ سقت كلباً، فالآدمي أولى. وإن خاف على نفسه أو ماله في طلب الماء، كمن بينه وبينه لص أو عدو، فهو كالعادم. ومن كان مريضاً لا يقدر على الحركة ولا على من يناوله، فكالعادم. وإن وجد من يناوله قبل خروج الوقت، فكالواجد. وقال الحسن: يتيمم ولا إعادة، لأنه عادم في الوقت. وإن وجد الماء، إلا أنه إن اشتغل بتحصيله فات الوقت، لم يتيمم، في قول أكثر أهل العلم. وعن الأوزاعي والثوري: يتيمم. ولنا: قوله: {فلم تجدوا ماء} ، 1 وهذا واجد للماء، وقوله: "التراب كافيك ما لم تجد الماء". وإن وجد الماء بثمن مثله، لزمه شراؤه لأنه قادر، وكذلك إن كان بزيادة يسيرة. وقال الشافعي: لا يلزمه الشراء مع الزيادة، قليلة كانت أو كثيرة، لأن عليه ضرراً في الزياة، كخوف اللص. ولنا: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ، ولأن ضرر المال دون ضرر النفس، وقد قالوا في المريض: يلزمه الغسل ما لم يخف التلف، فتحمل الضرر اليسير في الماء أحرى. والجريح والمريض إذا أمكنه غسل البعض، غسل ما أمكنه وتيمم للباقي؛ وهو قول الشافعي. وقال مالك: إن كان أكثر بدنه صحيحاً غسله ولا يتيمم، وإن كان أكثره جريحاً تيمم ولا غسل عليه، لأن الجمع بين البدل والمبدل منه لا يجب، كالصيام والإطعام. ولنا: حديث صاحب الشجة، ولأنه من شروط الصلاة، فالعجز عن بعضها لا يسقط جميعها، كالسترة، وما ذكره ينتقض   1سورة النساء آية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 المسح على الحفين، وقياسهم جمع بين البدل والمبدل منه في محل واحد. وكل ما لا يمكن غسله من الصحيح إلا بانتشار الماء إلى الجريح، حكمه حكم الجريح. ولا يلزمه أن يمسح على الجرح بالماء إذا أمكنه، سواء كان معصوباً أو لا. ونص أحمد في المجروح: إذا خاف مَسَحَ موضع الجرح، مسح وغسل ما حوله، لأن المسح بعض الغسل. ووجه الأولى أنه محل واحد، فلا يجمع بين المسح والتيمم كالجبيرة. وإذا قلنا: يجب المسح فهل يتيمم؟ على روايتين: إحداهما: لا يتيمم، كالجرح المعصوب عليه، والجبيرة على الكسر. والثانية: يتيمم، لأن المسح بعض الغسل، فيتيمم للباقي. والجبيرة الفرض انتقل فيها إلى الحائل فهو كالخفين. وإذا كان الجريح جنباً، فإن شاء قدم التيمم، وإن شاء أخره، بخلاف المتيمم لعدم ما يكفيه، فإنه يلزمه الغسل أولاً، لأن التيمم للعدم، ولا يتحقق مع وجود الماء، ولأن الجريح يعلم أن التيمم بدل عن غسل الجرح، والعادم لا يعلم القدر الذي تيمم له إلا بعد الغسل. وإن تيمم الجريح للحدث الأصغر، فذكر القاضي أنه يلزمه الترتيب. وقال شيخنا: يحتمل أن لا يجب هذا الترتيب، لأن التيمم طهارة مفردة، كما لو كان الجريح جنباً، ولأن فيه حرجاً فيندفع بقوله: {ما جعل عليكم في الدين من حرج} . 1 وحكى الماوردي عن مذهب الشافعي مثل هذا. وإن وجد ما يكفي بعض بدنه، لزمه استعماله، وتيمم للباقي إن كان جنباً، نص عليه. وفيمن وجد ما يكفيه لوضوئه وهو جنب، قال: يتوضأ ويتيمم؛ وهذا قول عطاء وأحد قولي الشافعي، وبه قال الحسن والزهري ومالك وابن المنذر. والقول الثاني للشافعي: يتيمم ويتركه، لأنه لا يطهره كالمستعمل. ولنا: قوله: {فلم تجدو ماء} ، 2 وخبر أبي ذرّ: "فإذا وجدته   1 سورة الحج آية: 78. 2سورة النساء: آية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فأمسّه بشرتك"، وقوله: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". 1 فإن وجده المحدث الحدث الأصغر، فقيل: يلزمه لما ذكرنا في الجنب. والثاني: لا يلزمه، لأن الموالاة شرط فيه؛ والصحيح أنه يلزمه. والمشهور عن أحمد: اشتراط طلب الماء لصحة التيمم، وهو مذهب الشافعي. وعنه: لا يشترط، وهو مذهب أبي حنيفة، لقوله: "التراب كافيك ما لم تجد الماء". ووجه الأولى: قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ، ولا يقال: لم يجد إلا لمن طلب، فأما إن تيقن أن لا ماء فلا يجب الطلب، قولاً واحداً، قاله أبو العباس. وإن أراق الماء قبل الوقت، تيمم من غير إعادة، وبه قال الشافعي. وقال الأوزاعي: إن ظن أنه يدرك الماء في الوقت، كقولنا، وإلا تيمم وأعاد لأنه مفرط. فأما إن إراقه في الوقت، أو مر به فلم يستعمله عمداً، مع أنه لا يرجو وجوده، فقد عصى بذلك، فيتيمم ويصلي. وفي الإعادة وجهان. وإن نسي الماء وتيمم، لم يجزئه، نص عليه، وقال: هذا واجد للماء. وعنه: التوقف في هذه المسألة. وقال أبو حنيفة وابن المنذر: يجزئه. وعن مالك كالمذهبين. وعنه: يعيد ما دام في الوقت. ويجوز التيمم لجميع الأحداث، وللنجاسة على جرح يضره إزالتها. و"كان ابن مسعود لا يرى التيمم للجنب". وقال الثوري وأبو ثور: إذا عجز عن غسل النجاسة على بدنه، مسحها بالتراب وصلى. وقال أكثر الفقهاء: لا يتيمم للنجاسة، لأن الشرع إنما ورد في الحدث. ووجه الأولى: قوله: "الصعيد الطيب طهور المسلم"، 2 وقوله: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً". 3 وإن اجتمع عليه نجاسة وحدث، ومعه ما يكفي أحدهما، قدم غسل النجاسة، نص عليه، ولا نعلم فيه خلافاً. فإن عدم الماء والتراب، صلى على حسب حاله، وهو   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجة: المقدمة (2) , وأحمد (2/247, 2/258, 2/313, 2/355, 2/428, 2/447, 2/456, 2/467, 2/482, 2/495, 2/508, 2/517) . 2 الترمذي: الطهارة (124) , والنسائي: الطهارة (322) , وأبو داود: الطهارة (332, 333) , وأحمد (5/180) . 3 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 قول الشافعي. وروي عن أحمد: لا يصلي حتى يقدر على أحدهما، وهو قول أبي حنيفة والثوري. وقال مالك: لا يصلي ولا يقضي، كالحائض. قال ابن عبد البر: هذه رواية منكرة عنه. ولنا: حديث القلادة وفيه: "فصلّوا بغير وضوء، فلم ينكرن ولا أمر بالإعادة". 1 وقياس أبي حنيفة على الحائض في تأخير الصيام لا يصح، لأن الصوم يدخله التأخير، لأن المسافر يؤخره، ولأن عدم الماء لو كان كالحيض لأسقط الصلاة، وقياس الصلاة على جنسها أولى من قياسها على الصوم. وقياس مالك لا يصح، لمخالفته لقوله: "إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم". 2 وقياس الطهارة على شرائط الصلاة أولى من قياسها على الحيض، والحيض معتاد، والعجز هنا نادر لأنه يشق إيجاب قضاء المعتاد. ولا يتيمم إلا بطاهر له غبار يعلق باليد، للآية. قال ابن عباس: "الصعيد تراب الحرث، والطيب الطاهر"، وقال: " {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} ، 3 وما لا غبار له، لا يمسح بشيء منه"، وبه قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز بكل ما كان من جنس الأرض، كالنورة والزرنيخ والحجارة. وقال الأوزاعي: الرمل من الصعيد. وقال حماد: يتيمم بالرخام، لقوله: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً". ولنا: الأمر بالصعيد، وهو التراب، وقوله: {مِنْهُ} . فأما السبخة، فعنه: يجوز، وقاله الشافعي وابن المنذر، لقوله: "وجُعلت تربتها طهوراً ". وعنه: في النورة والحصى والرمل ونحوه، وعنه: يجوز ذلك مع الاضطرار خاصة، وإن ضرب بيده على لبد أو شعير ونحوه، فعلق به غبار، جاز، نص عليه "لأنه صلى الله عليه وسلم ضرب بيده على الحائط، فمسح بها وجهه ويديه".   1 البخاري: المناقب (3773) , ومسلم: الحيض (367) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (568) , وأحمد (6/57) , والدارمي: الطهارة (746) . 2 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجة: المقدمة (2) , وأحمد (2/247, 2/258, 2/313, 2/355, 2/428, 2/447, 2/456, 2/467, 2/482, 2/495, 2/508) . 3 سورة المائدة آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وأجاز مالك التيمم بالثلج والحشيش وكل ما تصاعد على وجه الأرض، ومنع من التيمم بغبار اللبد والثوب، لأنه صلى الله عليه وسلم لما ضرب بيديه نفخهما. ولنا: الآية والنفخ لا يزيل الغبار الملاصق. وروى الأثرم عن ابن عمر أنه قال: "لا يتيمم بالثلج فإن لم يجد فصفحة فرسه أو معرفة دابته". فأما التراب النجسن فلا يجوز، لا نعلم فيه خلافاً. ويجوز أن يتيمم جماعة في موضع واحد بغير خلاف. وإن كان في الطين، فحكي عن ابن عباس: "أنه يطلي به جسده، فإذا جف تيمم به". ولا خلاف في وجوب مسح الوجه والكفين، للآية؛ وهذا قول الشافعي، يعني: أنه لا يجزي البعض. وقال سليمان بن داود: يجزيه إذا لم يصب إلا بعض وجهه. ولنا: قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} ، 1 والباء للإلصاق. والنية شرط للتيمم في قول أكثر أهل العلم، لا نعلم فيه خلافاً، إلا ما حكي عن الأوزاعي والحسن بن صالح. وإن نوى نفلاً، لم يصلّ إلا نفلاً. وقال أبو حنيفة: له أن يصلي بها ما يشاء. ويبطل بخروج الوقت، ووجود الماء، ومبطلات الوضوء. "روي بطلانه بخروج الوقت عن علي وابن عمر"، وهو قول مالك والشافعي. وقيل: لا يبطل، وهو مذهب ابن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي. ولنا: أنه روي عن علي وابن عمر أنه قال: "يتيمم لكل صلاة". وأما وجود الماء فلا نعلم فيه خلافاً. وإن وجده في الصلاة بطلت. وعنه: لا تبطل، قاله مالك والشافعي وابن المنذر. وإن تيمم وعليه ما يجوز المسح عليه، ثم خلعه، بطل. والصحيح ما اختاره شيخنا: أنه لا يبطل، وهو قول سائر الفقهاء. ويجوز التيمم لكل ما يتطهر له. وقال أبو مجلز: لا يتيمم   1 سورة النساء آية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 إلا لمكتوبة. وكره الأوزاعي أن يمس المتيمم المصحف. ولنا: حديث أبي ذر وقوله: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً". 1 وإن وجد الماء في الوقت، لم يعد، وهو قول مالك والشافعي. وقال طاووس وابن سيرين والزهري: يعيد. ولنا: ما روى أبو داود عن أبي سعيد: "أن رجلين خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً فصليا. ثم وجد الماء في الوقت، فأعاد أحدهما ولم يُعد الآخر. ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا له ذلك، فقال للذي لم يُعد: أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك. وقال للذي أعاد: لك أجرك مرتين" 2. واحتج أحمد بـ"أن ابن عمر تيمم وهو يرى بيوت المدينة، فصلى العصر. ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة، فلم يعد". والمصلي على حسب حاله إذا وجد الماء أو تراباً، خرج منها بكل حال، ويحتمل أن لا يخرج كالمتيمم إذا وجد الماء في الصلاة. و"يستحب تأخير التيمم إلى آخر الوقت لمن يرجو وجود الماء"، وروي عن علي وعطاء والحسن وأصحاب الرأي. وقال الشافعي في أحد قوليه: التقديم أفضل. والمسنون عن أحمد: التيمم بضربة واحدة. قال أحمد: من قال بضربتين إنما هو شيء زاده. قال الترمذي: وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وقال الشافعي: لا يجزئ إلا ضربتان للوجه واليدين إلى المرفقين. ولنا: حديث عمار، ولأنه حكم علق على مطلق اليد، فلم يدخل فيه الذراع، كقطع يد السارق. وقد احتج ابن عباس بهذا. وأما أحاديثهم فضعيفة، لم يرو منها أهل السنن إلا حديث ابن عمر. وقال أحمد: ليس بصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عندهم حديث منكر. وحديث ابن الصمة صحيح، لكن إنما جاء في المتفق عليه: "فمسح وجهه ويديه"، فهو حجة لنا. ثم أحاديثهم   1 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389) . 2 أبو داود: الطهارة (338) , والدارمي: الطهارة (744) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 لا تعارض حديثنا، لأنها تدل على جوازه بضربتين، لا نفي جواز التيمم بضربة، كما أن وضوءه صلى الله عليه وسلم ثلاثاً لا ينفي الإجزاء بمرة. فإن قيل: روي في حديث عمار: "إلى المرفقين"، قيل: لا يعوّل عليه، إنما رواه سلمة وشك فيه، ذكره النسائي، مع أنه أنكر عليه وخالفه فيه سائر الرواة الثقات. ولا يختلف المذهب أنه يجزئ بضربة وبضربتين. وإذا [كان] علا يديه غبار كثير، لم يكره نفخه، لحديث عمار. وقيل: يُكره. ولا يجوز لواجد الماء التيمم، خوفاً من فوات المكتوبة ولا الجنازة. وعنه: يجوز للجنازة. وعن الأوزاعي والثوري: له التيمم إذا خاف خروج الوقت، وإن خاف فوات العيد فكذلك. وقال الأوزاعي والثوري: له التيمم. ووجه الأولى: قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} . 1 و"التيمم لفوات الجنازة يروى عن ابن عمر وابن عباس"، وبه قال إسحاق وأصحاب الرأي. وقال الشعبي: يصلي عليها من غير وضوء، أشبهت الدعاء في غير الصلاة. ولنا: قوله: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور". 2 ولا يكره للعادم جماع زوجته إذا لم يخف العنت، وفيه رواية: يكره. قال إسحاق بن راهويه: هو سنة مسنونة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر وعمار وغيرهما. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": ولا يكره لعادم الماء وطء زوجته، اختاره الشيخ؛ وهو بدل لكل ما يفعله بالماء من الصلاة وغيرها، ولوطء حائض انقطع دمها، وقيل: يحرم الوطء   1 لفظ "كان" زيادة في الطبعة السلفية، وفي المخطوط والشرح: وإذا علا. 2 النسائي: الطهارة (139) , وأبو داود: الطهارة (59) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (271) , وأحمد (5/74, 5/75) , والدارمي: الطهارة (686) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 والحالة هذه، اختاره الشيخ. وإذا وجد عطشاناً يخاف تلفه، لزمه سقيه وتيمم، جزم به الشيخ. وقال: يلزمه قبول الماء قرضاً، وكذا ثمنه وله ما يوفيه. وقال: ولو كان به جرح يخاف من غسله، فمسحه بالماء أولى من مسح الجبيرة. انتهى. ولو كان على الجرح عصابة أو لصوق، أجزأ المسح على الصحيح، وعنه: يتيمم معه. ولو كان الجرح في بعض أعضاء الوضوء لزمه الترتيب. قال الشيخ: ينبغي أن لا يرتب، وقال: لا يلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره. وقال: الفصل بين أعضاء الوضوء بتيمم بدعة. ويجوز التيمم للنجاسة، وفي وجه: لا يجب التيمم لنجاسة البدن مطلقاً، نصره الشيخ. ولو عدم الماء والتراب، صلى على حسب حاله، ولا يزيد على ما يجزئ. وقال الشيخ: يتوجه له فعل ما شاء لأنه لا تحريم مع العجز، ولأن له أن يزيد على ما يجزئ في ظاهر قولهم، وقال: له فعل ذلك على أصح القولين. ولا يتيمم إلا بتراب له غبار، وعنه: بالسبخة، وعنه: وبالرمل أيضاً، اختاره الشيخ. واختار جواز التيمم بغير تراب من أجزاء الأرض، إذا لم يجد تراباً، وهي رواية عن أحمد. وأعجب أحمد حمل التراب عند التيمم، وعند الشيخ لا يحمله. ويبطل بخروج الوقت. وهو مبيح لا رافع. وعنه: أنه رافع؛ فيصلي به إلى حدثه، اختاره الشيخ. وقال في الفتاوى المصرية: التيمم لوقت كل صلاة، إلى أن يدخل وقت الأخرى، أعدل الأقوال. وإن تيمم وعليه ما يجوز المسح عليه، ثم خلعه، لم يبطل تيممه، اختاره الشيخ. واختار فيمن استيقظ آخر الوقت وهو جنب، وخاف إن اغتسل خرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الوقت، أو نسيها وذكرها آخر الوقت، أن يغتسل أو يتوضأ ويصلي خارج الوقت، كالمذهب. وإن استيقظ أول الوقت، وخاف إن اشتغل بتحصيل الماء يفوت الوقت، أن يتيمم ولا يفوِّت الوقت. وإن من أمكنه الذهاب إلى الحمام لكن بفوات الوقت، أن يتيمم ويصلي خارج الحمام، لأن الصلاة في الحمام وخارج الوقت منهي عنها، كمن انتقض وضوءه وهو في المسجد. واختار أيضاً جواز التيمم من فوات الجمعة، فإنه أولى من الجنازة - إلى أن قال - وعنه: يجوز لجنازة، اختاره الشيخ. ولو كان الماء لأحدهم لزمه استعماله، وذكر ابن القيم في الهدي: أنه لا يمتنع أن يؤثر بالماء، ويتيمم هو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 باب التيمم ... ولو كان حجة، فالمنطوق راجح عليه. وهل يعيد إذا قدر على الماء على روايتين. ومن خرج من المصر إلى أرض من أعماله كالحطاب، ممن لا يمكنه حمل الماء معه لوضوئه، ولا يمكنه الرجوع ليتوضأ إلا بتفويت حاجته، صلى بالتيمم ولا إعادة عليه. وإن خاف البرد ولم يمكنه استعمال الماء على وجه يأمن الضرر، تيمم في قول أكثر أهل العلم. وقال الحسن وعطاء: يغتسل وإن مات. ووجه الأولى قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، 1 ولحديث عمرو بن العاص. وهل يلزمه الإعادة فيه روايتان: إحداهما: لا تلزم "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر عمرو بن العاص بالإعادة". وقال أبو يوسف ومحمد: تجب، كنسيان الطهارة؛ والأول أصح، لأن الناسي لم يأت بما أمر به. والجريح والمريض إذا خافا تيمما، هذا قول أكثر أهل العلم. وقال عطاء والحسن: لا يجوز إلا عند عدم الماء. ولنا: قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ، 2 وحديث صاحب الشجة. واختلفوا في الخوف المبيح، فعن أحمد: لا يبيحه إلا خوف التلف؛ والصحيح الإباحة إذا خاف زيادة المرض أو تباطؤ البرء، لأنه يجوز إذا خاف ذهاب شيء من ماله أو لم يجد الماء إلا بزيادة كثيرة على ثمن المثل، ولأن ترك القيام في الصلاة وتأخير الصوم في المرض لا ينحصر في خوف التلف. فإن لم يخف الضرر لم يجز. وحكي عن مالك وداود: إباحته للمريض مطلقاً، لظاهر الآية. ولنا: أنه قادر عليه من غير ضرر فأشبه الصحيح، والآية اشترط فيها عدم الماء، فلم يتناول محل النزاع على أنه لا بد فيها من إضمار الضرورة، ولا يكون إلا عند الضرورة. وإن خاف العطش   1 سورة النساء آية: 29. 2 سورة النساء آية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 باب إزالة النجاسة لا تجوز بغير الماء، وبه قال مالك. وروي عن أحمد ما يدل على أنها تزال بكل مائع طاهر، مزيل للعين والأثر، كالخل وماء الورد؛ وقاله أبو حنيفة، لقوله: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسلْه سبعاً". 1 ولنا: الأحاديث مثل قوله: "ثم لتنضحْه بماء"، ومثل أمره بذنوب من ماء تصب على البول. فأما ما لا يزيل، كاللبن والدهن، فلا خلاف أن النجاسة لا تزال به. ويجب غسل نجاسة الكلب والخنزير سبعاً، إحداهن بالتراب، لا يختلف المذهب في نجاستهما وما توالد منهما، عينه وسؤره وعرقه وكل ما خرج منه؛ وبه قال الشافعي، وبه قال أبو حنيفة في السؤر. وقال مالك: سؤرهما طاهر. وقال الزهري: يتوضأ منه إذا لم يجد غيره. قال مالك: يغسل الإناء تعبداً. واحتج بعضهم على طهارته بقوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} ، 2 ولم يأمر بغسل أثر فمه. ونجاسة الخنزير بالتنبيه لأنه شر منه. وممن قال: "يغسل سبع مرات": ابن عباس والشافعي وابن المنذر. وقال عطاء: قد سمعت ثلاثاً وخمساً وسبعاً، وعن أحمد ثمانياً، إحداهن بالتراب، لقوله: "إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبعاً، وعفروه الثامنة بالتراب". 3 رواه مسلم. وحديث أبي هريرة أصح، ويحتمل أنه عدّ التراب ثامنة، جمعاً بينهما. وإن جعل مكان التراب أشناناً ونحوه، فقيل: لا يجزئ، للأمر بالتراب. وقيل: بلى، لأنه أبلغ   1 البخاري: الوضوء (172) , ومسلم: الطهارة (279) , والترمذي: الطهارة (91) , والنسائي: الطهارة (63, 64, 66) والمياه (335, 338, 339) , وأبو داود: الطهارة (71, 73) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (363, 364) , وأحمد (2/245, 2/253, 2/265, 2/271, 2/314, 2/398, 2/424, 2/427, 2/460, 2/480, 2/482, 2/489, 2/507) , ومالك: الطهارة (67) . 2 سورة المائدة آية: 4. 3 مسلم: الطهارة (280) , والنسائي: الطهارة (67) والمياه (336, 337) , وأبو داود: الطهارة (74) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (365) , وأحمد (4/86) , والدارمي: الطهارة (737) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 من التراب. ويستحب جعله في الأولى، لموافقته لفظ الخبر، وليأت الماء بعده فينظفه. ومتى غسل به أجزأه، لقوله: "إحداهن بالتراب"، وفي لفظ آخر: "في الثامنة". وفي سائر النجاسات، ثلاث روايات: إحداهن: يجب سبعاً. والثانية: ثلاثاً. والثالثة: تكاثر بالماء من غير عدد، كالنجاسات كلها، إذا كانت على الأرض، لقول ابن عمر: "أُمرنا أن نغسل الأنجاس سبعاً". والثانية، لحديث القائم من نوم الليل. والثالثة، قوله لأسماء: "اغسليه بالماء"، 1 ولم يذكر عدداً. وإذا أصاب ثوب المرأة دم الحيض، استحب أن تحتّه بظفرها لتذهب خشونته، ثم تقرصه بريقها ليلين للغسل، ثم تغسله، لقوله لأسماء: "حتّيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه بالماء"، 2 وإن لم يزل لونه، وكانت إزالته تشق أو تضر بالثوب، لقوله: "ولا يضرك أثره". 3 رواه أبو داود. وإن استعملت شيئاً يزيله كالملح وغيره، فحسن، لحديث الغفارية التي أردفها. قال الخطابي: فيه من الفقه: جواز استعمال الملح وهو مطعوم في غسل الثوب من الدم. فعلى هذا، يجوز غسل الثوب بالعسل إذا كان الصابون يفسده، وبالخل إذا أصابه الحبر، والتدلك بالنخالة وغسل الأيدي بها، وبالبطيخ ودقيق الباقلاء وغيرها، مما له قوة الجلاء. ومتى تنجست الأرض بنجاسة مائعة، أيَّ نجاسة كانت، فطهورها: غمرُها بالماء حتى يذهب لون النجاسة وريحها. فإن لم يزل إلا بمشقة، سقط ذلك كما قلنا في الثوب، لحديث الأعرابي، ولا نعلم في ذلك خلافاً. وسئل أحمد عن ماء المطر يصيب الثوب، فلم ير بأساً، إلا أن يكون بيل فيه بعد المطر، وقال: كل ما نزل من السماء إلى الأرض فهو نظيف، داسته الدواب أو لم تدسه. وقال في الميزاب: إذا كان في الموضع النظيف لا بأس بما قطر عليك من المطر إذا لم تعلم. قيل: أفأسأل عنه؟ قال: لا. واحتج في طهارة طين المطر بحديث   1 النسائي: الطهارة (292) والحيض والاستحاضة (395) , وأبو داود: الطهارة (363) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (628) , وأحمد (6/355) , والدارمي: الطهارة (1019) . 2 البخاري: الوضوء (227) , ومسلم: الطهارة (291) , والترمذي: الطهارة (138) , والنسائي: الطهارة (293) , وأبو داود: الطهارة (360, 361) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (629) , وأحمد (6/345, 6/346, 6/353) , ومالك: الطهارة (136) , والدارمي: الطهارة (772, 1016, 1018) . 3 أبو داود: الطهارة (365) , وأحمد (2/364, 2/380) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الأعرابي، وبـ"أن الصحابة والتابعين يخوضون المطر في الطرقات، فلا يغسلون أرجلهم"، روي عن ابن عمر وعلي. قال ابن مسعود: "كنا لا نتوضأ من موطئ"، ونحوه عن ابن عباس؛ وهذا قول عوام أهل العلم. ولا تطهر الأرض النجسة بشمس ولا ريح، روي عن ابن المنذر والشافعي في أحد قوليه. وقال أبو حنيفة ومحمد: تطهر إذا أذهب أثر النجاسة. وقال أبو قلابة: جفاف الأرض طهورها، لأن ابن عمر روى: "أن الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد، فلم يكونوا يرشّون شيئاً من ذلك". رواه أبو داود. ولنا: حديث الأعرابي، وحديث ابن عمر رواه البخاري، ولم يذكر البول ... ولا تطهر الاستحالة إلا الخمرة إذا انقلبت بنفسها، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها. وإذا خفيت النجاسة، لزم غسل ما تيقن به من إزالتها؛ هذا قول مالك والشافعي وابن المنذر. وقال ابن شبرمة: يتحرى مكان النجاسة فيغسله. وقال عطاء: إذا خفيت في الثوب، نضحَه كله، لحديث سهل في المذي، فأمر بالتحري والنضح. ولنا: أنه تيقن المانع من الصلاة، فلم تبح له الصلاة إلا بتيقن، والحديث مخصوص بالمذي لمشقة الاحتراز منه. ويجزئ في بول الذي لم يأكل الطعام: النضح؛ وهو غمره بالماء وإن لم يزل عنه، ولا يحتاج إلى عصر. وحكي عن الحسن أن بول الجارية ينضح ما لم تطعم، كالصبي. وقال الثوري: "يغسلان"، ثم ذكر حديث أم قيس وحديث علي وقال: هذه نصوص صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فاتباعها أولى من القياس، وقوله صلى الله عليه وسلم مقدم على من خالفه. وإذا تنجس أسفل الحذاء أو الخف، وجب غسله. وعنه: يجزئ دلكه، وعنه: يغسل من البول والغائط، ويدلك من غيرهما. والأولى: أن يجزئ الدلك مطلقاً، للأحاديث. فـ"أما الدم والقيح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فأكثر أهل العلم يرون العفو عن يسيره"، روي عن ابن عباس وأبي هريرة وغيرهما. وروي عن الحسن وسليمان التيمي: لا يعفى عنه. ولنا: قول عائشة: "يكون لإحدانا الدرع فيه تحيض، تم ترى فيه قطرة من الدم، فتقصعه بريقها"، 1 وفي رواية: "تبلّه بريقها، ثم تقصعه بظفرها". رواه أبو داود. وهذا يدل على العفو، لأن الريق لا يطهره، ويتنجس به ظفرها. وهو إخبار عن دوام الفعل؛ ومثل هذا لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه قول مَن سمينا من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف. والقيح والصديد مثله، إلا أن أحمد قال: هو أسهل. وقال أبو مجلز في الصديد: إنما ذكر الله الدم المسفوح. وقال أُميّ بن ربيعة: رأيت طاووساً كان إزاره نطعاً، من قروح كانت برجليه، ونحوه عن مجاهد. ودم ما لا نفس له سائلة، كالذباب ونحوه، طاهر، لأنه لو كان نجساً لنجس الماء اليسير إذا مات فيه، ولأن الله سبحانه إنما حرم الدم المسفوح. والأجسام الصقيلة يعفى عن كثير النجاسة فيها بعد المسح. وعنه: في المذي والقيء وريق البغل والحمار وسباع البهائم والطير، وعرَقها وبول الأخفاش، والنبيذ والمني، أنه كالدم. وعنه: في المذي يجزئ فيه النضح. وروى الخلال بإسناده قال: سئل ابن المسيب وعروة وأبو سلمة وسليمان بن يسار عن المذي، فكلهم قال: إنه بمنزلة القرحة، فما علمت منه فاغسله، وما غلبك منه فدعْه. وعنه: في ريق البغل والحمار وعرَقهما: من يسلم من هذا ممن يركب الحمير؟ وقال الشعبي والحكم: لا بأس ببول الخفافيش، وكذلك الخطاف، لأنه يشق التحرز منه، فإنه كثير في المساجد. وقال أبو حنيفة: يعفى عن يسير جميع النجاسات. ولنا: قوله: "تنزّهوا من البول". وما لا نفس له سائلة، لا ينجس بالموت، ولا ينجس الماء إذا مات فيه، قال ابن   1 أبو داود: الطهارة (364) , والدارمي: الطهارة (1009) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 المنذر: لا أعلم في ذلك خلافاً، إلا ما كان من الشافعي في أحد قوليه؛ فإن عنده في تنجيس الماء قولان، فأما الحيوان فهو نجس عنده قولاً واحداً. ولنا: حديث الذباب والضفدع ينجس بالموت وينجس الماء القليل. وقال مالك: لا يفسد الماء لأنه يعيش فيه كالسمك. وسباع البهائم والطير والبغل والحمار نجسة، وعنه: أنها طاهرة. وسؤر الهر وما دونه في الخلقة طاهر، في قول أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا أبا حنيفة، فإنه كره الوضوء بسؤر الهر؛ فإن فعل أجزأه. و"رويت كراهته عن ابن عمر ويحيى الأنصاري"، وقال ابن المسيب: يغسل مرة أو مرتين. وقال طاووس: يغسل سبعاً كالكلب. ولنا: حديث أبي قتادة، دل بلفظه على نفي الكراهة عن سؤر الهر، وبتعليله على نفي الكراهة عما دونهما مما يطوف علينا. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": لا تزول النجاسة بغير الماء، وعنه: ما يدل على أنها تزال بكل مائع طاهر مزيل، اختاره الشيخ. واختار طهارة شعر الكلب والخنزير. وفي سائر النجاسات ثلاث روايات: الثالثة: تكاثر بالماء من غير عدد، اختاره الشيخ. واختار إجزاء المسح في المتنجس الذي يضره الغسل، كثياب الحرير والورق، قال: وأصله الخلاف في إزالة النجاسة بغير الماء. واختار أن الشمس تطهر، وكذا الريح والجفاف. قال: وإحالة التراب ونحوه للنجاسة كالشمس، وقال: إذا أزالها التراب عن النعل فعن نفسه إذا خالطته أولى. واختار أيضاً أن الاستحالة تطهر، وأن الجسم الصقيل يطهر بالمسح. وإذا خفي موضع النجاسة غسل حتى يتيقن، وعند الشيخ: يكفي الظن في غسل المذي وغيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 من النجاسات. واختار طهارة أسفل الخف والحذاء بالدلك، وأن ذيل المرأة بمروره على طهارة يزيلها، وأن الرِّجل كالخف والحذاء، وأن القيح والصديد طاهر ولم يقم دليل على نجاسته، وأن المذي يجزئ فيه النضح ويصير طاهراً به. واختار أيضاً: العفو عن يسير جميع النجاسات مطلقاً، في الأطعمة وغيرها، حتى بعر الفأر، وأن تراب الشارع طاهر، ومال إلى طهارة سباع البهائم والطير والبغل والحمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 باب الحيض قال أحمد: الحيض يدور على ثلاثة أحاديث: حديث فاطمة، وأم حبيبة، وحمنة، وفي رواية: حديث أم سلمة مكان حديث أم حبيبة. وهو يوجب البلوغ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" 1. وحرم وطؤها قبل الغسل، قال ابن المنذر: هذا كالإجماع. وقال أبو حنيفة: إن انقطع لأكثر الحيض حل وطؤها. الاستمتاع بما فوق السرة وتحت الركبة جائز بالنص والإجماع، والوطء محرم بهما. واختلف في الاستمتاع بما بينهما، فذهب إمامنا إلى جوازه، وهو قول عطاء والشعبي والثوري وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يباح، لحديث: "كان يأمرني فأتّزر ... إلخ" 2. ولنا: قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} . 3 فتخصيصه يدل على إباحة ما عداه. ولما نزلت، قال صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء غير النكاح". 4 رواه مسلم. فإن وطئها فعليه نصف دينار كفارة، وعنه: ليس عليه إلا التوبة، لأنه سئل عن الحديث فقيل: في نفسك منه شي؟ قال: نعم. وإذا استحيضت المعتادة، لم تخل من أربعة أقسام: أحدها: أن لا يكون لها تمييز لكون الدم على صفة واحدة، أو أن الذي يصلح للحيض ينقص عن أقله أو يزيد على أكثره، فهذه تجلس أيام عادتها، ثم تغتسل وتتوضأ لوقت كل صلاة   1 الترمذي: الصلاة (377) , وأبو داود: الصلاة (641) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (655) , وأحمد (6/150, 6/218, 6/259) . 2 مسلم: الحيض (293) , والترمذي: الطهارة (132) , وأحمد (6/55) , والدارمي: الطهارة (1037) . 3 سورة البقرة آية: 222. 4 مسلم: الحيض (302) , والترمذي: تفسير القرآن (2977) , والنسائي: الطهارة (288) والحيض والاستحاضة (369) , وأبو داود: النكاح (2165) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (644) , وأحمد (3/132, 3/246) , والدارمي: الطهارة (1053) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وتصلي؛ وهذا القول للشافعي. وقال مالك: لا اعتبار بالعادة، بل بالتمييز؛ فإن لم يكن استظهرت بعد عادتها بثلاثة أيام إن لم تتجاوز خمسة عشر، ثم هي مستحاضة، واحتج بحديث فاطمة. ولنا: حديث أم سلمة: "أن امرأة تهراق الدماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتنظر عدد الأيام والليالي التي كانت تحيضهن ... إلخ". 1 وروي في حديث فاطمة: "دَعِي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين". 2 متفق عليه. وفي حديث أم حبيبة: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك". رواه مسلم. ولا حجة له في الحديث على ترك العادة في حق من لا تمييز لها. وإن كان لها عادة وتمييز، فإن كان الدم الذي يصلح للحيض في زمن العادة، فقد اتفقت العادة والتمييز. وإن كان أكثر من العادة أو أقل، ولم ينقص عن أقل الحيض ولا زاد على أكثره، ففيه روايتان: إحداهما: يقدم التمييز، وهو ظاهر مذهب الشافعي لما ذكرنا من الأدلة. والثانية: تقدم العادة، وهو قول أكثر الأصحاب، لأنه صلى الله عليه وسلم رد أم حبيبة والتي استفتت لها أم سلمة إلى العادة، ولم يستفصل. وحديث فاطمة روي فيه أنه ردها إلى العادة أيضاً، فتعارضت روايتاه، وبقيت أحاديثنا لا معارض لها، على أنها قضية في عين يحتمل أنها أخبرته أن لا عادة لها. وإن نسيت العادة، عملت بالتمييز. وقال أبو حنيفة: لا اعتبار بالتمييز، لحديث أم سلمة. ولنا: حديث فاطمة، وحديث أم سلمة يدل على اعتبار العادة، وهذه لا عادة لها. فإن لم يكن لها تمييز، جلست غالب الحيض من كل شهر، وعنه: أقله، لحديث حمنة: "تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام، ثم اغتسلي". 3 وقال الشافعي: لا حيض لها بيقين، وجميع زمنها مشكوك فيه، تغتسل لكل صلاة وتصلي وتصوم ولا يأتيها زوجها. وعن عائشة: "أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم   1 النسائي: الطهارة (208) , وأبو داود: الطهارة (274) , وأحمد (6/320, 6/322) , ومالك: الطهارة (138) , والدارمي: الطهارة (780) . 2 البخاري: الحيض (325) , والترمذي: الطهارة (125) , والنسائي: الحيض والاستحاضة (366) , وأبو داود: الطهارة (282, 298) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (621, 624) , وأحمد (6/41, 6/194, 6/204, 6/262) , ومالك: الطهارة (137) , والدارمي: الطهارة (774, 779) . 3 الترمذي: الطهارة (128) , وأبو داود: الطهارة (287) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (627) , وأحمد (6/439) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فقال: إنما ذلك عِرق، فاغتسلي ثم صلي". 1 فكانت تغتسل عند كل صلاة. متفق عليه. ولنا: حديث حمنة، وهو بظاهره يثبت الحكم في حق الناسية، لأنه لم يستفصل ولم يسألها عن التمييز، لأن في كلامها من تكثير الدم وصفته ما أغنى عن السؤال، ولم يسألها عن العادة لاستغنائه عن ذلك بعلمه إياه، إذ كان مشتهراً، وقد أمر أختها أم حبيبة، فلم يبق إلا أن تكون ناسية، وأم حبيبة لها عادة لما روى مسلم أنه قال لها: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي"، 2 فكانت تغتسل عند كل صلاة. فدل على أنها تغتسل لكل صلاة في غير وقت الحيض. وإن علمت عدد أيامها ونسيت موضعها، جلستها من أول كل شهر، لقوله: "تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي وصلي"، 3 فقدم حيضها على الطهر، ثم أمرها بالصلاة. واختار ابن أبي موسى أنها تجلس بالتحري، لأنه ردها إلى اجتهادها في القدر، فكذلك في الوقت، وإن طهرت في أثناء عادتها، اغتسلت وصلّت. وإن عاودها الدم في العادة، فهل تلتفت إليه؟ على روايتين؛ و"لم يفرق أصحابنا بين قليل الطهر وكثيره"، لقول ابن عباس. أما من رأت الطهر ساعة فلتغتسل، فإن كان النقاء أقل من ساعة فالظاهر أنه ليس بطهر. قالت عائشة: "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء". قال أحمد: القصة شيء يتبع الحيضة أبيض، لا يكون فيه صفرة ولا كدرة. وقال الأزهري: القُصة بضم القاف: القطنة التي تحشوها المرأة، فإذا خرجت بيضاء لا تغير عليها، فهي القصة البيضاء. وروي عن أحمد: أن النفساء إذا رأت النقاء دون يوم، لا يثبت لها أحكام   1 البخاري: الحيض (327) , ومسلم: الحيض (334) , والترمذي: الطهارة (129) , والنسائي: الطهارة (206) , وأبو داود: الطهارة (285) , وأحمد (6/82, 6/141) , والدارمي: الطهارة (782) . 2 مسلم: الحيض (334) , والنسائي: الطهارة (207) , وأبو داود: الطهارة (279) , وأحمد (6/222) . 3 الترمذي: الطهارة (128) , وأبو داود: الطهارة (287) , وأحمد (6/439) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الطهارة، قال شيخنا: وهو الصحيح، إن شاء الله، لأن في إيجاب الغسل على من تطهر ساعة بعد ساعة حرج. وقال أبو حنيفة: ليس النقاء بين الدمين طهراً، ولا يجب عليها فيه صلاة، ولا يأتيها زوجها؛ وهو أحد قولي الشافعي. ولنا: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً} ، 1 وقال ابن عباس: "إذا رأت الطهر ساعة، فلتغتسل"، وقالت عائشة: "لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء"، ولأنها صامت وهي طاهرة فلم يلزمها القضاء. وقولهم: إن الدم يجري تارة وينقطع أخرى، قلنا: لا عبرة بالانقطاع اليسير، وإنما إذا وجد انقطاعٌ كثير يمكن فيه الصلاة والصيام. وإن عاودها الدم في العادة ولم يتجاوزها، ففيه روايتان: إحداهما: أنه من حيضها، وهو مذهب الثوري وأصحاب الرأي. والثانية: ليس بحيض، فإن تجاوز العادة وعبر أكثر الحيض فليس بحيض. والصفرة والكدرة في أيام الحيض: حيض، وبعده لا تعتد به، نص عليه؛ وهو مذهب مالك والشافعي. وقال أبو يوسف وأبو ثور: لا يكون حيض إلا أن يتقدمه دم أسود، لقول أم عطية: "كنا لا نعدّ الصفرة بعد الغسل شيئاً". رواه أبو داود. ولنا: قوله: {قُلْ هُوَ أَذىً} ، 2 وهذا يتناول الصفرة والكدرة، ولقول عائشة: "لا تعجلن ... إلخ". وقول أم عطية إنما يتناولُ ما بعد الطهر والاغتسال، ونحن نقول به، ويدل عليه قول عائشة: "ما كنا نعد الصفرة والكدرة حيضاً"، مع قولها المتقدم. وروى البخاري بإسناده عن فاطمة عن أسماء قالت: "كنا في حجرها مع بنات بنتها، فكانت إحدانا تطهر ثم تكسر بصفرة يسيرة، فنسألها فتقول: اعتزلن الصلاة حتى لا ترين إلا البياض". قال القاضي: معناه لا تلتفت إليه قبل التكرار، وقول أسماء فيما إذا تكرر، جمع بين الأخبار.   1 سورة البقرة آية: 222. 2 سورة البقرة آية: 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 والمستحاضة تغسل فرجها وتعصبه، وتتوضأ لوقت كل صلاة، وتصلي ما شاءت، وكذا من به سلس البول والمذي والريح، والجريح الذي لا يرقأ دمه، لحديث حمنة وأم سلمة. ثم إن خرج لرخاوة الشد، أعادت الشد والوضوء، وإن كان لغلبة الخارج لم تبطل الطهارة، لقول عائشة: "اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه، فكانت ترى الدم والصفرة، والطست تحتها وهي تصلي". 1 رواه البخاري. وفي لفظ: "وإن قطر الدم على الحصير". "وصلى عمر وجرحه يثعب دماً". وقال مالك: لا يجب الوضوء على المستحاضة. واستحب مالك لمن به سلس البول أن يتوضأ لكل صلاة، إلا أن يؤذيه البرد. واحتج أحمد بقوله لفاطمة: "فاغتسلي وصلّي"، ولم يأمرها بالوضوء. ولنا: أن في حديث فاطمة: "وتوضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت". 2 صححه الترمذي، وفي حديث عدي بن ثابت في المستحاضة: "وتتوضأ عند كل صلاة". 3 رواه أبو داود. قال أحمد: إنما أمرها أن تتوضأ لكل صلاة، وتصلي بذلك النافلة والصلاة الفائتة، حتى يدخل وقت الأخرى. وقال الشافعي: لا تجمع بين فرضين بطهارة واحدة، لقوله: "توضئي لكل صلاة". ولنا: أن في حديث فاطمة: "توضئي لوقت كل صلاة"، وحديثهم محمول على الوقت لقوله صلى الله عليه وسلم: "أينما أدركتك الصلاة فصلِّ"، 4 أي: وقتها، و"لأنه صلى الله عليه وسلم أمر حمنة بالجمع بين الصلاتين بغسل واحد"، وأمر به سهلة، ولم يأمرها بالوضوء. قال أحمد بن القاسم: سألت أبا عبد الله قلت: إن هؤلاء يتكلمون بكلام كثير ويوقتون بوقت، يقولون: إذا توضأت وقد انقطع الدم ثم سال قبل أن تدخل في الصلاة، تعيد الوضوء. وإذا تطهرت والدم سائل ثم انقطع قولاً آخر، قال: لست أنظر في انقطاعه حين توضأت، سال الدم   1 البخاري: الحيض (310) , وأبو داود: الصوم (2476) , وابن ماجة: الصيام (1780) , وأحمد (6/131) , والدارمي: الطهارة (877) . 2 البخاري: الوضوء (228) , ومسلم: الحيض (333) , والترمذي: الطهارة (125) , والنسائي: الحيض والاستحاضة (359, 364, 365) , وأبو داود: الطهارة (282) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (621, 624) , وأحمد (6/41, 6/194, 6/204, 6/262) , والدارمي: الطهارة (774, 779) . 3 الترمذي: الطهارة (126) , وأبو داود: الطهارة (297) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (625) , والدارمي: الطهارة (793) . 4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3366) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (520) , وأحمد (5/156, 5/160) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أو لم يسل، إنما أمرها أن تتوضأ لكل صلاة، فتصلي بذلك النافلة والفائتة، حتى يدخل وقت الأخرى. ويستحب لها أن تغتسل لكل صلاة، وذهب بعضهم إلى وجوبه. وقيل: "لكل يوم غسلاً"، روي عن عائشة وابن عمر. وقيل: تجمع بين كل صلاتي جمع بغسل، وتغتسل للصبح، لأمره حمنة وسهلة بذلك. وأكثر أهل العلم على أنها تغتسل عند انقطاع الحيض، ثم عليها الوضوء لكل صلاة، لقوله: "فاغسلي عنك الدم وصلّي" 1، وكذلك حديث عدي بن ثابت؛ وهذا يدل على أن الغسل المأمور به استحباباً جمعاً بين الأحاديث. والغسل لكل صلاة أفضل. ويليه الغسل مع الجمع، لقوله: وهو أعجب الأمرين إليّ. ويليه الغسل كل يوم مرة، ثم بعده الغسل عند الانقطاع، والوضوء لكل صلاة. وهل يباح وطؤها؟ على روايتين: إحداهما: لا يباح، وهو مذهب ابن سيرين. والثانية: يباح، وهو قول أكثر أهل العلم، لحديث حمنة وأم حبيبة. وأكثر النفاس: أربعون، وهو قول أكثر أهل العلم. وقال مالك والشافعي: أكثره: ستون، ولا حد لأقله. وقال أبو عبيد: أقله: خمسة وعشرون يوماً. ولنا: أنه لم يرد تحديده، فيرجع إلى الوجود. ويستحب أن لا يقربها في الأربعين، لحديث عثمان بن أبي العاص. وإن عاد في الأربعين فهو نفاس، وعنه: مشكوك فيه. وقال مالك: إن رأته بعد يومين أو ثلاثة، فهو نفاس، وإن تباعد فحيض. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": يخرج الكفارة من أي ذهب كان، واختار الشيخ: لا يجزئ إلا المضروب، لأن الدينار اسم للمضروب خاصة، وأنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره، ولا للطهر بين الحيضتين؛ بل كل ما استقر عادة للمرأة فهو حيض، وإن نقص   1 البخاري: الحيض (306) , والترمذي: الطهارة (125) , والنسائي: الحيض والاستحاضة (359, 364, 365, 367) , وأبو داود: الطهارة (282) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (621, 624) , وأحمد (6/41, 6/194, 6/204, 6/262) , ومالك: الطهارة (137) , والدارمي: الطهارة (774, 779) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 عن يوم أو زاد على السبعة عشر يوماً، ما لم تصر مستحاضة. واختار أن المبتدأة تجلس في الثانية ولا تعيد. انتهى. ولا تلتفت لما خرج عن العادة حتى يتكرر ثلاثاً، وعند الشيخ: تصير إليه من غير تكرار. واختار أن الصفرة والكدرة بعد زمن الحيض ليستا بحيض، ولو تكررتا. وقال: لا حد لأكثر النفاس، ولو زاد على السبعين وانقطع، لكن إن اتصل فهو دم فساد؛ وحينئذ فالأربعون منتهى الغالب. وقال: الأحوط أن المرأة لا تستعمل دواء يمنع نفوذ المني في مجاري الحبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 كتاب الصلاة كتاب الصلاة ... كتاب الصلاة لا نعلم خلافاً في وجوبها على النائم، بمعنى: أنه يقضيها، لقوله: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلِّها إذا ذكرها ". 1 رواه مسلم. وكذلك السكران، لأنه إذا وجب بالنوم المباح فبالمحرم أولى. وحكم المغمى عليه حكم النائم، يروى ذلك عن عمار وغيره. وعن ابن عمر: "لا يقضي". وقال مالك والشافعي: لا يقضي إلا أن يفيق في جزء من وقتها. وقال أصحاب الرأي: إن أغمي عليه أكثر من خمس صلوات، لم يقض شيئاً، وإلا قضى الجميع. ولنا: أن الإغماء لا يسقط فرض الصيام، ولا تطول مدته غالباً، أشبه النوم، وقياسه على الجنون لا يصح، لأنه تطول مدته ويسقط عنه الصوم، أما المجنون فلا قضاء عليه إلا أن يفيق في وقتها، لا نعلم فيه خلافاً. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": ويقضيها مسلم قبل بلوغ الشرع، وقيل: لا؛ اختاره الشيخ بناء على أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم. قال: والوجهان في كل من ترك واجباً قبل بلوغ الشرع، كمن لم يتيمم عند عدم الماء، ولم يزك أو أكل حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لظنه ذلك، أو لم تصل مستحاضة، ونحوه. قال: والأصح لا قضاء. قال في الفروع: ومراده: ولم يقض وإلا أثم، وكذلك من عامل بربا أو نكاح فاسد ثم تبين التحريم. وتجب على من زال عقله بمحرم، واختار الشيخ عدم الوجوب في ذلك كله، وقال في الفتاوى المصرية: تلزمه   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (684) , والنسائي: المواقيت (614) , وابن ماجة: الصلاة (695) , وأحمد (3/184) , والدارمي: الصلاة (1229) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 بلا نزاع، وقال: اختار الأكثر أن الردة لا تبطل العمل إلا بالموت عليها. وقال: شرط الصلاة تقدم الشهادة المسبوقة بالإسلام، فإذا تقرب بالصلاة يكون مسلماً بها وإن كان محدثاً، وعلى هذا عليه أن يعيدها. انتهى. وثوابُ صلاة المميز وعمله لنفسه، اختاره الشيخ، وقال بعض الأصحاب: ثوابه لوالديه، وإن بلغ في أثنائها أو بعدها في وقتها، لزمه إعادتها. وقيل: لا، اختاره الشيخ. والاشتغال بشرطها على قسمين: قسم لا يحصل إلا بعد زمن طويل، فهذه لا يجوز له تأخيرها. وقسم يحصل بعد زمن قريب، فأكثر الأصحاب يجوّزونه. قال الشيخ: وقول بعض الأصحاب: لا يجوز تأخيرها إلا لناوٍ جمعها، أو مشتغل بشرطها، فلم يقله أحد قبله من الأصحاب، بل ولا من سائر طوائف المسلمين، إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي، فهذا أشك فيه. ولا ريب أنه ليس على عمومه، وإنما أرادوا صوراً معروفة، كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يصنع حبلاً يستقي به، أو أمكن العريان أن يخيط ثوباً. ويؤيد ما ذكرنا أن العريان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية يشتري ثوباً ولا يصلي إلا بعد الوقت، لا يجوز له التأخير بلا نزاع. وكذا العاجز عن تعلم التكبير والتشهد الأخير، إذا ضاق الوقت صلى على حسب حاله. وكذا المستحاضة إذا كان دمها ينقطع بعد الوقت. انتهى. وقال الشيخ أيضاً: فرض متأخرو الفقهاء مسألة يمتنع وقوعها، وهو: أن المقرّ بوجوب الصلاة ودعي إليها ثلاثاً فامتنع، مع تهديده بالقتل فقُتل، هل يموت كافراً أو فاسقاً؟ على قولين: وهذا الفرض باطل ممتنع، ولا يفعله أحد قط. قلتُ: والعقل يشهد بما قال ويقطع به، وهو عين الصواب الذي لا شك فيه، وأنه لا يقتل إلا كافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 باب الأذان والإقامة أجمعت الأمة على أن الأذان والإقامة مشروعة للخمس، ولا يشرعان لغيرها، لأن المقصود منه: الإعلام بوقت المفروضة على الأعيان. "وليس على النساء أذان ولا إقامة"، قاله ابن عمر وأنس وغيرهما، ولا نعلم من غيرهم خلافهم. واختلفوا هل يسن لهن ذلك: فعن أحمد: إن فعلن لا بأس. وعن جابر: أنها تقيم، وبه قال عطاء ومجاهد. وقال الشافعي: إن أذّنّ وأقمن، فلا بأس، روي عن عائشة: "أنها كانت تؤذن وتقيم". وعنه: لا يشرع لها. قال ابن المنذر: الأذان والإقامة واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر به مالك بن الحويرث وصاحبه؛ والأمر يقتضي الوجوب، وداوم عليه وأصحابه، ولأنه من شعائر الإسلام الظاهرة. وظاهر كلام الخرقي أنه غير واجب، وهو قول الشافعي. وعلى كلا القولين، إن تركهما صحت صلاته، لما روي عن علقمة والأسود قالا: "صلى بنا عبد الله بلا أذان ولا إقامة". قال شيخنا: لا أعلم أحداً خالف في ذلك، إلا عطاء قال: من نسي الإقامة يعيد، ونحوه عن الأوزاعي. ومن أوجبه من أصحابنا فعلى أهل المصر، فأما المسافرون فلا يجب عليهم. وقال مالك: إنما يجب النداء في مساجد الجماعة، ويكفي مؤذن المصر إذا كان يسمعهم، ويجزئ بقيتهم الإقامة. قال أحمد في الذي يصلي في بيته: يجزيه أذان المصر. وقال مالك: تكفيه الإقامة، لأنه صلى الله عليه وسلم قال للذي علّمه الصلاة: "إذا أردت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الصلاة فأحسن الوضوء، ثم استقبل القبلة وكبِّر"، 1 وفي لفظ للنسائي: "فأقم ثم كبِّر"، والأفضل لكل مصل أن يؤذن ويقيم. وإن كان في الوقت في بادية أو نحوها، استحب له الجهر، لحديث أبي سعيد، رفعه: "إذا كنت في غنمك أو باديتك ... إلخ"، 2 "وكان ابن عمر يقيم لكل صلاة، إلا الصبح فإنه يؤذّن ويقيم، ويقول: إنما الأذان على الإمام والأمير الذي يجمع الناس"، وعنه: أنه لا يقيم في أرض تقام فيها الصلاة. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم يؤذّن له حضراً وسفراً، وأمر به مالك بن الحويرث وصاحبه"، وما نقل عن السلف، فالظاهر أنهم أرادوا وحده، كما قال إبراهيم، "والأذان مع ذلك أفضل"، لحديث أبي سعيد وأنس في صاحب المعز. ولا يجوز أخذ الأجرة عليهما، في أظهر الروايتين، لقوله لعثمان بن أبي العاص: "واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجرا"، 3 حسنه الترمذي. ورخص فيه مالك، ولا نعلم خلافاً في جواز أخذ الرزق، لكن قال الشافعي: لا يرزق إلا من خمس الخمس، سهم النبي صلى الله عليه وسلم. وينبغي أن يكون المؤذن صيتاً، لقوله: "ألقه على بلال، فإنه أندى صوتاً منك". 4 والأذان خمس عشرة كلمة، لا ترجيع فيه؛ وبه قال الثوري وإسحاق وابن المنذر. وقال مالك والشافعي: الأذان المسنون أذان أبي محذورة، وهو كأذان عبد الله بن زيد ويزيد ترجيعاً؛ وهو: أن يذكر الشهادتين مرتين مرتين، يخفض بذلك، ثم يعيدهما رافعاً بهما صوته، إلا أن مالكاً قال: التكبير في أوله مرتان حسبُ، فيكون عنده سبع عشرة، وعند الشافعي تسع عشرة. واحتجوا بما روى أبو محذورة: "أنه صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان، وفيه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله،   1 النسائي: التطبيق (1053) . 2 البخاري: الأذان (609) , والنسائي: الأذان (644) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (723) , وأحمد (3/6, 3/35, 3/43) , ومالك: النداء للصلاة (153) . 3 الترمذي: الصلاة (209) , والنسائي: الأذان (672) , وأبو داود: الصلاة (531) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (714) , وأحمد (4/21, 4/217) . 4 الترمذي: الصلاة (189) , وأبو داود: الصلاة (499, 512) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (706) , وأحمد (4/42, 4/43) , والدارمي: الصلاة (1187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أشهد أن محمداً رسول الله. تخفض بهما صوتك. ثم ترفع صوتك بالشهادة: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله". 1 ثم ذكر سائر الأذان. أخرجه مسلم. واحتج مالك قال: كان الأذان الذي يؤذن به أبو محذورة: "الله أكبر. الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله". 2 رواه مسلم. ولنا: حديث عبد الله بن زيد، وأقر صلى الله عليه وسلم بلالاً عليه، بعد أذان أبي محذورة. والإقامة إحدى عشرة، فإن رجّع في الأذان أو ثنى في الإقامة، فلا بأس. وقال الثوري: الإقامة مثل الأذان، ويزيد: "قد قامت الصلاة" مرتين، لما روى عبد الله بن زيد قال: "كان أذان النبي صلى الله عليه وسلم شفعاً شفعاً في الأذان والإقامة". 3 رواه الترمذي. وعن أبي محذورة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة". 4 قال الترمذي: حسن صحيح. وقال مالك: الإقامة عشر كلمات، لقوله: "قد قامت الصلاة" مرة، لقول أنس: "أمر بلالاً أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة". 5 ولنا: قول ابن عمر: "إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة، إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة. قد قامت الصلاة". 6 رواه أبو داود والنسائي. وفي حديث عبد الله بن زيد أنه وصف الإقامة كما ذكرنا، وما احتجوا به من حديث عبد الله بن زيد، رواه عنه ابن أبي ليلى، وقال الترمذي: لم يسمع، وقال: الصحيح مثل ما روينا. والذي احتج به مالك حجة لنا مجمل فسره ابن عمر، وخبر أبي محذورة متروك بالإجماع، لأن الشافعي لم يعمل به في الإقامة، وأبو حنيفة لم يعمل به في الأذان. والتثويب في أذان الصبح مستحب، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: التثويب بين الأذان والإقامة: أن يقول: "حي على الصلاة" مرتين، "حيّ   1 مسلم: الصلاة (379) , والترمذي: الصلاة (191, 192) , والنسائي: الأذان (629, 630, 631, 632, 633) , وأبو داود: الصلاة (500, 502, 503, 504) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (708, 709) , وأحمد (3/408, 3/409) , والدارمي: الصلاة (1196) . 2 مسلم: الصلاة (379) , والنسائي: الأذان (629, 631, 632, 633) , وأبو داود: الصلاة (500, 502, 503) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (708, 709) , وأحمد (3/408, 3/409) , والدارمي: الصلاة (1196) . 3 الترمذي: الصلاة (194) . 4 الترمذي: الصلاة (192) , والنسائي: الأذان (630) , وأبو داود: الصلاة (502) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (709) , وأحمد (6/401) . 5 البخاري: الأذان (603, 605, 606, 607) وأحاديث الأنبياء (3457) , ومسلم: الصلاة (378) , والترمذي: الصلاة (193) , والنسائي: الأذان (627) , وأبو داود: الصلاة (508) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (729, 730) , وأحمد (3/103, 3/189) , والدارمي: الصلاة (1194) . 6 النسائي: الأذان (628) , وأبو داود: الصلاة (510) , وأحمد (2/85) , والدارمي: الصلاة (1193) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 على الفلاح" مرتين. ولنا: ما روى أبو داود والنسائي عن أبي محذورة قال: "فإن كان في صلاة الصبح، قلت: الصلاة خير من النوم. الصلاة خير من النوم. الله أكبر. الله أكبر. لا إله إلا الله"، وما ذكروه قال ابن إسحاق: هذا أحدثه الناس، قال الترمذي: هذا التثويب الذي كرهه أهل العلم. ولا يجوز الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر، قال الترمذي: وعلى هذا العمل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، ألا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر، ثم ذكر حديث أبي هريرة: "أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم". رواه مسلم. ويستحب أن يترسل في الأذان ويحدر الإقامة. الترسل: التأني، والحدر: ضده، وبه قال الثوري والشافعي وإسحاق، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن من السنة أن يؤذن قائماً، فإن أذّن قاعداً لعذر، فلا بأس. قال الحسن العبدي: "رأيت أبا زيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذن قاعداً، وكان رجله قد أصيبت في سبيل الله". رواه الأثرم. ويجوز على الراحلة، قال ابن المنذر: ثبت "أن ابن عمر كان يؤذن على البعير، فينزل فيقيم"، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي، إلا أن مالكاً قال: لا يقيم وهو راكب. يستحبُّ أن يؤذن متطهراً، لقول أبي هريرة: "لا يؤذن إلا متوضئ"، فإن أذّن محدثاً جاز، لأنه لا يزيد على القراءة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة. وقال مالك: يؤذّن على غير وضوء، ولا يقيم إلا على وضوء. وإن أذّن جنباً فروايتان: الإجزاء في قول أكثر أهل العلم. ويستحب أن يؤذن على موضع عال، لقول الأنصارية: "كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يأتيني يؤذّن عليه ... إلخ"، لا نعلم خلافاً في استحبابه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من السنة أن يستقبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 القبلة بالأذان. وسئل أحمد: عن الرجل يؤذن وهو يمشي؟ قال: نعم، أمر الأذان عندي سهل. وسئل: عن المؤذن يمشي وهو يقيم؟ قال: يعجبني أن يفرغ ثم يمشي، فإذا بلغ الحيعلة التفت يميناً وشمالاً ولم يستدر. وذكر عن أحمد فيمن أذن في المنارة روايتان: إحداهما: لا يدور، للخبر. والثانية: لا يحصل بدونه، وتحصيل المقصود مع الإخلال بالأدب أولى من العكس، وهذا قول إسحاق. ويجعل أصبعيه في أذنيه، هذا المشهور عن أحمد، وعليه العمل عند أهل العلم، وكذلك قال الترمذي، لفعل بلال، صححه الترمذي. وعن أحمد: أحب إلي أن يجعل يديه على أذنيه، على حديث أبي محذورة. والأول أصح، لصحة الحديث وشهرته، وعمل أهل العلم به. ويتولاهما معاً، وهو قول الشافعي. وقال مالك: لا فرق بينه وبين غيره، لأن في حديث عبد الله بن زيد: "لما أذّن بلال، قال لعبد الله: أقم أنت". ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخا صدّاء قد أذّن، ومن أذّن فهو يقيم". 1 وما ذكر يدل على الجواز، وهذا على الاستحباب، فإن سبق المؤذن بالأذان فأراد المؤذن أن يقيم، فقال أحمد: له لو أعاد الأذان كما صنع أبو محذورة، فإن أقام بغير إعادة فلا بأس، لما ذكرنا في حديث عبد الله بن زيد. ويستحب للمؤذن أن يقيم في موضع أذانه، لقول بلال: "لا تسبقني بآمين"، وقول ابن عمر: "كنا إذا سمعنا الإقامة توضأنا". ولا يقيم إلا بإذن الإمام، لما في حديث الصدّائي: "فجعلت أقول له صلى الله عليه وسلم: أقيم؟ أقيم؟ ". وكره طائفة من أهل العلم: الكلام في أثناء الأذان، قال الأوزاعي: لا نعلم أحداً يقتدَى به فعَله. ورخص فيه سليمان بن صرد وغيره. قيل لأحمد: الرجل يتكلم في أذانه؟ قال: نعم، قيل: وفي الإقامة؟ قال: لا. وعن الزهري: إذا تكلم في الإقامة أعادها، وأكثر أهل العلم على أنه يجزئه، قياساً   1 الترمذي: الصلاة (199) , وأبو داود: الصلاة (514) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (717) , وأحمد (4/169) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 على الأذان. ولا يصح إلا بعد دخول الوقت، إلا الفجر، أما غير الفجر فلا يجزئ بغير خلاف نعلمه. وأما الفجر فيشرع قبل الوقت، وهو قول مالك والشافعي. وقال الثوري: لا يجوز. وقال طائفة من أهل الحديث: إذا كان له مؤذنان: يؤذّن أحدهما قبل طلوع الفجر، والآخر بعده، فلا بأس. ولنا: حديث الصدائي: "أمره صلى الله عليه وسلم بالأذان قبل طلوع الفجر". ويستحب أن يفصل بين الأذان والإقامة بقدر الوضوء وصلاة ركعتين، لقوله لبلال: "اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله ... ". 1 ومن جمع بين صلاتين، أذّن للأولى وأقام للثانية. وقال مالك: يؤذن ويقيم لكل منهما، وهو مخالف للأحاديث الصحيحة. فـ"إن كثرت الفوائت، أذن وأقام للأولى، ثم أقام لكل صلاة"، لحديث ابن مسعود في قصة الخندق. ومن دخل مسجداً قد صُلي فيه، فـ"إن شاء أذّن وأقام، كما فعل أنس"، وإن شاء تركها، وهو قول الحسن والشعبي. وهل يصح أذان المميز للبالغين؟ على روايتين: إحداهما: "يصح"، وهو قول الشافعي وابن المنذر، لما روي عن عبد الله بن أبي بكر بن أنس. والثانية: لا يصح، لأنه شرع للإعلام، وهو لا يقبل خبره. ولا يؤذن قبل الراتب، إلا أن يتأخر، كما أذن زياد حين غاب بلال؛ فأما مع حضوره فلا، لأن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد يسبقهم بالأذان. قال أحمد في الرجل يؤذن في الليل على غير وضوء، فيدخل المنزل ويدع المسجد: أرجو أن يكون موسعاً عليه. ولكن إذا أذن وهو متوضئ في وقت الصلاة، فلا أرى له أن يخرج من المسجد حتى يصلي، إلا أن يكون لحاجة. وروي عنه في الذي يؤذن في بيته وبينه وبين المسجد طريق يسمع الناس: أرجو أن لا يكون به بأس. وقال في رواية الحربي،   1 الترمذي: الصلاة (195) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 فيمن يؤذن في بيته على سطح: معاذ الله، ما سمعنا أن أحداً يفعل هذا؛ فحمل الأول على القريب من المسجد والثاني على البعيد. و"يستحب اتخاذ المساجد في الدور وتطييبها وتنظيفها"، لحديث عائشة. و"يستحب تخليقه"، لحديث أنس في النخامة، و"تسريحه"، لحديث ميمونة في بيت المقدس. "ويباح النوم فيه لفعل ابن عمر، ويباح للمريض، لقصة سعد بن معاذ، ودخول البعير لطوافه صلى الله عليه وسلم عليه". ولا بأس بالاجتماع فيه والأكل والاستلقاء، لحديث أبي واقد، وفيه: "فأما أحدهما فرأى فرجة ... " الحديث، ولحديث عبد الله بن زيد في الاستلقاء. ويجوز إنشاد الشعر واللعان فيه، لما روي في ذلك. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وإذا اتفق أهل بلد على تركهما، قاتلهم الإمام. وإذا قلنا: إنهما سنة، لم يقاتَلوا، وقيل: بلى؛ اختاره الشيخ. ولا يجوز أخذ الأجرة عليهما، وقيل: يجوز مع الفقر لا مع الغنى، اختاره الشيخ، قال: وكذا كل قربة، ومال إلى عدم إجزاء أذان القاعد. ومن جمع بين صلاتين أو قضاء فوائت، أذن للأولى وأقام، ثم أقام لكل صلاة. وعنه: تجزئ الإقامة لكل صلاة من غير أذان، اختاره الشيخ. وقال: أما صحة أذان المميز في الجملة وكونه جائزاً إذا أذن غيره فلا خلاف في جوازه، ومن الأصحاب من أطلق الخلاف، والأشبه أن الذي يسقط الفرض عن أهل القرية ويعتمد في وقت الصلاة والصيام، لا يجوز أن يباشره صبي، قولاً واحداً، ولا يسقط الفرض ولا يعتمد في مواقيت الصلاة، وأما الذي هو سنة مؤكدة في مثل المساجد التي في المصر ونحو ذلك، فهذا فيه الروايتان، والصحيح جوازه. اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ويستحب إجابة مؤذن ثان وثالث، اختاره الشيخ، وقال: محله إذا كان الأذان مشروعاً، وقال: يجيبه المصلي والمتخلي. قوله: "وابعثه المقام المحمود". 1 هكذا ورد في لفظ رواه النسائي وغيره، والصحيح التنكير. ورد ابن القيم الأول من خمسة أوجه. ولا يجوز الخروج من المسجد بعد الأذان ... إلخ. قال الشيخ: إلا أن يكون للفجر قبل الوقت، فلا يكره الخروج، نص عليه.   1 البخاري: الأذان (614) , والترمذي: الصلاة (211) , والنسائي: الأذان (680) , وأبو داود: الصلاة (529) , وابن ماجة: الأذان والسنة فيه (722) , وأحمد (3/354) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 باب شروط الصلاة أولها: الوقت. والظهر هي الأولى، ووقتها: من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال. وقال عطاء: لا تفريط للظهر حتى تدخل الشمس صفرة. وقال طاووس: وقت الظهر والعصر إلى الليل، وتعجيلها في غير الحر والغيم أفضل، بغير خلاف علمناه. ويستحب تأخيرها في شدة الحر. وقال القاضي: إنما يستحب الإبراد بثلاثة شروط: شدة الحر، وأن يكون في البلدان الحارة، ومساجد الجماعات؛ فأما من صلى في مسجد بفناء بيته، فالأفضل تعجيلها، وهذا مذهب الشافعي. فأما الجمعة، فلم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أخرها، بل كان يعجلها. ثم العصر، وهي الوسطى في قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم. وأول وقتها: من خروج وقت الظهر. وقال إسحاق: آخر وقت الظهر أول وقت العصر، يشتركان في قدر الصلاة. وحكى عن ابن المبارك لما في حديث ابن عباس: "وصلى في المرة الثانية الظهر لوقت العصر بالأمس". وآخره اختلفت الرواية فيه، فعنه: إذا صار ظل كل شيء مثليه، وهو قول مالك والشافعي، لقوله: "الوقت ما بين هذين". 1 وعنه: "ما لم تصفرّ الشمس"، لحديث ابن عمر. وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية، فقد صلاها في وقتها، وتعجيلها أفضل بكل حال. و"روي عن أبي هريرة وابن مسعود أنهما كانا يؤخرانها"، وبه قال أصحاب الرأي.   1 الترمذي: الصلاة (149) , وأبو داود: الصلاة (393) , وأحمد (1/333, 1/354) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ثم المغرب، ولا خلاف في دخول وقتها بالغروب. وآخره: إذا غاب الشفق. وقال مالك والشافعي في أحد قوليه: ليس لها إلا وقت واحد، "لأن جبرائيل صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليومين لوقت واحد". 1 وعن عطاء: لا تفوت المغرب حتى النهار. ولنا: حديث بريدة وأبي موسى، رواهما مسلم وقال: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق". 2 رواه مسلم. وهذه نصوص صحيحة لا يجوز مخالفتها بشيء محتمل. وأحاديثهم محمولة على تأكيد فعلها في أول وقتها، ولو تعارضت وجب النسخ، لأنها في أول فرض الصلاة، وأحاديثنا بالمدينة. "والشفق: الحمرة"، هذا قول ابن عمر وابن عباس ومالك والشافعي. و"عن أنس ما يدل على أنه البياض"، اختاره ابن المنذر، لحديث ابن بشير أنه يصلي العشاء لسقوط القمر لثالثة. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "وقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق". 3 رواه أبو داود. وروي: " ثور الشفق"، وفوره: فورانه، وثوره: ثوران حمرته. وما رووه ليس فيه أنه أول الوقت، ولا نعلم خلافاً في استحباب تعجيلها، إلا ما ذكرنا من اختلافهم في الغيم. ثم العشاء، ولا خلاف في دخول وقتها بغيبوبة الشفق، وإنما اختلفوا في الشفق. وآخره: ثلث الليل، لما في حديث جبرائيل وبريدة. وعنه: نصف الليل، وهو قول المبارك وإسحاق، لما في حديث ابن عمر، رواه مسلم، وفي المتفق عليه من حديث أنس: "أخر صلى الله عليه وسلم العشاء إلى نصف الليل". 4 ويبقى وقت الضرورة إلى طلوع الفجر. وتأخيرها أفضل، ما لم يشق، اختاره أكثر أهل العلم. وحكي عن الشافعي: أن الأفضل تقديمها، لقوله: "الأول رضوان الله، والآخر عفو الله". وعن أم فروة، مرفوعاً: "سئل عن أفضل الأعمال؟ فقال:   1 الترمذي: الصلاة (151) , والنسائي: المواقيت (502) , وأحمد (2/232) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (612) , والنسائي: المواقيت (522) , وأبو داود: الصلاة (396) , وأحمد (2/210, 2/213, 2/223) . 3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (612) , والنسائي: المواقيت (522) , وأبو داود: الصلاة (396) , وأحمد (2/210, 2/213, 2/223) . 4 البخاري: مواقيت الصلاة (572) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (640) , والنسائي: المواقيت (539) والزينة (5202) , وابن ماجة: الصلاة (692) , وأحمد (3/182, 3/189, 3/200 ,3/267) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الصلاة لأول وقتها". 1 رواه أبو داود. ولنا: الأحاديث الصحيحة، وأحاديثهم ضعيفة. أما خبر أول الوقت فيرويه العمري وهو ضعيف، وحديث أم فروة، قال الترمذي: لا يُروى إلا من حديث العمري. ولو ثبت فهي عامة، وأحاديثنا خاصة. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: كم قدر تأخير العشاء؟ قال: يؤخرها بعد أن لا يشق على المأمومين. وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بتأخيرها، كراهة المشقة. وروي عنه: "من شق على أمتي، شق الله عليه". ولا يستحب تسميتها: "العتمة". "وكان ابن عمر إذا سمع من يقول: "العتمة"، صاح وغضب وقال: إنما هو العِشاء". ثم الفجر، وتعجيلها أفضل. وعنه: الاعتبار بحال المأمومي؛: فإن أسفروا فالإسفار أفضل، لفعله صلى الله عليه وسلم في العشاء. وقال الثوري: الأفضل الإسفار، لقوله: "أسفروا بالفجر ... إلخ". 2 ولنا: الأحاديث الصحيحة، والإسفار في حديثهم: أن ينكشف ضوء الصبح ويتبين، من قولهم: أسفرت المرأة عن وجهها، إذا كشفته. ومن أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج الوقت، فقد أدرك الصلاة، سواء أخرها لعذر كحائض، أو لغيره. وقال أصحاب الرأي فيمن طلعت الشمس وقد صلى ركعة: تفسد، لأنه قد صار في وقت نهي. ولنا: المتفق عليه: "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح". 3 وإنما نهي عن النافلة بدليل ما قبل الطلوع. وهل يدرك بدون الركعة؟ فيه روايتان: إحداهما: لا، وهو مذهب مالك، لظاهر الخبر. والثانية: يدرك بإدراك جزء منها، أي جزء، وهذا قول الشافعي، لقوله: "من أدرك سجدة ... إلخ". ومتى شك في الوقت، لم يصلّ حتى يتيقن دخوله، أو يغلب على ظنه،   1 الترمذي: الصلاة (170) , وأبو داود: الصلاة (426) . 2 الترمذي: الصلاة (154) , والنسائي: المواقيت (548, 549) , وأحمد (4/142, 4/143) , والدارمي: الصلاة (1217) . 3 البخاري: مواقيت الصلاة (556, 579) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (608) , والترمذي: الصلاة (186) , والنسائي: المواقيت (514, 515, 516, 517) , وأبو داود: الصلاة (412) , وابن ماجة: الصلاة (699) , وأحمد (2/236, 2/254, 2/282, 2/306, 2/347, 2/348, 2/399, 2/459, 2/462, 2/474, 2/489, 2/521) , ومالك: وقوت الصلاة (5) , والدارمي: الصلاة (1222) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 إلا صلاة العصر في الغيم، لحديث بريدة. قال شيخنا: معناه - والله أعلم -: إذا حل فعلها ليقين أو غلبة ظن، لأن وقتها المختار في الشتاء ضيق. وإذا سمع الأذان من ثقة عالم بالوقت، فله تقليده، لقوله: "المؤذن مؤتمن". 1 ولم يزل الناس يجتمعون في مساجدهم، ويبنون على قول المؤذن، من غير نكير. ومن صلى قبل الوقت لم يجز، في قول أكثر أهل العلم. وعن ابن عباس: "في مسافر صلى الظهر قبل الزوال، يجزئه"، ونحوه قول الحسن والشعبي وعن مالك كقولنا. وعنه فيمن صلى العشاء قبل مغيب الشفق، جاهلاً أو ناسياً: يعيد في الوقت. فإن ذهب الوقت قبل علْمه أو ذكره، فلا شيء عليه. وإن بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو طهرت حائض، قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة، لزمهم الصبح. وإن كان قبل غروب الشمس، لزمهم الظهر والعصر. و"إن كان قبل طلوع الفجر، لزمهم المغرب والعشاء؛ روي هذا في الحائض عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس". قال أحمد: عامة التابعين، إلا الحسن وحده قال: لا يجب إلا الصلاة التي تطهرت في وقتها وحدها، وهو قول أصحاب الرأي. وحكي عن مالك: إن أدركت قدر خمس ركعات من وقت الثانية، وجبت الأولى؛ والقدر الذي يتعلق به الوجوب: قدر تكبيرة الإحرام. وقال الشافعي: "قدر ركعة، لأنه الذي روي عن عبد الرحمن وابن عباس في الحائض". فإن أدرك من وقت الأولى من صلاتي الجمع قدراً تجب به، ثم طرأ عليه العذر، ثم زال بعد خروج وقتهما، وجبت الأولى. وهل يجب قضاء الثانية؟ على روايتين. ومن فاتته صلوات، لزمه قضاؤها على الفور مرتباً، قلّت أو كثرت. و"روي عن ابن عمر ما يدل على وجوب الترتيب"، ونحوه عن الزهري ومالك.   1 الترمذي: الصلاة (207) , وأبو داود: الصلاة (517) , وأحمد (2/377) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وقال الشافعي: لا يجب. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم فاتته أربع صلوات، فقضاهن مرتباً، وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي". 1 ولأحمد حديث أبي جمعة: "أنه صلى الله عليه وسلم عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ أخبروه أنه لم يصل العصر، فأمر المؤذن، فأقام فصلى العصر، ثم أعاد المغرب". 2 وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجب الترتيب في أكثر من صلاة يوم وليلة، فإن ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى، والوقت متسع، أتمها وقضى الفائتة، ثم أعاد الصلاة التي كان فيها؛ وهذا قول مالك والليث وإسحق في المأموم. وعن أحمد في المنفرد روايتان: إحداهما: يقطع الصلاة. والثانية: يتم، فإن حضرت جماعة في صلاة الحاضرة، فقال أحمد في رواية أبي داود، فيمن عليه صلوات فأدركته الظهر: يصلي مع الإمام الظهر، ويحسبها من الفوائت، ويصلي الظهر في آخر الوقت. وفيه رواية ثالثة، إذا كثرت الفوائت بحيث لا يتسع لها وقت الحاضرة: أنه يصلي الحاضرة في أول وقتها. وذكر ابن عقيل فيمن عليه فائتة وخشي فوات الجماعة، روايتين. ويجب القضاء على الفور، وإن كثرت، ما لم يلحقه مشقة. ولا يصلي سننها، لأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. فإن كانت صلاة واحدة، فلا بأس بقضاء سنتها، "لأنه صلى الله عليه وسلم لما فاتته صلاة الفجر، صلى سنتها قبلها". وقال مالك: يبدأ بالمكتوبة. والأول أولى لما ذكرنا من الحديث. ومن أسلم في دار الحرب فترك صلاة أو صياماً لا يعلم وجوبه، لزمه قضاؤه. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه. وإن صلى الحاضرة ناسياً للفائتة، ولم يذكرها حتى فرغ، فليس عليه إعادة. وقال مالك: يجب الترتيب مع النسيان، لحديث أبي جمعة. ولنا: قوله: "عُفي لأمتي الخطأ والنسيان". وحديث أبي جمعة فيه ابن لهيعة.   1 البخاري: الأذان (631) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (674) , والنسائي: الأذان (635) , وأحمد (3/436, 5/52) , والدارمي: الصلاة (1253) . 2 أحمد (4/106) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وقال الشيخ: الأشهر عندنا: إنما يكره الإكثار حتى يغلب على الاسم، وإن مثلها في الخلاف تسمية المغرب بالعشاء، يعني: تسمية العشاء العتمة. وقال: يعمل بقول المؤذن في دخول الوقت، مع إمكان العلم بدخول الوقت، وهو مذهب أحمد وسائر العلماء المعتبرين، كما شهدت به النصوص. انتهى. ومن أدرك قدر تكبيرة ... إلخ، وعنه: لا بد أن يمكنه الأداء، اختاره الشيخ. واختار أنه لا تترتب الأحكام إلا أن يتضايق الوقت عن فعل الصلاة، ثم يوجد المانع، وذكر الخلاف فيما إذا طرأ مانع أو تكليف، هل يعتبر بتكبيرة أو ركعة، واختار بركعة في التكليف. وقال ابن رجب في شرح البخاري: وقع في كلام طائفة من أصحابنا المتقدمين أنه لا يجزئ فعل الصلاة إذا تركها عمداً، منهم الجوزجاني وأبو محمد البربهاري وابن بطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 باب ستر العورة وعورة الرجل والأمة: ما بين السرة والركبة. وعنه: أنها الفرجان، قال البخاري: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط. وأما الأمة فعورتها: ما بين السرة والركبة، وهو مذهب الشافعي. وقال الحسن في الأمة إذا تزوجت أو اتخذها الرجل لنفسه: يجب عليها الخمار. ولنا: "أن عمر نهى الإماء عن التقنع"، واشتهر فلم ينكر. وذكر أبو الخطاب رواية: أن عورتها: الفرجان، كما ذكر شيخنا في الكتاب المشروح. والحرة كلها عورة، إلا الوجه. وفي الكفين روايتان. أما وجه الحرة فإنه يجوز كشفه في الصلاة، بغير خلاف نعلمه. وعنه في الكفين: تكشفهما، وهو قول مالك والشافعي، لما روي عن ابن عباس وعائشة في قوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} : 1 "الوجه والكفين". وعنه: أنهما من العورة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "المرأة عورة". 2 صححه الترمذي. وقول ابن عباس وعائشة خالفه ابن مسعود فقال: "الثياب وما سوى الوجه والكفين، يجب ستره في الصلاة"، وهو قول مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: القدمان ليسا من العورة، ولنا: قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، 3 وحديث أم سلمة، وفيه: "نعم، إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها"، وما عدا ما ذكر، فعورة بالإجماع، لقوله: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار". 4   1 سورة النور آية: 31. 2 الترمذي: الرضاع (1173) . 3 سورة النور آية: 31. 4 الترمذي: الصلاة (377) , وأبو داود: الصلاة (641) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (655) , وأحمد (6/150, 6/218, 6/259) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ويستحب أن يصلي في ثوبين، لقول عمر: "إذا وسّع الله عليكم فوسّعوا، صلّى رجل في إزار ورداء ... إلخ". ولا يجزئ إلا ما ستر العورة عن غيره ونفسه، فلو كان القميص واسع الجيب، يرى عورته إذا ركع أو سجد، لم تصح، لقوله: "ازرره، ولو بشوكة". ويجب عليه أن يضع على عاتقه شيئاً من اللباس مع القدرة، اختاره ابن المنذر، وأكثر أهل العلم على خلافه. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلّ الرجل في الثوب الواحد، ليس على عاتقه منه شيء". 1 رواه مسلم. وقال القاضي وأبو الخطاب: يجب ستر المنكبين، لقوله: "إذا صلى أحدكم في ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه على عاتقيه". 2 صحيح. و"يستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وملحفة"، روي ذلك عن عمر وابنه وعائشة. قال أحمد: اتفق عامتهم على درع وخمار، وما زاد فهو خير وأستر. ويكره لها النقاب وهي تصلي، قال ابن عبد البر أجمعوا على أن على المرأة أن تكشف وجهها في الصلاة والإحرام. وإذا انكشف من العورة يسير لا يفحش، لم تبطل. وقال التميمي: إن بدت وقتاً واستترت وقتاً لم يعد، لحديث عمرو بن سلمة، فلم يشترط اليسير. ومن لم يجد إلا ثوباً نجساً، صلى فيه، لأن ستر العورة آكد من إزالة النجاسة. وقال الشافعي: يصلي عرياناً، فإن عدم صلى جالساً يومئ إيماء، وإن صلى قائماً جاز. وعنه: يصلي قائماً ويسجد بالأرض، وقاله مالك والشافعي وابن المنذر، لقوله: "فإن لم تستطع فقاعداً". 3 ويصلي العراة جماعة، وإمامهم وسطهم، وقال مالك: يصلون أفراداً، ويتباعد بعضهم عن بعض، وإن كانوا في ظلمة صلوا جماعة ويقدمهم إمامهم. ويكره في الصلاة السدل، وهو أن يطرح على كتفيه ثوباً ولا يرد طرفيه   1 البخاري: الصلاة (359) , ومسلم: الصلاة (516) , والنسائي: القبلة (769) , وأبو داود: الصلاة (626) , وأحمد (2/243, 2/255, 2/464) , والدارمي: الصلاة (1371) . 2 البخاري: الصلاة (359) , ومسلم: الصلاة (516) , والنسائي: القبلة (769) , وأبو داود: الصلاة (626) , وأحمد (2/255) , والدارمي: الصلاة (1371) . 3 البخاري: الجمعة (1117) , وأبو داود: الصلاة (952) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 على الكتف الأخرى، لقول أبي هريرة: "إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن السدل في الصلاة". 1 رواه أبو داود. فإن رد أحد طرفيه على الكتف الأخرى، أو ضم طرفيه بيديه، لم يكره. وروي عن جابر وابن عمر: "الرخصة في السدل". قال ابن المنذر: لا أعلم حديثاً يثبت، وحكاه الترمذي عن أحمد. ويكره اشتمال الصماء، وهو أن يضطبع بثوب ليس عليه غيره. وعنه: يكره، وإن كان عليه غيره. و"يكره تغطية الأنف، قياساً على الفم"، روي عن ابن عمر. وعنه: لا يكره لتخصيص النهي بالفم. ويكره لف الكم، لقوله: "ولا أكف شعراً ولا ثوباً". 2 ويكره شد الوسط بما يشبه شد الزنار، فأما ما لا يشبه فلا يكره. قال أحمد: لا بأس به، أليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يصلّ أحدكم إلا وهو محتزم". 3؟ وسئل عن: الرجل يصلي وعليه القميص، يأتزر بالمنديل فوقه؟ قال: نعم، "فعل ذلك ابن عمر". ولا يجوز لبس ما فيه صورة حيوان، لقوله: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلبٌ ولا صورة". 4 وقيل: لا يحرم، لأن في آخر الخبر: "إلا رقماً في ثوب". متفق عليه. و"يكره التصليب في الثوب"، لحديث عائشة. وإن لبس الحرير لمرض أو حكة، أو في الحرب، أو لبسه الصبي، فعلى روايتين. و"لا بأس بلبس الخز"، روي عن عمران وأنس وأبي هريرة والحسن بن علي وابن عباس وغيرهم. ويكره للرجل لبس المزعفر والمعصفر، "فأما الأحمر فقيل: يكره، وهو مذهب ابن عمر". والصحيح: لا بأس به، لقوله: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء". 5 وحديث رافع في إسناده مجهول، ويحتمل أنها معصفرة، ولو قدر التعارض، فأحاديثنا أصح.   1 الترمذي: الصلاة (378) , وأبو داود: الصلاة (643) , وأحمد (2/295) , والدارمي: الصلاة (1379) . 2 البخاري: الأذان (816) , ومسلم: الصلاة (490) , والترمذي: الصلاة (273) , والنسائي: التطبيق (1093, 1096, 1097, 1098, 1113, 1115) , وأبو داود: الصلاة (889, 890) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (883, 884, 1040) , وأحمد (1/221, 1/255, 1/270, 1/279, 1/285, 1/292, 1/305, 1/324) , والدارمي: الصلاة (1318, 1319) . 3 أحمد (2/458) . 4 البخاري: بدء الخلق (3225) , ومسلم: اللباس والزينة (2106) , والترمذي: الأدب (2804) , والنسائي: الصيد والذبائح (4282) والزينة (5347, 5348, 5350) , وأبو داود: اللباس (4153 ,4155) , وابن ماجة: اللباس (3649) , وأحمد (4/28, 4/29, 4/30) . 5 البخاري: المناقب (3551) , ومسلم: الفضائل (2337) , والترمذي: اللباس (1724) والمناقب (3635) , والنسائي: الزينة (5060, 5062, 5233, 5314) , وأبو داود: الترجل (4183) , وأحمد (4/290, 4/300) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": ولا يلزم سترها بالطين، قال الشيخ: وهو الصواب المقطوع به. وقال: لا يختلف المذهب أن ما بين السرة والركبة من الأمة عورة. وحكى جماعة أصحابنا أنها السوأتان فقط، وهذا غلط قبيح فاحش، خصوصاً وعلى الشريعة عموماً. قوله: إلا الوجه، قال الشيخ: التحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة، وهو عورة في باب النظر، إذ لم يجز. وفي الكفين روايتان: الثانية: ليسا بعورة، اختاره الشيخ. واختار أن القدمين ليسا بعورة. ولا يصح نفل آبق، قال الشيخ: بطلان فرضه قوي، ولو غير هيئة مسجد فكغصب. وإن منعه غيره أو زحمه وصلى مكانه، ففي الصحة وجهان، قال الشيخ: الأقوى البطلان. وقال الشيخ: يحرم لبس شهرة، وهو ما قصد به الارتفاع، أو إظهار التواضع، لكراهة السلف لذلك. وحرم أيضاً الإسراف في المباح. واختار جواز لبس الحرير للكافر. قال: وعلى قياسه: بيع آنية الذهب والفضة لهم، وإذا جاز بيعها لهم جاز صنعها لبيعها لهم، وعملها لهم بالأجرة، فإذا استوى وما نسج معه فعلى وجهين، قال الشيخ: الأشبه يحرم، لعموم الخبر. انتهى. وظاهر كلام المصنف: دخول الخز في الخلاف، والصحيح من المذهب: إباحة الخز، نص عليه. وفرّق أحمد بأنه لبس الصحابة، وبأنه لا سرف فيه ولا خيلاء. وقال أبو بكر: يباح العلَم وإن كان مذهّبا، وهو رواية اختارها الشيخ. وقال: إطالة الذؤابة كثيراً من الإسبال. وقال: الأفضل مع القميص السراويل، من غير حاجة إلى الإزار والرداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 باب اجتناب النجاسات ... باب اجتناب النجاسة الطهارة في بدن المصلي وثوبه شرط للصلاة، في قول أكثر أهل العلم. وروي عن ابن عباس: "ليس على ثوبٍ جنابة"، ونحوه عن أبي مجلز والنخعي. وسئل سعيد بن جبير عن الرجل يرى في ثوبه الأذى وقد صلى فيه قال: "اقرأ عليَّ الآية التي فيها غسل الثياب". ولنا: حديث القبرين، وحديث أسماء: "سئل عن ثوب الحائض إذا طهرت تصلي فيه؟ قال: تنظر، فإن رأت فيه دماً فلتقرصه بشيء من ماء، ولتنضح ما لم تره". 1 رواه أبو داود. فإن حمل صبياً، لم تبطل لحمله أمامة، لأن ما فيه من النجاسة، كالذي في جوف المصلي. وإنْ طيّن الأرض النجسة، أو بسط عليها شيئاً طاهراً، صحت صلاته مع الكراهة، وهو قول مالك والشافعي. ولا بأس بالصلاة على الحصير والبسط من الصوف والشعر وسائر الطاهرات، في قول عوام أهل العلم. وعن جابر: "أنه كره الصلاة على كل شيء من الحيوان، واستحب الصلاة على كل شيء من نبات الأرض"، ونحوه عن مالك، إلا أنه قال في بساط الصوف: إذا كان سجوده على الأرض لم أر بالقيام عليه بأساً. ومتى وجد عليه نجاسة لا يعلم هل كانت في الصلاة أم لا، صحت. وإن علم أنها كانت فيها، لكن جهلها أو نسيها، ففيه روايتان: إحداهما: "لا تفسد صلاته"، وهو قول ابن عمر وعطاء وابن المسيب وابن المنذر. والثانية: يعيد،   1 أبو داود: الطهارة (360) , والدارمي: الطهارة (1018) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وهو قول الشافعي. وقال مالك: يعيد ما دام في الوقت. ووجه الأولى: حديث النعلين؛ فإن علم بها في أثناء الصلاة وأمكنه إزالتها من غير عمل كثير، أزالها، وإلا بطلت. ولا تصح الصلاة في المقبرة والحمام والحش وأعطان الإبل والمغصوب. وعنه: تصح مع التحريم. ومذهب الشافعي: الصحة، لقوله: "جُعلت لي الأرض مسجداً ... إلخ". 1 وأحاديث النهي خاصة تقدم على العموم. قال أحمد: تُصلى الجمعة في موضع الغصب، يعني: إذا كان الجامع مغصوباً وصلى الإمام فيه، فامتنع الناس، فاتتهم الجمعة، ومن امتنع فاتته. وقال بعض أصحابنا: "حكم المجزرة والمزبلة وقارعة الطريق وأسطحتها كذلك"، لحديث ابن عمر، رواه ابن ماجة. والصحيح: جواز الصلاة فيها، وهو قول أكثر أهل العلم، لقوله: "جُعلت لي الأرض مسجداً"، استثنى منه المقبرة والحمام ومعاطن الإبل، بأحاديث صحيحة؛ فيبقى ما عداها على العموم. فأما أسطحتها، فالصحيح قصر النهي على ما تناوله النص. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": ولو علم أنها كانت في الصلاة، لكن جهلها أو نسيها، فاختار الشيخ: لا يعيد. ولا يضر قبر ولا قبران، وقيل: يضر، اختاره الشيخ. وفي الهدي: لو وضع المسجد والقبر معاً، لم يجز ولم تصح الصلاة ولا الوقف. واختار الشيخ أن الصلاة لا تصح إلى المقبرة والحش. وعنه: يكره دخول بيعة وكنيسة مع الصور. وظاهر كلام جماعة: يحرم دخوله معها، قال الشيخ: هي كالمسجد على القبر، قال: وليست ملكاً لأحد، وليس لهم منع من يعبد الله، لأنا صالحناهم عليه.   1 البخاري: التيمم (335) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي: الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي: الصلاة (1389) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 باب استقبال القبلة الأصل فيها: قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} 1 أي: نحوه كما أنشدوا: ألا من مبلّغ عمراً رسولا ... وما تغني الرسالة شطر عمرو أي: نحوه، وتقول العرب: لا تشاطروننا، إذا كانت بيوتهم تقابل بيوتهم. ولا نعلم خلافاً في إباحة التطوع على الراحلة في السفر الطويل، وأما القصير فتباح فيه أيضاً، وهو مذهب الشافعي. وقال مالك: لا تباح إلا في الطويل، ولنا: قوله تعالى: {ولله المشرف والمغرب} الآية. 2 قال ابن عمر: "نزلتْ في التطوع خاصة، حيث توجّه بك بعيرك". ولا تباح للماشي في حال مشيه، قال أحمد: ما أعلم أحداً قال في الماشي يصلي، إلا عطاء. وعنه: يصلي ماشياً فيفتتح الصلاة إلى القبلة، ثم ينحرف إلى جهة سيره، وهذا مذهب الشافعي، ويركع ويسجد بالأرض. وإن أمكنه معاينة الكعبة، ففرضه الصلاة إلى عينها، لا نعلم فيه خلافاً. قال أحمد: ما بين المشرق والمغرب قبلة، يعني: فمن بعد، فإن انحرف قليلاً لم يعدّ. وقال الشافعي في أحد قوليه: فرضه إصابة العين.   1 سورة البقرة آية: 144. 2 سورة البقرة آية: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 باب النية لا تنعقد الصلاة إلا بها لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 1. والإخلاص عمل القلب، وهو أن يقصد بعمله الله تعالى وحده دون غيره، وينوي الأداء في الحاضرة والقضاء في الفائتة؛ وهل يجب ذلك؟ على وجهين. ويأتي بالنية عند تكبيرة الإحرام، فإن تقدمت بزمن يسير جاز. وقال الشافعي وابن المنذر: يشترط مقارنتها للتكبيرة، للآية المتقدمة، أي: مخلصين حال العبادة. وإن أحرم منفرداً ثم نوى الائتمام، لم يصح في أصح الروايتين. وإن نوى الإمامة صح في النفل ولم يصح في الفرض، ويحتمل أن يصح وهو أصح عندي، لأنه ثبت في النفل بحديث ابن عباس، والأصل المساواة. ومما يقويه حديث جابر وجبار في الفرض. وإن أحرم مأموماً ثم نوى الانفراد لعذر، جاز، لقصة معاذ. و"إذا سبق الإمام الحدثُ، فله أن يستخلف من يتم بهم الصلاة"، روي ذلك عن عمر وعلي، وهو قول الشافعي. فإن لم يستخلف وصلّوا وحداناً، جاز، لحديث معاوية. قال الزهري في إمام ينوبه الدم أو يرعف: ينصرف، وليقلْ: أتموا صلاتكم. فإن فعل ما يفسدها عامداً بطلت صلاتهم، وإن كان عن غير عمد لم تفسد صلاتهم. وأما هو إذا سبقه الحدث فيستأنفها، لحديث   1 سورة البينة آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 علي بن طلق: "إذا فسا أحدكم في صلاته، فلينصرف فليتوضأ، وليعِد صلاته". 1 رواه أبو داود. وعنه: "يتوضأ ويبني"، روي عن ابن عمر وابن عباس. وعنه: إن كان الحدث من السبيلين ابتدأ، وإن كان من غيرهما بنى، لأن الأثر إنما ورد في غيرهما. وإن أحرم إمام لغيبة إمام الحي، ثم حضر الإمام في أثناء الصلاة فأحرم بهم وبنى على صلاة خليفته، وصار الإمام مأموماً، فهل يصح؟ على وجهين: روي عنه فيها ثلاث روايات: إحداهن: يصح، لحديث سهل، وما فعله صلى الله عليه وسلم جائز لأمته، ما لم يقم دليل الاختصاص. وعنه: يجوز للخليفة دون بقية الأئمة. وعنه: لا يصح لاحتمال الاختصاص، ولهذا قال أبو بكر: "ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم". ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": فإن تقدمت بالزمن اليسير، جاز، وقيل: وبطوله ما لم يفسخها، اختاره الشيخ. وقال: يحرم خروجه لشكه في النية، للعلم بأنه ما دخل إلا بالنية. وإذا أحرم منفرداً ثم نوى الإمامة صح في النفل، واختاره الشيخ في الفرض والنفل. وإن عين إماماً فأخطأ لم يصح، وإن عين جنازة فأخطأ فوجهان. وقال الشيخ: إن عين وقصده خلف من حضر وعلى من حضر صح وإلا فلا، ولو لم يستخلف الإمام وصلّوا وحداناً صح. واحتج أحمد بأن معاوية 2 لما طعن صلّوا وحداناً. قال المجد: لا تختلف الرواية عن أحمد: "أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج في مرضه بعد دخول أبي بكر في الصلاة، أنه كان إماماً لأبي بكر، وأبو بكر كان إماماً للناس" 3.   1 أبو داود: الصلاة (1005) . 2 كذا في النسخة الخطية 465/86 في المكتبة السعودية بالرياض ولعل صوابه: عمر. 3 البخاري: الأذان (683) , ومسلم: الصلاة (418) , والترمذي: الصلاة (362) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1232, 1233) , وأحمد (6/159) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 باب صفة الصلاة ومن هنا نقلته من المغني: ويستحب أن يقبل إليها بخوف وخشوع، وعليه السكينة والوقار. وإن سمع الإقامة لم يسعَ إليها، قال أحمد: لا بأس إذا طمع أن يدرك التكبيرة الأولى أن يسرع شيئاً ما لم تكن عجلة تقبح، هكذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويستحب أن يقارب بين خطاه لتكثر حسناته، لحديث زيد بن ثابت. ويكره أن يشبك بين أصابعه، لحديث كعب بن عجرة. ويستحب أن يقول ما روى ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً. واجعل في سمعي نوراً. واجعل في بصري نوراً. واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً. واجعل من فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً. وأعطني نوراً" 1. رواه مسلم. وإذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى، وقال ما رواه مسلم عن أبي حميد - أو أبي أسيد - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقلْ: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: اللهم إني أسألك من فضلك". 2 ولا يجلس حتى يصلي ركعتين، لحديث أبي قتادة. وإذا أقيمت الصلاة لم يشتغل بنافلة، سواء خشي فوات الركعة الأولى أو لم يخش، وبه قال الشافعي. وعن ابن مسعود: "أنه دخل والإمام في صلاة   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (763) , وأبو داود: الصلاة (1353) , وأحمد (1/373) . 2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (713) , والنسائي: المساجد (729) , وأبو داود: الصلاة (465) , وابن ماجة: المساجد والجماعات (772) , وأحمد (3/497, 5/425) , والدارمي: الصلاة (1394) والاستئذان (2691) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الصبح، فركع ركعتي الفجر"، وهذا مذهب الحسن ومجاهد. وقال مالك: إن لم يخف فوات الركعة، ركعهما خارج المسجد. وقال أبو حنيفة: يركعهما، إلا أن يخاف فوات الركعة الأخيرة. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة". 1 رواه مسلم. قال ابن عبد البر في هذه المسألة: الحجة عند التنازع: السنة؛ فمن أدلى بها فقد أفلح، ومن استعملها فقد نجا. انتهى. وإن أقيمت وهو في النافلة ولم يخش فوات الجماعة، أتمها. وقيل لأحمد: تقول قبل التكبير شيئاً؟ قال: لا. يعني: ليس قبله دعاء مسنون. ويستحب أن يقوم عند قوله: "قد قامت الصلاة"؛ وبه قال مالك. وقال الشافعي: إذا فرغ من الإقامة. وكان الزهري وغيره يقومون عند بدئه في الإقامة. وقال أبو حنيفة: يقوم إذا قال: "حيّ على الصلاة"، فإذا قال: "قد قامت الصلاة"، كبّر. وكان أصحاب عبد الله يكبّرون إذا قال المؤذن: "قد قامت الصلاة"، واحتجوا بقول بلال: "لا تسبقني بآمين"، فدل على أنه يكبّر قبل فراغه. ولا يستحب عندنا أن يكبّر إلا بعد فراغه، وهو قول الشافعي وأبي يوسف، وعليه جمهور أئمة الأمصار. وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر بعد فراغه، يدل على أنه كان يعدل الصفوف بعد الإقامة، كما في حديث أنس وغيره: "أُقيمت الصلاة، فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ " 2. ويقول في الإقامة مثل قول المؤذن، لما روى أبو داود: "أن بلالاً لما قال: قد قامت الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أقامها الله وأدامها "، 3 وقال في سائر الإقامة كنحو حديث عمر في الأذان. فأما أحاديثهم فإن بلالاً كان يقيم في موضع أذانه، وإلا فليس في الفراغ منها ما يفوت آمين، وإنما   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (710) , والترمذي: الصلاة (421) , والنسائي: الإمامة (865, 866) , وأبو داود: الصلاة (1266) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1151) , وأحمد (2/352, 2/455, 2/517, 2/531) , والدارمي: الصلاة (1448) . 2 البخاري: الأذان (719) , والنسائي: الإمامة (814, 845) , وأحمد (3/263) . 3 أبو داود: الصلاة (528) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 كانوا يقومون إذا كان الإمام في المسجد أو قريباً منه. قال أحمد: أذهب إلى حديث أبي هريرة: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقمنا الصفوف"، إسناده جيد: الزهري عن أبي سلمة عنه. وفي لفظ:"ينبغي أن تقام الصفوف قبل أن يدخل الإمام"، فلا يحتاج أن يقف. ويستحب للإمام تسوية الصفوف، فليلتفت عن يمينه فيقول: استووا رحمكم الله، وعن يساره كذلك. ولا تنعقد إلا بقول: "الله أكبر"، وعليه عوام أهل العلم. وقال أبو حنيفة: تنعقد بكل اسم لله على وجه التعظيم، وهذا يخالف الأخبار. وتكبيرة الإحرام ركن، لا تسقط عمداً ولا سهواً، وهذا قول مالك والشافعي. وعن الحكم والأوزاعي: من نسيها، كفاه تكبيرة الركوع. ويستحب للإمام الجهر بالتكبير ليسمع من خلفه، لحديث جابر: "فإذا كبّر رسول الله، كبّر أبو بكر ليسمعنا". 1 فإن مدّ ألف "الله" بحيث يجعله استفهاماً، أو باء "أكبر" بحيث يصير جمع كبر وهو الطبل، لم يجز. ولا يجزيه التكبيرة بغير العربية، وقال أبو حنيفة: يجزيه، لقوله: {وذكر اسم ربه فصلى} . 2 وعليه أن يأتي بالتكبير قائماً، فإن انحنى بحيث يصير راكعاً لم تنعقد. ولا يكبر حتى يفرغ إمامه من التكبير، وقال أبو حنيفة: يكبّر معه. ولا نعلم خلافاً في استحباب رفع اليدين عند افتتاح الصلاة، وهو مخير في رفعهما إلى فروع أذنيه أو حذو منكبيه؛ وميل أحمد إليه أكثر، لأن رواته أكثر وأقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجوّز الأول لأن صحة روايته تدل على أنه فعله.   1 مسلم: الصلاة (413) , والنسائي: الإمامة (798) والسهو (1200) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1240) , وأحمد (3/334) . 2 سورة الأعلى آية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 ويمد أصابعه ويضم بعضها إلى بعض، لحديث: "رفع يديه مداً". وقال الشافعي: يفرق أصابعه، لحديث: "كان ينشر أصابعه للتكبير". ولنا: ما ذكرنا، وحديثهم: قال الترمذي: هذا خطأ، ولو صح فمعناه المد، قال أحمد: أهل العربية قالوا: هذا الضم، وضم أصابعه وهذا المد، ومد أصابعه وهذا التفريق، وفرق أصابعه. وإن كانت يداه في ثوبه رفعهما بحيث يمكن، لحديث وائل ابن حجر. وفي المرأة روايتان: فروى عن أم الدرداء وحفصة بنت سيرين أنهما يرفعان، قال أحمد: رفع دون رفع. ومن سننها: وضع اليمنى على اليسرى في قول كثير من أهل العلم. و"يستحب أن يضعها على كوعه وما يقاربه"، لحديث وائل، و"يضعهما تحت السرة"، لحديث علي، وعنه: فوق السرة، لحديث وائل، وفيه: "فوضع يديه على صدره". والاستفتاح من سننها في قول أكثر أهل العلم. وكان مالك لا يراه، لحديث أنس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يستفتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ". ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يستفتح"، وعمل به الصحابة. و"كان عمر يجهر به ليعلمه الناس". و"أنس أراد القراءة كما في قوله: قسمت الصلاة ... إلخ"، وقولُ عائشة: "كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ". 1 ويتعين هذا لأنه ثبت عن الذي روى عنهم أنس الاستفتاح. وذهب أحمد إلى قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك. .. إلخ"، 2 وقال: إن استفتح بغيره مما روي عنه صلى الله عليه وسلم كان حسناً؛ وهذا قول أكثر أهل العلم. وذهب الشافعي إلى حديث علي: "وجهت وجهي ... إلخ"، وبعض رواته يقول في صلاة الليل، ولا نعلم أحدًا يستفتح به كله. وقراءة "الفاتحة" ركن لا تصح إلا بها لحديث عبادة. ويبتدئها بالبسملة، في قول   1 مسلم: الصلاة (498) , وأبو داود: الصلاة (783) , وأحمد (6/31, 6/171, 6/194) , والدارمي: الصلاة (1236) . 2 الترمذي: الصلاة (243) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (806) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 أكثر أهل العلم. وقال مالك: "لا يقرأها"، لحديث أنس وابن المغفل؛ وهما محمولان على ترك الجهر، جمعاً بين الأخبار. والجهر بها غير مسنون، قال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين. وقال الشافعي: يجهر بها. ولنا: حديث أنس وابن المغفل وعائشة وغيرهم، وأخبار الجهر ضعيفة، فإن رواتها هم رواة الإخفاء، وإسناد الإخفاء صحيح. واختلفت الرواية عن أحمد، هل هي آية من "الفاتحة" تجب قراءتها أو لا؟ وعنه: أنها آية مفردة تنزل بين كل سورتين. والمستحب أن يأتي بها مرتلة معربة، يقف عند كل آية، لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} ، 1 ولحديث أم سلمة وأنس. قال أحمد: يعجبني من قراءة القرآن السهلة، [وقال:] 2 قوله: "زينوا القرآن بأصواتكم" قال: يحسّنه بصوته من غير تكلف. وتجب قراءة "الفاتحة" في كل ركعة، وهو مذهب مالك والشافعي. وعن أحمد أنها لا تجب إلا في ركعتين من الصلاة، ونحوه عن الثوري. وعن الحسن: إن قرأ في ركعة واحدة أجزأه، لقوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} . 3 ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأوليين من الظهر بأم الكتاب وسورتين، ويطولّ الأولى ويقصر الثانية، ويسمع الآية أحياناً، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب". 4 متفق عليه. وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". 5 فإن لم يحسن "الفاتحة"، وكان يحفظ غيرها من القرآن، قرأ منه بقدرها، لا يجزئه غير، لقوله في حديث رفاعة: "فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله وهلِّله وكبره". 6   1 سورة المزمل آية: 4. 2 النسائي: الافتتاح (1015) , وأبو داود: الصلاة (1468) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1342) , وأحمد (4/283, 4/285, 4/296, 4/304) , والدارمي: فضائل القرآن (3500) . 3 ما بين القوسين زيادة من المخطوطة 465/86 (المكتبة السعودية) بالرياض. 4 البخاري: الأذان (776) , ومسلم: الصلاة (451) , والنسائي: الافتتاح (977) , وأبو داود: الصلاة (798) , وأحمد (5/307) , والدارمي: الصلاة (1293) . 5 البخاري: الأذان (631) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (674) , والنسائي: الأذان (635) , وأحمد (3/436, 5/52) , والدارمي: الصلاة (1253) . 6 الترمذي: الصلاة (302) , والنسائي: التطبيق (1053) والسهو (1313, 1314) , وأبو داود: الصلاة (856) , وأحمد (4/340) , والدارمي: الصلاة (1329) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فإن لم يحسن شيئاً من القرآن ولا أمكنه التعلم قبل خروج الوقت، لزمه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لحديث أبي داود؛ ويحتمل أن يجزئه الحمد والتهليل والتكبير، للحديث المتقدم. والتأمين عند فراغ "الفاتحة" سنة للإمام والمأموم، وبه قال الشافعي. وقال أصحاب مالك: لا يسن للإمام، لحديث: "إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فقولوا آمين ". 1 ولنا: قوله: " إذا أمّن الإمام فأمّنوا". 2 متفق عليه، وحديثهم لا حجة فيه، وإنما فيه تعريف موضع التأمين، وقوله: "إذا أمّن الإمام" أي: شرع في التأمين. ويسن أن يجهر به الإمام والمأموم فيما يجهر فيه، وإخفاؤه فيما يخفى فيه. وقال أبو حنيفة: يسن إخفاؤه لأنه دعاء. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم قال: "آمين"، ورفع بها صوته"، 3 ولأنه أمر بالتأمين عند تأمين الإمام، وما ذكره يبطل بآخر "الفاتحة" فإنه دعاء. ويستحب أن يسكت الإمام عقيب "الفاتحة" سكتة يستريح فيها، وكرهه مالك، ولنا: حديث سمرة. ولا نعلم خلافاً في أنه يسن قراءة سورة مع "الفاتحة" في الأوليين، ويفتتح السورة بالبسملة. ووافق مالك على هذا، والخلاف هنا كالخلاف في البسملة في أول "الفاتحة". ولا يكره قراءة أواخر السور وأواسطها، ونقل عنه: الرجل يقرأ من أواسط السور وآخرها؛ قال: أما آخرها فأرجو، وأما أوسطها فلا. ولعله ذهب في آخر السور إلى ما روي عن عبد الله وأصحابه، ولم ينقل مثله في أوسطها. فأما أوائل السور، فلا خلاف أنه غير مكروه؛ "فإنه صلى الله عليه وسلم قرأ من "المؤمنين" إلى ذكر موسى وهارون، ثم أخذته سعلة فركع، وقرأ سورة "الأعراف" في المغرب، فرقها مرتين". 4 رواه النسائي.   1 البخاري: الأذان (782) , ومسلم: الصلاة (410) , والترمذي: الصلاة (250) , والنسائي: الافتتاح (927, 928, 929, 930) , وأبو داود: الصلاة (935, 936) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (851, 853) , وأحمد (2/233, 2/238, 2/270, 2/312, 2/449, 2/459) , ومالك: النداء للصلاة (195, 196, 197) , والدارمي: الصلاة (1246) . 2 البخاري: الأذان (780) , ومسلم: الصلاة (410) , والترمذي: الصلاة (250) , والنسائي: الافتتاح (928) , وأبو داود: الصلاة (936) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (851) , وأحمد (2/238, 2/459) , ومالك: النداء للصلاة (195) . 3 الترمذي: الصلاة (248) , وأبو داود: الصلاة (932) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (855) , والدارمي: الصلاة (1247) . 4 مسلم: الصلاة (455) , والنسائي: الافتتاح (1007) , وأبو داود: الصلاة (649) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (820) , وأحمد (3/410, 3/411) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ولا بأس بالجمع بين السور في النافلة، وأما الفرض فالمستحب الاقتصار على سورة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي هكذا. وإن جمع بين سورتين ففيه روايتان. وإن قرأ سورة ثم أعادها في الثانية، فلا بأس، لحديث الجهني رواه أبو داود. والمستحب أن يقرأ في الثانية سورة بعد التي قبلها في النظم، لأنه هو المنقول عنه صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن مسعود: "أنه سئل عمن يقرأ القرآن منكوساً، قال: ذاك منكوس القلب"، فسره أبو عبيد: بأن يقرأ سورة ثم يقرأ بعدها أخرى هي قبلها في النظم؛ فإن قرأ بخلاف ذلك فلا بأس، قال أحمد: أليس يعلّم الصبي على هذا؟ "وقرأ الأحنف بـ"الكهف" في الأولى، وفي الثانية بـ"يوسف"، وذكر أنه صلى مع عمر الصبح بهما"، استشهد به البخاري. قال أحمد: إذا فرغ من القراءة ثبت قائماً حتى يرجع إليه نفسه، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان له سكتتان سكتة عند افتتاح الصلاة وسكتة إذا فرغ من القراءة" 1. والركوع واجب بالإجماع، وأكثرهم يرون ابتداءه بالتكبير، وأن يكبر في كل رفع وخفض. وروي عن سالم والقاسم وغيرهما أنهم لا يتمون التكبير، ولعلهم يحتجون أنه لم يعلمه المسيء في صلاته، أو لم تبلغهم السنة في ذلك. ويرفع يديه كرفعه الأول، وبه قال الشافعي ومالك. وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يرفع يديه إلا في الافتتاح. ويستحب للراكع أن يضع يديه على ركبتيه، وذهب قوم من السلف إلى التطبيق؛ وكان في أول الإسلام ثم نسخ. قال أحمد: ينبغي إذا ركع أن يلقم راحتيه ركبتيه، ويفرق بين أصابعه، ويعتمد على ضبعيه وساعديه، ويسوي ظهره، ولا يرفع رأسه ولا ينكسه، جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:   1 الترمذي: الصلاة (251) , وأبو داود: الصلاة (777) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (845) , وأحمد (5/15, 5/20, 5/21) , والدارمي: الصلاة (1243) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 "إذا ركع، لو كان قدح ماء على ظهره ما تحرك". ويستحب أن يجافي عضديه عن جنبيه، لحديث أبي حميد. ويجب أن يطمئن، وقال أبو حنيفة: الطمأنينة غير واجبة، لقوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} ، 1 وهي حجة لنا لأنه صلى الله عليه وسلم فسرها بفعله. وقوله: [ويقول:] 2 "سبحان ربي العظيم". ثلاثاً؛ وإن قالها مرة أجزأ. وجملة ذلك أنه يشرع أن يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي. وقال مالك: ليس عندنا في الركوع والسجود شيء محدود، وقد سمعت أن التسبيح في الركوع والسجود. ولنا: حديث عقبة بن عامر. وتجزئ تسبيحة واحدة، لأمره به في حديث عقبة، ولم يذكر عدداً. وإن قال: "سبحان ربي العظيم وبحمده" فلا بأس، قال أحمد: جاء هذا وهذا، وهو في بعض طرق حديث حذيفة. والمشهور عن أحمد أن التكبير والتسبيح وقول: "سمع الله لمن حمده"، وقول: "ربنا ولك الحمد"، وقول: "رب اغفر لي"، والتشهد الأول، واجب. وعنه: أنه غير واجب، وهو قول الأكثر. ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم أمر به، وأمْره للوجوب، وفعله وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، 3 وأيضاً ما روى أبو داود عن علي بن يحيى بن خلاد عن عمه، مرفوعاً: "لا تتم الصلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ"، 4 إلى قوله: "ثم يكبر، ثم يركع حتى تطمئن مفاصله" 5 الحديث. و"يكره أن يقرأ في الركوع والسجود"، لحديث علي. ومن أدرك الإمام في الركوع أدرك الركعة، وعليه أن يأتي بالتكبير   1 سورة الحج آية: 77. 2 زيادة من المخطوطة. 3 البخاري: الأذان (631) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (674) , والنسائي: الأذان (635) , وأحمد (3/436, 5/52) , والدارمي: الصلاة (1253) . 4 أبو داود: الصلاة (856) . 5 البخاري: الأذان (757) والاستئذان (6251) والأيمان والنذور (6667) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (302, 303) , والنسائي: الافتتاح (884) والتطبيق (1053, 1136) والسهو (1313, 1314) , وأبو داود: الصلاة (856) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) , وأحمد (2/437, 4/340) , والدارمي: الصلاة (1329) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 منتصباً، ثم يأتي بتكبيرة أخرى للركوع، والمنصوص عن أحمد أنها تسقط هنا. و"يجزئه تكبيرة واحدة، لأنه نقل عن زيد بن ثابت وابن عمر"، ولا يعرف لهما مخالف. قال أحمد في رواية صالح فيمن جاء والإمام راكع: كبر تكبيرة واحدة، قيل: إن نوى بها الافتتاح؟ قال: نوى أو لم ينو، أليس قد جاء وهو يريد الصلاة؟ وقال أحمد: إن كبر تكبيرتين ليس فيه اختلاف. ويستحب لمن أدرك الإمام في حال، متابعته فيه، وإن لم يعتدَّ له به، لحديث أبي هريرة، مرفوعاً: "إذا جئتم [إلى الصلاة] 1 ونحن سجود فاسجدوا، ولا تعتدّوها شيئاً". رواه أبو داود؛ والعمل على هذا عند أهل العلم. وقال بعضهم: لعله لا يرفع رأسه من السجود حتى يغفر له. ثم يقول: "سمع الله لمن حمده" ويرفع يديه كرفعه الأول. وفي موضع الرفع روايتان: إحداهما: بعد اعتداله، لأن في حديث ابن عمر: "إذا افتتح رفع يديه، وإذا ركع، وبعد ما يرفع رأسه من الركوع". 2 والثانية: يبتدئه حين يبتدئ رفع رأسه، لظاهر حديث أبي حميد. ولا تختلف الرواية أن المأموم يبتدئه عند رفع رأسه، لأنه ليس في حقه ذكر بعد الاعتدال والرفع، إنما جعل هيئة للذكر. وهذا الرفع والاعتدال واجب، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب مالك: لا يجب، لأن الله لم يأمر به. ولنا: أنه أمر به المسيء، وداوم على فعله، وقد أمر الله بالقيام، وهذا قيام. وشرع قول: "ربنا ولك الحمد" في حق كل مصلّ، وهو قول أكثر أهل العلم. وعنه: لا يقوله المنفرد، لأن الخبر لم يرد به في حقه. وقال مالك: لا يشرع للإمام ولا للمنفرد، لقوله: "إذا قال الإمام: "سمع الله لمن حمده"، فقولوا: "اللهم ربنا ولك الحمد"". 3 ولنا: أن أبا هريرة صرَّح بذكره في الرواية الأخرى، وحديثهم لو انفرد لم يكن فيه حجة، فكيف تترك الأحاديث الصحيحة؟   1 زيادة من المخطوطة السابقة. 2 البخاري: الأذان (739) , ومسلم: الصلاة (390) , والترمذي: الصلاة (255) , والنسائي: الافتتاح (877) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (858) , وأحمد (2/62) , ومالك: النداء للصلاة (165) . 3 البخاري: الأذان (796) , ومسلم: الصلاة (409) , والترمذي: الصلاة (267) , والنسائي: التطبيق (1063) , وأبو داود: الصلاة (848) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (875) , وأحمد (2/230, 2/314, 2/341, 2/376, 2/386, 2/411, 2/416) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 والصحيح أن المنفرد يقوله، وصح أنه صلى الله عليه وسلم يقوله، رواه أبو هريرة وغيره، ولم تفرق الرواة بين كونه إماماً ومنفرداً. والسنة أن يقول: "ربنا ولك الحمد"، وعنه: "ربنا لك الحمد". وقال الشافعي: هو السنة، لأنه ليس هنا شيء يعطف عليه. ولنا: أن السنة: الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، ولأن الواو تتضمن الحمد مقدراً ومظهراً، أي: ربنا حمدناك ولك الحمد؛ وكل ذلك حسن، لأن الكل قد وردت به السنة. ولا أعلم خلافاً في المذهب أنه لا يشرع للمأموم التسميع. وقال الشافعي: يقوله كالإمام. ولنا: قوله: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده" الحديث. وأما قوله: "ملء السماء ... إلخ"، فنص أحمد أنه لا يسن للمأموم، لأنه اقتصر على أمرهم بالتحميد. وعنه: ما يدل على أنه سنّة، وهو مذهب الشافعي. ونقل أبو الحارث: إن شاء قال: "أهل الثناء والمجد ... إلخ". وعنه: أما أنا فأقول هذا إلى "ما شئت من شيء بعد"، فظاهره: لا يستحب في الفريضة، عملاً بأكثر الأحاديث الصحيحة. ثم يكبر للسجود ولا يرفع يديه، وعنه: يرفع، لقوله: "في كل خفض"، والصحيح الأول، لقول ابن عمر: "ولا يفعل ذلك في السجود". ويكون أول ما يقع ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه. وعنه: أنه يضع يديه قبل ركبتيه، وإليه ذهب مالك، لقوله: "فليضعْ يديه قبل ركبتيه ... إلخ" 1. ولنا: حديث وائل، قال الخطابي: هو أصح من حديث أبي هريرة. وروى الأثرم حديث أبي هريرة: "ليبدأ بركبتيه قبل يديه، ولا يبرك بروك الفحل". والسجود على هذه الأعضاء واجب إلا الأنف، وقال مالك: لا يجب السجود على غير الجبهة، لقوله: "سجد وجهي ... إلخ". ولنا: قوله: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ... إلخ"، 2 وسجود الوجه لا ينفي سجود ما عداه. وأما الأنف ففيه روايتان:   1 النسائي: التطبيق (1091) , وأبو داود: الصلاة (840) , وأحمد (2/381) , والدارمي: الصلاة (1321) . 2 البخاري: الأذان (812) , ومسلم: الصلاة (490) , والترمذي: الصلاة (273) , والنسائي: التطبيق (1093, 1097, 1115) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (883) , وأحمد (1/279, 1/292, 1/305) , والدارمي: الصلاة (1319) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 إحداهما: يجب، لأن في حديث الجبهة: "وأشار بيده إلى أنفه". متفق عليه. وفي لفظ للنسائي: "أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة والأنف ... " 1 الحديث. والثانية: لا يجب، وهو قول الشافعي، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكره. وعن أبي حنيفة إن سجد على أنفه دون جبهته أجزأ، قال ابن المنذر لا أعلم أحداً سبقه إلى هذا؛ وهذا يخالف الحديث والإجماع الذي قبله. ولا يجب مباشرة المصلى بشيء منها، وهو مذهب مالك، وعنه: ما يحتمل المنع في الجبهة وهو مذهب الشافعي، لحديث: "شكونا إليه حر الرمضاء، فلم يشكنا". 2 ولنا: حديث أنس: "كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود". 3 متفق عليه. والحديث الأول الظاهر أنهم طلبوا تأخير الصلاة أو تسقيف المسجد أو نحو ذلك، لأن الفقراء لم يكن لهم يومئذ عمائم ولا أكمام يتقون بها حر الشمس. ويستحب مباشرة المصلى بالجبهة واليدين، قال أحمد: لا يعجبني إلا في الحر والبرد. "وكان ابن عمر يكره السجود على كور العمامة". ويكون في السجود معتدلاً، قال الترمذي: أهل العلم يختارون الاعتدال في السجود. وعن جابر، رفعه: "إذا سجد أحدكم فليعتدلْ، ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب". 4 والافتراش: أن يضع ذراعيه على الأرض كما تفعل السباع. ومن السنة أن يجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه، قال أحمد: جاء عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه كان إذا سجد لو مرت بهمة لنفذت"، وذلك لشدة مبالغته في رفع مرفقيه وعضديه. قال أحمد: ويفتح أصابع رجليه لتكون أصابعها إلى القبلة. ويسجد على صدور قدميه لقوله: "أمرت أن أسجد   1 البخاري: الأذان (812) , ومسلم: الصلاة (490) , والترمذي: الصلاة (273) , والنسائي: التطبيق (1093, 1097, 1115) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (883) , وأحمد (1/279, 1/292, 1/305) , والدارمي: الصلاة (1319) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (619) , والنسائي: المواقيت (497) , وابن ماجة: الصلاة (675) , وأحمد (5/108, 5/110) . 3 البخاري: الصلاة (385) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (620) , وأبو داود: الصلاة (660) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1033) . 4 الترمذي: الصلاة (275) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (891) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 على سبعة ... " 1 ذكر منها أطراف القدمين. وللبخاري: "واستقبل بأصابع رجليه القبلة". 2 وللترمذي: "وفتح أصابع رجليه"، وهذا معناه. ويستحب أن يضع راحتيه على الأرض مبسوطتين، مضمومتي الأصابع بعضها إلى بعض، مستقبلاً بهما القبلة، حذو منكبيه. وروى الأثرم قال: رأيت أبا عبد الله يسجد ويداه بحذاء أذنيه، وذلك لحديث وائل؛ والجميع حسن. ويستحب أن يفرق بين ركبتيه ورجليه، لحديث أبي حميد، وإذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه. ثم يرفع رأسه مكبراً، وهذا الرفع والاعتدال واجب، وبه قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة: ليس بواجب، بل يكفي عند أبي حنيفة أن يرفع رأسه مثل حد السيف، لأنها جلسة فصل بين متشاكلين فلم تكن واجبة. ولنا: قوله للمسيء: "ثم ارفع حتى تطمئن جالساً"، 3 ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أخلّ به. قال الأثرم: تفقدت أبا عبد الله، فرأيته يفتح أصابع رجله اليمنى فيستقبل بها القبلة. وروى بإسناده عن عبد الرحمن بن زيد قال: "كنا نعلّم إذا جلسنا في الصلاة أن يفرش الرجل منا قدمه اليسرى، وينصب قدمه اليمنى على صدر قدمه، وإن كان إبهام أحدنا لتنثني فيدخل يده حتى يعدّلها". ويكره الإقعاء، وهو: أن يفرش قدميه ويجلس على عقبيه، هكذا فسره الإمام أحمد، وقال: هذا قول أهل الحديث. والإقعاء عند العرب: جلوس الرجل على إليته، ناصبا فخذيه، مثل إقعاء الكلب والسبع. وأما الأول فكرهه علي وأبو هريرة ومالك والشافعي، و"فعله ابن عمر وقال: لا تقتدوا بي فإني قد كبرْت". وعنه: لا أفعله ولا أعيب مَن فعَله. وقال: العبادلة كانوا يفعلونه. قال طاووس: قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين، قال: "هي السنة. قلنا: إنّا   1 البخاري: الأذان (812) , ومسلم: الصلاة (490) , والترمذي: الصلاة (273) , والنسائي: التطبيق (1093, 1097, 1115) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (883) , وأحمد (1/279, 1/292, 1/305) , والدارمي: الصلاة (1319) . 2 البخاري: الأذان (828) . 3 البخاري: الأذان (757) , ومسلم: الصلاة (397) , والترمذي: الصلاة (303) , والنسائي: الافتتاح (884) , وأبو داود: الصلاة (856) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) والأدب (3695) , وأحمد (2/437) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 لنراه جفاء بالرجل. قال: هي سنة نبيك". 1 رواه مسلم. ولنا: حديث أبي حميد وغيره، وهي أكثر وأصح. والمستحب أن يكون شروع المأموم في أفعال الصلاة بعد فراغ الإمام، ويكره معه، في قول أكثر أهل العلم. واستحب مالك أن يكون معه. ولنا: حديث البراء وأبي موسى وغيرهما. ولا يجوز أن يسبقه. وعن ابن مسعود: "أنه نظر إلى من سبق الإمام فقال: لا وحدك صليت، ولا بإمامك اقتديت". وعن ابن عمر نحوه، قال: "فأمره بالإعادة". وإن سبق الإمام المأموم بركن كامل، مثل إن ركع ورفع قبل ركوع المأموم، لعذر من نعاس أو زحام، فعل ما سبق به وأدرك إمامه، ولا شيء عليه، نص عليه، ولا أعلم فيه خلافاً. وإن سبقه بركعة كاملة أو أكثر، اتبعه وقضى ما سبق به، قال أحمد في رجل نعس خلف الإمام حتى صلى ركعتين قال: كأنه أدرك ركعتين. وإن سبقه بأكثر من ركن وأقل من ركعة، ثم زال عذره، فنص أحمد أنه يتبع إمامه ولا يعتد بتلك الركعة. وقال أصحابنا: من زحم عن السجود يوم الجمعة، انتظر زوال الزحام، ثم سجد وتبع إمامه، ما لم يخف فوات الركوع في الثانية مع الإمام؛ وهذا يقتضي أنه يفعل ما فاته وإن كان أكثر من ركن، وهو قول الشافعي، "لأنه صلى الله عليه وسلم فعله بأصحابه في صلاة عسفان حين أقامهم خلفه صفين، فسجد بالصف الأول، والصف الثاني قائم حتى قام إلى ثانية، فسجد الصف الثاني ثم تبعه". وجاز للعذر، وهذا مثله. وقال مالك: إن أدركهم المسبوق في أول سجودهم، سجد معهم واعتد بها، وإن علم أنه لا يقدر على الركوع وإدراكهم في السجود حتى يستووا قياماً، فليتبعهم فيما بقي، ثم يقضي ركعة. والأولى في هذا، والله   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (536) , والترمذي: الصلاة (283) , وأبو داود: الصلاة (845) , وأحمد (1/313) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 أعلم، ما كان على قياس فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، فإن ما لا نص فيه يرد إلى أقرب الأشياء به من المنصوص عليه، وإذا قضى سجدته الثانية نهض مكبراً. واختلف عن أحمد هل يجلس للاستراحة؟ فعنه: لا، وبه قال مالك. قال أحمد: أكثر الأحاديث على هذا، قال الترمذي: وعليه العمل عند أهل العلم. وعنه: بلى، لحديث مالك بن الحويرث، وذكره أيضاً أبو حميد. وقيل: إن كان ضعيفاً جلس، وإن كان قوياً لم يجلس، وحمل جلوسه صلى الله عليه وسلم أنه كان في آخر عمره، وهذا فيه جمع بين الأخبار. وعلى كلا القولين، ينهض على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه لا على يديه. وقال مالك والشافعي: السنة أن يعتمد على يديه في النهوض، لأنه في حديث مالك بن الحويرث. ولنا: حديث وائل، وفيه: "وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه". 1. رواه النسائي والأثرم. وفي لفظ: "وإذا نهض نهض على ركبتيه، واعتمد على فخذيه"، 2 وعن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة". 3 رواهما أبو داود. وروى الأثرم عن علي قال: "إن من السنّة في الصلاة المكتوبة إذا نهض الرجل في الركعتين الأوليين أن لا يعتمد بيديه على الأرض، إلا أن يكون شيخاً كبيراً لا يستطيع". وقال أحمد: بذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث مالك محمول على مشقة القيام عليه لكبره، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " إني قد بدنت، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ". 4 فأما الاستعاذة، فاختلفت الرواية فيها. فعنه: يختص بالركعة الأولى، وهو قول الثوري، لحديث: "كان إذا نهض للثانية استفتح بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}   1 الترمذي: الصلاة (268) , والنسائي: التطبيق (1089, 1154) , وأبو داود: الصلاة (838) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (882) , والدارمي: الصلاة (1320) . 2 الترمذي: الصلاة (268) , والنسائي: التطبيق (1089, 1154) , وأبو داود: الصلاة (838) , والدارمي: الصلاة (1320) . 3 أبو داود: الصلاة (992) . 4 أبو داود: الصلاة (619) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (963) , وأحمد (4/92, 4/98) , والدارمي: الصلاة (1315) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ولم يسكت"، 1 وعنه: في كل ركعة، وهو قول الشافعي، للآية؛ فيقتضي ذلك تكريرها عند تكرير القراءة. وإذا صلى ركعتين، جلس للتشهد الأول، وهذا التشهد والجلوس له مشروعان واجبان، وهو مذهب الليث وإسحاق. وعنه: لا، وهو قول مالك والشافعي لأنهما يسقطان بالسهو أشبها السنن. ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم داوم عليه، وأمر به في حديث ابن عباس، فقال: "قولوا: "التحيات لله"، وسجد حين نسيه". وإنما سقط بالسهو إلى بدل، كجبران الحج. وصفة الجلوس له كالجلوس بين السجدتين، مفترشاً، وبه قال الثوري وإسحاق. وقال مالك: يتورك على كل حال، لما روى ابن مسعود: "أنه صلى الله عليه وسلم يجلس في آخر الصلاة وفي وسطها متوركاً". وقال الشافعي: إن كان متوسطاً كقولنا، وإن كان آخرها كقول مالك، ولنا: حديث أبي حميد وحديث وائل، وهما متأخران عن ابن مسعود، وإنما يؤخذ بالآخر؛ فالآخر من أمره صلى الله عليه وسلم، وقد بين أبو حميد الفرق بين التشهدين، والأخذ بالزيادة واجب. ويستحب له وضع اليسرى على الفخذ اليسرى، مبسوطة مضمومة الأصابع، مستقبلاً بها القبلة، ويضع اليمنى على الفخذ اليمنى، يقبض الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام مع الوسطى، ويشير بالسبابة، لحديث وائل. وعنه: يجمع أصابعه الثلاث، ويعقد الإبهام كعقد الخمسين، لقول ابن عمر: "وضع صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثا وخمسين، وأشار بالسبابة". 2 رواه مسلم. و"يشير بالسبابة عند ذكر الله، ولا يحركها"، لحديث ابن الزبير. ويتشهد بتشهد ابن مسعود، وعليه أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم. وقال مالك: الأفضل تشهد عمر: "التحيات لله. الزاكيات لله. الصلوات لله". 3 وسائر تشهده   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (599) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (580) , والترمذي: الصلاة (294) , والنسائي: التطبيق (1160) والسهو (1266, 1267, 1269) , وأبو داود: الصلاة (987) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (913) , وأحمد (2/131) , ومالك: النداء للصلاة (199) , والدارمي: الصلاة (1339) . 3 مالك: النداء للصلاة (204) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 كتشهد ابن مسعود، لأنه قاله على المنبر فلم ينكر. وقال الشافعي: الأفضل تشهد ابن عباس، وقد انفرد به واختلف عنه في بعض ألفاظه، ولا يستحب الزيادة عليه. وعن ابن عمر: "أنه أباح الدعاء فيه بما بدا له". وقال مالك: ذلك واسع. "وسمع ابن عباس رجلاً يقول: بسم الله، فانتهره". وبه قال الشافعي، وهو الصحيح، لحديث ابن مسعود: "أنه صلى الله عليه وسلم يجلس في الأوليين كأنه على الرضف". 1 ولم تصح التسمية ولا غيرها عند أهل الحديث مما وقع الخلاف فيه. ثم "ينهض من التشهد كنهوضه من السجود، ولا يقدم إحدى رجليه"، كذلك قال ابن عباس، ورخص فيه مجاهد وإسحاق للشيخ. ويتورك في التشهد الأخير، وإليه ذهب مالك والشافعي. وقال الثوري وأصحاب الرأي: يفترش كالأول، لحديث وائل وأبي حميد. ولنا: بيان أبي حميد للفرق، وهو راوي حديثهم. وهذا التشهد والجلوس له من الأركان، وبه قال الشافعي، ولم يوجبه مالك ولا أبو حنيفة، إلا أنه أوجب الجلوس بقدر التشهد، وتعلقاً بأنه صلى الله عليه وسلم لم يعلّمه المسيء في صلاته. ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم أمر به وداوم عليه، وروي في حديث ابن مسعود: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله ... إلخ"، وهذا يدل على أنه فرض بعد أن لم يكن مفروضاً، وحديث الأعرابي يحتمل أنه قبل أن يفرض، وأن يكون تركه لأنه لم يسئ فيه. ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان، في الأخير منهما. وقال الشافعي: يتورك في كل تشهد يسلم فيه. ولنا: حديث وائل وحديث عائشة: "كان يقول: في كل ركعتين التحيات، وكان يفرش اليسرى وينصب اليمنى". 2 رواه مسلم. ولا يجوز أن يدعو في صلاته بما يقصد به ملاذ الدنيا، وقال الشافعي:   1 الترمذي: الصلاة (366) , وأبو داود: الصلاة (995) , وأحمد (1/410, 1/436) . 2 مسلم: الصلاة (498) , وأبو داود: الصلاة (783) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 يدعو بما أحب، لقوله: "ثم ليتخيّر بعد من المسألة ما شاء، أو ما أحب" 1 ولنا: قوله: "إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ... إلخ " 2. وهل يدعو لإنسان بعينه؟ على روايتين، وكرهه عطاء والنخعي. ويستحب له إذا مرت به آية رحمة أن يسألها، أو آية عذاب أن يستعيذ منها، لحديث حذيفة. ولا يستحبُّ في الفريضة، لأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم، مع كثرة من وصف قراءته فيها. وإذا فرغ، سلّم عن يمينه ويساره "السلام عليكم ورحمة الله"، وهذا واجب لا يقوم غيره مقامه؛ وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يتعين للخروج، بل إذا خرج بما ينافيها من عمل أو حدث جاز. والسلام سنة، لأنه لم يعلّمه المسيء. ولنا: قوله: "تحليلها التسليم"، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يخلّ به. ويشرع تسليمتان، وبه قال الشافعي. وقال مالك: يسلّم واحدة، لحديث عائشة: "كان يسلِّم واحدة تلقاء وجهه"، 3 وعن سلمة قال: "رأيته صلى الله عليه وسلم صّلى فسلّم مرّة". 4 رواهما ابن ماجة. ولنا: حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة، رواهما مسلم. وحديث عائشة، أنكره أبو حاتم وغيره؛ وبين أحمد أن معناه يسمعهم التسليمة الواحدة. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة. وقال القاضي: فيه رواية: أن الثانية واجبة، وليس عنه تصريح بالوجوب، وإنما قال: " التسليمتان أصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، حديث ابن مسعود وغيره أذهب إليه، ويجوز أن يذهب إليه في المشروعية دون الإيجاب، وقوله في حديث جابر: "إنما يكفي أحدكم ... " أي: في إصابة السنة، بدليل أنه قال: "يضع يده على فخذه، ثم يسلّم على أخيه عن يمينه وشماله". 5 وإن زاد: "وبركاته" فحسن،   1 مسلم: الصلاة (402) , والنسائي: التطبيق (1163) والسهو (1298) , وأبو داود: الصلاة (968) , وأحمد (1/382, 1/413, 1/427) , والدارمي: الصلاة (1340) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537) , والنسائي: السهو (1218) , وأبو داود: الصلاة (930, 931) , وأحمد (5/447) , والدارمي: الصلاة (1502) . 3 الترمذي: الصلاة (296) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (919) . 4 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (920) . 5 مسلم: الصلاة (431) , والنسائي: السهو (1318) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 والأول أحسن، لأن رواته أكثر وطرقه أصح. وإن قال: "السلام عليكم" ولم يزد، فظاهر كلام أحمد: يجزئ، وهو قول الشافعي، لقوله: "تحليلها التسليم"، لأنه روي أنه يسلم عن يمينه وشماله: "السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله". 1 رواه أبو داود. و"يستحب أن يلتفت عن يمينه في الأولى، وعن يساره في الثانية"، كما جاء في حديث ابن مسعود وجابر وغيرهما، ويكون التفاته في الثانية أكثر لحديث عمار. وروي عن أحمد أن الأولى أرفع من الثانية، وحمل عليه حديث عائشة. ويستحب حذف السلام، وهو أن لا يمده ويطول به صوته، لحديث: "حذف السلام سنة". 2 صححه الترمذي، وعليه أهل العلم. وينوي به الخروج من الصلاة. وإن نوى الرد على الملكين أو على من معه فلا بأس، نص عليه. ومذهب الشافعي: أنه سنة، أي: السلام على من معه، لحديث جابر بن سمرة. ويستحب الذكر عقيب الصلاة بما ورد به الأثر، مثل حديث المغيرة وثوبان وأبي هريرة وغيرهم. وإذا كان مع الإمام رجال ونساء، فالمستحب أن يثبت الرجال بقدر انصرافهن. فإن لم يقم الإمام، استحب أن ينصرف عن القبلة، لحديث جابر بن سمرة وغيره. ويستحب لهم أن لا يقوموا قبل الإمام، لقوله: "لا تسبقوني بالسجود، ولا بالركوع، ولا بالانصراف". 3 رواه مسلم. و"ينصرف حيث شاء عن يمينه وشماله"، لحديث ابن مسعود. و"يكره أن يتطوع الإمام في موضع صلاته"، لحديث المغيرة، إلا أن أحمد قال: لا أعرف ذلك عن غير علي. والمأموم إذا سمع قراءة الإمام، فلا يقرأ بالحمد ولا غيرها، وبه قال مالك وكثير من السلف. وقال الشافعي: يقرأها، لقوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة   1 مسلم: الصلاة (431) , والنسائي: السهو (1326) , وأبو داود: الصلاة (998, 1000) , وأحمد (5/86, 5/88, 5/101, 5/107) . 2 الترمذي: الصلاة (297) , وأبو داود: الصلاة (1004) , وأحمد (2/532) . 3 مسلم: الصلاة (426) , والنسائي: السهو (1363) , وأحمد (3/102) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الكتاب"، 1 ولحديث عبادة، رفعه: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب"، 2 رواه أبو داود، ولقول أبي هريرة: "إقرأ بها في نفسك". ولنا: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} الآية 3، قال أحمد: الناس على أن هذا في الصلاة، وفي لفظ: أجمع الناس، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا قرأ فأنصتوا"، 4 رواه مسلم، ولأنه إجماعٌ، قال أحمد: ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يقول: إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه إذا لم يقرأ. وقال: هذا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون، وهذا مالك في أهل الحجاز، وهذا الثوري في أهل العراق، وهذا الأوزاعي في أهل الشام، وهذا الليث في أهل مصر، ما قالوا في رجل صلى خلف الإمام قرأ إمامه أو لم يقرأ: صلاته باطلة، وحديث عبادة في الصحيح محمول على غير المأموم، وكذلك حديث أبي هريرة، وقد جاء مصرحاً به عن جابر، مرفوعاً: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج، إلا وراء الإمام". رواه الخلال. وقوله: "اقرأ بها في نفسك" من قول أبي هريرة، والذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ فأنصتوا " 5 أولى، وقد خالفه تسعة من الصحابة، قال ابن مسعود: "وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام مُلئ فوه تراباً"، وحديث عبادة الآخر لم يروه عنه إلا إسحاق ونافع بن محمود، وهو أدنى حالاً من ابن إسحاق. والاستحباب: أن يقرأ في سكتات الإمام، وفيما لا يجهر فيه؛ هذا قول كثير من أهل العلم. وقالت طائفة: لا يقرأ في الجهر ولا في الإسرار. قال إبراهيم: إنما أحدث الناس القراءة زمان المختار، لأنه كان يصلي بهم صلاة النهار ولا يصلي بهم صلاة الليل، فاتهموه فقرؤوا خلفه، وهذا قول الثوري وابن عيينة وأصحاب   1 البخاري: الأذان (756) , ومسلم: الصلاة (394) , والترمذي: الصلاة (247) , والنسائي: الافتتاح (910, 911) , وأبو داود: الصلاة (822) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (837) , وأحمد (5/321) , والدارمي: الصلاة (1242) . 2 أبو داود: الصلاة (823) , وأحمد (5/316, 5/322) . 3 سورة الأعراف آية: 204. 4 مسلم: الصلاة (404) , والنسائي: التطبيق (1064, 1172) والسهو (1280) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (901) , وأحمد (4/392, 4/401, 4/405) , والدارمي: الصلاة (1312) . 5 النسائي: الافتتاح (921) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (846) , وأحمد (2/376) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الرأي لقوله: "من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة". 1 ولنا: قوله: فانتهى الناس أن يقرؤوا فيما يجهر فيه. قيل لأحمد: رجل فاتته ركعة من المغرب أو العشاء مع الإمام، أيجهر أم يخافت؟ فقال: إن شاء جهر وإن شاء خافت. ثم قال: إنما الجهر للجماعة. قال الشافعي: يسن الجهر، لأنه غير مأمور بالإنصات. ويستحب أن يطيل الأولى من كل صلاة ليلحقه القاصد، وقال الشافعي: تكون الأوليان سواء، لحديث أبي سعيد: "حزرنا قيامه في الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية". 2 ووافقنا أبو حنيفة في الصبح، ووافق الشافعي في الباقي. ولنا: حديث أبي قتادة، وفيه: "يطوّل الأولى ويقصر الثانية"، وحديث أبي سعيد، رواه ابن ماجة. وفي الركعة الأخرى قدر النصف من ذلك، وهذا أولى لموافقته الأحاديث الصحيحة، ولو قدر التعارض قدم حديث أبي قتادة، لأنه أصح، ويتضمن ضبط التفريق بين الركعتين. وسئل أحمد عن الرجل يقرأ بسورة ثم يقرأ بها في الركعة الأخرى، قال: وما بأس بذلك. وقيل له: الرجلُ يقرأ على التأليف في الصلاة، اليوم سورة وغداً التي تليها، قال: ليس في هذا شيء، إلا أنه روي عن عثمان أنه فعل ذلك في المفصّل. وأكثر أهل العلم لا يرون الزيادة على "الفاتحة" في غير الأوليين. وعن الشافعي: يقرأ، "لأن أبا بكر قرأ في [الثالثة] 3 من المغرب: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} 4" ولنا: حديث أبي قتادة، وفعل أبي بكر قصد في الدعاء. وإذا حضرت الصلاة والعَشاء، بدأ بالعَشاء. قال ابن عباس: "لا نقوم إلى الصلاة وفي أنفسنا شيء". وقال مالك: يبدأ بالصلاة، إلا أن يكون طعاماً خفيفاً. ولنا: حديث أنس وعائشة   1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (850) , وأحمد (3/339) . 2 مسلم: الصلاة (452) , والنسائي: الصلاة (475) , وأبو داود: الصلاة (804) . 3 في الطبعة السلفية (الثانية) ، وصوابه: (الثالثة) ، كما في المخطوطة. 4 سورة آل عمران آية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وابن عمر، رواهن مسلم. ولا فرق بين أن يخشى فوات الجماعة أو لم يخش، فإن بدأ بالصلاة صحت. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه لو صلى بحضرة الطعام فأكمل صلاته، أنها تجزيه. وكذلك إذا صلى حاقناً. قال الطحاوي: لا يختلفون أنه لو شغل قلبه بشيء من الدنيا، أنه لا يستحب له الإعادة، كذلك إذا شغله البول. وإذا حضرت الجماعة وهو يحتاج إلى الخلاء، بدأ به ولو خاف فوات الجماعة، لا نعلم فيه خلافاً. وعن ثوبان، رفعه: "لا يحل لامرئ أن ينظر في جوف بيت امرئ حتى يستأذن، ولا يقوم إلى الصلاة وهو حاقن ". 1 حسنه الترمذي. فإن فعل صحت صلاته. وقال مالك: أحب أن يعيد إذا شغله ذلك، وحديث ثوبان قال ابن عبد البر: لا تقوم به حجة عند أهل العلم. والمشروع في الصلاة قسمان: واجب، ومسنون: والواجب نوعان: أحدهما: لا يسقط عمداً ولا سهواً، وهو عشرة: تكبيرة الإحرام، والقيام، والفاتحة، والركوع حتى يطمئن، والاعتدال حتى يطمئن، والسجود حتي يطمئن، والاعتدال بين السجدتين حتى يطمئن، والتشهد الأخير، والجلوس له، والسلام، والترتيب. وقد دل على وجوب أكثرها حديث المسيء، فإنها لو سقطت لسقطت عن الأعرابي لجهله، والجاهل كالناسي. فإن ترك منها شيئاً سهواً ثم ذكره في الصلاة أتى به. وإن لم يذكره حتى سلّم وطال الفصل بطلت. وإن لم يطل بنى على ما مضى من صلاته، نص أحمد على هذا؛ وبه قال الشافعي. وعن مكحول ومحمد بن أسلم الطوسي في المصلي ينسى سجدة أو ركعة: يصليها متى ذكرها، ويسجد سجدتي السهو. النوع الثاني: من الواجبات ما يسقط سهواً وتبطل الصلاة بتركه عمداً،   1 الترمذي: الصلاة (357) , وأحمد (5/280) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وهي ثمانية: التكبير غير الإحرام، والتسبيح في الركوع والسجود، والتسميع، والتحميد، وقول: "رب اغفر لي"، والتشهد الأول، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير. وعنه: أن هذه الثمانية ليست بواجبة، وهو قول أكثر الفقهاء. والنوع الثاني من المشروع: (السنن) ، وهي قسمان: سنن الأقوال. وسنن الأفعال. فلا تبطل بتركها عمداً، ولا يشرع السجود لتركها سهواً. ويستحب أن يجعل نظره إلى موضع سجوده، قال أحمد: الخشوع في الصلاة أن ينظر إلى موضع سجوده. و"يستحب أن يفرج بين قدميه، ويراوح بينهما إذا طال قيامه"، لحديث ابن مسعود، ولا يكثر من ذلك، لقول عطاء: إني لأحب أن يقل التحريك. ويكره أن يلتفت لغير حاجة، فإن كان لها لم يكره، لحديث سهل بن حنظلة. قال ابن عبد البر: جمهور الفقهاء على أن الالتفات لا يفسد الصلاة إذا كان يسيراً. و"يكره النظر إلى ما يلهيه"، لحديث عائشة في خميصة أبي جهم وقوله: "أميطي عنا قرامك ... إلخ" 1. و"يكره رفع البصر، لحديث أنس، وأن يصلي ويده على خاصرته، لحديث أبي هريرة، وأن يصلي وهو معقوص أو مكتوف"، لحديث ابن عباس. و"يكره أن يكف شعره وثيابه، وأن يعتمد على يده في الجلوس"، لحديث ابن عمر، و"أن يمس الحصى"، لحديث أبي ذرّ ومعيقب. ويكره العبث كله وما يشغله عن الصلاة، لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في كراهة هذا كله. وكره أحمد الترويح، إلا من الغم الشديد. ورخص فيه ابن سيرين وغيره. ويكره أن يغمض عينيه، نص عليه، وقال: هو فعل اليهود. ولا بأس بعدِّ الآي، وكرهه الشافعي. ولنا: أنه إجماع التابعين. ولا بأس بالإشارة بالعين واليد، لحديث جابر وغيره.   1 البخاري: الصلاة (374) , وأحمد (3/151, 3/283) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ولا بأس بقتل الحية والعقرب، "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهما في الصلاة". رواه أبو داود. وكرهه إبراهيم. و"يجوز قتل القمل، لأن عمر وأنساً والحسن فعلوه". و"لا بأس بالعمل اليسير للحاجة، لحديث فتح الباب لعائشة". وإذا بدره البصاق بصق في ثوبه وحك بعضه ببعض، وإن كان في غير المسجد فإن أحب فعل ذلك، وإن أحب بصق عن يساره أو تحت قدمه. قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامداً لا يريد إصلاح صلاته، أن صلاته فاسدة. و"إن تكلم جاهلاً بتحريمه، فيحتمل أن لا تبطل"، لحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم؛ وعليه يدل حديث معاوية بن الحكم، فإنه لم يأمره بالإعادة. وهذا مذهب الشافعي. وفي الناسي روايتان: إحداهما: لا تبطل، وهو قول مالك والشافعي، لحديث معاوية. وإن ظن أن صلاته تمت فتكلم، فإن كان سلاماً لم تبطل، رواية واحدة، لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلوه وبنوا على صلاتهم. وإن لم يكن سلاماً، فعنه: إن كان لمصلحتها لم تفسد. و"ممن تكلم بعد أن سلم: الزبير، وابناه عبد الله وعروة، وصوّبه ابن عباس"، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم. وعنه: تفسد بكل حال، لعموم الأخبار في المنع من الكلام. وعنه: لا تفسد بالكلام في تلك الحال، سواء كان من شأن الصلاة أو لم يكن، وهذا مذهب مالك والشافعي، لأنه نوع من النسيان، أشبه المتكلم جاهلاً. وإن تكلم مغلوباً مثل أن يخرج الحروف بغير اختياره، مثل أن يتثاءب فيقول: هاه، أو يتنفس فيقول: آه، أو يسعل فينطق بحرفين، أو يغلط في القراءة، أو يجيئه البكاء ولا يقدر على رده، فلا تفسد، نص عليه في البكاء، وقال: "قد كان عمر يبكي حتى يسمع له نشيج". وإن نام فتكلم، فقد توقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أحمد. وينبغي أن لا تبطل لرفع القلم عنه. وإن تكلم بكلام واجب، مثل أن يخشى على ضرير أو صبي وقوعه في هلكة، أو يرى ناراً يخاف أن تشتعل في شيء، ونحو هذا، ولا يمكن التنبيه بالتسبيح، فقال أصحابنا: تبطل، ويحتمل أن لا تبطل؛ وهو ظاهر مذهب الشافعي. وإن ضحك فبان حرفانن فسدت. وكذلك إن قهقه ولم يبن حرفان، وبه قال جابر وعطاء والشافعي، ولا نعلم فيه مخالفاًً. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة. وأكثر أهل العلم على أن التبسم لا يفسدها. فأما النفخ، فإن انتظم حرفان فسدت. وعنه: أكرهه، ولا أقول يقطع الصلاة. وروي عن ابن مسعود وغيره، لحديث الكسوف، وفيه: "ثم نفخ فقال: أف. أف.". 1 رواه أبو داود. وقال مهنا: رأيت أبا عبد الله يتنحنح في صلاته، قال أصحابنا: هذا محمول على أنه لم ينتظم حرفان. وظاهر حال أحمد أنه لم يعتبر ذلك، لأن النحنحة لا تسمى كلاماً. وإن أتى بذكر مشروع لينبه غيره، فهو ثلاثة أنواع: الأول: مشروع له، مثل أن يسهو إمامه فيسبح به، أو يترك الإمام ذكراً فيرفع المأموم صوته ليذكره به، أو ينوبه شيء فيسبح ليعلمه أنه في صلاة، فهذا لا يؤثر في قول أكثر أهل العلم. وحكي عن أبي حنيفة من أفهم غير إمامه بالتسبيح، فسدت صلاته، لأنه خطاب آدمي. ولنا: قوله: "من نابه شيء في الصلاة، فليقل: "سبحان الله""، 2 وهو عام في كل ما ينوبه. وفي معنى هذا: "الفتح على إمامه إذا أرتج عليه أو غلط"، روي ذلك عن عثمان وعلي، و"كرهه ابن مسعود". وقال أبو حنيفة: تبطل الصلاة به، لحديث علي، مرفوعاً: "لا تفتح على الإمام". 3 ولنا: "قوله لأبيّ: أصليت معنا؟ قال: نعم. قال: فما منعك؟ ". 4   1 أبو داود: الصلاة (1194) . 2 البخاري: الجمعة (1218) , ومسلم: الصلاة (421) , والنسائي: الإمامة (784) وآداب القضاة (5413) , وأحمد (5/330) , ومالك: النداء للصلاة (392) . 3 أبو داود: الصلاة (908) , وأحمد (1/146) . 4 أبو داود: الصلاة (907) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 رواه أبو داود، قال الخطابي: إسناده جيد. وحديث علي يرويه الحارث. وقد قال على نفسه: "إذا استطعمك الإمام فأطعمه". الثاني: ما لا يتعلق به تنبيه، إلا أنه لسبب من غير الصلاة، مثل حمد العاطس والاسترجاع، فلا يبطل، نص عليه، وذكر حديث على حين أجاب الخارجي. وقال أبو حنيفة: تفسد صلاته. ولنا: ما روى عامر بن ربيعة قال: "عطس رجل من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الحمد لله حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه، حتى يرضى ربنا، وبعد ما يرضى من أمر الدنيا والآخرة. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من القائل الكلمة؟ فإنه لم يقل بأساً. فقال: يارسول الله، أنا قلتها، لم أرد بها إلا خيراً، ما تناهت دون العرش". 1 رواه أبو داود. وقال الخلال: اتفق الجميع عن أبي عبد الله: أنه لا يرفع صوته، يعني: العاطس، وإن رفع فلا بأس، لحديث الأنصاري. الثالث: أن يقرأ بقصد تنبيه آدمي، مثل أن يقول: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} ، 2 يريد الإذن، أو لرجل اسمه يحيى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} ، 3 فعنه: تبطل، وهو مذهب أبي حنيفة. وعنه: ما يدل على الصحة، واحتج بحديث علي حين أجاب الخارجي. ويكره أن يفتح المصلي على من هو في صلاة أخرى، وإن فعل لم تبطل. ولا بأس أن يفتح على المصلي من ليس في صلاة. وإذا سلم على المصلي، لم يرد بالكلام، فإن فعل بطلت؛ وبه قال مالك والشافعي. وعن أبي هريرة أنه أمر   1 البخاري: الأذان (799) , والنسائي: الافتتاح (931) والتطبيق (1062) , وأبو داود: الصلاة (770) , وأحمد (4/340) , ومالك: النداء للصلاة (491) . 2 سورة الحجر آية: 46. 3 سورة مريم آية: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 بذلك. ولنا: حديث جابر، وفيه: "أنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أني كنت أصلي"، وحديث ابن مسعود: "يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا. قال: إن في الصلاة لشغلاً". 1 رواهما مسلم. ويرد السلام بالإشارة، وهذا قول مالك والشافعي. وإن رد بعد الصلاة فحسن، لحديث ابن مسعود، وفيه: "فرد عليه السلام". وسئل أحمد: أيسلّم على المصلي؟ قال: نعم، وكرهه عطاء وغيره. ومن ذهب إلى تجويزه احتج بقوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم} 2 أي: على أهل دينكم، و"لأنه صلى الله عليه وسلم حين سلموا عليه رد عليم إشارة ولم ينكر عليهم". وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المصلي ممنوع عن الأكل والشرب. وأجمع كل من نحفظ عنه: أن من أكل أو شرب في الفرض عامداً أن عليه الإعادة، فإن كان في التطوع أبطله في الصحيح من المذهب، وهو قول أكثر الفقهاء، وعنه: لا يبطلها. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": الصحيحك أن تسوية الصفوف سنّة، وظاهر كلام الشيخ وجوبه، وقال: مراد من حكاه إجماعاً استحبابه، لا نفي وجوبه. والأخرس يكبر بقلبه ولا يحرك لسانه، قال الشيخ: ولو قيل ببطلان الصلاة بذلك لكان أقرب. ويجب على المصلي أن يسمع نفسه، واختار الشيخ الاكتفاء بالإتيان بالحروف وإن لم يسمعها، ثم يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك ... إلخ"، واختار إجزاء الاستفتاح بخبر علي. واختار الشيخ أنه يقول هذا تارة وهذا أخرى.   1 البخاري: المناقب (3875) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (538) , وأحمد (1/376) . 2 سورة النور آية: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ولا يجهر بالبسملة، واختار الشيخ أنه يجهر بها وبالتعوذ والفاتحة في الجنازة ونحوها أحياناً، وقال: هو المنصوص، تعليماً للسنة. قال: ويستحب ذلك للتأليف، كما استحب أحمد ترك القنوت في الوتر، تأليفاً للمأموم. والمرأة لا ترفع صوتها أي: بالقراءة، قال الشيخ: تجهر إن صلت بنساء، ولا تجهر إن صلت وحدها. وإن قرأ بخارج عن المصحف لم تصح، وعنه: تصح، إذا صح سنده لصلاة الصحابة بعضهم خلف بعض، اختارها الشيخ وقال: قول أئمة السلف وغيرهم: مصحف عثمان أحد الحروف السبعة. وإن كان مأموماً لم يزد على: "ربنا ولك الحمد"، وعنه: يزيد "ملء السماء ... إلخ"، اختاره الشيخ، ثم يصلي الثانية كالأولى. وفي الاستعاذة روايتان: الثانية: يتعوذ، اختارها الشيخ وقال: آله: أهل بيته، والمختار دخول أزواجه فيهم. وتجوز الصلاة على غير الأنبياء منفرداً، وقيل: يحرم، اختاره الشيخ مع الشعار. وإذا نهض من التشهد الأول لا يرفع يديه، وعنه: يرفعهما، اختاره الشيخ. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة. قلت: هذا مبالغة، وليس بإجماع. قال ابن القيم: وهذه عادته، إذا رأى قول أكثر أهل العلم حكاه إجماعاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 باب سجود السهو قال أحمد: يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أشياء: سلّم من اثنتين فسجد، وسلّم من ثلاث فسجد، وفي الزيادة والنقصان، وقام من اثنتين ولم يتشهد، قال الخطابي: المعتمد عليه عند أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة، يعني: حديث ابن مسعود وأبي سعيد وأبي هريرة وابن بحينة. ومن سلّم قبل تمام صلاته ساهياً، ثم علم قبل طول الفصل، أتى بما بقي ثم يتشهد، ويسلم ثم يسجد. فإن لم يذكر حتى قام جلس لينهض، فإن هذا القيام واجب للصلاة، ولا نعلم في جواز إتمام الصلاة، خلافاً في حق من نسي ركعة فما زاد؛ والأصل في هذا: حديث أبي هريرة قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشاء"، 1 قال ابن سيرين: سماها لنا أبو هريرة ... الحديث، وفي آخره: فسألوه عن التشهد فقال: لم أسمعه، وأَحب إليَّ أن يتشهد. رواه أبو داود. فإن طال الفصل، استأنف الصلاة، وكذا قال مالك والشافعي. وقال الليث والأوزاعي: يبني ما لم ينتقض وضوؤه، فإن لم يذكر حتى شرع في أخرى فطال الفصل، بطلت الأولى، وإلا عاد إلى الأولى فأتمها، وبه قال الشافعي. وقال الحسن: إن شرع في تطوع بطلت المكتوبة، وقال مالك: أحب إلي أن يبتدئها. و"من كان إماماً فشك كم صلى، بنى على أكثر وهمه، ثم سجد بعد السلام"، كما روى ابن مسعود. وعنه: يبني على ذلك ولو منفرداً، قال في رواية الأثرم:   1 البخاري: الصلاة (482) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 بين التحري واليقين فرق. أما حديث عبد الرحمن بن عوف: "إذا لم يدر ثلاثاً صلى أو اثنتين، جعلها اثنتين"، 1 فهذا عمل على اليقين، والذي يتحرى يكون قد صلى ثلاثاً فيدخل قلبه شك، إنما صلى اثنتين إلا أن أكثر ما في نفسه أنه صلى ثلاثاً، فـ"هذا يتحرى أصوب ذلك، ويسجد بعد السلام". وروي هذا عن علي وابن مسعود، وقاله أصحاب الرأي. إن تكرر ذلك عليه، وإن كان أول ما أصابه، أعاد الصلاة، لقوله: "لا غرار في صلاة، ولا تسليم". 2 والرواية الثانية: "يبني على اليقين، ويسجد قبل السلام، إماماً كان أو منفرداً". وهو قول مالك والشافعي، لحديث أبي سعيد وعبد الرحمن. والأولى هي المشهورة عن أحمد، لحديث ابن مسعود. وإنما حملناه على الإمام لأن له من ينبهه، والمنفرد ليس كذلك؛ فيبني على اليقين ليحصل له تمام صلاته، ولا يكون مغرراً بها؛ وهو معنى قوله: "لا غرار في صلاة". وعلى الرواية الثانية، يحمل حديث أبي سعيد وعبد الرحمن، على من لا ظن له، وقول أصحاب الرأي يخالف السنة الثابتة. ومعنى: "لا غرار" أي: لا نقص من صلاته، ويحتمل أنه أراد: لا يخرج منها وهو شاك في تمامها. ومن بنى على اليقين لم يشك، وكذا من بنى على غالب ظنه ووافقه المأمومون أو ردوا عليه. وإذا سها الإمامُ لزم المأمومين تنبيهُهُ؛ فإن كانوا رجالاً سبحوا، وإن كانوا نساءً صفقن، وبه قال الشافعي. وقال مالك: التسبيح للكل لقوله: "من نابه شيء في صلاته فليقل: "سبحان الله"". 3 ولنا: حديث أبي هريرة: " التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء ". 4 وحديث مالك في حق الرجال، فإن حديثنا يفسره. وإذا سبح به اثنان يثق بقولهما، لزمه قبوله، سواء غلب على ظنه صوابهما أو خلافه. وقال الشافعي: إن غلب على ظنه خطؤهما، لم يعمل بقولهما. وإن كان على يقين من   1 الترمذي: الصلاة (398) . 2 أبو داود: الصلاة (928) . 3 البخاري: الجمعة (1218) , ومسلم: الصلاة (421) , والنسائي: الإمامة (784, 793) والسهو (1183) وآداب القضاة (5413) , وأبو داود: الصلاة (940) , وأحمد (5/336) , ومالك: النداء للصلاة (392) . 4 البخاري: الجمعة (1203) , ومسلم: الصلاة (422) , والترمذي: الصلاة (369) , والنسائي: السهو (1207, 1208, 1209, 1210) , وأبو داود: الصلاة (939) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1034) , وأحمد (2/241, 2/261, 2/317, 2/376, 2/432, 2/440, 2/473, 2/479, 2/493, 2/507, 2/529) , والدارمي: الصلاة (1363) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 صوابه لم يتابعهم. فإن لم يرجع حيث يلزمه الرجوع، بطلت صلاته وصلاة من تبعه عالماً. وعنه: يتبعونه في القيام استحباباً. وعنه: لا يتبعونه، لكن ينتظرونه ليسلم بهم. وإن تابعوه جهلاً بالتحريم، فصلاتهم صحيحة، "لأن الصحابة تابعوه في التسليم وفي الخامسة" في حديث ابن مسعود. فإن سبح به واحد لم يرجع، إلا أن يغلب على ظنه صدقه. والسجود كله عند أحمد قبل السلام، إلا في الموضعين اللذيْن ورد النص بهما، وهما: إذا سلم من نقص، أو تحرى الإمام فبنى على غالب ظنه. قال القاضي: لا يختلف قوله في هذين، واختلف قوله فيمن صلى خمساً هل يسجد قبل السلام أو بعده؟ وحكى أبو الخطاب رواية: "أن السجود كله قبل السلام"، وروي عن أبي هريرة؛ وهو مذهب الشافعي، لحديث ابن بحينة وأبي سعيد. وقال الزهري: كان آخر الأمرين السجود قبل السلام. وعنه: "ما كان من نقص فقبل السلام"، لحديث ابن بحينة، و "ما كان من زيادة سجد له بعد السلام"، لحديث ابن مسعود؛ وهو مذهب مالك. وقال أصحاب الرأي: "السجود كله بعد السلام"، لحديث ذي اليدين وابن مسعود. وروي عن أنس والحسن والنخعي، لحديث ثوبان رواه سعيد وحديث عبد الله بن جعفر، رواهما أبو داود. ولنا: "أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قبل وبعد"، ففي ما ذكرنا عمل بالجميع، وحديث ثوبان وابن جعفر قال الأثرم: لا يثبت واحد منهما، وأكثر أهل العلم يرون أنه إذا قام في موضع جلوس أو جلس في موضع قيام، أنه يسجد. وكان علقمة والأسود لا يسجدان لذلك. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين". 1 رواه مسلم عن ابن مسعود، وقوله عليه السلام: "لكل سهو سجدتان بعد التسليم". 2 رواه أبو داود.   1 البخاري: الصلاة (401) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (572) , والنسائي: السهو (1243) , وأحمد (1/424) . 2 أبو داود: الصلاة (1038) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1219) , وأحمد (5/280) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وإن قام عن التشهد الأول، فذكر قبل اعتداله، رجع، وبه قال الشافعي وابن المنذر. وقال مالك: إن فارقت إليتاه الأرض مضى. ولنا: حديث المغيرة: "إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائماً، فليجلس". 1 الحديث رواه أبو داود. وقال النخعي: يرجع ما لم يستفتح القراءة. ولنا: حديث المغيرة. وقال الحسن: يرجع ما لم يركع. وإن قام من السجدة الأولى، ولم يجلس للفصل [بين السجدتين] ، 2 فقد ترك ركنين. فإن ذكر قبل الشروع في القراءة، لزمه الرجوع، لا أعلم فيه خلافاً. فإذا رجع، جلس ثم يسجد الثانية. وإن قام عن التشهد الأخير إلى زائدة، جلس له متى ذكره. والزيادات على ضربين: أقوال وأفعال. فزيادة الأفعال: قسمان: أحدهما: من جنس الصلاة، مثل قيامه في موضع جلوسه أو عكسه، فهذا تبطل بعمده، ويسجد لسهوه. الثاني: من غير جنسها، كالحك والمشي، فهذا تبطل بكثيره عمداً كان أو سهواً. والأقوال قسمان: أحدهما: ما يبطل عمده الصلاة، كالسلام والكلام، فإذا أتى به سهواً، سجد. الثاني: ما لا يبطل عمده، وهو نوعان: أحدهما: أن يأتي بذكر مشروع فيها في غير محله، كالقراءة في الركوع والتشهد في القيام، فهل يشرع له سجود إذا فعله؟ على روايتين: إحداهما:   1 أبو داود: الصلاة (1036) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1208) , وأحمد (4/253) . 2 زيادة من المخطوطة 465/86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 لا يشرع، لأنها لا تبطل بعمده. والثانية: يشرع، لقوله: " إذا نسى أحدكم، فليسجد سجدتين وهو جالس". 1 رواه مسلم. فإن قلنا: يشرع، فهو مستحب. قال أحمد: إنما السهو الذي يجب فيه السجود ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن يأتي بذكر أو دعاء لم يشرع، كقوله: "آمين رب العالمين" و"الله أكبر كبيراً"، فلا يشرع له سجود، "لأنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: "الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى"، فلم يأمره بالسجود". وإذا جلس للتشهد في غير موضعه قدر جلسة الاستراحة، فقال القاضي: يلزمه السجود، ويحتمل ألا يلزمه، لأنه لا يبطل عمده. والجهر والإخفات في غير موضعه فيه روايتان: إحداهما: لا يشرع السجود لسهوه، وهو مذهب الشافعي. "وجهر أنسٌ في الظهر والعصر، فلم يسجد". والثانية: يشرع، وهو مذهب مالك في الإمام، لقوله: "إذا نسى أحدكم، فليسجد سجدتين". 2 فإن قلنا بها، فالسجود غير واجب، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسْأَل عمن سها فجهر فيما يخافت فيه، هل عليه سجود؟ قال: أما عليه، فلا أقول عليه، ولكن إن شاء سجد، وذكر حديثاً عن عمر أو غيره أنه كان سمع منه نغمة في صلاة الظهر، قال: "وأنس جهر فلم يسجد وقال: إنما السهو الذي يجب فيه السجود ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم". وإن قام إلى خامسة في رباعية، أو رابعة في المغرب، رجع متى ذكر، فإن كان قد تشهد عقيب الركعة التي تمت بها صلاته، سجد للسهو ثم سلّم، وإلا تشهد وسجد وسلّم. فإن لم يذكر حتى فرغ، سجد وصحت صلاته، وبه قال مالك والشافعي. وقال الأوزاعي، فيمن صلى المغرب أربعاً: يضيف إليها أخرى، فتكون الركعتان   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (572) , والنسائي: السهو (1242, 1243, 1244, 1245, 1246) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1203) , وأحمد (1/379, 1/424) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (572) , والنسائي: السهو (1242, 1243, 1244, 1245, 1246) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1203) , وأحمد (1/379, 1/424) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 تطوعاً، لقوله في حديث أبي سعيد: "فإن كان صلاته تامة، كانت الركعة نافلة والسجدتين"، 1 وفي رواية: "فإن كان صلى خمساً، شفعن له صلاته ". 2 ولنا: حديث ابن مسعود حين صلى خمساً، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلس عقيب الرابعة، فلم تبطل صلاته، ولم يضف إلى الخامسة أخرى. وقال أبو حنيفة: إن لم يكن جلس في الرابعة بطل فرضه، وحديث أبي سعيد حجة عليهم، فإنه جعل الزائدة نافلة من غير أن يفصل بينها وبين التي قبلها بجلوس، وجعل السجدتين يشفعها بها، ولم يضف إليها ركعة أخرى؛ وهذا كله خلاف ما قالوه، فخالفوا الخبرين، وقولنا يوافقهما جميعاً. وإذا نسي السجود ثم ذكر بعد طول الفصل في المسجد، سجد سواء تكلم أو لا، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: إن تكلم بعد الصلاة سقط عنه سجود السهو. وكان الحسن وابن سيرين يقولان: "إذا صرف وجهه عن القبلة، لم يبين ولم يسجد". ولنا: حديث ابن مسعود: "أنه صلى الله عليه وسلم سجد بعد السلام والكلام"، 3 وحديثه الآخر، وفيه: "فلما انفتل توشوش القوم بينهم ... إلخ". فإن خرج من المسجد لم يسجد، نص عليه. وقال الشافعي: يُرجع في طول الفصل وقصره إلى العادة، "لأنه صلى الله عليه وسلم رجع إلى المسجد بعد خروجه منه" في حديث عمران بن حصين، وعنه رواية أخرى: يسجد وإن خرج وتباعد، وهو قول ثان للشافعي. ويكبر للسجود والرفع منه، وإن كان بعد السلام، تشهد وسلّم وبه، قال الشافعي في التشهد والتسليم. وقال أنس والحسن: "ليس فيهما تشهد ولا تسليم". وقال ابن سيرين وابن المنذر: فيهما تسليم بغير تشهد. قال ابن المنذر: التسليم فيهما ثابت من غير وجه، وأما التشهد ففي ثبوته نظر. ولنا: على التكبير حديث ابن بحينة، وقول أبي هريرة: "ثم كبر وسجد"، والتسليم ذكره عمران بن حصين   1 أبو داود: الصلاة (1024) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (571) , والنسائي: السهو (1238, 1239) , وأبو داود: الصلاة (1024, 1026) , وأحمد (3/72, 3/83, 3/84, 3/87) , ومالك: النداء للصلاة (214) , والدارمي: الصلاة (1495) . 3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (572) , والترمذي: الصلاة (393) , وأحمد (1/456) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 عند مسلم، وفي حديث ابن مسعود: "ثم سجد سجدتين، ثم سلّم". ولأبي داود في حديث عمران: "ثم تشهد ثم سلم". قال الترمذي: حسن غريب. ويحتمل أن لا يجب التشهد لأن ظاهر الحديثين الأولين أنه سلم من غير تشهد، وهما أصح من هذه الرواية. وإذا نسيه حتى طال الفصل، لم تبطل الصلاة، وبه قال الشافعي. وعن أحمد: إن خرج عن المسجد، أعاد الصلاة؛ وهو قول مالك فيما قبل السلام. وسجود السهو لما يبطل عمده الصلاة واجب، وعنه: أنه غير واجب؛ وهذا قول الشافعي، لقوله: " كانت الركعة والسجدتان نافلة له". 1 ولنا: أنه أمر به وفعله، وقوله: "نافلة" أي: له ثواب، كما سمى الركعة نافلة، وهي واجبة على الشاك بلا خلاف. فأما ما لا يبطل عمده فغير واجب، قال أحمد: إنما يجب السجود فيما روي عنه صلى الله عليه وسلم، يعني: وما في معناه؛ فنقيس على زيادة خامسة سائر زيادات الأفعال من جنسها، وعلى ترك التشهد [الأول] 2 ترك غيره من الواجبات، وعلى التسليم من نقصان زيادات الأقوال المبطلة عمداً، فإن ترك الواجب عمداً، فإن كان قبل السلام بطلت، وإن كان بعده لم تبطل، وعنه: ما يدل على البطلان، وعنه: التوقف. إذا سها سهوين أو أكثر من جنس، كفاه سجدتان، لا نعلم أحداً خالف فيه. وإن كان من جنسين فكذلك، وهو قول أكثر أهل العلم. وقال الأوزاعي: يسجد سجودين، لقوله: "لكل سهو سجدتان". 3 ولنا: قوله: "إذا نسي أحدكم، فليسجد سجدتين"، 4 "ولأنه صلى الله عليه وسلم سها فسلّم وتكلم بعد سلامه، فسجد سجوداً واحداً"، وحديثهم في إسناده مقال، ثم المراد به كل سهو في   1 أبو داود: الصلاة (1024) . 2 زيادة من المخطوطة 465/86. 3 أبو داود: الصلاة (1038) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1219) , وأحمد (5/280) . 4 البخاري: الصلاة (401) والأيمان والنذور (6671) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (572) , والنسائي: السهو (1242, 1243, 1244, 1245, 1246) , وأبو داود: الصلاة (1020, 1022) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1203, 1212) , وأحمد (1/379, 1/424) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 صلاة، والسهو وإن كثر فهو داخل في لفظ السهو لأنه اسم جنس، ولذلك قال: "لكل سهو سجدتان بعد السلام" 1 هكذا في رواية أبي داود، [ولا] 2 يلزمه بعد السلام سجودان، ومعنى الجنسين: أن يكون أحدهما قبل السلام والآخر بعده. وليس على المأموم سجود سهو، إلا أن يسهو إمامه فيسجد، في قول عامة أهل العلم. وعن مكحول أنه قام عن قعود إمامه فسجد. ولنا: حديث معاوية بن الحكم. وإذا سها الإمام، فعلى المأموم متابعته، حكاه ابن المنذر إجماعاً. وإذا كان مسبوقاً فسها الإمام فيما لم يدركه فيه، فعليه متابعته. وقال ابن سيرين وإسحاق: يقضي ثم يسجد. وقال مالك والشافعي في السجود قبل السلام كقولنا، وبعده كقول ابن سيرين. ولنا: قوله: " فإذا سجد فاسجدوا"، 3 وقوله: " فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه ". إذا ثبت هذا، فمتى قضى ففي إعادة السجود روايتان: إحداهما: يعيده، لأنه مع إمامه متابعاً له. والثانية: لا يلزمه السجود، لأن سجود إمامه قد كملت به الصلاة في حقهما. فإن نسي الإمام السجود، سجد المسبوق في آخر صلاته، رواية واحدة. إذا سها المأموم فيما ينفرد فيه بالقضاء، سجد، رواية واحدة. وهكذا لو سها فسلّم مع إمامه، قام فأتم، ثم سجد بعد السلام. فأما غير المسبوق إذا سها إمامه فلم يسجد، فهل يسجد؟ فيه روايتان: إحداهما: يسجد، وهو قول مالك والشافعي. والثانية: لا يسجد، روي عن عطاء والحسن والقاسم وأصحاب الرأي. وإذا قام المأموم لقضاء ما فاته، فسجد إمامه بعد السلام، فحكمه حكم القائم عن التشهد الأول، نص عليه. وليس على المسبوق ببعض الصلاة سجود، في قول أكثر أهل   1 أبو داود: الصلاة (1038) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1219) , وأحمد (5/280) . 2 لفظ: (لا) زيادة من المخطوطة 465/86. 3 البخاري: الصلاة (378) , ومسلم: الصلاة (411) , والترمذي: الصلاة (361) , والنسائي: الإمامة (794) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1238) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 العلم. ويروى عن ابن عمر وابن الزبير وإسحاق: "فيمن أدرك وتراً من صلاة إمامه، سجد للسهو، لأنه يجلس للتشهد في غير موضعه". ولنا: قوله: "وما فاتكم فأتموا"، 1 ولم يأمر بالسجود، وقد "فاته صلى الله عليه وسلم بعض الصلاة مع عبد الرحمن بن عوف، فقضى"، ولم يكن لذلك سجود، والحديث رواه مسلم، وقد جلس في غير موضع تشهده. ولا يشرع السجود لشيء تركه أو فعله عمداً. وقال الشافعي: يسجد لترك التشهد والقنوت عمداً. وحكم النافلة حكم الفرض، في قول عامة أهل العلم، إلا ابن سيرين، وهو يخالف عموم الأمر به. ولو قام إلى ثالثة في صلاة الليل، كالقيام إلى ثالثة لفجر، نص عليه. وقال مالك: يتمها أربعاً ويسجد. وقال الأوزاعي في صلاة النهار كقوله، وفي صلاة الليل: إن ذكر قبل ركوعه في الثالثة جلس، وإلا أتمها أربعاً. ولنا: قوله: "صلاة الليل مثنى مثنى" 2. ولا يُشْرَع في صلاة جنازة وسجود تلاوة وسجود سهو، قال إسحاق: هو إجماع. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": ظاهر كلام الأصحاب: لا يرجع إلى فعل المأموم. ونقل أبو طالب: إذا صلى بقوم تحرى ونظر إلى من خلفه، فإن قاموا تحرى وقام، وإن سبحوا به، تحرى وفعل ما يفعلون. واختار المجد: لا تبطل بالعمل الكثير سهواً، لقصة ذي اليدين، فإنه مشى وتكلم ودخل منزله، وبنى على ما تقدم من صلاته. وإن تكلم في صلبها بطلت، عمداً أو سهواً، وعنه: لا تبطل [في السهو] ، 3 اختاره الشيخ. ولو نام فتكلم، أو سبق على لسانه حال قراءة، أو غلبة سعال أو   1 البخاري: الأذان (635) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) , وأحمد (5/306) , والدارمي: الصلاة (1283) . 2 البخاري: الجمعة (991) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (749) , والترمذي: الصلاة (437) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1666, 1667, 1668, 1669, 1670, 1671, 1672, 1673, 1674, 1692, 1694) , وأبو داود: الصلاة (1421) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1174, 1175, 1322) , وأحمد (2/26, 2/44, 2/51, 2/58, 2/71, 2/76, 2/81, 2/100, 2/102, 2/113, 2/119, 2/133, 2/134, 2/141, 2/148, 2/154) , ومالك: النداء للصلاة (269) , والدارمي: الصلاة (1458) . 3 من المخطوطة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 عطاس أو تثاؤب ونحوه، فبان حرفان، لم تبطل. وإن لم يغلبه، بطلت، وقال الشيخ: هو كالنفخ وأولى. وإن قهقه فبان حرفان فكالكلام، وعنه: كالكلام ولو لم يبن حرفان، اختاره الشيخ. واختار أن النفخ ليس كالكلام، ولو بان حرفان فأكثر لا تبطل به. ومن شك في عدد الركعات بنى على اليقين، وعنه: على غالب ظنه، اختاره الشيخ، [وقال:] 1 على هذا عامة أمور الشرع؛ وإن مثله يقال في طواف وسعي ورمي جمار وغير ذلك. والسجود قبل السلام أو بعده، لا خلاف في جواز الأمرين، قاله القاضي. وإنما الكلام في الأفضل. وذكره بعض المالكية والشافعية إجماعاً، وقيل: محله وجوباً، اختاره الشيخ. وقال: عليه يدل كلام أحمد، وإن نسيه قبل السلام قضاه ما لم يطل الفصل. وعنه: يسجد وإن بعد، اختاره الشيخ. وعنه: ما كان من زيادة فهو بعد السلام، وما كان من نقص كان قبله، فيسجد من أخذ باليقين قبل السلام، ومن أخذ بظنه بعده، اختاره الشيخ.   1 من المخطوطة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 باب صلاة التطوع التطوع قسمان: تطوع في ليل، فلا يجوز إلا مثنى، هذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: إن شئت ركعتين، وإن شئت أربعاً [وإن شئت ستاً] . 1 ولنا: حديث عائشة، متفق عليه. وتطوع النهار الأفضل فيه مثنى مثنى، لحديث علي البارقي: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى". رواه أبو داود، ولأنه أشبه بتطوعاته صلى الله عليه وسلم. وذهب مالك والشافعي إلى أن الليل والنهار مثنى مثنى، والصحيح: أنه "إن تطوع في النهار أربعاً فلا بأس، فعله ابن عمر". وكان إسحاق يقول: صلاة النهار أربعاً، وإن صلى ركعتين جاز. ومفهوم الحديث المتفق عليه يدل على جواز الأربع، لا تفضيلها. وأما حديث البارقي، فتفرد بزيادة النهار، ورواه عن ابن عمر نحو من خمس عشرة نفساً، لم يقله أحد سواه. "وكان ابن عمر يصلي أربعاً". والتطوع قسمان: أحدهما: ما تسن له الجماعة، كالكسوف والتراويح. والثاني: ما يفعل على الانفراد، وهي قسمان: سنة معيّنة، ونافلة مطلقة. فأما المعيّنة: فأنواع، منها الرواتب وهي عشر. وقال الشافعي: "قبل الظهر أربع"، لحديث عائشة، رواه مسلم. وآكدها: ركعتا الفجر، لما ورد، و"يستحب   1 زيادة من المخطوطة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 تخفيفهما"، لحديث عائشة، و"يقرأ فيهما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} 1 و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، 2" لحديث أبي هريرة، وحديث ابن عباس، في آيتي "البقرة" و"آل عمران"، رواه مسلم. ويستحب الاضطجاع بعدها على جنبه الأيمن. وعنه: "ليس بسنة، لأن ابن مسعود أنكره"، ولنا: حديث عائشة: "ويقرأ في الركعتين بعد المغرب بسورتي الإخلاص"، 3 لحديث ابن مسعود، رواه الترمذي. ويستحب فعل السنن في البيت، قال أحمد: ليس ههنا آكد من الركعتين بعد المغرب، وذكر حديث ابن إسحاق: "صلوا هاتين الركعتين في بيوتكم"، 4 وقال: لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم قضى شيئاً من التطوع، إلا ركعتي الفجر، والركعتين بعد العصر؛ قال ابن حامد: وقسنا الباقي عليه. وأما الركعتان بعد أذان المغرب، فظاهر كلام أحمد: أنهما جائزتان وليستا سنة، وقال: فيهما أحاديث جياد. وأما الركعتان بعد الوتر، فقال: أرجو إن فعله إنسان ألا يضيق عليه، ولكن وهو جالس. قيل له: تفعله أنت؟ قال: لا. والصحيح أنهما ليستا بسنة، لأن أكثر من وصف تهجده صلى الله عليه وسلم لم يذكرهما، وأكثر الصحابة ومن بعدهم على تركهما. وصلاة الضحى مستحبة، لحديث أبي هريرة وأبي الدرداء، رواهما مسلم. وأقلهما: ركعتان، للخبر. و [أفضل] 5 وقتها: إذا علت الشمس واشتد حرها، لقوله: "صلاة الأوابين حين ترمض الفصال". 6 رواه مسلم. ويسن لمن دخل المسجد أن لا يجلس حتى يصلي ركعتين. فأما النوافل المطلقة، فتشرع، إلا في أوقات النهي. وتطوع الليل أفضل، قال أحمد ليس بعد المكتوبة عندي أفضل من   1 سورة الكافرون آية: 1. 2 سورة الإخلاص آية: 1. 3 الترمذي: الصلاة (431) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1166) . 4 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1165) . 5 زيادة من المخطوطة السابقة. 6 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (748) , وأحمد (4/366, 4/367, 4/372, 4/374) , والدارمي: الصلاة (1457) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 قيام الليل. وعن أبي هريرة، رفعه: "أفضل الصلاة بعد الفريضة، صلاة الليل". 1 رواه مسلم. و"أفضل التهجد جوف الليل الآخر"، لحديث عائشة وابن عباس، قال أحمد: إذا أغفى، يعني: بعد التهجد، فإنه لا يبين عليه أثر السهر، وإذا لم يغف يبين عليه. ويستحب أن يتسوك، يعني: إذا قام من الليل، لحديث حذيفة، وأن يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين، لحديث أبي هريرة. و"يستحب أن يقرأ جزءاً من القرآن في تهجده، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله. وهو مخير بين الجهر والإسرار"، لحديث عائشة. ومن كان له تهجد ففاته، استحب له قضاؤه بين صلاة الفجر والظهر، للحديث. و"يجوز التطوع جماعة وفرادى، لأنه صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين". ولا نعلم خلافاً في إباحة التطوع جالساً، وأن القيام أفضل. و"هو مخير في الركوع والسجود، إن شاء من قيام، وإن شاء من قعود، لأنه صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين"، قال أحمد: العمل على كلا الحديثين. والوتر ركعة، نص عليه، وهو مذهب مالك والشافعي. وقال هؤلاء: يصلي ركعتين ثم يسلم، ثم يوتر بركعة. قال أحمد: أنا أذهب في الوتر إلى ركعة، ومن أوتر بثلاث أو أكثر فلا بأس. والقنوت مسنون في جميع السنة، وعنه: في النصف الأخير من رمضان، وبه قال مالك والشافعي. وعنه: لا يقنت في صلاة بحال، ويقنت بعد الركوع، نص عليه، وبه قال الشافعي. وعنه: أنا أذهب إلى أنه بعد الركوع، وإن قنت قبله فلا بأس. وقال مالك: قبل الركوع. ولنا: حديث أبي هريرة وأنس وغير واحد، وحديث ابن مسعود يرويه أبان بن أبي عياش، وهو متروك، وحديث أُبيّ قد تُكُلِّم فيه، وقيل: ذكر القنوت فيه غير صحيح. ويستحب   1 مسلم: الصيام (1163) , والترمذي: الصلاة (438) , وأبو داود: الصوم (2429) , وأحمد (2/303, 2/329, 2/342, 2/344, 2/535) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أن يقول في قنوت الوتر ما روى الحسن بن علي. وعن عمر: "أنه قنت بسورتي أبي"، قال ابن قتيبة: نحفد: نبادر، والجد، أي: الحق لا اللعب، وملحِق، بكسر الحاء: لاحق؛ هكذا يروى. يقال: لحقت القوم وألحقتهم بمعنى واحد. ومن فتح الحاء، أراد: أن الله ملحقهم إياه، وهو معنى صحيح، غير أن الرواية هي الأولى. ويؤمّن من خلف الإمام، لا نعلم فيه خلافاً، قاله إسحاق. وقال الأثرم: كان أحمد يرفع يديه في القنوت إلى صدره، واحتج بأن "ابن مسعود رفع يديه إلى صدره في القنوت"، أنكره مالك. وهل يمسح وجهه بيديه إذا فرغ؟ فيه روايتان: إحداهما: لا، قال أحمد: ما سمعت فيه بشيء. ولا يسن القنوت قي الصبح ولا غيرها، سوى الوتر. وعن مالك والشافعي: يقنت في الصبح، ولنا: حديث أنس وأبي هريرة، قال إبراهيم: "أول من قنت: عليّ في صلاة الغداة"، وذلك أنه كان محارباً يدعو على أعدائه، وقنوت عمر يحتمل أنه في النوازل، فإن أكثر الروايات عنه: أنه لم يكن يقنت. قال أحمد: إذا نزل بالمسلمين أمر، قنت الإمام في الفجر، وأمّن من خلفه، ثم قال: مثل ما نزل بالمسلمين من هذا الكافر، يعني: بابك. قال عبد الله عن أبيه: "كل شيء ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت، فإنما هو في الفجر، ولا يقنت إلا في الفجر إذا كان مستنصراً يدعو للمسلمين". وقال أبو الخطاب: يقنت في الفجر والمغرب. والذي اختار أحمد: أن تفصل ركعة الوتر مما قبلها، وقال: إن أوتر بثلاث لم يسلّم فيهن، لم يضيق عليه. وحجة من لم يفصل: قول عائشة: "أنه كان يوتر بأربع وثلاث، وست وثلاث، وثمان وثلاث"، 1 وقولها: "كان يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن. ثم يصلي أربعاً كذلك، ثم يصلي ثلاثاً". 2 وقالت: "كان يوتر بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن". 3 رواه مسلم. ولنا: قولها: "كان يسلّم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة"، 4 وقوله: "صلاة الليل   1 أبو داود: الصلاة (1362) . 2 البخاري: الجمعة (1147) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (738) , والترمذي: الصلاة (439) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1697) , وأبو داود: الصلاة (1341) , وأحمد (6/36, 6/39, 6/73, 6/104) , ومالك: النداء للصلاة (265) . 3 النسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1717) . 4 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (736) , والنسائي: الأذان (685) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1358) , وأحمد (6/143, 6/215) , والدارمي: الصلاة (1447, 1473, 1585) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة"، 1 وقال: " الوتر ركعة من آخر الليل". 2 رواه مسلم. وحديثها الذي ذكروه ليس فيه تصريح بأنها بتسليم واحد، وأما إذا أوتر بخمس فيأتي. وقال أحمد فيمن يوتر فيسلّم من الثنتين، فيكرهونه أهل المسجد: فلو صار إلى ما يريدون. يعني: لا تضر موافقتهم. ويجوز أن يوتر بإحدى عشرة، وبتسع، وبسبع، وبخمس، وبثلاث، وبواحدة. فإن أوتر بإحدى عشرة سلّم من ركعتين، وإن أوتر بثلاث سلّم من الثنتين وأوتر بواحدة، وإن أوتر بخمس لم يجلس إلا في آخرهنَّ، وإن أوتر بسبع جلس عقيب السادسة فتشهد ولم يسلّم، ثم يجلس بعد السابعة فيتشهد ويسلم. وإن أوتر بتسع لم يجلس إلا عقيب الثامنة، فيتشهد [ثم يقوم ويأتي 3 بالتاسعة] ، ويسلم. ونحوه قال إسحاق، ثم ذكر حديث زيد بن ثابت في الخمس، وكذلك حديث عائشة. وأما التسع والسبع فذكر فيهن حديث سعيد بن هشام عن عائشة. وقال القاضي في السبع: لا يجلس إلا في آخرهن كالخمس، ولعله يحتج بحديث ابن عباس: "صلى سبعاً أو خمساً، لم يجلس إلا في آخرهن". وعن أم سلمة نحوه، رواه ابن ماجة، وكلا الحديثين فيه شك في السبع، وليس في واحد منهما أنه لا يجلس عقيب السادسة. والوتر غير واجب، وبه قال مالك والشافعي، وأوجبه أبو حنيفة، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر به، ولحديث بريدة، مرفوعاً: "من لم يوتر فليس منا". 4 رواه أحمد. ولنا: حديث عبادة، وفيه: كذب أبو محمد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن الله ... إلخ"، 5 وحديث ضمام، وأحاديثهم قد تكلم فيها. ثم المراد بها تأكيد فضيلته، والأفضل فعله آخر الليل. و"من كان له تهجد، جعله بعده، لفعله صلى الله عليه وسلم".   1 البخاري: الجمعة (991) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (749) , والترمذي: الصلاة (437) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1666, 1667, 1668, 1669, 1670, 1671, 1672, 1673, 1674, 1692, 1694) , وأبو داود: الصلاة (1421) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1174, 1175, 1322) , وأحمد (2/26, 2/44, 2/51, 2/58, 2/71, 2/76, 2/81, 2/100, 2/102, 2/113, 2/119, 2/133, 2/134, 2/141, 2/148, 2/154) , ومالك: النداء للصلاة (269) , والدارمي: الصلاة (1458) . 2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (752) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1689, 1690, 1691) , وأبو داود: الصلاة (1421) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1175) , وأحمد (2/43) . 3 زيادة من المخطوطة السابقة. 4 أبو داود: الصلاة (1419) , وأحمد (5/357) . 5 النسائي: الصلاة (461) , وأبو داود: الصلاة (425, 1420) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1401) , وأحمد (5/315, 5/317, 5/319, 5/322) , ومالك: النداء للصلاة (270) , والدارمي: الصلاة (1577) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فإن خاف ألا يقوم من آخر الليل، استحب له أن يوتر أوله، لأنه صلى الله عليه وسلم أوصى أبا هريرة وغيره بالوتر قبل النوم وقال: "من خاف أن لا يقوم آخر الليل، فليوتر من أوله". 1 وكلها صحاح. وأي وقت أوتر من الليل بعد العشاء أجزأ، لا نعلم فيه خلافاً. [فأما] 2 من أوتر ثم قام للتهجد، فالأفضل أن يصلي مثنى مثنى، ولا ينقض وتره؛ وبه قال مالك. قيل لأحمد: لا ترى نقض الوتر؟ قال: لا، ثم قال: وإن ذهب إليه رجل فأرجو، لأنه قد فعله جماعة، وهو قول إسحاق؛ ولعلهم ذهبوا إلى قوله: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً". 3 ولنا: حديث طلق بن علي، رفعه: "لا وتران في ليلة". 4 حسنه الترمذي. فإن صلى مع الإمام وأحب متابعته، لم يسلم وقام فصلى ركعة شفع بها صلاته، نص عليه، وقال: إن شاء قام على وتره وشفع إذا قام، وإن شاء صلى مثنى. قال: ويشفع مع الإمام بركعة أحب إلي. ويستحب أن يقرأ في ركعات الوتر الثلاث: في الأولى بـ"سبح"، وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، 5 وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} . 6 وقال الشافعي: "يقرأ في الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، 7 والمعوذتين"، لحديث عائشة، رواه ابن ماجة. ولنا: حديث أبيّ بن كعب، وحديث عائشة لا يثبت. وقد أنكر أحمد ويحيى بن معين زيادة المعوذتين. قال أحمد: الأحاديث التي جاءت: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر بركعة كان قبلها صلاة متقدمة، قيل له: أيوتر في السفر بواحدة؟ قال: يصلي قبلها ركعتين". قيل لأحمد: رجل قام يتطوع، ثم بدا له فجعل تلك الركعة وتراً، قال: لا. وكيف يكون؟ هذا قد قلب نيته. قيل له: أيبتدئ الوتر؟ قال: نعم. انتهى من الشرح. وقال: إذا قنت قبل الركوع، كبر ثم أخذ في القنوت. وقد روي عن عمر: "أنه إذا فرغ من القراءة كبر، ثم قنت، ثم كبر حين يركع"، روي ذلك   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (755) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1187) , وأحمد (3/337, 3/348, 3/389) . 2 كذا في المخطوطة، وفي نسخة: (و) . 3 البخاري: الجمعة (998) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (751) , وأبو داود: الصلاة (1438) . 4 الترمذي: الصلاة (470) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1679) , وأبو داود: الصلاة (1439) . 5 سورة الكافرون آية: 1. 6 سورة الإخلاص آية: 1. 7 سورة الإخلاص آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 عن علي وابن مسعود، ولا نعلم فيه مخالفاًً. و"يستحب أن يقول بعد وتره: "سبحان الملك القدوس" ثلاثاً، ويمد صوته في الثالثة"، لحديث أبيّ بن كعب وابن أبزى. و"صلاة التراويح سنّة مؤكدة سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنسب إلى عمر، لأنه جمع الناس على أبيّ بن كعب". والمختار عند أحمد: عشرون ركعة، وبه قال الشافعي. وقال مالك: ستة وثلاثون. ولنا: "أنّ عمر لما جمع الناس على أبيّ، كان يصلي بهم عشرين ركعة". وأما ما رواه صالح، فإن صالحاً ضعيف، ثم ما ندري مَنِ الناس الذين روى عنهم، وما كان عليه الصحابة أولى؟ والمختار عند أحمد: فعلها في الجماعة، وقال: إن كان رجل يقتدي به فصلاها في بيته، خفت أن يقتدى به. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقتدوا بالخلفاء". وقال مالك والشافعي: هي لمن قوي في البيت أحب إلينا، لحديث زيد بن ثابت: "احتجز رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة، فجاء رجال يصلّون بصلاته"، فيه: "فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة". 1 رواه مسلم. ولنا: إجماع الصحابة، وجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأهله، وقال في حديث أبي ذر: "إن القوم إذا صلَّوا مع الإمام حتى ينصرف، كتب لهم قيام تلك الليلة"، 2 وهذا خاص في قيام رمضان، فيقدم على عموم ما احتجوا به. وقال أحمد: يقرأ بالقوم في رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم. وقال: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه، لقوله: "إذا قام مع الإمام حتى ينصرف، كتب له قيام ليلته". 3 وقيل له: تؤخر القيام في التراويح إلى آخر الليل؟ قال: لا، سنة المسلمين أحب إليّ. وكره أحمد التطوع بين التراويح، وقال: فيه عن ثلاثة من الصحابة. قيل: فيه رخصة عن بعض الصحابة؟ قال: هذا باطل، إنما فيه عن الحسن وسعيد بن جبير وعن أبي الدرداء: "أنه بصر من يصلي بين التراويح، فقال: أتصلي وإمامك بين يديك؟ ليس   1 البخاري: الأدب (6113) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (781) , والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1599) , وأبو داود: الصلاة (1447) , وأحمد (5/182) , والدارمي: الصلاة (1366) . 2 الترمذي: الصوم (806) , والنسائي: السهو (1364) , والدارمي: الصوم (1777) . 3 الترمذي: الصوم (806) , والنسائي: السهو (1364) , وأبو داود: الصلاة (1375) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) , وأحمد (5/159, 5/163) , والدارمي: الصوم (1777) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 منا من رغب عنا"، وقال: "من قلة فقه الرجل: أن يُرى أنه في المسجد وليس في صلاة". وأما التعقيب وهو: أن يصلي بعد التراويح نافلة أخرى في جماعة، أو التراويح في جماعة أخرى، فعنه: لا بأس، لأن أنساً قال: "ما يرجعون إلاّ لخير يرجونه، أو لشر يحذرونه". وسئل أحمد: عن ختم القرآن في الوتر أو التراويح، فقال: في التراويح حتى يكون لنا دعاءان. وقال حنبل: سمعته يقول: إذا فرغت من قراءة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، 1 فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع. فقلت: إلى أي شيء تذهب؟ قال: رأيت أهل مكة يفعلونه، وابن عيينة يفعله معهم. قال العباس بن عبد العظيم: وكذلك أدركت الناس بمكة والبصرة. ويروي أهل المدينة في هذا أشياء. وذكر عن عثمان بن عفان. وسئل أحمد: إذا قرأ سورة "الناس"، هل يقرأ من "البقرة" شيئاً؟ قال: لا. وقال: "كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله وولده". واستحسن أحمد التكبير عند آخر كل سورة من "الضحى". وسئل: عن الإمام في رمضان يدع الآيات من السورة، ينبغي لمن خلفه أن يقرأها؟ قال: نعم. ينبغي له أن يفعل. قد كانوا بمكة يوكلون رجلاً يكتب ما ترك الإمام من الحروف وغيرها، فإذا كان ليلة الختمة أعاده؛ وإنما استحب ذلك لتتم الختمة. ولا بأس بالقراءة في الطريق، والإنسان مضطجع. وعن إبراهيم التيمي قال: "كنت أقرأ على أبي موسى وهو يمشي في الطريق، فإذا قرأت سجدة قلت له: أسجد في الطريق؟ قال: نعم". و"يستحب أن يختم في كل سبعة أيام"، لحديث عبد الله بن عمرو وحديث أوس بن حذيفة، رواه أبو داود. وعنه: أنه غير مقدر على حسب النشاط والقوة، "لأن عثمان كان يختمه في ليلة"، والترتيل أفضل،   1 سورة الناس آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 لقوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} . 1 وكره أحمد القراءة بالألحان، وقال: هي بدعة؛ وكلامه يحمل على الإفراط، وجعل الحركات حروفاً، فأما ما يحسن القراءة والترجيع فغير ما رواه، لحديث ابن المغفل وغيره في قراءة سورة "الفتح". ويجوز قضاء الفرائض في أوقات النهي، روي ذلك عن غير واحد من الصحابة؛ وبه قال مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: لا تقضى في الأوقات الثلاثة التي في حديث عقبة بن عامر، إلا عصر يومه يصليها قبل غروب الشمس، لعموم النهي، و "لأنه صلى الله عليه وسلم لما نام عن الفجر حتى طلعت الشمس، أخّرها حتى ابيضت". 2 ولنا: قوله: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها". 3 وفي حديث أبي قتادة: "فليصلّها حين ينتبه". متفق عليهما، وخبر النهي مخصوص بالقضاء في الوقتين الآخرين وبعصر يومه، وحديث أبي قتادة يدل على جواز التأخير، لا على تحريم الفعل. ويركع للطواف، وهذا مذهب الشافعي، وأنكره مالك لعموم النهي. ولنا: حديث جبير بن مطعم: "يا بني عبد مناف" الحديث صححه الترمذي، وحديثهم مخصوص بالفوائت، وحديثنا لا تخصيص فيه. وأما صلاة الجنازة بعد الصبح والعصر، فلا خلاف فيه، قاله ابن المنذر. وأما في الأوقات الثلاثة، فلا يجوز، قال أحمد: لا يعجبني، ثم ذكر حديث عقبة بن عامر؛ قال الخطابي: هذا قول أكثر أهل العلم. وعنه: تجوز في جميع أوقات النهي، وهو مذهب الشافعي. ولنا: حديث عقبة بن عامر، وذكره للصلاة مقروناً بالدفن دليل على إرادة صلاة الجنازة. ومن صلى فرضه، ثم أدرك تلك الصلاة في جماعة، استحب له إعادتها أي صلاة كانت، بشرط أن تقام وهو في المسجد، أو يدخل وهم يصلون، وهذا قول للشافعي. فإن أقيمت وهو خارج المسجد،   1 سورة المزمل آية: 4. 2 البخاري: التوحيد (7471) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (681) , والنسائي: الإمامة (846) , وأبو داود: الصلاة (437) , وأحمد (5/298, 5/302) . 3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (684) , والنسائي: المواقيت (614) , وابن ماجة: الصلاة (695) , وأحمد (3/184) , والدارمي: الصلاة (1229) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 لم يستحب له الدخول. واشترط القاضي أن يكون مع إمام الحي، وكلام أحمد يدل على أن إمام الحي وغيره سواء. قال الأثرم: سألته عمن صلى في جماعة ثم دخل المسجد وهم يصلون، يصلي معهم؟ قال: نعم. وذكر حديث أبي هريرة: "أما هذا فقد عصى أبا القاسم". إنما هي نافلة فلا يدخل، فإن دخل صلى، وإن كان قد صلى في جماعة. قيل له: والمغرب؟ قال: نعم، إلا أنه في المغرب يشفع. وقال مالك: إن صلى وحده، أعاد المغرب. وإن صلى جماعة لم يعدها، لأن الحديث: "صلّينا في رحلنا". وقال أبو حنيفة: لا تعاد الفجر والعصر، لأجل وقت النهي، ولا المغرب، لأن التطوع لا يكون بوتر. ولنا: حديث يزيد بن الأسود، وحديث أبي ذرّ: "صل معهم، فإنها لك نافلة". وهذه الأحاديث بعمومها تدل على محل النزاع، وحديث يزيد صريح في إعادة الفجر، والأحاديث بإطلاقها تدل على الإعادة مع إمام الحي أو غيره، أو صلى وحده أو في جماعة. وإذا أعاد المغرب شفعها برابعة، وهذا مذهب الشافعي. وعن حذيفة أنه قال لما أعاد المغرب: "ذهبت أقوم في الثالثة، فأجلسني"، وهذا يحتمل أنه أمره بالاقتصار على ركعتين، أو أمره بمثل صلاة الإمام. ولا تجب الإعادة، وقيل: "تجب مع إمام الحي، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بها". ولنا: أنها نافلة، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تصلى صلاة في يوم مرتين". 1 رواه أبو داود، ومعناه: واجبتان. وإن لم يدرك إلا ركعتين، فقيل: يسلم معهم، لأنها نافلة، ويستحب أن يتمها. ونص أحمد أنه يتمها أربعاً، لقوله: "وما فاتكم فأتموا ". 2 والأوقات الخمسة منهي عن الصلاة فيها، وهو قول الشافعي. وقال ابن المنذر: المنهي عنه في الأوقات الثلاثة التي في حديث عقبة، وقول عائشة: "وهم عمر، إنما نهى أن يتحرى طلوع الشمس وغروبها". 3 ولنا: الأحاديث الصحيحة االصريحة، والتخصيص في بعض لا يعارض العموم الموافق له، بل يدل على   1 أبو داود: الصلاة (579) , وأحمد (2/19, 2/41) . 2 البخاري: الأذان (635) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (603) , وأحمد (5/306) , والدارمي: الصلاة (1283) . 3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (833) , والنسائي: المواقيت (570) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 تأكيد الحكم فيما خصه. وقول عائشة غير مقبول لأن عمر مثبت، وقد رواه عمرو بن عبسة وأبو هريرة وابن عمر وغيرهم. والنهي عن الصلاة بعد العصر متعلق بالصلاة، لا نعلم فيه خلافاً، وأما بعد الفجر فيتعلق بطلوع الفجر، وبه قال ابن المسيب وأصحاب الرأي. قال النخعي: كانوا يكرهون ذلك، يعني: التطوع بعد طلوع الفجر. وعنه: النهي متعلق بفعل الصلاة، روي عن الحسن والشافعي. ولا أعلم خلافاً في المذهب أنه لا يجوز أن يبتدئ صلاة التطوع في هذه الأوقات، غير ذات سبب، وهو قول الشافعي. وقال ابن المنذر: رخصت طائفة في الصلاة بعد العصر. وحكي عن أحمد: لا نفعله ولا نعيب فاعله، لقول عائشة: "ما ترك ركعتين بعد العصر عندي قط"، 1 ولا الأحاديث الصحيحة الصريحة، وحديث عائشة روي عنها أنه خاص به صلى الله عليه وسلم. وأما التطوع لسبب، فالمنصوص عن أحمد: أن الوتر يفعل قبل صلاة الفجر، وبه قال مالك والشافعي، وأنكره عطاء والنخعي، واحتجوا بعموم النهي. ولنا: حديث أبي بصرة، مرفوعاً: " إن الله زادكم صلاة، فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح ". 2 احتج به أحمد. وأحاديث النهي الصحيحة ليست صريحة في النهي بعد الفجر. وأما قضاء سنة الفجر بعدها فجائز، إلا أن أحمد اختار أن يقضيها من الضحى، وقال: إن صلاها بعد الفجر أجزأه. وقال الشافعي: يقضيهما بعدها، لحديث قيس بن فهد، وسكوته صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز. وقال أصحاب الرأي: لا يجوز لعموم النهي. وأما قضاء السنن الراتبة بعد العصر، فالصحيح جوازه، لفعله صلى الله عليه وسلم. ومنعه أصحاب الرأي. وأما قضاء السنن في سائر أوقات النهي، وفعل ما له سبب، كتحية المسجد وسجود التلاوة، ففيه روايتان: إحداهما: لا يجوز، لعموم النهي.   1 البخاري: مواقيت الصلاة (591) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (835) , والنسائي: المواقيت (574) , وأبو داود: الصلاة (1279) , وأحمد (6/96, 6/109, 6/113, 6/169, 6/200, 6/253) , والدارمي: الصلاة (1435) . 2 أحمد (6/7) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 والثانية: تجوز، لأن قوله في تحية المسجد والكسوف خاص في هذه الصلاة، فيقدم على النهي العام، ولا فرق بين مكة وغيرها. وقال الشافعي: لا يمنع. ولنا: عموم النهي، وحديث جبير أراد به الطواف، ولا فرق في وقت الزوال بين يوم الجمعة وغيره، ورخص فيه الحسن وطاووس والشافعي، لحديث أبي سعيد: "نهى عن الصلاة نصف النهار، إلا يوم الجمعة". 1 ولنا: عموم النهي، وذكر لأحمد الرخصة في نصف النهار يوم الجمعة، فقال: في حديث النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة وجوه: حديث عمرو بن عبسة، وحديث عقبة بن عامر، وحديث الصنابحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس تطلع معها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها. ثم إذا استوت قارنها، وإذا دنت للغروب قارنها. فإذا غربت فارقها". 2 ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في تلك الساعات، وحديثهم ضعيف. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وقال الشيخ لما ذكر تفضيل أحمد للجهاد، والشافعي للصلاة، ومالك للذكر: والتحقيق لا بد لكل من الآخرين، وقد يكون كل واحد أفضل في حال، وإن الطواف أفضل من الصلاة في المسجد الحرام، وذكره عن جمهور العلماء. وعن ابن عباس: "الطواف لأهل العراق، والصلاة لأهل مكة"، وذكره أحمد عن عطاء والحسن ومجاهد. وليس الوتر بواجب، واختار الشيخ وجوبه على من يتهجد بالليل، وأدنى الكمال: ثلاث بتسليمين، وخير الشيخ بين الفصل والوصل. وفي دعاء القنوت بين فعله وتركه، وأنه إن صلى بهم قيام رمضان فقنت جميع الشهر أو نصفه أو لم يقنت، فقد أحسن. قوله: إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة، فلإمام خاصة القنوت، وعنه: ونائبه. وعنه:   1 أبو داود: الصلاة (1083) . 2 النسائي: المواقيت (559) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1253) , وأحمد (4/348) , ومالك: النداء للصلاة (510) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ويقنت إمام جماعة. وعنه: وكل مصلّ، اختاره الشيخ. وقوله: في صلاة الفجر، وعنه: في الفجر والمغرب فقط. وعنه: يقنت في جميع المكتوبات، خلا الجمعة، اختاره الشيخ. قوله: ركعتان قبل الظهر، وعند الشيخ: أربع قبلها، ويقضي الوتر. وعنه: لا يقضي، اختاره الشيخ. والتراويح: عشرون ركعة، قال أحمد: روي في ذلك ألوان، ولم يقض فيه بشيء، قال الشيخ: كل ذلك، أو إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة، حسن، كما نص عليه أحمد، لعدم التوقيت؛ فيكون تقليل الركعات وتكثيرها بحسب طول القيام وقصره. وقال: من صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة. وقال: لا يجوز التطوع مضجعها لغير عذر، وتجويزه قول شاذ لا أعرف له أصلاً في السلف. وكثرة الركوع والسجود أفضل، وعنه: طول القيام أفضل، وعنه: التساوي، اختاره الشيخ. وقال: التحقيق أن ذكر القيام وهو القرآن، أفضل من ذكر الركوع والسجود، وأما نفس الركوع والسجود فأفضل من نفس القيام، فاعتدلا؛ ولهذا كانت صلاته عليه الصلاة والسلام معتدلة: إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود بحسب ذلك حتى يتقاربا. ولا يداوم على صلاة الضحى، واختار الشيخ المداومة عليها لمن لم يقم الليل؛ وله قاعدة في ذلك وهي: ما ليس براتب لا يداوم عليه كالراتب. واختار أن سجود التلاوة وسجود الشكر خارج الصلاة لا يفتقر إلى وضوء، وبالوضوء أفضل. وسجود التلاوة سنة، وعنه: واجب في الصلاة، وعنه: واجب مطلقاً، اختاره الشيخ. ولا يقوم ركوع ولا سجود عن سجدة التلاوة في الصلاة، وعنه: تقوم سجدة الصلاة عنه. والأفضل أن يكون سجوده عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 قيام، واختاره الشيخ، وعنه: يسجد وهو قاعد. قوله: وعند قيامها حتى تزول، وظاهر كلام الخرقي: أنه ليس بوقت نهي، واختاره الشيخ في يوم الجمعة خاص. واختار فعل ركعتي الطواف، وإعادة الجماعة في الأوقات كلها، وصلاة الجنازة، وذوات الأسباب كلها، كالصلاة بعد الوضوء وصلاة الاستخارة، فيما يفوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 باب صلاة الجماعة هي: واجبة على الرجال المكلفين، وقال مالك والشافعي: لا تجب لحديث: "صلاة الجماعة تفضل ... إلخ". 1 ولنا: أنها لو لم تجب لأرخص فيها في حال الخوف، ولم يجز الإخلال بالواجبات من أجلها. وليست شرطاً، وقيل: شرط. ولا نعلم من أوجب الإعادة على من صلى وحده، إلا أنه روي عن جماعة من الصحابة منهم ابن مسعود: "من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر، فلا صلاة له". وتنعقد باثنين بغير خلاف. وله فعلها في بيته، وعنه: أن حضور المسجد واجب على القريب منه، والأفضل المسجد الذي لا تقام فيه إلا بحضوره، وكذا إن كان في قصد غيره كسر قلب إمامه أو جماعته، ثم ما كان أكثر جماعة، لحديث: "ما كان أكثر جماعة، فهو أحب إلى الله". 2 رواه أحمد. والأبعد أفضل، لقوله: "أعظم الناس أجراً في الصلاة: أبعدهم فأبعدهم ممشى". 3 رواه البخاري. ولا يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه، إلا أن يتأخر، لفعل أبي بكر. فإن صلى وأقيمت وهو في المسجد، استحب له إعادتها، إلا المغرب، وعنه: يعيدها ويشفعها بركعة، لحديث أبي ذر ويزيد بن الأسود. ولا تجب الإعادة، وقيل: بلى، مع إمام الحي الظاهر الأمر. ولا تكره الإعادة في غير المساجد الثلاثة. وقال مالك والشافعي: لا تعاد في مسجد له إمام راتب في غير ممر الناس، لئلا يفضي إلى اختلاف القلوب والتهاون بها مع الإمام. فأما الثلاثة، فروي عن أحمد الكراهة، لئلا يتوانى الناس عن   1 البخاري: الأذان (645) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (650) , والترمذي: الصلاة (215) , والنسائي: الإمامة (837) , وابن ماجة: المساجد والجماعات (789) , وأحمد (2/17, 2/65, 2/102, 2/112, 2/156) , ومالك: النداء للصلاة (290) . 2 النسائي: الإمامة (843) , وأبو داود: الصلاة (554) , وأحمد (5/140) . 3 البخاري: الأذان (651) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (662) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الراتب. وإذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة. وقال مالك: إن لم يخف فوات الركعة ركع، فإن أقيمت وهو في نافلة، أتمها خفيفة. و"من أدرك الركوع أدرك الركعة"، لحديث أبي داود، و"أجزأته تكبيرة واحدة"، لأنه روي عن يزيد وابن عمر، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة. وقال أحمد: إن كبر اثنتين ليس فيه اختلاف. ويستحب لمن أدرك الإمام في حال متابعته وإن لم يعتدّ به، لحديث أبي هريرة، وما أدرك فهو آخر صلاته، وعنه: أولها. قال شيخنا: لا أعلم خلافاً بين الأربعة في أنه يقرأ "الفاتحة" وسورة، وهذا مما يقوي الأول. فإن لم يدرك إلا ركعة من المغرب أو الرباعية، ففي موضع تشهّده، روايتان: إحداهما: يستفتح، ويأتي بركعتين متواليتين، ثم يتشهد. والثانية: "يقرأ "الحمد" وسورة، ثم يجلس، ثم يقوم فيأتي بأخرى يقرأ "الحمد" وحدها"، وبه قال ابن مسعود. ولا تجب القراءة على المأموم في قول الأكثر، وأوجبها الشافعي، لقول أبي هريرة: "إقرأ بها في نفسك"، ولحديث عبادة عند أبي داود: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب". 1 ولنا: قوله: "من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة"، 2 وقول أبي هريرة من رأيه، وخالفه غيره من الصحابة، وحديث عبادة لم يروه غير ابن إسحاق ونافع بن محمود، وهو أدنى حالاً منه. و"يستحب أن يقرأ في سكتات الإمام، وفيما لا يجهر فيه، أو لا يسمعه لبعده"، روي عن ابن عمر وغيره. ومن ركع أو سجد قبل إمامه، رجع فأتى به بعده، فإن لم يفعل عمداً بطلت، فإن ركع قبله عمداً فهل تبطل؟ على وجهين. وإن كان جاهلاً أو ناسياً لم تبطل، للحديث، وهل تبطل الركعة؟ فيه روايتان. فإن تخلف لعذر، من نعاس أو غفلة أو زحام أو عجلة إمام، فعل ما سبق به وأدرك إمامه،   1 أبو داود: الصلاة (823) , وأحمد (5/316, 5/322) . 2 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (850) , وأحمد (3/339) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ولا شيء عليه، قال شيخنا: لا أعلم فيه خلافاً. وإن كان بركعة كاملة أو أكثر، تبع إمامه وقضى ما سبق به، وعنه: يعيد. وإن سبقه بأكثر من ركن وأقل من ركعة، لم يعتدّ بتلك الركعة، قاله أحمد. وقال الشافعي: يفعل ما فاته وإن كان أكثر من ركن، "لأنه صلى الله عليه وسلم فعله بعسفان في صلاة الخوف: سجد الصف الأول والثاني قيام" 1. و"يستحب للإمام تخفيف الصلاة مع إتمامها، لفعله صلى الله عليه وسلم، وتطويل الأولى أكثر من الثانية"، لحديث أبي قتادة، متفق عليه. ويستحب انتظار الداخل، إذا لم يشق على من خلفه، وكرهه الأوزاعي لأنه تشريك في العبادة. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم يطيل الأولى حتى لا يسمع وقع قدم. وأطال السجود لما ركب الحسن على ظهره لئلا يعجله". وإذا استأذنت المرأة في المسجد، كره منعها، وبيتها خير لها، للحديث. والسنة أن يؤم القوم أقرؤهم، وقال الشافعي: يقدم الأفقه إن كان يقرأ ما يكفي، ولنا: قوله: "وإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة" 2. وإن أقيمت الجماعة في بيت، فصاحبه أحق إذا كان ممن تصلح إمامته، فإن كان فيه ذو سلطان قدِّم، لأن ولايته على البيت وصاحبه، وكذلك إمام المسجد الراتب أولى من غيره. وإذا قدَّم المستحقُّ غيره جاز، لقوله: "إلا بإذنه". وهل تصح إمامة الفاسق والأقلف؟ على روايتين. وإذا أقيمت وهو في المسجد والإمام لا يصلح، فإن شاء صلى خلفه وأعاد، وإن نوى الانفراد ووافقه في أفعالها صح، وعنه: يعيد. وفي إمامة أقطع اليدين روايتان. وأما أقطع الرجلين، فلا تصح لعجزه عن القيام. وإذا صلى خلف من يشك في إسلامه صح. ولا تصح إمامة العاجز عن شيء من أركان الأفعال بالقادر عليه، وأجازه   1 البخاري: المغازي (4130) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (841, 842, 843) , والترمذي: الجمعة (565) , والنسائي: صلاة الخوف (1536, 1537, 1552, 1554) , وأبو داود: الصلاة (1237, 1238, 1239) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1259) , وأحمد (3/348) , ومالك: النداء للصلاة (440, 441) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي: الصلاة (235) , والنسائي: الإمامة (780) , وأبو داود: الصلاة (582) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/117, 4/121, 5/272) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الشافعي، إلا إمام الحي المرجو زوال علته، إذا عجز عن القيام، فإن صلوا خلفه قياماً صحت، وقيل: لا تصح، أومأ إليه أحمد. فإن استخلف بعض الأئمة ثم حضر، فهل يفعل كفعله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر؟ فية ثلاث روايات: إحداهن: ليس له، لأنه خاص بالنبي. والثانية: يجوز لأن ما فعله صلى الله عليه وسلم جائز لأمته، ما لم يقم دليل على الخصوصية. والثالثة: يجوز للخليفة خاصة. ولا تصح إمامة صبي لبالغ في فرض، وعنه: تصح، لقوله: "يؤم القوم أقرؤهم ... إلخ". 1 وحديث عمرو بن سلمة رواه البخاري، وهو ابن سبع أو ثمان سنين. فـ"إن صلى الإمام محدثاً جاهلاً هو والمأمومين حتى سلموا، صحت صلاتهم دون الإمام"، يروى عن عمر وعثمان. فإن علمه في الصلاة، استأنفوا الصلاة؛ وقال الشافعي: يبنون على ما مضى. ولا تصح إمامة الأمي - وهو من لا يحسن "الفاتحة"، أو يحيل المعنى - إلا بمثله، وأجازه الشافعي. و"يكره أن يؤم قوماً أكثرهم له كارهون"، لحديث أبي أمامة وابن عمر، رواه أبو داود؛ قال أحمد: إذا كرهه اثنان أو ثلاثة، فلا بأس، حتى يكرهه أكثرهم. قال منصور: أما إنا سألنا عن ذلك فقيل: عني به الظلمة، فأما من أقام السنة، فالإثم على من كرهه. ويصح ائتمام من يؤدي الصلاة بمن يقضيها، نص عليه، وكذا عكسه. ويصح ائتمام المفترض بالمتنفل، ومن يصلي الظهر بمن يصلي العصر، في إحدى الروايتين. والسنة أن يقف المأمومون خلف الإمام، "لأن أصحابه صلى الله عليه وسلم يقفون خلفه، وأخر جابراً وجباراً لما وقفا عن يمينه وشماله"، وحديث ابن مسعود يدل على جواز ذلك. فإن كان أحدهما صبياً، فكذلك إن كانت تطوعاً، ويحتمل أن يصح في الفرض، وإن كان واحداً وقف عن يمينه. فإن   1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (673) , والترمذي: الصلاة (235) , والنسائي: الإمامة (780) , وأبو داود: الصلاة (582) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (980) , وأحمد (4/117, 4/121, 5/272) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وقفوا قدامه لم يصح، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك وإسحاق: يصح. ولنا: قوله: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" 1. ومن صلى وحده خلف الإمام ركعة كاملة، لم تصح صلاته، لأمره من فعله بالإعادة، قال ابن المنذر: ثبت الحديث. و"إن أمَّ امرأة، وقفت خلفه"، لحديث أنس، رواه مسلم. و"السنة أن يتقدم في الصف الأول أولو الفضل والدين، ويلي الإمام أكملهم"، لحديث ابن مسعود وغيره. و"الصف الأول للرجال، والنساء بالعكس"، للحديث، رواه أبو داود. و"ميامن الصفوف أفضل"، لحديث عائشة. و"يستحب توسط الصف للإمام"، للحديث، رواه أبو داود. وإذا رأى المأمومون مَنْ وراء الإمام صحت صلاتهم إذا اتصلت الصفوف، وإن لم يروهم لم تصح، وعنه: تصح إذا كانوا في المسجد. وإن كان بينهما حائل يمنع رؤية الإمام ومَن وراءه، ففيه روايتان. وإن كان بينهما طريق أو نهر، فروايتان. ولا يكون الإمام أعلى من المأموم، ولو أراد تعليمهم، وقال الشافعي: له ذلك إن أراد تعليمهم، لحديث سهل. ولنا: "أن عماراً صلى بالمدائن فقام على دكان، والناس أسفل منه. فأخذ حذيفة بيده، فاتبعه عمار حتى أنزله. فلما فرغ قال: ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أمّ رجل قوماً فلا يقومنّ في مقام أرفع من مقامهم؟ قال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذتَ بيدي". رواه أبو داود، وحديث سهل الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم على الدرجة السفلى، فيكون ارتفاعاً يسيراً لا بأس به، جمعاً بين الأخبار. فإن كان المأموم أعلى فلا بأس، "لأن أبا هريرة صلى على سطح المسجد بصلاة الإمام". و"يكره للإمام أن يدخل في الطاق، كرهه ابن مسعود وغيره"، لأنه ستر عن بعض المأمومين، وفعله سعيد بن جبير وأبو   1 البخاري: الصلاة (378) , ومسلم: الصلاة (411) , والترمذي: الصلاة (361) , والنسائي: الإمامة (794, 832) والتطبيق (1061) , وأبو داود: الصلاة (601) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1238) , ومالك: النداء للصلاة (306) , والدارمي: الصلاة (1256) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 عبد الرحمن السلمي. ولا يكره لحاجة، كضيق المسجد. و"يكره للإمام أن يتطوع في موضع المكتوبة"، قال أحمد: كذا قال علي. ويكره للمأمومين الوقوف بين السواري إذا قطعت الصفوف، "كرهه ابن مسعود"، وأرخص فيه مالك وغيره. وعند ابن ماجة حديث في النهي عنه. ويكره للإمام إطالة القعود بعد الصلاة مستقبل القبلة، لأنهم لا ينصرفون قبله، فإذا أطال ذلك شق عليهم. "فإن كان معه نساء، لبث قليلاً لينصرفن. ولا يجلسن بعد الصلاة لئلا يختلطن بالرجال. وينصرف الإمام حيث شاء"، لقول ابن مسعود، رواه مسلم. واختلفت الرواية، هل يستحب للمرأة أن تصلي بالنساء جماعة، وكرهه مالك وغيره. "وأذن صلى الله عليه وسلم لأم ورقة أن تؤم أهل دارها". 1 رواه أبو داود، وتقوم وسطهن، لا نعلم فيه خلافاً. قال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً أن للمريض ترك الجماعة، و"يعذر من يدافع أحد الأخبثين أو بحضرة طعام محتاج إليه"، لحديث عائشة، سواء خاف فوات الجماعة أو لا، والخائف من ضياع ماله، أو خاف ضرراً من سلطان، أو ملازمة غريم ولا شيء معه، لأن في أمره بالصلاة في الرحال لأجل الطين والمطر تنبيهاً على الجواز، وكذا إن خاف موت قريبه ولا يشهده، فهذا كله عذر في ترك الجمعة والجماعة، ولا نعلم فيه خلافاً، "لفعل ابن عمر لما مات سعيد بن زيد"، وكذا خوف فوات رفقته، أو غلبة النعاس، أو تأذٍّ بالمطر والوحل والريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة، لأن الذي انفرد عن معاذ لما طوّل لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم.   1 أبو داود: الصلاة (591) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وعنه: أن الجماعة شرط لصحة الصلاة، اختاره الشيخ، ولو صلّى منفرداً لعذر لم ينقص أجره. وقال: خبر التفضيل في المعذور الذي يباح له الصلاة وحده، واختار أنه لا يدرك الجماعة إلا بركعة، وأن المأموم يقرأ إذا لم يسمع قراءة الإمام لبعده. واختار كراهة الاستفتاح والاستعاذة للمأموم. وقال: يلزم الإمام مراعاة المأموم إن تضرر بالصلاة أول الوقت أو آخره ونحوه، وقال: ليس له أن يزيد على القدر المشروع، ويفعل غالباً ما كان صلى الله عليه وسلم يفعله غالباً، ويزيد وينقص للمصلحة كفعله صلى الله عليه وسلم. واختار صحة إمامة عاجز عن ركن أو شرط، وقال: الروايات عن أحمد في ترك الإمام ما يجوز عنده دون المأموم لا توجب اختلافاً، وإنما ظواهرها أن كل موضع يقطع فيه بخطإ الإمام يوجب الإعادة وإلا فلا، وهو الذي تدل عليه السنة والآثار والقياس. وقال: لا بأس بقراءة اللحّان عجزاً. وقال: الذي يؤم قوماً أكثرهم له كارهون أتى بواجب ومحرم مقاوم صلاته فلم تقبل، إذ الصلاة المقبولة ما يثاب عليها صاحبها. وقال: إذا كان بينهم معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء والمذاهب، لم ينبغ أن يؤمهم، لأن المقصود بالصلاة جماعة إنما يتم بالائتلاف. واختار صحة ائتمام المفترض بالمتنفل، وصحة ائتمام من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرها. واختار صحة وقوف المأموم قدام الإمام في الجمعة والعيد والجنازة ونحوها لعذر. وقال: تصح الفذ لعذر، وحيث صحت الصلاة عن يسار الإمام كُرهت إلا لعذر. والمأموم إذا كان بينه وبين الإمام ما يمنع الرؤية والاستطراق صحت صلاته إذا كان لعذر، وهو قول في مذهب أحمد، بل نص أحمد وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 باب صلاة أهل الأعذار أجمع أهل العلم على أن من لا يطيق القيام، له أن يصلي جالساً. وإن أمكنه القيام، إلا أنه يخشى زيادة مرض أو شق عليه مشقة شديدة، صلّى قاعداً أو نحوه، قال مالك وقال ميمون بن مهران: إذا لم يستطع أن يقوم لدنياه صلّى جالساً. وروي عن أحمد نحوه. ولنا: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، 1 "ولأنه صلى الله عليه وسلم صلّى جالساً لما جحش شقّه"، والظاهر أنه لم يعجز عن القيام بالكلية. وإن قدر على القيام بأن يتكئ على عصا أو حائط، لزمه. وإن قدَر عليه كهيئة الراكع، كمن هو في بيت قصير السقف لا يمكنه الخروج، أو خائف إذا رفع رأسه، فإن كان لحدب أو كِبرٍ لزمه القيام، وإن كان لغير ذلك احتمل أن يلزمه واحتمل أن لا يلزمه، لقوله: "فإن لم تستطعْ فقاعداً" 2. ومن قدر على القيام وعجز عن الركوع والسجود، لم يسقط عنه القيام، فيومئ بالركوع، ثم يجلس فيومئ بالسجود، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يسقط القيام، كصلاة النافلة على الراحلة. ولنا: قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، 3 وقوله: "صلِّ قائماً. .. إلخ". 4 وإن قدر على القيام وحده لا مع الإمام، احتمل أن يلزمه ويصلي وحده لأنه ركن، واحتمل أنه مخير بين   1 سورة الحج آية: 78. 2 البخاري: الجمعة (1117) , وأبو داود: الصلاة (952) . 3 سورة البقرة آية: 238. 4 البخاري: الجمعة (1117) , وأبو داود: الصلاة (952) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الأمرين، لأنا أبحنا له ترك القيام المقدور عليه مع إمام الحي، ولأن الأجر يتضاعف بالجماعة أكثر من تضاعفه بالقيام؛ وهذا أحسن وهو مذهب الشافعي. فإن عجز قاعداً، صلّى على جنبه مستقبل القبلة بوجهه، وهذا قول مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: يصلّي مستلقياً ورجلاه إلى القبلة. ولنا: قوله: "فإن لم تستطعْ، فعلى جنب". 1 والمستحب أن يصلّي على جنبه الأيمن، فإن صلى على الأيسر جاز، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعيِّن جنباً. وإن عجز صلى مستلقياً، للخبر. وإن كان في عينيه مرض، فقال ثقات من الأطباء: إن صليتَ مستلقياً أمكن مداواتك، فقال القاضي: قياس المذهب جوازه، وهو قول الثوري. وقال مالك: لا يجوز، لما روي عن ابن عباس: "أنه لما كفّ بصره أتاه رجل فقال: لو صبرت عليّ سبعة أيام لم تصلِّ إلا مستلقياً داويت عينك، ورجوت أن تبرأ. فأرسل في ذلك إلى عائشة وأبي هريرة وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلّ قال له: إن متّ في هذه الأيام ما تصنع بالصلاة؟ فترك معالجة عينه". ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم صلّى جالسا لَمّا جحش شقّه" لأجل المشقة أو خوف ضرر، وأيهما قدر فهو حجة على الجواز ههنا. ودلت الأخبار على جواز الصلاة على الراحلة خوفاً من ضرر الطين في ثيابه وبدنه، وجاز ترك الجمعة والجماعة صيانة لنفسه ولثيابه من البلل والتلوث بالطين. وجاز ترك القيام اتباعاً لإمام الحي والصلاة على جنبه ومستلقياً في حال الخوف، وخبر ابن عباس إن صح فيحتمل أن المخبر لم يخبر عن يقين، وإنما قال: أرجو، ولكونه مجهول الحال بخلاف مَسْأَلتنا. وإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل السجود أخفض. وإن عجز عن   1 البخاري: الجمعة (1117) , وأبو داود: الصلاة (952) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 السجود ركع وأومأ بالسجود. وإن وضع بين يديه شيئاً عالياً جاز، إذا لم يمكنه أكثر من ذلك. وحكى ابن المنذر عن أحمد قال: أختار السجود على المرفقة، وهو أحب إلي من الإيماء. وكذلك قال إسحاق، وجوّزه الشافعي، ورخص فيه ابن عباس. و"سجدت أم سلمة على المرفقة"، وكرهه ابن مسعود وقال: "يومئ إيماء، ولا يرفع إلى وجهه شيئاً". وعن جابر وابن عمر وأنس مثله، وهو مذهب مالك. وإن لم يقدر على الإيماء برأسه أومأ بطرفه ونوى بقلبه، ولا تسقط الصلاة ما دام عقله حاضراً. وحكي عن أبي حنيفة أن الصلاة تسقط. وذكر القاضي أنه ظاهر كلام أحمد في رواية محمد بن يزيد، لما روي عن أبي سعيد الخدري: "أنه قيل له في مرضه: الصلاة، فقال: قد كفاني. إنما العمل في الصحة". ولنا: [ما ذكر] 1 من حديث عمران. ومتى قدر في أثنائها على ما كان عاجزاً عنه انتقل إليه، وبنى على ما مضى من صلاته. والله أعلم. ومذهب أحمد "أن القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر فرسخاً، مسيرة يومين"، وهو قول ابن عباس وابن عمر. وهو مذهب مالك والشافعي. وقال ابن المنذر: ثبت: "أن ابن عمر كان يقصر إلى أرض له هي ثلاثون ميلاً"، ونحوه عن ابن عباس، فإنه قال: "يقصر في اليوم، لا ما دونه"؛ وإليه ذهب الأوزاعي. وقال ابن المنذر: عامة العلماء يقولون: مسيرة يوم تام، وبه نأخذ. وروي عن جماعة من السلف ما يدل على جواز القصر في أقل من يوم. قال الأوزاعي: "كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ". وعن دحية: "أنه خرج من قرية من دمشق مرة إلى قدر ثلاثة أميال في رمضان، ثم إنه أفطر. وأفطر معه أناس كثير، وكره آخرون أن يفطروا. فلما رجع إلى   1 زيادة من المخطوطة 465/86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قريته قال: والله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أني أراه: إن قوماً رغبوا عن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول ذلك للذين صاموا". رواه أبو داود. قال الموفق: ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة، لأن أقوال الصحابة مختلفة متعارضة، ولا حجة فيها مع الاختلاف، لأنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن ظاهر القرآن إباحة القصر لمن ضرب في أرض، لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} الآية، وليس له أصل يُرد إليه؛ والحجة مع من أباح القصْر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه. وليس لمن نوى السفر القصرُ حتى يخرج من بيوت قريته، وبهذا قال مالك والشافعي. وحكي عن عطاء أنه أباح القصر في البلد لمن نوى السفر. وعن الحارث بن ربيعة: "أنه أراد سفراً، فصلى بهم في منزله ركعتين، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله". ولنا: قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} الآية، 1 ولا يكون ضارباً حتى يخرج، ولحديث أنس: "صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين". 2 متفق عليه. إذا ثبت هذا، فإنه يجوز وإن كان قريباً من البيوت. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن الذي يريد السفر له أن يقصر إذا خرج من بيوت القرية التي يخرج منها. ولا تباح هذه الرخص في سفر المعصية، نص عليه, وقال الأوزاعي وأبو حنيفة: له ذلك. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن لا يقصر في صلاة المغرب والصبح. والجمع بين الصلاتين جائز في قول الأكثر. وقال الحسن وابن سيرين وأصحاب الرأي: لا يجوز إلا في يوم عرفة بعرفة، وليلة المزدلفة بها؛ وهو رواية   1 سورة النساء آية: 101. 2 البخاري: الجمعة (1089) , والدارمي: الصلاة (1507) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 عن مالك، لأن المواقيت ثبتت بالتواتر، فلا يجوز تركها بخبر واحد. ولنا: ما روى نافع عن ابن عمر: "أنه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جدّ به السير جمع بينهما"، 1 ولحديث أنس، متفق عليهما. وقولهم: لا نترك الأخبار المتواترة ... إلخ، قلنا: لا نتركها، وإنما نخصصها؛ وتخصيص المتواتر بالخبر الصحيح جائز بالإجماع. وظاهر كلام الخرقي: إنما يجوز الجمع إذا كان سائراً في وقت الأولى، فيؤخر إلى وقت الثانية ثم يجمع بينهما. وروي عن أحمد جواز تقديم الثانية، وهو الصحيح، إن شاء الله. وإن أحب الجمع، جاز نازلاً وسائراً مقيماً في بلد إقامة لا تمنع القصر، وبه قال عطاء وجمهور علماء المدينة والشافعي وإسحاق، لحديث معاذ في غزوة تبوك، رواه أبو داود والترمذي وحسنه. وروى مالك في الموطإ عن معاذ: "أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. قال: فأخر الصلاة يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً". 2 قال ابن عبد البر: حديث صحيح. وفي هذا الحديث أوضح الدلائل وأقوى الحجج في الرد على من قال: لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جدّ به السير، "لأنه عليه السلام يجمع وهو نازل غير سائر، ماكث في خبائه، يخرج فيصلي الصلاتين جميعاً، ثم ينصرف إلى خبائه". رواه مسلم؛ والأخذ بهذا الحديث متعين لثبوته. والله أعلم. والمرض الذي يلحقه بترك الجمع، فيه مشقة وضعف، نص أحمد على جواز الجمع للمريض. ويجوز الجمع للمستحاضة، ومن به سلس البول، وما في معناهما، لما في الحديث، والمطر الذي يبل الثياب، إلا أن جمع المطر يختص   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (703) , والنسائي: المواقيت (592, 598) , وأحمد (2/54) , ومالك: النداء للصلاة (331) , والدارمي: الصلاة (1517) . 2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (706) , والنسائي: المواقيت (587) , وأبو داود: الصلاة (1206) , وأحمد (5/237) , ومالك: النداء للصلاة (330) , والدارمي: الصلاة (1515) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 بالعِشاءين. فأما الجمع لأجل المطر بين الظهر والعصر، فالصحيح أنه لا يجوز؛ قيل لأحمد: الجمع بين الظهر والعصر في المطر؟ قال: لا. ما سمعته. والمطر المبيح للجمع هو: ما يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه. والثلج والبرد في ذلك كالمطر. فأما الوحل، فقال القاضي: هو عذر، لأن المشقة تلحق به في النعال والثياب كالمطر، وهو قول مال؛. وقيل: لا يبيح، وهو مذهب الشافعي، والأول أصح لأنه يساوي المطر في ترك الجمعة والجماعة. فأما الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة، فقيل: تبيح الجمع، وهو قول عمر بن عبد العزيز. وقيل: لا، لأن المشقة فيه دون المشقة في المطر. وهل يجوز الجمع للمنفرد، أو من كان طريقه إلى المسجد في ظلال يمنع المطر، أو من كان مقامه في المسجد؟ على وجهين: أحدهما: الجواز، لأن العذر إذا وجد استوى فيه حال المشقة وعدمها، كالسفر، ولأن الحاجة العامة إذا وجدت ثبت الحكم فيمن ليس له حاجة، كالسلم وإباحة اقتناء الكلب للصيد والماشية لمن لا يحتاج إليهما، ولأنه روي: "أنه صلى الله عليه وسلم جمع في مطر"، وليس بين حجرته والمسجد شيء. والثاني: المنع، لأن الجمع لأجل المشقة. ويجوز الجمع لمرض، وهو قول عطاء ومالك. وقال الشافعي: لا يجوز، لأن أخبار التوقيت لا تترك بأمر محتمل. ولنا: قوله: "جمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر"، 1 وفي رواية: "مِن غير خوف ولا سفر". 2 رواه مسلم. وقد أجمعنا على أن الجمع لا يجوز لغير عذر، فثبت أنه كان لمرض. وروي عن أحمد في حديث ابن عباس هذا، قال: فيه رخصة عندي للمريض والمرضع، وقد "أمر سهلة وحمنة بالجمع لأجل الاستحاضة"، وأخبار المواقيت مخصوصة بالصور التي أجمعنا عليها. وسئل أحمد عن الجمع بين الصلاتين في المطر،   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (705) , والترمذي: الصلاة (187) , والنسائي: المواقيت (602) , وأبو داود: الصلاة (1210, 1211) , وأحمد (1/283) , ومالك: النداء للصلاة (332) . 2 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (705) , والترمذي: الصلاة (187) , والنسائي: المواقيت (601, 602) , وأبو داود: الصلاة (1210, 1211) , وأحمد (1/223, 1/283, 1/354) , ومالك: النداء للصلاة (332) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 قال: "يجمع بينهما إذا اختلط الظلام قبل أن يغيب الشفق، كذا صنع ابن عمر". وقال الأثرم: حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله عن نافع قال: "كان أمراؤنا إذا كانت الليلة المطيرة أبطؤوا بالمغرب، وعجلوا العشاء قبل أن يغيب الشفق، فكان ابن عمر يصلي معهم". قال عبيد الله: ورأيت القاسم وسالماً يصليان معهم. قيل لأحمد: فكأن سنة الجمع في المطر عندك قبل أن يغيب الشفق، وفي السفر نؤخر حتى يغيب الشفق؟ قال: نعم. ولا يجوز الجمع لغير ما ذكرنا، وقال ابن شبرمة: "يجوز إذا كان حاجة أو شيء، ما لم يتخذ عادة، لحديث ابن عباس، وفيه: أراد أن لا يحرج أمته". وإذا سافر بعد دخول وقت الصلاة، قال ابن عقيل: فيه روايتان: إحداهما: له. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن له قصرها، وإذا دخل مع مقيم أتم. قال الأثرم: سألت أحمد عن المسافر يدخل في تشهده المقيم؟ قال: "يصلي أربعاً"، روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال الشافعي. وقال إسحاق: له القصر. وقال مالك: إن أدرك ركعة من الصلاة أتم، وإن أدرك دونها قصر، لقوله: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدركها". 1 ولنا: ما روي عن ابن عباس: "قيل له: ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد، وأربعاً إذا ائتمَّ بمقيم؟ قال: تلك السنة". رواه أحمد. "وكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً". رواه مسلم، ولقوله: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه" 2. وأجمع أهل العلم على أن المقيم إذا ائتمَّ بمسافر، وسلم المسافر من ركعتين، أنّ على المقيم الإتمام. وإذا أمّ المسافر المقيمين فأتم، فصلاتهم صحيحة، وبه قال الشافعي. وقال الثوري: تفسد صلاة المقيمين، لأن الآخرتين نفل من الإمام. والمشهور عن أحمد أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام بنية الإقامة فيها   1 البخاري: مواقيت الصلاة (580) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (607) , والترمذي: الجمعة (524) , والنسائي: المواقيت (553, 554, 555, 556) , وأبو داود: الصلاة (1121) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1122) , وأحمد (2/241, 2/265, 2/270, 2/280, 2/375) , ومالك: وقوت الصلاة (15) , والدارمي: الصلاة (1220) . 2 البخاري: الصلاة (378) , ومسلم: الصلاة (411) , والترمذي: الصلاة (361) , والنسائي: الإمامة (794, 832) والتطبيق (1061) , وأبو داود: الصلاة (601) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1238) , ومالك: النداء للصلاة (306) , والدارمي: الصلاة (1256) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 هي: ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاة. وعنه: إن نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أتم، وهو قول مالك والشافعي، لأن الثلاث حد القلة، ولقوله: "يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً". 1 وقال الثوري: "إن أقام خمسة عشر يوماً مع اليوم الذي يخرج فيه، أتم". روي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث. وعن ابن عباس: "أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين، فنحن إذا أقمناها نصلي ركعتين، وإن زدنا أتممنا". 2 رواه البخاري. وقال الحسن: "صل ركعتين، إلا أن تقدم مصراً". ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشراً يقصر". متفق عليه. وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس: "أنه صلى الله عليه وسلم قدم لصبح رابعة، فأقام الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، وكان يقصر في هذه الأيام". وقد أجمع على إقامتها. فإذا أجمع أن يقيم كما أقام صلى الله عليه وسلم قصر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم. قال: وحديث أنس كلام ليس يفقهه كل أحد: قوله: "أقام عشراً يقصر، قدم لصبح رابعة وخامسة وسادسة وسابعة. ثم قال: وثامنة يوم التروية وتاسعة وعاشرة"، فإنما وجه حديث أنس أنه حسب مقامه بمنى ومكة. وإن مرَّ في طريقه على بلد له فيه أهل أو مال، فقال أحمد في موضع: يتم، وقال في موضع: يتم، إلا أن يكون ماراً. وقال الشافعي وابن المنذر: يقصر ما لم يجمع على إقامة أربع. ومن لم يجمع الإقامة مدة تزيد على ما ذكرنا، فله القصر، ولو أقام سنين، حكاه ابن المنذر إجماعاً. ولا بأس بالتطوع، نازلاً وسائراً على الراحلة، ويصلي ركعتي الفجر والوتر، وأما سائر السنن والتطوعات، فقال أحمد: أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس. وعن الحسن: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون،   1 مسلم: الحج (1352) , والترمذي: الحج (949) , والنسائي: تقصير الصلاة في السفر (1455) , وأحمد (4/339, 5/52) , والدارمي: الصلاة (1511, 1512) . 2 البخاري: الجمعة (1081) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (693) , والترمذي: الجمعة (548) , والنسائي: تقصير الصلاة في السفر (1438, 1452) , وأبو داود: الصلاة (1233) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) , والدارمي: الصلاة (1510) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها"، وهو قول مالك والشافعي. "وكان ابن عمر لا يتطوع إلا من جوف الليل"، ونقل عن ابن المسيب وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين. والخوف لا يؤثر في عدد الركعات للإمام والمأموم جميعاً، فإذا كان في سفر يبيح القصر صلى بهم ركعتين، بكل طائفة ركعة، وتتم لأنفسها أخرى، ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد، ويسلم بهم. قال القاضي: من شرطها: كون العدو في غير جهة القبلة، ونص أحمد على خلاف ذلك. قال الأثرم: قلت: حديث سهل نستعمله مستقبلين القبلة أو مستدبرين؟ قال: نعم. هو إنكاء، لأن العدو قد يكون في جهة القبلة على وجه لا يمكن أن يصلي بهم صلاة عُسفان، لانتشارهم أو خوف كمين. ويقرأ ويتشهد ويطيل حال الانتظار، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يقرأ حال الانتظار، بل يؤخر القراءة ليقرأ بالطائفة الثانية، ليسوي بين الطائفتين. ولنا: أن الصلاة ليس فيها محل سكوت، والقيام محل القراءة كالتشهد إذا انتظرهم فله يتشهد ولا يسكت، وإذا جلس للتشهد قاموا فصلّوا ركعة أخرى، وأطال حتى يدركوه ويسلّم بهم. وقال مالك: يتشهدون معه، فإذا سلم قاموا فقضوا؛ وما ذكرناه أولى، لقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} ، وهو يدل على أن صلاتهم كلها معه. وفي حديث سهل: "أنه صلى الله عليه وسلم قعد حتى صلى الذين خلفه ركعة، ثم سلّم". 1 رواه أبو داود. وروي: "أنه سلّم بالطائفة الثانية"، وبه قال مالك والشافعي، إلا فيما ذكرنا. وقال أبو حنيفة: يصلي كما روى ابن   1 أبو داود: الصلاة (1237) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 عمر قال: "صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين، والطائفة الأخرى مواجهة العدو. ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدوّ، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلّم. ثم قضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة". 1 متفق عليه. وقال أبو حنيفة: يصلي بإحدى الطائفتين ركعة، والأخرى مواجهة العدوّ. ثم تنصرف التي صلت معه إلى وجه العدو وهي في صلاتها، ثم تجيء الأخرى فتصلي معه الركعة الثانية. ثم يسلم الإمام، وترجع إلى وجه العدو وهى في الصلاة. ثم تأتي الطائفة الأولى إلى موضع صلاتها فتصلي ركعة منفردة لا تقرأ فيها، لأنها في حكم الائتمام. ثم تنصرف إلى وجه العدو. ثم تأتي الأخرى فتفعل كذلك، إلا أنها تقرأ لأنها فارقت الإمام. ولنا: ما روى صالح بن خوات عمن صلّى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: "أن طائفة صفّت معه وطائفة وجاه العدوّ، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائماً، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا، وصفّوا وجاه العدو. وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالساً، وأتموا لأنفسهم. ثم سلم بهم". 2 رواه مسلم. وروى سهل بن أبي حثمة مثله. وهذا أشبه بكتاب الله، فإن قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} 3 يقتضي أن جميع صلاتها معه. وعنده: تصلي ركعة معه فقط، وعندنا: جميع صلاتها معه: إحدى الركعتين توافقه في أفعاله، والثانية تأتي بها قبل سلامه ثم تسلم معه. ومن مفهوم قوله: {لَمْ يُصَلُّوا} أن الأولى قد صلّت جميع صلاتها، وعلى قولهم لم تصلّ إلا بعضها. وإن خاف وهو مقيم، صلى بكل طائفة ركعتين. وصلاة الخوف جائزة في الحضر، وبه قال الشافعي. وعن   1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (839) , والترمذي: الجمعة (564) , والنسائي: صلاة الخوف (1540) , وأحمد (2/150) . 2 البخاري: المغازي (4131) , ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (842) , والترمذي: الجمعة (565) , والنسائي: صلاة الخوف (1536, 1553) , وأبو داود: الصلاة (1238) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1259) , وأحمد (3/448) , ومالك: النداء للصلاة (441) , والدارمي: الصلاة (1522) . 3 سورة النساء آية: 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 مالك: لا تجوز في الحضر، لأن الآية إنما دلت على ركعتين، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها في الحضر. ولنا: قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} ، 1 وهو عام في كل حال، وتركه صلى الله عليه وسلم لفعلها في الحضر لغنائه عنها. قولهم: إنما دلت على ركعتين، قلنا: قد يكون في الحضر الصبح والجمعة، وإذا صلى بهم الرباعية صلى بكل طائفة ركعتين، فهل تفارقه الأولى في التشهد أو حين يقوم إلى الثالثة؟ الثاني: قول مالك، لأنه يحتاج إلى التطويل من أجل الانتظار، والتشهد الأول يستحب تخفيفه. وإن كانت الصلاة مغرباً صلى بالطائفة الأولى ركعتين وأتمت لأنفسها ركعة، وبالأخرى ركعة وأتمت لأنفسها ركعتين، وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه. وفي الآخر: يصلي بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين، لأنه روي عن علي: "أنه صلى ليلة الهرير هكذا". ويستحب أن يحمل السلاح فيها، لقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} ، 2 ولأنهم لا يأمنون أن يفجأهم العدو فيميلون عليه ميلة واحدة كما في الآية. ولا يجب حمله في قول أكثر أهل العلم، ويحتمل الوجوب، وبه قال داود والشافعي في أحد قوليه؛ والحجة معهم لأن ظاهر الأمر الوجوب. وقد اقترن به قوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً} الآية 3. فإن كان بهم لم يجب بغير خلاف، لتصريح النص به. ويجوز أن يصلي على كل صفة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحمد: كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز. وقال: ستة وجوه أو سبعة تروى فيها، كلها جائزة. قال الأثرم قلت له: تقول   1 سورة النساء آية: 102. 2 سورة النساء آية: 102. 3 سورة النساء آية: 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 بالأحاديث، كل حديث في موضعه، أو تختار واحداً منها؟ قال: من ذهب إليها كلها فحسن، وأنا أختار حديث سهل. وقد ذكرنا منها وجهين: حديث سهل وحديث ابن عمر. والثالث: صلاة عُسفان: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشركون أمامه، فصف خلفه صف، وصف خلف ذلك الصف صف. فركع رسول الله، وركعوا جميعاً. ثم سجد، وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخر يحرس. فلما صلى بهؤلاء السجدتين وقاموا، سجد الذين خلفهم. ثم تأخر الصف الأول إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول. ثم ركع وركعوا جميعاً. ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسون. فلما جلس والذي يليه، سجد الآخرون. ثم جلسوا جميعاً، فسلّم عليهم. فصلاها بعسفان، وصلاها يوم بني سليم". رواه أبو داود. و"روى جابر عنه صلى الله عليه وسلم نحوه"، أخرجه مسلم. الوجه الرابع: أن يصلي بكل طائفة صلاة منفردة، ويسلّم بها، كما رواه أبو بكرة، أخرجه أبو داود؛ وهذه حسنة قليلة الكلفة، وهي مذهب الحسن؛ ليس فيها أكثر من أن الإمام في الثانية متنفل يؤم مفترضين. الوجه الخامس: أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ولا يسلم، ثم تسلم الطائفة وتنصرف ولا تقضي شيئاً. وتأتي الأخرى فيصلي بها ركعتين ويسلم بها، ولا تقضي شيئا. و"هذا مثل الذي قبله، إلا أن الإمام لا يسلِّم في الأوليين"، لحديث جابر في ذات الرقاع، متفق عليه. وتأوله القاضي على أنه صلى بهم كصلاة الحضر، وأن كل طائفة قضت ركعتين؛ وهذا ظاهر الفساد لأنه صفة الرواية وقول أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 والوجه السادس: أن يصلي بكل طائفة ركعة ولا تقضي شيئاً، لحديث ابن عباس يوم ذي قرد، رواه الأثرم. ولأبي داود نحوه من حديث حذيفة، وروي مثله عن زيد بن ثابت وأبي هريرة. قال أبو داود في السنن: هو مذهب ابن عباس وجابر. قال جابر: "إنما القصر ركعة عند القتال". وقال طاووس والحسن ومجاهد وقتادة: ركعة في شدة الخوف يومئ إيماء. وقال إسحاق: يجزيك عند الشدة ركعة تومئ إيماء، فإن لم تقدر فسجدة واحدة، فإن لم تقدر فتكبيرة. وهذه الصلاة يقتضي عموم كلام أحمد جوازها، لأنه ذكر ستة أوجه، ولا أعلم وجهاً سادساً سواها، وأصحابنا ينكرون ذلك، قال القاضي: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، وهذا قول أكثر أهل العلم، والذي قال: ركعة، إنما جعلها عند شدة القتال. وإذا كان الخوف شديداً وهم في حال المسايفة، صلوا رجالاً وركباناً، إلى القبلة وإلى غيرها، يؤمئون إيماء، ويكرّون ويفرُّون، ولا يؤخرون الصلاة؛ وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: لا يصلي مع المسايفة ولا مع المشي، "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّ يوم الخندق، وأخّرها". ولنا: قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} ، 1 قال ابن عمر: "فإن كان خوفاً أشد من ذلك، صلّوا رجالاً قياماً على أقدامهم، وركباناً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها". متفق عليه، "ولأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالمشي إلى وجاه العدو، ثم يعودون لما بقي"؛ وهذا مشي كثير وعمل طويل واستدبار القبلة. ومن العجب أن أبا حنيفة اختار هذا الوجه دون سائر الوجوه التي لا تشتمل على العمل وسوَّغه، مع إمكان الصلاة بدونه، ثم منعه في حال لا يقدر إلا عليه‍! وكان   1 سورة البقرة آية: 239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 العكس أولى، لا سيما مع نص الله سبحانه على الرخصة في هذه الحال. وأما تأخيره يوم الخندق، فروى أبو سعيد: أنه قبل نزول صلاة الخوف. ويحتمل أنه نسي الصلاة، فقد نقل عنه ما يدل على ذلك. وإن هرب من عدو هرباً مباحاً، أو سيل أو سبع لا يمكنه التخلص بدون الهرب، صلى صلاة شدة الخوف، سواء خاف على نفسه أو أهله أو ماله، نص عليه أحمد في الأسير. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال الشيخ: ولو عجز المريض عن الإيماء برأسه، سقطت عنه الصلاة، ولا يلزمه الإيماء بطرفه. واختار جواز القصر في سفر المعصية، وجوز القصر في مسافة فرسخ، وقال: إن حد فتحديده ببريد أجود، قال: ولا حجة للتحديد، بل الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه. واختار كراهة الإتمام للمسافر. وقال: يسن ترك التطوع بغير الوتر وسنة الفجر، ونقل ابن هاني: يتطوع أفضل، واختاره الشيخ في غير الرواتب. واختار أن الجمع والقصر لا يحتاج إلى نية. وقال في البلغة: إقامة الجيش للغزو لا تمنع الترخص وإن طالت، لفعله صلى الله عليه وسلم. واختار الشيخ أن المسافر له القصر والفطر ما لم يجمع على إقامة ويستوطن، وقال: الجمع بين الصلاتين في السفر يختص بمحل الحاجة، لأنه من رخص السفر المطلقة، كالقصر. واختار الشيخ جواز الجمع للطباخ والخباز ونحوهما، ممن يخشى فساد ماله أو مال غيره بترك الجمع. قال أحمد: الجمع في الحضر إذا كان من ضرورة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 مثل مرض أو شغل، واختار الشيخ أن الجمع بين الظهر والعصر يجوز للمطر. واختار جواز الجمع لتحصيل الجماعة، والصلاة في حمام مع جوازها فيه، خوف فوات الوقت، ولخوف يخرج في تركه أي مشقة، وأن الأفضل: فعل الأرفق به من تقديم وتأخير. واختار في جمع التقديم عدم اشتراط الموالاة. ويجوز للخائف فوات وقت الوقوف بعرفة صلاة 1 الخوف. [اختاره الشيخ 2] .   1 في الطبعة السلفية: (صلاة شدة الخوف) . 2 زيادة من المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 باب صلاة الجمعة المستحب إقامتها بعد الزوال، لفعله صلى الله عليه وسلم. ويصعد للخطبة على المنبر ليسمع الناس، وليس بواجب، "لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم على الأرض قبل أن يصنع المنبر". ويستحب إذا خرج أن يسلّم على الناس، ثم إذا صعد المنبر فاستقبلهم سلّم عليهم. ويجلس إلى فراغ المؤذن، وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا يسلّم عقيب الاستقبال، لأنه سلّم حال خروجه. وأما مشروعية الأذان عقيب صعود الإمام، فلا خلاف فيه؛ وهو الذي يمنع البيع، ويلزم السعي، لأنه الذي كان على عهده صلى الله عليه وسلم، فتعلق الحكم به. وتحريم البيع مختص بالمخاطبين، وحكي في غيرهم روايتان؛ والصحيح ما ذكرنا، فإن الله نهى من أمره بالسعي. وكلما بكر من أول النهار فهو أفضل، وهذا مذهب الشافعي. وقال مالك: لا يستحب قبل الزوال. ولنا: حديث أبي هريرة في الساعات، وروى الترمذي وحسنه: " من غسل واغتسل، وبكّر وابتكر، كان له بكل خطوة يخطوها أجر سنة، صيامها وقيامها". 1 ورواه ابن ماجة وزاد: "ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلْغُ". 2 وقوله: بكّر: خرج في بكرة النهار، وابتكر: بالغ في التبكير، وقيل: معناه: ابتكر العبادة مع بكورها. وقيل: ابتكر الخطبة، أي حضرها، من باكورة الثمرة أي: أولها. وغير هذا أجود، لأن من جاء أول النهار لزم أن يحضر أول الخطبة. قال أحمد: "من غسّل" مشددة يريد: من غسل أهله. وكان غير واحد من التابعين يستحبه ليكون   1 الترمذي: الجمعة (496) , والنسائي: الجمعة (1381) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1087) , وأحمد (4/104) , والدارمي: الصلاة (1547) . 2 الترمذي: الجمعة (496) , والنسائي: الجمعة (1381, 1384, 1398) , وأبو داود: الطهارة (345) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1087) , وأحمد (4/8, 4/9, 4/10, 4/104) , والدارمي: الصلاة (1547) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 أسكن لنفسه. وقيل: غسل رأسه، واغتسل في بدنه، حكي عن ابن المبارك. وقوله: غسل الجنابة على هذا، أي: كغسل الجنابة. والمستحب: أن يمشي، لقوله: "ومشى ولم يركب". وتجب ولو كان من يقيمها مبتدعاً، نص عليه. ولا تعاد، والظاهر من حال الصحابة أنهم لم يكونوا يعيدونها. والخطبة شرط، لا تصح بدونها، ولا نعلم فيه مخالفاًً إلا الحسن، قال: تجزيهم جمعتهم، خطب أو لم يخطب. ولنا: قوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} ، 1 والذكر: الخطبة. وسئل أحمد عن الخطبة قاعداً، فلم تعجبه، قال: قال الله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} . 2 ويستحب لهم أن يستقبلوه إذا خطب، قال ابن المنذر: هذا كالإجماع. وعن الحسن: أنه استقبل القبلة ولم ينحرف إلى الإمام. ويشترط للجمعة خطبتان، وهو مذهب الشافعي. وقال مالك: يجزئه خطبة واحدة. ويشترط لكل واحدة منهما حمد الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن لا تجب الصلاة عليه، لأنها لم تذكر في خطبته. وأما القراءة، فقال القاضي: يحتمل أن تشترط. قال أصحابنا: ولا يكفي أقل من آية، وظاهر كلام أحمد: لا يشترط ذلك، لأنه قال: القراءة في الخطبة ليس فيها شيء مؤقت. وقال: إن خطب وهو جنب، ثم اغتسل وصلى بهم، أجزأه؛ والجنب ممنوع من قراءة آية. ويحتمل أن لا يجب سوى حمد الله والموعظة، لأنه يسمى خطبة، وما عداهما ليس على اشتراطه دليل، ولكن "يستحب أن يقرأ آيات لما ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم". ويستحب أن يجلس بين الخطبتين جلسة خفيفة، وقال الشافعي: "هي واجبة لأنه صلى الله   1 سورة الجمعة آية: 9. 2 سورة الجمعة آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 عليه وسلم يجلسها". ولنا: "أنه سرد الخطبة جماعة من الصحابة، منهم المغيرة وأبيّ بن كعب"، قاله أحمد. والسنة: أن يخطب متطهراً، وعنه: أنه من شرائطها. ويسن أن يتولى الصلاة من يتولى الخطبة، وإن خطب رجل وصلى آخر جاز، لكن قال أحمد: لا يعجبني لغير عذر. وهل يشترط أن يكون المصلي ممن حضر الخطبة؟ فيه روايتان. من السنة أن يقصد تلقاء وجهه، لأنه لو التفت لأعرض عن الجانب الآخر. ويستحب أن يرفع صوته، لقول جابر: "كان إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبّحكم ومسّاكم " 1. ويستحب تقصيرها، لحديث عمار وغيره، وأن يعتمد على عصا أو قوس أو سيف، لحديث الحكم، وفيه: "فقام متوكئاً على عصا أو قوس". 2 رواه أبو داود. وسئل أحمد: عمن قرأ سورة الحج على المنبر؟ قال: لا. لم يزل الناس يخطبون بالثناء على الله، والصلاة على رسوله. و"إن قرأ السجدة في أثناء الخطبة، فإن شاء نزل فسجد، وإن شاء ترك؛ فعل عمر وترك"، وبه قال الشافعي. "ونزل عثمان وأبو موسى وغيرهما"، وبه قال أصحاب الرأي، لأن السجود عندهم واجب. وقال مالك: لا ينزل، لأنها تطوع فلا يشتغل بها في أثناء الخطبة. ولنا: فعل عمر وتركه، وفعل مَن سمّينا من الصحابة. ويستحب أن يدعو للمؤمنين والمؤمنات ولنفسه وللحاضرين، وإن دعا لسلطان المسلمين بالصلاح فحسنٌ. وروى ضبة بن محصن: "أن أبا موسى إذا خطب فحمد الله وصلى على النبي، يدعو لعمر، فأنكر عليه ضبة البدأة بعمر قبل الدعاء لأبي بكر، فرفع إلى عمر. فقال لضبة: أنت أوفق منه وأرشد". وقال عطاء: هو محدث.   1 مسلم: الجمعة (867) , وابن ماجة: المقدمة (45) , وأحمد (3/337, 3/371) . 2 أبو داود: الصلاة (1096) , وأحمد (4/212) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وصلاة الجمعة ركعتان، يقرأ في كل ركعة بـ"الحمد" وسورة، ويجهرُ بالقراءة، لا خلاف في ذلك كله. و"يستحبُّ أن يقرأ فيهما بـ"الجمعة" و"المنافقين"، لحديث أبي هريرة"، رواه مسلم، "أو "سبح" و"الغاشية""، لحديث النعمان بن بشير، رواه مسلم. وأكثر أهل العلم يرون أن من أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة، فهو مدرك لها؛ يضيف إليها أخرى وتجزئه. وقال عطاء وغيره: "من لم يدرك الخطبة صلى أربعاً". ولنا: حديث أبي هريرة، ولأنه قول ابن مسعود وأنس وابن عمر؛ ولا مخالف لهم في عصرهم. ومن أدرك أقل بنى عليها ظهراً، إذا دخل بنية الظهر؛ وهو قول جميع من ذكرنا في التي قبلها. وقال حماد والحكم: يدرك بأي قدر أدركه. ولنا: حديث أبي هريرة المتقدم، ولأنه قول مّن سمّينا من الصحابة والتابعين، ولا مخالف لهم في عصرهم؛ فيكون إجماعاً. ومن أحرم مع الإمام، ثم زحم فلم يقدر على السجود والركوع حتى سلّم الإمام، فعنه: يكون مدركاً، ويصلي ركعتين؛ وهو قول الحسن والأوزاعي. وعنه: يصلي أربعاً، وهو قول الشافعي وابن المنذر. فإن قدر على السجود على ظهر إنسان أو قدميه، لزمه وأجزأه، وبه قال الشافعي وابن المنذر. وقال مالك: لا يفعل، وتبطل به الصلاة، لقوله: "مكّن جبهتك من الأرض". ولنا: قول عمر: "إذا اشتد الزحام، فليسجد على ظهر أخيه". رواه سعيد. قاله بمحضر من الصحابة في يوم جمعة. و"من دخل والإمام يخطب، لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما"، وبه قال الشافعي، لحديث جابر، رواه مسلم. وقال مالك: يجلس ولا يركع، لقوله: "اجلس! فقد آذيت"، 1 وهي قضية عين، الظاهر أنه أمره ليكفّ أذاه عن الناس. ويجب الإنصات من حين يأخذ في الخطبة، وكره الكلام حينئذ عامة أهل العلم،   1 النسائي: الجمعة (1399) , وأبو داود: الصلاة (1118) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وعنه: لا يحرم الكلام. "وكان سعيد بن جبير والنخعي والشعبي يتكلمون والحجاج يخطب"، وقال بعضهم: "إنا لا نؤمر أن ننصت لهذا". واحتج من أجازه بحديث أنس: "أن رجلاً قال لرسول الله وهو يخطب: هلك الكراع، هلك الشاء؛ فادع الله! ". 1 الحديث متفق عليه. ولنا: قوله: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب: أنصت! فقد لغوت". 2 متفق عليه، وما احتجوا به يحتمل أنه مختص بمن كلّم الإمام. ولا يحرم الكلام على الخطيب، ولا على من سأله الخطيب، "لأنه صلى الله عليه وسلم سأل سليكا: أصلّيتَ؟ قال: لا". 3 "وعمر سأل عثمان". وإذا سمع متكلماً لم ينهه بالكلام، لحديث أبي هريرة، ولكن بالإشارة. نص عليه. وكره طاووس الإشارة. وسئل أحمد: عن رد السلام، وتشميت العاطس، والإمام يخطب؟ فقال: نعم. قد فعله غير واحد. وعنه: إن كان يسمع الخطبة فلا. وللبعيد أن يذكر الله ولا يرفع صوته، ورخص له في الذكر والقراءة عطاء وغيره. ولا يكره الكلام قبل الخطبة ولا بعدها، وبه قال عطاء وغيره، وقال ابن عبد البر: "ابن عمر وابن عباس يكرهان الكلام بعد خروج الإمام"، ولا مخالف لهما في الصحابة. وقد ذكرنا عن عمومهم خلاف هذا، وقوله: "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب ... " 4 الحديث، وروى ثعلبة: "أنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة إذا جلس عمر على المنبر" الحديث. فأما الكلام في الجلسة بينهما، فيحتمل جوازه، وهو قول الحسن، ويحتمل المنع، وهو قول مالك والشافعي. وهل يسوغ الكلام إذا كان في دعاء؟ احتمالان. ويكره العبث وهو يخطب، لقوله: "مَن مسّ الحصى فقد لغا ". 5 ويكره الشرب والإمام يخطب، وبه قال مالك، ورخص فيه الشافعي. قال أحمد: لا يتصدق على السائل والإمام يخطب، و"إن حصبه كان أعجب إليّ، لفعل   1 البخاري: الجمعة (932) والمناقب (3582) , وأبو داود: الصلاة (1174) . 2 البخاري: الجمعة (934) , ومسلم: الجمعة (851) , والترمذي: الجمعة (512) , والنسائي: الجمعة (1401, 1402) , وأبو داود: الصلاة (1112) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1110) , وأحمد (2/244) , ومالك: النداء للصلاة (232) , والدارمي: الصلاة (1548, 1549) . 3 مسلم: الجمعة (875) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1112) . 4 البخاري: الجمعة (934) , ومسلم: الجمعة (851) , والترمذي: الجمعة (512) , والنسائي: الجمعة (1401, 1402) , وأبو داود: الصلاة (1112) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1110) , وأحمد (2/280) , ومالك: النداء للصلاة (232) , والدارمي: الصلاة (1548, 1549) . 5 مسلم: الجمعة (857) , والترمذي: الجمعة (498) , وأبو داود: الصلاة (1050) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1090) , وأحمد (2/424) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ابن عمر". ولا بأس بالاحتباء والإمام يخطب، روي عن جماعة من الصحابة، قال أبو داود: لم يبلغني أن أحداً كرهه، إلا عبادة بن نسي، لأن سهل بن معاذ روى: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب". 1 رواه أبو داود، وفي إسناده مقال. قال ابن المنذر: الأوْلى تركه، لأجل الخبر وإن كان ضعيفاً. وإنما تجب بشروط سبعة: القرية، والأربعين، والذكورية، والبلوغ، والعقل، والإسلام، والاستيطان. وهذا قول أكثر أهل العلم. فأما القرية فيعتبر أن تكون مبنية بما جرت العادة به، من طين أو قصب أو شجر ونحوه. فأما أهل الخيام وبيوت الشعر، فلا جمعة عليهم ولا تصح منهم، لأن ذلك لا ينصب للاستيطان غالباً؛ ولذلك كان الذين حول المدينة لم يقيموا جمعة، ولا أمرهم بها صلى الله عليه وسلم. ومتى كانت القرية لا تجب على أهلها الجمعة فسمعوا النداء من المصر أو من قرية تقام فيها، لزمهم السعي إليها، لعموم الآية. والأربعون شرط لصحة الجمعة، وهو مذهب مالك والشافعي. وعنه: تنعقد بثلاثة، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور. وقال ربيعة: تنعقد باثني عشر، لحديث جابر: "فلم يبق إلا اثنا عشر رجلاً". 2 رواه مسلم. ولنا: حديث كعب بن مالك، وفيه: "كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون". 3 فأما الثلاثة والأربعة فتحكم بالرأي فيما لا مدخل له فيه، فإن التقديرات بابها التوقيف. وإذن الإمام ليس بشرط، وبه قال مالك والشافعي. وعن الحسن وأبي حنيفة: لا يقيمُها إلا الأئمة في كل عصر، فكان إجماعاً. ولنا: "أن علياً صلى الجمعة بالناس، وعثمان محصور، فلم ينكر. وصوّبه عثمان، وأمر بالصلاة معه". رواه البخاري عن عبيد الله بن عدي. قال أحمد: وقعت الفتنة بالشام تسع سنين، فكانوا   1 الترمذي: الجمعة (514) , وأبو داود: الصلاة (1110) , وأحمد (3/439) . 2 البخاري: الجمعة (936) , ومسلم: الجمعة (863) , والترمذي: تفسير القرآن (3311) , وأحمد (3/313, 3/370) . 3 البخاري: المغازي (4152) , والدارمي: المقدمة (27) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 يجمعون. ولا يشترط لها المصر، وبه قال مالك والشافعي. وعن أبي حنيفة: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع. ولنا: قول كعب بن مالك: "أول من جمع بنا: أسعد بن زرارة في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له: الخضمات". رواه أبو داود. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أكان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال الخطابي: حرة بني بياضة: قرية على ميل من المدينة. وحديث ابن عباس: "في جواثا". ولا يشترط لها البنيان، فتجوز فيما قاربه من الصحراء. وقال الشافعي: لا تجوز. ولنا: "أن مصعبا جمع بهم في نقيع الخضمات"، والنقيع: بطن من الأرض يستنقع الماء فيه مدة، فإذا نضب نبت الكلأ. وإذا كان البلد كبيرا يحتاج إلى جوامع، فصلاة الجمعة فيها جائزة، وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها، لأن الحدود تقام فيها في موضعين. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: "لا تجوز في بلد واحد إلا في موضع واحد، لأنه صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده لم يجمعوا إلا في واحد". ولنا: "أن علياً كان يستخلف أبا مسعود (البدري) يوم العيد، يصلي بضعفة الناس". ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار، صُليت في أماكن فلم ينكر، فكان إجماعاً. قال أحمد: يقام بالمدينة قدمها مصعب بن عمير وهم مختبئون في دار، فجمع بهم وهم أربعون. فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز، لا نعلم فيه خلافاً، إلا أن عطاء قيل له: إن أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر. قال: لكل قوم مسجد يجمعون فيه. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن لا جمعة على النساء. فأما المسافر فأكثر أهل العلم يرون أن لا جمعة عليه. وحكي عن النخعي أنها تجب. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّها في سفر، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 خلفاؤه"، وكذلك غيرهم من الصحابة. قال إبراهيم: "كانوا يقيمون بالري السنة وأكثر من ذلك، وبسجستان السنتين، لا يجمعون ولا يشرقون"، وأما العيد ففيه روايتان. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن لا جمعة على النساء، وأجمعوا على أنهن إذا حضرن فصلين الجمعة، أن ذلك يجزئ عنهن. ولا تنعقد الجمعة بمن لا تجب عليه ولا يصح أن يكون إماماً فيها، وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز أن يكون العبد والمسافر إماماً فيها، ووافقهم مالك في المسافر. وإن ظن أنه لا يدرك الجمعة، انتظر حتى يصلي الإمام، ثم يصلي الظهر؛ وبه قال مالك والشافعي في الجديد. وقال في القديم، وأبو حنيفة: يصلي ظهراً. فأما من لا تجب عليه، فله أن يصلي قبل الإمام، في قول الأكثر. و"لا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها، أن يصلي جماعة إذا أمن أن ينسب إلى مخالفة الإمام، فعله ابن مسعود وغيره"؛ وهو قول الشافعي. وكرهه مالك. ولنا: حديث فضل الجماعة. "وفاتت الجمعة عبد الله، فصلى بعلقمة والأسود". احتج به أحمدُ وقال: ما أعجب الناس! ينكرون هذا! ويستحب لمن ظهر للجمعة أن يغتسل ويلبس ثوبين نظيفين ويتطيب، ولا خلاف في هذا كله؛ وفيه آثار صحيحة، وليس بواجب [في قول الأكثر. قال ابن المنذر: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً: ليس غسل الجمعة بفرض واجب 1] . وعنه: أنه واجب. ولنا: قوله: "ومن اغتسل فالغسل أفضل"، 2 وقصة عمر عن عثمان. ووقت الغسل بعد طلوع الفجر، وهو قول الشافعي. وعن مالك: لا يجزيه إلا أن يتعقبه الرواح. وإن أحدث بعده، أجزأه الغسل وكفاه الوضوء، وبه قال مالك والشافعي. واستحب طاووس وغيره إعادة الغسل.   1 ما بين القوسين زيادة من النسخة الخطية. 2 الترمذي: الجمعة (497) , والنسائي: الجمعة (1380) , وأبو داود: الطهارة (354) , وأحمد (5/8, 5/11, 5/15, 5/16, 5/22) , والدارمي: الصلاة (1540) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ومن لا يأتي الجمعة لا غسل فيه. "وكان ابن عمر لا يغتسل". وكان عطاء لا يغتسل، "وكان طلحة يغتسل". وروي عن مجاهد وطاووس ولعلهم أخذوا بالعموم. ولنا: قوله: "من أتى الجمعة فليغتسل". 1 ويستحب أن يلبس ثوبين نظيفين، لحديث عبد الله بن سلام، رواه مسلم. والتطيب مندوب إليه والسواك، لما ورد. ولا يتخطى رقاب الناس، ولا يفرّق بين اثنين، لما ورد، فإن رأى فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي، فروايتان. قال الحسن: يتخطى رقاب الذين يجلسون على أبواب المساجد، فإنهم لا حرمة لهم. وعنه: إن كان يتخطى الواحد والاثنين فلا بأس، وإن كثر كرهناه. ولعل الرواية الأولى وكلام الحسن فيما إذا تركوا مكاناً واسعاً، والثاني فيمن لم يفرط. وإذا جلس في مكان فبدت له حاجة، أو احتاج إلى الوضوء، فله الخروج، لحديث عقبة في قسمة التبر، وفيه: "قام مسرعاً يتخطى رقاب الناس". 2 رواه البخاري. ثم إذا رجع، فهو أحق بمجلسه، لقوله: "من قام من مجلسه ثم رجع إليه، فهو أحق به". 3 رواه مسلم. و"ليس له أن يقيم إنساناً ويجلس في موضعه"، لحديث ابن عمر. فإن قدم رجلاً، حتى إذا جاء قام، جاز، لأنه يقوم باختياره. وعن ابن سيرين: "أنه يرسل غلاماً له يوم الجمعة فيجلس مكانه، فإذا جاء محمد قام الغلام، وجلس فيه". ويستحب له الدنو من الإمام، لقوله: "ودنا من الإمام"، ولحديث سمرة: "احضروا الذكر، وادنوا من الإمام؛ فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة، وإن دخلها". 4 رواه أبو داود. وتكره الصلاة في المقصورة التي تحمى، نص عليه، "ورخص فيه أنس وغيره". وقال أحمد: ما أدري هل الصف الأول الذي يقطعه المنبر أو الذي يليه. و"يستحب لمن نعس يوم الجمعة أن يتحول من   1 البخاري: الجمعة (877, 894, 919) , ومسلم: الجمعة (844) , والترمذي: الجمعة (492) , والنسائي: الجمعة (1376, 1405, 1407) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1088) , وأحمد (2/3, 2/9, 2/35, 2/37, 2/41, 2/42, 2/47, 2/48, 2/51, 2/53, 2/55, 2/57, 2/64, 2/75, 2/77, 2/78, 2/101, 2/105, 2/115, 2/120, 2/141, 2/145, 2/149) , ومالك: النداء للصلاة (231) , والدارمي: الصلاة (1536) . 2 البخاري: الأذان (851) . 3 مسلم: السلام (2179) , وأبو داود: الأدب (4853) , وابن ماجة: الأدب (3717) , وأحمد (2/263, 2/283, 2/342, 2/389, 2/446, 2/447, 2/483, 2/527, 2/537) , والدارمي: الاستئذان (2654) . 4 أبو داود: الصلاة (1108) , وأحمد (5/11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 موضعه"، لحديث ابن عمر. ويكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، لحديث أوس، وفيه: "أكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ". 1 رواه أبو داود. ويستحب قراءة الكهف في يومها، والإكثار من الدعاء ليوافق ساعة الإجابة. وإن صلوا الجمعة في الساعة السادسة قبل الزوال أجزأتهم، "روي عن ابن مسعود وغيره أنهم صلوها قبل الزوال". وعنه: تجوز في وقت صلاة العيد، وقال أكثر أهل العلم: وقتها وقت الظهر، إلا أنه يستحب تعجيلها. ولنا على جوازها في السادسة: قول جابر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي - يعني: 2 الجمعة - ثم نذهب إلى جمالنا، فنريحها حين تزول الشمس". رواه مسلم. وعن سهل قال: "ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". متفق عليه. قال ابن قتيبة: لا يسمى غداء ولا قائلة إلا بعد الزوال، وأما في أول النهار فلا تجوز، كما ذكر أكثر أهل العلم؛ والأولى أن لا يصلي إلا بعد الزوال، كصلاته صلى الله عليه وسلم في غالب أوقاته. فإن اتفق عيد ويوم الجمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، إلا الإمام، وهو قول النخعي والشعبي والأوزاعي. وقال أكثر الفقهاء: تجب الجمعة لعموم الأخبار، وعموم الآية. ولنا: حديث زيد بن أرقم، وما احتجوا به مخصوص بما روينا، وأما الإمام فلا تسقط عنه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنا مجمعون". وإن قدم الجمعة فصلاها في وقت العيد، فعنه: يجزئه، ولا يلزمه شيء إلى العصر، لفعل ابن الزبير. قال الخطابي: هذا لا يحمل إلا على قول من يجوز تقديم الجمعة قبل الزوال. وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ، في غير أهل المصر. قال أحمد: أما أهل المصر فلا بد لهم من شهودها، سمعوا النداء أو لم يسمعوا؛ وهذا قول مالك.   1 النسائي: الجمعة (1374) , وأبو داود: الصلاة (1047, 1531) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1636) , وأحمد (4/8) , والدارمي: الصلاة (1572) . 2 هكذا في الأصل وفي الطبعة السلفية: (معنا) ، وفي المخطوطة: (يوم) ، وكلها ظاهرة المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وعن عبد الله بن عمر: "الجمعة على من سمع النداء"، وهو قول الشافعي. وعن ابن عمر وغيره: "الجمعة على من أواه الليل إلى أهله". وقال أصحاب الرأي: لا جمعة على من كان خارج المصر، "لأن عثمان صلى العيد يوم الجمعة، وأرخص لأهل العوالي". ولنا: الآية، وإرخاص عثمان لاجتماع العيدين، كما قررناه. ومن تجب عليه الجمعة لا يجوز له السفر بعد دخول وقتها، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز، لقول عمر: "الجمعة لا تحبس عن سفر". و"روي عن ابنه وعائشة ما يدل على الكراهة"، فيعارض قوله. وإن سافر قبل الوقت، فعنه: يجوز، وهو قول أكثر أهل العلم. وذكر أبو الخطاب أن الوقت الذي يمنع ويختلف فيما قبل زوال الشمس. قال أحمد: إن شاء صلى بعد الجمعة ركعتين، وإن شاء صلى أربعاً، وفي رواية: "إن شاء ستاً"، لحديث أبي هريرة في الأربع، رواه مسلم، وحديث ابن عمر في الركعتين، متفق عليه. وقال أحمد: "لو صلى مع الإمام ثم لم يصل شيئاً حتى العصر جاز"، قد فعله عمران بن حصين. و"يستحب لمن أراد الركوع يوم الجمعة، أن يفصل بينها وبينه بكلام أو قيام من مكانه"، لحديث معاوية، رواه مسلم. قال أحمد: إذا قرؤوا الكتاب يوم الجمعة على الناس بعد الصلاة أعجب إلي أن يسمع، إذا كان فتحاً من فتوح المسلمين، أو فيه شيء من أمور المسلمين. وإن كان إنما فيه ذكرهم فلا يستمع. وقال: الذين يصلون في الطرقات إذا لم يكن بينهم باب مغلق، فلا بأس. وسئل أحمد: عن الرجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة وأبواب المسجد مغلقة؟ قال: أرجو أن لا يكون به بأس. و"يستحب أن يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة بـ"الم السجدة" و"هل أتى [على الإنسان] ""، لحديث أبي هريرة وابن عباس، رواهما مسلم. قال أحمد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ولا أحب أن يداوم عليها، لئلا يظن أنها مفضلة بسجدة. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قوله: مستوطناً ببناء، واختار الشيخ وجوبها على المستوطنين بعمود أو خيام، لكن اشترط في موضع آخر أن يكونوا يزرعون كما يزرع أهل القرية. ولا تجب على مسافر، وقال الشيخ: يحتمل أن تلزمه تبعاً للمقيمين. واختار انعقادها بثلاثة، وأن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم واجبة لا شرط؛ وأوجبها مع الدعاء الواجب، وتقديمها عليه لوجوب تقديمها على النفس. واختار وجوب الشهادتين في الخطبة، وأن الخطبة لا يكفي فيها ذم الدنيا وذكر الموت، لأنه لا بد من اسم الخطبة عرفاً. يقرأ في فجرها بـ" (الم) السجدة"، و"هل أتى"، قال الشيخ: لتضمنهما ابتداء خلق السموات والأرض وابتداء خلق الإنسان، إلى أن يدخل الجنة أو النار، قال: ويكره تحريه قراءة سجدة غيرها. قال: والصلاة قبل الجمعة حسنة وليست سنة راتب، فمن فعل أو ترك لم ينكر عليه، وهذا أعدل الأقوال، وحينئذ فقد يكون الترك أفضل، إذا اعتقد الجهلة أنها سنة راتبة. وأوجب الغسل للجمعة على من به عرَق أو ريح يتأذى به الناسُ. واختار تحريم التخطي إذا لم يجد فرجة، قال: وليس لأحد أن يتخطى رقاب الناس ليدخل في الصف إذا لم يكن بين يديه فرجة، لا يوم الجمعة ولا غيره. قال أحمد: أكثر الأحاديث أن ساعة الإجابة بعد العصر، وإن وجد مصلى مفروشاً، فقال الشيخ: له رفعه، في أظهر قولي العلماء، قال: وليس له فرشه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 باب صلاة العيدين الأصل فيها: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} ، 1 المشهور: أن المراد: صلاة العيد، وهي فرض كفاية، وقيل: فرض عين. وقال مالك: سنّة مؤكدة، لقوله في الخمس: "هل عليَّ غيرها؟ قال: لا". 2 ولنا على وجوبها في الجملة: مداومته صلى الله عليه وسلم، ولأنها من الأعلام الظاهرة، والحديث لا حجة لهم فيه، لأن الأعراب لا جمعة عليهم، فالعيد أولى، وأيضاً وجوب الخمس وتكررها لا ينفي وجوب غيرها نادراً، كصلاة الجنازة والمنذورة. ويستحب إظهار التكبير في ليلتي العيد في المساجد والمنازل والطرق، للمقيم والمسافر، قال أحمد: "كان ابن عمر يكبّر في العيدين جميعاً"، وأوجبه داود في الفطر، لظاهر الآية، وليس فيها أمر، وإنما أخبر عن إرادته تعالى. ويستحب التكبير في أيام العشر كلها، قال البخاري: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر، يكبّران، ويكبّر الناس بتكبيرهما". ويستحب الاجتهاد في عمل الخير، لحديث ابن عباس. ولا خلاف أن التكبير مشروع في عيد النحر، واختلفوا في مدته. فذهب أحمد إلى "أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق"، لحديث جابر. وقيل   1 سورة الكوثر آية: 2. 2 البخاري: الإيمان (46) , ومسلم: الإيمان (11) , والنسائي: الصلاة (458) والصيام (2090) والإيمان وشرائعه (5028) , وأبو داود: الصلاة (391) , ومالك: النداء للصلاة (425) , والدارمي: الصلاة (1578) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 لأحمد: بأي حديث تذهب إلى ذلك؟ قال: بإجماع عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود، والمشروع التكبير عقيب الفرائض في الجماعات. قيل لأحمد: تذهب إلى فعل ابن عمر "أنه لا يكبر إذا صلى وحده"؟ قال: نعم. وقال مالك: لا يكبر عقيب النوافل، ويكبر عقيب الفرائض كلها. وقال الشافعي: يكبر عقيب الفريضة والنافلة، والمسافر كالمقيم، وكذا النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز. والمسبوق يكبر إذا فرغ، في قول الأكثر، وقال الحسن: يكبر ثم يقضي. ويستحب أن يغتسل للعيد، وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر، ويتنظف ويتطيب ويلبس أحسن ما يجد. قال مالك: أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد. وقال أحمد: طاووس يأمر بزينة الثياب، وعطاء قال: هو يوم تخشع واستحسِنُهما جميعاً. ويستحب للمعتكف الخروج في ثياب اعتكافه، والسنة أن يأكل في الفطر قبل الصلاة، ولا يأكل في الأضحى حتى يصلي، لا نعلم فيه خلافاً. "ويفطر على التمر ويأكلهن وتراً"، لحديث أنس، رواه البخاري. قال أحمد: والأضحى لا يأكل فيه حتى يرجع إذا كان له ذبح، وإذا لم يكن له ذبح لم يبال أن يأكل. ويصلي العيد في المصلى، وحكي عن الشافعي إذا كان المسجد واسعاً فهو أولى لأنه خير البقاع. ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم لم يترك الأفضل مع قربه، ويتكلف الناقص مع بعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل. والنفل في البيت أفضل مع شرف المسجد. و"يستخلف من يصلي بضعفة الناس كما فعل علي". وإن كان عذر من مطر أو غيره يمنع الخروج، صلوا في المسجد، لحديث أبي هريرة، رواه أبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ويستحب التبكير بعد صلاة الصبح إلا الإمام، فيتأخر إلى وقت الصلاة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله، قال أبو سعيد: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به: الصلاة". 1 رواه مسلم. ويخرج ماشياً وعليه السكينة والوقار، قال علي: "إن من السنة أن يأتي العيد ماشياً"، حسنه الترمذي. وإن ركب لعذر فلا بأس. ويكبّر في الطريق ويرفع صوته بالتكبير، قال أحمد: يكبّر جهراً إذا خرج من بيته حتى يأتي المصلى. وقال أبو حنيفة: لا يكبّر مع الفطر، لأن "ابن عباس سمع التكبير يوم الفطر فقال: أمجانين الناس؟! ". ولنا: أنه فعله ناس من الصحابة، وأما ابن عباس فكان يقول: "يكبّرون مع الإمام ولا يكبرون وحدهم"، وهو خلاف مذهبه. ولا بأس بخروج النساء إلى المصلى، وقال ابن حامد: يستحب. "وكان ابن عمر يخرج من استطاع من أهله في العيدين". قالت أم عطية: "كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى تخرج البكر من خدرها، وحتى تخرج الحيض فيكنّ خلف الناس، فيكبرون بتكبيرهم ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته". رواه البخاري. ويخرجن تفلات ولا يخالطن الرجال. ووقتها: من ارتفاع الشمس إلى أن يقوم قائم الظهيرة، وقال أصحاب الشافعي: أول وقتها: إذا طلعت الشمس، لحديث ابن بسر، وفيه: "إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين صلاة التسبيح". رواه أبو داود. ولنا: أنه وقت نهي عن الصلاة فيه، ولأنه صلى الله عليه وسلم ومن بعده لم يصلوا حتى ارتفعت، بدليل الإجماع على أنه أفضل، ولا يفعل إلا الأفضل. ولو كان لها وقت قبل ذلك لكان تقييده بطلوع الشمس تحكماً، ولعل عبد الله بن بسر أنكر إبطاء الإمام عن وقتها المجمع عليه.   1 البخاري: الجمعة (956) , ومسلم: صلاة العيدين (889) , وأحمد (3/56) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ويسن تقديم الأضحى ليتسع وقت التضحية، وتأخير الفطر ليتسع وقت إخراج صدقة الفطر، ولا أعلم فيه خلافاً. بلا أذان ولا إقامة، لا نعلم فيه خلافاً يعتدّ به. وقال الشافعي: ينادي لها: "الصلاة جامعة"، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع. ولا نعلم خلافاً أنه يقرأ "الفاتحة" وسورة في ركعة، وأنه يسن الجهر. و"يستحب أن يقرأ في الأولى بـ"سبح" وفي الثانية بـ"الغاشية""، نص عليه، لحديث النعمان بن بشير، رواه مسلم. وقال الشافعي: "بـ"ق" و"اقتربت""، لحديث أبي واقد، رواه مسلم. ويكبر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً. وقال الشافعي: "يكبر في الأولى سبعاً سوى تكبيرة الافتتاح"، لحديث عائشة. وقال الثوري: "في الأولى والثانية ثلاثاً"، لحديث أبي موسى. ولنا: حديث كثير وعبد الله بن عمر وعائشة. قال ابن عبد البر: روي عنه صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة حسان: "أنه كبّر في الأولى سبعاً، وفي الثانية خمساً"، 1 ولم يرو عنه من وجه قوي خلافه. وتكون القراءة بعد التكبير في الركعتين، نص عليه. وقيل: يكبّر في الثانية بعد القراءة، لحديث أبي موسى: "كان رسول الله يكبر تكبيرة على الجنازة، ويوالي بين القراءتين"، رواه أبو داود. قال الخطابي: ضعيف، وليس في رواية أبي داود أنه والى بين القراءتين، ثم يحمل على قراءة "الفاتحة" والسورة. ويرفع يديه في حال تكبيره، وقال مالك: لا يرفعهما في ما عدا تكبيرة الإحرام. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم يرفع يديه مع التكبيرة". 2 قال أحمد: أما أنا، أرى أن الحديث يدخل فيه هذا كله. ويستفتح في أولها، ويحمد الله ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين. وعنه: أن الاستفتاح بعد التكبير، لئلا يفصل بينه وبين الاستعاذة. وقال مالك: يكبر متوالياً، لأنه لو كان بينهما ذكر مشروع   1 ابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1277) , والدارمي: الصلاة (1606) . 2 أبو داود: الصلاة (725) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 لنقل. ولنا: ما نقل عن عبد الله وأبي موسى وحذيفة، رواه الأثرم. والتكبيرات وما بينها سنة، لا تبطل الصلاة بتركه، لا أعلم فيه خلافاً، فإن نسيه حتى شرع في القراءة لم يعد إليه، وقال مالك: يعود إليه. والخطبة بعد الصلاة، لا نعلم فيه خلافاً، إلا عن بني أمية؛ ولا يعتد بخلافهم، لأنه أُنكر وعُدّ بدعة. ويجلس عقيب صعوده المنبر، وقيل: لا، لأنها يوم الجمعة للأذان، ولا أذان هنا. والخطبتان سنة، لا يجب حضورهما، لقوله: "من أحب أن يذهب، فليذهبْ". 1 قال أبو داود: مرسل. وعن الحسن وابن سيرين أنهما كرها الكلام يوم العيد والإمام يخطب. وقال إبراهيم: يخطب بقدر رجوع النساء إلى بيوتهن. وهذا يدل على أنه لا يستحب لهن الجلوس، وموعظته صلى الله عليه وسلم لهن تدل على جلوسهن؛ والسنة أولى بالاتباع. وتكره الصلاة قبلها وبعدها في موضعها، قال أحمد: أهل المدينة لا يتطوعون قبلها ولا بعدها. وأهل البصرة يتطوعون قبلها وبعدها. وأهل الكوفة لا يتطوعون قبلها ويتطوعون بعدها. وقال الشافعي: يكره التطوع للإمام دون المأموم. قال الأثرم: قلتُ لأحمد: قال سليمان بن حرب: إنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم التطوع لأنه كان إماماً، قال أحمد: فالذين رووا عنه لم يتطوعوا. ثم قال: ابن عمر وابن عباس روياه، وعملا به. وإذا غدا من طريق رجع من غيره لفعله صلى الله عليه وسلم. ومن فاتته، صلى أربعاً، قال أحمد: يقوي ذلك حديث علي: "أنه أمر رجلاً يصلي بضعفة الناس أربعاً ولا يخطب"، وإن شاء كصلاة العيد، لما روي عن أنس: "أنه إذا لم يشهدها مع الإمام بالبصرة جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما". وإذا لم يعلم بالعيد إلا بعد   1 النسائي: صلاة العيدين (1571) , وأبو داود: الصلاة (1155) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1290) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الزوال، خرج من الغد فصلى بهم. وعن أبي حنيفة: لا يقضي. وقال الشافعي إن علم بعد غروب الشمس خرج، فإن علم بعد الزوال لم يصل. ولنا: حديث أبي عمير: "أن ركباً جاؤوا فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم". رواه أبو داود، وقال الخطابي: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى، وحديث أبي عمير صحيح، فالمصير إليه واجب. ويشترط الاستيطان "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّها في سفر". ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": هي فرض كفاية، وعنه: فرض عين، اختاره الشيخ، وقال: قد يقال بوجوبها على النساء. وقال: يسن التزين للإمام الأعظم، وإن خرج من المعتكف. قال: ولا يستحب قضاؤها لمن فاتته. واختار الشيخ افتتاح خطبة العيد بالحمد، واختار أن التكبير في الأضحى آكد، ونصره بأدلة كثيرة. ولم ير التعريف لغير من بعرفة، وأنه لا نزاع فيه بين العلماء، وأنه منكر وفاعله ضال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 باب صلاة الكسوف لا نعلم خلافاً في مشروعيتها لكسوف الشمس، والأكثر على مشروعيتها لكسوف القمر. وقال مالك: ليس لكسوف القمر سنة. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان ... إلخ" 1. وتسن جماعة وفرادى، وقال الثوري: إن صلى الإمام صلّوا معه، وإلا فلا. ولنا: قوله: "فإذا رأيتموهما فصلّوا". 2 وتسن في الحضر والسفر، بإذن الإمام وبغير إذنه. وقال أبو بكر: هي كالعيد، فيها روايتان. ولنا: قوله: " فإذا رأيتموهما فصلّوا". 3 و"يسن أن ينادى لها: "الصلاة جامعة""، لحديث ابن عمر، متفق عليه. وحكي عن مالك والشافعي أنهما قالا: لا يطيل السجود، وقالا: لا يجهر في كسوف الشمس. ولنا: أن في حديث عائشة: "ثم سجد سجوداً طويلاً"، 4 وترك ذكره في الحديث لا يمنع مشروعيته إذا ثبت. وعن عائشة: "أنه صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف". متفق عليه. وقال أبو حنيفة: يصلي ركعتين كصلاة التطوع. وقال الشافعي: يخطب لها كخطبتي الجمعة، لما في حديث عائشة: "فخطب الناس".   1 البخاري: الجمعة (1040) , والنسائي: الكسوف (1459, 1463, 1502) , وأحمد (5/37) . 2 البخاري: الجمعة (1040) , والنسائي: الكسوف (1463, 1491, 1502) , وأحمد (5/37) . 3 البخاري: الجمعة (1040) , والنسائي: الكسوف (1463, 1491, 1502) , وأحمد (5/37) . 4 البخاري: الجمعة (1047) , ومسلم: الكسوف (901) , والترمذي: الجمعة (561) , والنسائي: الكسوف (1470, 1472, 1474, 1475, 1476) , وأبو داود: الصلاة (1177, 1180) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1263) , وأحمد (6/32, 6/44, 6/53, 6/76, 6/81, 6/87, 6/98, 6/158, 6/164, 6/168, 6/238) , ومالك: النداء للصلاة (444, 446) , والدارمي: الصلاة (1527) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 باب صلاة الاستسقاء قال أبو القاسم: إذا أجدبت الأرض واحتبس المطر، خرجوا مع الإمام، فكانوا في خروجهم كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه إذا خرج للاستسقاء خرج متبذلاً متخشعاً متذللاً متضرعاً". ولا يستحب إخراج البهائم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله. ولا نعلم خلافاً في أنها ركعتان. واختلفت الرواية هل يكبر بتكبير العيد أم لا؟ قال ابن المنذر: ثبت "أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء وخطب"، وبه قال عوام أهل العلم، إلا أبا حنيفة، وخالفه صاحباه فوافقا سائر العلماء؛ والسنة يستغنى بها عن كل قول. ويسن أن يجهر بالقراءة، لحديث عبد الله بن زيد، متفق عليه. ولا يسن لها أذان ولا إقامة، لا نعلم فيه خلافاً. ولا وقت لها، إلا أنها لا تفعل في وقت النهي بلا خلاف؛ والأولى وقت صلاة العيد، لقول عائشة: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس". 1 رواه أبو داود. والمشهور من الروايات: أن لها خطبة كالعيد، والصحيح بعد الصلاة، وبه قال مالك والشافعي. قال ابن عبد البر: عليه جماعة الفقهاء، لقول أبي هريرة: "صلى ركعتين ثم خطبنا". والثانية: "يخطب قبلها"، روي عن ابن عمر وابن الزبير، وإليه ذهب الليث وابن المنذر، لحديث عبد الله بن زيد وفيه: "ثم صلى ركعتين". والثالثة: مخير، لورود الأخبار بكلا الأمرين. والرابعة: لا يخطب، بل يدعو ويتضرع، لقول ابن عباس: "لم يخطب كخطبتكم هذه لكنه لم يزل في الدعاء والتضرع   1 أبو داود: الصلاة (1173) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 والتكبير". والأوْلى: أن يخطب بعدها، فإن أغيثوا لم يحتاجوا إلى الصلاة في المطر، وقول ابن عباس نفي للصفة، لا لأصل الخطبة. ويستحب للخطيب استقبال القبلة في أثناء الخطبة، لما روي عبد الله بن زيد: "أنه صلى الله عليه وسلم خرج يستسقي، فحوّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو" 1. ويستحب أن يحوّل رداءه في حال استقبال القبلة، للإمام والمأموم، في قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: لا يسن؛ والسنة أحق أن تتبع. وحكي عن ابن المسيب أن تحويل الرداء مختص بالإمام؛ وصفته: أن يجعل ما على الأيمن على اليسرى وبالعكس. وكان الشافعي يقول به، ثم رجع فقال: يجعل أعلاه أسفله، "لأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يفعله، فلما ثقل عليه جعل العطاف الذي على الأيسر على عاتقه الأيمن وعكسه". ولنا: فعله صلى الله عليه وسلم، وتلك إن ثبتت فهي ظن من الراوي، لا يترك لها فعله. و"يستحب رفع اليدين في دعاء الاستسقاء"، لحديث أنس، رواه البخاري، ويدعو ويدعون ويكثرون الاستغفار. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى ميمون بن مهران: قد كتبت إلى البلدان أن يخرجوا إلى الاستسقاء إلى موضع كذا، وأمرتهم بالصدقة والصلاة، قال الله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ، 2 وأمرتهم أن يقولوا كما قال أبوهم آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} الآية. 3 ثم ذكر دعوة نوح ويونس وموسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} . 4 وهل من شرطها إذن الإمام؟ على روايتين: إحداهما:   1 البخاري: الجمعة (1025) , ومسلم: صلاة الاستسقاء (894) . 2 سورة آية: 14-15. 3 سورة الأعراف آية: 23. 4 سورة القصص آية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 لا يستحبُّ إلا بخروجه، أو رجل من قِبله. قال أبو بكر: إذا خرجوا من غير إذنه دعوا وانصرفوا. وعنه: يصلون لأنفسهم، ويخطب أحدهم. ووجه الأولى: "أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر بها"، وإنما فعلها على صفة فلا نتعداها. فإن سقوا وإلا عادوا في اليوم الثاني والثالث، وبه قال مالك والشافعي. وقال إسحاق: لا يخرجون إلا مرة، "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج إلا مرة". ولنا: أنه سبحانه يحب الملحين، وكونه لم يخرج ثانياً فلاستغنائه بالإجابة. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وجعل الشيخ مسألة التوسل به صلى الله عليه وسلم كمسألة اليمين به، قال: والتوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته وبدعائه وشفاعته ونحوه مما هو فعله أو أفعال العباد المأمور بها في حقه، مشروع إجماعاً؛ وهو من الوسيلة المأمور بها في قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} . 1 وقال الإمام أحمد وغيره من العلماء، في قوله: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق": 2 الاستعاذة لا تكون بمخلوق. ويرفع يديه، بلا نزاع، وظهورهما نحو السماء، واختار الشيخ بطونهما وقال: صار كفهما نحو السماء لشدة الرفع لا قصداً منه، وإنما كان يوجه بطونهما مع القصد. ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة، وقيل: بعدها.   1 سورة المائدة آية: 35. 2 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي: الدعوات (3437) , وابن ماجة: الطب (3547) , وأحمد (6/377, 6/378, 6/409) , والدارمي: الاستئذان (2680) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 كتاب الجنائز يستحب ذكر الموت والاستعداد له، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من ذكر هادم اللذات". 1 رواه البخاري. ويكره الأنين، لما روي عن عطاء أنه كرهه. ولا يتمنى الموت لضر نزل به، للحديث، صححه الترمذي. و"يحسن الظن بربه"، لحديث جابر، رواه أبو داود. وقال معتمر عن أبيه: "أنه قال له عند موته: حدثني بالرخص". ويستحب عيادة المريض، وإذا دخل على المريض دعا له ورقاه، لحديث ثابت عن أنس: "اللهم رب الناس مذهب الباس ... إلخ"، 2 وحديث أبي سعيد في رقية جبرائيل، قال أبو زرعة: كلا الحديثين صحيح. ويلقن إذا نزل به: "لا إله إلا الله"، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم: "لا إله إلا الله"". 3 رواه مسلم. وقال الحسن: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تموت يوم تموت، ولسانك رطب من ذكر الله ". رواه سعيد. ولا يكرر عليه ولا يضجره، إلا أن يتكلم بشيء فيعيد تلقينه، لتكون "لا إله إلا الله" آخر كلامه، نص عليه. قال أحمد: ويقرؤون عند الميت إذا حضر ليخفف عنه بالقرآن، ويقرأ "يس"، وأمر بقراءة "الفاتحة". ويوجه إلى القبلة، واستحبه مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام، وأنكره ابن المسيب؛ فإنهم لما أرادوا أن يحولوه إليها، قال: ألم أكن على القبلة إلى يومي هذا؟ والأول أوْلى، لأن حذيفة قال: "وجهوني إلى القبلة". و"تغمض عيناه"، لحديث أم سلمة، رواه مسلم. ويسارع إلى تجهيزه إذا تيقن   1 الترمذي: الزهد (2307) , والنسائي: الجنائز (1824) , وابن ماجة: الزهد (4258) , وأحمد (2/292) . 2 البخاري: الطب (5742) , والترمذي: الجنائز (973) , وأبو داود: الطب (3890) , وأحمد (3/151, 3/267) . 3 مسلم: الجنائز (916) , والترمذي: الجنائز (976) , والنسائي: الجنائز (1826) , وأبو داود: الجنائز (3117) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1445) , وأحمد (3/3) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 موته، لحديث: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تُحبس بين ظهراني أهله". 1 رواه أبو داود. وإذا اشتبه الميت، اعتبر بظهور أمارات الموت، من استرخاء رجليه، وانفصال كفيه، وميل أنفه. وإن مات فجأة انتظر حتى يتيقن موته. ويسارع في قضاء ديْنه، لقوله عليه السلام: "نفس المؤمن معلقة بديْنه حتى يُقضى". 2 حسنه الترمذي. وإن تعذر استحب لوارثه أو غيره أن يتكفل به عنه، كفعل أبي قتادة. و"يسجى بثوب يستر جميعه"، لقول عائشة: "سُجي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب حبرة" 3. ويستحب تجريده عند غسله، وستر عورته، لا نعلم فيه خلافاً. وقال الشافعي: "يغسل في قميص، كما فعل به صلى الله عليه وسلم". ولنا: قول عائشة: "نجرده كما نجرد موتانا". قال ابن عبد البر: روي عنها من وجه صحيح. قيل لأحمد: أيستر الصبي؟ قال: ليست عورته بعورة، وتغسله النساء. والاستحباب: أن لا يغسل تحت السماء. وكان ابن سيرين يستحب أن يكون الذي يغسل فيه مظلماً، ذكره أحمد. وقال أحمد: لا يعصر بطنه في الأولى، ولكن في الثانية، لأن الميت لا يلين حتى يصيبه الماء. ويلف الغاسل على يديه خرقة ينجيه بها، لأن النظر إلى العورة حرام، فمسها أولى. ويزيل ما على بدنه من نجاسة، لأن الحي يبدأ بذلك في الجنابة. ويوضيه، لقوله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي غسلن ابنته: "ابدأن بميامنها". 4 ولا يدخل الماء في فيه ولا أنفه، في قول الأكثر. ويكون في كل الغسلات شيء من السدر. وذكر عن عطاء أنه قيل له: إنه يبقى الشيء من السدر إذا غسله به كل مرة، قال: هو طهور. واحتج أحمد بحديث أم عطية، أنه قال حين توفيت ابنته: "اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر من ذلك إن   1 أبو داود: الجنائز (3159) . 2 الترمذي: الجنائز (1078) , وابن ماجة: الأحكام (2413) , وأحمد (2/440, 2/475) , والدارمي: البيوع (2591) . 3 البخاري: اللباس (5814) , ومسلم: الجنائز (942) , وأبو داود: الجنائز (3120, 3149) , وأحمد (6/89, 6/153, 6/161) . 4 البخاري: الوضوء (167) , ومسلم: الجنائز (939) , والترمذي: الجنائز (990) , والنسائي: الجنائز (1884) , وأبو داود: الجنائز (3145) , وأحمد (6/407) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 رأيتن، بماء وسدر"، 1 وقال: "إذا طال فينا المريض، غسل بالأشنان"، يعني: أنه يكثر وسخه. ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً ليشده ويبرده ويطيبه، لقوله: "واجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً". 2 وإن رأى الزيادة على الثلاث، لكونه لم ينق أو لغير ذلك، فعل. ويقطع على وتر، لحديث أم عطية. قال أحمد: ولا يزاد على سبْع، خرج منه شيء أو لم يخرج، ولكن يغسل النجاسة ويحشو مخرجها بالقطن. والحائض والجنب كغيرهما، قال ابن المنذر: هو قول من نحفظ عنه. وعن الحسن: يغسل غسلين. قال أحمد: لا يعجبني أن يغسل واحدة، وهذا على سبيل الكراهة دون الإجزاء، لأن في حديث المحرم: "اغسلوه بماء وسدر"، 3 ولم يذكر عدداً. ويكفّن الرجل في ثلاث لفائف بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة، ولا يزيد عليها ولا ينقص منها، قال الترمذي: العمل عليه عند أكثر أهل العلم. وإن كفن قميصه فلا بأس، "لأنه صلى الله عليه وسلم كفّن في قميصه، وألبس ابن أبيّ قميصه"، ويجوز في ثوبين، لقوله في المحرم: "كفّنوه في ثوبين". 4 وأقل ما يجزئ: ثوب يستر جميعه، لقول أم عطية: "فلما فرغنا ألقى علينا حقوه فقال: أشعرنها إياه. ولم يزد على ذلك". رواه البخاري، وقوله: "أشعرنها" أي: الففنها فيه. ولا خلاف أن الصبي يجزئه ثوب، وإن كفّن في ثلاثة أثواب فلا بأس. "وأوصى أبو سعيد وابن عباس أن تجمر أكفانهم بالعود، وكان ابن عمر يتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك". فإن لم يجد ما يستر جميعه، ستر رأسه وجعل على رجليه حشيشاً أو ورقاً. فإن لم يجد إلا ما يستر العورة سترها لأنها أهم. وإن خرج منه يسير بعد تكفينه لم يُعد الغسل، لا نعلم فيه خلافاً، لأن فيه مشقة شديدة. وإن كان فاحشاً، فروي عن أحمد أنه يعاد الغسل قبل تمام السابعة،   1 البخاري: الجنائز (1253) , ومسلم: الجنائز (939) , والترمذي: الجنائز (990) , والنسائي: الجنائز (1884) , وأبو داود: الجنائز (3145) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1459) , وأحمد (6/407) . 2 البخاري: الجنائز (1263) , ومسلم: الجنائز (939) , والترمذي: الجنائز (990) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1459) , وأحمد (6/407) . 3 البخاري: الجنائز (1267) , ومسلم: الحج (1206) , والترمذي: الحج (951) , والنسائي: الجنائز (1904) ومناسك الحج (2854, 2855, 2856, 2857) , وأبو داود: الجنائز (3238, 3241) , وابن ماجة: المناسك (3084) , وأحمد (1/215, 1/220, 1/266, 1/286, 1/328, 1/333, 1/346) , والدارمي: المناسك (1852) . 4 البخاري: الجنائز (1265) , ومسلم: الحج (1206) , والترمذي: الحج (951) , والنسائي: الجنائز (1904) ومناسك الحج (2854, 2855, 2857) , وأبو داود: الجنائز (3238) , وابن ماجة: المناسك (3084) , وأحمد (1/215, 1/220, 1/286, 1/328, 1/333) , والدارمي: المناسك (1852) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وأصحابه كلهم رووا عنه: لا يعاد الغسل بحال. وإن أحب أهله أن يروه لم يمنعوا، "لأنه صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون"، ولحديث جابر: "أنه قبّل أباه"، والحديثان صحيحان. قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه: يرون أن تكفن المرأة في خمسة أثواب، والذي عليه أكثر أصحابنا أنها: إزار ودرع وخمار ولفافتان، لما روى أبو داود عن ليلى بنت قائف قالت: "كنت فيمن غسل أم كلثوم، فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقاء، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة. ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر". 1 قال أحمد: لا يعجبني أن تكفن في شيء من الحرير، وكرهه الحسن وابن المبارك وإسحاق. قال ابن المنذر: لا أحفظ عن غيرهم خلافه. ويضفر شعر المرأة ثلاثة قرون، ويرسل من خلفها. وقال الأوزاعي: لا يضفر، ولكن يرسل مع خديها. ولنا: حديث أم عطية: "فضفرنا شعرها ثلاثة قرون، فجعلناه مِن خلفها". وأما التسريح فكرهه أحمد. وفي حديث أم عطية: أمشطناها ثلاثة قرون. قال أحمد: إنما ضفرن، وأنكر المشط؛ فكأنه تأول: مشطناها: ضفرناها. ولا خلاف في استحباب الإسراع بالجنازة، وبه ورد النص، ولا يخرج عن المشي المعتاد. وقال أصحاب الرأي: يخبُّ به ويرمل، لحديث أبي بكرة: "لقد رأيتنا نرمل ترملاً". رواه أبو دواد. ولنا: قوله لمن فعل ذلك: "عليكم بالقصد في جنائزكم". رواه في المسند. وعن ابن مسعود: "سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشي في الجنازة، فقال: ما دون الخبب". 2 رواه أبو داود والترمذي وقال: يرويه أبو ماجد، وهو مجهول. واتباعها سنة، وهو على ثلاثة أضرب: أحدها: يصلي وينصرف؛ قال زيد بن ثابت: إذا صليت فقد   1 أبو داود: الجنائز (3157) , وأحمد (6/380) . 2 الترمذي: الجنائز (1011) , وأبو داود: الجنائز (3184) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 قضيت الذي عليك. الثاني: أن يتبعها إلى القبر، لحديث القيراطين. الثالث: "أن يقف بعد الدفن، فيسأل الله له التثبيت، كما روى أبو داود عنه صلى الله عليه وسلم". ويستحب لمتبعها أن يكون متخشعاً متفكراً في مآله. ورأى بعض السلف رجلاً يضحك في جنازة، فقال: لا كلمتك أبداً. وأكثر العلماء يرون المشي أمامها أفضل. وقال الأوزاعي: "خلفها أفضل"، لحديث علي وحديث ابن مسعود. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمامها". قال ابن المنذر: ثبت ذلك، وحديث ابن مسعود يرويه أبو ماجد، والآخر قال أهل السنن: هو ضعيف. قال الخطابي في الراكب: لا أعلمهم يختلفون أنه يكون خلفها، لقوله صلى الله عليه وسلم "الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها. والطفل يصلَّى عليه". 1 صححه الترمذي. ويكره الركوب في اتباعها، لحديث ثوبان، رواه الترمذي، ولا بأس في الرجوع، لحديث جابر: "أنه صلى الله عليه وسلم خرج في جنازة ابن الدحداح ماشياً، ورجع على فرس". 2 صححه الترمذي. ويكره رفع الصوت عندها، لنهيه صلى الله عليه وسلم أن تتبع بصوت. قال ابن المنذر: روينا عن قيس بن عباد قال: "كان أصحاب رسول الله يكرهون رفع الصوت عند ثلاث: عند الجنازة وعند الذكر وعند القتال". و"سمع ابن عمر رجلاً يقول: أستغفر الله. فقال: لا غفر الله لك"، رواه سعيد. ويكره اتباعها بنار، قال ابن المنذر: يكرهه كل من نحفظ عنه، فإن دفن ليلاً فاحتاجوا إلى ضوء فلا بأس، إنما كره المجامر فيها البخور. "ودخل صلى الله عليه وسلم قبراً ليلاً فأُسرج له سراج". 3 حسنه الترمذي. ويكره اتباعها للنساء، لحديث أم عطية. وإن كان معها منكر لا يقدر على إزالته، فهل   1 الترمذي: الجنائز (1031) , والنسائي: الجنائز (1943) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1507) , وأحمد (4/247, 4/248, 4/249, 4/252) . 2 الترمذي: الجنائز (1014) , والنسائي: الجنائز (2026) . 3 الترمذي: الجنائز (1057) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1520) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 يرجع أو يتبعها؟ فيه وجهان. و"التربيع سنة في حملها"، لحديث ابن مسعود، رواه سعيد. قال ابن المنذر: روينا عن عثمان وغيره: "أنهم حملوا بين عمودي السرير"، وكرهه إسحاق؛ والصحيح: الأول، لأن الصحابة فعلوه. قال مالك: وليس في حمله توقيف؛ يحمل من حيث شاء، ونحوه قال الأوزاعي. ولا يستحب القيام لها، لأنه آخر الأمرين. قال أحمد: إن قام لم أعبه، وإن قعد فلا بأس. "يستحب أن لا يجلس حتى توضع"، لحديث أبي سعيد، رواه مسلم. ورأى الشافعي أنه منسوخ بحديث علي: "قام ثم قعد". قال إسحاق: معنى قول علي: "كان رسول الله إذا رأى الجنازة قام، ثم ترك ذلك بعد"، 1 وعلى هذا، لا يصح، لأن قوله: قعد أي: ترك القيام لها، فلم يجز النسخ بأمر محتمل. وأظهر الروايتين أنه الوضع عن أعناق الرجال لقوله: "حتى توضع بالأرض". وروى أبو معاوية: "حتى توضع في اللحد"، وحديث سفيان أصح. فأما من تقدمها فلا بأس أن يجلس قبل أن تنتهي إليه، قال الترمذي: روي عن بعض الصحابة "أنهم يتقدمون الجنازة فيجلسون قبل أن تنتهي إليهم". وأحق الناس بالصلاة عليه: الوصي، لأنه إجماع الصحابة. وأكثر أهل العلم يرون تقديم الأمير على الأقارب. قال أحمد: ليس على الميت دعاء موقت. وروى الجوزجاني عن زيد بن أرقم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبّر أربعاً، ثم يقوم ما شاء الله، ثم ينصرف". قال الجوزجاني كنت أحب هذه الوقفة ليكبر آخر الصفوف، فإنه إذا كبر ثم سلم خفتُ أن يكون تسليمه قبل أن يكبر آخرهم، فإن كان هكذا فالله عز وجل الموفق له، فإن كان غير ذلك فإني أبرأ إلى الله عز وجل أن أتأول على رسوله أمراً لم يرده أو أراد   1 الترمذي: الجنائز (1044) , وأبو داود: الجنائز (3175) , وأحمد (1/82) , ومالك: الجنائز (549) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 خلافه. وأهل العلم على أنه يرفع يديه مع كل تكبيرة، وقال مالك: لا يرفعهما إلا في الأولى. و"السنة تسليمة واحدة عن يمينه، قال أحمد: عن ستة من الصحابة"، وليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم. قال الجوزجاني: هذا عندنا ليس فيه اختلاف، لأن الاختلاف من الأقران؛ أما إذا اجتمع الناس واتفقت الرواية عن الصحابة والتابعين، فشذ عنهم رجل واحد، لم يقل لهذا: اختلاف. قال أحمد: يسلم واحدة، قيل له: تلقاء وجهه؟ قال: كل هذا وأكثر ما فيه عن يمينه. قيل: خُفْيه؟ قال: نعم. الكل جائز. قال مجاهد: "رأيت ابن عمر لا يبرح مصلاه حتى يراها على أيدي الرجال". قال أحمد: أحب إذا كان فيهم قلة أن يجعلهم ثلاثة صفوف، ويستحب تسوية الصفوف، نص عليه. ولم يعجبه قول عطاء، "لأنه صلى الله عليه وسلم لما نعى النجاشي صف بهم". ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد إذا لم يخف تلويثه، وكرهه مالك، لحديث: "من صلى على جنازة في المسجد، فلا شيء له"، 1 يرويه صالح مولى التوأمة، قالت عائشة: "ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد". 2 رواه مسلم وغيره. والصلاة عليها في المقبرة فيها روايتان: إحداهما: لا بأس به، قال ابن المنذر: ذكر نافع "أنه صلى على عائشة وأم سلمة وسط قبور البقيع، وحضر ذلك ابن عمر"، وفعله عمر بن عبد العزيز. والثانية: "يكره"، روي عن علي وابن عباس. ويسن للمسبوق قضاء ما فاته من التكبير، قاله ابن المسيب والزهري ومالك والشافعي. فإن سلم قبل القضاء فلا بأس. قال أحمد: إذا لم يقض لم يبال، العمري عن نافع عن ابن عمر: "أنه لا يقضي". وإن كبر متتابعاً فلا بأس، كذا قال إبراهيم. وقال أيضاً: يبادر بالتكبير قبل أن ترفع. وإذا أدرك الإمام بين التكبيرتين، فهل ينتظره حتى يكبر معه أو يكبر؟   1 أبو داود: الجنائز (3191) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1517) , وأحمد (2/444, 2/455, 2/505) . 2 مسلم: الجنائز (973) , والترمذي: الجنائز (1033) , والنسائي: الجنائز (1967, 1968) , وأبو داود: الجنائز (3189, 3190) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1518) , وأحمد (6/79) , ومالك: الجنائز (538) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 قال ابن المنذر: سهل أحمد في القولين جميعاً. و"المستحب وضع رأس الميت عند رجلي القبر، ثم يسل سلاً إلى القبر"، روي عن ابن عمر وغيره، وعن أبي حنيفة أنه يوضع على جانب القبر مما يلي القبلة، ثم يدخل معترضاً. قال أحمد: كله لا بأس به. قال أحمد: يعمق القبر إلى الصدر. قال الشافعي: قدر قامة وبسطة، "لأن ابن عمر أوصى بذلك"، ولو صح عند أحمد لم يعدل عنه. قال أحمد: ولا أحب الشق، ومعناه: أن يشق في الأرض يسقف عليه 1. وعن أحمد أنه حضر جنازة فلما ألقي عليه التراب، قام إلى القبر فحثى عليه ثلاث حثيات، ثم رجع إلى مكانه، وقال: "قد جاء عن عليّ". ويقول حين يضعه في قبره: "بسم الله، وعلى ملة رسول الله". 2 رواه الترمذي من حديث ابن عمر، وقال: حسن غريب. وإذا مات في سفينة، قال أحمد: إن رجوْا أن يجدوا موضعاً للدفن، حبسوه يوماً أو يومين ما لم يخافوا عليه الفساد. وإن لم يجدوا، غُسل وكُفن وحُنط وصُلي عليه، ويثقل بشيء ويلقى في الماء، وبه قال الحسن وعطاء. ويستحب تخمير قبر المرأة بثوب، لا نعلم فيه خلافاً. و"يكره للرجل، لأن فعل علي وأنس يدل على كراهته". ولا خلاف أن أولى الناس بإدخال المرأة قبرها: محرمها. فإن لم يكن، فروي عن أحمد: أحب إلي أن يدخلها النساء. وعنه: أن النساء لا يستطعن أن يدخلن القبر ولا يدفنَّ، وهذا أصح وأحسن، "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة فنزل في قبر ابنته". ويستحب حل العُقد، لأنها خوف الانتشار، وقد أُمن بدفنه. ولا يدخل القبر آجراً ولا خشباً ولا شيئاً مسته النار. وقال إبراهيم: وكانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب. ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر، ليعلم أنه قبر فيتوقى، ولا يرفع بأكثر من ترابه نص عليه.   1 هكذا في المخطوطة، وعبارة الأصل: "ومعناه أن يحفر في أرض القبر شقاً، ويسقفه عليه". 2 الترمذي: الجنائز (1046) , وأبو داود: الجنائز (3213) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1550, 1553) , وأحمد (2/27, 2/40, 2/59, 2/69, 2/127) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وروي بإسناده عن عقبة بن عامر أنه قال: "لا تجعلوا في القبر من التراب أكثر مما خرج"، وقوله: "ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" 1 المشرف: ما رفع كثيراً، بدليل قول القاسم في قبره صلى الله عليه وسلم وصاحبيه: لا مشرفة ولا لاطئة. ويستحب رش الماء عليه ليلزق ترابه، وفيه حديث رواه ابن ماجة. قال أحمد: لا بأس أن يعلّم القبر بعلامة يُعرف بها، ثم ذكر "وضعه صلى الله عليه وسلم الحجر عند قبر عثمان بن مظعون"، رواه أبو داود. وتسنيمه أفضل. وقال الشافعي: تسطيحه أفضل، وبلغنا: "أنه صلى الله عليه وسلم سطح قبر ابنه إبراهيم". ولنا: ما روى سفيان قال: رأيت قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنّماً. رواه البخاري، وهذا أثبت من حديثهم وأصح. وسئل أحمد: عن الوقوف على القبر - بعد ما يدفن – بالدعاء؟ قال: لا بأس به، "قد وقف علي والأحنف". وسئل أحمد عن تطيين القبر قال: أرجو أن لا يكون به بأس. ويكره البناء عليه وتجصيصه والكتابة عليه، لحديث مسلم؛ وفيه دليل على الرخصة في التطيين لتخصيصه بالنهي. ويكره الجلوس عليه والاتكاء والاستناد، والمشي عليه، وذكر لأحمد أن مالكاً يتأول النهي عن الجلوس على القبر أي: للخلاء، فقال: ليس بشيء، ولم يعجبه. ولا يجوز اتخاذ السرج على القبور، ولو أبيح لم يلعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله، ولأنه يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقريب إليها. ولا يجوز اتخاذ المساجد عليها، للخبر، ولأن تخصيص هذه الصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب؛ وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها. ويستحب الدفن في المقبرة التي يدفن فيها الصالحون والشهداء، "لأن موسى عليه السلام لما حضره   1 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/89, 1/96, 1/111, 1/128, 1/138, 1/145) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الموت، سأل ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر". 1 متفق عليه. وجمع الأقارب حسن، لقوله في عثمان بن مظعون: "أدفن إليه من مات من أهلي". قال أحمد: أما القتلى، فعلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "ادفنوا القتلى في مصارعهم"، 2 وأما غيرهم، فلا ينقل من بلده إلا لغرض صحيح. وسئل الزهري عن ذلك، فقال: "حُمل سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد من العقيق إلى المدينة". وسئل أحمد: عمن أوصى أن يدفن في داره؟ قال: يدفن في مقابر المسلمين. وقال: لا بأس أن يشتري موضع قبره، ويوصي أن يدفن فيه، "فَعله عثمان بن عفان وعائشة وعمر بن عبد العزيز". وسئل عن: إخراج الميت من قبره؟ قال: إذا كان شيء يؤذيه، "قد حُوِّل طلحة وحُوِّلت عائشة". ومن فاتته الصلاة على الجنازة، صلى عليها ما لم تدفن. فإن دفنت صلى إلى شهر، هذا قول أكثر أهل العلم. قال أحمد: ومن يشك في الصلاة على القبر، "يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه كلها حسان، ويصلي على القبر وتعاد الصلاة عليه قبل الدفن، جماعة وفرادى، نص عليه، وقال: قد فعله عدة من الصحابة". ومن صلى مرة لم تسن له الإعادة. ولا يجوز الزيادة على سبع تكبيرات، ولا النقص من أربع، واختلفت الرواية فيما بين ذلك. فعنه: إذا كبر الإمام خمساً تابعه المأموم. وعنه: لا يتابعه، وهو مذهب مالك والشافعي. وإن زاد على خمس، فعنه: يكبر إلى سبع ولا يسلم إلا مع الإمام، ولا يزيد على سبع. وقال ابن مسعود: "كبر ما كبر إمامك". قال أحمد: لا أعلم أحداً قال بالزيادة على سبع، إلا عبد الله، فإن علقمة روى: "أن أصحابه قالوا: إن أصحاب معاذ يكبرون على الجنازة خمساً، فلو وقّتَّ لنا وقتاً، فقال: إذا تقدمكم إمامكم فكبروا ما يكبر، فإنه لا وقت ولا عدد". وإن زاد على سبع فلا يسلم إلا معه.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3407) , ومسلم: الفضائل (2372) , والنسائي: الجنائز (2089) . 2 الترمذي: الجهاد (1717) , والنسائي: الجنائز (2005) , وأبو داود: الجنائز (3165) , وأحمد (3/308) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وقال الثوري: ينصرف، قال أحمد: ما أعجب حال الكوفيين، سفيان ينصرف إذا كبّر الخامسة، "والنبي صلى الله عليه وسلم يكبر خمساً! والأفضل أن لا يزيد على أربع، لأن عمر جمع الناس عليها"، ولا يجوز النقصان عنها. وعن ابن عباس: " أنه كبر ثلاثاً". ولم يعجب أحمد، وقال: "كبر أنس ثلاثاً ناسياً، فأعاد". قال أحمد: يكبر على الجنازة فيجيئون بأخرى، يكبر إلى سبع، ثم يقطع؛ لا يزيد الأربع حتى ترفع. إذا تقرر هذا، فإنه يقرأ في التكبيرة الخامسة: "الفاتحة"، والسادسة يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو في السابعة. وذكر ابن عقيل وجهاً: أنه يكبر ما زاد على الأربع متتابعاً، لأنه صلى الله عليه وسلم كبر سبعاً، ولم يرو عنه أنه قرأ قراءتين. ولا يختلف المذهبُ أن السنة أن يقوم الإمام عند صدر الرجل ووسط المرأة. وإذا اجتمع رجال ونساء ففيه روايتان: إحداهما: "يسوي بين رؤوسهم"، لأنه يروى عن ابن عمر. والثانية: يصفُّ الرجال صفاً، والنساء صفاً، ويجعل وسط النساء عند صدور الرجال؛ وهذا قول سعيد بن جبير. ولا يصلي على القبر بعد شهر، قال أحمد: أكثر ما سمعنا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بعد شهر". ويستحب تحسين الكفن وتكفينه في البياض، وأن يكفن في جديد، إلا إن أوصى الميت بغيره، كما روي عن أبي بكر أنه قال: "كفنوني في ثوبيّ هذين؛ فإن الحي أحوج للجديد من الميت، وإنما هو للمهلة والتراب". وذهب ابن عقيل إلى أن التكفين في الخلق أفضل، لهذا الخبر، والأول أولى بدليل قوله صلى الله عليه وسلم. والكفن مقدم على الديْن والوصية والميراث، لخبر حمزة ومصعب، ولأن لباس المفلس مقدّم على دَيْنه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الطفل إذا عرفت حياته واستهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 صُلي عليه. فإن لم يستهل، فقال أحمد: إذا أتى عليه أربعة أشهر، غسل وصلي عليه. "وصلى ابن عمر على ابن لابنه وُلد ميتاً"، وقال مالك: لا يصلى عليه حتى يستهل. ولنا: حديث المغيرة. والسقط يصلّى عليه، رواه أبو داود والترمذي، وصححه، واحتج به أحمد، وحديثهم قال الترمذي: اضطرب الناس فيه، ورواه بعضهم موقوفاً، وكأنه أصح من المرفوع. من لم يأت عليه أربعة أشهر، فإنه لا يغسل ولا يصلّى عليه، ويلف في خرقة ويدفن لا نعلم فيه خلافاً، إلا عن ابن سيرين فإنه قال: يصلّى عليه إذا علم أنه نفخ فيه الروح؛ والحديث يدل على أنه لا نفخ إلا بعد الأربعة الأشهر. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المرأة تغسل زوجها إذا مات، والمشهور عن أحمد: أن للرجل غسل زوجته؛ وهو قول مالك والشافعي. وعنه: لا. وهو قول الثوري. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة تغسل الصبي. قال أحمد: يغسلن من له دون سبع سنين. وقال الحسن إذا كان فطيماً أو فوقه. وقال الأوزاعي: ابن أربع أو خمس. وأما الجارية إذا لم تبلغ، فقال القاضي وأبو الخطاب يجوز للرجال غسلها. وكره غسل الرجل الصغيرة سعيد والزهري، قال الخلال: القياس التسوية بين الغلام والجارية، لولا أن التابعين فرقوا بينهما، فكرهه أحمد لذلك. ولا يغسل المسلم قريبه الكافر، ولا يتولى دفنه، وبه قال مالك. وقيل: له غسل قريبه الكافر ودفنه، وبه قال الشافعي. قال أحمد في يهودي أو نصراني وله ولد مسلم: "فليركب دابته ويسير وراء جنازته، وإذا أراد أن يدفن رجع، مثل قول عمر". وإذا مات الشهيد في المعركة لم يغسل، رواية واحدة، لا نعلم فيه خلافاً، إلا عن الحسن وابن المسيب؛ والصحيح: أنه لا يصلى عليه، وهو قول مالك والشافعي. وعنه: يصلى عليه، وهو قول الثوري. ولنا: حديث جابر في شهداء أحد، متفق عليه. وإن كان جنباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 غسل، لحديث حنظلة. وقال مالك: لا يغسل، لعموم الخبر. فإن أسلم ثم استشهد لم يغسل، لخبر الأصيرم. ويدفن في ثيابه، لا نعلم فيه خلافاً، وينزع عنه الخف والجلد والفرو. وقال مالك: لا ينزع لعموم الخبر. وعن ابن عباس: "أمر بقتلى أُحُد أن ينزع عنهم الحديد والجلود". 1 رواه أبو داود. وظاهر كلام الخرقي: أنه متى طالت حياته بعد حمله غسل وصلي عليه، ["لأنه صلى الله عليه وسلم غسّل سعد بن معاذ، وصلى عليه"، ونحوه قال مالك وأصحاب الرأي والشافعي: إن مات حال الحرب لم يُغَسل ولم يُصَل عليه 2] . والصحيح: التحديد بطول الفصل، لخبر سعد بن الربيع والأصيرم. فإن سقط عن دابته ووجد ميتاً ولا أثر به، غسل، نص عليه، وتأول قوله: "ادفنوهم بكلومهم". وقال الشافعي: لا يغسل لاحتمال موته بسبب القتال. ولنا: أن الأصل وجوب الغسل، فلا يسقط بالاحتمال. ومن قُتل من أهل العدل، فحكمه حكم من قتله المشركرن، "لأن علياً لم يغسل من قتل معه". قال أحمد: قد أوصى أصحاب الجمل: "إنا مستشهدون، فلا تنزعوا ثوباً، ولا تغسلوا عنا دماً". وقال الشافعي في أحد قوليه: يغسل "لأن أسماء غسلت ابن الزبير"، والأول أولى. وأما ابن الزبير فإنه أُخذ وصُلب، فهو كالمقتول ظلماً. وأما من قُتل دون ماله أو نفسه أو أهله، ففيه روايتان. فأما الشهيد بغير قتل، كالمبطون والمطعون، فيغسل، لا نعلم فيه خلافاً، إلا ما حكي عن الحسن: لا يصلى على النفساء لأنها شهيدة. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم صلى على امرأة ماتت في نفاسها"، 3 و"صلى المسلمون على عمر وعلي وهما شهيدان". وإن سقط من الميت شيء، غسل وجعل معه في أكفانه، فعلته أسماء بابنها.   1 أبو داود: الجنائز (3134) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1515) , وأحمد (1/247) . 2 ما بين العلامتين مثبت بالنسخة الخطية. 3 البخاري: الجنائز (1331) , ومسلم: الجنائز (964) , والنسائي: الحيض والاستحاضة (393) والجنائز (1976, 1979) , وأبو داود: الجنائز (3195) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1493) , وأحمد (5/14, 5/19) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وإن لم يوجد إلا بعض الميت، غسل وصلي عليه. وقال مالك: إن وجد الأكثر صلي عليه وإلا فلا. ولنا: إجماع الصحابة. قال أحمد: "صلى أبو أيوب على رِجل، وصلى عمر على عظام بالشام، وصلى أبو عبيدة على رؤوس بالشام". رواهما عبد الله بن أحمد. وقال الشافعي: "ألقى طائر يداً بمكة عرفت بالخاتم، فكانت يد عبد الرحمن بن عتاب، فصلى عليها أهل مكة". ويستحب تعزية أهل الميت، لا نعلم فيه خلافاً، إلا أن الثوري قال: لا يستحب بعد الدفن. ولا يشق بطن المرأة لإخراج ولدها الحي، لكن تسطو عليه القوابل، أي: يدخلن أيديهن في فرجها فيخرجنه. وإن لم يوجد نساء، تركت حتى يتيقن موته. ومذهب مالك قريب من هذا. وقال الشافعي: يشق البطن إذا غلب على الظن حياته. وإن دفن من غير غسل، أو إلى غير القبلة، نُبش. وقال أبو حنيفة: لا ينبش، لأنه مثلة وقد نُهي عنها؟ وإن دفن قبل الصلاة عليه فروايتان: إحداهما: إن صلى على القبر جاز، وإن دفن بغير كفن فوجهان. وإن حضرت الجنازة والمكتوبة بدئ بالمكتوبة إلا الفجر والعصر، لأن ما بعدهما وقت نهي. وروي عن مجاهد والحسن وابن المسيب أنهم قالوا: أبدأ بالمكتوبة. قال أحمد: تكره الصلاة على الميت في ثلاثة أوقات، وذكر حديث عقبة بن عامر، قال ابن المبارك: يعني: أن نقبر فيهن موتانا، لا الصلاة على الجنازة. قيل لأحمد: الشمس مصفرة؟ قال: يصلى ما لم تدلى للغروب. وعنه: أن ذلك جائز، وهو قول الشافعي، قياساً على الوقتين؛ والأول أصح، لحديث عقبة بن عامر، ولا يصح القياس عليهما لطول مدتهما. وكره أحمد دفن الميت في هذه الأوقات، لحديث عقبه. وأما الدفن ليلاً، فقال أحمد: وما بأس بذلك. "أبو بكر دُفن ليلاً، وعلي دفن فاطمة ليلاً"، وكرهه الحسن، لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 روى مسلم: "أنه صلى الله عليه وسلم زجر أن يُقبر الرجل بالليل، إلا أن يضطر إلى ذلك". 1 ولنا: حديث ابن مسعود في قصة ذي البجادين وغيره، والزجر محمول على التأديب، فإن الدفن نهاراً أولى، لأنه أسهل على المتبعين وأكثر للمصلين. ولا يصلي الإمام على الغالّ، ولا على قاتل نفسه، ويصلي عليهما سائر الناس. وقال الأوزاعي: لا يصلى على قاتل نفسه بحال، وقال عطاء والنخعي: يصلي الإمام وغيره على كل مسلم. قال أحمد: لا أشهد الرافضة ولا الجهمية، ويشهد من شاء، قد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على أقل من ذلك. وقال: أهل البدع لا يُعادُون إن مرضوا، ولا تُشهد جنائزهم إن ماتوا. قال ابن عبد البر: وسائر العلماء يصلّون على أهل البدع. ولا خلاف في المذهب أنه إذا اجتمع مع الرجال غيرهم، جعل الرجال مما يلي الإمام، والنساء يلين القبلة. ولا خلاف في الصلاة على الجنائز دفعة واحدة، فإن انفرد كل جنازة بصلاة جاز، ولا يدفن اثنان في قبر إلا لضرورة. ويخلع النعل إذا دخل المقبرة، لحديث صاحب السبتيتين، قال أحمد: إسناده جيد، أذهب إليه إلا من علة، وأكثر أهل العلم لا يرى بأساً. واحتج بعضهم بحديث: أنه يسمع قرع نعالهم، وقيل: يكره للرجل المشي في تلك النعلين، لأنهما من لباس أهل التنعيم والخيلاء، وإخباره بسمعه قرع نعالهم لا ينفي الكراهة. ولا نعلم خلافاً في إباحة زيارة القبور للرجال، واختلفت الرواية في النساء، فرويت الكراهة، لحديث أم عطية: "نهينا عن زيارة القبور، ولم يعزم علينا". والنهي المنسوخ يحتمل أنه خاص بالرجال، فدار بين الحظر والإباحة، فأقل أحواله الكراهة. والثانية: لا يكره، لعموم قوله: "كنت نهيتكم ... إلخ". ويكره النعي، وهو: أن ينادي مناد:   1 مسلم: الجنائز (943) , والنسائي: الجنائز (1895, 2014) , وأبو داود: الجنائز (3148) , وأحمد (3/295) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 "إن فلاناً قد مات"، ليشهدوا جنازته. واستحب جماعة من أهل العلم أن لا يعلم الناس بجنائزهم، منهم عبد الله، وأصحابه: علقمة والربيع وعمرو بن شرحبيل. وقال كثبر من أهل العلم: لا بأس أن يعلم إخوانه ومعارفه من غير نداء، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا آذنتموني"، و"نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه". ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال الشيخ: الذي يقتضيه النص: وجوب عيادة المريض، فيقال: هو واجب على الكفاية. ونص أحمد: لا يعاد المبتدع، وعنه: الداعية فقط، واعتبر الشيخ المصلحة في ذلك. ونص أحمد بكونه خوفه ورجاؤه واحد، فأيهما غلب صاحبه هلك، قال الشيخ: هذا العدل. وقال الشيخ: من ظن أن غيره لا يقوم بالتكفين، تعيّن عليه. ولم يوجب القراءة في صلاة الجنازة، بل استحبها، وقال: لا يعيد الصلاة عليها إلا لسبب، مثل أن يعيد غيره فيعيد معهم، أو يكون أحق بالإمامة من الطائفة الثانية فيصلي بهم. ويصلي على غائب، وقيل: إن لم يكن صلي عليه، وإلا فلا، اختاره الشيخ. واختار استحباب القيام لها، ولو كانت كافرة. ولا يدفن فيه اثنان إلا لضرورة، ظاهره التحريم، وهو المذهب. وعنه: يُكره، اختاره الشيخ. واختار كراهة القراءة على القبر، إلا وقت الدفن. وقال المجد: يستحب إهداء القُرَب للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنع منه الشيخ، فلم ير لمن فعله ثواباً بسبب ذلك كأجر العامل كالنبي صلى الله عليه وسلم ومعلم الخير. وقال في الشرح: لا نعلم خلافاً في استحباب زيارة القبور للرجال، قال جامع الاختيارات: ظاهر كلام الشيخ: ترجيح التحريم للنساء، لاحتجاجه بحديث اللعنة وتصحيحه إياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 قال الشيخ: ويجوز زيارة قبر الكافر للاعتبار. وذكر أن البكاء يستحب، رحمة للميت، وأنه أكمل من الفرح، كفرح الفضيل. وقطع المجد أنه لا بأس بيسير الندب، إذا كان صدقاً، ولم يخرج مخرج النوح، ولا قصد نظمه، كفعل أبي بكر وفاطمة. قال الشيخ: ما هيج المصيبة من وعظ وإنشاد شعر فمن النياحة. وحرم الذبح عند القبر والتضحية عنده، وقال: إخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 كتاب الزكاة تجب الزكاة في أربعة أصناف من المال: السائمة من بهيمة الأنعام، والخارج من الأرض، والأثمان، والعروض. ولا تجب في غيرها، لأن الأصل عدم الوجوب؛ وهذا قول الأكثر. وقال أبو حنيفة: في الخيل زكاة. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". 1 متفق عليه، وحديث جابر ضعيف، وعمر أخذ شيئاً تبرعوا به، كذلك رواه أحمد. ولا تجب إلا بشروط خمسة: الأول: الإسلام. والثاني: الحرية. فلا تجب على الكافر، لحديث معاذ: "إنك تأتي قوماً ... إلخ"، ولا على عبد في قول الأكثر، ولا على مكاتَب، لا نعلم أحداً خالف فيه، إلا أبا ثور. فإن ملّك السيدُ عبده مالاً، فاختلفت الرواية عن أحمد، فروي عنه: زكاته على سيده، وهو مذهب سفيان وإسحاق. وعنه: "لا زكاة على واحد منهما". قال ابن المنذر: هذا قول ابن عمر وجابر ومالك. الثالث: ملك نصاب؛ فإن نقص فلا زكاة فيه، إلا أن يكون يسيراً كالحبة والحبتين. وفيما زاد على النصاب بالحساب، إلا في السائمة. وقال ابن المسيب   1 البخاري: الزكاة (1463, 1464) , ومسلم: الزكاة (982) , والترمذي: الزكاة (628) , والنسائي: الزكاة (2467, 2468, 2469, 2470, 2471, 2472) , وأبو داود: الزكاة (1595) , وابن ماجة: الزكاة (1812) , وأحمد (2/242, 2/249, 2/254, 2/279, 2/407, 2/410, 2/432, 2/469, 2/470, 2/477) , ومالك: الزكاة (612) , والدارمي: الزكاة (1632) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وعطاء: لا زكاة في زيادة الدراهم حتى تبلغ أربعين، ولا في زيادة الذهب حتى تبلغ أربعة دنانير، لقوله: "في كل أربعين درهماً ". 1 ولنا: أن قولنا روي عن علي وابن عمر، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة. الرابع: تمام الملك؛ فلا زكاة في دين المكاتب، بغير خلاف علمناه، ولا في السائمة الموقوفة، ولا في حصة المضارب قبل القسمة. ونقل عن مهنا عن أحمد ما يدل على الوجوب، لعموم قوله: "في كل أربعين شاة: شاة". 2 فأما حصة المضارب قبل القسمة، فلا تجب فيها، نص عليه. واختار أبو الخطاب وجوب الزكاة فيها إذا كملت نصاباً، أو قلنا: إن الخلطة تؤثر في غير الماشية. وإذا دفع إلى رجل ألفاً مضاربة على النصف، فحال الحول وقد ربح ألفين، فعلى رب المال زكاة ألفين. وقال الشافعي في أحد قوليه: عليه زكاة الجميع، أو يخرج الزكاة من المال، لأنها من مؤنته وتحسب من الربح. و"من كان له دَين على مليء من صداق أو غيره، زكاه إذا قبضه لما مضى"، وبه قال علي والثوري. وقال عثمان وابن عمر والشافعي وإسحاق وأبو عبيد: "عليه إخراج الزكاة في الحال وإن لم يقبضه". وعن عائشة: "ليس في الدَّين زكاة". وعن ابن المسيب: يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة. وفي الدين على غير المليء والمؤجل والمجحود والمغصوب والضائع روايتان: إحداهما: لا يجب، وهو قول إسحاق وأهل العراق. والثانية: يزكيه إذا قبضه لما مضى، وهو قول الثوري وأبي عبيد، لقول علي في الدَّين المظنون: "إن كان صادقاً، فليزكه إذا قبضه لما مضى". وعن ابن عباس نحوه، رواهما أبو عبيد. وللشافعي قولان. وعن مالك: يزكيه إذا قبضه لعام واحد. قال أحمد: إذا وهبت المرأة مهرها لزوجها، وقد مضى عليه عشر سنين، فالزكاة على المرأة. وإذا وهب رجل لرجل مالاً، فحال   1 أبو داود: الزكاة (1574) , وابن ماجة: الزكاة (1790) , وأحمد (1/132) , والدارمي: الزكاة (1629) . 2 أبو داود: الزكاة (1572) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الحول ثم ارتجعه الواهب، فالزكاة على الذي كان عنده. وقال في رجل باع شريكه نصيبه من داره ولم يعطه شيئاً، فلما كان بعد سنة قال: ليس عندي دراهم فأقلني، فأقاله. قال: عليه أن يزكي، لأنه قد ملكه حولاً. والدَّين يمنع وجوب الزكاة في الأموال الباطنة، رواية واحدة، وهي الأثمان والعروض؛ وبه قال عطاء والحسن ومالك والأوزاعي وأصحاب الرأي، لحديث عثمان. وقال الشافعي في الجديد: لا يمنع. فأما الأموال الظاهرة ففيها روايتان: إحداهما: يمنع، وهو قول إسحاق. والثانية: لا يمنع، وهو قول مالك والشافعي. وروي عن أحمد أنه قال: قد اختلف ابن عمر وابن عباس: فقال ابن عمر: "يخرج ما استدان على ثمرته ونفقة أهله ويزكي ما بقي"، وقال الآخر: "يخرج ما استدان على ثمرته ويزكي ما بقي"، وإليه أذهب، لأن المصدق إذا جاء فوجد إبلاً أو غنماً لم يسأل أي شيء على صاحبها من الدين؟ فظاهر هذا، أن هذه رواية ثالثة: أنه لا يمنع من الأموال الظاهرة إلا ما استدان في الإنفاق على الزرع والثمرة. الخامس: مضيُّ الحول؛ لا نعلم فيه خلافاً، إلا في المستفاد على ما نذكره، وإلا في الخارج من الزرع والثمرة والمعدن. وأما المستفاد فإن كان من جنس النصاب، كربح التجارة ونتاج السائمة، فهذا يضم إلى أصله في الحول. وإن لم يكن من جنسه، فلا يضم إليه؛ بل إن كان نصاباً استقبل به حولاً، وإلا فلا شيء فيه؛ وهذا قول الجمهور. قال ابن عبد البر: الخلاف فيه شذوذ لم يقل به أحد من أهل الفتوى. فإن كان من جنس نصاب عنده، كمن عنده أربعون من الغنم فمضى عليها بعض الحول، فيشتري أو يتهب أو يرث مائة، فلا تجب فيه حتى يمضي عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 حول أيضاً؛ وبه قال الشافعي. ولا يبني الوارث على حول الموروث، وهو أحد القولين للشافعي. والثاني: يبني على حول موروثه. وقال أبو حنيفة: يضمهما إلى ما عنده في الحول، فيزكيهما جميعاً عند تمام الحول، إلا أن يكون عوضاً من مال مزكى. وقال به مالك في السائمة، دفعاً للتشقيص في الواجب، وكقولنا في الأثمان. وإن ملك نصاباً صغاراً انعقد عليه الحول من حين ملكه، وعنه: لا، حتى يبلغ سناً يجزئ مثله في الزكاة؛ والأول أولى، لعموم قوله: "في كل خمس من الإبل: شاة". 1 ومتى نقص النصاب في بعض الحول، أو باعه أو أبدله بغير جنسه، انقطع الحول، إلا أن يقصد الفرار. وقال أبو حنيفة والشافعي: تسقط. ولنا: قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} الآيات 2. ويجوز التصرف في النصاب الذي وجبت فيه، بالبيع وغيره. وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يصح، لأنها إن تعلقت بالعين فقد باع ما لا يملك، وإن تعلقت بالذمة فقدر الزكاة مرتهن بها، وبيع الرهن لا يجوز. ولنا: النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وهو عام فيما يجب فيه الزكاة وغيرها. فإن عجز بقيت في ذمته، ويحتمل أن يفسخ البيع في قدرها ويرجع المشتري عليه بقدرها، لأن على الفقراء ضرراً، لقوله: "لا ضرر ولا ضرار". 3 وإن أبدله بنصاب من جنسه، بنى على حوله؛ وبه قال مالك، ويتخرج أن ينقطع، وبه قال الشافعي. وسئل أحمد: عن الرجل يكون عنده غنم سائمة فيبيعها بنصفها من الغنم، أيزكيها كلها؟ قال: نعم، على حديث عمر في السخلة يروح بها الراعي، قيل له: فإن كانت للتجارة؟ قال: يزكيها كلها، على حديث حماس.   1 الترمذي: الزكاة (621) , وأبو داود: الزكاة (1568) , وابن ماجة: الزكاة (1798) , وأحمد (2/14, 2/15) , والدارمي: الزكاة (1626) . 2 سورة القلم آية: 17. 3 ابن ماجة: الأحكام (2340) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وتجب بحولان الحول، وإن لم يتمكن من الأداء؛ وهو أحد قولي الشافعي. وفي الآخر، هو شرط، وبه قال مالك حتى لو أتلف الماشية بعد الحول قبل إمكان الأداء، فلا زكاة عليه إذا لم يقصد الفرار. ولنا: قوله: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". 1 ولا تسقط بتلف المال، وعنه: تسقط إذا لم يفرط. وإذا مضى حولان على نصاب لم يؤد زكاتهما، فعليه زكاة واحدة إن قلنا: تجب في العين، وزكاتان إن قلنا تجب في الذمة، إلا ما كان زكاته الغنم من الإبل، فإن عليه لكل حول زكاة. وإذا مات من عليه الزكاة، أُخذت من تركته. فإن كان عليه دين، اقتسموا بالحصص؛ وبه قال مالك والشافعي. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": ومن كان له دين على مليء أو غيره، فعليه زكاته إذا قبضه، قال في الفائق: وعنه: يلزمه في الحال، وهو المختار. وأول حول الصداق من حين العقد، وعنه: من حين القبض. وكذا الحكم خلافاً ومذهباً في اعتبار القبض في كل دَين إذا كان في غير مقابلة مال أو مال زكويّ عند الكل، كموصى به وموروث وثمن مسكن. وعنه: لا حول لأجرة فيزكيه في الحال كمعدن، اختاره الشيخ. وإن أسقط الدَّين ربه زكاه، وعنه: يزكيه المبرأ من الدَّين، وقيل: لا زكاة عليهما، اختاره الشيخ. واختار الشيخ أن الدين على غير المليء والمؤجل والمجحود والمغصوب والضائع لا زكاة فيه، وعنه: ما لا يؤمل رجوعه كالمسروق والمغصوب لا زكاة فيه، وما يؤمل رجوعه كالدين على المفلس أو الغائب المنقطع خبره فيه الزكاة. قال الشيخ: هذا أقرب. وفي المحرر: الخراج ملحق من دَين الله، وقال الشيخ: هو ملحق بديون الآدميين، والزكاة في عين المال، وعنه: في الذمة. وقيل: تجب في الذمة وتتعلق بالنصاب، اختاره الشيخ. واختار أيضاً أن النصاب إذا تلف بغير تفريط من المالك، لم يضمن الزكاة.   1 ابن ماجة: الزكاة (1792) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 باب زكاة بهيمة الأنعام لا تجب إلا في السائمة، قال أحمد: ليس في العوامل زكاة، وأهل المدينة يرون فيها الصدقة، وليس عندهم في هذا أصل. ولنا: قوله: "في كل سائمة في أربعين: بنت لبون"، 1 وحديثهم: "في كل خمس: شاة" 2 مطلق، فيُحمل على المقيد، وهي التي ترعى أكثر الحول. واعتبره الشافعي في جميع الحول. ولنا: عموم النص في الماشية، واسم السوم لا يزول بالعلف اليسير، كالسقي بغير كلفة في الزرع والثمار. وهي ثلاثة أنواع: (أحدها) : الإبل، فلا زكاة فيها حتى تبلغ خمساً ففيها: شاة. ولا يجزئ في الغنم المخرجة إلا الجذع من الضأن، وهو: ما له ستة أشهر، والثني من المعز وهو: ما له سنة؛ وأيهما أخرج أجزأ، وتكون أنثى، فلا يجزئ ذكر. وتكون الشاة المخرجة كحال الإبل في الجودة والرداءة والتوسط. فإن أخرج بعيراً لم يجزه. وقال الشافعي: يجزئ في العشرين فما دونها. وفي العشر: شاتان، وفي خمس عشرة: ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه. هذا كله مجمع عليه. فإذا بلغت خمساً وعشرين، ففيها بنت مخاض، وهي التي لها سنة، حكاه ابن المنذر إجماعاً. وإن لم تكن عنده أجزأه ابن لبون، وهو الذي له سنتان. فإن لم يكن عنده وأراد الشراء، لزمه بنت مخاض، وقاله مالك. وقال الشافعي: يجزئه ابن لبون. وإن لم يجد إلا معيبة، انتقل إلى ابن لبون، لقوله في حديث   1 النسائي: الزكاة (2444, 2449) , وأبو داود: الزكاة (1575) , والدارمي: الزكاة (1677) . 2 البخاري: الزكاة (1454) , والنسائي: الزكاة (2455) , وأبو داود: الزكاة (1567) , وأحمد (1/11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 أبي بكر: "فإن لم يكن ابنة مخاض على وجهها وعنده ابن لبون، فإنه يقبل منه وليس معه شيء"، ولا يجبر نقص الذكورية بزيادة سن إلا في هذا الموضع، لأن تخصيصه بالذكر دون غيره يدل على الاختصاص. وفي ست وثلاثين: بنت لبون، وفي ست وأربعين: حقة، وهي: التي لها ثلاث سنين. وفي إحدى وستين: جذعة، وهي: التي لها أربع سنين. وفي ست وسبعين: ابنتا لبون. وفي إحدى وتسعين: حقتان، إلى مائة وعشرين. هذا كله مجمع عليه. فإذا زاد واحدة، ففيها: ثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين: بنت لبون، وفي كل خمسين: حقة. وعنه: لا يتغير الفرض إلى ثلاثين ومائة، فيكون فيها: حقة وبنتا لبون؛ وهو مذهب أبي عبيد. ولنا: قوله: "فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين: بنت لبون، والواحدة زيادة". وجاء مصرحاً به في حديث الصدقات الذي عند آل عمر بن الخطاب، حسنه الترمذي. وقال ابن عبد البر: هو أحسن شيء روي في حديث الصدقات، فإن فيه: "إذا كانت إحدى وعشرين ومائة، ففيها: ثلاث بنات لبون". وقال الثوري: إذا زادت على عشرين ومائة استؤنفت الفريضة: في كل خمس شاة، إلى خمس وأربعين ومائة، لأنه في كتاب عمرو بن حزم. ولنا: أن في حديث الصدقات الذي كتبه أبو بكر لأنس، والذي عند آل عمر، مثل ما ذكرنا. وأما كتاب عمرو بن حزم فاختلف في صفته، فرواه الأثرم في سننه مثل مذهبنا. فإذا بلغت مائة وثلاثين ففيها: حقة وبنتا لبون. وفي مائة وأربعين: حقتان وبنت لبون. وفي مائة وخمسين: ثلاث حقاق. وفي مائة وستين: أربع بنات لبون. ثم كلما زادت عشراً أبدلت بنت لبون بحقة: ففي مائة وسبعين: حقة وثلاث بنات لبون، وفي مائة وثمانين: حقتان وبنتا لبون، وفي مائة وتسعين: ثلاث حقاق وبنت لبون. فإذا بلغت مائتين اتفق الفرضان، فإن شاء أخرج أربع حقاق، وإن شاء خمس بنات لبون. وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الشافعي: الخيرة إلى الساعي، ومقتضاه أن رب المال إذا أخرج لزمه أعلى الفرضين، لقوله تعالى {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} الآية 1. ولنا: أن في الكتاب الذي عند آل عمر: "فإذا كانت مائتين، ففيها: أربع حقاق أو خمس بنات لبون؛ أيّ الشيئين وجدت أخذت". ومن وجبت عليه سن فعدمها، أخرج سناً أسفل منها ومعها شاتين أو عشرين درهماً، وإن شاء أخرج أعلى منها وأخذ مثل ذلك من الساعي. وقال أصحاب الرأي: يدفع قيمة ما وجب عليه أو دون السن الواجبة وفضل ما بينهما دراهم. ولنا: ما ذكرنا في كتاب الصدقات الذي كتبه أبو بكر لأنس، وهو نص فلا يلتفت إلى ما سواه. ولا مدخل للجبران في غير الإبل. (الثاني) : البقر، ولا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين، فيجب فيها: تبيع أو تبيعة، وهي التي لها سنة. وفي أربعين: مسنة، وهي: التي لها سنتان. وفي الستين: تبيعان. ثم في كل ثلاثين: تبيع. وفي كل أربعين: مسنة. (الثالث) : الغنم، ولا شيء فيها حتى تبلغ أربعين، فيجب فيها: شاة، إلى مائة وعشرين. فإذا زادت واحدة ففيها: شاتان إلى مائتين. فإذا زادت واحدة ففيها: ثلاث شياه. ثم في كل مائة: شاة؛ وهذا مجمع عليه، ولا يتغير حتى تبلغ أربعمائة، وهذا قول أكثر العلماء. وعنه: أنها إذا زادت على ثلاث المائة واحدة ففيها: أربع شياه. ثم لا يتغير حتى تبلغ خمسمائة، فيكون في كل مائة: شاة. ولنا: قوله: "فإذا زادت واحدة، ففي كل مائة شاة" يقتضي أن لا يجب فيما دون المائة شيء. وفي كتاب آل عمر التصريح بذلك، ولا يجوز خلافه. ويؤخذ من المعز الثني، ومن الضأن الجذل. وقال أبو حنيفة: لا يجزئ إلا الثنية منهما،   1 سورة البقرة آية: 267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وقال مالك يجزئ الجذعة منهما، لقوله: "إنما حقنا في الجذعة أو الثنية". ولنا على أبي حنيفة: هذا الخبر، وحديث سعد بن ديلم: "أتاني رجلان على بعير فقالا: إنا رسولا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك لتؤدي صدقة غنمك. قلت: فأي شيء تأخذون؟ قالا: عناقاً أو ثنية". 1 رواه أبو داود. ولنا على مالك: قول سويد بن غفلة: "أتانا مصدق النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أمرنا أن نأخذ الجذعة من الضأن، والثنية من المعز"، 2 وفيه بيان للمطلق في الحديثين قبله. ولا يؤخذ تيس ولا هرمة ولا معيبة، لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ، 3 ولأن ذلك في كتاب أنس، وفيه: "إلا ما شاء المصدق" – أي: العامل -. فإن رأى المصدق ذلك بأن يكون المال من جنسه، فله أخذه. وقال مالك والشافعي: إن رأى أن أخذ ذلك خير للفقراء، أخذه للاستثناء، ولا الرُّبى وهي التي تربى، ولا الماخض وهي التي حان ولادها، ولا كريم المال إلا أن يشاء ربه. قال الزهري: إذا جاء المصدق قسم الغنم أثلاثاً، وأخذ من الوسط. ولا يجوز إخراج القيمة، وعنه: يجوز. وإن أخرج سناً أعلى من الفرض من جنسه جاز، لا نعلم فيه خلافاً. وإذا اختلط نفسان فأكثر في نصاب من الماشية حولاً، فحكمها حكم الواحد، سواء كان مشاعاً بينهما أو متميزاً فخلطاه فاشتركا في المراح والمشرب والمسرح والراعي والفحل. وقال مالك: إنما تؤثر الخلطة إذا كان لكل واحد منهما نصاب. ولنا: قوله: "لا يجمع بين متفرق ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية". 4 رواه البخاري. ولا تراجع إلا في خلطة الأوصاف. وقوله: "لا يجمع بين متفرق" إنما يكون هذا إذا كان لجماعة؛ فإن   1 النسائي: الزكاة (2462) , وأبو داود: الزكاة (1581) , وأحمد (3/414) . 2 النسائي: الزكاة (2457) , وأبو داود: الزكاة (1580) , وابن ماجة: الزكاة (1801) , وأحمد (4/315) , والدارمي: الزكاة (1630) . 3 سورة البقرة آية: 267. 4 البخاري: الزكاة (1450) , والنسائي: الزكاة (2455) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الواحد يضم بعض ماله إلى بعض وإن كان في أماكن. وهكذا قوله: "لا يفرق بين مجتمع". ويشترط لها أن يكونا من أهل الزكاة، فإن كان أحدهما مكاتباً أو ذمياً لم يعتدّ بخلطته، وأن يختلطا في نصاب، وأن يختلطا في جميع الحول. وقال مالك: لا يعتبر اختلاطهم في أول الحول، لقوله: "لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع ... إلخ" 1 يعني: في وقت الزكاة. ويشترط في خلطة الأوصاف اشتراكهما في المراح وما بعده. وقال بعض أصحاب مالك: لا يعتبر إلا الراعي والمرعى، لقوله: "لا يفرق بين مجتمع"، والاجتماع يحصل بهذا. وحكي عن: أحمد أنه لا يعتبر إلا الحوض والراعي والمراح. ولا تؤثر الخلطة في غير السائمة. وعنه: أنها تؤثر، وهذا قول الأوزاعي وإسحاق في الحب والتمر. ويجوز للساعي أخذ الفرض من مال أيهما شاء، ويرجع على خليطه بحصته من القيمة. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": لا يجوز إخراج القيمة، وعنه: يجوز، اختاره الشيخ. واختار أيضاً جوازه للمصلحة. وإن اختلفا في القيمة، فالقول قول المرجوع عليه مع يمينه، قال الشيخ: يتوجه أن القول قول المعطى لأنه كالأمين. وإذا أخذ الساعي أكثر من الفرض ظلماً، لم يرجع بالزيادة على خليطه، قال الشيخ: الأظهر أنه يرجع.   1 البخاري: الزكاة (1450) , والنسائي: الزكاة (2455) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 باب زكاة الخارج من الأرض تجب الزكاة فيما اجتمع فيه الكيل والادخار، من الحب والتمر، ولا زكاة في سائر الفواكه. وقال مالك والشافعي: لا زكاة في ثمر إلا التمر والزبيب، ولا في حب إلا ما كان قوتاً في حال الاختيار، إلا في الزيتون على اختلاف. وعن أحمد: لا زكاة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وهو قول عمر والحسن والشعبي، ووافقهم إبراهيم وزاد: الذرة. و"وافقهم ابن عباس وزاد: الزيتون"، لأن ما عداه لا نص فيها ولا إجماع. ولنا: عموم قوله: "فيما سقت السماء: العشر"، 1 وقوله لمعاذ: "خذ الحب من الحب"، 2 خرج منه ما لا يكال وما ليس بحب، لمفهوم قوله: "ليس في حب ولا تمر صدقة، حتى تبلغ خمسة أوسق". 3 رواه مسلم. ولا تجب فيما ليس بحب ولا تمر سواء وجد فيه الكيل والادخار أو لا؛ فلا تجب في الزعفران والقطن، وعنه: تجب فيهما. واختلفت الرواية في الزيتون، فعنه: تجب فيه إذا بلغ خمسة أوسق، وهو قول مالك لقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، 4 وعنه: لا زكاة فيه، والآية مكية والزكاة فرضت بالمدينة، ولهذا ذكر الرمان ولا عشر فيه. ولا يضم جنس إلى جنس في تكميل النصاب، وعنه: أن الحبوب بعضها يضم إلى بعض، وعنه: تضم الحنطة إلى الشعير. وممن يرى الخرص: عمر وسهل بن أبي حثمة والقاسم بن محمد ومالك والشافعي وأكثر أهل العلم. وقال أصحاب الرأي:   1 البخاري: الزكاة (1483) , والترمذي: الزكاة (640) , والنسائي: الزكاة (2488) , وأبو داود: الزكاة (1596) , وابن ماجة: الزكاة (1817) . 2 أبو داود: الزكاة (1599) , وابن ماجة: الزكاة (1814) . 3 مسلم: الزكاة (979) , والنسائي: الزكاة (2485) , وأحمد (3/73) . 4 سورة الأنعام آية: 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الخرص ظن لا يلزم به حكم. ويخرص النخل والكرم ولا يخرص الزرع. ويجب أن يترك في الخرص الثلث أو الربع. ويجتمع العشر والخراج في كل أرض فتحت عنوة، وقال أصحاب الرأي: لا عشر في الخراجية. قال ابن المبارك: يقول الله: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} ، 1 نترك القرآن لقول أبي حنيفة؟! ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": اختار الشيخ وجوب الزكاة في التين. قوله: ويترك لرب المال الثلث ... إلخ، قال الآمدي وابن عقيل: يترك قدر أكلهم وهديتهم بالمعروف، بلا تحديد. قال ابن القيم: وهو أصح. قال ابن الجوزي في دفين عليه علامة الإسلام: لقطة وإلا ركاز. وألحق الشيخ بالمدفون حكماً الموجود ظاهراً بخراب جاهلي أو طريق غير مسلوك.   1 سورة البقرة آية: 267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 باب زكاة الأثمان وهي: الذهب والفضة، أجمعوا على أن في مائتي درهم: خمسة دراهم، وعلى أن الذهب إذا كان عشرين مثقالاً قيمتها مائتا درهم، أن الزكاة تجب فيه، إلا ما حكي عن الحسن أنه قال: لا شيء فيها حتى تبلغ أربعين. وأجمعوا على أنه إذا كان أقل من عشرين مثقالاً، ولا تبلغ قيمته مائتي درهم، فلا زكاة فيه. وقال عامة الفقهاء: نصاب الذهب: عشرون مثقالاً، من غير اعتبار قيمتها. وحكي عن عطاء وغيره: أنه معتبر بالفضة، لأنه لم يثبت تقدير نصابه فحمل على الفضة. ولا زكاة في مغشوشهما حتى تبلغ قدر ما فيه نصاباً. ويخرج عن الجيد الصحيح من جنسه، وعن كل نوع من جنسه. وقال أبو حنيفة: يجوز إخراج الرديء عن الجيد. ولنا: قوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} الآية. 1 فإن أخرج مكسراً أو بهرجاً زاد قدر ما بينهما من الفضل. وقال الشافعي: يخرج الجيد ولا يرجع فيما أخرجه من المعيب، لأنه أخرج معيباً في حق الله؛ أشبه ما لو أخرج مريضة عن صحاح. ونقل عن أحمد في ضم الذهب إلى الفضة روايتان: إحداهما: لا يضم، وهو قول الشافعي، لقوله: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة". 2 والثانية: يضم، وهو قول مالك، لأن أحدهما يضم إلى الآخر كأنواع الجنس، والحديث مخصوص بعرض التجارة فنقيس عليه. وهل يخرج أحدهما عن الآخر؟ فيه   1 سورة البقرة آية: 267. 2 البخاري: الزكاة (1405) , ومسلم: الزكاة (979) , والنسائي: الزكاة (2445, 2446, 2473, 2474, 2475, 2476, 2485, 2487) , وأبو داود: الزكاة (1558) , وابن ماجة: الزكاة (1793) , وأحمد (3/6, 3/30, 3/44, 3/60, 3/73, 3/74, 3/79, 3/86) , ومالك: الزكاة (575, 576) , والدارمي: الزكاة (1633) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 روايتان. ويكون الضم بالأجزاء، وهو قول مالك، وقيل: بالقيمة، وهو قول أبي حنيفة. وتضم قيمة العروض إلى كل واحد منهما، قال شيخنا: لا أعلم فيه خلافاً. ولا زكاة في الحلي المباح المعد للاستعمال، قال أحمد: "خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: ليس في الحلي زكاة؛ زكاته عاريته". قال الترمذي: ليس يصح في هذا الباب شيء، يعني: إيجاب الزكاة في الحلي. ويحتمل أنه أراد بالزكاة: العارية، كما ذهب إليه جماعة من الصحابة. واعتبار النصاب في الحلي المحرم أو الآنية بالوزن، للخبر. وما كان مباح الصناعة كحلي التجارة، فاعتبار النصاب بوزنه، وفي الإخراج بقيمته. ويباح للرجل خاتم الفضة وقبيعة السيف، للخبر. وفي تحلية السيف بالذهب روايتان. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قوله: لا زكاة في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالاً ... إلخ، هذا المذهب، وعليه الأصحاب، إلا الشيخ فإنه قال في نصاب الأثمان: هو المتعارف في كل زمان من خالص ومغشوش وصغير وكبير؛ كذا قال في نصاب السرقة وغيرها، وله قاعدة في ذلك. فأما الحلي المحرم، قال الشيخ: وكذا المكروه، ففيه الزكاة. واختار إباحة فص الخاتم من الذهب إذا كان يسيراً، وقيل: يباح في الذهب السلاح، اختاره الشيخ قال: "كان في سيف عمر سبائك من ذهب". وقال الشيخ: لبس الفضة، إذا لم يكن فيه نص عام بالتحريم، لم يكن لأحد أن يحرم منه إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه؛ فإذا أباحت السنة دل على إباحة ما في معناه، وما هو أولى منه بالإباحة. وما لم يكن كذلك، فيحتاج إلى نظر في تحليله وتحريمه؛ والتحريم يفتقر إلى دليل، والأصل عدمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 باب زكاة العروض تجب الزكاة في عروض التجارة إذا بلغت قيمتها نصاباً، حكاه ابن المنذر إجماعاً. وحكي عن مالك وداود: لا زكاة فيها. والواجب فيه: ربع عشر قيمته كل حول، وقال مالك: لا يزكيه إلا لحول واحد، إلا أن يكون مدبراً. وتقوّم العروض عند الحول بما هو أحظ للمساكين من عين أو ورق. وإن اشترى أرضاً أو نخلاً للتجارة، فأثمرت النخل أو زرعت الأرض واتفق حولاهما، فعليه العشر، ويزكي الأصل للتجارة. وإذا دفع إلى رجل ألفاً مضاربة، على أن الربح بينهما، فحال الحول وهو ثلاثة آلاف، فعلى رب المال زكاة ألفين، لأن ربح التجارة حوله حول أصله. وقال الشافعي في أحد قوليه: عليه زكاة الجميع، لأن الأصل له، والربح نماء ماله. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": ويؤخذ منهما لا من العروض، قال الشيخ: ويجوز الأخذ من عينها أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 باب زكاة الفطر قال ابن المنذر: أجمعوا على أنها فرض. وتجب على اليتيم، ويخرج عنه وليّه من ماله، ولا نعلم أحداً خالف فيه، إلا محمد بن الحسن؛ "وعموم حديث ابن عمر يقتضي وجوبها عليه". وتجب على أهل البادية في قول أكثر أهل العلم، وقال عطاء: لا صدقة عليهم. ولنا: عموم الحديث. ولا يعتبر لها النصاب، وبه قال مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: لا تجب إلا على من ملك نصاباً، لقوله: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى". 1 وهو محمول على زكاة المال. فإن لم يجد إلا صاعاً، أخرجه عن نفسه، لقوله: "ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول". وقال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه لا يوجبها على الجنين، وتستحب، "لأن عثمان أخرجها عنه". ومن تكفل بمؤنة شخص في رمضان، لم تلزمه فطرته، في قول الأكثر، وعنه: تلزمه؛ وهو محمول على الاستحباب. ولا يمنع الديْن وجوب الفطرة، إلا أن يكون مطالباً به، بدليل وجوبها على الفقير. ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، ولا يجوز قبل ذلك. وقال الشافعي: يجوز من أول الشهر. ولنا: أن المقصود منها الإغناء في وقت مخصوص، فلم يجز تقديمها قبله. والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، فإن أخرها عن يوم العيد أثم. وحكي عن ابن سيرين الرخصة في تأخيرها، وحكي عن أحمد، واتباع السنة أولى. والواجب: صاع عن كل إنسان، من جميع الأجناس المخرجة، وبه قال   1 البخاري: الزكاة (1426, 1428) والنفقات (5355, 5356) , والنسائي: الزكاة (2534, 2544) , وأبو داود: الزكاة (1676) , وأحمد (2/230) , والدارمي: الزكاة (1651) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 مالك والشافعي. وروي عن معاوية وابن الزبير: "يجزئ نصف صاع من البر"، وهو قول عطاء وطاووس وغيرهما. ولا يجوز العدول عن الأجناس المذكورة مع القدرة. وقال مالك: يخرج من غالب قوت البلد. قال أحمد: كان ابن سيرين يحب أن ينقي الطعام، وهو أحب إليّ ليكون على الكمال. ويجوز إخراج صاع إذا كان من الأجناس المنصوص عليها. ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد، لا نعلم فيه خلافاً، فأما إعطاء الواحد ما يلزم الجماعة فظاهر المذهب الجواز، وبه قال مالك وأصحاب الرأي وابن المنذر. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": اختار الشيخ إجزاء نصف صاع من بر، واختار أنه يجزئ من قوت البلدة مثل الأرز وغيره، وذكر أنه قول أكثر العلماء، ولو قدر على الأصناف المذكورة. واختار أنها لا تدفع إلا لمن يستحق الكفارة؛ فلا تدفع في المؤلفة والرقاب وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 باب إخراج الزكاة لا يجوز تأخير إخراجها إذا لم يخش ضرراً، وبه قال الشافعي. فإن خشي إن أخرجها أخذها الساعي منه مرة أخرى، فله تأخيرها. فإن أخرها ليدفعها إلى من هو أحق بها، فإن كان شيئا يسيراً فلا بأس. وفي تعجيلها لأكثر من حول روايتان: إحداهما: لا يجوز، لأن النص لم يرد إلا به. والثانية: يجوز، لأن في حديث العباس: "هي عليّ ومثلها"، ولأحمد: "إنا استسلفنا زكاة عامين". فأما ما زاد عن حولين، فقال ابن عقيل: لا يجوز، رواية واحدة، لأن التعجيل على خلاف الأصل؛ وإنما جاز في عامين، للنص. وإن عجل زكاة ماله ثم مات، فأراد الوارث الاحتساب بها عن زكاة حوله، لم يجز. وإن عجلها ثم هلك المال، لم يرجع على الآخذ. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": ليس للإمام أن يقاتل على عدم دفعها إليه، وقال الشيخ: من جّوز القتال على عدم طاعته، جوّزه هنا، ومن لم يجوّزه إلا على ترك طاعة الله ورسوله، لم يجوّزه. وإذا أخذها الإمام قهراً وأخرجها ناويا للزكاة ولم ينوها ربها، أجزأت عن ربها. وقال الشيخ: لا يجزيه. ولو دفعها إلى الإمام طائعاً، ونواها الإمام دون ربها، لم تجزئه، اختاره الشيخ. ولا يجوز نقلها إلى بلد تقصر فيه الصلاة، وقيل: تنقل لمصلحة راجحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 كقريب محتاج ونحوه، اختاره الشيخ. وقال: تحديد المنع بمسافة القصر ليس عليه دليل شرعي، وجعل محل ذلك الأقاليم؛ فلا تنقل من إقليم إلى إقليم. ولو أخذ الساعي فوق حقه من رب المال، اعتد بالزيادة في سنة ثانية، قال أحمد: يحسب ما أهداه للعامل من الزكاة، وعنه: لا يعتدّ بذلك. وقال الشيخ: ما أخذه باسم الزكاة، ولو فوق الواجب بلا تأويل، اعتدّ به وإلا فلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 باب أهل الزكاة وهم ثمانية سماهم الله تعالى، ولا نعلم خلافاً أنه لا يجوز دفعها إلى غيرهم، إلا ما روي عن أنس والحسن: "ما أعطيت في الجسور والطرق، فهي صدقة قاضية". و (الفقراء) و (المساكين) صنفان فيها، وصنف في سائر الأحكام. وإذا ملك ما لا تتم به كفايته من غير الأثمان، لم يمنع من أخذها، نص عليه، ولا نعلم فيه خلافاً. وذكر أحمد قول عمر: "أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا". وقال أصحاب الرأي: إن ملك نصاباً زكوياً لا تتم به كفايته، كالمواشي والحبوب، فليس له الأخذ، لأنها تجب عليه الزكاة، لحديث معاذ: "تؤخذ من أغنيائهم، وتُرد على فقرائهم ... إلخ". 1 ويجوز أن يكون الغنى الموجب للزكاة غير الغنى المانع عنها، جمعاً بين الأدلة. وإن ملك من غير الأثمان ما يقوم بكفايته، كمكسب أو أجرة عقار أو غيره، فلا يأخذ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن كان المال مما لا تجب فيه الزكاة، جاز الدفع إليه. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا حظَّ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب". 2 قال أحمد: ما أجوده من حديث! وإن كان من الأثمان فاختلف فيه، فعنه: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام، من مكسب أو تجارة أو أجرة عقار ونحو ذلك. ولو ملك من الحبوب أو العروض أو العقار أو السائمة ما لا تحصل به الكفاية، لم يكن غنياً، وبه قال   1 البخاري: الزكاة (1395) , ومسلم: الإيمان (19) , والترمذي: الزكاة (625) , والنسائي: الزكاة (2435) , وأبو داود: الزكاة (1584) , وابن ماجة: الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي: الزكاة (1614) . 2 النسائي: الزكاة (2598) , وأبو داود: الزكاة (1633) , وأحمد (4/224, 5/362) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 مالك والشافعي، لحديث: "لا تحل المسألة إلا لثلاثة ... إلخ "، 1 وحديث: "خمسين درهماً أو قيمتها" 2 فيه ضعف. ويجوز أن تحرم المسألة لا الأخذ. وقال أبو عبيد: الغنى أوقية، وهي: أربعون درهماً، لقوله عليه السلام: "من سأل وله قيمة أوقية، فقد ألحف". 3 وقال أصحاب الرأي: الغنى المانع منها هو الموجب لها، لحديث معاذ. ووجه الرواية الأولى: الجمع بين الحديثين، وهو: أن يكون الغنى المانع غير الغنى الموجب. الثالث: (العاملون عليها) ، وهم الذين يبعثهم الإمام لأخذها وحفظها، ومن يعينهم على ذلك. ولا يشترط كونهم فقراء، لأن الله جعلهم غير الفقراء والمساكين. وعنه: في قدر ما يعطى الثمن، وعنه: قدر عمالته. الرابع: (المؤلفة قلوبهم) ، وقال أبو حنيفة: انقطع سهمهم، لما روي: "أن مشركاً جاء يلتمس من عمر مالاً، فلم يعطه، وقال: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، ولأنه لم ينقل عن عثمان ولا عن علي. ولنا: الآية، ومخالفة كتاب الله وسنة رسوله واطراحهما بلا حجة، لا يجوز. ولا يثبت النسخ بترك عمر وعثمان وعلي، فلعلهم تركوه لعدم الحاجة، لا لسقوط سهمهم؛، وهذا في الكفار، وأما المسلمون، كمثل سادات المسلمين الذين لهم نظراء في الكفار، فإذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم، كما "أعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان"، مع حسن نياتهما وإسلامهما، ومثل من يرجى قوة إيمانه ومناصحته في الجهاد، كما "أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والطلقاء". الخامس: (الرقاب) ، لا نعلم فيه خلافاً. والمكاتبون منهم على قول الجمهور، وقال مالك: إنما يصرف في إعتاق العبيد. ويجوز أن يشتري بها   1 مسلم: الزكاة (1044) , والنسائي: الزكاة (2579) , وأبو داود: الزكاة (1640) , وأحمد (3/477, 5/60) , والدارمي: الزكاة (1678) . 2 الترمذي: الزكاة (650) , والنسائي: الزكاة (2592) , وأبو داود: الزكاة (1626) , وابن ماجة: الزكاة (1840) , وأحمد (1/388, 1/441, 1/466) , والدارمي: الزكاة (1640) . 3 النسائي: الزكاة (2595) , وأبو داود: الزكاة (1628) , وأحمد (3/9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أسيراً مسلماً نص عليه. وهل يجوز أن يشتري منها رقبة يعتقها؟ فعنه: "يجوز"، وبه قال ابن عباس ومالك، لعموم قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} . 1 وعنه: لا، وهو قول الشافعين لأن الآية تقتضي صرفها إلى الرقاب، والعبد لا يدفع إليه شيء. قال أحمد: كنت أقولُ: يعتق من الزكاة، ولكن أهابه اليوم لأنه يجر الولاء. قيل له: فما يعجبك من ذلك؟ قال: يعين في ثمنها، فهو أسلم. وبه قال أبو حنيفة وصاحباه، لأنه ينتفع بالولاء، ولا يجوز أن يشتري منها من يعتق عليه، وأجازه الحسن. السادس: (الغارمون) ، وهم المدينون؛ فالغارمون لإصلاح نفوسهم لا خلاف في استحقاقهم، وأن العاجز عن وفاء ديْنه منهم. لكن من غرم في معصية، لم تدفع إليه قبل التوبة. والغارمون لإصلاح ذات البين، مثل من يحمل الدماء والأموال، وكانت العرب تعرف ذلك، فورد الشرع بإباحة المسألة فيها، وفي حديث أبي سعيد: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة"، 2 فذكر منهم الغارم. السابع: (في سبيل الله) ، ولا خلاف فيهم، ولا خلاف أنهم الغزاة؛ وإنما يستحقه الذين لا ديوان لهم. قال أحمد: يعطى ثمن الفرس، ولا يتولى مخرج الزكاة شراء الفرس بنفسه، لأن الواجب إيتاء الزكاة؛ فإذا اشترى بنفسه فما أعطي إلا فرساً. وقال في موضع آخر: إن دفع ثمن الفرس والسيف، فهو أعجب إلي، وإن اشتراه رجوت أن يجزئه. وقال: لا يشتري فرساً يصير حبيسا في سبيل الله، ولا دارا ولا ضيعة للرباط، لأنه لم يؤت الزكاة لأحد،   1 سورة التوبة آية: 60. 2 أبو داود: الزكاة (1635) , وابن ماجة: الزكاة (1841) , وأحمد (3/56) , ومالك: الزكاة (604) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ولا يغزو على الفرس الذي أخرجه من الزكاة. واختلفت الرواية عنه: هل يعطي منها في الحج؟ الثامن: (ابن السبيل) ، ولا خلاف فيه، وهو: المسافر الذي ليس له ما يرجع به إلى بلده، وإن كان ذا يسار في بلده. وقال الشافعي: ومن يريد إنشاء السفر أيضاً يدفع إليه. ولنا: أن السبيل هو الطريق، وابنه الكائن فيه، ولا يفهم من ابن السبيل إلا الغريب. وإن كان يريد غير بلده، فقال أصحابنا: يدفع إليه، لكن بشرط كون السفر مباحاً. وإن كان للنزهة ففيه وجهان، قال شيخنا: ويقوى عندي أنه لا يجوز الدفع في السفر إلى غير بلده، لأنه لا نص فيه. ويعطى الفقير والمسكين ما يكفي حولاً، والغارم والمكاتب ما يقضيان به ديْنهما، والغازي ما يحتاج إليه لغزوه. وإن أخرجها فضاعت قبل دفعها إلى الفقير، لم تسقط، وقال مالك: أراها تجزئه إذا أخرجها في محلها، وإن أخرجها بعده ضمن. وإن منعها أخذت منه وعُزر. وقال أبو بكر: يأخذها وشطر ماله، وبه قال إسحاق، لحديث: "إنا آخذوها وشطر ماله". 1 قال أحمد: صالح الإسناد. والصبي والمجنون يخرج عنهما وليهما. وحكي عن الثوري والأوزاعي: تجب، ولا تخرج حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون. وقال أبو حنيفة: لا تجب الزكاة في أموالهما، إلا العشر وصدقة الفطر، لقولهصلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة"، 2 والحديث أريد به رفع الإثم بدليل وجوب العشر وصدقة الفطر، وهي حق يتعلق بالمال أشبه أرش الجناية ونفقة الزوجة والأقارب. ويستحب له تفريقها بنفسه، وله دفعها إلى الساعي، وعنه:   1 النسائي: الزكاة (2444, 2449) , وأبو داود: الزكاة (1575) , والدارمي: الزكاة (1677) . 2 الترمذي: الحدود (1423) , وابن ماجة: الطلاق (2042) , وأحمد (1/116, 1/118, 1/140, 1/158) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 يستحب أن يدفع إليه العشر ويتولى تفريق الباقي. قال أحمد: "قيل لابن عمر: إنهم يقلدون بها الكلاب، ويشربون بها الخمور، قال: ادفعها إليهم". ومن قال: يدفعها إلى الإمام: الشعبي والأوزاعي. "وكان ابن عمر يدفع زكاته إلى من جاءه من سعاة ابن الزبير أو نجدة الحروري". وقال مالك وأبو حنيفة: لا يفرق الأموال الظاهرة إلا الإمام، لأن أبا بكر طالبهم بها وقاتلهم عليها، وقال: "والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها". وقال أصحاب الرأي: إذا مر على الخوارج فعشروه لا يجزئ عن زكاته، ويجزئ فيما غلبوا عليه. وقال أبو عبيد: على من أخذوا منه الزكاة الإعادة، لأنهم ليسوا بأئمة، أشبهوا قطاع الطريق. ولنا: قول الصحابة من غير خلاف علمناه في عصرهم. ولا يعطى أحد مع الغنى إلا أربعة: العامل، والمؤلف، والغارم لإصلاح ذات البين، والغازي؛ وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تدفع إلا لفقير، لعموم حديث معاذ. وابن السبيل تعتبر حاجته في مكانه وإن كان له مال في بلده. وإن أراد دفع الزكاة إلى الغارم سلمها إليه، فإن دفعها للغريم عن المدين، ففيه روايتان. ويحتمل أن تحمل رواية المنع على الاستحباب. وإن ادعى الفقر من عُرف بالغنى، لم يقبل قوله إلاّ ببينة، وهل يعتبر في البينة ثلاثة؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم. والثاني: يقبل اثنان، لأن الخبر ورد في حل المسألة فيقتصر عليه. وإن ادعى الفقر من لم يُعرف بالغنى قبل قوله، فإن رأوه جلداً وذكر أنه لا كسب له، أعطاه من غير يمين بعد أن يخبره أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب. ومن غرم أو سافر في معصية، لم تدفع إليه، وإن تاب فعلى وجهين. ويستحب صرفها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 إلى جميع الأصناف، أو من أمكن منهم، للخروج من الخلاف. فـ"إن اقتصر على واحد أجزأه"، وهذا قول ابن عمر وابن عباس وغيرهما. وقال النخعي: إن كان المال كثيراً يحتمل الأصناف، قسمه عليهم، وإن كان قليلاً جاز. وقال مالك: يتحرى موضع الحاجة منهم، ويقدم الأوْلى فالأولى. وقال الشافعي: يجب أن تقسم زكاة كل صنف على الموجودين من الأصناف الستة على السواء، ثم حصة كل صنف لا تصرف إلى أقل من ثلاثة إن وجدوا، فإن لم يوجد إلا واحد، صرف حصة ذلك الصنف إليه. وروي عن أحمد مثله. ولنا: قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} الآية، 1 وحديث معاذ؛ ولم يذكر في الآية والخبر إلا صنفاً واحداً. و"أمر صلى الله عليه وسلم بني زريق بدفع صدقاتهم إلى سلمة بن صخر، وقال لقبيصة: أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها"، 2 وما بلغنا أنه صلى الله عليه وسلم فعل هذا ولا أحد من خلفائه، ولو فعلوه مع مشقة لنقل. والآية سيقت لبيان من يجوز الصرف إليه، بدليل أنه لا يجب تعميم كل صنف بها. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن الذمي لا يعطى من الزكاة، لحديث معاذ، ولا يعطى الكافر ولا المملوك، لا نعلم فيه خلافاً، إلا أن يكون الكافر مؤلفاً. وقال ابن المنذر: أجمعوا على أنها لا تدفع إلى الوالدين في الحال التي يجبر على النفقة عليهم، ولا إلى الزوجة. ولا نعلم خلافاً أن بني هاشم لا تحل لهم، وحكم مواليهم كذلك عند أحمد؛ وقال أكثر أهل العلم: يجوز. ولنا: حديث أبي رافع: "إنا لا تحل لنا الصدقة، وإن موالي القوم منهم". 3 صححه الترمذي. ولهم الأخذ من صدقة التطوع ووصايا الفقراء والنذر، وفي الكفارة   1 سورة البقرة آية: 271. 2 مسلم: الزكاة (1044) , وأبو داود: الزكاة (1640) , وأحمد (5/60) , والدارمي: الزكاة (1678) . 3 الترمذي: الزكاة (657) , والنسائي: الزكاة (2612) , وأبو داود: الزكاة (1650) , وأحمد (6/390) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وجهان. ولو أهدى المسكين منها إلى الهاشمي حل، "لأنه صلى الله عليه وسلم أكل مما تُصُدِّق به على أم عطية، وقال: إنها قد بلغت محلها ". 1 متفق عليه. وكل من حرم عليه صدقة الفرض من الأغنياء وقرابة المتصدق والكافر وغيرهم، تجوز له صدقة التطوع، قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} الآية، 2 ولم يكن الأسير يومئذ إلا كافراً، وقال لسعد: "إن نفقتك على أهلك: صدقة". 3 متفق عليه. والأقارب غير الوالدين من لا يرث منهم، يجوز دفع الزكاة إليه. الثاني: من يرث، كالأخوين اللذيْن يرث أحدهما الآخر، ففيه روايتان: إحداهما: يجوز، وهذا قول أكثر أهل العلم، لقوله: "وهي لذي الرحم: صدقة وصلة"، فلم يشترط نافلة ولا فرضاً. والثانية: لا، لأن على الوارث مؤنته. فإذا كان في عائلته من لا تجب عليه نفقته كاليتيم، فظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز. وفي دفعها إلى الزوج روايتان: إحداهما: "يجوز"، لحديث ابن مسعود وامرأته. والثانية: لا. وحديث ابن مسعود وزوجته في صدقة التطوع، لقولها: أردت أن أتصدق بحلي لي، وقوله: "زوجك وولدك أحق"، 4 والولد لا تدفع إليه الزكاة. وهل يجوز دفعها إلى بني المطلب؟ على روايتين. وإن دفعها إلى من لا يستحقها وهو لا يعلم، ثم علم، لم تجزه، إلا لغني إذا ظنه فقيراً، في إحدى الروايتين؛ وبه قال أبو حنيفة وأبو عبيد، "لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى الجلدين، وقال للذي سأله من الصدقة: إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك"، 5 ولو اعتبر حقيقة الغنى لما اكتفى بقولهم. ويستحب أن يخص بالصدقة من اشتدت حاجته، لقوله: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} . 6 فإن   1 البخاري: الزكاة (1494) , ومسلم: الزكاة (1076) , وأحمد (6/407) . 2 سورة الإنسان آية: 8. 3 أحمد (1/168) . 4 البخاري: الزكاة (1462) . 5 أبو داود: الزكاة (1630) . 6 سورة البلد آية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 تصدق بما ينقص مؤنة من تلزمه مؤنته أثم، لقوله: "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت"، 1 فإن وافقوه على الإيثار فهو أفضل، لقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} ، 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة: جهد من مقلٍّ إلى فقير في السر". ومن أراد الصدقة بماله كله وكان وحده، أو كان لمن يمونه كفايتهم، أو كان مكتسبا، أو واثقا من نفسه بحسن التوكل والتعفف من المسألة، فله ذلك لما ذكرنا من الآية والخبر، ولقصة أبي بكر، و"إلا كره ذلك، لحديث جابر في الذي جاء بمثل بيضة من ذهب ... " الحديث. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال الشيخ: الفقر والمسكنة صفتان لموصوف واحد. واختار جواز الأخذ لشراء كتب علم لا بد لمصلحة دينه ودنياه منها. والذي يقبض للصغير من الزكاة والهبة والكفارة: وليه من أب ووصي وحاكم. قال في الفروع: لم أجد عن أحمد تصريحاً بأنه لا يصح قبض غير الولي مع عدمه، مع أن الموفق قال: لا نعلم فيه خلافاً، ثم ذكر أنه يحتمل أنه يصح قبض من يليه من أم وقريب وغيرهما عند عدم الولي. وذكر المجد: أنه منصوص أحمد. نقل هارون الحمال في الصغار يعطى أولياؤهم، فقلت له: ليس لهم ولي، قال: يعطى من يُعنى بأمرهم. ويصح من المميز قبض الزكاة، قال المروذي: قلتُ لأحمد: يعطى غلاماً يتيماً من الزكاة؟ قال: نعم. يدفعها إلى الغلام. قلت: أخاف أن يضيعه. قال: يدفعه إلى من يقوم بأمره. قيل لأحمد: يكون عنده الزرع ليس عنده ما يحصده، أيأخذ من الزكاة؟ قال: نعم. قال الشيخ: وفي معناه: ما يحتاج إليه لإقامة مؤنته؛   1 مسلم: الزكاة (996) , وأبو داود: الزكاة (1692) , وأحمد (2/160, 2/193, 2/194، 2/195) . 2 سورة الحشر آية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ومن أبيح له أخذ شيء أبيح له سؤاله. وعنه: يحرم السؤال لا الأخذ، على من له غداء أو عشاء. قال الأصحاب: إذا عمل الإمام أو نائبه، لم يكن له أخذ شيء، لأنه يأخذ رزقه من بيت المال. ونقل صالح: العامل هو السلطان الذي جعل الله له الثمن في كتابه، ونقل عبد الله نحوه. ولا يقضي منها ديْن ميت غرم لمصلحة نفسه أو غيره، واختار الشيخ الجواز، لأنه لا يشترط تمليكه، لأن الله قال: {وَالْغَارِمِينَ} ، 1 ولم يقل: وللغارمين. ولو دفع المالك إلى الغريم بلا إذن الفقير، فكلام الشيخ يقتضي الجواز. واختار جواز الأخذ من الزكاة للفقير ما يصير به غنياً وإن كثر. واختار أنه إذا أسقط عن غريمه زكاة ذلك الديْن منه جاز، لأن الزكاة مواساة. واختار جواز إعطاء عمودي نسبه إذا كان لغرم نفسه أو لكتابة أو ابن سبيل. وقال: بنو هاشم إذا منعوا خمس الخمس، جاز لهم الأخذ منها. وقال: يجوز لهم الأخذ من زكاة الهاشميين. انتهى. وقال: وفي تحريم الصدقة على أزواجه صلى الله عليه وسلم وكونهن من أهل بيته روايتان: أصحهما: التحريم، وكونهن من أهل بيته. واختار أنه يعطى يتيماً تبرع بنفقته.   1 سورة التوبة آية: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 كتاب الصيام يجب الصوم بإحدى ثلاثة: الأول: رؤية الهلال، إجماعاً. الثاني: كمال شعبان ثلاثين، لا نعلم فيه خلافاً. ويستحب ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، وفي الترمذي: "احصوا هلال شعبان لرمضان". الثالث: أن يحول دون منظره غيم أو قتر، فيجب صومه، وعنه: لا يجب، ولا يجزئه عن رمضان إن صامه؛ وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي. وعنه: الناس تبع للإمام، فإذا رؤي نهاراً قبل الزوال أو بعده، فهو لليلة المقبلة. وقال الثوري وأبو يوسف: إن رؤي قبل الزوال، فهو للماضية، لقوله: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته"، 1 وقد رأوه فيجب الصوم والفطر. ولنا: قول عمر وابنه وغيرهما من الصحابة، والخبر محمول على ما إذا رئي عشية، بدليل ما لو رئي بعد الزوال. ثم إن الخبر إنما يقتضي الصوم والفطر من الغد، بدليل ما لو رئي عشية. وعنه: إن كان في أول رمضان، فهو للماضية؛ فعليها، يلزم قضاء ذلك اليوم وإمساك بقيته. فإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم. وعن عكرمة: لأهل كل بلد رؤيتهم، وهو مذهب إسحاق، لحديث كريب عن ابن عباس، رواه مسلم. ولنا: قوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، 2 وقد ثبت أن هذا منه في سائر الأحكام - من وقوع الطلاق   1 البخاري: الصوم (1909) , ومسلم: الصيام (1081) , والترمذي: الصوم (684) , والنسائي: الصيام (2117, 2118) , وأحمد (2/497) , والدارمي: الصوم (1685) . 2 سورة البقرة آية: 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 والعتاق وغير ذلك -، فوجب صيامه بالنص والإجماع. وحديث كريب دل على أنهم لا يفطرون بقول كريب، ونحن نقول به. ويقبل في هلال رمضان قول عدل، وفي سائر الشهور عدلان. وعن عثمان: "لا يقبل إلا شهادة اثنين"، وهو مذهب مالك، لحديث عبد الرحمن بن الخطاب. ولنا: حديث ابن عباس، وحديثهم إنما يدل بمفهومه، وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين فلم يروه، أفطروا، لحديث عبد الرحمن بن زيد. وإن صاموا بشهادة واحد، فعلى وجهين: أحدهما لا يفطرون، لحديث عبد الرحمن. ومن رأى هلال رمضان فردت شهادته لزمه الصوم، وقاله مالك والشافعي. وقال إسحاق: لا يصوم. وإن رأى هلال شوال وحده، لم يفطر؛ روي عن مالك والليث. وقال الشافعي: يحل له أن يأكل بحيث لا يراه أحد. وإن قامت البينة بالرؤية، لزمهم الإمساك والقضاء. وقال عطاء: لا يجب الإمساك. قال ابن عبد البر: لا نعلم أحداً قاله غير عطاء. وإن طهرت حائض أو نفساء، أو قدم المسافر مفطراً، لزمهم القضاء؛ وفي الإمساك روايتان. و"من عجز عن الصوم لكِبر أو مرض لا يرجى برؤه أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكيناً"، وهذا قول علي وابن عباس وغيرهما. وقال مالك: لا يجب عليه شيء. ولنا: الآية، قال ابن عباس في تفسيرها: "نزلت رخصة للشيخ الكبير". وقال أبو عبيد وأبو مجلز: لا يفطر من سافر بعد دخول الشهر، لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . 1 ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد. ثم أفطر، وأفطر الناس معه". 2 متفق   1 سورة البقرة آية: 185. 2 البخاري: الصوم (1944) , ومسلم: الصيام (1113) , وأحمد (1/348) , والدارمي: الصوم (1708) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 عليه. ومن نوى الصوم في سفره فله الفطر، وقال الشافعي: إن صح حديث الكديد، لم أر به بأساً. وقال مالك: إن أفطر، فعليه القضاء والكفارة. وإن نوى الحاضر صوم يوم، ثم سافر في أثنائه فله الفطر. وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي: لا يفطر. ولنا: حديث أبي بصرة الغفاري، رواه أبو داود. وقال الحسن: يفطر في بيته إن شاء، لما روى محمد بن كعب قال: "أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر، وقد رحلت له راحلته، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنّة؟ فقال: سنّة. ثم ركب". حسنه الترمذي؛ ويحتمل أنه كان نزل خارجاً منه، فأتاه ابن كعب في ذلك المنزل. قال ابن عبد البر: قول الحسن شاذ، ويروى عنه خلافه. والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما، أفطرتا وقضتا لا غير، لا نعلم فيه خلافاً. وإن خافتا على ولديهما، أفطرتا وأطعمتا. وقال الليث: الكفارة على المرضع، لأنه يمكنها أن تسترضع لولدها. وقال النخعي وأبو حنيفة: لا كفارة عليها. ولنا: قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، 1"وهما داخلتان في عموم الآية". وروي عن ابن عمر وابن عباس، ولا مخالف لهما من الصحابة. ويجب عليهما القضاء، وقال ابن عمر وابن عباس: "لا قضاء عليهما لأن الآية تناولتهما". ولنا: أنهما يطيقان. قال أحمد: أذهب إلى حديث أبي هريرة، يعني: ولا أقول بقول ابن عمر وابن عباس في منع القضاء. ولا نعلم خلافاً في وجوب القضاء على المغمى عليه، فأما المجنون فلا يقضي، وقال مالك: يقضي. ولا يصح صومٌ واجب إلا أن ينويه من الليل، وهو مذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: يجزى صيام رمضان، وكل صوم بنية من النهار، لأنه صلى الله   1 سورة البقرة آية: 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 عليه وسلم أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: "من كان أصبح صائماً فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطراً فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم"، 1 وكان واجباً. ولنا: حديث حفصة، مرفوعاً: "من لم يبيِّت الصيام من الليل، فلا صيام له". 2 رواه أبو داود والترمذي والنسائي. وأما يوم عاشوراء، فإنما سمي الإمساك صياماً تجوزاً، كما في البخاري: "من كان أكل، فليصمْ بقية يومه". 3 والإمساك بعد الأكل ليس بصيام شرعي، ولو ثبت أنه صيام عاشوراء، فوجوبه تجدد في أثناء النهار. ويصح صوم النفل بنية من النهار، بعد الزوال وقبله. وقال مالك: لا يجزئ إلا بنية من الليل، لحديث حفصة. ولنا: حديث عائشة عند مسلم، وحديثهم نخصه به، ولو تعارضا قدم حديثنا لأنه أصح. والمشهور من قولي الشافعي: أن النية لا تجزئ بعد الزوال، فإن فعل قبل النية ما يفطره لم يجز الصيام، بغير خلاف نعلمه. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صومه، وعنه: لا يجب. قال الشيخ: هذا مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، فلا أصل للوجوب في كلامه ولا كلام أحد من الصحابة؛ فعليها، يباح صومه، اختاره الشيخ. قوله: إذا رآه أهل بلد ... إلخ، إذا كانت المطالع متفقة لزمهم الصوم، قال الشيخ: تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة، فإن اتفقت لزمهم الصوم وإلا فلا. واختار أن من رآه فرُدت شهادته، لا يلزمه الصوم ولا الأحكام المعلقة بالهلال من طلاق وغيره. وإن رأى هلال شوال وحده، لم يفطر. قال الشيخ: النزاع مبني على أصل، وهو أن الهلال هل هو اسم لما يطلع في السماء وإن لم يشتهر ولم   1 البخاري: الصوم (1960) , ومسلم: الصيام (1136) . 2 الترمذي: الصوم (730) , والنسائي: الصيام (2334) , وأبو داود: الصوم (2454) , وأحمد (6/287) , والدارمي: الصوم (1698) . 3 البخاري: الصوم (2007) , ومسلم: الصيام (1135) , والنسائي: الصيام (2321) , وأحمد (4/47, 4/48) , والدارمي: الصوم (1761) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 يظهر، أو أنه لا يسمى هلالاً إلا بالاشتهار والظهور، كما يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار. وإن قامت البينة في أثناء النهار، لزم الإمساك والقضاء، وقال الشيخ: يمسك ولا يقضي، وأنه لو لم يعلم بالرؤية إلا بعد الغروب لم يلزمه القضاء. وإن أسلم كافر أو أفاق مجنون أو بلغ صبي فكذلك، وعنه: لا يجب الإمساك ولا القضاء، واختار الشيخ: يجب الإمساك دون القضاء. وقال: لو تبرع إنسان بالصوم عمن لا يطيقه لكِبر ونحوه أو عن ميت، وهما معسران، توجه جوازه، لأنه أقرب إلى المماثلة من المال. واختار الفطر للتقوّي على الجهاد، وفعله هو وأمر به لما نزل العدوّ دمشق، وقال: يباح للمسافر الفطر ولو كان السفر قصيراً. قوله: ولا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل، معيناً من رمضان أو قضائه أو نذره أو كفارته، وعنه: لا يجب تعيين النية لرمضان، ولا يصح بنية مقيدة بنذر أو غيره، لأنه ناو تركه، اختاره الشيخ إن كان جاهلاً، ومن كان عالماً فلا. وإن نوى: إن كان غداً من رمضان ففرض وإلا فنفل، لم يجزئه، وعنه: يجزئه، اختاره الشيخ. قال في الروضة: الأكل والشرب بنية الصوم نية، وكذا قال الشيخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة أجمعوا على أن الإفطار بالأكل والشرب لما يُتغذى به، فأما ما لا يتغذى به فيفطر، في قول عامة أهل العلم. وقال الحسن بن صالح: لا يفطر فيما ليس بطعام ولا شراب. وحكي عن أبي طلحة: "أنه كان يأكل البرد في الصوم". وقال مالك: لا يفطر بالسعوط إلا أن يصل إلى حلقه، واختلف عنه في الحقنة. وإن وجد طعم الكحل في حلقه، أو علم وصوله إليه، فطّره وإلا فلا. وقال الشافعي: لا يفطر الكحل. قال ابن المنذر: أجمعوا على إبطال صوم من استقاء عامداً، وقليل القيء وكثيره سواء، وعنه: لا يفطر إلا بملء الفم؛ والأول أولى، لظاهر حديث أبي هريرة، حسنه الترمذي. وإن قبّل أو لمس فأمنى أو أمذى أفطر، لإيماء الخبر إليه، يعني: قولها: "كان أملككم لإربه". وقال الشافعي: لا يفطر بالمذي، أو كرر النظر فأنزل، يعني: يفطر، وقال الشافعي وابن المنذر: لا يفطر. والحجامة يفطر بها الحاجم والمحجوم، وبه قال إسحاق وابن المنذر وابن خزيمة. وقال مالك: لا يفطر، (وإنما) يفطر بما ذكرنا إذا فعله ذاكراً لصومه. وروي عن عليّ: "لا شيء على من أَكل ناسياً"، وهو قول أبي هريرة وابن عمر، وقال مالك: يفطر. وإذا دخل حلقه غبار أو ذباب من غير قصد، أو رش عليه الماء فيدخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 مسامعه أو حلقه، أو يلقى في ماء فيصل إلى جوفه، فلا يفسد صومه، لا نعلم فيه خلافاً. ومن أكل معتقداً أنه ليل فبان نهاراً، فعليه القضاء، هذا قول أكثر أهل العلم، وحكي عن عروة ومجاهد والحسن وإسحاق: لا قضاء عليه. وإذا جامع في نهار رمضان، فعليه القضاء والكفارة، وعنه: لا كفارة مع الإكراه أو النسيان. وقال الشافعي: لا يجب القضاء مع الكفارة. ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم قال للمُجامع: "وصم يوماً مكانه". 1 رواه أبو داود. وإن جامع فيما دون الفرج أفطر، بغير خلاف علمناه، وفي الكفارة روايتان. وإن قبّل أو لمس فأنزل فسد صومه، وفي الكفارة روايتان. والكفارة: عتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، وعنه: على التخيير، لما روى مالك وابن جريج عن الزهري في الحديث: "أمره أن يكفِّر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً". ووجه الأولى: الحديث الصحيح، رواه يونس ومعمر والأوزاعي والليث وموسى بن عقبة وعبيد الله بن عمير وعراك بن مالك وغيرهم، عن الزهري بلفظ الترتيب؛ والأخذ به أولى، لأن أصحاب الزهري اتفقوا عليه، سوى مالك وابن جريج، ولأن الترتيب زيادة، ولأن حديثنا لفظه صلى الله عليه وسلم، وحديثهم لفظ الراوي، ويحتمل أنه رواه بأوْ لاعتقاده أن معنى اللفظين سواء. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": اختار الشيخ عدم الإفطار بمداواة جائفة ومأمومة وبحقنة. وقال ابن أبي موسى: الاكتحال بما يجد طعمه كصبر يفطر، ولا يفطر الإثمد غير المطيب   1 البخاري: الصوم (1936, 1937) والهبة وفضلها والتحريض عليها (2600) وكفارات الأيمان (6710, 6711) , ومسلم: الصيام (1111) , والترمذي: الصوم (724) , وابن ماجة: الصيام (1671) , وأحمد (2/208, 2/241) , والدارمي: الصوم (1716) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 إذا كان يسيراً، واختار الشيخ: لا يفطر بذلك كله. قوله: أو قبّل أو لمس فأمنى ... إلخ، ووجه في الفروع احتمالا بأنه لا يفطر، ومال إليه ورد ما احتج به المصنف والمجد. وإذا قبّل أو لمس فأمذى، فسد صومه، وقيل: لا يفطر، اختاره الشيخ. واختار أن الحاجم إن مص القارورة أفطر وإلا فلا، ويفطر المحجوم عنده إن خرج الدم وإلا فلا، وأنه لا يفطر الفاصد، وأن المشروط يفطر الشارط، وأنه يفطر بإخراج دمه برعاف أو غيره. واختار أنه لا قضاء على من أكل أو جامع معتقداً أنه ليل فبان نهاراً. وإن جامع فيما دون الفرج فأنزل أفطر، ووجه في الفروع احتمالاً: لا يفطر إذا باشر دون الفرج، ومال إليه. واختار الشيخ أنه لا يفطر إذا أمذى بالمباشرة. واختار أن المجامع إذا طلع عليه الفجر فنزع في الحال، أنه لا قضاء عليه ولا كفارة، ولو كفّر عنه غيره بإذنه فله أخذها، وقيل: وبدون إذنه. وذكر ابن أبي موسى: هل يجوز له أكلها أم كان خاصا بذلك الرجل الأعرابي؟ على روايتين، وحكم أكله من الكفارات بتكفير غيره عنه حكم كفارة رمضان، وعنه: جواز أكله مخصوص بكفارة رمضان، ولو ملكه ما يكفّر به، وقلنا: له أخذه هناك، فله أكله، وإلا أخرجه عن نفسه، وقيل: هل له أكله أو يلزمه التكفير به؟ على روايتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 باب ما يكره ويستحب، وحكم القضاء يكره للصائم أن يجمع ريقه فيبتلعه، وإذا بلع ريق غيره أفطر؛ فإن قيل: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّل عائشة وهو صائم، ويمص لسانها"، قيل: قال أبو داود: ليس إسناده صحيحاً، ويجوز أن يقبلها في الصوم، ويمص لسانها في غيره. وإذا ابتلع النخامة، فنقل حنبل: يفطر، ونقل المروذي: لا يفطر. قال أحمد: أحب إلي أن يجتنب ذوق الطعام، فإن فعل لم يضره، لقول ابن عباس: "لا بأس بذوق الطعام والخل، والشيء يريد شراءه"، والحسن كان يمضغ الجوز لابن ابنه وهو صائم. والمنقول عن أحمد: كراهة مضغ العلك. "ورخصت فيه عائشة". وتكره القبلة إلا لمن لا تحرك شهوته. و"إن شُتم استحب أن يقول: "إني صائم""، للحديث. ويستحب تعجيل الإفطار وتأخير السحور، ولا نعلم خلافاً في استحباب السحور. ويستحب أن يفطر على رطبات، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن فعلى الماء. ولا نعلم خلافاً في استحباب التتابع في قضاء صوم رمضان، وحكي وجوبه عن النخعي والشعبي. وإذا تأخر القضاء حتى أدركه رمضان آخر، فليس عليه إلا القضاء، لعموم الآية. و"إن كان لغير عذر، فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم"، يروى عن ابن عباس وابن عمر، وقال الحسن: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 لا فدية عليه. ولنا: أنه قول مَن سمّينا من الصحابة، ولم يرو عن غيرهم خلافهم. ومن مات وعليه صيام قبل إمكان الصيام، إما لضيق وقت أو مرض أو سفر، فلا شيء عليه، في قول أكثر أهل العلم. و"إن أخّره لغير عذر مع إمكان القضاء فمات، أطعم عنه لكل يوم مسكيناً"؛ وهذا قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن عائشة وابن عباس، وبه قال مالك والأوزاعي والثوري والشافعي. وقال أبو ثور: يصام عنه، وهو قول الشافعي، لحديث: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليّه". 1 ولنا: أنه قول ابن عمر وابن عباس وعائشة، وهي راوية الحديث، والحديث في النذر. واختلفت الرواية في جواز التطوع بالصوم ممن عليه صوم فرض، وفي كراهة القضاء في عشر ذي الحجة، ومن مات وعليه صوم منذور أو حج أو اعتكاف فعله عنه وليه، وإن كان صلاة منذورة فعلى روايتين. وقال مالك والثوري: يطعم عنه وليه. ولنا: الأحاديث وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع، وفيها غنى عن كل قول. ولا يختص بالولي، بل كل من قضى عنه أو صام عنه أجزأه. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قوله: فإن شُتم استحب أن يقول: "إني صائم"، يحتمل أن يقوله مع نفسه، ويحتمل أن يكون جهراً، اختاره الشيخ. ومن فطر صائماً، فله مثل أجره، قال الشيخ: المراد إشباعه. واختار أن من أفطر متعمداً بلا عذر لا يقضي، وكذلك الصلاة، وقال: وليس في الأدلة ما يخالف هذا. وقال في المستوعب: يصح أن يفعل عنه كل ما عليه من نذر طاعة، إلا الصلاة فعلى روايتين. وقال المجد: قصة سعد تدل على أن كل نذر يقضى، وترجم عليه في المنتقى: يقضى كل المنذورات عن الميت، ولا كفارة مع الصوم عنه أو الإطعام. واختار الشيخ أن الصوم بدل مجزئ بلا كفارة.   1 البخاري: الصوم (1952) , ومسلم: الصيام (1147) , وأبو داود: الصوم (2400) والأيمان والنذور (3311) , وأحمد (6/69) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 باب صوم التطوع أفضله: صيام داود. ويستحب صيام أيام البيض من كل شهر، وصوم الاثنين والخميس، وصيام ثلاثة من كل شهر، لا نعلم في استحبابه خلافاً، وصوم ستة أيام من شوال مستحب، وكرهه مالك. قال أحمد: "هو من ثلاثة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم"، ولا فرق بين كونها متتابعة أو متفرقة، وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة، ويوم عرفة كفارة سنتين، ولا يستحب لمن كان بعرفة. ويستحب صيام عشر ذي الحجة. وأفضل الصيام بعد رمضان: شهر الله المحرم. ويكره إفراد رجب، قال أحمد: لا يصومه متوالياً بل يفطر فيه، ولا يشبهه برمضان. ويكره إفراد الجمعة والسبت ويوم الشك ويوم النيروز والمهرجان، إلا أن يوافق عادة، قال أحمد: أما صيام يوم السبت يفرد، فقد جاء فيه حديث الصماء. والوصال مكروه في قول أكثر أهل العلم، وظاهر قول الشافعي: أنه حرام. ولنا: أن النهي رفقاً بهم، ولهذا لم يفهم منه الصحابة التحريم. وفي البخاري "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل، فليواصل إلى السحر". 1 وقال أبو الخطاب: إنما يكره صوم الدهر إذا دخل فيه العيدان وأيام التشريق، لأن أحمد قال: إذا أفطر يومَي العيد وأيام التشريق، رجوت أن لا يكون به بأس، وهو قول الشافعي، لأن جماعة من الصحابة كانوا يسردون الصوم. قال شيخنا: إنما كره صوم الدهر لما فيه من المشقة، وشبه التبتل المنهي عنه، وفي حديث عبد الله بن عمر:   1 البخاري: الصوم (1967) , وأبو داود: الصوم (2361) , وأحمد (3/8, 3/57, 3/87, 3/96) , والدارمي: الصوم (1705) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 "وإنك إذا فعلت ذلك، هجمت له عينك ... إلخ"، 1 ولو لم يفطر في العيدين وأيام التشريق، فقد فعل مكروهاً، وإن أفطر فيها. ويكره استقبال رمضان باليوم واليومين، ويدل الحديث بمفهومه على جواز التقديم بأكثر من يومين، وفي حديث أبي هريرة: "إذا كان النصف من شعبان، فأمسكوا ... إلخ"؛ 2 فيحمل الأول على الجواز، وهذا على نفي الفضيلة، جمعاً بينهما. ولا يجوز صيام العيدين وأيام التشريق. ومن شرع في صلاة أو صوم تطوعاً استحب له إتمامه، ولا يلزمه. وعنه: إذا أجمع على الصيام فأوجبه على نفسه، فأفطر من غير عذر، أعاد ذلك اليوم. وقال النخعي ومالك: يلزم بالشروع فيه، فإن خرج قضى، لحديث عائشة، وفيه: "اقضيا يوماً مكانه". 3 ولنا: حديث عائشة عند مسلم، وخبرهم، قال أبو داود: لا يثبت، وضعفه الجوزجاني وغيره. وعن أحمد ما يدل على أن الصلاة تلزم بالشروع، ومال الجوزجاني إلى هذا وقال: الصلاة ذات إحرام وإحلال، فلزمت بالشروع كالحج. وأكثرُ أصحابنا على "أنها لا تلزم"، وهو قول ابن عباس؛ فإن دخل في صوم واجب لم يجز له الخروج، بلا خلاف. وتطلب ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وليالي الوتر آكد، وأرجاها ليلة سبع وعشرين. قال أبيّ بن كعب وابن عباس: "هي ليلة سبع وعشرين". ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": إذا أفطر أيام النهي، جاز صوم الدهر ولم يكره، ورواية الأثرم: يكره، قال الشيخ: الصواب قول من جعله تركاً للأوْلى أو كرها، وإن فرق ست شوال جاز، اختاره الشيخ.   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3419) . 2 الترمذي: الصوم (738) , وأبو داود: الصوم (2337) , وابن ماجة: الصيام (1651) , وأحمد (2/442) , والدارمي: الصوم (1740) . 3 الترمذي: الصوم (735) , وأبو داود: الصوم (2457) , وأحمد (6/263) , ومالك: الصيام (682) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 (تنبيه) : عدم استحباب صوم يوم عرفة لمن بعرفة ليتقوى على الدعاء، وعن الشيخ: لأنه يوم عيد. وقال: لا يكره إفراد العاشر من المحرم بالصيام، واختار أنه كان واجباً ثم نسخ. وحكى في إفراد رجب بالصوم وجهين. وقال: لا يجوز صوم يوم الجمعة. واختار أنه لا يكره صوم يوم السبت مفرداً، وأن الحديث شاذ أو منسوخ، وقال: لا يجوز تخصيص أعياد الكفار بالصوم. وذكر ابن عبد البر الإجماع على أنه إذا دخل في الاعتكاف وقد نواه مدة، لزمته يقضيها، ورد المصنف والمجد كلامه في دعوى الإجماع. قال الشيخ: الوتر باعتبار الماضي، فطلب ليلة القدر ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين ... إلخ؛ ويكون باعتبار الباقي، لقوله: "في تاسعة تبقى" الحديث. فإذا كان الشهر ثلاثين، تكون تلك ليالي الإشفاع: فليلة الثانية والعشرين: تاسعة تبقى، وليلة أربع: سابعة تبقى، كما فسره أبو سعيد الخدري. وإن كان الشهر تسعة وعشرين، كان التاريخ بالباقي، كالتاريخ بالماضي. وقال الشيخ: ليلة الإسراء في حقه صلى الله عليه وسلم أفضل من ليلة القدر. وقال: يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ويوم النحر أفضل أيام العام. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 كتاب الاعتكاف لا نعلم خلافاً في استحبابه، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضاً، إلا أن يوجب المرءُ على نفسه الاعتكاف نذراً فيجب عليه. فإن نوى الاعتكاف مدة لم تلزمه، فإن شرع فيها فله إتمامها والخروج منها متى شاء. وقال مالك: يلزمه بالنية مع الدخول فيه، فإن قطعه فعليه قضاؤه. قال ابن عبد البر: لا يختلف في ذلك الفقهاء، ويلزم القضاء عند جميع العلماء، واحتجوا بحديث عائشة "في ضرب أزواجه الأخبية، فرجع، فلما أفطر اعتكف عشراً من شوال"، وما ذكره ليس بشيء، فإن هذا ليس بإجماع، ولا يعرف هذا القول عن أحد سواه؛ والحديث حجة عليه، لأنه صلى الله عليه وسلم ترك اعتكافه، وأزواجه تركنه ولا أمرن بالقضاء. وأما قضاؤه صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا عمل عملاً أثبته تطوعاً، ويصح بغير صوم، وعنه: لا يصح؛ فعليها، لا يصح في ليلة مفردة ولا بعض يوم، ولا يجوز إلا في مسجد، لا نعلم فيه خلافاً، وتقام فيه الجماعة. وعن الشافعي: وتقام فيه الجمعة، ولا يتعين شيء من المساجد بالنذر إلا الثلاثة، لحديث شد الرحال، ولو تعين غيرها لزم المضي إليه، واحتاج إلى شد رحل. وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يتعين المسجد الأقصى، لقوله: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام"، 1 وهذا يدل على التسوية بين ما عدا هذين المسجدين، وما ذكره لا يلزم فإنه إذا   1 البخاري: الجمعة (1190) , ومسلم: الحج (1394) , والترمذي: الصلاة (325) , والنسائي: المساجد (694) ومناسك الحج (2899) , وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها (1404) , وأحمد (2/239, 2/251, 2/256, 2/277, 2/386, 2/466, 2/468, 2/473, 2/484, 2/485, 2/499) , ومالك: النداء للصلاة (461) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 فضل الفاضل بألف، فقد فضل المفضول بها أيضاً. وأفضلها: المسجد الحرام، ثم مسجد المدينة، ثم المسجد الأقصى. فإن نذر في الأفضل لم يكن له فعله في غيره، فإن نذره في غيره فله فعله فيه. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال ابن عقيل: الأحكام المتعلقة بمسجده صلى الله عليه وسلم بما كان في زمانه، لقوله: "في مسجدي هذا"، واختار الشيخ أن حكم الزائد حكم المزيد عليه؛ ظاهر كلام المصنف: أنه سواء نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد قريب أو بعيد، عتيق أو جديد، امتاز بمزية شرعية أو لا، واختار الشيخ تعيين ما امتاز بمزية شرعية، كقدم أو كثرة جمع، فإن أراد الذهاب إلى ما عيّنه بنذر، فاختار المصنف الإباحة في السفر القصير، ولم يجوّزه الشيخ. ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً من الكلام، وقال الشيخ: إذا قرأ عند الحكم الذي أنزل الله أو ما يناسبه، فحسن كقوله لمن دعاه إلى ذنب تاب منه: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} ، 1 وقوله عندما أهمه: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} . 2 وينبغي لمن قصد المسجد أن ينوي الاعتكاف مدَّة لبثه، ولم يره الشيخ. والله أعلم.   1 سورة النور آية: 16. 2 سورة يوسف آية: 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 كتاب المناسك تجب العمرة على من يجب عليه الحج، وعنه: ليست بواجبة، وبه قال مالك، "لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عنها: أواجبة هي؟ قال: لا". صححه الترمذي، وقال الشافعي: ضعيف، لا تقوم بمثله الحجة. وليس فيها شيء ثابت بأنها تطوع، قال ابن عبد البر: روي ذلك بأسانيد لا تصح. وليس على أهل مكة عمرة، نص عليه. وقال: "كان ابن عباس يراها واجبة ويقول: يا أهل مكة ليس عليكم عمرة إنما عمرتكم طوافكم بالبيت"، ووجهه: أن ركنها الطواف، وهم يفعلونه. ولو حج الصبي والعبد صح، ولم يجزهما عن حجة الإسلام، حكاه الترمذي إجماعاً، فإن بلغ الصبي وأعتق العبد بعرفة أو قبلها غير محرمين، فأحرما ووقفا وأتما المناسك، أجزأ بغير خلاف، وإن كان وهما محرمان أجزأ. وقال مالك: لا يجزئ، اختاره ابن المنذر. قال أحمد: قال ابن عباس: "إذا أعتق العبد بعرفة، أجزأت عنه حجته، فإن أعتق بجمع لم تجزئ عنه". وهؤلاء يقولون: لا يجزئ، ومالك يقوله أيضاً؛ وكيف لا يجزئه؟ وهو لو أحرم تلك الساعة كان حجه تاماً، وما أعلم أحداً قال: لا يجزئه، إلا هؤلاء. والصبي إن كان مميزاً أحرم بإذن وليه، وإن لم يكن مميزاً أحرم عنه، وبه قال مالك والشافعي، ومعناه: أن يعقد له الإحرام؛ فيصح للصبي دون الولي، كالنكاح. فإن أحرمت عنه أمه صح، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولك أجر"، ولا يضاف إليها إلا لكونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 تبعاً لها. وما عجز عنه، فعَله الولي عنه، لقول جابر: "فأحرمنا عن الصبيان"، وفي لفظ: "فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم". قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه: يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر، "كان ابن عمر يفعله". وأما الطواف، فإن أمكنه المشي وإلا طيف به محمولاً، وتعتبر النية من الطائف. ويجرد كما يجرد الكبير، قال عطاء: يفعل به كما يفعل الكبير، ويشهد المناسك، إلا أنه لا يصلى عنه. وليس للرجل منع امرأته من حج الفرض، ولا تحليلها إن أحرمت، بغير خلاف، حكاه ابن المنذر إجماعاً. و (الاستطاعة) : ملك الزاد والراحلة، قال ابن المنذر: العمل عليه عند أهل العلم. وقال عكرمة: هي الصحة. وقال الضحاك: إن كان شاباً فليؤجر نفسه بمأكله وعقبه. وعن مالك: إن كان يمكنه المشي وعادته السؤال، لزمه الحج. فإن تكلفه من لا يلزمه من غير ضرر يلحق بغيره، مثل من يمشي ويتكسب بصناعة ولا يسأل الناس، استحب له، لقوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} ، 1 فقدم الرجال. ويجب الحج على الفور، وبه قال مالك. وقال الشافعي: يجب الحج وجوباً موسعاً، وله تأخيره، "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر، وتخلف هو وأكثر المسلمين". فإن عجز عنه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر من بلده. وقال مالك: لا حج عليه إلا أن يستطع بنفسه، ولا أرى له ذلك. ويجوز أن تنوب المرأة عن الرجل، وكرهه الحسن بن صالح. وقال ابن المنذر: هذه غفلة عن ظاهر السنة، فـ"إنه صلى الله عليه وسلم أمر المرأة أن تحج عن أبيها"، وعليه يعتمد من أجاز حج المرأة عن الرجل.   1 سورة الحج آية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 ولا يجوز الحج والعمرة عن الحي إلا بإذنه. ومن مات وعليه حج، أخرج عنه من ماله ما يحج به عنه، وبه قال الشافعي. وقال مالك: يسقط بالموت، فإن أوصى بها فهي من الثلث. ويستحب أن يحج عن أبويه إذا كانا عاجزين أو ميتين، "لأمره به صلى الله عليه وسلم أبا رزين والمرأة". ويشترط لوجوبه على المرأة وجود محرم، وهذا قول إسحاق وابن المنذر. وقال مالك والشافعي: ليس المحرم شرطاً، قال ابن المنذر: تركوا القول بظاهر الحديث، واشترط كل واحد شرطاً لا حجة معه عليه، واحتجوا بحديث الزاد والراحلة، وبحديث عدي: "يوشك أن تخرج الظعينة تؤم البيت. .. إلخ"؛ والأول محمول على الرجل بدليل أنهم شرطوا معها غيرها، فجعله المحرم الذي بينه صلى الله عليه وسلم في أحاديثنا أولى، وكذلك اشترطوا قضاء الدين ونفقة العيال وغير ذلك، وهو غير مذكور في الحديث، واشترط كل واحد شرطاً في محل النزاع من عند نفسه، لا من كتاب ولا من سنة. وحديث عدي يدل على وجود السفر لا على جوازه، وكذلك لم يجز في غير الحج المفروض، ولم يذكر خروج غيرها معها. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": الصحيح من المذهب: أن العمرة تجب، واختار الشيخ أنها سنة، وعنه: على الأفقي، قال الشيخ: عليها نصوص. وتلزم طاعة الوالدين في غير معصية، قال الشيخ: هذا مما فيه نفع لهما ولا ضرر عليه، فإن شق عليه ولم يضره وجب عليه وإلا فلا. قال ابن الجوزي: من أمكنه المشي والتكسب بالصنعة فعليه الحج، واختار الشيخ عبد الحليم ولد المجد ووالد الشيخ تقي الدين بالقدرة على التكسب، وقال: هذا ظاهر على أصلنا، فإن عندنا: يجبر المفلس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 على الكسب لا على المسألة، ولو قيل بوجوب الحج عليه إذا كان قادراً على الكسب وإن بعدت المسافة، كان متوجهاً على أصلنا. واختار الشيخ وجوب الكف عن طريق يستوي فيه احتمال السلامة والهلاك، وقال: فإن لم يكف، فيكون أعان على نفسه، فلا يكون شهيداً. وقال: الخفارة تجوز عند الحاجة إليها في الدفع عن المخفر، ولا يجوز عند عدمها كما يأخذه السلطان من الرعايا. واختار أن كل امرأة آمنة تحج مع عدم محرم، وقوله: بنسب أو سبب مباح. واختار الشيخ يكون محرماً بوطء الشبهة، وذكره قول أكثر العلماء، قال أحمد: لا يعجبني أن يأخذ دراهم ويحج عن غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 باب المواقيت للحج ميقاتان: ميقات زمان، وميقات مكان. أما المكان فالخمسة المذكورة، وأجمعوا على أربعة منها، واتفق أهل النقل على صحة الحديث فيها. وذات عرق ميقات أهل المشرق في قول الأكثر؛ قال ابن عبد البر أجمعوا على أن إحرام العراقي من ذات عرق إحرام من الميقات. روي عن أنس: "أنه كان يحرم من العقيق"، واستحسنه الشافعي وابن المنذر. وكان الحسن بن صالح يحرم من الربذة. وعن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المشرق العقيق". 1 حسنه الترمذي. قال ابن عبد البر: هو أحوط من ذات عرق، وذات عرق ميقاتهم بالإجماع. واختلفوا فيمن وقتها، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم وقّتها وكذا في السنن من حديث عائشة. وقال آخرون: "إنما وقّتها عمر"، رواه البخاري. ويجوز أن عمر لم يعلم بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم فوقّتها برأيه فأصاب. ومن مر على ميقات بلد صار ميقاتاً له. سئل أحمد: عن الشامي يمر بالمدينة؟ فقال: يهلّ من ذي الحليفة. قيل: فإن بعض الناس يقول: يهلّ من ميقاته من الجحفة. قال: سبحان الله. أليس يروي ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "هن لهن ومن أتى عليهن من غير أهلهنَّ "؟ 2 فإن مر من غير طريق ذي الحليفة، فميقاته الجحفة، مدنياً كان أو شامياً، لحديث: "يهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة"، 3 والطريق الآخر من الجحفة. رواه مسلم.   1 الترمذي: الحج (832) , وأبو داود: المناسك (1740) . 2 البخاري: الحج (1524) , ومسلم: الحج (1181) , والنسائي: مناسك الحج (2654, 2658) . 3 البخاري: العلم (133) , والترمذي: الحج (831) , والنسائي: مناسك الحج (2651, 2652, 2655) , وابن ماجة: المناسك (2914) , وأحمد (2/48) , ومالك: الحج (732) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ومَن منزله دون الميقات، فمِن موضعه، هذا قول الأكثر. وعن مجاهد: يهلّ من مكة، والصحيح الأول، فإن في حديث ابن عباس: "فمن كان دونهن، فمهلّه من أهله". 1 وكل ميقات فخذوه بمنزلته. ثم إن كان منزله في الحل فإحرامه منه، وإن كان في الحرم فإحرامه للعمرة من الحل، ليجمع في النسك بين الحل والحرم. وأما الحج فينبغي أن يجوز له الإحرام من أي الحرم كالمكي، لأن أفعال العمرة كلها في الحرم، بخلاف الحج؛ قال جابر: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحرم إذا توجهنا من الأبطح". 2 فلا فرق بين قاطني مكة وغيرهم. ومن لم يكن طريقه على ميقات، فإذا جاء أقرب المواقيت إليه أحرم، لقول عمر: "انظروا حذوها من طريقكم، فوقت لهم ذات عرق". فإن تجاوز الميقات وهو لا يريد الحرم، لم يلزمه الإحرام بغير خلاف. فإن بدا له الإحرام أحرم من موضعه، وبه قال مالك والشافعي. وحكى ابن المنذر عن أحمد: أنه يرجع إلى الميقات فيحرم، وبه قال إسحاق؛ والأول أصح، وكلام أحمد يحمل على من تجاوزه وهو يجب عليه الإحرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ممن كان يريد الحج والعمرة" 3. فإن أراد أن يدخل مكة لقتال مباح، أو لحاجة كالحطاب وناقل الميرة، فلا إحرام عليهم، "لأنه صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح وهو حلال، وعلى رأسه المغفر وكذلك أصحابه". وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأحد أن يدخل الحرم بغير إحرام، إلا من كان دون الميقات. ومن لا يجب عليه الحج، كالعبد والصبي والكافر إذا أعتق أو بلغ أو أسلم، بعد تجاوز الميقات، فإنهم يحرمون من موضعهم، ولا دم عليهم؛ وبه قال مالك وإسحاق. والمكلف الذي يدخل لغير قتال أو حاجة مكررة، لا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم؛ وعنه: ما يدل على أنه لا يجب، لما روي "أن ابن عمر دخلها بغير   1 البخاري: الحج (1526) , ومسلم: الحج (1181) , وأحمد (1/332) . 2 مسلم: الحج (1214) . 3 البخاري: الحج (1529) , ومسلم: الحج (1181) , وأحمد (1/249, 1/252, 1/332, 1/339) , والدارمي: المناسك (1792) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 إحرام"، ولأن الوجوب من الشارع، ولم يرد به إيجاب. ومن جاوز الميقات يريد النسك غير محرم، رجع إلى الميقات فأحرم منه، فإن أحرم من موضعه فعليه دم؛ وعن عطاء: لا شيء عليه. ولنا: قوله: "من ترك نسكاً فعليه دم". ويكره الإحرام قبل الميقات. وقال أبو حنيفة: الأفضل الإحرام من بلده، وكان علقمة والأسود يحرمان من بيوتهما. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات ولا يفعلون إلا الأفضل". قال البخاري: "كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان". قال عطاء: انظروا إلى هذه المواقيت التي وُقِّتت لكم، فخذوا برخص الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنباً في إحرامه فيكون أعظم لوزره". ويكره الإحرام بالحج قبل أشهره بغير خلاف علمناه. فإن أحرم بالحج قبل ميقات المكان صح، بغير خلاف علمناه، وإن أحرم قبل أشهره، صح أيضاً. وقال عطاء والشافعي: يجعله عمرة، لقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، 1 فقدر وقت الحج وأشهر الحج. فإذا ثبت أنه وقته لم يصح تقديمه عليه. وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، ويروى عن ابن عباس: "ذو الحجة كله منها". وقال الشافعي: آخرها ليلة النحر، لقوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} ، 2 ولا يمكن فرضه بعد ليلة النحر. ولنا: قوله: "يوم الحج الأكبر: يوم النحر"، 3 ولأن فيه ركن الحج وهو طواف الزيارة، وفيه: الرمي والحلق ويوم النحر والسعي والرجوع إلى منى.   1 سورة البقرة آية: 197. 2 سورة البقرة آية: 197. 3 البخاري: الجزية (3177) , وأبو داود: المناسك (1946) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 باب الإحرام يستحب الاغتسال له، وذكر ابن المنذر الإجماع على أنه غير واجب، لأنه لم يأمر به إلا حائضاً أو نفساء ولو وجب لأمر به غيرهما. ويستحب للمرأة كالرجل ولو كانت حائضاً أو نفساء، لـ"أمره أسماء بنت عميس بذلك". ويستحب التنظف بإزلة الشعر وقطع الرائحة، لأنه أمر يسن له الاغتسال، فسن له هذا كالجمعة. ويستحب له التطيب في بدنه خاصة، سواء بقي عليه كالمسك أو أثره كالعود. وكان عطاء يكرهه، وهو قول مالك، واستدل بحديث صاحب الجبة. ولنا: حديث عائشة، وحديث صاحب الجبة في بعض ألفاظه: "عليه جبة بها أثر الخلوق". رواه مسلم، وفي بعضها: "ردع من زعفران"، وهو منهي عنه للرجال في غير الإحرام ففيه أولى، ولأنه في سنة ثمان، وحديثنا في سنة عشر. قال ابن عبد البر: لا خلاف أن قصة صاحب الجبة كانت في عام حنين بالجعرانة، وحديث عائشة سنة عشر. فإن طيب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه، فإن نزعه فلا يلبسه. فأما إن عرق بالطيب وذاب بالشمس فسال إلى موضع آخر، فلا شيء عليه، لقول عائشة: "كنا نضمّد جباهنا بالمسك عند الإحرام، فإذا عرقت أجفاننا سال على وجوهنا، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا". رواه أبو داود. ويستحب أن يلبس ثوبين أبيضين نظيفين: إزاراً ورداءً، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وليحرمْ أحدكم في إزار ورداء ونعلين"، 1 ولقوله: "خيار   1 أحمد (2/34) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ثيابكم البياض". 1 ويتجرد عن المخيط إن كان رجلاً. ويصلي ركعتين ويحرم عقيبهما، وعنه: أنه عقيب الصلاة. وإذا استوت به راحلته، وإذا بدأ بالسير سواء، لأن الجميع مروي من طرق صحيحة، والأول أولى، لحديث سعيد بن جبير عن ابن عباس، وفيه زيادة علم وبيان. وينوي الإحرام بنسك معيّن، وقال الشافعي في أحد قوليه: الإطلاق أولى، لقول طاووس: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمي حجاً ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء بين الصفا والمروة". ولنا: أنه أمر أصحابه بالإحرام بنسك معيّن، وأحرم بمعيّن، والذين معه في صحبته أعلم من طاووس. ولا ينعقد إلا بالنية وتكفي، وقال أبو حنيفة: لا ينعقد بها حتى يضيف إليها التلبية أو سوق الهدي، لقوله صلى الله عليه وسلم: " جاءني جبريل فقال: مُرْ أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية". 2 ولنا: أنها عبادة ليس في آخرها نطق واجب يكن في أولها كالصيام، والمراد بالخبر الاستحباب، فإن منطوقه رفع الصوت، ولا خلاف في عدم وجوبه؛ فعلى هذا، لو نطق بغير ما نواه، مثل أن ينوي العمرة فيسبق لسانه إلى الحج أو بالعكس، انعقد ما نواه، ذكره ابن المنذر إجماعاً. والاشتراط مستحبٌّ، ويفيد شيئين: أحدهما: إذا عاقه عذر أو عدو أو مرض أو ذهاب نفقة ونحوه، فله التحلل. الثاني: أنه متى حل بذلك فلا شيء عليه، و"أنكر ابن عمر الاشتراط"، وبه قال مالك. ولنا: قوله: "حجي واشترطي"، 3 ولا قول لأحد معه صلى الله عليه وسلم. وإن نواه لم يتلفظ، احتمل أن لا يصح، لقوله في حديث ابن عباس: "قولي: محلّي من الأرض حيث تحبسني". 4   1 الترمذي: الجنائز (994) , وأبو داود: اللباس (4061) , وابن ماجة: ما جاء في الجنائز (1472) , وأحمد (1/247, 1/274, 1/328, 1/355, 1/363) . 2 الترمذي: الحج (829) , والنسائي: مناسك الحج (2753) , وأبو داود: المناسك (1814) , ومالك: الحج (744) , والدارمي: المناسك (1809) . 3 البخاري: النكاح (5089) , ومسلم: الحج (1207) , والنسائي: مناسك الحج (2768) , وأحمد (6/164, 6/202) . 4 مسلم: الحج (1208) , والترمذي: الحج (941) , والنسائي: مناسك الحج (2766, 2767) , وأبو داود: المناسك (1776) , وابن ماجة: المناسك (2938) , وأحمد (1/337, 1/352) , والدارمي: المناسك (1811) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ولا خلاف في جواز الإحرام بأي الأنساك الثلاثة شاء، وقد دلَّ عليه قول عائشة: "فمنا من أهلَّ بعمرة ومنا من أهلَّ بحج ومنا من أهلَّ بهما". وأفضلها: "التمتع"، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما. وعنه: "إن ساق الهدي فالقِران أفضل، لفعله صلى الله عليه وسلم". وذهب الثوري إلى اختيار القِران، لقول أنس: "أهلَّ بهما جميعاً". و"ذهب مالك إلى الإفراد"، روي عن عمر وعثمان، لما "صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أفرد الحج". ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا أن يحلّوا ويجعلوها عمرة"، 1 فنقلهم من الإفراد والقِران إلى المتعة، ولم يختلف عنه: "أنه لما قدم مكة أمرهم أن يحلّوا، إلا من ساق هدياً وثبت على إحرامه، وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة"، 2 ولأن التمتع في القران دون سائر الأنساك. وأما حجتهم بفعله صلى الله عليه وسلم، فعنها أجوبة: أحدها: منع أن يكون محرماً بغير التمتع، لأن رواة حديثهم رووا أنه تمتع، ومرة اختلفوا؛ والقضية واحدة. وأحاديثهم في القران أصحها: حديث أنس، و"قد أنكره ابن عمر". وأكثر الروايات أنه كان متمتعاً، وإنما منعه من الحل الهدي. وقول أبي ذر إنها خاصة بالصحابة يخالف الكتاب والسّنة والإجماع. قال أحمد لما ذكر له: أفيقول بهذا أحد؟ المتعة في كتاب الله. فإن قيل: "نهى عنها عمر وعثمان ومعاوية"، قلنا: قد أنكر عليهم علماء الصحابة وخالفوهم، قال سعد: "فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يومئذ كافر بالعُرُش"، والعرش بيوت مكة. وقال عمر: "والله إني لأنهاكم عنها، وإنها لفي كتاب الله، وقد صنعها رسول الله"، ولا خلاف أن من خالف الكتاب والسنة حقيق بأن لا يقبل نهيه. قيل لابن عباس: إن فلاناً   1 البخاري: الحج (1651) , وأبو داود: المناسك (1789) . 2 أبو داود: المناسك (1784) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 نهى عن المتعة، فقال: "انظروا في كتاب الله، فإن وجدتموها فقد كذب على الله ورسوله، وإن لم تجدوها فيه فقد صدق". وصفة التمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ويحرم بالحج من مكة أو قريباً منها في عامه. والإفراد: أن يحرم بالحج مفرداً. والقِران أن يحرم بهما جميعا، ً أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج. وإذا أدخل الحج على العمرة قبل طوافها من غير خوف الفوات جاز، وكان قارناً بغير خلاف، وأما بعد الطواف فلا يصير قارناً. وقال مالك: يصير قارناً. ولنا: أنه قد شرع في التحلل منها، فلم يجز كما بعد السعي، إلا أن يكون معه الهدي فله ذلك، لأنه لا يتحلل حتى ينحر، لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ، 1 فلا يتحلل بطوافه. ويتعين إدخال الحج على العمرة لئلا يفوته الحج، فأما إدخال العمرة على الحج فلا يجوز، فإن فعل لم يصر قارناً. وقال أبو حنيفة: يصح ويصير قارناً. ولنا: أنه قول علي، رواه الأثرم، ولأن إدخالها لا يفيده إلا ما أفاده العقد الأول فلم يصح. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أهلَّ بعمرة من أهل الآفاق في أشهر الحج من الميقات، وقدم مكة ففرغ منها وأقام بها، فحج من عامه، أنه متمتع وعليه الهدي إن وجد، وإلا فالصيام. والدم الواجب: شاة أو سُبُع بدنة أو بقرة؛ فإن نحر بدنة أو ذبح بقرة فقد زاد خيراً. وقال: لا يجزئ إلا بدنة، "لأنه صلى الله عليه وسلم لما تمتع ساق بدنة"، وهذا ترك لظاهر القرآن وإطراح للآثار الثابتة ولا حجة فيها، لأن   1 سورة البقرة آية: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 إهداء البدنة لا يمنع إجزاء ما دونها، فـ"إنه صلى الله عليه وسلم ساق مائة بدنة"، ولا خلاف أنه ليس بواجب. وهم يقولون إنه كان مفرداً، فكيف يكون سوق البدنة دليلاً لهم في التمتع. ولا نعلم خلافاً أن من اعتمر في غير أشهر الحج وفرغ منها قبل أشهره، أنه لا يكون متمتعاً، إلا قولين شاذّين: أحدهما عن طاووس: إذا اعتمرت في غير أشهر الحج ثم أقمت حتى تحج، فأنت متمتع. والآخر عن الحسن أنه قال: "من اعتمر بعد النحر فهي متعة". قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً قال بواحد من هذين. فـ"أما إن أحرم بها في غير أشهره ثم حل منها في أشهره، فإنه لا يكون متمتعاً"؛ نقل ذلك عن جابر، وبه قال إسحاق. وقال طاووس: عمرته في الشهر الذي يدخل فيه الحرم. وقال الثوري: عمرته في الشهر الذي يطوف فيه. وقال مالك: عمرته في الشهر الذي يحل فيه. وإن اعتمر في أشهره ثم لم يحج ذلك العام، فليس بمتمتع، لا نعلم فيه خلافاً، إلا قولاً شاذاً عن الحسن: من اعتمر في أشهر الحج فهو متمتع، حج أو لم يحج. والجمهور على خلاف هذا، لقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} ، 1 وهذا يقتضي الموالاة بينهما. وإن سافر بين الحج والعمرة سفراً يقصر فيه الصلاة، فليس بمتمتع، وقال الشافعي: إن رجع إلى الميقات فلا دم عليه. وقال مالك: إن رجع إلى مصره أو أبعد منه، بطلت متعته، وإلا فلا. وقال الحسن: هو متمتع وإن رجع إلى بلده، واختاره ابن المنذر، لعموم قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} 2. ولنا: ما روي عن عمر أنه قال: "إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام، فهو متمتع. فإن خرج ورجع، فليس بمتمتع"، ولأنه إذا رجع إلى الميقات أو ما دونه لزم الإحرام منه،   1 سورة البقرة آية: 196. 2 سورة البقرة آية: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 فإذا كان بعيدا فقد أنشأ سفراً بعيداً لحجه فلم يترفه بترك أحد السفرين، فلم يلزمه دم. والآية تناولت المتمتع، وهذا ليس بمتمتع بدليل قول عمر. فإن لم يحل من إحرام العمرة حتى أدخل عليها الحج، فإنه يصير قارناً ولا يلزمه دم المتعة، لكن عليه دم القِران. فأما قول عروة: "لم يكن في ذلك هدي"، فإنه يحتمل أنه أراد هدي المتعة، "لأنه صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه بقرة"؛ ولا خلاف أن دم المتعة لا يجب على حاضري الحرم، لقوله تعالى {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} ، 1 والمعنى أن ميقاتهم مكة، فلا يحصل لهم الترفه بترك أحد السفرين، ولأنه أحرم من ميقات أشبه المفرد، وهم أهل الحرم ومن بينه وبينه مسافة القصر، وبه قال الشافعي. وقال مالك: هم أهل مكة. وقال مجاهد: هم أهل الحرم. فإن دخل الآفاقي مكة متمتعاً ناوياً الإقامة بها بعد تمتعه، فعليه دم المتعة. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم. ومتعة المكي صحيحة، إلا أنه لا دم عليه، وعنه: ليس على أهل مكة، متعة ومعناه: ليس عليهم دم المتعة. وإن أحرم الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج، ثم أقام بمكة واعتمر من التنعيم في أشهر الحج، وحج من عامه، فهو متمتع، نص عليه. وذكره القاضي شرطاً سادساً لوجوب الدم، وهو: أن ينوي في ابتداء العمرة أو أثناءها المتعة؛ والإجماع الذي سبق عن ابن المنذر مخالف لهذا، لأنه قد حصل له الترفه بأحد السفرين. ويجب الهدي إذا أحرم بالحج، وهو قول الشافعي لقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} ، 2 ولأنه جعل غاية فوجد أوله لقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . 3 وعنه: إذا وقف بعرفة، وهو قول   1 سورة البقرة آية: 196. 2 سورة البقرة آية: 196. 3 سورة البقرة آية: 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 مالك، لأن التمتع لا يحصل إلا به، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة". 1 وأما وقت ذبحه: فيوم النحر، وبه قال مالك، وعنه: إن دخل مكة قبل العشر نحره، لا يضيع أو يموت أو يرق، كذا قال عطاء. ومن قدم في العشر لا ينحر إلا بمنى، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كذا فعلوا. ويجب الدم على القارن، لا نعلم فيه خلافاً، إلا عن داود. ولنا: "أن علياً لما سمع عثمان ينهى عن المتعة، أهل بهما ليعلم الناس أنه ليس بمنهي عنه". وقال ابن عمر: "إنما القِران لأهل الآفاق" وتلا الآية، ولأنه ترفه بسقوط أحد السفرين، إلا أن يكون من حاضري المسجد الحرام في قول الجمهور. وقال ابن الماجشون: عليه دم لأنه ليس بمتمتع. ومن كان مفرداً أو قارناً أحببنا له الفسخ إلى العمرة، إلا أن يكون معه هدي، فليس له أن يحل بغير خلاف. و"كان ابن عباس يرى أن من طاف وسعى فقد حل، وإن لم ينو ذلك". وبهذا الذي ذكرناه قال الحسن ومجاهد وداود، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا يجوز. ولو ساق المتمتع الهدي لم يكن له أن يحل، للآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فلا يحل ... إلخ" 2. وقال مالك: له التحلل. وينحر هديه عند المروة. وعنه: إن قدم قبل العشر نحر، وهو يدل على أنه إذا قدم قبل العشر حلَّ وإن كان معه هدي. وقال: "من لبد أو ضفر فهو بمنزلة من ساق الهدي"، لحديث حفصة؛ والرواية الأولى أولى، لما ذكرنا من الحديث الصحيح، وهو أولى بالاتباع. فأما المعتمر غير المتمتع، فإنه يحل في أشهر الحج وغيرها، معه هدي أو لا، "لأنه صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثاً فكان يحل". فإن كان معه هدي نحره عند المروة، وحيث نحره من الحرم جاز، لقوله: "كل فجاج مكة طريق ومنحر". 3 رواه أبو داود وابن ماجة.   1 الترمذي: الحج (889) , والنسائي: مناسك الحج (3044) , وأبو داود: المناسك (1949) , وابن ماجة: المناسك (3015) , وأحمد (4/309, 4/335) , والدارمي: المناسك (1887) . 2 مسلم: الحج (1236) , والنسائي: مناسك الحج (2992) , وابن ماجة: المناسك (2983) , وأحمد (6/350, 6/351) . 3 أبو داود: المناسك (1937) , وابن ماجة: المناسك (3048) , والدارمي: المناسك (1879) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 والمرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت وخشيت فوات الحج، أحرمت به وصارت قارنة. وقال أبو حنيفة: قد رفضت العمرة وصار حجاً، وما قال هذا أحدٌ غيره؛ وحجته قول عروة في حديث عائشة: "أهلّي بالحج ودَعي العمرة "، 1 وهذا اللفظ انفرد به عروة، وخالف فيه كل من روى عن عائشة. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: "قد حللت من حجك وعمرتك". 2 ومن أحرم مطلقاً يصرفه إلى ما شاء، والأولى صرفه إلى العمرة، "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا موسى حين أحرم بما أهلَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم". وإن أحرم بمثل ما أحرم به فلان، انعقد إحرامه بمثله. وإذا استوى على راحلته لبى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك ". 3 ولا يستحب الزيادة عليها ولا يكره، "لأنه صلى الله عليه وسلم لزم تلبيته ولم ينكر الزيادة عليها". ويستحب رفع الصوت بها، والإكثار منها. وعن الثوري: أن التلبية من شرط الإحرام، ولا يصح إلا بها كالتكبير للصلاة، لأن ابن عباس قال في قوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} : 4 "الإهلال". وعن عطاء وطاووس: هو التلبية. ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته، وقيل: "لا يستحب"، وبه قال الشافعي، ويروى عن ابن عمر، "لأن في حديث جابر ما سمّى في تلبيته حجة ولا عمرة". ولنا: حديث أنس، وحديث ابن عباس: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يلبّون بالحج". 5 متفق عليه. و"متى لبّى بهما بدأ بذكر العمرة"، لحديث أنس، قال أحمد: إذا حج عن رجل يقول أول ما يلبي: عن فلان، ثم لا يبالي أن لا يقول بعد ذلك، لقوله صلى الله   1 البخاري: الحيض (317, 319) والحج (1556, 1786) والمغازي (4395) , ومسلم: الحج (1211) , والنسائي: الطهارة (242) , وأبو داود: المناسك (1781) , ومالك: الحج (940) . 2 مسلم: الحج (1213) , والنسائي: مناسك الحج (2763) , وأبو داود: المناسك (1785) . 3 البخاري: الحج (1549) , ومسلم: الحج (1184) . 4 سورة البقرة آية: 197. 5 البخاري: الجمعة (1085) , ومسلم: الحج (1240) , والنسائي: مناسك الحج (2870, 2871) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 عليه وسلم للذي سمعه يلبِّي عن شبرمة: "لبِّ عن نفسك، ثم لبِّ عن شبرمة". وهي مستحبة في جميع الأوقات، ويتأكد استحبابها إذا علا نشزاً وهبط وادياً، وفي دبر المكتوبة، وإقبال الليل والنهار، وإذا التقت الرفاق، وإذا فعل محظوراً ناسياً، وإذا سمع ملبياً. وبه قال الشافعي. وقد كان يقول مالك: لا يلبي عند اضطرام الرفاق، والحديث يدل عليه. وكذلك قول النخعي: كانوا يستحبونها دبر المكتوبة، وإذا هبط وادياً، وإذا علا نشزاً، وإذا لقي راكباً، وإذا استوت به راحلته. قيل لأحمد: العامة يلبون دبر كل صلاة ثلاثاً، فتبسم وقال: ما أدري من أين جاؤوا به. قيل: أليس يجزئه مرة؟ قال: بلى. وكذلك لأن المروي التلبية مطلقاً وكذلك يحصل بمرة. و"لا بأس بالتلبية في طواف القدوم"، به قال ابن عباس والشافعي. وقال ابن عيينة: ما رأينا أحداً يقتدى به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب، وهو قول الشافعي، لأنه يشتغل بذكر يخصه، فكان أولى. ولنا: أنه زمن تلبية، ويمكن الجمع بينها وبين الذكر. ولا بأس أن يلبي الحلال، وكرهه مالك. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها، وإنما عليها أن تسمع نفسها. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": الإحرام نية النسك، وقيل: مع التلبية أو سوق الهدي، اختاره الشيخ. ويصلي ركعتين. واختار الشيخ أنه يستحب أن يحرم عقيب فرض إن كان وقته، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه. واستحب الاشتراط للخائف فقط. وعنه: إن ساق الهدي فالقِران أفضل، ثم التمتع، اختاره الشيخ. واختار وجوب فسخ الحج على من اعتقد عدم مساغه. وقال: لا يلبي بوقوفه بعرفة ومزدلفة، لعدم نقله. قال في الفروع: كذا قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 باب محظورات الإحرام أجمعوا على أن المحرم لا يجوز له أخذ شيء من شعره إلا من عذر، لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} الآية. 1 فإن كان له عذر من مرض أو قمل أو غيره مما يتضرر به، فله إزالته، للآية، ولحديث كعب بن عجرة. وأجمعوا على أنه ممنوع من تقليم أظفاره إلا من عذر، وأجمعوا على أنه يزيل ظفره إذا انكسر. وأجمعوا على وجوب الفدية على من حلق لغير علة؛ ولا فرق بين قطعه لعذر أو غيره، عامداً أو مخطئاً؟ وقال إسحاق وابن المنذر: لا فدية على الناسي. ولنا: أن الآية دلت على وجوبها لمن حلق وهو معذور. فمن حلق أو قلّم ثلاثة فعليه دم، وهو قول الشافعي. وقال مالك: إذا حلق ما أماط به الأذى وجب الدم. وقال أبو حنيفة: لا يجب بدون ربع الرأس. وإن حلق أقل من ثلاث، ففي كل واحدة مد من طعام، وبه قال الشافعي. وعنه: في كل شعرة قبضة من طعام، ونحوه قول مالك. وعن مالك أيضاً فيمن أزال شعراً يسيراً: لا ضمان عليه، لأن النص إنما أوجبه في حلق الجميع. وعليه الفدية بأخذ الأظفار في قول الأكثر، منهم الشافعي، وفيه رواية: لا فدية عليه، لعدم ورود الشرع به. ولنا: أن عدم النص لا يمنع القياس، كشعر البدن مع شعر الرأس. والحكم في فدية الأظفار كالحكم في   1 سورة البقرة آية: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فدية الشعر، فيما دون الثلاث، وفيما يجب فيها؛ وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تجب الفدية إلا بتقليم يد كاملة. وإن حلق رأس حلال أو قلم أظفاره، فلا فدية عليه. وقال سعيد بن جبير في محرم قص شارب حلال: يتصدق بدرهم. ولا فرق بين حلق الشعر وإزالته بغيره، لا نعلم فيه خلافاً. وشعر الرأس والبدن واحد في وجوب الفدية، في قول الأكثر، خلافاً لداود. وإن خرج في عينيه شعر فقلعه، أو نزل شعر فغطى عينه، أو انكسر ظفر فقصه، أو قلع جلدا عليه شعر، فلا فدية عليه. فإن كان الأذى من غير الشعر، كالقمل والقروح، أزاله وفدى. وقال ابن القاسم صاحب مالك: لا فدية عليه. وأجمعوا على أنه ممنوع من تغطية رأسه، والأذنان منه يحرم تغطيتهما، وأباحه الشافعي. ولنا: قوله: "الأذنان من الرأس"، 1 ويمنع من تغطية بعضه كأجمعه لأن الله حرم حلقه ولا يجوز حلق بعضه، وسواء غطاه بمعتاد أو غيره كعصابة، فإن فعل ففيه الدم. وكره أحمد الاستظلال بالمحمل وما في معناه على البعير، ورخص فيه الشافعي، لحديث ستر أسامة أو بلال بالثوب. واحتج أحمد بـ"نهي ابن عمر عن مثل ذلك". والحديث الذي ذكروا ذهب إليه أحمد، فلم يكره الاستتار بالثوب، فإنه لا يقصد الاستدامة، فإن فعل فلا فدية عليه. قال أحمد: أما الدم فلا، وعنه: يجب، وهو قول أهل المدينة. وإن حمل على رأسه شيئاً فلا فدية عليه، وبه قال مالك. وقال الشافعي: يفدي. وإن طلى رأسه بعسل أو صمغ ليجمع الشعر فلا يصيبه الشعث جاز، وهو التلبيد الذي في حديث ابن عمر: "رأيته يهلّ ملبّداً". 2 وإن طرح على شجرة ثوبا يستظل به فلا بأس إجماعاً، لقول جابر: "أمر بقبة فضربت له" 3. وفي   1 الترمذي: الطهارة (37) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (444) . 2 البخاري: الحج (1540) واللباس (5914) , والنسائي: مناسك الحج (2683) , وأبو داود: المناسك (1747) , وابن ماجة: المناسك (3047) . 3 ابن ماجة: المناسك (3047) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 تغطية الوجه روايتان: إحداهما: يباح؛ روي عن عثمان وزيد بن ثابت والشافعي. والثانية: لا. وهو مذهب مالك، لحديث صاحب الراحلة: "ولا تخمروا وجهه ولا رأسه". 1 ولنا: قول من ذكرنا من الصحابة، ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم، وتخمير الوجه في الحديث قد طعن فيه في هذه اللفظة. والرابع: لبس المخيط، أجمعوا على أنه ممنوع من لبس القميص والعمائم والسراويل والبرانس والخفاف؛ والأصل فيه: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف" 2 3 الحديث؛ نص على هذه الأشياء، وألحق بها أهل العلم ما في معناها مثل: الجبة والدراعة وأشباه ذلك ... ولا يجوز له ستر بدنه بما عمل على قدره، ولا يستر عضوا من أعضائه بما عمل على قدره، كالقفازين لليدين، وليس في هذا اختلاف، إلا أن لا يجد إزاراً فيلبس السراويل، أو لا يجد نعلين فيلبس خفين وليقطعهما، لا نعلم فيه خلافاً، لحديث ابن عباس، ولا فدية في لبسهما. وقال مالك: "على من لبس السراويل الفدية"، لحديث ابن عمر. ولنا: أنه أمر به في حديث ابن عباس، ولم يذكر فدية، وحديث ابن عمر مخصوص به، لأنه يختص لبسه بعدم غيره كالخفين. وإذا لبس الخفين مع عدم النعلين، لم يلزمه قطعهما في أشهر الروايتين، وفي الأخرى يقطعهما؛ فعليها، "إن لم يقطعهما افتدى"؛ وبه قال إسحاق وابن المنذر، لحديث ابن عمر، وهو يتضمن زيادة على حديث ابن عباس وجابر. قال الخطابي: العجب من أحمد في هذا، فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقلّت سنة لم تبلغه! وقيل: إن قوله: لم يقطعهما، من كلام نافع، ويحتمل النسخ، لأن عمرو بن دينار رواهما قال: انظروا أيهما كان قبل. قال الدارقطني: حديث ابن عباس بعرفات يدل على تأخيره.   1 البخاري: الجنائز (1265, 1266, 1267, 1268) , ومسلم: الحج (1206) , والترمذي: الحج (951) , والنسائي: الجنائز (1904) ومناسك الحج (2855, 2858) , وأبو داود: الجنائز (3238) , وابن ماجة: المناسك (3084) , وأحمد (1/215, 1/220, 1/286, 1/328, 1/333, 1/346) , والدارمي: المناسك (1852) . 2 البخاري: الحج (1542) , ومسلم: الحج (1177) , والترمذي: الحج (833) , والنسائي: مناسك الحج (2667, 2669, 2674, 2675, 2681) , وأبو داود: المناسك (1823) , وابن ماجة: المناسك (2929) , وأحمد (2/4, 2/8, 2/29, 2/32, 2/41, 2/54, 2/63, 2/65, 2/77, 2/119) , ومالك: الحج (716) , والدارمي: المناسك (1798, 1800) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وليس له أن يعقد عليه الرداء ولا غيره، إلا الإزار والهميان. وليس له أن يجعل لذلك زراراً ولا يخله بشوكة ولا إبرة ولا خيطة، ولا يغرزه في إزاره. فأما الإزار فيجوز عقده، لأنه يحتاج لستر العورة. وإن شد وسطه بالمنديل ونحوه، جاز إذا لم يعقده. والهميان مباح له، قال ابن عبد البر: أجازه جماعة فقهاء الأمصار. قال إبراهيم: كانوا يرخصون في عقد الهميان للمحرم، ولا يرخصون في عقد غيره. وسئل أحمد: عن المحرم يلبس المنطقة لوجع الظهر أو لحاجة إليها؟ قال: يفتدي. قيل: أفلا تكون مثل الهميان؟ قال: لا. وإن طرح على كتفيه قباء أو نحوه فدى، وإن لم يدخل يديه في كميه، هذا مذهب مالك والشافعي. وقال الخرقي: لا فدية عليه إن لم يدخلهما، وبه قال عطاء وإبراهيم وأبو حنيفة. وإذا احتاج إلى تقلد السيف فله ذلك، وبه قال مالك والشافعي، وكرهه الحسن. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية اشترط حمل السلاح في قرابه". وأجمعوا على أنه ممنوع من الطيب، ودل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الميت: "لا تمسّوه بطيب"، 1 فالحي أولى. ولا يجوز له لبس ثوب مطيب، لا نعلم فيه خلافاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يلبس من الثياب شيئاً مسّه الورس، ولا الزعفران". 2 ولا يجوز له الجلوس عليه ولا النوم عليه، فإن فعل افتدى. وقال أبو حنيفة: إن كان رطباً يلي بدنه أو يابساً ينفض افتدى، وإلا فلا. فإن غسله حتى ذهب جميع ما فيه، فلا بأس به عند جميع العلماء. وليس له شم الأدهان المطيبة، كدهن الورد والبنفسج والزنبق ونحوها، وليس في تحريم ذلك خلاف في المذهب. ومتى جعل شيئاً من الطيب في مأكول أو   1 البخاري: الحج (1851) , ومسلم: الحج (1206) , والنسائي: الجنائز (1904) ومناسك الحج (2854, 2856) , وأبو داود: الجنائز (3241) , وأحمد (1/215, 1/266, 1/328, 1/333) . 2 البخاري: اللباس (5847, 5852) , ومسلم: الحج (1177) , والترمذي: الحج (833) , والنسائي: مناسك الحج (2669, 2673, 2675) , وابن ماجة: المناسك (2929) , وأحمد (2/119) , ومالك: الحج (716) , والدارمي: المناسك (1798) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 مشروب فلم تذهب رائحته، لم يبح تناوله. وكان مالك لا يرى بما مسته النار من الطعام بأساً، وإن بقيت رائحته وطعمه ولونه. وإن مس ما لا يعلق بيده كالمسك والعنبر فلا فدية، إلا أن يشمه. وإن علق بيده كالغالية وماء الورد والمسك المسحوق، افتدى. ولو شم العود والفواكه كلها من الأترنج وغيره ونبات الصحراء كالشيح وغيره، فلا فدية فيه، لا نعلم فيه خلافاً، إلا ما روي عن ابن عمر: "أنه كره للمحرم أن يشم شيئاً من نبات الأرض"، ولا نعلم أحداً أوجب فيه شيئاً. وما أنبته الآدميون للطيب ولا يتخذ منه طيب، كالريحان الفارسي والنرجس، ففيه روايتان: إحداهما: "يباح بغير فدية"، وبه قال عثمان وابن عباس. والثانية: "يحرم، فإن فعله افتدى"؛ وبه قال جابر وابن عمر والشافعي، وكرهه مالك ولم يوجب فيه شيئاً. وأما ما ينبت للطيب ويتخذ منه كالورد، ففيه الفدية، وعنه: لا شيء في شمه لأنه زهرٌ. فأما الدهن الذي لا طيب فيه، فنقل ابن المنذر الإجماع على أن له أن يدهن بدنه بالشحم والزيت والسمن. وعنه في الزيت الذي يؤكل: لا يدهن به رأس المحرم؛ فظاهره أنه لا يدهن رأسه بشيء من الأدهان، وبه قال مالك، والشافعي لأنه يزيل الشعث، فأما سائر البدن فلا نعلم عن أحمد فيه منعاً. وقد أجمعوا على أن إباحته في اليدين، وفي إباحته في جميع البدن روايتان. وإن قصد شم الطيب من غيره بفعل منه، مثل أن يجلس عند العطار لذلك، لم يجز، وأباحه الشافعي. ولا خلاف في تحريم قتل صيد البر واصطياده على المحرم، وما ليس بوحش كالدجاج ونحوه، فلا بأس به، لا نعلم فيه خلافاً. والاعتبار بالأصل لا بالحال، فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء كالحمام، ولو توحش الأهلي لم يجب فيه. قال أحمد: إنما جعلت الكفارة في الصيد المحلل أكله، وهذا قول أكثر أهل العلم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 إلا أنهم أوجبوا الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره؛ واختلفت الرواية في الثعلب والسنور الوحشي والأهلي والهدهد والصرد. وأجمعوا على أن من أتلف صيداً وهو محرم، فعليه جزاؤه، إلا الحسن ومجاهد قالا: يجب في الخطإ والنسيان، ولا يجب في العمد؛ وهو خلاف النص. ويضمن ما دل عليه، أو أشار إليه، أو أعان على ذبحه، أو كان له أثر في ذبحه، مثل أن يعيره سكيناً إلا أن يكون القاتل محرماً فالجزاء بينهما. وقال مالك: لا شيء على الدالّ. ولنا: حديث أبي قتادة. وإن وجد من المحرم حديث عند رؤية الصيد، من ضحك أو استشراف ففطن له غيره، فلا شيء على المحرم، لحديث أبي قتادة. ولا خلاف في تحريم الصيد إذا صاده أو ذبحه. وإن صاده حلال وذبحه وكان من المحرم إعانة، لم يبح أيضاً. وإن صيد من أجله حرم عليه أكله، وبه قال مالك والشافعي؛ وأباحه أبو حنيفة، لحديث أبي قتادة. ولنا: قصة الصعب بن جثامة، وعن جابر رفعه: "صيد البر لكم حلال، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم". 1 قال الترمذي: هو أحسن حديث في الباب. وحكي: "عن علي وغيره التحريم على المحرم بكل حال"، لعموم قوله {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} الآية، 2 ولحديث الصعب. ولنا: حديث أبي قتادة وجابر، فإنهما صريحان في الحكم، وفي ذلك جمع بين الأحاديث. وهل يباح أكل ما صيد لمحرم على محرم آخر؟ "ظاهر حديث جابر إباحته"، وبه قال عثمان، وقيل: "يحرم"، وبه قال عليّ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة: "هل منكم أحد أمره أن يحمل عليه، أو أشار إليه؟ "، 3 والأول أولى. وإن ذبح المحرم صيداً صار ميتة، وقال الثوري: لا بأس بأكله، وقال ابن المنذر: هو بمنزلة ذبيحة السارق. وإذا أتلف بيض   1 الترمذي: الحج (846) , والنسائي: مناسك الحج (2827) , وأبو داود: المناسك (1851) , وأحمد (3/362) . 2 سورة المائدة آية: 96. 3 مسلم: الحج (1196) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 صيد، ضمنه بقيمته، قال ابن عباس: "في بيض النعام قيمته". وإن ملك صيداً في الحل فأدخله الحرم لزمه رفع يده عنه وإرساله، فإن تلف في يده ضمنه؛ قال عطاء: إن ذبحه فعليه الجزاء. و"ممن كره إدخال الصيد الحرم: ابن عباس وابن عمر، ورخص فيه جابر". قال هشام بن عروة: "كان ابن الزبير تسع سنين يراها في الأقفاص، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون به بأساً". ورخص فيه مالك والشافعي. وإن صال عليه صيد فلم يقدر على دفعه إلا بقتله، فله ذلك ولا ضمان عليه، وبه قال الشافعي، وقيل: عليه الجزاء. فإن خلصه من سبُع أو شبكة فتلف بذلك، فلا ضمان عليه؛ وبه قال عطاء. وقيل: يضمن، قاله قتادة، لعموم الآية. ولا تأثير للحرم ولا للإحرام في تحريم حيوان إنسي، بلا خلاف، ولا في الخمس الفواسق التي أباح الشارع قتلها في الحل والحرم، وهي: الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور، وفي بعض ألفاظ الحديث: والحية مكان العقرب، وهذا قول الأكثر. وحكي عن النخعي أنه منع من قتل الفأرة، والحديث صريح في حل قتلها، ولا تعويل على من خالفه. والمراد: الغراب الأبقع، وغراب البين؛ وقيل: لا يباح قتل غراب البين لأن في بعض ألفاظه قيل: الأبقع، ولا يمكن حمله على العموم، لأن المباح منها لا يقتل. ولنا: أن المطلق أصح من المقيد، وغراب البين يعدو على أموال الناس، فلا وجه لإخراجه من العموم، وفارق ما أبيح أكله فإنه ليس في معنى ما أبيح قتله. وأما ما كان طبعه الأذى وإن لم يوجد منه، مثل الفهد والذئب وما في معناهما، فيباح قتله ولا جزاء فيه. وقال مالك: الكلب العقور ما عقر الناس وعدا عليهم، مثل الأسد والذئب والنمر؛ فعلى هذا، يباح قتل كل ما فيه أذى من سباع البهائم وجوارح الطير والحشرات المؤذية والزنبور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 والبق والبعوض والبراغيث والذباب، وبه قال الشافعي. وقال أصحاب الرأي: يقتل ما في الحديث، والذئب قياساً. ولنا: أن الخبر نص من كل جنس على صورة من أدناه، تنبيهاً على ما هو أعلى منها: فنصه على الغراب والحدأة تنبيه على الصقر والباز ونحوه، وعلى الفأرة تنبيه على الحشرات، وعلى العقرب تنبيه على الحية، وعلى الكلب العقور تنبيه على السباع التي أعلى منه. وأما ما لا يؤذي بطبعه كالرخم والديدان، فلا أثر للحرم ولا الإحرام فيه، ولا جزاء فيه؛ وبه قال الشافعي. وقال مالك: يحرم قتلها، فإن قتلها فداها، وكذلك كل سبع لا يعدو على الناس. فإذا وطئ الذباب أو النمل أو الذر وقتل الزنبور، تصدق بشيء من الطعام. ولنا: أن الله سبحانه وتعالى إنما أوجب الجزاء في الصيد. ولا بأس أن يقرد بعيره، وقال مالك: لا يجوز. ولنا: أنه قول عمر وابن عباس. وأما القمل، فعنه: إباحة قتله، لأنه من أكثر الهوام أذى. وعنه: لا. لأنه يترفه بإزالته، ولأنه لو أبيح لم يتركه كعب بن عجرة، ولا أمره صلى الله عليه وسلم بإزالته خاصة. ويجوز له حك رأسه برفق لئلا يقطع شعراً أو يقتل قملاً، فإن تفلى المحرم فلا فدية، لأن كعباً أذهب قملاً كثيراً. وحكي عن ابن عمر أنه قال: "هي أهون مقتول". وعن ابن عباس فيمن ألقاها ثم طلبها فلم يجدها قال: "تلك ضالة لا تبتغى". وعن أحمد فيمن قتل قملة: يطعم شيئاً، وهو قول مالك. وقال إسحاق: تمرة فما فوقها. والخلاف في المحرم، أما في الحرم فيباح قتله بغير خلاف. ولا بأس بغسل رأسه وبدنه برفق، وكره مالك أن يغطس في الماء ويغيب فيه رأسه. ويكره له غسل رأسه بالسدر ونحوه، لما فيه من إزالة الشعث، وكرهه مالك والشافعي وأهل الرأي؛ فإن فعل فلا فدية عليه. وقال مالك: عليه فدية، ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم في المحرم: "اغسلوه بماء وسدر، ولا تخمروا رأسه" 1 الحديث.   1 البخاري: الجنائز (1267) , ومسلم: الحج (1206) , والترمذي: الحج (951) , والنسائي: الجنائز (1904) ومناسك الحج (2854, 2855, 2856, 2857) , وأبو داود: الجنائز (3238, 3241) , وابن ماجة: المناسك (3084) , وأحمد (1/215, 1/220, 1/266, 1/286, 1/328, 1/333, 1/346) ، والدارمي: المناسك (1852) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ولا يحرم عليه صيد البحر بغير خلاف. ولا فرق بين البحر الملح وبين العيون والأنهار؛ فإن كان مما لا يعيش إلا في الماء فلا خلاف فيه، وإن كان مما يعيش في البر فهو كالسمك لا جزاء فيه. وقال عطاء: فيه الجزاء. فأما طير الماء ففيه الجزاء في قول عامة أهل العلم، ولا نعلم فيه مخالفاًً، إلا ما روي عن عطاء أنه قال: حيث ما يكون أكثر، فهو من صيده. ولا يباح صيد البحر في الحرم، فلا يصاد من آباره وعيونه، وكرهه جابر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا ينفّر صيده"، 1 وعنه: يباح، لأن الإحرام لا يحرمه. وعنه في الجراد: هو من صيد البحر، لا جزاء فيه. قال ابن المنذر: قال ابن عباس: "هو من صيد البحر"، وقال عروة: "هو من نثرة الحوت". وعنه: أنه من صيد البر، وفيه الجزاء، وهو قول الأكثر. وحديث أبي هريرة أنه من صيد البحر وهمٌ، قاله أبو داود. ومن اضطر إلى أكل الصيد أبيح له، بغير خلاف، وعليه ضمانه. وقال الأوزاعي: لا يضمنه. ولنا: عموم الآية. وكذلك إن احتاج إلى حلق، أو تغطية رأس، أو لبس مخيط، أو شيء من المحظورات، فعَله وفدى، لحديث كعب بن عجرة، وقسنا عليه سائر المحظورات. ولا يجوز للمحرم أن يتزوج لنفسه، ولا يكون وليا في النكاح، ولا وكيلاً فيه، ولا يجوز تزوج المحرمة، وأجازه ابن عباس؛ وهو قول أبي حنيفة، "لأنه صلى الله عليه وسلم تزوَّج ميمونة وهو محرم". 2 ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يَنكح المحرم، ولا يُنكح، ولا يخطب". 3 رواه مسلم. وأما حديث ميمونة فقال ابن المسيب: وهمَ ابن عباس، ما تزوجها إلا حلالاً. وفي الرجعة روايتان: إحداهما: تباح، وهو قول أكثر أهل العلم. ويباح شراء الإماء للتسري وغيره، لا نعلم فيه خلافاً،   1 البخاري: الحج (1587) , ومسلم: الحج (1353) , والنسائي: مناسك الحج (2892) , وأبو داود: المناسك (2017) , وأحمد (1/253, 1/259, 1/315, 1/348) . 2 البخاري: الحج (1837) , ومسلم: النكاح (1410) , والترمذي: الحج (842, 843, 844) , والنسائي: مناسك الحج (2839, 2840, 2841) , وأبو داود: المناسك (1844) , وأحمد (1/221, 1/245, 1/252, 1/266, 1/275, 1/336, 1/337, 1/346, 1/354, 1/359, 1/360, 1/362) . 3 مسلم: النكاح (1409) , والترمذي: الحج (840) , والنسائي: مناسك الحج (2842, 2843) والنكاح (3275, 3276) , وأبو داود: المناسك (1841) , وابن ماجة: النكاح (1966) , وأحمد (1/57, 1/64, 1/65, 1/68, 1/69, 1/73) , ومالك: الحج (780) , والدارمي: المناسك (1823) والنكاح (2198) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ويكره له الخطبة وخطبة المحرمة، وأن يخطب للمحلين، للحديث. ويكره أن يشهد في النكاح، فإن فعل لم يفسد النكاح، وقيل: بلى، لأن في بعض الألفاظ: "ولا يشهد". ولنا: أن هذه زيادة غير معروفة، فلا يثبت بها حكم. قال ابن المنذر: "أجمعوا على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام، إلا الجماع؛ والأصل فيه ما روي عن ابن عمر وابن عباس"، ولم يعرف لهما مخالف. قال ابن المنذر: قول ابن عباس أعلى شيء روي فيمن وطئ في حجه؛ فإن كان قبل التحلل الأول فسد الحج، قبل الوقوف أو بعده، وهو قول الأكثر. وقال أصحاب الرأي: لا يفسد بعد الوقوف، لقوله: صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة". 1 ولنا: قول الصحابة، وهو إطلاق فيمن جامع محرماً، وقوله: "الحج عرفة"، 2 أي: معظمه، أو أنه ركن متأكد، ولا يلزم من أمن الفوات أمن الفساد، بدليل العمرة، والعمد والنسيان سواء، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي في القديم. وقال في الجديد: لا يفسد الحج مع النسيان، ولا يجب فيه شيء. وحكاه ابن عقيل رواية، لقوله " عُفي لأمتي" الحديث. ولنا: أن الصحابة لم يستفصلوا. ويجب به بدنة، وبه قال مالك والشافعي. وقال إسحاق: بدنة، فإن لم يجد فشاة. وحكم المرأة حكم الرجل في فساد الحج، وحكم المكرهة والنائمة حكم المطاوعة، لا نعلم فيه خلافاً. وعليهما المضي في فاسده، وقال مالك: يجعل الحج عمرة، ولا يقيم على حجة فاسدة. وقال داود: يخرج بالإفساد من الحج العمرة، لقوله: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردّ ". 3 ولنا: قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، 4 ولأنه قول من سمّينا من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف. والخبر لا دليل فيه، لأن المضي فيه بأمر الله، ويلزمه   1 الترمذي: الحج (889) , والنسائي: مناسك الحج (3044) , وأبو داود: المناسك (1949) , وابن ماجة: المناسك (3015) , وأحمد (4/309, 4/335) , والدارمي: المناسك (1887) . 2 الترمذي: الحج (889) , والنسائي: مناسك الحج (3044) , وأبو داود: المناسك (1949) , وابن ماجة: المناسك (3015) , وأحمد (4/309, 4/335) , والدارمي: المناسك (1887) . 3 البخاري: الصلح (2697) , ومسلم: الأقضية (1718) , وأبو داود: السنة (4606) , وابن ماجة: المقدمة (14) , وأحمد (6/73, 6/146, 6/180, 6/240, 6/256, 6/270) . 4 سورة البقرة آية: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 القضاء من قابل. فإن كان الحج الذي أفسد واجباً أجزأ القضاء، وإن كان نفلاً وجب القضاء أيضاً كالمنذور؛ والقضاء على الفور، لا نعلم فيه خلافاً. ويحرم بالقضاء من أبعد الموضعين، الميقات أو موضع إحرامه الأوَّل، نصَّ عليه، ويتفرقان في القضاء من الموضع الذي أصابها فيه إلى أن يحلا. وهل هو واجب أو مستحب؟ على وجهين. وعنه: "يتفرقان من حيث يحرمان"، رواه في الموطإ عن علي، ومعناه: أن لا ينزل معها في فسطاط ولا يركب معها في محمل. وحكم العمرة حكم الحج، إلا أنه لا يجب بإفسادها إلا شاة، وقال الشافعي: عليه بدنة. والوطء بعد التحلل الأول لا يفسد الحج، وقال الزهري والنخعي: يفسد. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "من شهد صلاتنا فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجّه"، 1 ولأنه قول ابن عباس، ولم يعرف لهم مخالف. وإن فسد الإحرام بالوطء بعد جمرة العقبة، فيلزمه أن يحرم من الحل، وبه قال عكرمة. وقال ابن عباس والشافعي: "لا يلزمه إحرام لأن إحرامه لم يفسد جميعه، فلم يفسد بعضه". ولنا: الطواف ركن فيجب أن يأتي به في إحرام صحيح، لأن الإحرام يجمع فيه بين الحل والحرم. ومتى وطئ بعد رمي الجمرة لم يفسد حجه، حلق أولاً. فإن طاف للزيارة ولم يرم، ثم وطئ لم يفسد حجه، وعليه شاة في الوطء بعد التحلل الأول، وبه قال مالك، وعنه: بدنة؛ وبه قال الشافعي. التاسع: المباشرة دون الفرج، فإن أنزل فعليه بدنة. وقال الشافعي: شاة.   1 الترمذي: الحج (891) , والنسائي: مناسك الحج (3039) , وابن ماجة: المناسك (3016) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وفي فساد الحج روايتان: إحداهما: يفسد، وبه قال مالك. والثانية: لا. وبه قال الشافعي. وإن لم ينزل لم يفسد، لا نعلم فيه خلافا. والمرأة إحرامها في وجهها؛ فيحرم تغطيته، لا نعلم فيه خلافاً، إلا ما روي عن أسماء أنها تغطيه، فيحمل على السدل، فلا يكون فيه اختلاف. فإن احتاجت لتغطيته لمرور الرجال قريباً منها، سدلت الثوب من فوق رأسها، لا نعلم فيه خلافاً. قال أحمد: إنما لها أن تسدل النقاب من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل. ولا بأس للمرأة أن تطوف متنقبة إذا لم تكن محرمة، وكرهه عطاء، ثم رجع لما بلغه أن عائشة تفعله. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنها ممنوعة مما يمنع منه الرجل إلا بعض اللباس، وأن لها لبس القميص والدرع والسراويلات والخمر والخفاف. ويستحب لها ما يستحب للرجل عند الإحرام من الغسل والطيب، لقول عائشة: "كنا نضمد جباهنا بالمسك". ولا تلبس القفازين، وهو شيء يعمل لليدين يدخلان فيه، ورخص فيه علي، وبه قال أبو حنيفة. ولنا: قوله: "لا تلبس القفازين". 1 رواه البخاري. وروي عن عطاء أنه كره الحلي والحرير للمحرمة، و"رخص فيه ابن عمر وعائشة"، وهو الصحيح. وقال ابن المنذر: لا يجوز المنع منه بغير حجة. والكحل بالإثمد مكروه، ولا فدية فيه، لا نعلم فيه خلافاً. وسألت عائشة امرأةٌ اشتكت عينها وهي محرمة فقالت: "تكحل بأي كحل شاءت غير الإثمد أما إنه ليس بحرام ولكنه زينة فنحن نكرهه". ويجوز لبس المعصفر والكحل والخضاب بالحناء والنظر في المرآة، لهما جميعاً. وكره المعصفر مالك إذا انتفض في جسده، ومنع منه الثوري وشبهه بالورس والمزعفر. ولنا: قوله في المحرمة: "ولتلبس بعد ذلك ما أحبت   1 البخاري: الحج (1838) , والترمذي: الحج (833) , وأحمد (2/119) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 من ألوان الثياب، من معصفر أو خز أو حلي". 1 رواه أبو داود. وعن عائشة وأزواجه صلى الله عليه وسلم: "أنهن كنّ يحرمن في المعصفرات"، ولأنه قول جابر وابن عمر، ولم يعرف لهم مخالف. و"يستحب لها الاختضاب بالحناء عند الإحرام"، لما روي عن ابن عمر أنه قال: "من السنة أن تدلك المرأة بدنها في حناء، ولا بأس به في حال الإحرام". وكان مالك يكرهه للمحرمة، ويلزمها الفدية. ولنا: قول عكرمة: "كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء وهن حرم". قال أحمد: لا بأس أن ينظر في المرآة. ولا يصلح شعثاً، ولا ينفض غباراً. وروي نحوه عن عطاء، لأنه قد روي في حديث: "إن المحرم الأشعث الأغبر"، وفي حديث آخ ر: "انظروا إلى عبادي، قد أتوني شعثاً غبراً". 2 وله أن يحتجم إذا لم يقطع شعراً، وكان الحسن يرى فيها دماً. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم". فإن احتاج إلى قطع شعر، فله قطعه ويفدي، للحديث: "أنه احتجم وسط رأسه"، وقال أبو يوسف ومحمد: يتصدق بشيء. ولنا: قوله: {فمن كان منكنم مريض أو به أذى من رأسه} الآية 3. ويجتنب ما نهي عنه من الرفث وهو: الجماع، وقيل: والتقبيل والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام. وقال أبو عبيد: الرفث لغا الكلام وأنشد: عن اللغا ورفث التكلم. وكل ما فسر به الرفث، ينبغي للمحرم أن يجتنبه، إلا أنه في الجماع أظهر، لقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} الآية. 4   1 أبو داود: المناسك (1827) . 2 أحمد (2/224) . 3 سورة البقرة آية: 196. 4 سورة البقرة آية: 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ويجتنب الفسوق وهو: السباب، لقوله: "سباب المسلم فسوق ". 1 وعن ابن عباس: "المعاصي كلها"، والجدال وهو: المراء، قال ابن عباس: "هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه". ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع، صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع فيما لا يحل، فإن من كثر كلامه كثر سقطه. قال أبو داود: أصول السنن أربعة أحاديث: أحدها: قوله: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". 2 واحتج أحمد بـ"أن شريحا كان إذا أحرم كأنه حية صماء". فإن تكلم بما لا إثم فيه، أو أنشد شعراً لا يقبح، فهو مباح؛ ولا يكثر، فقد روي عن ابن عمر: "أنه كان على ناقة له وهو محرم فجعل يقول: كأن راكبها غصن بمروحة ... إذا تدلت به أو شارب ثمل والله أكبر. الله أكبر"، وهو يدل على الإباحة. والفضيلة ما ذكرنا أولاً. ويجوز أن يتجر ويصنع الصنائع، لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} الآية 3. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قوله: فمن حلق أو قلّم ثلاثة فعليه دم، ووجه في الفروع احتمالاً: لا يجب الدم إلا فيما يحاط به الأذى، وهو مذهب مالك. وفي الفائق: المختار تعلق الدم بمقدار يترفه بإزالته. وقال الشيخ: من احتاج إلى قطعه لحجامة أو غسل، لم يضره. ولو لبس مقطوعاً دون الكعبين مع وجود نعل، فاختار الشيخ الجواز بلا فدية. وقال: يجوز شد وسطه بحبل أو ونحوهما، وبرد لحاجة. وفي الرعاية: لا يقتل البراغيث ولا البعوض ولا القراد، وقال الشيخ: إن قرصه ذلك قتله   1 البخاري: الإيمان (48) , ومسلم: الإيمان (64) , والترمذي: البر والصلة (1983) والإيمان (2634, 2635) , والنسائي: تحريم الدم (4105, 4106, 4108, 4109, 4110, 4111, 4112, 4113) , وابن ماجة: المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385, 1/411, 1/417, 1/433, 1/439، 1/446، 1/454، 1/460) . 2 الترمذي: الزهد (2317) , وابن ماجة: الفتن (3976) . 3 سورة البقرة آية: 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 مجاناً، وإلا فلا يقتله. ونقل مهنا: يقتل النملة إذا عضته، والنحلة إذا آذته، واختار الشيخ: لا يجوز قتل النحل ولو يأخذ كل عسله. وقال هو وغيره: إن لم يدفع نملاً إلا بقتله جاز. ومن جامع قبل التحلل فسد نسكه، عامداً كان أو ساهياً. وعنه: لا يفسد حج الناسي والجاهل والمكره ونحوه، اختاره الشيخ. ويلزم المجامع بعد التحلل الأول، أن يحرم من الحل، وقال: سواء بعد أو لا. والمنصوص عن أحمد: أنه يعتمر، فيحتمل أنه أراد هذا المعنى وسماها عمرة، لأنه أفعالها، ويحتمل أنه أراد عمرة حقيقة. وقال الشيخ: يعتمر مطلقاً، وعليه نصوص أحمد. والمرأة إحرامها في وجهها، وتسدل لحاجة. وقال الشيخ: لو مس وجهها، فالصحيح جوازه، لأن وجهها كيد الرجل.، ويستحب لها الخضاب عند الإحرام، قال الشيخ: الخضاب بلا حاجة مختص بالنساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 باب الفدية هي على ثلاثة أضرب: (أحدها) : ما هو على التخيير وهو نوعان: أحدهما: يخير فيه بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة؛ وهي فدية الحلق والتقليم والتغطية واللبس والطيب، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} الآية 1، ولحديث كعب، وقسنا عليه الباقي، لأنه حرم للترفه كالشعر. ولا فرق في الحلق بين المعذور وغيره، والعامد والمخطئ. وقاله مالك والشافعي. وعن أحمد: إذا حلق لغير عذر فعليه دم من غير تخيير، وهو مذهب أبي حنيفة، لأن الله تعالى خيّر بشرط العذر. ولنا: أن الحكم ثبت في غير المعذور بطريق التنبيه تبعاً، والتبع لا يخالف أصله. وفي بعض ألفاظ حديث كعب: "صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين: لكل مسكين نصف صاع تمر"؛ 2 وبهذا قال مالك والشافعي. وقال الحسن: الصيام عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين. وعن الثوري: يجزئ من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير صاع، واتباع السنة أولى، ويقاس على التمر والبُرّ والشعير والزبيب. وعنه: يجزئ مدّ بُرّ لكل مسكين. و" ومن أبيح له الحلق جاز له تقديم الكفارة، فعله علي". الثاني: جزاء الصيد، فيخيّر فيه بين المثل وتقويمه بدراهم يشترى بها طعاماً،   1 سورة البقرة آية: 196. 2 البخاري: الحج (1816) , ومسلم: الحج (1201) , والترمذي: تفسير القرآن (2974) , والنسائي: مناسك الحج (2851) , وأبو داود: المناسك (1856, 1857, 1860) , ومالك: الحج (955, 956) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 فيطعم لكل مسكين مداً، ويصوم عن كل مد يوماً. وإن كان لا مثل له خيِّر بين الإطعام والصيام. وعنه: على الترتيب؛ فيجب المثل، فإن لم يجد أطعم، فإن لم يجد صام. روي عن ابن عباس والثوري، لأن هدي المتعة على الترتيب، وهذا آكد. وعنه: لا إطعام في كفارة الصيد، وإنما ذكر في الآية ليعدل به الصيام، لأن من قدر على الإطعام قدر على أن يذبح، وهذا قول الشافعي. ولنا: الآية، وسمى الله الطعام كفارة، ولا يكون كفارة ما لا يجب إخراجه وجعله طعاماً للمساكين، وما لا يجوز صرفه إليهم لا يكون طعاماً لهم. وإذا اختار المثل ذبحه لفقراء الحرم، ولا يجوز الصدقة به حياً، لأن الله سماه هدياً، والهدي يجب ذبحه؛ وله ذبحه أي وقت شاء. وإن أراد الإطعام قوّم المثل بدراهم والدراهم بطعام، يتصدق به على المساكين. وقال مالك: يقوّم الصيد. وحكى ابن أبي موسى رواية: إن شاء تصدق بدراهم، والآية ذكر فيها التخيير بين الثلاثة، ولا ذكر للدراهم. ويطعم كل مسكين مداً كالكفارة، ومن غيره نصف صاع. ولا يجزئ إخراج الطعام إلا على مساكين الحرم، والصوم عن كل مد يوماً، وبه قال مالك والشافعي. وعنه: عن كل نصف صاع يوماً، قاله ابن عباس وابن المنذر. وعن أبي ثور أن كفارة الصيد مثل كفارة الآدمي، روي عن ابن عباس. ولنا: أنه جزاء عن متلف، فاختلف باختلافه، ولأن الصحابة قضوا في الصيد مختلفاً، فإن بقي من الطعام ما لا يعدل يوماً صام عنه يوماً كاملاً، لا نعلم فيه خلافاً، لأن الصوم لا يتبعض. ولا يجب التتابع في الصيام، وبه قال الشافعي، لأن الله أمر به مطلقاً. ولا يجوز أن يطعم عن بعض الجزاء ويصوم عن بعض، وجوَّزه محمد بن الحسن إذا عجز عن بعض الإطعام. فإن كان مما لا مثل له خُيّر بين الشراء بقيمته طعاماً للمساكين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وبين الصيام لتعذر المثل. وهل يجوز إخراج القيمة؟ فعنه: لا يجوز، روي عن ابن عباس، وقيل: يجوز، لأن عمر قال لكعب: "ما جعلت على نفسك؟ قال: درهمين، قال: اجعل ما جعلت على نفسك". (الضرب الثاني) : على الترتيب، وهو على ثلاثة أنواع: (أحدها) : دم المتعة والقِران، فيجب الهدي، فإن لم يجد فالصيام للآية، والأفضل أن يكون آخر الثلاث يوم عرفة، روي ذلك عن عطاء وعلقمة وغيرهما. وعن ابن عمر: "يصومها ما بين إهلاله بالحج ويوم عرفة". فظاهره: أن آخرها يوم التروية، لأن صوم عرفة بها لا يستحب، وإنما أحببنا له صوم يوم عرفة للحاجة؛ وعلى هذا، يستحب له تقديم الإحرام بالحج قبل يوم التروية ليصومها وقت الحج، فإن صام منها شيئاً قبل إحرامه جاز، نص عليه. وأما جواز صيامها، فإذا أحرم بالعمرة؛ وبه قال أبو حنيفة. وعنه: إذا أحل منها. وقال مالك والشافعي: "لا يجوز إلا بعد الإحرام بالحج"، روي عن ابن عمر؛ وبه قال إسحاق وابن المنذر، لقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} . 1 ولنا: أن إحرام العمرة أحد أجزاء التمتع، والآية قيل: معناه في أشهر الحج، فإنه لا بد فيه من الإضمار إذ الحج أفعال لا يصام فيها، فهو كقوله: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} . 2 فتقديم الصوم على إحرام العمرة، فلا نعلم قائلا بجوازه. ووقت الاختيار في السبعة إذا رجع إلى أهله، وأما وقت الجواز فإذا مضت أيام التشريق. قيل لأحمد: يصوم بالطريق أو بمكة؟ قال: حيث شاء، وبه قال مالك. وعن عطاء ومجاهد: في الطريق، وبه قال إسحاق. وقال   1 سورة البقرة آية: 196. 2 سورة البقرة 197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ابن المنذر: إذا رجع إلى أهله، وبه قال الشافعي. ولنا: أن كل صوم لزمه وجاز في وطنه جاز قبل ذلك، وأما الآية فإنه سبحانه جوَّز له تأخير الصلاة تخفيفاً، كتأخير صوم رمضان في السفر، فإذا لم يصم الثلاثة في الحج صامها بعده؛ وبه قال مالك والشافعي. وعن ابن عباس: "إذا فاته الصوم في العشر، لم يصم بعده واستقر الهدي في ذمته". ولنا: أنه صوم واجب فلم يسقط بخروج وقته كرمضان، والآية تدل على وجوبه في الحج لا على سقوطه. "ويصوم أيام منى"، قاله ابن عمر وعائشة ومالك والشافعي في القديم. وعن أحمد: "لا يصومها"، روي عن علي، وهو قول ابن المنذر؛ فعليها، يصوم بعد ذلك عشرة أيام، وكذا إذا قلنا يصوم أيام منى فلم يصمها. واختلفت الرواية في وجوب الدم عليه. وإذا أخر الهدي الواجب لعذر، مثل ضياع نفقته، فليس عليه إلا القضاء. وعنه: يلزمه هدي آخر، فإنه قال فيمن تمتع فلم يهد إلى قابل: "يهدي هديين"، كذلك قال ابن عباس. ولا يجب التتابع في صيام التمتع، ومتى وجب عليه الصوم فشرع فيه، ثم قدر على الهدي، لم يجب عليه الانتقال إلا أن يشاء، وبه قال مالك والشافعي. وقال الثوري: إن أيسر قبل كمال الثلاثة، فعليه الهدي. وإن وجب فلم يشرع، فهل يلزم الانتقال؟ على روايتين: إحداهما: لا يلزمه. والثانية: يلزمه. سئل أحمد: إذا لم يصم المتمتع قبل يوم النحر؟ قال: عليه هديان، يبعث بهما إلى مكة. ومن وجب عليه صوم المتعة فمات قبله لعذر منعه، فلا شيء عليه، وإن كان لغير عذر أطعم عنه كرمضان. (النوع الثاني) : المحصر، ولا خلاف في وجوب الهدي عليه؛ فإن لم يجد صام عشرة أيام، ثم حل. (النوع الثالث) : فدية الوطء، يجب به بدنة؛ فإن لم يجد صام عنه عشرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 أيام: ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله، كدم متعة، لقضاء الصحابة به، فيكون بدله مقيساً على بدل دم المتعة، لأنا إنما أوجبنا البدنة بقول الصحابة، فكذلك في بدلها. والمرأة إن طاوعت فعليها بدنة. وعنه: أرجو أن يجزئهما هدي واحد، وروي عن عطاء؛ وهو مذهب الشافعي، لأنه جماعٌ واحد. فأما المكرهة فلا دم عليها، وعنه: عليه أن يهدي عنها؛ وبه قال مالك. وقال أصحاب الرأي: الهدي عليها. (الضرب الثالث) : الدماء الواجبة للفوات أو لترك واجب أو المباشرة في غير الفرج، فالهدي الواجب بغير النذر منصوص عليه ومقيس عليه. فالأول: فدية الأذى وجزاء الصيد ودم الإحصار ودم المتعة والبدنة الواجبة بالوطء. والثاني مقيس عليه، فالبدنة الواجبة بالمباشرة مقيسة على الواجبة بالوطء، والقِران على التمتع، وكذلك دم الفوات، إلا أن الصيام لا يمكن أن يكون منه ثلاثة قبل يوم النحر؛ ويقاس عليه أيضاً كل دم واجب لترك واجب، كالإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى الغروب والمبيت بمزدلفة وطواف الوداع، فالواجب فيه ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد صام عشرة أيام. ويقاس على فدية الأذى ما وجب بمحظور، كاللبس والطيب والتقليم. وكل استمتاع من النساء يوجب شاة، كالوطء في العمرة وبعد التحلل الأول والمباشرة من غير إنزال، فإنه في معنى فدية الأذى. قال ابن عباس، فيمن وقع على امرأته في العمرة قبل التقصير: "عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك". رواه الأثرم. وإن أنزل بالمباشرة دون الفرج فعليه بدنة، وإن لم ينزل فعليه شاة. وبه قال ابن المسيب ومالك والشافعي، وعنه: بدنة، روي عن الحسن. ولنا: ما روى الأثرم أن عمر بن عبيد الله قبّل عائشة بنت طلحة فسأل، فأجمع له على أن يهريق دماً. وسائر اللمس لشهوة كالقبلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ومن كرر محظوراً من جنس، مثل إن حلق ثم حلق قبل التكفير، فكفارة واحدة؛ وإن كفّر عن الأول فعليه للثاني كفارة. وعن الشافعي كقولنا، وعنه: لا يتداخل. وقال مالك: تتداخل كفّارة الوطء دون غيره. وإن قتل صيداً بعد صيد فعليه جزاؤهما، وعنه: جزاء واحد؛ والصحيح الأول، لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} . 1 وإن فعل محظوراً من أجناس، فدى لكل واحد، وهو مذهب الشافعي. وعن أحمد: في الطيب واللبس والحلق فدية واحدة، إذا كان في وقت واحد، وقاله إسحاق. وقال عطاء: إذا حلق ثم احتاج إلى الطيب أو إلى القلنسوة أو إليهما، فلا عليه إلا فدية واحدة. ولا فرق بين العمد والخطأ في الحلق والتقليم، ومن لا عذر له ومن له عذر، وقاله الشافعي. وقيل: لا فدية على الناسي، وهو قول ابن المنذر. وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقال الزهري: على المتعمد بالكتاب، وعلى المخطئ بالسنة. وعنه: لا كفارة على المخطئ، وبه قال ابن عباس وابن المنذر، للآية، لقوله: {مُتَعَمِّدًا} ، ووجه الأولى قول جابر: "جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشاً". رواه ابن ماجة. وإن لبس أو تطيب أو غطى رأسه ناسياً فلا كفارة، فإن تعمد فدى، بلا خلاف. ويستوي فيه القليل والكثير، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجب الدم إلا بتطييب عضو كامل، وفي اللباس بلباس يوم وليلة، لأن ما دونه ليس لباساً معتاداً. ويلزمه غسل الطيب وخلع اللباس، وإن وليه بنفسه فلا بأس، لقوله صلى الله عليه وسلم: "اغسل عنك الطيب". ومذهب مالك   1 سورة المائدة آية: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 والليث: أن الناسي يفدي. ولنا: حديث صاحب الجبة، "ولم يأمره بالفدية، مع سؤاله عما صنع"، فدل على أنه عذره لجهله، والناسي في معناه، والمكره كالناسي، لأنه مقرون به في الحديث الدال على العفو. ومن رفض إحرامه ثم فعل محظوراً، فعليه فداؤه، لأنه لو نوى التحلل لم يحلّ. وليس له لبس مطيب بعد إحرامه، بغير خلاف، فإن أحرم فيه فله استدامته، فإن خلعه لم يلبسه، فإن فعل فدى. وإذا أحرم وعليه قميص أو سراويل خلعه ولم يشقه، ولا فدية عليه في قول الأكثر. وقيل: يشقه لئلا يتغطى رأسه حين ينزع القميص. ولنا: حديث صاحب الجبة. والهدايا والضحايا مختصة بمساكين الحرم، لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، 1 وكذلك جزاء محظور فعله في الحرم؛ وذكر القاضي رواية في قتل الصيد: يفديه حيث قتله، وهذا يخالف نص الكتاب. وما وجب فعله في الحرم لترك نسك أو فوات، فهو لمساكين الحرم، لأنه هدي وجب لترك نسك، كدم القِران. وما وجب نحره في الحرم وجب تفرقة لحمه به؛ وبه قال الشافعي. وقال مالك إذا ذبحها في الحرم جاز تفرقتها في الحل. ولنا: أنه أحد مقصودي النسك كالذبح، ولأن المقصود من ذبحه التوسعة على مساكينه. قال عطاء: الهدي بمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء. ولنا: قول ابن عباس: "الهدي والإطعام بمكة". ومساكينه: من فيه من أهله وممن ورد عليه، وهم الذين يجوز لهم أخذ الزكاة. فإن عجز عن إيصاله إليهم، جاز ذبحه وتفرقته في غيره.   1 سورة الحج آية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وفدية الأذى إذا وجد سببها في الحل، فيجوز في الموضع الذي حلق فيه. وقال الشافعي: لا يجوز إلا في الحرم، لقوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} . 1 ولنا: أنه أمر كعباً بالفدية بالحديبية، وهي من الحل. ونحر علي بن الحسين بالسقيا، رواه الأثرم، والآية وردت في الهدي. وحكم اللبس والطيب حكم الحلق إذا وجد في الحل قياساً. ودم الإحصار حيث أحصر من حل أو حرم، فإن قدر على أطراف الحرم ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه. والثاني: لا، "لأنه صلى الله عليه وسلم نحر هديه في موضعه"، وعنه: لا ينحر المحصر هديه إلا في الحرم، و"يواطئ رجلاً على نحره في وقت التحلل"، يروى هذا عن ابن مسعود فيمن لدغ في الطريق، وروي عن الحسن وعطاء. قال شيخنا: وهذا، والله أعلم، في الحصر الخاص، أما العام فلا ينبغي أن يقوله أحد، لأنه يفضي إلى تعذر الحل لتعذر وصول الهدي إلى محله، "ولأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا في الحديبية". فإن قيل: قد قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ، 2 وقال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ، 3 قلنا: هذا في غير المحصر. وأيضاً قيل: إن ذبحه في حق المحصر في موضع حله، اقتداء به صلى الله عليه وسلم، وأما الصيام فيجزيه في كل مكان، لا نعلم فيه خلافاً. وكل دم ذكرنا يجزئ فيه شاة أو سُبع بدنة، أو يجزئ عنها بقرة، لقول جابر (: "كنا ننحر البدنة عن سبعة، فقيل: والبقرة؟ فقال: وهل هي إلا من البدن". 4 رواه مسلم.   1 سورة المائدة آية: 95. 2 سورة البقرة آية: 196. 3 سورة الحج آية: 33. 4 مسلم: الحج (1318) , والترمذي: الحج (904) والأضاحي (1502) , والنسائي: الضحايا (4393) , وأبو داود: الضحايا (2807, 2808, 2809) , وابن ماجة: الأضاحي (3132) , وأحمد (3/293, 3/353, 3/363) , ومالك: الضحايا (1049) , والدارمي: الأضاحي (1956) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 و"من وجبت عليه بدنة أجزأ عنها سبع من الغنم"، لحديث جابر، وعنه: لا يجزئ أقل من عشر شياه، لأنهم يعدلونها في الغنيمة بعشر. و"من عليه سبع من الغنم أجزأ عنه بدنة أو بقرة"، لحديث جابر. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": لا يجزئ الخبز، واختار الشيخ الإجزاء، ويكون رطلين عراقية، كرواية في الظهار؛ قال: وينبغي أن يكون بإدام. وإن كان مما يؤكل من بُر أو شعير فهو أفضل. وإن أخر الهدي عن أيام النحر، فهل يلزمه دم؟ أو يلزمه مع عدم العذر، ولا يلزمه مع العذر؟ فيه روايتان: إحداهما: لا يلزم دم بحال سوى الهدي. قال أحمد: مكة ومنى واحد. وقال مالك: لا ينحر في الحج إلا بمنى، ولا في العمرة إلا بمكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 باب جزاء الصيد وهو ضربان: (أحدهما) : ما له مثل من النَّعم، فيجب مثله. وهو نوعان: أحدهما: ما قضت فيه الصحابة، ففيه ما قضت، وهو قول الأكثر. وقال أبو حنيفة: تجب القيمة، ويجوز صرفها إلى المثل، لأن الصيد ليس بمثليّ. ولنا: الآية، "وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع كبشاً"، وأجمع الصحابة على المثل. فقال عمر وعلي وغيرهما: "في النعامة بدنة، وحكما في الظبي بشاة، وحكم عمر في حمار الوحش ببقرة، وحكموا في الحمامة بشاة"، وهي التي لا تبلغ قيمتها. وما قضت فيه الصحابة يجب فيه ما قضت به، وبه قال الشافعي. وقال مالك: يستأنف الحكم، لقوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} . 1 ولنا: حكم الصحابة، فالذي بلغنا عنهم في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وعنه: بدنة. وروي عن أبي عبيدة وابن عباس: "وفي بقرة الوحش بقرة، والأيل فيه بقرة، قاله ابن عباس. والأروى فيها بقرة، قاله ابن عمر. وفي الضبع كبش، وفي الغزال شاة، وفي الأرنب عناق، قضى بذلك عمر. واليربوع جفرة، وفي الضب جدي، قضى به عمر وزيد. وعنه: شاة، لأنه قول جابر وعطاء"، والأول أولى. وقال عمرو بن دينار:   1سورة المائدة آية: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ما سمعنا أن الضب واليربوع يوديان، واتباع الآثار أولى. والجفرة: التي لها أربعة أشهر من المعز وقيل التي فطمت ورعت، وفي الحمام شاة. الثاني: ما لم تقض فيه الصحابة، فيرجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة، يحكمان فيه بأشبه الأشياء به من النعم. ويجب في كل واحد من الصغير والكبير والصحيح والمعيب مثله. وقال مالك: لا يجزئ إلا كبيراً صحيحاً، لقوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} . 1 ولنا: أنه مقيد في الآية بالمثل، و"قد أجمع الصحابة على إيجاب ما لا يصلح هدياً، كالجفرة". (الضرب الثاني) : ما لا مثل له، وهو سائر الطير، فيجب فيه قيمته، إلا ما كان أكبر من الحمام، فهل تجب القيمة أو شاة؟ ولا خلاف في وجوب ضمان الصيد من الطير، إلا ما حكى عن داود: ما كان أصغر من الحمام لا يضمن، لأن الله قال: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} . 2 ولنا: عموم قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} الآية. 3 وقد قيل في قوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} : 4 يعني: الفرخ والبيض وما لا يقدر أن يفر، {وَرِمَاحُكُمْ} : 5 يعني: الكبار. و"حكم عمر في الجراد بجزاء"، ودلالة الآية على وجوب جزاء غيره لا يمنع من الجزاء في هذا بدليل آخر. وما كان أكبر من الحمام، فعن ابن عباس: "فيه شاة"، وقيل: قيمته، وهو مذهب الشافعي. وكلما قتل صيداً حكم عليه، وعنه: "لا يجب إلا في المرة الأولى". وروي عن ابن عباس، وبه قال الحسن   1سورة المائدة آية: 95. 2سورة المائدة آية: 95. 3سورة المائدة آية: 95. 4سورة المائدة آية: 94. 5سورة المائدة آية: 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وشريح وغيرهم. ولنا: أنها لا تمنع الوجوب، بدليل قوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} الآية. 1 وقد ثبت أن العائد لو انتهى كان له ما سلف، وأمره إلى الله. قال أحمد: إذا قتل القارن صيداً فعليه جزاء واحد، وهؤلاء يقولون: جزاءان، فيلزمهم أن يقولوا: في صيد الحرم ثلاثة.   1سورة البقرة آية: 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 باب صيد الحرم الأصل في تحريمه: النصُّ والإجماع، ويضمن بمثله كالإحرام. وعن داود: لا جزاء فيه، لأنه لم يرو فيه نص. ولنا: "أن الصحابة قضوا في حمام الحرم بشاة"، ولم ينقل عن غيرهم خلاف. وللصوم مدخل فيه عند الأكثرين، خلافا لأبي حنيفة. وكل ما يضمن في الإحرام يضمن في الحرم، إلا القمل، فإنه يباح في الحرم بغير خلاف. وأجمعوا على تحريم قطع شجر الحرم البري الذي لم ينبته الآدمي، وعلى إباحة الإذخر، وما أنبته الآدمي من البقول والزرع والرياحين، حكاه ابن المنذر. وما أنبته من الشجر فقيل: له قلعه من غير ضمان، وقال الشافعي: الجزاء بكل حال، أنبته الآدمي أو نبت بنفسه، لعموم قوله: "لا يُعضد شجرها". 1 ويحرم قطع الشوك والعوسج، وعن الشافعي: لا يحرم، لأنه يؤذي، أشبه السباع. ولنا: قوله: "لا يُعضد شجرها"، 2 وفي لفظ: "لا يُختلى شوكها". 3 ولا بأس بقطع اليابس من الشجر والحشيش، لأنه بمنزلة الميت، ولا يقطع ما انكسر ولم يبِن، لأنه قد تلف. ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقلع من الشجر بغير فعل آدمي، ولا فيما سقط، ولا نعلم فيه خلافاً، لأن الجزاء إنما ورد في القطع؛ وأما إذا قطعه الآدمي، فقال أحمد: من شبهه بالصيد لم ينتفع بحطبها، وليس له أخذ ورق الشجر. وقال الشافعي: له أخذه. ولنا: قوله: "لا يُخبط   1 البخاري: العلم (112) , ومسلم: الحج (1355) , وأبو داود: المناسك (2017) , وأحمد (2/238) , والدارمي: البيوع (2600) . 2 البخاري: العلم (112) , ومسلم: الحج (1355) , وأبو داود: المناسك (2017) , وأحمد (2/238) , والدارمي: البيوع (2600) . 3 البخاري: العلم (112) , ومسلم: الحج (1355) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 شوكها، ولا يُعضد شجرها". 1 رواه مسلم. وفي رعي الحشيش وجهان: أحدهما: لا يجوز، وهو مذهب أبي حنيفة. والثاني: يجوز، وهو مذهب الشافعي، لأن الهدايا لم ينقل سدّ أفواهها. ويباح أخذ الكمأة منه، لأنه يشبه الثمرة. ويجب ضمان شجر الحرم وحشيشة [وبه قال الشافعي] . 2 وقال مالك: لا يضمن. قال ابن المنذر: لا أجد دلالة أوجب بها في شجر الحرم فرضاً من كتاب الله ولا سنة ولا إجماع، وأقول كما قال مالك: يستغفر الله تعالى. ويكره إخراج تراب الحرم وحصاه، "لأن ابن عمر وابن عباس كرهاه"، ولا يكره إخراج ماء زمزم. وصيد المدينة وشجرها وحشيشها حرام، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يحرم، لأنه لو حرم لبين بياناً عاماً ولوجب فيه الجزاء. ولنا: حديث علي وابن زيد وأبي رافع وأبي هريرة، متفق عليه. رواه مسلم عن سعد وجابر وأنس؛ وهذا يدل على تعميم البيان، وليس هو في الدرجة دون أخبار تحريم الحرم. وقد أثبتوه على أنه ليس بممتنع أن بينه بياناً خاصاً أو بينه بياناً عاماً، فبنقل خاص كصفة الأذان والوتر والإقامة. ويفارق حرم مكة في شيئين: أحدهما: أنه يجوز أخذ ما تدعو الحاجة إليه، من المساند والوسائد والرحل، ومن حشيشها ما يحتاج إليه للعلف، لما روى أحمد عن جابر: أنه لما حرّم المدينة قالوا: يا رسول الله، إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح، وإنا لا نستطيع أرضاً غير أرضنا، فرخص لنا. فقال: "القائمتان والوسادة والعارضة والمسند، فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيئاً". قيل: المسند: مردود البكرة. وفي حديت علي: "إلا أن يعلف رجل بعيره". رواه أبو داود،   1 البخاري: العلم (112) وفي اللقطة (2434) والديات (6880) , ومسلم: الحج (1355) . 2 ما بين القوسين ساقط من الطبعة السلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الثاني: أن من صاد صيداً خارجه، ثم أدخله إليها، يلزمه إرساله، لقوله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ "، 1 وهو طائر صغير. ولا جزاء في صيد المدينة في قول الأكثر، وعنه: فيه الجزاء، وهو قول الشافعي في القديم، لقوله: "مثل ما حرّم إبراهيم مكة"، 2 وجزاؤه: إباحة سلب الفاعل لمن أخذه، لحديث سعيد، رواه مسلم. وإن لم يسلبه أحد، فلا شيء عليه إلا التوبة. وحدّ حرمها: ما بين ثور إلى عير، وهو ما بين لابتيها، وهو بريدٌ في بريد، كذا فسره مالك. ولا يحرم صيد وج ولا شجره، وقال أصحاب الشافعي: "يحرم"، للحديث؛ وقد ضعفه أحمد.   1 البخاري: الأدب (6129) , ومسلم: الآداب (2150) , والترمذي: الصلاة (333) والبر والصلة (1989) , وأبو داود: الأدب (4969) , وابن ماجة: الأدب (3720, 3740) , وأحمد (3/114, 3/119, 3/171, 3/188, 3/190, 3/201, 3/212, 3/222, 3/278, 3/288) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2893) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 باب دخول مكة "يستحب الاغتسال له"، لحديث ابن عمر، والمرأة كالرجل لقوله: "افعلي ما يفعل الحاج". 1 و"يستحب أن يدخل من أعلاها من ثنية كداء، ثم يدخل من باب بني شيبة"، لحديث ابن عمر وجابر. وإذا رأى البيت رفع يديه وكبّر، وقال: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، حيّنا ربنا بالسلام". رواه الشافعي عن ابن المسيب. وله عن ابن جريج أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: "اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً، ومهابة وبراً. وزد من شرفه ممن حجه واعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيما وبراً". و"يروى رفع اليدين عند رؤية عن ابن عمر وابن عباس"، وكرهه جابر وقال: "حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يفعله". رواه النسائي. و"يبتدئ بالطواف اقتداء به صلى الله عليه وسلم"، ولأنه تحية المسجد الحرام. فإن كان معتمراً بدأ بطواف العمرة، ولم يحتج لطواف القدوم. ومن دخله وقد قامت الصلاة اشتغل بها، وإن كان مفرداً أو قارناً بدأ بطواف القدوم، وهو سنة بغير خلاف. ويضطبع بردائه، فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر، وبه قال الشافعي وكثير من أهل العلم. وقال مالك: ليس بسنة، ولا يفعله في السعي، وقال الشافعي: يضطبع فيه. قال أحمد: ما سمعنا فيه شيئاً. ويبتدئ الطواف من الحجر، فيحاذيه   1 البخاري: الحيض (305) , وأحمد (6/273) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 بجميع بدنه، فإن حاذاه ببعضه احتمل أن يجزئه، ثم يستلمه ويقبّله؛ والاستلام: المسح باليد، لحديث عمر وابن عباس. فإن شق تقبيله استلمه وقبّل يده، لحديث ابن عباس. فإن شق عليه، استلمه بشيء في يده وقبّله، لحديث ابن عباس، رواه مسلم، وإلا قام بحذائه واستقبله بوجهه، وأشار إليه وكبّر. فإن أمكنه استلامه بعصا ونحوها فعل. ويقول عند استلامه ما روى ابن السائب: أنه صلى الله عليه وسلم قال عند استلامه: "بسم الله والله أكبر. إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم"؛ 1 يقول ذلك كلما استلمه. فإذا أتى على الركن اليماني استقبله وقبّل يده، ولا يقبّله، وهو قول أكثر أهل العلم. قال ابن عبد البر: أهل العلم يرون تقبيل الأسود دون اليماني، وأما استلامهما فأمر مجمع عليه. وأما العراقي والشامي فلا يسن استلامهما في قول الأكثر. ويجب الطواف سبعاً، ويرمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر، وهو: إسراع المشي مع تقارب الخطا من غير وثب. وهو سنة في الأشواط الثلاثة من طواف القدوم وطواف العمرة للمتمتع، لا نعلم فيه خلافاً. ويمشي أربعة. وقال طاووس وعطاء: يمشي ما بين الركنين، "لأمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، وهذا في عمرة القضية، ورمل في حجة الوداع من الحجر إلى الحجر". فإن ترك الرمَل في شوط من الثلاثة أتى به في الاثنين الباقيين، ومن تركه في الاثنين أتى به في الثالث كذلك. قال الشافعي: وإن نسيه لم يعده، وإن تركه عمداً لم يلزمه شيء به. وقال عامة العلماء وحكي عن الثوري: أن عليه دماً، لأنه نسك، وجاء: "من ترك نسكاً فعليه دم"، والحديث عن ابن عباس، وقد قال: "من ترك الرمَل فلا شيء عليه"، ثم قد خص بالاضطباع. ويستحب الدنو من البيت،   1 الترمذي: الأضاحي (1521) , وأبو داود: الضحايا (2810) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 فإن كان قربه زحام فظن أنه إذا وقف لم يؤذ أحداً وتمكن من الرمل، وقف ليجمع بين الرمل والدنو من البيت. وإن لم يظن ذلك، وظن أنه إذا كان في حاشية الناس تمكن من الرمَل فعَل، وكان أولى من الدنو. وإن لم يتمكن أو يختلط بالنساء، فالدنو أولى. ويطوف كيفما أمكنه، فإذا وجد فرجة رمَل فيها، وإن تباعد من البيت، أجزأه ما لم يخرج من المسجد، لحديث أم سلمة. وكلما حاذى الحجر والركن اليماني استلمهما وأشار إليهما، ويقول كلما دنا من الحجر: "لا إله إلا الله، والله أكبر. إيماناً بك"، لقول ابن عمر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر كل طوفة". 1 رواه أبو داود. فإن شق استلامهما أشار إليهما، لحديث ابن عباس. وكلما أتى الركن أشار إليه بيده وكبّر. ويقول بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} الآية، 2 لحديث ابن السائب: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقوله بينهما. ويدع الحديث إلا ذكر الله، لقوله: "الطواف بالبيت صلاة، فمن تكلّم فلا يتكلّم إلا بخير". 3 ولا بأس بقراءة القرآن، وعنه: يكره، وروي عن الحسن ومالك. والمرأة كالرجل في البداءة بالطواف وفيما ذكر، إلا أنها إذا قدمت مكة نهاراً ولم تخش حيضاً استحب لها تأخير الطواف إلى الليل لأنه أستر. ولا تزاحم الرجال لتستلم الحجر.، قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا رمَل عليهن بين الصفا والمروة، لأن الأصل فيه إظهار الجلد، ولا يقصد ذلك من النساء، إنما يقصد منهن الستر، وليس عليهن اضطباع. وليس على أهل مكة رمل ولا اضطباع، قال أحمد: ليس عليهم رمل البيت ولا بين الصفا والمروة،   1 أبو داود: المناسك (1876) . 2 سورة البقرة آية: 201. 3 النسائي: مناسك الحج (2922) , وأحمد (3/414, 4/64) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وليس في غير هذا الطواف رمل ولا اضطباع. ويصح طواف الراكب لعذر بغير خلاف، وإن كان لغير عذر فعنه: لا يجزئ، لقوله: "الطواف بالبيت صلاة". 1 والثانية: يجزئه وعلية دم. والثالثة: يجزئ بغير دم، وهو مذهب الشافعي وابن المنذر، وقال: لا قول لأحد مع فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. والطواف راجلاً أفضل بغير خلاف، لفعله صلى الله عليه وسلم في غير تلك المرة، ولفعل أصحابه، و"حديث أم سلمة يدل على المشي إلا لعذر"، فأما السعي محمولاً وراكباً فيجزيه، ولو لغير عذر. والطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحته، وبه قال مالك والشافعي. وعنه: ليس شرطاً بل يجبر بدم. وقال أبو حنيفة: ليس شيء من ذلك شرطاً. ولنا: قوله: "لا يطوف بالبيت عريان"، 2 وقوله: "غير ألا تطوفي بالبيت". 3 وإن شك في عدد الطواف بني على اليقين، ذكره ابن المنذر إجماعاً. وإذا أقيمت الصلاة المكتوبة قطع الطواف، فإذا صلى بنى على طوافه، قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً خالف فيه، إلا الحسن، فإنه قال: يستأنف. وكذا الحكم في الجنازة إذا حضرت. وحكم السعي حكم الطواف فيما ذكرنا، وهو قول الشافعي وأبي ثور وعطاء، ولا نعلم عن غيرهم خلافاً. و"يستحب أن يصلي بعده ركعتين خلف المقام، يقرأ فيهما بسورة "الإخلاص""، لحديث جابر؛ وحيث ركعهما ومهما قرأ فيهما أجزأه، "لأن عمر ركعهما بذي طوى. ولما طافت أم سلمة لم تصلّ حتى خرجت". ولا بأس أن يصليهما إلى غير سترة. و"كان ابن الزبير يصلي والطواف بين يديه، فتمر المرأة فينتظرها حتى ترفع رجلها، ثم يسجد". وهما سنة مؤكدة، وبه قال مالك. وللشافعي قولان: أحدهما: الوجوب. ولنا: قوله: "لا. إلا أن تطوّع". "فإن صلى المكتوبة بعده   1 النسائي: مناسك الحج (2922) , وأحمد (3/414, 4/64) . 2 البخاري: الصلاة (369) , ومسلم: الحج (1347) , والنسائي: مناسك الحج (2957, 2958) , وأبو داود: المناسك (1946) , وأحمد (2/299) , والدارمي: الصلاة (1430) . 3 البخاري: الحيض (294) , والنسائي: الحيض والاستحاضة (348) ومناسك الحج (2741) , وأبو داود: المناسك (1782) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 أجزأت عنهما"، روي عن ابن عباس. وعنه: يصليهما بعد المكتوبة، وبه قال مالك. "ولا بأس أن يجمع بين الأسابيع، ثم يركع لكل أسبوع ركعتين، فعلته عائشة والمسور"، و"كرهه ابن عمر ومالك، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله". فإذا ركع ركعتي الطواف وأراد الخروج إلى الصفا عاد إلى الحجر فاستلمه، لفعله صلى الله عليه وسلم، وكذلك استحبه مالك والشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً. ثم يخرج إلى الصفا من بابه، ويسعى سبعاً. و"يبدأ بالصفا فيرقى عليه حتى يرى البيت فيستقبله"، لحديث جابر، ويدعو بما في حديثه. قال أحمد: ويدعو بدعاء ابن عمر. فإن لم يرق على الصفا، فلا شيء عليه. وحكم المرأة حكم الرجل، إلا أنها لا ترقى لئلا تزاحم الرجال. ثم ينزل فيمشي حتى يأتي العلَم فيسعى سعياً شديداً إلى العلَم الآخر. ثم يمشي حتى يأتي المروة، فيفعل عليها ما فعل على الصفا. ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه. يفعل ذلك سبعاً، ويكثر من الدعاء والذكر، لحديث: "إنما جُعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله ". 1 صححه الترمذي. والرمَل في السعي سنة، لا شيء على تاركه. ويستحب أن يسعى طاهراً مستتراً متوالياً، وعنه: أن ذلك شرط، والأول قول أكثر أهل العلم، لقوله: "افعلي ما يفعل الحاج، غير ألاّ تطوفي بالبيت". 2 وإن سعى قبل الطواف لم يصح، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وعنه: يجزيه إن نسي، لقوله في التقدم والتأخر: "لا حرج". ولا تجب الموالاة بين الطواف والسعي، قال عطاء: لا بأس أن يطوف أول النهار ويسعى آخره. فإذا فرغ المتمتع قصّر من شعره أو حلق وتحلل، إلا إن كان معه هدي، فيقيم على إحرامه. وعنه: له التقصير من شعره خاصة، لحديث معاوية. وقال مالك: له التحلل ونحر هديه عند   1 الترمذي: الحج (902) , وأبو داود: المناسك (1888) , وأحمد (6/64, 6/75, 6/138) , والدارمي: المناسك (1853) . 2 البخاري: الحيض (305) , وأحمد (6/273) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 المروة. ولنا: حديث ابن عمر وعائشة وغيرهما. وعنه فيمن قدم متمتعاً في أشهر الحج وساق الهدي قال: إن دخلها في العشر لم ينحر الهدي إلا يوم النحر، وإن قدم قبل العشر نحر الهدي، وبه قال عطاء، وقال: من لبد أو ضفر فهو بمنزلة من ساق الهدي، لحديث حفصة، والأول أولى، للأحاديث الصحيحة الصريحة. فأما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل، سواء كان معه هدي أو لم يكن، في أشهر الحج أو غيرها، "لأنه صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر، عمرته التي مع حجته، بعضهن أو كلهن في ذي القعدة، وكان يحل". فإن كان معه هدي نحره عند المروة، وحيث نحره من الحرم جاز، لقوله: "فجاج مكة كلها طريق ومنحر". 1 رواه أبو داود. والمستحب للمتمتع إذا حل: التقصير ليؤخر الحلق إلى الحج، ولم يأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه إلا به، فقال في حديث جابر: "حلّوا من إحرامكم بطواف، وقصِّروا"، 2 وفي حديث ابن عمر: "من لم يكن معه هدي، فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة، وليقصّر وليحلل". متفق عليه. وإن حلق جاز، لأنه أحد النسكين. فإن ترك الحلق والتقصير، فعليه دم. فإن وطئ قبله فعليه دم، وبه قال مالك وأصحاب الرأي. وحكي عن الشافعي: أن عمرته تفسد. ولنا: قول ابن عباس فيمن وقع عليها زوجها معتمرة، قبل أن يقصر: "من ترك شيئاً من مناسكه أو نسيه، فليهرق دماً". والمتمتع يقطع التلبية إذا وصل البيت، وبه قال ابن عباس والشافعي. وعن ابن عمر: "إذا وصل الحرم". ولنا: حديث ابن عباس: "كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر". صححه الترمذي.   1 أبو داود: المناسك (1937) , وابن ماجة: المناسك (3048) , والدارمي: المناسك (1879) . 2 البخاري: الحج (1568) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": إذا رأى البيت رفع يديه وكبر ويدعو، وعند الشيخ: لا. فإذا حاذى الحجر أو بعضه ببعض بدنه، لم يجزه عن ذلك الشوط، وقيل: يجزئ، اختاره الشيخ. ويستحب استقبالُ الحجر بوجهه، قال الشيخ: هو السنة. ويجعل البيت عن يساره، قال الشيخ: تكون الحركة الدورية يعتمد فيها اليمنى على اليسرى، فلما كان الإكرام ذلك للخارج جعل اليمنى. قوله: ويقول كلما حاذى الحجر: "الله أكبر، ولا إله إلا الله"، وقيل: يكبّر فقط. وقال الشيخ: تستحب القراءة فيه لا الجهر، قال: وليس له القراءة إذا أغلط المصلين، وقال: جنس القراءة أفضل من جنس الطواف. وقال أحمد في الرد على أبي حنيفة: "طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعيره"، 1 وقال: هو إذا حمل فعليه دم. قوله: أو شاذروان الكعبة، وعند الشيخ: أنه ليس من الكعبة، بل جعل عماداً للبيت. وعنه: يصح الطواف من حائض، ويجبر بدم. واختار الشيخ: الصحة فيها، ومن كل معذور، وأنه لا دم على واحد منهم. ولا يشرع تقبيل المقام ولا مسحه، قال في الفروع: إجماعاً. نقل الفضل: يكره مسّه وتقبيله.   1 البخاري: الطلاق (5293) , ومسلم: الحج (1272) , والنسائي: المساجد (713) ومناسك الحج (2954) , وأبو داود: المناسك (1877) , وابن ماجة: المناسك (2948) , وأحمد (1/214, 1/237, 1/264, 1/304) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 باب صفة الحج الأولى أن نبدأ بحديث جابر في صفة حجه صلى الله عليه وسلم، ونقتصر منه على ما يخص هذا الباب، وهو صحيح رواه مسلم. وفي أثنائه: "فحلّ الناس كلهم وقصّروا، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي. فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمسُ، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة". ثم ذكر الحديث. قال عطاء: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل منى بالخيف". وسمي يوم الثامن يوم التروية، لأنهم يتروون من الماء فيه ليوم عرفة. "والمستحب لمن كان بمكة من أهلها وغيرهم وهم حلال، أن يحرموا يوم التروية حين يتوجهون إلى منى، وبه قال ابن عباس وابن عمر"، وعن عمر أنه قال لأهل مكة: "إذا رأيتم الهلال، فأهلّوا بالحج"، وقاله ابن الزبير. قال مالك: أحب لمن كان بمكة أن يهلّ من المسجد لهلال ذي الحجة. ولنا: حديث جابر، وفي بعض ألفاظه: "أُمرنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى". 1 رواه مسلم. والأفضل أن يحرم من مكة، لقوله في المواقيت: "حتى أهل مكة يهلّون منها". 2 ومن أيها أحرم جاز، للحديث. وإن أحرم خارجاً منها من الحرم جاز، لقول جابر: "فأهللنا من الأبطح"، ولأن المقصود: الجمع في النسك بين الحل والحرم. ويفعل ما يفعل عند الإحرام من الميقات من الغسل والتنظف،   1 مسلم: الحج (1214) . 2 البخاري: الحج (1526) , ومسلم: الحج (1181) , وأحمد (1/238, 1/252) , والدارمي: المناسك (1792) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ويتجرد عن المخيط. ويطوف سبعاً ويصلي ركعتين ثم يحرم عقيبهما. وممن استحبه: عطاء ومجاهد. ولا يسن أن يطوف بعد إحرامه، قال ابن عباس: "لا أرى لأهل مكة أن يطوفوا بعد أن يحرموا بالحج، ولا أن يطوفوا بين الصفا والمروة، حتى يرجعوا"، وهذا مذهب مالك وإسحاق. وإن فعل لم يجزئ عن السعي الواجب، وبه قال مالك. وقال الشافعي: يجزئه، "فعَله ابن الزبير لأنه سعى في الحج مرة فأجزأه". ولنا: أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بما تقدم، ولو شرع لهم الطواف لم يتفقوا على تركه. وقالت عائشة: "فطاف الذين أهلّوا بالعمرة وبين الصفا والمروة، ثم حلّوا. ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى". و"يستحب أن يخرج كما ذكرنا، فيصلي ثم يقيم بها حتى يصلي الصلوات الخمس، ويبيت بها"، كما في حديث جابر، وهذا قول مالك والشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً. ولا يجب ذلك عند الجميع. "وقد تخلفت عائشة ليلة التروية حتى ذهب ثلثا الليل، وصلى ابن الزبير بمكة". فإن صادف يوم التروية جمعة، فمن كان مقيماً بمكة إلى الزوال ممن تجب عليه، لم يخرج حتى يصليها، ولأنها فرض والخروج في هذا الوقت ليس بفرض. فأما قبل الزوال، فإن شاء خرج وإن شاء أقام حتى يصلي، روي أنه وجد في أيام عمر بن عبد العزيز فخرج إلى منى. وقال عطاء: كل من أدركت يصنعونه إذا أدركتهم يجمع بمكة إمامهم ويخطب، ومرة لا يجمع ولا يخطب؛ فعلى هذا، إذا خرج الإمام، أمر من تخلف أن يصلي الجمعة بالناس. و"يستحب أن يدفع إلى الموقف من منى إذا طلعت الشمس، فيقيم بنمرة"، لما تقدم من حديث جابر. "فإذا زالت الشمس، استحب للإمام أن يخطب يعلّم الناس مناسكهم: من موضع الوقف ووقته والدفع والمبيت بمزدلفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وأخذ الجمار"، لحديث جابر. ثم يأمر بالأذان، فينزل فيصلي الظهر والعصر يجمع بينهما، ويقيم لكل صلاة. وقال أبو ثور: يؤذن إذا صعد الإمام المنبر، فإذا فرغ خطب، وقيل: يؤذن في آخر الخطبة، و"حديث جابر يدل على أنه أذن بعدها". وإن لم يؤذن للأولى فلا بأس، هكذا قال أحمد، لأن كلاً مروي عنه صلى الله عليه وسلم. وقال: مالك يؤذن لكل صلاة، واتباع السنة أولى. والسنة تعجيل الصلاة وتقصير الخطبة، لقول سالم للحجاج: "إن كنت تريد السنة، فقصِّر الخطبة وعجِّل الصلاة"، فقال ابن عمر: "صدق"، رواه البخاري، ولأن التطويل يمنع الرواح إلى الموقف في أول وقت الزوال، والسنة التعجيل في ذلك، لقول ابن عمر للحجاج. قال ابن عبد البر: هذا كله مما لا خلاف فيه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وكل من صلى معه. وذكر أصحابنا أنه لا يجمع إلا من بينه وبين وطنه مسافة قصر، والصحيح: الأول، فإنه صلى الله عليه وسلم جمع معه من حضر من المكيين، فلم يأمرهم بترك الجمع كما قال: " أتموا، فإنا قوم سفر". 1 فأما القصر فلا يجوز، وبه قال الشافعي. وقال مالك والأوزاعي: لهم القصر. ثم يروح إلى الموقف، وعرفة كلها موقف، إلا بطن عُرَنة. و"يستحب أن يغتسل للوقوف، لأن ابن مسعود فعله"، وبه قال الشافعي وابن المنذر. ويستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة راكباً، وقيل: الراجل أفضل. ويكثر من الدعاء، ومن قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير". ويختار المأثور من الأدعية، ويدعو بما أحب من الدعاء والذكر إلى الغروب. ولا نعلم خلافاً   1 مالك: النداء للصلاة (349) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 أن آخر وقت الوقوف: طلوع الفجر يوم النحر، وأما أوله: فمن طلوع الفجر يوم عرفة. وقال مالك والشافعي: أوله: وقت الزوال يوم عرفة. ولنا: قوله: "وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهارا ... إلخً". 1 وكيفما حصل بعرفة وهو عاقل أجزأه، ولو نائما أو مرَّ بها ولم يعرفها، وقال مالك والشافعي وأبو ثور: لا يجزئه، لأنه لا يكون واقفاً إلا بالإرادة، ومن وقف وهو مغمًى عليه أو مجنون أو لم يفق حتى خرج منها لم يجزئه، وبه قال الشافعي. وقال مالك في المغمى عليه: يجزئه. وتوقف أحمد فيها. والحسن يقول: بطل حجه. وعطاء لم يرخص فيه. وقال أحمد: يستحب أن يشاهد المناسك كلها على وضوء، ولا يجب ذلك، حكاه ابن المنذر إجماعاً، لحديث عائشة: " افعلي ما يفعل الحاج"، 2 ولا يشرط له سترة ولا استقبال ولا نية، لا نعلم فيه خلافاً. ومن دفع قبل الغروب فعليه دم، وقال مالك: لا حج له. قال ابن عبد البر: لا نعلم أحداً قال بقول مالك. وعن ابن جريج: عليه بدنة، ونحوه قول الحسن. ولنا: قول ابن عباس: "من ترك نسكاً فعليه دم". وإن دفع قبل الغروب ثم عاد نهاراً حتى غربت، فلا دم عليه، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو ثور: عليه دم. وإذا لم يأت بها 3 حتى غابت فوقف ليلاً، تم حجه ولا شيء عليه، لا نعلم فيه مخالفاًً، لقوله: "من أدرك عرفات بليل، فقد أدرك الحج". 4 "ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة وعليه السكينة، فإذا وجد فجوة أسرع"، لحديث جابر وأسامة. قال أحمد: لا يعجبني أن يدفع قبل الإمام. وسئل عن: رجل دفع قبل الإمام بعد غروب الشمس؟ فقال: ما وجدت عن أحد سهّل في الدفع قبله، كلهم يشدّدون فيه، ويكون ملبياً ذاكراً، لقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} الآية. 5 ويمضي على طريق المأزمين "لأنه صلى الله عليه   1 الترمذي: الحج (891) , والنسائي: مناسك الحج (3039) , وأبو داود: المناسك (1950) , وابن ماجة: المناسك (3016) , وأحمد (4/15, 4/261, 4/262) , والدارمي: المناسك (1888) . 2 البخاري: الحيض (305) , وأحمد (6/273) . 3 كذا في المخطوطة والمطبوعة ولعل صوابه: وإذا لم يأتها. 4 الترمذي: تفسير القرآن (2975) . 5 سورة البقرة آية: 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وسلم سلكها". والسنة أن لا يصلي المغرب إلا بمزدلفة، فيجمع بين المغرب والعشاء بغير خلاف. ويجمع قبل حط الرحال، ويقيم لكل صلاة إقامة. "وممن روي عنه الجمع بينهما بإقامتين بلا أذان: ابن عمر وسالم" والقاسم والشافعي وإسحاق. و"إن اقتصر على إقامة الأولى، فلا بأس؛ روي عن ابن عمر". و"إن أذن للأولى وأقام الثانية فحسن"، وهو في حديث جابر، وبه قال ابن المنذر، وقال: الأولى آخر قولي أحمد، لأنها رواية أسامة، وهو أعلم بحاله لكونه رديفة. وإنما لم يؤذن للأولى لأنها في غير وقتها، بخلاف المجموعتين بعرفة. وقال مالك: "يجمع بينهما بأذانين وإقامتين، روي عن عمر وابن مسعود"، واتباع السنة أولى. قال ابن عبد البر: لا أعلم فيما قال مالك حديثاً مرفوعاً. وقال قوم: "إنما أمر عمر بالتأذين للثانية، لأن الناس تفرقوا لعشائهم، وكذلك ابن مسعود، فإنه يجعل العشاء بمزدلفة بين الصلاتين"، والسنة أن لا يتطوع بينهما. قال ابن المنذر: لا يختلفون في ذلك. وإن صلى المغرب في الطريق ترك السنة وأجزأه، وبه قال مالك والشافعي. وقال الثوري: لا يجزئه، ولا نعلم خلافاً أنه إذا فاته الجمع مع الإمام بمزدلفة أنه يجمع وحده، وكذلك لو فرق لم يبطل الجمع لقوله: "ثم أناخ كل إنسان بعيره ثم صلى العشاء"، و"كذا إن فاته الجمع مع الإمام بعرفة بين الظهر والعصر، فعله ابن عمر"، وبه قال مالك والشافعي. وقال الثوري: له لا يجمع إلا مع الإمام. والمبيت بمزدلفة واجب، من تركه فعليه دم، وقال علقمة: فاته الحج، لقوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ، 1 ولقوله: "من صلى صلاتنا هذه ووقف معنا ... إلخ"، 2 ومنطوق الآية ليس بركن إجماعاً، فإنه لو بات ولم يذكر الله ولم يشهد الصلاة، صح حجه، وكذلك شهود صلاة   1 سورة البقرة آية: 198. 2 الترمذي: الحج (891) , والنسائي: مناسك الحج (3039, 3040, 3041, 3042, 3043) , وأبو داود: المناسك (1950) , وابن ماجة: المناسك (3016) , وأحمد (4/15, 4/261, 4/262) , والدارمي: المناسك (1888) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الفجر. فلو أفاض من عرفة آخر ليلة النحر أمكنه ذلك، فيتعين حمله على الإيجاب أو الفضيلة. ولا يدفع قبل نصف الليل، فإن فعل فعليه دم، وإن دفع بعده فلا شيء عليه، وبه قال الشافعي. وقال مالك: إن مرَّ فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم بات بها وقال: خذوا عني مناسككم". 1 وإنما"أبيح الدفع بعد النصف للرخصة الواردة"، لحديث ابن عباس وأم سلمة، وإن عاد فدفع بعد النصف فلا دم عليه، كالعائد إلى عرفة نهاراً. ويجب الدم على من دفع قبل النصف، وعلى من ترك المبيت بمنى، عمداً أو سهواً، عالماً أو جاهلاً، لأنه أرخص لأهل السقاية والرعاية في ترك البيتوتة. فلو وافاها بعد نصف الليل فلا دم عليه، وإن جاء بعد الفجر فعليه دم. والمستحب: "الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، والمبيت إلى أن يصبح، ثم يقف حتى يسفر". ولا بأس بتقديم الضعفة، "وممن كان يقدم ضعفة أهله عبد الرحمن بن عوف، وعائشة"، ولا نعلم فيه خلافاً. ويستحب أن يعجل صلاة الفجر ليتسع وقت الوقوف عند المشعر الحرام، "ثم يأتي المشعر الحرام فيقف عنده أو يرقى عليه إن أمكنه، فيذكر الله تعالى ويجتهد إلى أن يسفر"، لحديث جابر، ولا نعلم خلافاً في استحباب الدفع من قبل طلوع الشمس. وكان مالك يرى الدفع من قبل الإسفار. ولنا: حديث جابر. و"يستحب أن يسير وعليه السكينة، فإذا بلغ محّسراً أسرع قدر رمية بحجر"، لحديث جابر. ويلبي في طريقه، لأنه من شعائر الحج، ولا ينقطع إلا بالشروع في الإحلال، وأوله رمي جمرة العقبة. ثم يأخذ الحصى من طريقه أو من مزدلفة، ومن حيث أخذه جاز، لئلا يشتغل عند قدومه بشيء قبل الرمي، لأنه تحية له كما أن الطواف تحية المسجد الحرام. ولا يبدأ بشيء قبله.   1 النسائي: مناسك الحج (3062) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 "وكان ابن عمر يأخذ من جمع"، واستحبه الشافعي. وقال أحمد: من حيث شاء، اختاره ابن المنذر، وهو أصح، لحديث ابن عباس: "القط لي حصى ... إلخ"، 1 وكان ذلك بمنى. ويستحب أن يكون كحصى الخذف، للخبر، ولقول جابر: "كل حصاة منها مثل حصى الخذف، فإن رمى بحجر كبير أو صغير أجزأه". وقال أحمد: لا يجوز حتى يأتي بالحصى على ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أمر بهذا القدر، ونهى عن مجاوزته؛ والأمر يقتضي الوجوب، والنهي يقتضي الفساد. وعنه: "يستحب غسله، لأنه مروي عن ابن عمر". وعنه: لا. وقال: لم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، وهذا هو الصحيح. وعدده: سبعون حصاة، يرمي بسبع منها يوم النحر، وباقيها في أيام منى، كل يوم بإحدى وعشرين. فإذا وصل إلى منى بدأ بجمرة العقبة فرماها بسبع، يكبّر مع كل حصاة. ويستحب سلوك الطريق التي تخرج على الجمرة الكبرى، لفعله صلى الله عليه وسلم، وفي حديث جابر: "فرماها بسبع يكبّر مع كل حصاة". 2 وإن رماها دفعة واحدة لم يجزه إلا عن واحدة، نصَّ عليه، وقال عطاء: يجزيه. ويكبّر لكل حصاة، ويرميها راجلاً وراكباً، وكيفما شاء، "لأنه صلى الله عليه وسلم رماها على راحلته، ولا يقف عندها"، لحديث ابن عمر. وقال نافع: "كان ابن عمر يرميها على راحلته يوم النحر، ولا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشياً ذاهباً وراجعاً"، رواه أحمد، وفيه التفريق بين هذه الجمرة وغيرها، لأنها مما يستحب البداءة به. ولا يسن عندها وقوف، فلو سن له المشي شغله النزول عن الابتداء بها. ولا يجزئه إلا أن يقع الحصى في المرمى، فإن وقع دونه لم يجزه،   1 النسائي: مناسك الحج (3057) . 2 البخاري: الحج (1750) , ومسلم: الحج (1296) , والترمذي: الحج (901) , والنسائي: مناسك الحج (3073) , وابن ماجة: المناسك (3030) , وأحمد (1/427, 1/430, 1/432, 1/456, 1/458) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 لا نعلم فيه خلافاً، وكذلك إن وضعها في المرمى في قول الجميع، لأنه مأمور بالرمي. ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي، وعن سعد وعائشة: "إذا راح إلى الموقف". وعن علي وأم سلمة: "أنهما يلبيان حتى تزول الشمس يوم عرفة". ويجزئ الرمي بكل ما يسمى حصى، وقال أبو حنيفة: يجزئ بالطين والمدر، وما كان من جنس الأرض. وعن سكينة بنت الحسين أنها رمت الجمرة ورجل يناولها الحصى، وسقطت حصاة فرمت بخاتمها. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالرمي بمثل حصى الخذف". وإن رمى بحصى أُخذ من المرمى لم يجزه. ولنا: أنه لو جاز لما احتاج أحد إلى أخذه من غير مكانه، لأن ابن عباس قال: ?"ما تُقبل منه رفع". ويرميها قبل طلوع الشمس، قال ابن عبد البر: أجمعوا: "أنه صلى الله عليه وسلم رماها ضحى ذلك اليوم"؛ ويجوز من نصف الليل، وبه قال عطاء والشافعي، وعنه: يجزئ بعد الفجر قبل طلوع الشمس، وبه قال مالك وأصحاب الرأي. وقال الثوري: لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس، لحديث ابن عباس. ولنا: قصة أم سلمة، احتج به أحمد وغيره محمول على الاستحباب. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب، فقد رماها في وقت لها. فإن أخرها إلى الليل، لم يرمها حتى تزول الشمس من الغد. وقال الشافعي وابن المنذر: يرمي ليلاً، لقوله عليه السلام: "ارم ولا حرج". 1 ولنا: أن ابن عمر قال: "من فاته الرمي حتى تغيب الشمس، فلا يرمي حتى تزول الشمس من الغد"، وقوله: "ارم ولا حرج"، في النهار، لأنه سأله يوم النحر، ولا يكون اليوم إلا قبل الغروب. وقال مالك: يرمي ليلاً وعليه دم، ومرة قال: لا دم عليه. ثم ينحر هدياً إن كان معه، ويحلق أو يقصر من جميع شعره، وعنه:   1 البخاري: العلم (83) , ومسلم: الحج (1306) , والترمذي: الحج (916) , وأبو داود: المناسك (2014) , وأحمد (2/159, 2/192, 2/202, 2/210, 2/217) , ومالك: الحج (959) , والدارمي: المناسك (1907) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 يجزئه بعضه. ويتولى النحر بيده، ويجوز أن يستنيب فيه. ويفرّقه على مساكين الحرم، ويقسم جلودها وجلالها، للخبر، ولأنه جعله لله. ويلزم الحلق والتقصير من جميع شعره، وكذلك المرأة، وبه قال مالك، وعنه: يجزئه بعضه. وقال الشافعي: يجزئه التقصير من ثلاث شعرات. وقال ابن المنذر: يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير. ولنا: قوله: {محلقين رؤوسهم} الآية، 1 "وحلق صلى الله عليه وسلم جميع رأسه"، 2 وتفسير المطلق الأمر به. وأي قدر قصر من الشعر أجزأه، قال أحمد: "يقصر قدر الأنملة"، وهو قول ابن عمر، وهو محمول على الاستحباب. قال ابن المنذر: أجمعوا على إجزاء التقصير، إلا أنه يروى عن الحسن إيجاب الحلق في الحجة الأولى، ولا يصح هذا: لقوله: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} . 3 والحلق أفضل، "لأنه صلى الله عليه وسلم فعله". وأما من لبّد أو عقص أو ضفر، فقال أحمد: من فعله حلق، وبه قال مالك والشافعى، لما روي مرفوعاً: "من لبّد فليحلقْ". وثبت عن عمر وابنه: "أنهما أمرا من لبّد بالحلق"، والصحيح: التخيير، إلا إن ثبت الخبر، وهو قول عمر وابنه، وخالفهما ابن عباس. والمرأة تقصر، حكاه ابن المنذر إجماعاً لأن حلقها مثلة. قال أحمد: نعم، تجمع شعرها إلى مقدم رأسها، ثم تأخذ من أطرافه قدر الأنملة. "والذي ليس على رأسه شعر، يستحب له إمرار الموسى على رأسه"، روي ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك والشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً. وحكاه ابن المنذر إجماعاً، وليس بواجب. وقال أبو حنيفة: يجب لقوله: "إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم ". 4 ولنا: أن الحلق   1سورة الفتح آية: 27. 2 البخاري: المغازي (4252) , وأحمد (2/124) . 3 سورة الفتح آية: 27. 4 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجة: المقدمة (2) , وأحمد (2/247, 2/258, 2/313, 2/355, 2/428, 2/447, 2/456, 2/467, 2/482, 2/495, 2/508, 2/517) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 محله الشعر، كالعضو إذا قُطع سقط غسله. ويستحب تقليم أظفاره، والأخذ من شاربه، قال ابن المنذر: ثبت "أنه صلى الله عليه وسلم لما حلق قلّم أظفاره". "وكان ابن عمر يأخذ من شاربه وأظفاره". وكان عطاء وغيره يحبون لو أخذ من لحيته شيئاً. وكان ابن عمر يقول للحالق: "ابلغ العظمين، وافصل الرأس من اللحية". وكان عطاء يقول: "من السنة إذا حلق أن يبلغ العظمين". ثم قد حل له كل شيء إلا النساء، وعنه: إلا الوطء في الفرج؛ والأول: قول عائشة وابن الزبير والشافعي. والثاني: يروى عن ابن عباس. وعن عمر: "يحل كل شيء إلا النساء والطيب لأنه من دواعي الوطء". وعن عروة: لا يلبس القميص ولا العمامة ولا يتطيب، وروي فيه حديث. ولنا: قول عائشة: "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت". 1 وعن سالم عن أبيه قال: قال عمر: "إذا رميتم وذبحتم وحلقتم، فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب. فقالت عائشة: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تُتّبع". رواه سعيد. وقال مالك: لا يحل النساء والطيب ولا قتل الصيد، لقوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} الآية، 2 وهذا حرام، وقد ذكرنا ما يردّ هذا، فإنه ليس بمحرم، وإنما بقي بعض أحكام الإحرام. والحلق والتقصير نسك، إن أخره عن أيام منى فهل يلزمه دم؟ وممن رآه نسكاً الثلاثة، وعنه: ليس بنسك، وإنما هو إطلاق من محظور، ووجهه: "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالحل من العمرة قبله"، لقول أبي موسى: "أمرني فطفت بالصفا والمروة فقال لي: أحلّ"، وفي حديث جابر: "من ليس معه   1 البخاري: الغسل (270) والحج (1539) واللباس (5928) , ومسلم: الحج (1189) , والنسائي: مناسك الحج (2684, 2685, 2686, 2688, 2691) , وأبو داود: المناسك (1745) , وابن ماجة: المناسك (3042) , ومالك: الحج (727) . 2 سورة المائدة آية رقم: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 هدي فليحلّ"، 1 والأول أصح، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر به، ولقوله: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ، 2 فلو لم يكن من المناسك لما وصفهم به كاللبس، ولأنه ترحّم على المحلقين ثلاثاً والمقصرين مرة، ولو لم يكن منسكاً لما دخله التفضيل كالمباحات، ولو لم يكن منسكاً لما داوموا عليه، بل لم يفعلوه إلا نادراً، لأنه لم يكن من عادتهم. وأما أمره بالحل فمعناه، والله أعلم، الحل بفعله، لأنه مشهور عندهم، ولا يمتنع الحل من العبادة بما كان محرما فيه، كالسلام في الصلاة. وإذا قلنا: إنه نسك جاز تأخيره إلى آخر أيام النحر، لأنه إذا جاز تأخير النحر فهو أولى. فإن أخره عن ذلك فلا دم عليه، وعنه: عليه دم. ولا فرق بين العامد والساهي، وقال مالك وغيره: من تركه حتى يحل فعليه دم، لأنه نسك، فوجب أن يؤتي به قبل الحل. ولنا: ما تقدم. وهل يحل قبله؟ فيه روايتان: إحداهما: إنما يحصل بالحلق والرمي معاً، وهو قول الشافعي، لقوله: "إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم كل شيء، إلا النساء" 3. والثانية: يحصل له التحلل بالرمي وحده، وهو قول مالك، لقوله: "إذا رميتم الجمرة، فقد حل لكم كل شيء، إلا النساء"، 4 وكذلك قال ابن عباس. وإن قدم الحلق على الرمي أو على النحر، جاهلاً أو ناسياً، فلا شيء عليه. والسنة: "أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف، لفعله صلى الله عليه وسلم". وقال أبو حنيفة: إن قدم الحلق على الرمي أو على النحر، فعليه دم. وإن فعله متعمداً، فقال عطاء وإسحاق: لا دم عليه، لإطلاق حديث ابن عباس وابن عمر من   1 أحمد (3/366) . 2 سورة الفتح آية: 27. 3 أبو داود: المناسك (1978) , وأحمد (6/143) . 4 النسائي: مناسك الحج (3084) , وابن ماجة: المناسك (3041) , وأحمد (1/234, 1/344) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 رواية ابن عيينة. وعنه: عليه دم، لقوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ؛ 1 والمطلق قد جاء مقيداً، فيحمل المطلق على المقيد. قال أبو عبد الله: أما المتعمد، فلا، لقول الرجل: لم أشعر. قيل له: ابن عيينة لا يقول: لم أشعر. قال: نعم، لكن مالكاً والناس عن الزهري: "لم أشعر" وهم في الحديث. وقال مالك: إن قدم الحلق على الرمي، فعليه دم. وإن قدّمه على النحر، أو النحر على الرمي، فلا شيء عليه، لأنه بالإجماع ممنوع من حلق شعره قبل التحلل الأول. فأما النحر قبل الرمي فجائز، لأن الهدي قد بلغ محله. ولنا: الحديث، فإنه لم يفرّق، ولا نعلم بينهم خلافاً أن مخالفاًت الترتيب لا تمنع الإجزاء، وإنما اختلفوا في الدم. فإن قدم الإفاضة على الرمي أجزأ طوافه، وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا يجزئه، يرمي ثم ينحر ثم يفيض. ولنا: ما روى عطاء: "أن رجلا قال: يا رسول الله أفضت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج"، 2 وعنه مرفوعاً: "من قدّم شيئاً من قبل شيء، فلا حرج". 3 رواهما سعيد. وفي حديث ابن عمر عند أبي داود والنسائي: "أفضت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج"؛ 4 فعلى هذا، لو وطئ قبل الرمي وبعد الإفاضة، لم يفسد حجه وعليه دم. فإن رجع إلى أهله ولم يرم، فعليه دم. ثم يخطب الإمام خطبة يعلّمهم النحر والإفاضة، وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا يخطب، لأنها في اليوم الذي قبله. ولنا: حديث ابن عباس. ثم يفيض ويطوف للزيارة ويعيّنه بالنية، وقال الشافعي: يجزئه وإن لم ينو الفرض. ولنا: قوله: "إنما الأعمال بالنيات"، 5 وهذا ركن لا يتم الحج إلا به بغير خلاف، لحديث صفية: "أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت، قال: اخرجوا". 6   1 سورة البقرة آية: 196. 2 مسلم: الحج (1306) , وأحمد (2/210) . 3 ابن ماجة: المناسك (3049) . 4 البخاري: العلم (124) , ومسلم: الحج (1306) , وأبو داود: المناسك (2014) , وأحمد (2/159, 2/202, 2/210) , ومالك: الحج (959) , والدارمي: المناسك (1907, 1908) . 5 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) والطلاق (3437) والأيمان والنذور (3794) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25, 1/43) . 6 البخاري: الحج (1757) , وأبو داود: المناسك (2003) , وابن ماجة: المناسك (3072) , وأحمد (6/38, 6/82) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وأول وقته: بعد نصف الليل ليلة النحر، ووقت الفضيلة: يوم النحر. وآخره: أيام التشريق، والصحيح أن آخر وقته غير محدود، لأنه متى أتى به صح بغير خلاف، وإنما الخلاف في وجوب الدم. ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً، أو لم يسع مع طواف القدوم. وإن سعى معه لم يسع، لأن السعي الذي سعاه المتمتع إن كان للعمرة فيشرع له أن يسعى للحج، وإن كان القارن والمفرد لم يسعيا مع طواف القدوم سعيا بعد طواف الزيارة، لأن السعي لا يكون إلا بعد الطواف، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسع إلا بعده. وإن كان قد سعى مع طواف القدوم لم يسع، لأنه لا يستحب التطوع به كسائر الأنساك، ولا نعلم خلافاً فيه. فإن لم يسع لم يحلّ إن قلنا: إنه ركن. وإن قلنا: إنه سنة، فهل يحل؟ على وجهين. قال الخرقي: يستحب للمتمتع إذا دخل مكة لطواف الزيارة، لأن المتمتع لم يأت به قبل ذلك؛ فإن الطواف الذي طافه في الأول طواف العمرة، وقد نص عليه في رواية الأثرم، قال: قلت لأبي عبد الله: إذا رجع المتمتع كم يسعى ويطوف؟ قال يطوف ويسعى لحجه، ويطوف طوافاً آخر للزيارة. عاودناه في هذا غير مرة، فثبت عليه. وكذا القارن والمفرد إذا لم يكونا أتيا مكة قبل يوم النحر، ولا طافا للقدوم، يبدآن بطواف القدوم قبل طواف الزيارة، ونص عليه أيضاً، واحتج بقول عائشة: "فطاف الذين أهلّوا بالعمرة، وبين الصفا والمروة، ثم أحلّوا. ثم طافوا طوافاً آخر بعد ما رجعوا من منى لحجهم. وأما الذين جمعوا الحج والعمرة، فإنما طافوا طوافاً واحداً"، فحمل أحمد أن طوافهم لحجهم هو طواف القدوم، قال شيخنا: لا أعلم أحداً وافق أحمد على هذا، بل المشروع طواف واحدٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 للزيارة، كمن دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة، فإنه يكتفي بها عن تحية المسجد، ولأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه الذين تمتعوا معه في حجة الوداع، ولا أمر به أحداً. وحديث عائشة دليل على هذا، فإنها قالت: "طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم"، وهذا هو طواف الزيارة، ولم تذكر طوافاً آخر. ولو كان هذا الذي ذكرته طواف القدوم، لكانت قد أخلت بذكر طواف الزيارة الذي هو ركن الحج الذي لا يتم إلا به، وذكرت ما يستغنى عنه: وعلى كل حال، فما ذكرت إلا طوافاً واحداً، فمن أين يستدل به على طوافين؟ وأطوفة الحج ثلاثة: طواف الزيارة، وهو ركن بغير خلاف. طواف القدوم، وهو سنّة. طواف الوداع، واجب في تركه دم. وقال مالك: على تارك طواف القدوم دم، ولا شيء على تارك طواف الوداع. وما زاد على هذه فنفل. ولا يشرع في حقه أكثر من سعي واحد بغير خلاف علمناه. ويستحب أن يدخل البيت ويكبّر في نواحيه، ويصلي فيه ويدعو. وقدم أهل العلم كلام بلال في صلاته على كلام أسامة، لأنه مثبت وأسامة ناف. وإن لم يدخله فلا بأس، "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدخله في عمرته"، ولقوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما دخلتها" 1. ويستحب أن يأتي زمزم ويشرب من مائها لما أحب، ويتضلع منه، لحديث رواه ابن ماجة. ثم يرجع إلى منى ولا يبيت ليالي منى إلا بها، وهو واجب؛   1 الترمذي: الحج (873) , وأبو داود: المناسك (2029) , وابن ماجة: المناسك (3064) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وبه قال مالك والشافعي. وعنه: ليس بواجب، روي عن الحسن. ووجه الأولى: "رخصه للعباس من أجل السقاية"، ففيه دليل على أنه لا رخصة لغيره. ويرمي الجمرات بها في أيام التشريق، كل جمرة بسبع: يبدأ بالأولى وهي أبعدهن من مكة، فيجعلها عن يساره ويرميها بسبع. ثم يتقدم قليلاً فيقف ويدعو الله ويطيل. ثم يأتي الوسطى ويجعلها عن يمينه ويرميها بسبع. ثم يتقدم قليلاً فيقف ويدعو الله. ثم يرمي جمرة العقبة بسبع، ويستبطن الوادي، ولا يقف عندها. ويستقبل القبلة في الجمرات كلها، لا نعلم في جميع ذلك خلافاً، إلا أن مالكاً قال: ليس بموضع لرفع اليدين. "ولا يرمي إلا بعد الزوال، فإن رمى قبله أعاد"، روي ذلك عن ابن عمر، وبه قال مالك والشافعي. ورخص إسحاق وأصحاب الرأي في الرمي قبله في يوم النفر، ولا ينفر إلا بعد الزوال. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم إنما رمى ذلك اليوم بعد الزوال". وأي وقت رمى بعد الزوال أجزأه، إلا أنه يستحب المبادرة حين الزوال. فإن ترك الوقوف عندها والدعاء، فلا شيء عليه. وعن الثوري: يطعم شيئاً، وإن أراق دماً فهو أحب إليَّ. والترتيب في الجمرات واجب، فإن بدأ بجمرة العقبة ثم الثانية ثم الأولى، أو بالوسطى لم تجزئه الأولى. وإن رمى القصوى ثم الأولى ثم الوسطى، أعاد القصوى وحدها؛ وبه قال مالك والشافعي. وقال عطاء: لا يجب الترتيب، لما روي: "من قدّم نسكاً بين يدي نسك، فلا حرج". ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم رتّبها وقال: خذوا عني مناسككم"، 1 والحديث إنما هو فيمن قدّم نسكا على نسك، لا فيمن قدّم بعض نسك على بعض. والأولى أن لا ينقص عن سبع حصيات، فإن نقص حصاة أو حصاتين، فلا بأس؛ ولا ينقص أكثر من ذلك. وعنه: إن رمى بست ناسياً، فلا شيء عليه؛ فإن تعمّد تصدّق بشيء.   1 النسائي: مناسك الحج (3062) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وعنه: أن السبع شرط، فإن أخل بحصاة واجبة من الأولى، لم يصح رمي الثانية حتى يكمل الأولى، لإخلاله بالترتيب. فإن أخر الرمي كله حتى رماه آخر أيام التشريق، أجزأه، ويرتبه بنيته. فإن أخّره عنها أو ترك المبيت بمنى في لياليه، فعليه دم. قال أحمد: قال بعضهم: ليس عليه دم. وقال إبراهيم: عليه دم! وضحك وقال: دم بمرة! تشدد بمرة! قيل: ليس إلا أن يطعم شيئاً؟ قال: نعم، يطعم تمراً أو نحوه. وليس على أهل سقاية الحاج ولا الرعاة مبيت بمنى، فإن غربت الشمس وهم بها لزم الرعاة المبيت؛ وأهل السقاية وأهل الأعذار كالمرضى. ومن خاف ضياع ماله ونحوهم كالرعاة، لأن الرخصة لهؤلاء تنبيه على غيرهم. ومن كان مريضاً أو محبوساً أو له عذر، جاز أن يستنيب من يرمي عنه، وبه قال الشافعي ومالك، إلا أنه قال: يتحرى المريض حين رميهم فيكبّر سبع تكبيرات. ومن تركه من غير عذر فعليه دم، وكذا من ترك جمرة واحدة؛ وبه قال الشافعي. وعنه: أن في كل حصاة دماً، وبه قال مالك والليث بن سعد. وعنه: في الثلاث دم، وبه قال الشافعي، وفيما دون ذلك في كل حصاة مد. ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى مع الإمام، لفعل الصحابة. ويخطب في الثاني من أيام التشريق خطبة يعلّمهم التعجيل والتأخير والوداع، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يستحب. ولنا: ما روى أبو داود عن رجلين من بني بكر: "أنه خطب في هذا اليوم، وهما عند راحلته" 1. وأجمعوا على أن من أراد الخروج من منى شاخصاً عن الحرم، أن له النفر بعد الزوال، في اليوم الثاني من أيام التشريق. فإن أحب الإقامة بمكة، فقال أحمد: لا يعجبني. وقال مالك في أهل مكة: من كان له عذر، فله أن يتعجل في   1 أبو داود: المناسك (1952) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 يومين، فإن أراد التخفيف عن نفسه من أمر الحج فلا. واحتج من ذهب إلى هذا بقول عمر: "من شاء من الناس أن ينفر في النفر الأول، إلا آل خزيمة، فلا ينفروا إلا في النفر الآخر". جعل أحمد وإسحاق معناه: أنهم أهل الحرم. وقول عامة العلماء: جوازه لكل أحد، للآي؛. قال عطاء: هي عامة، وكلام أحمد أراد به الاستحباب موافقة لعمر. وروى أبو داود عن يحيى بن يعمر، مرفوعاً: "أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه". 1 قال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه سفيان. وقال وكيع: هذا الحديث أم المناسك. "فإن غابت الشمس قبل خروجه من منى لم ينفر، ارتحل أو لم يرتحل"، وهذا قول عمر، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: له أن ينفر ما لم يطلع فجر اليوم الثالث، لأنه لم يدخل وقت الرمي. ولنا: الآية؛ فمن أدركه الليل فما تعجل في يومين. قال ابن المنذر: ثبت عن عمر أنه قال: "من أدركه المساء في اليوم الثاني، فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس". قال بعض أصحابنا: يستحب لمن نفر أن يأتي في المحصَّب - وهو الأبطح - فليصلّ به الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم يهجع يسيراً ثم يدخل مكة. و"كان ابن عمر يرى التحصيب سنة"، و"كان ابن عباس وعائشة لا يريانه سنّة". قال أحمد: ثياب الكعبة إذا نزعت يُتصدق بها، وقال: إذا أراد أن يستشفى بشيء من طيب الكعبة، فيأتي بطيب من عنده فيلزقه بالبيت، ثم يأخذه، ولا يأخذ من طيب البيت شيئاً، ولا يأخذ من تراب الحرم، ولا يدخل فيه من الحل. كذا قال ابن عمر وابن عباس. ولا يخرج من حجارة مكة إلى الحل، والخروج أشد؛ إلا ماء زمزم أخرجه كعب. قال أحمد: كيف لنا بالجوار بمكة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله إنك لأحب البقاع إلى   1 الترمذي: الحج (889) , والنسائي: مناسك الحج (3044) , وأبو داود: المناسك (1949) , وابن ماجة: المناسك (3015) , وأحمد (4/309, 4/335) , والدارمي: المناسك (1887) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت"، 1 وإنما "كره عمر المجاورة بمكة لمن هاجر منها". "وجابر بن عبد الله جاور بمكة بعد". وجميع أهل البلاد ليس بمنزلة من يهاجر. "وابن عمر كان يقيم بمكة". والمقام بالمدينة أحب إليَّ من المقام بمكة لمن قوي عليها، لأنها مهاجَر المسلمين. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصبر أحد على لأوائها وشدتها، إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة. ومن أتى مكة فأقام، فلا وداع عليه". 2 وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر، لم يسقط الطواف. ولنا: أنه غير مفارق، فيلزمه وداع، كمن نواها قبل حل النفر. وأما الخارج فلا يخرج حتى يودّع البيت بالطواف، وهو واجب يجب بتركه دم. وقال الشافعي: لا يجب بتركه شيء، لسقوطه عن الحائض. ولنا: أنه مأمور به، وسقوطه عن المعذور لا يوجب سقوطه عن غيره، كالصلاة. بل تخصيص الحائض بسقوطه، دليل على وجوبه على غيرها. ولا وداع على من منزله بالحرم، لأنهم كانوا أهل مكة. وإن كان منزله خارج الحرم قريباً منه، فعليه الوداع. وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر وأهل المواقيت: إنهم بمنزلة أهل مكة. ولنا: قوله: "لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده البيت". 3 فإن ودع ثم اشتغل بتجارة أو أقام، أعاد؛ وبه قال الشافعي ومالك. وقال أصحاب الرأي: إذا طاف الوداع أو تطوع بعد ما حل له النفر، أجزأه وإن أقام شهراً. ولنا: الحديث المتقدم. وإن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زاداً أو شيئاً لنفسه في طريقه، لم يعد، لأنه ليس بإقامة، ولا نعلم فيه خلافاً. فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج، أجزأ، وعنه: لا. ومن خرج قبل الوداع، فعليه الرجوع إن كان قريباً. وكان عطاء يرى الطائف قريباً. وقال الثوري: ما خرج من   1 الترمذي: المناقب (3925) , والدارمي: السير (2510) . 2 مسلم: الحج (1377) , والترمذي: المناقب (3918) , وأحمد (2/119) . 3 مسلم: الحج (1327) , وأبو داود: المناسك (2002) , وابن ماجة: المناسك (3070) , وأحمد (1/222) , والدارمي: المناسك (1932) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الحرم فهو بعيد. فأما إن ودع وخرج فقال أحمد: أحب إليَّ أن لا يدخل مكة إلا محرماً، وأن يودع البيت. والحائض والنفساء لا وداع عليهما ولا فدية، في قول عامة أهل العلم، و"كان زيد بن ثابت يرى لها الإقامة حتى تودع، ثم رجع". و"يستحب أن يقف المودع في الملتزم، فيلزمه ويلصق به صدره ووجهه ويدعو"، لحديث عبد الله بن عمر وعبد الله بن صفوان، رواهما أبو داود. قال أحمد: إذا ودع يقوم عند الباب إذا خرج، ويدعو. فإذا ولى فلا يلتفت. فإذا التفت رجع وودع؛ وهذا على الاستحباب، إذ لا نعلم لإيجابه دليلاً. فإن خرج قبل طواف الزيارة، رجع حراما حتى يطوف، لأنه ركن لا يتم الحج إلا به، ولا يحل من إحرامه حتى يفعله. فمتى لم يفعله لم ينفك من إحرامه ولو رفضه، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقال الحسن: يحج من العام القابل، ونحوه عن عطاء. وترْك بعض الطواف كترْكه كله، وبه قال مالك والشافعي. فإن ترك طواف الزيارة بعد الرمي، لم يبق محرماً إلا عن النساء خاصة. ومن أراد العمرة من أهل الحرم، خرج إلى الحل فأحرم منه وكان ميقاتاً له، لا نعلم فيه خلافاً، والأفضل من التنعيم. وعنه: كلما تباعد فهو أعظم للأجر. فإن أحرم من الحرم لم يُجْزئ، وينعقد وعليه دم. فإن خرج قبل الطواف ثم عاد، أجزأه، لجمعه بين الحل والحرم. فإن لم يفعل حتى قضى عمرته، صحت ثم يطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، ثم قد حل من عمرته. وتجزئ عمرة القارن. والعمرة من التنعيم عن عمرة الإسلام. لا نعلم خلافاً في إجزاء عمرة المتمتع. وعنه: أن عمرة القارن لا تجزئ، لإعمار عائشة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 من التنعيم، ولو أجزأت عمرة القارن لم يعمرها. "ولا بأس أن يعتمر في السنة مراراً"، روي عن علي وابن عمر وغيرهما. وكره العمرة في السنة مرتين: الحسن ومالك. ولنا: "أن عائشة اعتمرت في شهر مرتين بأمره صلى الله عليه وسلم"، ولقوله: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما". 1 فأما الإكثار من الاعتمار والموالاة بينهما، فلا يستحب في ظاهر قول السلف، والحق في اتباعهم. والوقوف بعرفة ركن إجماعاً، وكذا طواف الإفاضة لا خلاف فيه. وأما الإحرام، فعنه: أنه ركن، وعنه: ليس بركن، لحديث الثوري: "الحج عرفة". 2 وأما السعي، فعنه: أنه ركن، وهو قول عائشة ومالك والشافعي. وعنه: سنّة، روي عن ابن عباس وغيره. وقال القاضي: واجب يجب بتركه دم، وهو قول الثوري؛ وهذا أولى، لأن دليل من أوجبه دل على الوجوب، لأنه لا يتم الحج إلا به، وقول عائشة معارض بقول من خالفها من الصحابة. وواجباته سبعة: الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل، والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل، والمبيت بمنى، والرمي، والحلاق أو التقصير، وطواف الوداع. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": هل الحج ماشياً أفضل، أو راكباً، أو سواء؟ اختار الشيخ أن ذلك يختلف باختلاف الناس. ووقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة، وقيل: من الزوال يوم عرفة، اختاره الشيخ، وحكاه ابن عبد البر إجماعاً. ولو خاف فوات الوقوف إن صلى صلاة آمن، صلى صلاة خائف، اختاره الشيخ، ثم قد حل له كل شيء إلا النساء، قيل: وعقد النكاح. واختار الشيخ حل   1 صحيح البخاري: كتاب الحج (1773) , وصحيح مسلم: كتاب الحج (1349) , وسنن النسائي: كتاب مناسك الحج (2622, 2629) , وسنن ابن ماجة: كتاب المناسك (2888) , ومسند أحمد (3/447) , وموطأ مالك: كتاب الحج (776) . 2 الترمذي: الحج (889) , والنسائي: مناسك الحج (3044) , وأبو داود: المناسك (1949) , وابن ماجة: المناسك (3015) , وأحمد (4/309, 4/335) , والدارمي: المناسك (1887) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 العقد، وذكره عن أحمد. وقال الشيخ: لا يستحب للمتمتع أن يطوف للقدوم بعد رجوعه من عرفة قبل الإفاضة. قوله: ثم يسعى إن كان متمتعاً، وعنه: يكتفي بسعي عمرته، اختاره الشيخ. قال الزركشي: في ما قال الأصحاب: أنه يستقبل القبلة بعد جمرة العقبة: نظر، إذ ليس ذلك في الحديث. ويدفن بقية الحصى، وقيل: لا. وليس للإمام التعجيل لأجل من يتأخر، ذكره الشيخ. قال في الفروع: لو ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة، يتوجه جوازه، وإن خرج غير حاج، فظاهر كلام شيخنا: لا يودع. وقيل: لا يولي ظهره حتى يغيب، قال الشيخ: هذا بدعة مكروهة. والصحيح: كراهة الإكثار من العمرة والموالاة بينهما. قال في الفروع: يتوجه مرادهم: إذا عوض بالطواف وإلا لم يكره، خلافاً لشيخنا. وكره الشيخ الخروج من مكة للعمرة إذا كان تطوعاً، وقال: هو بدعة، "لأنه لم يفعله صلى الله عليه وسلم، ولا صحابي على عهده، إلا عائشة"، لا في رمضان ولا في غيره، اتفاقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 باب الفوات والإحصار من لم يدرك الوقوف حتى طلع الفجر يوم النحر، فاته الحج، لا نعلم فيه خلافاً؛ ويتحلل بطواف وسعي وحلاق، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي. وقال المزني: يمضي في حج فاسد، أي: يفعل أفعال الحاج. ولنا: أنه قول عمر وغيره من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف، ولأنه يجوز فسخه إلى العمرة من غير فوات، فمعه أولى. فيجعل إحرامه بعمرة. وعنه: لا يصير إحرامه بعمرة، بل يتحلل، وهو مذهب مالك والشافعي، لأن إحرامه انعقد بأحد النسكين فلم ينقلب إلى الآخر. وفي وجوب القضاء روايتان: إحداهما: يجب ولو تطوع، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي. والثانية: لا قضاء عليه، روي عن عطاء. ووجه الأولى: الحديث وإجماع الصحابة. وإذا قضى أجزأ القضاء عن الحجة الواجبة، لا نعلم فيه مخالفاًً. ويجب عليه الهدي، وهو قول مَن سمّينا من الصحابة والفقهاء، إلا أصحاب الرأي. فإن اختار البقاء على إحرامه إلى قابل، فله ذلك. ويحتمل أنه ليس له، وبه قال الشافعي، لظاهر الخبر وقول الصحابة. فإن كان قارناً حلَّ، وعليه مثل الذي فاته من قابل؛ وبه قال مالك والشافعي. ويحتمل أن يجزئه ما فعله عن عمرة الإسلام، وليس عليه إلا قضاء الحج، ويلزمه هديان لقرنه وفواته، وبه قال مالك والشافعي. وقيل: يلزمه ثالث، وليس بشيء. وإن أخطأ الناس فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأ، وإن أخطأ بعضهم فاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 الحج. ومن أحرم فحصره عدوٌّ ولم يكن له طريق إلى الحج، نحر هديه في موضعه وحل، لا خلاف، إلا أنه حكي عن مالك: أن المعتمر لا يتحلل، لأنه لا يخاف الفوات، ولا يصح ذلك، لأن الآية نزلت في عمرة الحديبية، وعلى من تحلل بالإحصار الهدي في قول الأكثر. وعن مالك: لا هدي عليه، لأنه لم يفرط. ولنا: قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} . 1 وقال الشافعي: لا خلاف أنها نزلت في حصر الحديبية. فإن أمكنه الوصول من طريق أخرى، لم يتحلل ولو خشي الفوات، لأنه إن فاته تحلل بعمرة. وليس له التحلل قبل ذبح الهدي؛ فإن كان معه ذبحه، وإلا لزمه شراؤه إن أمكنه. ويجزئ شاة أو سُبع بدنة. وله نحره في حل أو حرم، وبه قال مالك والشافعي. فإن قدر على أطراف الحرم، فقيل: يلزمه نحره فيه، وقيل: ينحره في موضعه، لفعله صلى الله عليه وسلم. وإن كان مفردًا أو قارناً، فله التحلل وقت حصره. وعنه: لا يحل، ولا ينحره إلا يوم النحر، لأن للهدي محل زمان ومكان. قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه: أن من يئس أن يصل إلى البيت، فجاز له الحل فلم يحل حتى خلا سبيله، ألا عليه أن يقضي مناسكه. وإن زال بعد فوات الحج، تحلل بعمرة. فإن فات الحج قبل زوال الحصر، تحلل بهدي. فإن لم يجد، صام عشرة أيام ثم حل؛ وبه قال الشافعي في أحد قوليه. وقال مالك: لا بد له، لأنه لم يذكر. وهل يلزمه الحلق مع الهدي؟ فعنه: لا، وعنه: بلى، لفعله صلى الله عليه وسلم. وفي وجوب القضاء على المحصر روايتان: إحداهما: لا يجب، وبه قال مالك والشافعي. والثانية: بلى، روي عن مجاهد وغيره، لفعله صلى الله عليه وسلم عمرة القضية. ووجه الأولى: "أن الذين اعتمروا معه   1 سورة البقرة آية: 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 صلى الله عليه وسلم كانوا دون أولئك، ولم ينقل أنه أمر بالقضاء"؛ وإنما سميت عمرة القضية أي: التي تقاضوا عليها. فإن صد عن عرفة دون البيت، تحلل بعمرة ولا شيء عليه، وبه قال الشافعي. وقال مالك: يخرج إلى الحل، فيفعل ما يفعل المعتمر. وإن أُحصر عن البيت بعد الوقوف، تحلل، لأن الحصر يفيد التحلل من الجميع، فكذا التحلل من البعض. و"من أُحصر لمرض أو ذهاب نفقة، لم يكن له التحلل"، روي عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك والشافعي. وقيل: "له التحلل"، روي عن ابن مسعود، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي، لقوله: "من كسر أو عرج، فقد حلّ، وعليه حجة أخرى ". 1 رواه النسائي، ولأنه محصور فيدخل في الآية. ووجه الأولى: قوله لضباعة: "اشترطي"، فلو أباحه لمرض ما احتاجت إلى شرط، وحديثهم متروك الظاهر، فإن مجرد الكسر والعرج لا يكون حلالاً. فإن حملوه على الإباحة حملناه على ما إذا اشترط، على أن فيه كلاماً لابن عباس يرويه ومذهبه بخلافه: "من اشترط فله التحلل لجميع ذلك، ولا شيء عليه". ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قوله: وإن أخطأ الناس ... إلخ، قال الشيخ: هل هو يوم عرفة باطناً، فيه خلاف، بناء على أن الهلال لما يطلع في السماء أو لما يراه الناس ويعلمونه، فيه خلاف مشهور. فيه عن أحمد روايتان. وقال: الثاني: الصواب، ويدل عليه لو أخطأ وغلط في العدد أو في الطريق ونحوه، فوقفوا العاشر لم يجزهم إجماعاً؛ فلو اغتفر الخطأ للجميع لاغتفر لهم، فعلم أنه يوم عرفة باطناً وظاهراً، يوضحه لو كان هنا خطأ وصواب لا يستحب الوقوف مرتين، وهو بدعة لم يفعله أحد من السلف في الحج، فعلم أنه لا خطأ. ومن اعتبر كون الرائي   1 الترمذي: الحج (940) , والنسائي: مناسك الحج (2860, 2861) , وأبو داود: المناسك (1862) , وابن ماجة: المناسك (3077, 3078) , وأحمد (3/450) , والدارمي: المناسك (1894) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 من مكة دون مسافة القصر أو بمكان لا تختلف فيه المطالع، فلم يقله أحد من السلف في الحج، فلو رآه طائفة قليلة وقفوا مع الجمهور. قوله: ومن أحصر لمرض أو ذهاب نفقة لم يتحلل، ويحتمل له التحلل، اختاره الشيخ، وقال: مثله حائض تعذّر مقامها وحرم طوافها، أو رجعت ولم تطف لجهلها بوجوب طواف الزيارة، أو لعجزها عنه، أو لذهاب الرفقة، قال في الفروع: وكذا من ضل عن الطريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 باب الهدي والأضحي ... باب الهدي والأضاحي الأصل في مشروعية الأضحية: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، 1 قال بعضهم: المراد به: الأضحية بعد صلاة العيد. ويستحب لمن أتى مكة أن يهدي هدياً، "لأنه صلى الله عليه وسلم أهدى في حجته مائة بدنة"، 2 "وكان يبعث بهديه ويقيم بالمدينة" 3. وأفضل الهدايا والأضاحي: الإبل، ثم البقر، ثم الغنم، ثم شرك في بدنة، ثم شرك في بقرة، وبه قال الشافعي. وقال به مالك في الهدي. وقال في الأضحية: الأفضل: الجذع من الضأن، ثم البقرة، ثم البدنة، "لأنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين" 4 الحديث متفق عليه، ولا يفعل إلا الأفضل، ولو علم الله سبحانه وتعالى أفضل منه لفدى به إسماعيل. ولنا: قوله: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح، فكأنما قرب بدنة ... إلخ"، 5 وأما التضحية بالكبش فلأنه أفضل أنواع الغنم، وكذلك حصول الفداء به، والشاة أفضل من الشرك في بدنة، ولأن إراقة الدم مقصودة. والذكر والأنثى سواء، لقوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} ، 6 وقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآية 7.   1 سورة الكوثر آية: 2. 2 أحمد (1/260) . 3 الدارمي: المناسك (1936) . 4 البخاري: الحج (1712) والأضاحي (5553, 5558, 5564, 5565) والتوحيد (7399) , ومسلم: الأضاحي (1966) , والنسائي: الضحايا (4418) , وأبو داود: الضحايا (2793, 2794) , وابن ماجة: الأضاحي (3120) , وأحمد (3/115, 3/170, 3/189, 3/211, 3/214, 3/222, 3/255, 3/268، 3/272، 3/279، 3/281) ، والدارمي: الأضاحي (1945) . 5 البخاري: الجمعة (881) , ومسلم: الجمعة (850) , والترمذي: الجمعة (499) , والنسائي: الجمعة (1388) , وأبو داود: الطهارة (351) , وأحمد (2/460) , ومالك: النداء للصلاة (227) . 6 سورة الحج آية: 28. 7 سورة الحج آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وممن أجاز ذكران الإبل في الهدي: مالك والشافعي. وعن ابن عمر: "ما رأيت أحداً فاعلاً ذلك". والأول أولى لما ذكرنا، وثبت "أنه صلى الله عليه وسلم أهدى جملاً لأبي جهل، في أنفه برة من فضة". 1 رواه أبو داود. والضأن أفضل من المعز، لأنه أطيب لحماً، ويحتمل أن الثني من المعز أفضل من الجذع، لقوله: "لا تذبحوا إلا مسنّة، فإن عزّ عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن ". 2 رواه مسلم. ويسن استسمانها واستعظامها واستحسانها، ولأن ذلك أعظم لأجرها ونفعها. والأفضل في نوع الغنم: البياض، لما ورد؛ ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن، وهو: ما له ستة أشهر، والثني مما سواه، وبه قال مالك والشافعي. قال ابن عمر: "لا يجزئ الجذع، لأنه لا يجزئ من غيرها. ولنا على إجزائه: حديث مجاشع وأبي هريرة: "الجذع يوفي مما يوفي منه الثني". 3 رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة. وعلى عدم إجزائه من غيره، قوله: "لا تذبحوا إلا مسنّة ". 4 وكان عطاء والأوزاعي يقولان: يجزئ الجذع من كل شيء، لقوله: "إن الجذع يوفي مما يوفي منه الثني". 5 رواه أبو داود، وهو محمول على الضأن، للحديث. وثني الإبل: ما له خمس سنين، ومن البقر: ما له سنتان، ومن المعز: ما له سنة. وتجزئ البدنة والبقرة عن سبعة، سواء أراد جميعهم القربة أو بعضهم، والباقون اللحم. وقال أبو حنيفة: تجوز إذا تقربوا كلهم. وعن ابن عمر: "لا يجزئ نفس عن سبعة". قال أحمد: ما علمت أن أحداً لا يرخص فيه، إلا ابن عمر. وعن ابن المسيب: "الجزور عن عشرة"، لحديث رافع في قسمة الغنيمة. ولنا: حديث جابر. وأما حديث رافع، فهو في القيمة. ولا بأس أن يذبح الرجل عن أهل بيته شاة واحدة، لحديث أبي داود وأبي هريرة، وكرهه الثوري. ولا تجزئ العوراء البيّن عورها، ولا العجفاء الهزيلة التي لا تنقي، ولا العرجاء   1 ابن ماجة: المناسك (3076) . 2 مسلم: الأضاحي (1963) , والنسائي: الضحايا (4378) , وأبو داود: الضحايا (2797) , وابن ماجة: الأضاحي (3141) , وأحمد (3/312, 3/327) . 3 النسائي: الضحايا (4383) . 4 مسلم: الأضاحي (1963) , والنسائي: الضحايا (4378) , وأبو داود: الضحايا (2797) , وابن ماجة: الأضاحي (3141) , وأحمد (3/312, 3/327) . 5 النسائي: الضحايا (4383, 4384) , وأبو داود: الضحايا (2799) , وابن ماجة: الأضاحي (3140) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 البيّن ضلعها فلا تقدر على المشي مع الغنم، ولا العضباء وهي: التي ذهبت أكثر أذنها أو قرنها. لا خلاف أن هذه الأربعة تمنع الإجزاء في الهدي والأضحية، لحديث البراء في الأضاحي، والهدي مقيس عليه. قال شيخنا: والذي في الحديث: "المريضة البيّن مرضها"، 1 وهو الذي بان أثره عليها، فمن فسره بالجرباء التي لا يرجى برؤها، فتخصيص للعموم بلا دليل. وقال الشافعي: "تجزئ مكسورة القرن"، روي نحوه عن عمار. وقال مالك: إن كان قرنها يدمي لم تجزئ، وإلا أجزأت. وقال عطاء: إذا ذهبت الأذن كلها لم تجزئ. ولنا: حديث علي. قال ابن المسيب: العضب النصف فأكثر. ولا تجزئ العمياء، وإن لم يكن بيّناً، لأنه يمنع مشيها مع الغنم. قال ابن عباس: "لا تجوز العجفاء ولا الجداء"، قال أحمد: هي التي يبس ضرعها، ولأنه أبلغ في الإخلال بالمقصود من ذهاب شحمة العين. و"تكره معيبة الأذن، بخرق أو شق أو قطع الأقل من النصف"، لحديث عليّ. وما كان كامل الخلقة فهو أفضل، "لأنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن". 2 ويجزئه الخصي، لا نعلم فيه خلافاً. والسنة: نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، وذبح البقر والغنم. وممن استحبه مالك والشافعي، وقال عطاء: يستحب وهي باركة. وجوز الثوري كلا الأمرين. ولنا: حديث ابن عمر، وقوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} 3 دليل على ذلك، وقيل: في قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} 4 أي: قياماً. ويستحب توجيهها إلى القبلة، ويقول: "بسم الله والله أكبر". قال ابن   1 الترمذي: الأضاحي (1497) , والنسائي: الضحايا (4369) , وأبو داود: الضحايا (2802) , وابن ماجة: الأضاحي (3144) , وأحمد (4/284, 4/289, 4/300, 4/301) , ومالك: الضحايا (1041) , والدارمي: الأضاحي (1949, 1950) . 2 الترمذي: الأضاحي (1496) , والنسائي: الضحايا (4390) , وأبو داود: الضحايا (2796) , وابن ماجة: الأضاحي (3128) . 3 سورة الحج آية: 36. 4 سورة الحج آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح يقول: "بسم الله والله أكبر". 1 وإن قال مما ورد مما زاد، فحسن. وإن قال: "اللهم تقبل مني ومن فلان"، فحسن. قال أبو حنيفة: يكره أن يذكر غير اسم الله، لقوله {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ِ} 2. وذبحها بيده أفضل، لفعله صلى الله عليه وسلم، والاستنابة جائزة بلا خلاف. أول وقت الذبح: إذا دخل وقت صلاة العيد ومضى قدر الصلاة، وهو مذهب الشافعي وابن المنذر. وعنه: لا بد من صلاة الإمام وخطبته، وهو مذهب مالك؛ فإن ذبح بعد الصلاة وقبل الخطبة أجزأ، لتعليقه المنع على فعل الصلاة. وأما غير أهل القرى، فإن أوله في حقهم: قدر الصلاة والخطبة بعد حل الصلاة، وقال عطاء: إذا طلعت الشمس. فإن لم يصل الإمام في المصر، لم تذبح حتى تزول الشمس، عند من اعتبر نفس الصلاة، لسقوطها حينئذ. ولا يستحب أن يذبح قبل الإمام، فإن فعل أجزأه، وعن مالك: لا يجزئ، والصحيح: الأول، لما ذكرنا من الأحاديث. و"آخر الذبح: اليوم الثاني من أيام التشريق"، وهذا قول عمر وعلي، وذهب إليه مالك وأبو حنيفة. وعن عليّ: "آخر أيام التشريق"، وبه قال الشافعي. وقال ابن سيرين: لا تجوز إلا يوم النحر. وعن عطاء بن يسار: إلى هلال المحرم. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ادخار اللحوم فوق ثلاث"، فلا يجوز الذبح في وقت لا يجوز الادخار فيه، ولأنه قول خمسة من الصحابة، ولا مخالف لهم إلا رواية عن عليّ، وحديثهم: "ومنى كلها منحر"، 3 وليس فيه ذكر الأيام. ولا يجزئ في ليلتها،   1 الترمذي: الأضاحي (1521) , وأبو داود: الضحايا (2810) . 2 سورة المائدة آية: 3. 3 مسلم: الحج (1218) , وأبو داود: المناسك (1907) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وبه قال مالك، لقوله: {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} ، 1 وعنه: يجوز، وبه قال الشافعي، لأن الليل دخل في مدة الذبح، فإن فات وقت الذبح، ذبح الواجب قضاء. وأما التطوع فلا يصح أيضاً، وقال أبو حنيفة: يسلّمها للفقراء، فإن ذبح قبل الوقت لم يجز، وعليه بدلها إن وجبت، لقوله: "من ذبح قبل أن يصلّي، فليعد مكانها أخرى". 2 والشاة المذبوحة شاة لحم، كما وصفها صلى الله عليه وسلم، ومعناه: يصنع بها ما شاء، كشاة ذبحها للحمها. ويحتمل أن يكون حكمها حكم الأضحية، كالهدي إذا عطب لا يخرج عن حكمه، ويكون معناه شاة لحم، يعني: أنها تفارقها في الثواب خاصة. ويتعين الهدي بقوله: "هذا هدي"، وتقليده وإشعاره مع النية، وبه قال الثوري وإسحاق. وكذلك الأضحية، بقول: "هذه أضحية"، وبه قال الشافعي. وقال مالك: إذا اشتراها بنية الضحية، وجبت كالهدي بالإشعار. فإن عيّن ما لا يجزئ وجب ذبحه، ولم يجز عن الأضحية. وإن تعيبت لم يجز بيعها، ولا هبتها، إلا أن يبدلها بخير منها فيجوز، وقيل: يجوز بيعها ويشتري خيراً منها، نص عليه؛ وهو قول عطاء وأبي حنيفة، "لأنه صلى الله عليه وسلم أشرك علياً في بدنة"، وهو نوع من الهبة. ولنا: أنه يجوز إبدال المصحف، ولم يجز بيعه. وقصة عليّ يحتمل أنه قبل إيجابها، أو في ثوابها وأجرها. فأما إبدالها بخير منها فيجوز، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وقيل: لا. وهو مذهب الشافعي. ولنا: حديث عليّ. ولا يجوز إبدالها بدونها بغير خلاف، ولا يجوز بمثلها أيضاً. فإن مات وعليه دين لم تُبع، وقال الأوزاعي تباع إذا لم يكن لديْنه وفاء إلا منها. وقال مالك: إن تشاجر الورثة باعوها. وله ركوبها عند الحاجة،   1سورة الحج آية رقم 28. 2 البخاري: الأضاحي (5562) , ومسلم: الأضاحي (1960) , والنسائي: الضحايا (4368, 4398) , وأحمد (4/312) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ما لم يضرّ بها، وبه قال الشافعي، لقوله صلى الله عليه وسلم: " اركبها"، ومع عدم الحاجة روايتان. وإذا عيّن أضحية فولدت، فحكم ولدها حكمها، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يذبحه، ويدفعه إلى المساكين حياً. ولا يجوز ذبحه قبل أمه، ولا تأخيره عن آخر الوقت. ولا يشرب من لبنها، إلا ما فضل عن ولدها، إن لم ينقص لحمها ويضر بها، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يحلبها، ويرش على الضرع الماء حتى ينقطع اللبن، فإن حلبها تصدق به. ولنا: قول عليّ: "لا يحلبها إلا ما فضل عن تيسير ولدها". وله جز صوفها إذا كان أنفع لها، ويتصدق به، ولا يعطي الجازر بأجرته شيئاً منها، وبه قال مالك والشافعي. ورخص الحسن في إعطائه الجلد. ولنا: حديث عليّ في البدن. ولا خلاف في جواز الانتفاع بجلودها وجلالها. ولا يجوز بيع شيء منها، وبه قال الشافعي. ورخص الحسن في الجلد يبيعه ويشتري به الغربال وآلة البيت. وحكى ابن المنذر عن أحمد وإسحاق: يبيع الجلد ويتصدق بثمنه. ولنا: حديث عليّ في البدن، وما ذكروه في شراء آلة البيت يبطل باللحم. وإن ذبحها ذابح في وقتها بغير إذنه أجزأت، وقال مالك: هي شاة لحم، لمالكها أرشها، وعليه بدلها، لأن الذبح عبادة. وإن اشترى أضحية فلم يوجبها حتى علم بها عيباً، فإن شاء ردَّها، وإن شاء أخذ أرشها. ثم إن كان عيبها يمنع الإجزاء، لم يصح التضحية بها، وإن لم يمنع ذلك فله ذلك والأرش له. فإن علم به بعد الإيجاب، فقيل: يردها وقيل: لا يردّها، كالعلم بعيب العبد بعد عتقه، وهذا مذهب الشافعي. وإذا أتلف الأضحية الواجبة، فعليه قيمتها يوم التلف. وإن عطب الهدي في الطريق، نحره وصبغ نعله التي في عنقه من دمه، وضرب بها صفحة سنامه، يعرفه الفقراء فيأخذوه. ولا يأكل منها هو ولا أحد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 أهل رفقته. وروي عن ابن عمر "أنه أكل من هديه الذي عطب". وقال مالك: يباح لرفقته غير صاحبه وسائقه، لحديث ناجية بن كعب: "ثم خلِّ بينه وبين الناس". 1 ولنا: حديث ابن عباس عن ذؤيب: "لا تطعمها أنت، ولا أحد من أهل رفقتك". 2 رواه مسلم. وإذا عين أضحية سليمة ثم تعيبت، ذبحها وأجزأت، وبه قال مالك والشافعي. ويباح للفقراء الأخذ من الهدي بالإذن أو دلالة الحال، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يباح إلا باللفظ. ولنا: قوله: "اصبغ نعلها ... إلخ". وسوق الهدي مسنون، لا يجب إلا بالنذر. و"يستحب أن يقفه بعرفة، ويجمع فيه بين الحل والحرم، ولا يجب"، روي عن ابن عباس، وبه قال الشافعي. و"كان ابن عمر لا يرى الهدي إلا ما عرف به". ويسن تقليد الإبل والبقر وإشعارها، وهو شق صفحة سنامها الأيمن حتى يدميها، في قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: هذا مثلة غير جائز، قال مالك: إذا كانت بقرة ذات سنام، فلا بأس بإشعارها، وإلا فلا. ولنا: فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه. والسنة في صفحتها اليمنى، وبه قال الشافعي. وقال مالك: اليسرى، لأن ابن عمر فعله. ولنا: حديث ابن عباس، رواه مسلم. وإذا ساقه قبل الميقات استحب إشعاره وتقليده من الميقات، لحديث ابن عباس. وأما الغنم فلا يسن إشعارها، لأنها ضعيفة، يقلدها نعلاً وآذان القرب أو علاقة إداوة أو عروة. وقال مالك: لا يسن تقليدها لأنه لم ينقل. ولنا: حديث عائشة، رواه البخاري. وإذا نذر هدياً مطلقاً أو معيّناً، وأطلق مكانه، وجب إيصاله إلى فقراء الحرم. وجوّز أبو حنيفة ذبحه كيف شاء. ولنا: قوله:   1 الترمذي: الحج (910) , وأبو داود: المناسك (1762) , وابن ماجة: المناسك (3106) , وأحمد (4/333, 4/334) , ومالك: الحج (862) , والدارمي: المناسك (1909) . 2 مسلم: الحج (1326) , وابن ماجة: المناسك (3105) , وأحمد (4/224) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 {ثم مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . 1 فإن عيّن لنذره موضعاً غير الحرم، لزم ذبحه فيه، لحديث بوانة. ويستحب أن يأكل من هديه، سواء ما أوجبه بالتعيين أو تطوعاً، وقيل يجب الأكل منها، لظاهر الأمر. ولا يأكل من واجب، إلا دم المتعة والقران، لأن سببها غير محظور. وعنه: "يأكل مما سوى النذر وجزاء الصيد"، وهو قول ابن عمر وإسحاق. وقال الشافعي: لا يأكل من واجب، لأنه هدي وجب بالإحرام، فلم يجز الأكل منه كالكفارة. ولنا: "أن أزواجه صلى الله عليه وسلم أكلن من لحوم البقر التي ذبحت عنهن لما تمتعن". والأكثر يرون الأضحية سنة مؤكدة، وقال أبو حنيفة: واجبة، وذبحها أفضل من الصدقة بثمنها. وروي عن بلال: "لأن أضعه في يتيم قد ترب فوه أحب إلي"، وبه قال الشعبي. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم ضحى والخلفاء من بعده"، ولو علموا أن الصدقة أفضل لعدلوا إليها. ويستحب أن يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث، وقال أحمد: نحن نذهب إلى حديث عبد الله. وقيل: ما كثر من الصدقة فهو أفضل. ولنا: حديث ابن عباس في صفة أضحيته صلى الله عليه وسلم، ولأنه قول ابن مسعود وابن عمر، ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة، ولأن الله قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} . 2 والقانع: السائل، والمعتر: الذي يتعرض لك لتعطيه ولا يسأل. وأما قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} ، 3 فلم يبيّن   1 سورة الحج آية: 33. 2 سورة الحج آية: 36. 3 سورة الحج آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 قدر المأكول والمتصدق به. وأما خبر الهدي، فالهدي يكثر ولا يتمكن الإنسان من قسمه وأخذ ثلثه؛ والأمر في هذا واسع، فمتى أكل وأطعم فقد أتى بما أمر. وقال الشافعي: يجوز أكلها كلها. ولنا: الآية، وظاهر الأمر الوجوب. ويجوز أن يطعم منها كافراً، وكره مالك إعطاء النصراني جلدها، وإن أكلها كلها، ضمن ما يجزئ في الصدقة؛ وقيل: يضمن الثلث. ويجوز ادخار لحمها فوق ثلاث، في قول عامتهم، و"لم يجزه عليّ وابن عمر، للنهي عنه". ولنا: أنه رخص بعد النهي، قال أحمد: وفيه أسانيد صحاح. ولا يضحي عما في البطن، ولا نعلم فيه خلافاً. ومن أراد أن يضحي فدخل العشْر، فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئاً، لحديث أم سلمة في النهي عنه، رواه مسلم، وهو قول ابن المسيب وإسحاق، وقيل: مكروه غير محرم، وبه قال مالك والشافعي، لحديث عائشة، فإن فعل فلا فدية إجماعاً. (والعقيقة) سنة مؤكدة في قول أئمة الأمصار، وقال أصحاب الرأي: هي من أمر الجاهلية، وقال الحسن وداود: هي واجبة، لحديث: "كل غلام رهينة بعقيقته، تُذبح عنه يوم سابعه، ويسمَّى ويُحلق"، 1 قال أحمد: إسناده جيد. ولنا: قوله: "من أحب أن ينسك عن المولود، فليفعل". 2 رواه مالك في الموطإ، وهي أفضل من الصدقة بقيمتها، قال أحمد: إذا لم يكن عنده ما يعق واستقرض، رجوت أن يخلف الله عليه، أحيا سنة. قال ابن المنذر: صدق أحمد، إحياء السنن واتباعها أفضل. عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، هذا قول الأكثر. وكان ابن عمر يقول: "شاتان عنهما لفعله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين"، وكان الحسن وقتادة لا يريانها عن الجارية. ولنا:   1 الترمذي: الأضاحي (1522) , والنسائي: العقيقة (4220) , وأبو داود: الضحايا (2837، 2838) , وابن ماجة: الذبائح (3165) , وأحمد (5/7, 5/12, 5/17, 5/22) , والدارمي: الأضاحي (1969) . 2 النسائي: العقيقة (4212) , وأبو داود: الضحايا (2842) , وأحمد (2/182, 2/193) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 حديث عائشة وأم كرز. ويستحب أن يكونا متماثلين، لقوله متكافئتان، والحديث في الحسن والحسين يدل على الجواز، والذكَر أفضل، "لفعله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين، وفعله في الأضحية". وتذبح يوم سابعه، ويحلق رأسه، ويتصدق بوزنه ورقاً؛ ولا نعلم خلافاً في استحبابها يوم السابع بين القائلين بها. و"يستحب أن يحلق رأسه يوم السابع ويسمّى"، لحديث سمرة، وأن يُتصدق بوزن شعره فضة، "لأمره بذلك فاطمة لما ولدت الحسن"، رواه أحمد. وإن سماه قبل السابع فحسن، لقوله: "ولد لي الليلة ولد، فسميته باسم أبي إبراهيم"، 1 ولحديث عبد الله بن أبي طلحة. ويستحب تحسين اسمه، للأمر بذلك، رواه أبو داود. "فإن فات السابع، ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين"؛ وهذا قول إسحاق، لأنه مروي عن عائشة. فإن ذبح قبل ذلك أو بعده أجزأ، وإن كبر ولم يعق عنه، فقال أحمد: ذلك على الوالد، يعني: لا يعق عن نفسه. وقال عطاء: يعق عن نفسه. ويكره أن يلطخ رأس الصبي بدم، وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق. وعن قتادة: يستحب، قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً قاله، إلا الحسن وقتادة. وأنكره سائر أهل العلم وكرهوه، لقوله: "اهرقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى". رواه أبو داود. فأما ما روي فيدمي، فقال أبو داود: وهم همام. ويستحب أن يفصلها أعضاء، ولا يكسر عظامها، لما روي عن عائشة: "لأنها أول ذبيحة ذبحت عنه، واستحب ذلك تفاؤلاً بالسلامة". كذلك قالت عائشة: "وحكمها حكم الأضحية". وكانت عائشة تقول: "ائتوني به أعيَن أقرن". وعن ابن سيرين: اصنع بلحمها كيف شئت، حكاه أحمد. وقال أحمد: يباع الجلد والرأس والسقطة، ويتصدق به. ونص في الأضحية على خلاف هذا. وقال بعضهم: يؤذّن في أذن المولود، لحديث عبد الله بن رافع.   1 مسلم: الفضائل (2315) , وأبو داود: الجنائز (3126) , وأحمد (3/194) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 ولا تسن الفرعة ولا العتيرة، الفرعة: ذبح أول ولد الناقة، والعتيرة: ذبح رجب؛ هذا قول علماء الأمصار، سوى ابن سيرين، فإنه كان يذبح العتيرة ويروي فيها شيئاً. ولنا: حديث أبي هريرة: "لا فرع ولا عتيرة". 1 متفق عليه، وهو ناسخ، لأن أبا هريرة متأخر الإسلام، ولأن فعلها متقدم. ولو قدر تقدم النهي، لكانت قد نسخت، ثم نسخ ناسخها. والمراد بالخبر نفي كونها سنة، لا يحرم فعلها ولا يكره. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قوله: أفضلها: الإبل ... إلخ، قال أحمد: يعجبني البياض. واختار الشيخ: الأجر على قدر القيمة مطلقاً، ورجح تفضيل البدنة السمينة على السبع، قال ابن رجب: في سنن أبي داود حديث يدل عليه. وقال في الفروع: يتوجه احتمال: يجوز أعضب الأذن والقرن مطلقاً، لأن في صحة الخبر نظراً كقطع الذنب وأولى، قلت: هذا هو الصواب. وقال الشيخ: يجزئ الهتماء، وهي: التي سقط بعض أسنانها. قوله: ويقول: "بسم الله والله أكبر". قال الشيخ: ويقول: "وجهت وجهي" - إلى قوله – "وأنا من المسلمين"، ويقول: "اللهم تقبّل مني كما تقبّلت من إبراهيم خليلك". قوله: إلى آخر يومين ... إلخ، واختار الشيخ أن آخره اليوم الثالث. قوله: ولو نوى حال الشراء لم يتعين، وعنه: بلى، اختاره الشيخ. ونسخ تحريم الادخار، قال الشيخ: إلا في مجاعة. و"يستحب الحلق بعد الذبح"، قال أحمد: هو على ما فعل ابن عمر تعظيماً لذلك اليوم، وعنه: لا يستحب، اختاره الشيخ، واختار أنه لا تضحية بمكة، وإنما هو الهدي. قوله: وحكمها   1 البخاري: العقيقة (5473) , ومسلم: الأضاحي (1976) , والترمذي: الأضاحي (1512) , والنسائي: الفرع والعتيرة (4222, 4223) , وأبو داود: الضحايا (2831) , وابن ماجة: الذبائح (3168) , وأحمد (2/229, 2/239, 2/279, 2/409, 2/490) , والدارمي: الأضاحي (1964) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 حكم الأضحية، قال الشارح: يحتمل الفرق من حيث أن الأضحية شرعت يوم النحر، والعقيقة شرعت عند سرور حادث وتجدد نعمة، كالذبح في الوليمة، ولأنها لم تخرج عن ملكه هنا، فله أن يفعل فيها ما شاء من بيع وغيره. ولم يعتبر الشيخ التمليك، قيل لأحمد لما ذكر أن طبخها أفضل: يشق عليهم، قال: يتحملون ذلك. وقال أبو بكر في التنبيه: يستحب أن تعطى القابلة منها فخذاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 كتاب الجهاد هو فرض كفاية، وعن ابن المسيب: فرض عين، لقوله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} ، 1 وقال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} الآية. 2 ولنا: قوله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية، 3 وقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} . 4 فأما الآية الأولى، فقال ابن عباس: "نسختها {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} الآية 5". رواه أبو داود، ويحتمل أنه حين استنفرهم إلى تبوك، فيجب على من استنفره الإمام. ويشترط لوجوبه سبعة: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة، لقوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} الآية 6. وأقل ما يفعل في كل عام مرة، إلا أن تدعو الحاجة إلى تأخيره، فيجوز بهدنة وغيرها، وإن دعت الحاجة إلى أكثر من مرة، وجب. ويتعين في ثلاثة مواضع:   1 سورة التوبة آية: 41. 2 سورة التوبة آية: 39. 3 سورة النساء آية: 95. 4 سورة التوبة آية: 122. 5 سورة التوبة آية: 122. 6 سورة التوبة آية: 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 (أحدها) : إذا تقابل الصفان، حرم على من حضر الانصراف، لقوله: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} ، 1 وقوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} 2. (والثاني) : إذا نزل العدوّ ببلد، تعيّن على أهله قتالهم. (الثالث) : إذا استنفرهم الإمام. وهو أفضل ما تطوع به، وغزو البحر أفضل، لقصة أم حرام. وقتال أهل الكتاب أفضل. وكان ابن المبارك يأتي من مرو لغزو الروم، فقيل له في ذلك، فقال: إنهم يقاتلون على دين. ويغزو مع كل بر وفاجر، سئل أحمد عمن قال: لا أغزو، يأخذه ولد العباس، إنما يوفر الفيء عليهم، فقال: سبحان الله! هؤلاء قوم سوء، هؤلاء القعدة المثبطون جهال. فيقال لهم: أرأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم، من كان يغزو؟ أليس كان قد ذهب الإسلام؟ ما كانت تصنع الروم؟ قال الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} ، 3 قال أحمد: لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين، وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين. وإن كان يعرف بشرب الخمر أو الغلول يغزى معه، إنما ذلك في نفسه. ويقاتل كل قوم من يليهم، لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} الآية 4. وتعجب أحمد من فعل ابن المبارك فقال: كيف هذا، ولو أن أهل خراسان فعلوه، لم يجاهد الترك أحد، ولعله فعله لكونه متبرعاً بالجهاد. وأمر الجهاد موكول إلى الإمام، ويلزم الرعية طاعته فيما يراه، فإن أمّر   1 سورة الأنفال آية: 45. 2 سورة الأنفال آية: 15. 3 سورة البقرة آية: 251. 4 سورة التوبة آية: 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 أميراً على الجيش فمات، فلهم أن يؤمّروا أحدهم، "كما فعل الصحابة في مؤتة". قال أحمد: يشيّع الرجل إذا خرج ولا يتلقونه، "شيّع عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ولم يتلقّه"، وشيّع أحمد أبا الحارث ونعلاه في يده، و"ذهب إلى فعل أبي بكر، أراد أن تغبرَّ قدماه في سبيل الله". وتمام الرباط أربعون يوماً، فإن رابط أكثر فله أجره، كما قال أبو هريرة: "ومن زاد زاده الله". قال أحمد: يوم رباط، وليلة رباط، وساعة رباط، وقال: أفضل الرباط أشدهم كلباً. ولا يستحب نقل أهله إليه، قيل لأحمد: تخاف على المنتقل بعياله إلى الثغر الإثم؟ قال: كيف لا أخاف؟ وهو يعرض ذريته للمشركين. وقال: كنت آمر بالتحول بالأهل والعيال إلى الشام قبل اليوم، فإني أنهى عنه الآن، الأمر قد اقترب ولا بد لهؤلاء القوم من يوم. قيل: فذلك في آخر الزمان؟ قال: فهذا آخر الزمان. قيل: "فالنبي صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه"، قال: هذا في الواحدة، ليس الذرية. وهذا محمول على غير أهل الثغر، فأما هم، فلا بد لهم من أهلهم، ولولا ذلك تعطلت الثغور. وقال الأوزاعي في مساجد الثغر: لو أن لي ولاية لسمرت أبوابها حتى تكون صلاتهم في مسجد واحد، فإذا جاء النفير وهم متفرقون، لم يكونوا كالمجتمعين. وفي الحرس في سبيل الله فضل عظيم، فيه أحاديث كأحاديث ابن عباس عند الترمذي، وسهل بن الحنظلية عند أبي داود. وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه، وتستحب لمن قدر عليه، وحكمها باق إلى يوم القيامة. وقيل: انقطعت، لقوله: "لا هجرة بعد الفتح". 1 ولنا: حديث معاوية وغيره، والحديث معناه: لا هجرة بعد الفتح من بلد   1 البخاري: الجهاد والسير (2783) , والترمذي: السير (1590) , والنسائي: البيعة (4170) , وأحمد (1/226, 1/355) , والدارمي: السير (2512) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الفتح، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} الآية، 1 وهذا وعيد شديد، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به، واجب. وأما من عجز عنه لمرض أو غيره، فلا عليه، للآية. فإن تمكن من إظهار دينه، استحب له الهجرة ليتمكن من الجهاد، وإكثاراً لعدد المسلمين. ومن عليه ديْن حالاً أو مؤجلاً، لم يخرج إلى الجهاد إلا بإذن غريمه، إلا إن ترك وكيلاً أو وفاء أو رهناً، وبه قال الشافعي، ورخص فيه مالك لمن لا يقدر على الوفاء؛ وإن تعين فلا إذن لغريمه. و"من أبواه مسلمان لم يجاهد تطوعاً إلا بإذنهما". يروى عن عمر وعثمان، وبه قال مالك والشافعي وسائر أهل العلم، لحديث عبد الله بن عمر وغيره. فإن كانا غير مسلمين، فلا إذن لهما، وقال الثوري: بلى، لعموم الأخبار. ولنا: "أن الصحابة يجاهدون، وفيهم من أبواه كافران، وأبو عبيدة قتل أباه"، فأنزل الله: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الآية 2، فإن تعين سقط إذنهما. ولا يجوز الفرار للمسلمين من صفهم، إلا متحرفين أو متحيزين، فإن زاد الكفار فلهم الفرار، لقوله: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً} . 3 وحكي عن الحسن أنها في بدر خاصة. ولنا: أن الأمر مطلق والخبر عام، وعدّه النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر، فإن زادوا جاز، لقول ابن عباس: "من فرَّ من اثنين فقد فرَّ، ومن فرّ من ثلاثة فما فرّ". فإذا خشي الأسر، فالأولى أن يقاتل حتى يُقتل، فإن استأسر جاز، لقصة خبيب وأصحابه. "فأخذ عاصم بالعزيمة، وخبيب بالرخصة". ومن فر قبل إحراز الغنيمة، فلا شيء له. فإن ألقى في مركبهم ناراً،   1 سورة النساء آية: 97. 2 سورة المجادلة آية: 22. 3 سورة الأنفال آية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فالأولى فعل الذي يظن فيه السلامة، من المقام وإلقاء نفوسهم في الماء. فإن استوى الأمران، فقال أحمد: كيف شاء صنع. وقال الأوزاعي: هما موتتان فاختر أيهما، وعنه: يلزم المقام. ويجوز تبييت الكفار، ورميهم بالمنجنيق، وقطع المياه عنهم، وهدم حصونهم، قال أحمد: وهل غزو الروم إلا البيات. قال: ولا نعلم أحداً كرهه. ونهيه عن قتل النساء والذرية محمول على التعمد لقتلهم. ولا يجوز إحراق نخل ولا تغريقه، هذا قول عامة العلماء، وقال مالك: لا أدري ما هو. ومقتضى قول أبي حنيفة: يجوز لأن فيه غيظاً لهم، أشبه قتل بهائمهم حال القتال. وهل يجوز أخذ الشهد كله، وفيه إتلاف النحل؟ فيه روايتان. ولا يجوز عقر دوابهم في غير حال الحرب، وبه قال الشافعي والليث. وقال أبو حنيفة ومالك: يجوز لأن فيه غيظاً لهم، وأما حال الحرب فيجوز بلا خلاف. فأما عقرها للأكل، فإن كان لا يراد إلاّ للأكل كالطيور والصيود، فكالطعام في قول الجميع، فإن كان غير ذلك كالبقر والغنم لم يبح. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد: إباحته لأنه كالطعام. وإذا ذبح الحيوان أكله ورد جلده إلى المغنم. قال عبد الرحمن بن معاذ: "كلوا لحم الشاة، وردّوا إهابها إلى المغنم". ووجه الأولى: قول ثعلبة: "أصبنا غنماً فانتهبناها" الحديث، ولأنها تكثر قيمتها ويمكن حملها إلى دار الإسلام، بخلاف الطير والطعام؛ لكن إن أذن الأمير فيها جاز، لحديث عطية بن قيس، وكذلك قسمها، لقول معاذ: "أصبنا غنماً، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم بيننا طائفة، وجعل بقيتها في المغنم". 1 رواه أبو داود. وروى سعيد: "أن رجلاً نحر جزوراً في أرض الروم، فقال: يا أيها الناس، خذوا، فقال   1 أبو داود: الجهاد (2707) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 مكحول: يا غساني، ألا تأتينا من لحمها؟ فقال: ألا ترى ما عليها من النهباء؟ فقال: لا نهباء في المأذون فيه". وأما الزرع والشجر فثلاثة أقسام: أحدها: ما يحتاج إلى إتلافه كما قرب من الحصون، أو يفعلونه بنا، فنفعله بهم؛ فهذا يجوز ولا خلاف فيه. والثاني: ما يتضرر المسلمون بقطعه للاستظلال به والأكل من ثمره، أو إذا فعلناه فعلوه بنا، فهذا يحرم للإضرار بالمسلمين. والثالث: ما لا ضرر فيه ولا نفع سوى غيظهم والإضرار بهم، ففيه روايتان: إحداهما: لا يجوز، لوصية أبي بكر، وبه قال الأوزاعي والليث. والثانية: يجوز، وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر. وقال إسحاق: التحريق سنة إذا كان أنكى في العدو، لقوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} الآية. 1 ومتى قدر على العدو لم يجز تحريقه بغير خلاف. "وكان أبو بكر أمر بتحريق أهل الردة، وفعَله خالد بأمره"، فأما اليوم فلا نعلم فيه مخالفاًً. وأما رميهم بالنار عند العجز عنهم، فجائز في قول أكثر أهل العلم، قال عبد الله بن قيس: لم يزل أمر المسلمين على ذلك، وكذلك فتح الثقوب عليهم لغرقهم؛ وإن قدر عليهم بغيره لم يجز إذا تضمن إتلاف النساء والذرية. وإذا ظفر بهم، لم يجز قتل الصبي الذي لم يبلغ بغير خلاف. ولا تقتل امرأة ولا شيخ، وبه قال مالك. وقال الشافعي في أحد قوليه وابن المنذر: يجوز قتل الشيوخ، لقوله: "اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم"؛ 2 قال ابن المنذر: لا أعرف حجة يستثنى   1 سورة الحشر آية: 5. 2 الترمذي: السير (1583) , وأبو داود: الجهاد (2670) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 فيها من عموم قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} . 1 ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا امرأة ". 2 رواه أبو داود، وهو في وصية أبي بكر ليزيد، وعمر لسلمة بن قيس، رواهما أبو داود. والآية مخصوصة بما روينا، ولأنه خرج من عمومها المرأة. والحديث أراد به الشيوخ الذين فيهم قوة ومعونة برأي أو تدبير، جمعاً بين الأحاديث، ولأنه خاص وحديثهم عام؛ والخاص يقدَّم على العام. ولا يُقتل زمِن ولا أعمى ولا راهب، والخلاف فيهم كالخلاف في الشيخ. ولنا: أن الزمِن والأعمى ليسا من أهل القتال، ولأن في وصية أبي بكر: "وستمرّون على أقوام في صوامع، فدعهم حتى يُميتهم الله على ضلالتهم". ولا يُقتل عبد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أدركوا خالداً، فمُروه ألا يقتل ذرية ولا عبداً"، وهم: العبيد. ومن قاتل ممن ذكرنا، جاز قتله بلا خلاف، وكذلك من كان من هؤلاء الرجال المذكورين له رأي في الحرب يُعين به، لقصة دريد بن الصمة. ولا يُقتل الفلاح الذي لا يقاتل، لقول عمر: "اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب"، وقال الشافعي: يُقتل إلا أن يؤدي الجزية، لدخوله في عموم المشركين. ولنا: قول عمر، ولأن الصحابة لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد. وإن تترسوا بالنساء والصبيان، جاز رميهم، ويقصد المقاتلة. ولو وقعت امرأة في صف الكفار فشتمت المسلمين أو انكشفت، جاز رميها، لحديث عكرمة في التي على حصن الطائف، وكذلك إذا التقطت لهم السهام أو سقتهم الماء أو حرضتهم على القتال، وكذلك الحكم في الصبي. وإن تترسوا بمسلم ولم تدع الحاجة إلى رميهم، لكون الحرب غير قائمة، أو لإمكان القدرة عليهم بدونه، أو للأمن من شرهم، لم يجز رميهم؛ فإن دعت   1 سورة التوبة آية: 5. 2 أبو داود: الجهاد (2614) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين، جاز. فإن لم يخف على المسلمين، لكن لا يقدر عليهم إلا بالرمي، فقال الأوزاعي: لا يجوز، لقوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} الآية؛ 1 قال الليث: "ترك فتح حصن يقدر على فتحه، أفضل من قتل مسلم بغير حق". ولا يجوز لمن أسر أسيراً أن يقتله حتى يأتي به الإمام فيرى فيه رأيه، فإن خافه أو خاف هربه أو امتنع من الانقياد معه بالضرب، فله قتله. فأما أسير غيره، فلا يجوز قتله، إلا أن يصير إلى حال يجوز فعله لمن أسره. فإن قتل أسيره أو أسير غيره أساء، ولا ضمان عليه؛ وبه قال الشافعي. وقال الأوزاعي: إن قتله قبل أن يأتي به الإمام ضمنه. ولنا: قصة بلال هو وعبد الرحمن. فإن قتل صبيا أو امرأة ضمن، لأنه صار رقيقاً بالسبي. وإن ادعى الأسير الإسلام، لم يقبل إلا ببينة، فإن شهد معه واحد وحلف خلّي. وقال الشافعي لا يقبل إلا بشهادة عدلين. ولنا: حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: "لا يبقى منهم أحد إلا أن يفدى، أو تضرب عنقه. فقال ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام، فقال: إلا سهيل". والأسارى من المجوس وأهل الكتاب الذين يقرون بالجزية، يخيّر الإمام فيهم بين القتل والمنّ بغير عوض والمفاداة والاسترقاق، وعن مالك كمذهبنا. وعنه: لا يجوز المنّ بغير عوض. وحكي عن الحسن وعطاء وسعيد بن جبير كراهية قتل الأسرى، وقال: منّ عليه أو فاداه كما فعل بأسارى بدر، ولأن الله تعالى قال: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . 2 وقال أصحاب الرأي: إن شاء   1 سورة الفتح آية: 25. 2 سورة محمد آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 قتَلهم وإن شاء استرقّهم لا غير، لقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، 1 بعد قوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . 2 ولنا: على جواز المنّ والفداء الآية المذكورة، "ومنَّ صلى الله عليه وسلم على ثمامة وأبي عزة الشاعر"، وقال في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عديّ حياً ثم سألني هؤلاء النتنى، لأطلقتهم له" 3، "وفادى أسارى بدر وغيرهم". وأما القتل فـ"إنه قتل رجال بني النضير، وقتل يوم بدر النضر وعقبة بن أبي معيط صبرا، ً وقتل أبا عزة يوم أحد"، ولأن كل خصلة قد تكون أصلح. ومن لا يقرّ بالجزية، فيخيّر فيهم بين القتل والمنّ والفداء؛ والتخيير تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة. ومتى حصل عنده تردد فالقتل أولى. فمتى رأى القتل ضرب عنقه بالسيف، ولا يجوز التمثيل به، لحديث بريدة. "ويجوز الفداء بمال وبأسرى المسلمين، لفعله صلى الله عليه وسلم الأمرين". وعنه: لا يجوز بمال، كما لا يجوز بيع رقيق المسلمين للكفار. ومنع أحمد من فداء النساء بالمال، لأن في إبقائهن تعريضاً للإسلام، وجوز "أن يفدي بهن أسرى المسلمين لفعله صلى الله عليه وسلم بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الأكوع". وقال أحمد: لا يفادى بالصبيان، لأن الصبي يصير مسلماً بإسلام السابي، وكذلك المرأة إذا أسلمت لا يجوز ردها، لقوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} . 4 وإن كان الصبي غير محكوم بإسلامه، كمن سبي مع أبويه، لم يجز فداؤه بمال كالمرأة، ويجوز بمسلم. ومن استُرق أو فودي بمال كان للغانمين، لا نعلم فيه خلافاً، فإذا أسلم الأسير كان رقيقاً في الحال، وزال التخيير فيه، وقيل: يحرم قتله؛ ويخيّر بين المنّ والفداء والاسترقاق، وهذا الصحيح. فإن أسلم قبل الأسر، حرم ذلك كله، سواء أسلم وهو في حصر أو بضيق وغير ذلك.   1 سورة التوبة آية: 5. 2 سورة محمد آية: 4. 3 البخاري: فرض الخمس (3139) , وأبو داود: الجهاد (2689) , وأحمد (4/80) . 4 سورة الممتحنة آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 والمسبي من الأطفال منفرداً يصير مسلماً إجماعاً، فإن كان مع أحد أبويه فكذلك، وعنه: يتبع أباه. ولنا: قوله: "فأبواه يهوِّدانه ... إلخ"، ومفهومه: أنه لا يتبع أحدهما لأن الحكم متى علق بشيئين لا يثبت بأحدهما. فإن سُبي معهما فهو على دينهما، وبه قال مالك والشافعي. وقال الأوزاعي: يكون مسلماً، لأن السابي أحق به. ولنا: الحديث المتقدم. وإن سُبي الزوجان معاً لم ينفسخ نكاحهما، وقال مالك والشافعي: ينفسخ، لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} . 1 ولنا: أن الآية نزلت في أوطاس، ولم يأخذوا الرجال؛ والعموم مخصوص بالمملوكة المزوّجة في دار الإسلام، فخص محل النزاع بالقياس عليه. وإن سُبيت وحدها انفسخ بلا خلاف، للآية. وإن سُبي الرجل وحده لم ينفسخ، وقال أبو حنيفة: ينفسخ. وقال الشافعي: إن سُبي واستُرق انفسخ. ولنا: أنه لم يحكم على أسارى بدر بفسخ أنكحتهم. ولا يجوز بيع شيء من رقيق المسلمين لكافر، مسلماً كان أو كافراً، وهذا قول الحسن؛ قال أحمد: "كتب عمر ينهى عنه أمراء الأمصار"، وعنه: يجوز، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، لأنه رد كافر إلى كافر، والأول أولى، لأنه قول عمر ولم ينكر، فكان إجماعاً. وأجمعوا على أن التفريق بين الأم وولدها الطفل غير جائز، ولا بين الأب وولده، وقال مالك والليث: يجوز، لأنه لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص عليه. ولنا: أنه أحد الأبوين، ولا فرق بين الكبير والصغير في إحدى الروايتين، لعموم الخبر. وعنه: مختص بالصغير، وهو قول الأكثرين،   1 سورة النساء آية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 "لأن سلمة أتى بامرأة وابنتها، فنفله أبو بكر ابنتها، فاستوهبها منه النبي صلى الله عليه وسلم"، والجدة والجد كالأبوين. ويحرم التفريق بين الإخوة في القسمة والبيع أيضاً، وبه قال أصحاب الرأي. وقال مالك والليث والشافعي وابن المنذر: لا يحرم. ولنا: ما روي عن عليّ، قال: "وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين، فبعت أحدهما. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل غلامك؟ فأخبرته، فقال: رُدَّه! رُدَّه! ". 1 رواه الترمذي، وقال: حسن غريب. وروى عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب: "لا تفرقوا بين الأخوين ولا بين الأم وولدها في البيع". وما بعد الكبر فيه الروايتان، والأولى الجواز، "لأنه صلى الله عليه وسلم أهديت له مارية وأختها سيرين، فأمسك مارية، ووهب سيرين لحسّان". وأما ذوو الرحم المحرم كالعمة مع ابنة أخيها، فالأولى الجواز، لأن الأصل الحل، ولا يصح القياسُ على الأخوة لأنهم أقرب. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": الجهاد أفضل من الرباط، على الصحيح، قال الشيخ: هو المنصوص عن أحمد. وقال الشيخ: العمل بالقوس والرمح أفضل من الثغر، وفي غيره نظيره. والرباط أفضل من المجاورة بمكة، ذكره الشيخ إجماعاً. قوله: مستطيع، وعنه: يلزم العاجز ببدنه في ماله، اختاره الشيخ. وقال: الأمر بالجهاد منه ما يكون بالقلب والدعوة والبيان والحجة والرأي والتدبير والبدن، فيجب بغاية ما يمكنه. وقال: إن كان العدو كثيراً لا يطيقهم المسلمون، أو يخافون أنهم إن انصرفوا   1 الترمذي: البيوع (1284) , وابن ماجة: التجارات (2249) ، وأحمد (1/102) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 عطفوا على من تخلف من المسلمين، فهنا صرح الأصحاب بوجوب بذل مهجهم في الدفع حتى يسلموا؛ ومثله لو هجم العدو على البلاد، والمقاتلة أقل من النصف، لكن إن انصرفوا استولوا على الحريم. وإن كان قتال طلب، فقيل المصافة بعدها حين الشروع في القتال لا يجوز الإدبار مطلقاً، إلا لمتحرف أو متحيز، وقال: يسنّ انغماسه في العدو لمنفعة المسلمين، وإلا نهي عنه، وهو من التهلكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 باب ما يلزم الإمام والجيش يلزم الإمام عند المسير: تعاهد الخيل والرجال، فلا يدع فرساً حطيماً وهو: الكسير، ولا قحماً وهو: الكبير، ولا ضرعاً وهو: الصغير، ولا هزيلاً، يدخل معه في أرض العدو. ويمنع المخذّل والمرجف وهو: الذي يُقعد الناس عن الخروج والقتال، كقوله: الحَر أو البرد شديد أو المشقة شديدة، والمرجف هو: الذي يقول: لا طاقة لنا بالكفار وهم قويون، أو لهم مدد وصبر وأشباه ذلك. ولا يأذن لمن يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد بينهم، ولا لمن يُعرف بالنفاق، لقوله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} الآية، 1 وقوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} الآية 2. ويجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان، لأن فيهم معونة، ويمنع النساء، إلا طاعنة في السن تسقي الماء ومعالجة الجرحى، لـ"حديث أنس في غزو أمه ونسوة معها"، صححه الترمذي. فإن قيل: "فإنه صلى الله عليه وسلم يخرج بمن يقع عليها القرعة"، قلنا: تلك امرأة واحدة للحاجة، ويجوز مثله للأمير عند حاجته، ولا يرخص لغيره لئلا يفضي إلى استيلاء العدو عليهن. ولا يستعين بمشرك إلا عند الحاجة، لما روى الزهري "أنه استعان بيهود فأسهم لهم"، رواه سعيد، و"خرج معه صفوان قبل إسلامه".   1 سورة التوبة آية: 83. 2 سورة التوبة آية: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ويستحب الخروج يوم الخميس لقول كعب: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس". 1 ويرفق بهم في السير، فيسير بهم سير أضعفهم؛ فإن دعت الحاجة إلى الجد في السير جاز، "لفعله صلى الله عليه وسلم حين بلغه كلام عبد الله بن أبيّ {لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} ، 2 ليشغل الناس عن الخوض فيه". ويعدّ لهم الزاد، ويقوي أنفسهم بما يخيل إليهم من أسباب النصر، ويعرّف عليهم العرفاء، وهو أن يجعل في كل طائفة مقدماً عليهم ينظر في حالهم. ويعقد لهم الألوية والرايات، ويجعل لكل طائفة لواء، ويغير ألوانها ليعرف كل طائفة رايتهم. ويجعل لكل طائفة شعاراً يتداعون به، لئلا يقع بعضهم على بعض. ويتخير لهم المنازل، ويحفظ مكانها لئلا يؤتَوا منها. ولا يغفل الحرس ليحفظهم من البيات. ويبعث العيون إلى العدو لئلا يخفى عليه أمرهم. ويمنع الجيش من المعاصي. ويعِد ذا الصبر بالأجر والنفل. ويخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه، ويشاور ذا الرأي. ويصفّ جيشه لقول: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} ، 3 ويجعل في كل جنبة كفؤاً لها، ولا يميل مع قريبه ويراعي أصحابه. ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، لقوله في المجوس: "سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب"، 4 ولا نعلم خلافاً في ذلك. فأما من سواهم فلا يُقبل منهم إلا الإسلام، وفيه اختلاف. ومن بلغتهم الدعوة جاز قتالهم من غير دعاء، وإلا دُعوا قبل القتال، لحديث بريدة: "ادعهم إلى الإسلام"، و"أمر علياً أن يدعو أهل خيبر"، وقد بلغتهم الدعوة.   1 البخاري: الجهاد والسير (2949, 2950) , وأبو داود: الجهاد (2605) , وأحمد (3/456, 6/390) , والدارمي: السير (2436) . 2 سورة المنافقون آية: 8. 3 سورة الصف آية: 4. 4 مالك: الزكاة (617) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ولا نعلم خلافاً في أنه يجوز له أن يبذل مالاً لمن يدلّه على ما فيه مصالح المسلمين. "وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة دليلاً"، فإن كان من مال الكفار جاز أن يكون مجهولاً، "لأنه صلى الله عليه وسلم جعل لسرية الثلث والربع". وله أن ينفل في البدأة الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده، وذلك إذا دخل الجيش بعث سرية تغير، وإذا رجع بعث أخرى، فما أتت به أخرج خمسه، وأعطى السرية ما جعل لها، وقسم الباقي للجيش والسرية معاً؛ وبهذا قال جماعة من أهل العلم. وعن عمرو بن شعيب: "لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ولعله احتج بقوله: {الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} . 1 وقال ابن المسيب ومالك: لا نفل إلا من الخمس. وقال الشافعي: من خمس الخمس. ولنا: حديث مسلمة: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة"، 2 وفي لفظ: "أنه كان ينفل الربع بعد الخمس، والثلث بعد الخمس إذا قفل". رواهما أبو داود. وعن جرير أنه لما قدمه عمر في قومه قال له: "هل لك أن تأتي الكوفة، ولك الثلث بعد الخمس، من كل أرض وشيء؟ ". وذكر مكحول حديث حبيب بن مسلمة لعمرو بن شعيب حين قال: "لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: شغلك أكل الزبيب بالطائف"; وما ثبت له صلى الله عليه وسلم ثبت للأئمة بعده، ما لم يقم دليل التخصيص. ولا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث والربع، نص عليه؛ وهو قول الجمهور. وقال الشافعي: لا حدَّ للنفل، هو موكول إلى اجتهاد الإمام، لأن في حديث ابن عمر: "أنه نفل نصف السدس ونفل مرّة الثلث ومرة الربع"، وما ذكره يدل على أنه   1 سورة الأنفال آية: 1. 2 أبو داود: الجهاد (2750) , وابن ماجة: الجهاد (2853) , وأحمد (4/160) , والدارمي: السير (2483) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ليس لأقله حد. ونحنُ نقول به، على أن هذا مع قوله: أن النفل من خمس الخمس، يناقض. وسئل أحمد: للأمير أن يعطي رجلاً رأساً من السبي أو دابة؟ قال: إذا كان رجل له غناء ونفائل، ذلك أنفع له، يحرضه هو وغيره. وقال: إذا نفل الإمام صبيحة مغار الخيل، فيصيب بعضهم وبعضهم لا يأتي بشيء، فللوالي أن يخص بعض هؤلاء الذين جاؤوا بشيء دون هؤلاء؛ وظاهره من غير شرط. وحجة هذا: حديث سلمة حين "أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فاتبعتهم. فأعطاني سهم الفارس والراجل". 1 رواه مسلم، وحديث تنفيل أبي بكر له المرأة. فإن قال: من فعل كذا فله كذا، جاز في قول الأكثر، وكره مالك هذا، وقال: قتالهم على هذا الوجه للدنيا، وقال: لا نفل إلا بعد إحراز الغنيمة. وقال: قوله: "من قتل قتيلاً فله سلبُه" 2 بعد أن برد القتال. ولنا: تنفيل الثلث والربع، وما شرط عمر لجرير على أن يأتي الكوفة. وقوله: بعد ما برد القتال، جوابه: أن ذلك ثابت الحكم فيما يأتي من الغزوات. والنفل لا يختص بنوع من المال. وقال الأوزاعي: لا نفل في الدراهم والدنانير، لأن القاتل لا يستحق شيئاً، منها فكذلك غيره. ولنا: حديث الثلث والربع وهو عام. وأما القاتل، فإنما نفل السلب فلا يستحق غير ما جعل له. قيل لأحمد: إذا قال: من رجع إلى الساقة فله دينار، والرجل يعمل في سياقة الغنم، قال: لم يزل أهل الشام يفعلون هذا. قيل له: فالإمام يخرج السرية وقد نفلهم جميعاً، فلما كان يوم المغار نادى: من جاء بعشرة رؤوس فله رأس، قال: لا بأس. قيل: نفلين في شيء واحد؟ قال: نعم، ما لم يستغرق الثلث. قال أحمد: "والنفل من أربعة أخماس الغنيمة"، هذا قول أنس بن مالك وفقهاء الشام. قال أبو عبيد: الناس اليوم على هذا. قال أحمد: كان ابن المسيب ومالك يقولان: لا نفل إلا من الخمس، فكيف خفي عليهما هذا مع علمهما؟   1 أبو داود: الجهاد (2752) . 2 الترمذي: السير (1562) , وأبو داود: الجهاد (2717) , وأحمد (5/295) , ومالك: الجهاد (990) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وقال طائفة: إن شاء نفلهم قبل الخمس، وإن شاء بعده. وقال أبو ثور: النفل قبل الخمس، واحتج من ذهب إليه بحديث ابن عمر: "كانت سِهْمانهم اثني عشر بعيراً، فنفلوا بعيراً بعيراً". ولنا: حديث معن: "لا نفل إلا بعد الخمس"، 1 رواه أبو داود، وحديث حبيب: "كان ينفل الربع بعد الخمس"، 2 وحديث جرير: "لك الثلث بعد الخمس"، 3 ولقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية، 4 يقتضي أن يكون خارجاً من الغنيمة، وحديث عمرو بن شعيب عن نافع عن ابن عمر قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش قبل نجد، وانبعث سرية من الجيش، فكانت سهمان الجيش اثني عشر بعيراً، ونفل أهل السرية بعيراً بعيراً"، إذ كانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيراً، فيمكن أن يكون نفلهم من أربعة الأخماس دون البقية؛ ويتعين حمله على هذا، لأنه لو أعطى جميع الجيش لم يكن ذلك نفلاً وكان قد قسم له أكثر من أربعة الأخماس، وهو خلاف الآية والأخبار. وكلام أحمد في أن النفل من أربعة الأخماس عام، ويحتمل أن قوله: من جاء بكذا فله كذا، أن يكون من الغنيمة كلها، وكذلك يحتمل أنه في زيادة بعض الغانمين على سهمه، ويكون من خمس الخمس المعد للمصالح. والمذهب الأول، لأن عطية سلمه سهم الفارس زيادة، إنما كان من أربعة الأخماس. وإذا بعث سرية فنفلها الثلث أو الربع، فخص به بعضهم، أو جاء بعضهم بشيء فنفله ولم يأت بعضهم بشيء فلم ينفله، شارك من نفل من لم ينفل؛ نص عليه، لأن هؤلاء إنما أخذوا بقوة هؤلاء. ويلزم الجيش طاعة الأمير، والنصح له، والصبر، لقوله تعالى: {وَأُولِي   1 أبو داود: الجهاد (2753) , وأحمد (3/470) . 2 أبو داود: الجهاد (2749) , وأحمد (4/160) . 3 أبو داود: الجهاد (2748) , وابن ماجة: الجهاد (2851, 853) , وأحمد (4/159, /160) , والدارمي: السير (2483) . 4 سورة الأنفال آية: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الأَمْرِ مِنْكُمْ} 1. ولا يجوز لأحد أن يخرج من العسكر لتحصيل علف أو حطب، ولا يبارز، ولا يحدث حدثاً، إلا بأذن الأمير، لقوله تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا} الآية. 2 وتجوز المبارزة بإذنه قي قول عامة أهل العلم، إلا الحسن فإنه كرهها. ولنا: "أن الصحابة يبارزون في عصره صلى الله عليه وسلم وبعده"، فلم ينكر، فكان إجماعاً. ورخص فيها مالك والشافعي بلا إذن الأمير، "لأن أبا قتادة بارز رجلاً يوم حنين فقتله، ولم يستأذن"، وكذلك غيره لم يُعلم منهم استئذان. ولنا: أن الإمام أعلم بفرسانه وفرسان عدوه، ويفوّض ذلك إليه، لجبر قلوب المسلمين وكسر قلوب الكافرين. "وأبو قتادة رأى رجلاً يريد قتل رجل، فضربه، بعد التحام الحرب"، وليس هذا هو المبارزة [بل هي: أن يبرز رجل بين الصفين قبل التحام الحرب، يدعو إلى المبارزة] . 3 فإن دعا كافر إليها، استحب لمن يعلم من نفسه القوة أن يبارز، ويباح أن يطلبها ابتداء. وتكره للضعيف الذي لا يعلم من نفسه ذلك. فإن شرط الكافر أن لا يقاتله غير الخارج إليه، فله ذل، ك لقوله تعالى: {أوفوا بالعقود} . 4 ويجوز رميه قبل البراز، إلا إن جرت العادة بأن من خرج لا يعرض له، كالشرط. فإن انهزم المسلم أو أثخن بالجراح، جاز الدفع عنه بقتال الكافر، خلافاً للأوزاعي. ولنا: "أن حمزة وعلياً أعانا أبا عبيدة". وتجوز الخدعة في الحرب للمبارزة وغيره، لقوله: "الحرب خدعة"؛ جوّز الخدعة في الحرب للمبارزة وغيره، لقوله: "الحرب خدعة" 5. واستحقاق سلب القتيل للقاتل، لا نعلم فيه خلافاً في الجملة. ويستحقه كل من يستحق السهم أو الرضخ. وللشافعي فيمن لا سهم له قولان. ولنا:   1 سورة النساء آية: 59. 2 سورة النور آية: 62. 3 زيادة من المخطوطة. 4 سورة المائدة آية: 1. 5 البخاري: الجهاد والسير (3028) , ومسلم: الجهاد والسير (1740) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 عموم الخبر، وقال مسروق والأوزاعي: "إذا التقى الزحفان فلا سلب"، ونحوه قول نافع وغيره. ولنا: العموم، و"لأن أبا قتادة وأبا طلحة إنما أخذا الأسلاب بعد أن التقى الزحفان". قال أحمد: السلب للقاتل في المبارزة لا يكون في الهزيمة، فإن رماه من الصف فلا سلب له، وكذلك إن أدركه منهزماً فأعطى سلبه. وقال أبو ثور وابن المنذر: السلب لكل قاتل، لعموم الخبر، وحديث سلمة. ولنا:"أن عبد الله وقف على أبي جهل، فلم يعطه سلبه، وأمر بقتل عقبة والنضر، ولم يعط سلبهما من قتلهما، وإنما أعطاه من يبارز بنفسه"، وكفى المسلمين شره. والمنهزم بعد الحرب كفى المسلمين نفسه، والذي قتله سلمة متحيز إلى فئة. ولا يخمس السلب، وبه قال الشافعي وابن المنذر. وقال ابن عباس: "يخمس"، وبه قال الأوزاعي ومكحول، لعموم الآية. قال إسحاق: إن استكثره الإمام خمسه، وذلك إليه، لما روي عن عمر في سلب المرزبان، رواه سعيد. ولنا: حديث عوف وخالد، رواه أبو داود. قال الجوزجاني: لا أظنه يجوز لأحد في شيء سبق من الرسول فيه شيء، إلا اتباعه. والسلب من أصل الغنيمة. وقال مالك: من خمس الخمس. ولنا: أنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم جعله منه، ولأنه لو فعله لاحتيج إلى معرفة قدره. ويستحق السلب، وإن لم يقله الإمام، وبه قال الشافعي. وقال الثوري: لا يستحق إلا أن يشرطه الإمام. وقال مالك: لم نر أن نقوله إلا بعد انقضاء الحرب. وجعلوه من الأنفال، لقوله: "لا تعطه يا خالد"، وقول سعيد لبشير في سلب العلج: "نفلناه إياه"، و"لأنه دفع إلى أبي قتادة من غير بينة". ولنا: قوله: "من قتل قتيلاً فله سلبه". 1 وهذا من قضاياه المشهورة التي عمل بها الخلفاء بعده، وقوله: "لا تعطه يا خالد" عقوبة حين أغضبه عوف بتقريعه خالداً بين يديه، وقول سعد: "نفلناه" سماه نفلاً، لأنه   1 الترمذي: السير (1562) , وأبو داود: الجهاد (2717) , وأحمد (5/295) , ومالك: الجهاد (990) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 زيادة على سهم، وأما أبو قتادة فإن خصمه اعترف له به، لكن قال أحمد: لا يعجبني أن يأخذه إلا بإذن الإمام. وقال الشافعي: له أخذه بلا إذن. وإن قتله اثنان فسلبه غنيمة، وقيل بينهما. ولنا: أنه لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم قضى به لاثنين. وإن اشتركا في ضربه وكان أحدهما أبلغ في ضربه من الآخر، فسلبه له، وقال: "كلاكما قتله. وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو". وإن أسره وقتله الإمام فسلبه غنيمة، وقال مكحول: لا يكون إلا لمن قتله أو أسره. ولنا: قصة عقبة والنضر. وإن قطع يده ورجله، وقتله آخر، فسلبه غنيمة، وقيل: للقاطع، لأنه عطّله. وقيل: للقاتل، لعموم الخبر. وإن عانق رجلاً فقتله آخر، فالسلب للقاتل، وبه قال الشافعي. وقال الأوزاعي: للمعانق. ولنا: العموم، وقصة أبي قتادة. ولا يقبل إلا ببينة. وقال الأوزاعي: يقبل بلا بينة، لقصة أبي قتادة. ولنا: قوله: "من قتل قتيلاً" الحديث، وأبو قتادة أعطي لاعتراف الخصم. وسلبه: ما لبسه وسلاحه؛ فأما المال الذي معهُ وهميانه فليس منه، وقال الشافعي: ما لا يحتاج إليه في الحرب، كالتاج والسوار ليس منه. ولنا: "أن البراء بارز المرزبان فقتله، فبلغ سواره ومنطقته ثلاثين ألفاً، فخمسه عمر فدفعه إليه"، فأما الدابة فعنه: ليست منه. وذكر حديث عمرو بن معدي كرب بأخذ سواره من منطقته يعني: ولم يذكر الدابة. وعنه: أنها منه، وبه قال الشافعي، لحديث عوف في غزوة مؤتة. ويجوز سلبهم وتركهم عراة، وكرهه الثوري وابن المنذر. ولنا: قوله لسلمة: "له سلبه أجمع". ويكره نقل الرؤوس والمثلة والتعذيب، قال الزهري: "لم يُنقل إليه، صلى الله عليه، رأس قط، وحُمل إلى أبي بكر فأنكره". وأول من حُمل إليه الرؤوس ابن الزبير. ومن أعطي شيئاً ليستعين به في غزاوته، فما فضل فهو له. و"كان ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 عمر إذا أعطي شيئاً في الغزو يقول لصاحبه: إذا بلغت وادي القرى فشأنك به، وإن أعطاه لغزو مطلقاً أنفقه في غزاة أخرى". وقال أحمد: لا يترك لأهله منه شيئاً، إلا أن يصير إلى رأس مغزاه، فيكون كهيئة ماله، فيبعث إلى عياله منه. وإذا أعطي دابة ليغزو عليها، فإذا غزا عليها ملكها، لأن الذي باع فرس عمر إنما كان بعد الغزو، إلا أنه لا يأخذه منه ويبيعه في الحال، ذكر أحمد نحو هذا، قيل له: فحديث ابنه: "إذا بلغت وادي القرى فشأنك به"؟ قال: "ابن عمر يصنع ذلك في ماله"، وهذا قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: ولا أعلم أن أحداً قال: إن له أن يبيعه في مكانه. وكان مالك لا يرى أن ينتفع بثمنه في غير سبيل الله، إلا أن يقول: شأنك به ما أردت. ولنا: أن حديث ابن عمر ليس فيه هذا الشرط. وإن دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الإمام، فغنيمتهم كغيرهم، هذا قول الأكثر، للآية. وعنه: هو لهم من غير أن يخمس، وبه قال أبو حنيفة، لأنه اكتساب مباح كالاحتطاب. وعنه: لا حق لهم فيها، هي للمسلمين؛ والأول أولى. وإن كانت الطائفة لهم منعة، ففيه روايتان: أصحهما: تخمس والباقي لهم. ولا يتزوج في أرض العدو، إلا أن يخاف أن تغلبه الشهوة، فيتزوج مسلمة ويعزل. قال شيخنا: هذا فيمن دخل أرضهم بأمان، فإن كان في جيش المسلمين، فله التزوج. فأما الأسير، فلا يتزوج. وإذا اشترى منهم جارية، فلا يطؤها في أرضهم، لئلا يُغلب على ولدها. وأجمعوا - إلا من شذ - أن الغزو إذا دخلوا أرض الحرب، أن لهم أن يأكلوا من طعامهم ويعلفوا دوابهم من علفهم، وقال الزهري: لا تؤخذ إلا بإذن الإمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ولا يجوز لبس الثياب ولا ركوب الدابة، لحديث رويفع مرفوعاً: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يركب دابة من فيء المسلمين، حتى إذا أعجفها ردها فيه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يلبس ثوباً من فيء المسلمين، حتى إذا أخلقه رده فيه"، رواه سعيد. ونقل المروزي: لا بأس أن يركب دابة ولا يعجفها. ولا يجوز الانتفاع بجلودهم ولا الخيوط ولا الحبال، وبه قال الشافعي. ورخص مالك في الإبرة، والحبل يتخذ من الشعر، والنعل والخف يتخذ من جلود البقر. ولنا: قوله في كبة الشعر: "نصيبي منها لك"، وقوله: "أدُّوا الخيط والمخيط ... إلخ". 1 وإن كانت كتبهم مما ينتفع به ككتب اللغة والشعر، فغنيمة. وإن كانت مما لا ينتفع به، وأمكن الانتفاع بجلودها، فهو غنيمة. فإن فضل من الطعام شيء فأدخله البلد، فإن كان كثيراً رده في المغنم بغير خلاف، وإن كان يسيراً فله أكله، وبه قال مالك. وعنه: يرده، وبه قال أبو حنيفة وابن المنذر والشافعي في أحد قوليه، لقوله: "أدّوا الخيط والمخيط". 2 قال أحمد: أهل الشام يتساهلون في هذا. قال الأوزاعي: "أدركت الناس يقدمون بالقديد، فيهدي بعضهم إلى بعض، لا ينكره إمام ولا عامل ولا جماعة". وإذا اجتمعت المغانم وفيها طعام أو علف، لم يجز أخذه إلا لضرورة. فإذا دعت الحاجة إلى القتال بسلاحهم فلا بأس، وذكر أحمد قول عبد الله: "أخذت سيفه يعني: أبا جهل، فضربته به حتى برد"، ولأنهم أجمعوا على أن يلتقط النشاب ويرمي بها العدو، وهو أبلغ. وفي ركوب الفرس روايتان: إحداهما: يجوز. والثانية: لا يجوز، لحديث رويفع.   1 ابن ماجة: الجهاد (2850) . 2 ابن ماجة: الجهاد (2850) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 باب قسمة الغنائم إذا أخذ الكفار مال مسلم، ثم أخذه المسلمون، فإن كان قبل القسمة أخذه صاحبه، في قول عامة أهل العلم، لحديث ابن عمر وغيره. وإن كان بعدها، فهو أحق به بالثمن. وعنه: "لا حقَّ له فيه"، وهو قول عمر وعلي. قال أحمد: أما قول من قال: فهو أحق به بالقيمة، فهو قول ضعيف عن مجاهد. وقال الشافعي وابن المنذر: يأخذه قبل القسمة وبعدها. قال أحمد: إنما قال الناس فيها قولين: إذا قسم فلا شيء له، وقال قوم: إذا قسم فهو أحق به بالثمن. فأما أن يكون له بعد القسمة بغير ذلك، فلم يقله أحد. فإن أخذه أحد الرعية بهبة أو بسرقة، فصاحبه أحق به بغير شيء. وقال أبو حنيفة: لا يأخذه إلا بالقيمة. ولنا: ما روى مسلم: "أن قوماً أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذوا ناقة وجارية من الأنصار. فأقامت عندهم أياماً، ثم خرجت في بعض الليل. قالت: فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت، حتى وضعتها على ناقة ذلول، فامتطيتها، ثم توجهت إلى المدينة. ونذرت: إن نجاني الله عليها أن أنحرها. فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة، فإذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها" الحديث. فأما إن اشتراه من العدو، فليس لصاحبه أخذه إلا بثمنه. وحكم أموال أهل الذمة كذلك، فإن كان عليه علامة المسلمين ولم يعرف صاحبه، فهو غنيمة، وبه قال الثوري والأوزاعي. وقال الشافعي: يوقف حتى يجيء صاحبه. وإن وجد عليه حبس في سبيل الله، رد كما كان، نص عليه؛ وبه قال الأوزاعي والشافعي. وقال الثوري: يقسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 ويملك الكفار أموال المسلمين بالقهر، وهو قول مالك. وعنه: لا. وهو قول الشافعي، لحديث الجارية. ووجه الأولى: أن الناقة إنما أخذها النبي صلى الله عليه وسلم لأنها غير مقسومة ولا مشتراة. ويملكونها قبل حيازتها إلى دار الكفر، وبه قال مالك. وعنه: بالحيازة إلى دارهم، وبه قال أبو حنيفة. وإن استولوا على حر لم يملكوه، لا نعلم فيه خلافاً. وإذا قدر المسلمون على أهل الذمة، وجب ردهم إلى ذمتهم، ولم يجز استرقاقهم، لا نعلم فيه خلافاً. وإذا وجد ركاز في دارهم، فإن كان في موضع يقدر عليه بنفسه، فهو له، وإن لم يقدر عليه إلا بجماعة المسلمين، فهو غنيمة. ونحوه قول مالك والأوزاعي. وقال الشافعي: إن وجده في مواتهم، فهو مثل ما لو وجده في دار الإسلام. ولنا: حديث أبي الجويرية: "لقيت بأرض الروم جرة فأتيت بها الأمير فقسمها بين المسلمين". رواه أبو داود. وإن وجد في دارهم لقطة، فإن كانت من متاع المسلمين فهي كما لو وجدها في غيره، وإن كانت من متاع المشركين فهي غنيمة؛ وبه قال أبو حنيفة والثوري. وقال الشافعي: ينفرد بأخذه، لأنه لو أخذه في دار الإسلام ملكه. ولنا: أنه ذو قيمة مأخوذة بقوة المسلمين. وأما ما أخذه في دار الإسلام فلا يحتاج إلى الجيش. وإن كان مما لا قيمة له، فله أخذه وهو أحق به، ولو صار له قيمة بمعالجته أو نقله، نص عليه؛ وبه قال الأوزاعي والشافعي. وقال الثوري: يرده في المقسم، وإن عالجه أعطي قدر عمله. ولنا: أن القيمة إنما صارت بعمله أو بنقله، فلم يكن غنيمة. وإن ترك صاحب المقسم شيئاً من الغنيمة عجزاً عن حمله فقال: من أخذ شيئاً فهو له، ملكه بأخذه نص عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وسئل: عما تركه الوالي مما لا يباع ولا يشترى، أيأخذه الإنسان لنفسه؟ قال: نعم. ونحوه قول مالك، لأنه إذا لم يقدر على حمله يصير بمنزلة ما لا قيمة له. وتملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب، ويجوز قسمها فيها، وبه قال مالك والشافعي. وقال أصحاب الرأي: لا يقسم إلا في دار الإسلام. ولنا: قول الأوزاعي: "لا أعلم أنه صلى الله عليه وسلم قسم شيئا بالمدينة من المغانم". وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال وإن لم يقاتل، لأنه ردء للمقاتل معين، وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا سهم للتاجر والصانع، إلا أن يقاتلوا. وأما المريض العاجز عن القتال والمخذل والمرجف والفرس الضعيف، فلا حق له، وبه قال مالك. وقال الشافعي: يسهم له كالمريض. وإذا لحق مدداً أو هرب أسير فأدركوا الحرب قبل تقضيها، أسهم لهم، وإن جاؤوا بعد إحراز الغنيمة، فلا شيء لهم. ومن بعثهم الأمير لمصلحة الجيش أسهم لهم. وسئل أحمد: عن قوم خلفهم الأمير وأغار في جلد الخيل فقال: إن أقاموا في بلد العدو حتى رجع، أسهم لهم، قيل له: فإن اعتل رجل أو اعتلت دابة، فقال له الأمير: أقم، وأسهم لك، أو انصرف أسهم لك؟ فكرهه وقال: ينصرف إلى أهله، كيف يسهم له؟! وإذا أراد القسمة، بدأ بالأسلاب فدفعها إلى أهلها، فإن كان فيها مال مسلم أو ذمي دفعه إليه، ثم بمؤنة الغنيمة من أجرة الجمال والحافظ والمخزن والحاسب، ثم بالرضخ - وقيل يبدأ بالخمس قبله -. ثم يخمس الباقي، فيقسم خمسة على خمسة أسهم، ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن الغنيمة مخموسة، للآية، وقد ذكرناه. وقيل: يقسم على ستة أسهم: سهم لله، وسهم لرسوله، لظاهر الآية. وروي عن الحسن وقتادة في سهم ذوي القربى: "كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما توفي حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله". وعن ابن عباس: "أن أبا بكر وعمر قسما الخمس ثلاثة أسهم"، وهو قول أصحاب الرأي، قالوا: يقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل. وقال: مالك الفيء والخمس واحد، يجعلان في بيت المال. وقال الثوري: الخمس يضعه الإمام حيث أراه الله. وسئل ابن عباس عن سهم ذوي القربى فقال: "كنا نزعم أنه لنا فأبى علينا قومنا"، وذكر لأحمد قول أبي بكر وعمر، فسكت فلم يذهب إليه، ورأى أن قول ابن عباس أولى، لموافقة الكتاب والسنة. وقالت طائفة: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للخليفة بعده، لقوله: "إذا أطعم الله نبياً طعمة ثم قبضه، فهي للذي يقوم بها من بعده". 1 رواه أبو بكر عنه: قال: "قد رأيت أن أرده على المسلمين. فاتفق هو وعمر والصحابة على وضعه في الخيل والعدة في سبيل الله". و"كان له صلى الله عليه وسلم الصفي"، وهو شيء يختاره من الغنيمة قبل القسمة، كالعبد والجارية والثوب ونحوه، هذا قول غير واحد. وقال أحمد: هو خاص به صلى الله عليه وسلم، لا نعلم فيه خلافاً، إلا أن أبا ثور قال: للإمام أخذه. وأنكر قومٌ الصفي، واحتجوا بحديث جبيرك "والذي نفسي بيده ليس لي مما أفاء الله ... إلخ". ولنا: كتابه صلى الله عليه وسلم إلى بني زهير، رواه أبو داود، وفيه: "وأدّيتم الصفيّ، فإنكم آمنون بأمان الله ورسوله". 2 رواه أبو داود، وقالت عائشة: "كانت صفية من الصفي". رواه أبو داود. وسهم ذوي القربى: للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو مذهب الشافعي، وقيل: يختص بالفقراء. ولنا: عموم الآية، و"لأن عثمان وجبيراً طلبا حقهما   1 أبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2973) . 2 أبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2999) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وهما موسران". وسئل: عن علة المنع؟ فعلله بنصرة بني المطلب. والمشهور من مذهب الشافعي: أن اليتامى لا يستحقون إلا مع الفقر، قال شيخنا: لا أعلم في هذا نصًا عن أحمد، والآية تقتضي التعميم. ويرضخ لمن لا سهم له، وهم: العبيد والنساء والصبيان، هذا قول أكثر أهل العلم، وبه قال مالك في المرأة والعبد. وقال أبو ثور: يسهم للعبد. وروي عن الحسن والنخعي، لحديث الأسود: "أسهم لهم يوم القادسية". وقال الأوزاعي: ليس لهم سهم ولا رضخ. ويسهم للمرأة، لحديث جبير بن زياد عن جدته: "أنه أسهم لهن يوم خيبر وأسهم أبو موسى في غزوة تستر لنسوة معه". ولنا: حديث ابن عباس، رواه مسلم، وعن عمير مولى أبي اللحم: "أنه شهد فتح خيبر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أني مملوك، فأمر لي بشيء من خرثي المتاع". رواه أبو داود، واحتج به أحمد. وأما ما روي في سهامهن، فيحتمل أن الراوي سمى الرضخ سهماً. وقال مالك: يسهم للصبي إذا قاتل وأطاق القتال، وكذا قال الأوزاعي: "أسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم بخيبر". ولنا: قول ابن المسيب: "كان الصبيان والعبيد يُحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة"، وحديث تميم بن قزع الفهري، قال الجوزجاني: هذا من مشاهير حديث مضر وجيده. فإن انفرد بالغنيمة من لا سهم له، كعبيد دخلوا في دار الحرب، أخذ خمسه، والباقي لهم. وإن غزا الكافر مع الإمام بإذنه، فعنه: يسهم له، وبه قال الزهري والثوري والأوزاعي وإسحاق. قال الجوزجاني: هذا قول أهل الثغور، وأهل العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 بالبعوث. وعنه: لا يسهم له، وبه قال الشافعي ومالك. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم أسهم لصفوان بن أمية يوم حنين". وإن غزا العبد على فرس لسيده، قسم للفرس ورضخ له، وقال الشافعي: لا يسهم للفرس. ومن استعار فرساً فسهمها للمستعير، وبه قال الشافعي، وعنه: لمالكها. فإن استأجرها فسهمها له، لا نعلم فيه خلافاً. وإن غزا على فرس حبيس، فسهمها له. وأجمع أهل العلم على أن للغانمين أربعة أخماس الغنيمة، وقال أكثرهم: للراجل سهم، وللفارس ثلاثة: له سهم ولفرسه سهمان. قال ابن المنذر: هذا قول عوام أهل العلم في القديم والحديث. وقال أبو حنيفة: للفرس سهم واحد. والهجين الذي أبوه عربي وأمه برذون يكون له سهم، وبه قال الحسن، وعنه: له سهمان؛ وبه قال مالك والشافعي، لعموم الخبر. ولا يسهم لأكثر من فرسين، وقال الشافعي ومالك: لا يسهم لأكثر من واحد. ولنا: أن عمر قضى بذلك. ولا يسهم لغير الخيل، وعنه: يسهم للبعير سهم. ومن دخل دار الحرب راجلاً، ثم ملك فرساً أو استعاره فشهد به الوقعة، فله سهم فارس. وقال أبو حنيفة: الاعتبار بدخول دار الحرب، قال أحمد: أنا أرى أن كل من شهد الوقعة على أي حال كان يعطى: إن كان فارساً ففارساً، وإن كان راجلاً فراجلاً، لأن عمر قال: "الغنيمة لمن شهد الوقعة". ومن غصب فرساً، فسهمه لمالكه، نص عليه. ولو قال الإمام: من أخذ شيئاً فهو له، أو فضّل بعضهم على بعض، لم يجز في إحدى الروايتين، وعنه: يجوز، لأنه عليه السلام قال يوم بدر: "من أخذ شيئاً فهو له"، 1 وقضية بدر   1 أحمد (1/178) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 منسوخة، لأنهم اختلفوا فيها، فأنزل الله: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ} الآية 1. وأما تفضيل بعضهم على بعض، فلا يجوز. وقال الإمام أحمد في الإمام يستأجر قوماً يدخل بهم بلاد العدو: لا يسهم لهم، ويوفى لهم بأجرتهم، لحديث يعلى بن منير، رواه أبو داود، وفيه: "لا أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمّى". 2 وأما الأجير للخدمة والمكري دابته، ففيه روايتان: إحداهما: لا يسهم له، قاله إسحاق والأوزاعي. والثانية: يسهم له، وبه قال ابن المنذر ومالك، وبه قال الليث إذا قاتل. وإن اشتغل بالخدمة فلا سهم له، واحتج ابن المنذر بحديث سلمة: "أنه كان أجيراً لطلحة حين أدرك ابن عيينة حين أغار على سرح النبي صلى الله عليه وسلم، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل". ومن قتل قبل حيازة الغنيمة، فلا سهم له. وقال الشافعي: إن قتل وقد حضر الوقعة قبل حيازة الغنيمة أو بعدها، أسهم له. وإذا فصل الجيش غازياً، فخرجت منه سرية، فأيهما غنم شاركه الآخر، في قول عامة أهل العلم. وقال النخعي: إن شاء نفلهم الإمام إياه كله، يعني: السرية. ولنا: ما روي: "أنه صلى الله عليه وسلم بعث سرية من الجيش قبل أوطاس، فغنمت السرية، فأشرك بينها وبين الجيش"، ولأن كلاً منهما ردء لصاحبه. وقال أحمد: لا يشتري الأمير من المغنم شيئاً، لأنه يحابي به و"لأن عمر رد ما اشتراه ابنه في غزوة جلولاء، وقال: إنه يحابي"، احتج به أحمد. والغالّ يحرق رحله كله، وبه قال الحسن وفقهاء الشام. وقال مالك والشافعي: لا يحرق، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولأنه منهي عن إضاعة المال. ولنا: حديث سالم   1 سورة الأنفال آية: 1. 2 أبو داود: الجهاد (2527) , وأحمد (4/223) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 عن أبيه عن عمر، وحديثهم لا حجة فيه؛ فإن الرجل توانى في المجيء به، وليس الخلاف فيه، ولأنه جاء به من عند نفسه تائباً معتذراً، والتوبة تجبّ ما قبلها. وأما النهي عن إضاعة المال، فذلك لغير المصلحة، فأما إذا كان لمصلحة فلا يعدّ تضييعاً. و"لا يحرق المصحف، لحرمته، ولحديث سالم، وكذلك الحيوان، لنهيه صلى الله عليه وسلم عن التعذيب بالنار"، وكذلك السلاح، وكذلك آلة الدابة، نص عليه. وقال الأوزاعي: يحرق، ولا يحرق ما غلَّ لأنه من الغنيمة، نصَّ عليه. وهل يحرم سهمه؟ على روايتين. ولنا: أنه لم يثبت في خبر، وإذا تاب قبل القسمة ردّه في المغنم، وبعدها، يدفع إلى الإمام خمسه، ويتصدق بالباقي؛ وبه قال الحسن والزهري ومالك. وقال الشافعي: لا أعرف للصدقة وجهاً. ولنا: أنه قول ابن مسعود ومعاوية ومن بعدهم، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم. وفدية الأسارى غنيمة بلا خلاف، وما أهدي للأمير أو بعض قواده في حال الغزو كذلك. وقال أبو حنيفة: هي لمن أهدي لهم بكل حال. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": يملك الكفار أموال المسلمين بالقهر، وفيها روايتان. قال الشيخ: لم ينص أحمد على الملك ولا على عدمه، وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك، قال: والصواب: أنهم يملكونها ملكاً مقيداً، لا يساوي أملاك المسلمين من كل وجه. قوله: سهم لله ولرسوله يصرف مصرف الفيء. وعنه: في المقاتلة والكراع والسلاح. وفي الانتصار: هو لمن يلي الخلافة بعده. وذكر الشيخ عن بعض أصحابنا: أن الله أضاف هذه الأموال إضافة ملك كسائر أموال الناس، ثم اختار قول بعض العلماء: أنها ليست ملكاً لأحد، بل أمرها إلى الله وإلى الرسول، ينفقها في ما أمره الله به. ويشترط في المستحقين من ذوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، أن يكونوا مسلمين، وأن يعطوا كالزكاة بلا نزاع. واختار الشيخ إعطاء الإمام من شاء منهم للمصلحة كالزكاة. واختار أن الفيء والخمس واحد، يصرف في المصالح. واختار ابن القيم في الهدي: أن الإمام يخيّر فيهم، ولا يتعداهم، كالزكاة. ولا يسهم لغير الفرس، وعنه: يسهم للبعير. وذكر القاضي أن أحمد قال: ليس للبغل شيء إلا النفل. قال الشيخ: هذا صريح أن البغل يجوز الرضخ له، وهو قياس الأصول؛ فإن الذي ينتفع به ولا يسهم له كالمرأة والصبي، يرضخ لهم. وإذا قال الإمام: من أخذ شيئاً فهو له، ففي جوازه روايتان. وقيل: يجوز للمصلحة، وإلا فلا؛ قلت: وهو الصواب. وإذا فضّل بعض الغانمين على بعض، ففيه روايتان، ومحلهما إذا كان المعطى في غناء مثل الشجاعة ونحوها، فإن كان لا غناء فيه، لم يجز، قولاً واحداً. وإذا كان لغناء فيه ولم يشرطه، فالصحيح جوازه. والغالّ يحرق رحله. واختار الشيخ أنه من باب التعزير، فيجتهد الإمام بحسب المصلحة؛ قلت: وهو الصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 باب حكم الأرضين المغصوبة ... باب حكم الأرضين المغنومة ما أجلي عنها أهلها بالسيف، خيّر الإمام بين وقفها وقسمها؛ وعنه: تصير وقفاً بالاستيلاء، وعنه: تقسم بين الغانمين. ولا نعلم أن شيئاً مما فتح عنوة قُسم إلا خيبر. قال أحمد: ومن يقوم على أرض الصلح والعنوة؟ وأين هي؟ وإلى أين هي؟ وقال: أرض الشام عنوة، إلا حمص وموضعاً آخر. وقال: ما دون النهر صلح، وما وراءه عنوة. وقال: فتح المسلمون السواد عنوة، إلا ما كان منه صلحاً، وهي أرض الحيرة وأرض بانقيا. وقال: أرض الري خلطوا في أمرها. والذي قسم بين الغانمين لا خراج عليه، وكذلك ما أسلم أهله عليه، وما صولحوا على أن الأرض لهم، وما أحياه المسلمون كأرض البصرة. وما جلا عنها أهلها خوفاً، حكمها حكم الفيء تصير وقفاً. وعنه: حكمها حكم العنوة. والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام. وعنه: لا يزاد على ما ضرب عمر ولا ينقص؛ وعنه: يجوز الزيادة دون النقص، لقول عمر لحذيفة وعثمان: "لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق؟ فقال عثمان: والله لو شئت زدت عليهم، فقال عمر: فلا تجهدهم"، فدل على إباحة الزيادة ما لم يجهدهم. و"كره شراء المزارع من أرض الخراج، لأن في الخراج معنى الذلة، وبهذا وردت الأخبار عن عمر وغيره"؛ ومعنى الشراء ههنا: أن يتقبل الأرض بما عليها من خراجها، لأن شراء هذه الأرض غير جائز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 باب الفيئ ... باب الفيء وهو: ما أُخذ من مال المشركين بغير قتال، كالجزية، والخراج، والعشر، وما تركوه فزعاً، وخمس خمس الغنيمة، ومال من لا وارث له، قال أحمد: الفيء فيه حق لكل المسلمين، وهو بين الغني والفقير. وقال عمر (: "ما من أحد من المسلمين إلا له في هذا المال حق، إلا العبيد، وقرأ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} حتى بلغ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ، 1 فقال: هذه استوعبت جميع المسلمين". وذكر القاضي أن الفيء مختص بأهل الجهاد، ويبدأ بالجند لأنهم أهم فيعطون كفايتهم، وما فضل قدم الأهم فالأهم، من عمارة المساجد والقناطر وإصلاح الطرق، وأرزاق القضاة والأئمة، وكل ما يعود نفعه على المسلمين. ثم يقسم ما فضل على المسلمين، لما ذكرنا من الآية، وقول عمر. وللشافعي قولان كنحو ما ذكرناه. واستدلوا على أن أربعة أخماس الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، لحديث خصومة علي والعباس عند عمر وقوله: "كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله، وكانت له خاصة دون المسلمين". قال شيخنا: وظاهر أخبار عمر أن الفيء للمسلمين، فإنه لما قرأ الآية في سورة الحشر، قال: "استوعبت جميع المسلمين"، فأما أموال بني النضير، فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم ينفق منها على أهله، لأنهم من أهم مصالح المسلمين؛ فيبدأ   1 سورة الحشر آية: 7-10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 بهم ثم يجعل باقيه أسوة المال. ويحتمل أنه اختص بها من الفيء، وترك سائره لمن سمى الله في الآية. وهذا مبين في قول عمر: "كانت لرسول الله خاصة دون المسلمين". قال أحمد: لا يخمس الفيء، وهو قول الأكثر، وعنه: بلى، كالغنيمة؛ وهو قول الشافعي، لقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية، 1 فظاهره أن جميعه لهؤلاء وهم أهل الخمس، ولحديث البراء وفيه: "وأخمس ماله"، وجاءت الأخبار دالة على اشتراك جميع المسلمين فيه عن عمر مستدلاً بالآيات التي بعدها؛ فوجب الجمع بينهما، ففي إيجاب الخمس جمع بينهما. فإن خمسه لمن سمي في الآية، وسائره يصرف إلى من في الآيتين، قال ابن المنذر: لا يحفظ عن أحد قبل الشافعي أن في الفيء خمساً، والدليل على هذا قول الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} ، 2 فجعله كله لهم خمساً، ولم يذكر خمساً، قال عمر لما قرأها: "استوعبت جميع المسلمين".   1 سورة الحشر آية: 7. 2 سورة الحشر آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 باب الأمان يصح أمان المسلم المكلف، ذكراً كان أو أنثى، وفي أمان الصبي المميز روايتان: يصح من كل مسلم بالغ عاقل، ذكراً كان أو أنثى، حراً أو عبداً، وهو قول الأكثر. 1 روي عن أبي حنيفة: لا يصح أمان العبد، إلا أن يكون مأذوناً له في القتال. ولنا: حديث عليّ، وفيه: "يسعى بذمتهم أدناهم" 2. ويصح أمان الأسير، إذا عقده غير مكره، وكذلك الأجير والتاجر في دار الحرب. وقال الثوري: لا يصح أمان أحد منهم. ولنا: عموم الحديث. وأما الصبي المميز، ففيه روايتان: إحداهما: لا يصح، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. والثانية: يصح، وبه قال مالك للعموم. ولا يصح أمان ذمي، لقوله صلى الله عليه وسلم: "يسعى بذمتهم أدناهم". 3 ويصح أمان أحد الرعية للواحد والعشرة والقافلة الصغيرة والحصن الصغير. ولا يصح لأهل بلدة وجمع كثير، لأنه يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتيات على الإمام. ويصح أمان الأسير بعد الاستيلاء عليه، "لأن عمر أمن الهرمزان وهو أسير". فأما أحد الرعية، فليس له ذلك، وهو مذهب الشافعي. وحكي عن الأوزاعي: أنه يصح، "لأن زينب أجارت أبا العاص وهو أسير، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم". ولنا: أن أمر الأسير مفوض إلى الإمام، وحديث زينب إنما صح بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم.   1 ظاهر النص أنه مكرر، لكن العبارة الأولى متن المقنع، والثانية من الشرح الكبير. 2 البخاري: الفرائض (6755) والاعتصام بالكتاب والسنة (7300) , ومسلم: الحج (1370) , والترمذي: الولاء والهبة (2127) , والنسائي: القسامة (4734) , وأبو داود: المناسك (2034) والديات (4530) , وأحمد (1/81, 1/119) . 3 البخاري: الفرائض (6755) والاعتصام بالكتاب والسنة (7300) , ومسلم: الحج (1370) , والترمذي: الولاء والهبة (2127) , والنسائي: القسامة (4734) , وأبو داود: المناسك (2034) والديات (4530) , وأحمد (1/81, 1/119) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 ولنا أن أمر الأسير مفوض إلى الإمام وحديث زينب إنما صح بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم وإذا شهد للأسير اثنان أو أكثر، أنهم أمنوه، قُبل إذا كانوا بصفة الشهود. وقال الشافعي: لا يقبل، لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم. ولنا: أنهم عدول غير متهمين، كما لو شهدوا على غيرهم أنه أمنه. فإن شهد واحد: أني أمنته، فقال القاضي: قياس قول أحمد: أنه يقبل، وهو قول الأوزاعي، ويحتمل أن لا يقبل، وبه قال الشافعي. وصفة الأمان الذي ورد به الشرع لفظتان: أجرتك، وأمنتك، قال تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ، 1 وقال: "من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن"، 2 وفي معناه: لا تخف، لا بأس عليك. وروي عن عمر أنه قال: "إذا قلتم: لا بأس، أو لا تذهل، أو مترس، فقد أمنتموه؛ فإن الله يعلم الألسنة"، ولا نعلم في هذا كله خلافاً. فإن قال: قف، أو أقم، أو ألق سلاحك، فقيل: هو له أمان، لأن الكافر يعتقده أماناً. وقال الأوزاعي: إن ادعى الكافر أنه أمان فهو أمان، وإلا فلا يقبل. فإن قال: نويت به الأمان فهو أمان، وإن قال: لم أنوه، وقال الكافر: أعتقد أنا أماناً، رد إلى مأمنه. فإن أشار عليهم بما اعتقدوه أماناً، وقال: أردت به الأمان فهو أمان، وإن قال: لم أرد به الأمان فالقول قوله، لأنه أعلم بنيته. فإن خرجوا من حصنهم بهذه الإشارة، لم يقتلوا، ويردون إلى مأمنهم، لقول عمر: "والله لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك، فنزل بأمانه، فقتله، لقتلته به". رواه سعيد   1 سورة التوبة آية: 6. 2 أبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3021) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وإن مات المسلم أو غاب، فإنهم يردون إلى مأمنهم، وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر. ومن جاء بمشرك وادعى أنه أمّنه، فأنكر، فالقول قوله. وعنه: قول الأسير. وعنه: من تدل الحال على صدقه. وإن طلب الأمان ليسمع كلام الله، وجب إجابته، ثم يرد إلى مأمنه، لا نعلم فيه خلافاً، للآية. قال الأوزاعي: هي إلى يوم القيامة. وإذا دخل حربي دار إسلام بغير أمان، فادعى أنه رسول، قُبل منه ولم يجز التعرض له، لقوله: "لولا أن الرسل لا تقتل ... إلخ". وإن ادعى أنه تاجر، وقد جرت العادة بدخول تجارهم إلينا، لم يعرض له إذا كان معه ما يبيعه، لأنهم دخلوا يعتقدون الأمان. قال أحمد: إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم تجار مشركون من أرض العدو، يريدون دار الإسلام، لم يعرضوا لهم؛ وكل من دخل بلاد الإسلام من أرض الحرب بتجارة بويع، ولا يسأل عن شيء. وإن كان ممن ضل في الطريق، أو حملته الريح في مركب إلينا، فهو لمن أخذه، في إحدى الروايتين. والأخرى: يكون فيئاً، لأنه أخذ بغير قتال. روي عن أحمد أنه سئل عن: الدابة تخرج من بلد الروم فتدخل القرية؟ وعن القوم يضلون في الطريق فيدخلون القرية؟ قال: تكون لأهل القرية يتقاسمونها. وقال الزهري: غنيمة، وفيها الخمس. ومن دخل دار الحرب رسولاً أو تاجراً، فخيانتهم محرمة عليه، لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطاً بترك خيانتهم، وكذلك من جاءنا منهم بأمان، فمتى خان انتقض عهده. وإذا أودع المستأمن ماله مسلماً أو أقرضه، ثم عاد إلى دار الحرب، بقي الأمان في ماله، فإذا طلبه صاحبه بعث إليه، وإن مات في دار الحرب انتقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 المال إلى وارثه ولم يبطل الأمان فيه. وقال أبو حنيفة والشافعي: يبطل، لأنه صار لورثته ولم يعقد فيه أماناً. ولنا: أن الأمان حق لازم متعلق بالمال، وهذا اختيار المزني؛ وإن لم يكن وارثاً صار فيئاً. وإن أخذ المسلم من الحربي مالاً وديعة أو مضاربة، فدخل بها دار الإسلام، فهو في أمان. وإن أطلقوا الأسير بشرط أنه يقيم عندهم مدة، لزمه الوفاء، لقوله: "المؤمنون عند شروطهم"، وقال الشافعي: لا يلزمه. وإن أطلقوه وأمنوه صاروا في أمان منه، لأن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه. وإن لم يشرطوا شيئاً، أو شرطوا كونه رقيقاً، فله أن يقتل ويسرق ويهرب. وإن أحلفوه على ذلك، وكان مكرهاً، لم تنعقد يمينه. وإن أطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالاً، وإن عجز عنه عاد إليهم، لزمه الوفاء، إلا أن تكون امرأة. وقال الخرقي: لا يرجع الرجل أيضاً، نص عليه. وإن كان مكرهاً، لم يلزمه الرجوع ولا الفداء، لقوله: "عُفي لأمتي ... إلخ". وإن لم يكره وقدر على الفداء، لزمه، وبه قال الحسن وغيره. وقال الشافعي: لا يلزمه، لأنه حر لا يستحقون بدله. ولنا: قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} . 1 ولما صالح أهل الحديبية وفى لهم، وقال: "لا يصلح في ديننا الغدر"، ولأن الوفاء مصلحة للأسارى، وفي الغدر مفسدة في حقهم. فإن عجز أو كانت امرأة، لم ترجع، لقوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} الآية. 2 وفي الرجل روايتان: إحداهما: لا يرجع، وبه قال الحسن والنخعي والشافعي، لأن الرجوع إليهم معصية. والثانية: يلزمه، وهو قول الزهري والأوزاعي، لقصة أبي بصير. وإذا اشترى المسلم أسيراً بإذنه، لزمه أن يؤدي إلى الذي اشتراه ما أداه   1 سورة النحل آية: 91. 2 سورة الممتحنة آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 فيه، بغير خلاف، وإن كان بغير إذنه، لزمه أيضاً، وبه قال الحسن وغيره. وقال الشافعي وابن المنذر: لا يلزمه، لأنه تبرع بما لا يلزمه. ولنا: ما روى سعيد أن عمر كتب إلى السائب: "أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه، فهو أحق به من غيره. وإن أصابه في أيدي التجار بعد ما اقتسم، فلا سبيل إليه. وأيما حر اشتراه التجار، فإنه يرد إليهم رؤوس أموالهم؛ فإن الحرّ لا يباع ولا يشترى"، فحكم للتجار برؤوس أموالهم. ويجب فداء أسير المسلمين إذا أمكن، لقوله: "وفكّوا العاني". 1 ويجب فداء أسير أهل الذمة، وبه قال عمر بن عبد العزيز والليث، لأننا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم وأخذ جزيتهم. وقال القاضي: إنما يجب إذا استعان بهم الإمام في قتالهم فسُبوا، وجب عليه ذلك، وهو المنصوص عن أحمد.   1 البخاري: الأطعمة (5373) , وأبو داود: الجنائز (3105) , وأحمد (4/394, 4/406) , والدارمي: السير (2465) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 باب الهدنة وهي جائزة، لقوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية، 1 وقوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} الآية، 2 و"صالح صلى الله عليه وسلم سهيلاً عشر سنين". وإنما تجوز للنظر للمسلمين، إما لضعفهم عن القتال، أو طمع في إسلامهم أو في أدائهم الجزية، وغير ذلك من المصالح. فإن صالحهم على مال يبذله لهم، فقد أطلق أحمد القول بالمنع، لأن فيه صغاراً، وهو مذهب الشافعي. قال أحمد: وهو محمول على غير حالة الضرورة، لـ"بذْله لعيينة ومن معه ثلث ثمار المدينة". فإن عقدها غير الإمام أو نائبه لم يصح. وإن مات الإمام أو عُزل، لم تنتقض، لقوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} . 3 فإن نقضوا بقتال أو مظاهرة أو قتل مسلم أو أخذ مال، انتقض عهدهم وجاز قتالهم، لقوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} الآية، 4 وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} الآية. 5 وإن نقضه بعضه دون بعض، فسكت باقيهم عن الناقض فالكل ناقض، لأن قريشاً أعان بعضهم بني بكر على خزاعة وسكت   1 سورة التوبة آية: 1. 2 سورة الأنفال آية: 61. 3 سورة التوبة آية: 4. 4 سورة التوبة آية: 12. 5 سورة التوبة آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الباقون فانتقض عهدهم. وإن شرط فيها شرطاً فاسداً، كنقضها متى شاء، أو رد النساء إليهم، أو إدخالهم الحرم، لم يصح الشرط، وفي العقد وجهان. وإن قال: هادنتكم ما شئنا أو شاء فلان، أو شرط ذلك لنفسه دونهم، لم يصح، لأنه ينافي مقتضى العقد، كما لو شرطه في البيع أو النكاح. وقال القاضي: يصح، وهو قول الشافعي، لقوله لأهل خيبر: "نقرّكم ما أقرّكم الله". 1 ولنا: أنه عقد لازم، فلم يجز اشتراط نقضه. وقصة أهل خيبر لم تكن هدنة، وإنما ساقاهم، وقد وافقوا الجماعة في أنه لو شرط في الهدنة: أقركم ما أقركم الله، لم يصح، فكيف يجتمعون مع الإجماع على عدم جوازه. كذلك إن شرط إدخالهم الحرم فهو فاسد، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية 2. وإذا عقد الهدنة من غير شرط، فجاءنا منهم إنسان مسلماً أو بأمان، لم يجب ردّه ولم يجز. ولا يجب رد مهر المرأة. وقال بعض أصحاب الشافعي: إن خرج العبد إلينا قبل إسلامه، ثم أسلم، لم يرد إليهم؛ فإن أسلم قبل خروجه إلينا، لم يصر حراً، لأنه في أمان منا. وقال الشافعي في قوله: إذا جاءت امرأة مسلمة رد مهرها، لقوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} الآية. 3 ولنا: أنه من غير دار الإسلام خرج إلينا، فلم يجب رده ولا رد شيء عنه كالحر، كما لو أسلم بعد خروجه. وقوله: إنه في أمان منا، قلنا: إنما أمناهم ممن هو في دار الإسلام الذين هم في قبضة الإمام، كما لو خرج قبل إسلامه، ولهذا "لما قتل أبو بصير الرجل، لم ينكر عليه ولم يضمنه. فلما انفرد هو وأصحابه فقطعوا الطريق عليهم، لم ينكر ذلك عليهم ولم يأمرهم بردّ ما أخذوه.   1 البخاري: الشروط (2730) . 2 سورة التوبة آية: 28. 3 سورة الممتحنة آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وأما المرأة فلا يردّ مهرها لأنها لم تأخذ منهم شيئاً"، ولو أخذته كانت قد قاهرتهم عليه في دار القهر، ولو وجب لوجب مهر المثل دون المسمى. وأما الآية، فقال قتادة: نسخ رد المهر، وقال عطاء والزهري: لا يعمل بها اليوم، على أنها في قصة الحديبية حين شرط رد من جاء مسلماً. وكلامنا فيما إذا وقع الصلح من غير شرط. وإذا شرط رد النساء لم يصح أيضاً. وإن شرط رد من جاء مسلماً من الرجال جاز، وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز شرط رده، إلا أن يكون له عشيرة تحميه. ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم لم يخص ذا العشيرة، ولأنه إذا كانت عشيرته هي التي تفتنه فهو كمن لا عشيرة له، لكن إنما يجوز هذا الشرط عند شدة الحاجة إليه. وله أن يأمره سراً بالهرب منهم ومقاتلتهم، لقصة أبي بصير، ولقول عمر لأبي جندل: "دم أحدهم دم الكلب". وإذا طلبت امرأة مسلمة الخروج من عندهم، جاز لكل مسلم إخراجها، لقصة بنت حمزة. وعلى الإمام حماية من هادنه من المسلمين دون غيرهم. وإن سباهم كفار آخرون، لم يجز لنا شراؤهم، وعن أبي حنيفة: يجوز. وإن خاف نقض العهد منهم، نبذ إليهم عهدهم، لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} الآية، 1 أي: تصير أنت وهم سواء في العلم بالنبذ. ولا يجوز أن يبدأهم بقتال أو غارة قبل إعلامهم، للآية. ومن أتلف منهم شيئاً على مسلم ضمنه، وإن قذفه جُلد، لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين بهم.   1 سورة الأنفال آية: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 باب عقد الذمة لا تجوز إلا من الإمام أو نائبه، لا نعلم فيه خلافاً، والأصل فيه وفي إخراج الجزية: الكتاب والسنة والإجماع، كقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} الآية، 1 وقول المغيرة يوم نهاوند: "أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله، أو تؤدوا الجزية". 2 رواه البخاري. وحديث بريدة، مرفوعاً: "ادعُهم إلى إحدى ثلاث خصال". 3 رواه مسلم. وأجمعوا على جواز أخذ الجزية في الجملة. ولا يجوز عقدها إلا لأهل الكتاب، ومن له شبهة كتاب؛ فأهل الكتاب: اليهود والنصارى ومن دان بدينهم، كالسامرة يدينون بشريعة موسى وإنما خالفوهم في فروع دينه، وفِرَق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية والإفرنج والروم والأرمن وغيرهم ممن انتسب إلى شريعة عيسى، وما عداهم ليس أهل كتاب لقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} الآية 4. فأما أهل صحف إبراهيم وشيث وزبور داود، فلا تقبل منهم، لأنهم من غير الطائفتين، ولأن هذه الصحف ليس فيها شرائع، إنما هي مواعظ. وأما الذين لهم شبهة كتاب، فهم المجوس، هذا قول الأكثر. وعن أبي ثور: أنهم من أهل الكتاب، وتحل ذبائحهم ونساؤهم، وهو خلاف الإجماع. وما روي عن عليّ: "أن لهم كتاباً ورُفع، وأنّ ملِكهم قال: إن آدم أنكح بنيه بناته، فأنا على دينه"، فقال أبو عبيد: لا أحسبه محفوظاً.   1 سورة التوبة آية: 29. 2 البخاري: الجزية (3160) . 3 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: السير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2612) , وابن ماجة: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352, 5/358) , والدارمي: السير (2442) . 4 سورة الأنعام آية: 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 إذا ثبت هذا، فإن أخذها من أهل الكتاب والمجوس إذا لم يكونوا من العرب، ثابت بالإجماع؛ فإن الصحابة أجمعوا على ذلك. فإن كانوا من العرب، فحكمهم حكم العجم. وقال أبو يوسف: لا تؤخذ من العرب، لشرفهم بالنبي صلى الله عليه وسلم. ولنا: عموم الآية، و"بعْثه خالداً إلى أكيدر دومة، فصالحه على الجزية؛ وهو من العرب. وأخذَها من نصارى نجران؛ وهم من العرب"، ولأنه إجماع، فـ"إن عمر أخذها من بني تغلب"، فلم ينكر وكان إجماعاً. فأما غيرهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام. وعنه: تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب، لحديث بريدة، وعن مالك: تقبل من الجميع، إلا مشركي قريش. وعن الأوزاعي: تقبل من جميعهم، لحديث بريدة. ولنا: قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية، 1وقوله: "أُمرت أن أقاتل الناس ... " 2 الحديث، وهذا عام خص منه ما ذكرنا. ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين: أحدهما: التزام إعطاء الجزية في كل حول. الثاني: التزام أحكام الإسلام، وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق وترك محرم، لقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} . 3 والصابيء إذا انتسب إلى أحد الكتابين فهو من أهله، وإلا فلا. ولا نعلم خلافاً أنها لا تجب على الصبي والمرأة، ولا زائل العقل.   1 سورة التوبة آية: 5. 2 صحيح البخاري: كتاب الصلاة (393) وكتاب الزكاة (1400) وكتاب الجهاد والسير (2946) وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6924) وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (7285) , وصحيح مسلم: كتاب الإيمان (20, 21) , وسنن الترمذي: كتاب الإيمان (2606, 2607) وكتاب تفسير القرآن (3341) , وسنن النسائي: كتاب الزكاة (2443) وكتاب الجهاد (3090, 3091, 3092, 3093, 3095) وكتاب تحريم الدم (3970, 3971, 3972, 3973, 3974, 3975, 3976, 3977, 3979, 3982) , وسنن أبي داود: كتاب الزكاة (1556) وكتاب الجهاد (2640) وكتاب الجنائز (3194) ، وسنن ابن ماجة: كتاب الفتن (3927, 3928, 3929) , ومسند أحمد (1/11، 1/19 ,1/35, 1/47, 2/314, 2/377, 2/423, 2/439, 2/475, 2/482, 2/502, 2/527, 2/528, 3/295, 3/300, 3/332, 3/339 , 3/394, 4/8) , وسنن الدارمي: كتاب السير (2446) . 3 سورة التوبة آية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 باب أحكام الذمة تقام عليهم الحدود فيما يعتقدون تحريمه، لحديث: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهوديين قد فجرا 1" الحديث. ويقرون على ما يعتقدون حله، إلا أنهم يمنعون من إظهاره. ويلزمهم التميز عن المسلمين في شعورهم، بحذف مقادم رؤوسهم، وترك الفرق. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": يصرف الفيء في المصالح، واختار الشيخ أنه لا حظ للرافضة فيه، وذكره في الهدي. وعن مالك وأحمد: يبدأ بالمهاجرين، ثم الأقرب فالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجوز المفاضلة بينهم لمعنى فيهم، اختاره الشيخ. ويحرم الأخذ من بيت المال، إلا بإذن الإمام. ولا يجوز الصدقة منه، وكذلك السرقة، ويسلمه للإمام، قال الشيخ: لو أتلفه ضمنه. والرسول والمستأمن لا يقيم سنة فصاعدا إلا بجزية، اختاره الشيخ. قوله: والأسير إذا أطلقه الكفار بشرط أن يقيم عندهم مدة، لزمه، قال الشيخ: لا ينبغي أن يدخل معهم في التزام الإقامة أبداً، لأن الهجرة واجبة عليه؛ ففيه التزام ترك الواجب، اللهم إلا أن يمنعوه من دينه، ففيه التزام ترك المستحب، وفيه نظر. واختار في الرد على الرافضة أخذ الجزية [من كل فرق الكفار، وأنه لم يبق أحد من مشركي العرب بعد نزول الجزية] بل كانوا قد أسلموا،   1 زيادة من المخطوطة ساقطة من الطبعة السلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وقال في الاعتصام بالكتاب والسنة: من أخذها من الجميع، أو سوَّى بين المجوس وأهل الكتاب، فقد خالف الكتاب والسنة. وليس للإمام نقض عهدهم وتجديد الجزية عليهم، لأن عقد الذمة مؤبد، وقد عقده عمر معهم. واختار ابن عقيل جواز ذلك لاختلاف المصلحة باختلاف الأزمنة. وقد فعله عمر بن عبد العزيز، واختاره الشيخ. ويكون العقد لازماً على الصحيح، يعني: عقد الهدنة، قال الشيخ: ويكون أيضاً جائزاً، فإن زاد على عشر سنين بطل في الزيادة. وإن هادنهم مطلقاً لم يصح. وقال الشيخ: يصح، وتكون جائزة ويعمل بالمصلحة، لأن الله أمر بنبذ العهود المطلقة وإتمام المؤقتة. وإن قال: هادنتكم ما شئنا أو شاء فلان، لم يصح، وقيل: يصح. ولو قال: نقرّكم ما أقرّكم الله، لم يصح، وقال الشيخ: يصح. وإن منعناه في قوله: ما شئنا. قوله: ويأمره سراً بقتالهم والفرار منهم، قال في الترغيب وغيره: يعرِّض له أن لا يرجع إليهم. وإن سباهم كفار لم يجز لنا شراؤهم، وذكر الشيخ رواية منصوصة: يجوز شراؤهم من سابيهم. وفي الهدي في غزوة الفتح: أن أهل العهد إذا حاربوا من في ذمة الإمام، صاروا بذلك أهل حرب، فله أن يبيّتهم، وإنما يعلمهم إذا خاف منهم الخيانة، وأنه ينتقض عهد الجميع إذا لم ينكروا عليهم. ومتى مات الإمام أو عُزل لزم مَن بعده الوفاء بعقده، لأنه لا ينتقض باجتهاد غيره، وجوَّز ابن عقيل وغيره نقض ما عقد الخلفاء الأربعة، نحو صلح تغلب، لاختلاف المصالح باختلاف الأزمنة. ولا جزية على راهب، وقيل: بلى. ولا يبقي بيده مالاً إلا بُلْغته فقط، ويؤخذ ما بيده، قاله الشيخ. وقال: يؤخذ منهم ما لنا كالرزق الذي للديور والمزارع إجماعاً. [وقال: من له تجارة أو زراعة وهو مخالط لهم أو معاونهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 على دينهم، كمن يدعو إليه من راهب وغيره، فإنها تلزمه إجماعا] ، 1 وحكمه حكمهم بلا نزاع. ولا يُبدؤون بالسلام، وفيه احتمال: يجوز للحاجة، ومثله: كيف أصبحت؟ كيف حالك؟ وجوّزه الشيخ. وإذا سلّموا، ردّ عليهم، قال الشيخ: ترد تحيتهم، فقال: يجوز أن يقول له: أهلاً وسهلاً. وفي تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان: إحداهما: أنه يجوز لمصلحة راجحة، كرجاء إسلامه، اختاره الشيخ. وكره أحمد الدعاء بالبقاء لأحد، اختاره الشيخ. قوله: ويُمنعون من إحداث الكنائس والبِيع، قال الشيخ: إجماعاً. وقال الشيخ: يُمنعون من إظهار الأكل والشرب في رمضان، قال: ولو أبى من الصغار انتقض عهده. وقال في نصراني لعن مسلماً: تجب عقوبته بما يردعه وأمثاله عن ذلك. وقال: قال أحمد فيمن زنى بمسلمة: يُقتل، قيل له: فإن أسلم؟ قال: وإن أسلم. هذا قد وجب عليه. قال الشيخ: من قهر قوماً من المسلمين، ونقلهم إلى دار الحرب، ظاهر المذهب: أنه يُقتل ولو بعد إسلامه، وأنه أشبه بالكتاب والسنة، كالمحارب. والله أعلم.   1 من النسخة الخطية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 كاب البيع باب الضمان ... باب الضمان ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في حال الحياة والموت، وحكي عن مالك في إحدى الروايتين عنه: أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه. ولنا: قوله عليه السلام: "الزعيم غارم". 1 وعن أحمد رواية أن الميت يبرأ بمجرد الضمان، لما روى أبو سعيد قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما وضعت قال: هل على صاحبكم من دين، قالوا: نعم درهمان. قال: صلّوا على صاحبكم. فقال عليٌّ: هما عليَّ يا رسول الله. [وأنا لهما ضامن] . 2 فصلى عليه صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على عليٍّ فقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك. فقيل: يا رسول الله، هذا لعليّ خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة". رواه الدارقطني. وروى أحمد عن جابر قال: "توفي صاحب لنا فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم ليصلّي عليه. فخطا خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران. فانصرف. فتحملهما أبو قتادة، فقال: الديناران عليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجب حق الغريم، وبرئ الميت منهما؟ قال: نعم. فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك: ما فعل الديناران؟ قال: إنما مات أمس، فعاد إليه من الغد، فقال قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن بردت جلده ". 3 وهذا صريح في براءة المضمون عنه،   1 الترمذي: البيوع (1265) , وأبو داود: البيوع (3565) , وابن ماجة: الأحكام (2405) . 2 زيادة من المخطوطة. 3 أحمد (3/330) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 لقوله: "وبرئ الميت منهما". ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "نفس المؤمن معلّقة بديْنه حتى يُقضى عنه"، 1 وقوله: "الآن بردت جلده"، حين أخبره أنه قضى دينه. فأما صلاته على المضمون عنه، فلأنه صار له وفاء، وإنما كان يمتنع من الصلاة على من لم يخلف وفاء. وأما قوله: " فكّ الله رهانك ... إلخ"، فإنه كان بحال لا يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ضمنه فكّه من ذلك أو ما في معناه. وقوله: "برئ الميت منهما" أي: صرت أنت المطالب بهما، وهذا على وجه التأكيد وثبوت الحق في ذمته، ووجوب الأداء عنه، بدليل قوله: "الآن بردت عليه جلده". ولا يعتبر رضى المضمون له ولا المضمون عنه [ولا معرفة الضامن لهما. وقال أبو حنيفة: يعتبر رضى المضمون له. ولنا: "أن أبا قتادة ضمن من غير رضى المضمون له ولا المضمون عنه"] . 2 وقال القاضي: يعتبر معرفتهما. ولنا: حديث أبي قتادة وعلي، "فإنهما ضمنا لمن لم يعرفا وعن من لم يعرفا"، ولا يعتبر كون الحق معلوماً ولا واجباً إذا كان مآله إلى الوجوب، فمتى قال: أنا ضامن لك ما على فلان، أو ما تقوم به البينة، أو ما يقر به لك، صح؛ وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال الشافعي وابن المنذر: لا يصح كالثمن. ولنا: قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . 3 وهو غير معلوم، لأنه يختلف باختلافه. وقوله عليه السلام: "الزعيم غارم". ويصح ضمان ما لم يجب كقوله: ما أعطيت فلانا فهو عليَّ، والخلاف فيها كالتي قبلها، والدليل ما ذكرنا. ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري، وعن المشتري للبائع. فعن   1 الترمذي: الجنائز (1078) , وابن ماجة: الأحكام (2413) , وأحمد (2/440, 2/475) , والدارمي: البيوع (2591) . 2 زيادة من المخطوطة. 3 سورة يوسف آية: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 المشتري: أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه، أو إن ظهر فيه عيب، أو استحق، رجع على الضامن. وعن البائع: أن يضمن الثمن متى خرج المبيع مستحقاً، أو رد بعيب أو أرش العيب. والعهدة: الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع، ويذكر فيه الثمن، فعبر به عن الثمن الذي يضمنه. وحكي عن أبي يوسف: إذا قال: ضمنت عهدته، لم يصح لأن العهدة الصك بالابتياع، كذا فسره أهل اللغة، وليس بصحيح، لأنها في العرف عبارة عن الدرك، والمطلق يحمل على الأسماء العرفية. وممن أجاز ضمان العهدة في الجملة: أبو حنيفة ومالك والشافعي. ولا يصح ضمان الأمانات، كالوديعة، والعين المؤجرة، والشركة، والمضاربة، والعين المدفوعة إلى الخياط، لأنها غير مضمونة على صاحب اليد. وإن ضمن التعدي فيها، فظاهر كلام أحمد: صحة ضمانها. فأما الأعيان المضمونة، كالغصوب، والعواري، والمقبوضة على وجه السوم، فيصح ضمانها. ويصح ضمان الجعل في الجعالة، وفي المسابقة والمناضلة، وقال أصحاب الشافعي: لا يصح في أحد الوجهين، لأنه لا يؤول إلى اللزوم، أشبه مال الكتابة. ولنا: قوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} 1. وإن ضمن وقضى بغير أمره، ففيه روايتان: إحداهما: يرجع. والثانية: لا يرجع، بدليل حديث علي وأبي قتادة، فإنهما لو استحقا الرجوع على الميت صار الدين لهما، وكانت ذمة الميت مشغولة. ووجه الأولى: أنه قضاء مبرئ من ديْن واجب، كالحاكم إذا قضى عنه عند امتناعه. فأما علي وأبو قتادة فإنهما تبرعا، فإنهما قضيا ديناً قصداً لتبرئة ذمته، مع علمهما أنه لم يترك وفاء؛ والمتبرع لا يرجع بشيء وإنما   1 سورة يوسف آية: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 الخلاف في المحتسب. وإن اعترف المضمون له بالقضاء وأنكر المضمون عنه، لم يسمع إنكاره. وفيه وجه: أنه لا يقبل، لأن الضامن مدّع بما يستحق الرجوع به، وقول المضمون له شهادة على فعل نفسه، فلا يقبل. والأول أصح. وشهادة الإنسان على فعل نفسه صحيحة، كشهادة المرضعة، وقد ثبت ذلك بخبر عقبة بن الحارث. (فصل) : الكفالة التزام إحضار المكفول به، وجملة ذلك أن الكفالة بالنفس صحيحة، في قول أكثر أهل العلم. وقال الشافعي في بعض أقواله: الكفالة بالبدن ضعيفة. فمن أصحابه من قال: مراده: ضعيفة في القياس، وإلا فهي صحيحة، للإجماع والأثر. ومنهم من حكى قولين. ولنا: قوله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} . 1 وتصح ببدن كل من يلزمه الحضور في مجلس الحكم بديْن لازم، معلوم أو مجهول. وتصح ببدن المحبوس والغائب. وقال أبو حنيفة: لا تصح. وتصح بالأعيان المضمونة، كالغصوب والعواري. ولا تصح ببدن من عليه حد أو قصاص، وهو قول أكثر العلماء. واختلف قولا الشافعي في حدود الآدميين كالقذف، فقال في موضع: لا كفالة في حد ولا لعان. وقال في موضع: يجوز، قال: لأنه حق لآدمي. ولنا: ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، مرفوعاً: "لا كفالة في حد"، ولأن الكفالة استيثاق، والحدود مبناها على الدرء بالشبهات، ولأنه حق لا يجوز استيفاؤه من الكفيل إذا تعذر إحضار المكفول به كحد الزنى. وإن قال: إن جئت   1 سورة يوسف آية: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 به في وقت كذا وإلا فأنا كفيل ببدن فلان، أو فأنا ضامن لك المال الذي عليه، أو إذا جاء زيد فأنا ضامن عليه، أو إذا قدم الحاج فأنا كفيل، فقال القاضي: لا يصح، وهو مذهب الشافعي. وقال الشريف أبو جعفر: يصح، وهو قول أبي حنيفة. ولا تصح إلا برضى الكفيل، وفي رضى المكفول به وجهان. ومتى أحضره وسلمه برئ إلا أن يحضره قبل الأجل وفي قبضه ضرر. وإن مات المكفول به، أو تلفت العين بفعل الله، أو سلم نفسه، برئ الكفيل؛ وبه قال الشافعي. ويحتمل ألا يسقط بالموت، ويطالب بما عليه، وهو قول مالك. ومتى تعذر إحضار المكفول به مع حياته، أو امتنع من إحضاره، لزمه ما عليه. وقال أكثرهم: لا غرم عليه. ولنا: قوله: "الزعيم غارم" 1. وإذا كانت السفينة في البحر، وفيها متاع فخيف غرقها، فألقى بعض من فيها متاعه لتخف، لم يرجع به، سواء ألقاه محتسباً بالرجوع أو متبرعاً. وإن قال له بعضهم: ألقه، فألقاه، فكذلك لأنه لم يكرهه. وقال مهنا: سألت أحمد: عن رجل له على رجل ألف درهم، فأقام كفيلين بها كل منهما ضامن، فأحال رب المال عليه رجلاً بحقه، قال: يبرأ الكفيلان. قلت: فإن مات الذي أحاله عليه بالحق ولم يترك شيئاً؟ قال: لا شيء له، ويذهب الألف. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال الشيخ: قياس المذهب: يصح الضمان بكل لفظ فُهم منه الضمان عرفاً مثل: بعهُ وأنا أعطيك الثمن، أو لا تطالبه وأنا أعطيك، ونحو ذلك. واختار أيضاً صحة ضمان الحارس ونحوه، وتجار الحرب ما يذهب من   1 الترمذي: البيوع (1265) , وأبو داود: البيوع (3565) , وابن ماجة: الأحكام (2405) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 البلد أو البحر، وإن غايته ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول، كضمان السوق، وهو أن يضمن ما يجب على التجار للناس من الديون، وهو جائز عند أكثر العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد. وقال: لو تغيب مضمون عنه، أطلقه في موضع وقيده في آخر، بقادر على الوفاء فأمسك الضامن وغرم شيئاً بسبب ذلك، وأنفقه في حبس، رجع به على المضمون عنه. قوله في الكفالة: ولا تصح ببدن من عليه حد أو قصاص، وقال الشيخ: تصح، اختاره في الفائق. وقال الشيخ: إن كان المكفول في حبس الشرع فسلمه إليه فيه بريء ولا يلزمه إحضاره منه إليه عند أحد من الأئمة، ويمكنه الحاكم من الإخراج ليخاصم غريمه ثم يرده، هذا مذهب الأئمة كمالك وأحمد وغيرهما. قوله: وإن مات المكفول به، أو تلفت العين بفعل الله، أو سلم نفسه، برئ الكفيل. إذا مات المكفول به، برئ الكفيل سواء توانى الكفيل في تسليمه حتى مات أو لا، نص عليه. وقيل: لا يبرأ مطلقاً، فيلزمه الديْن، اختاره الشيخ. وقال: السجان كالكفيل، ولو ضمن معرفته أخذ به، نقله أبو طالب. ولو خيف من غرق السفينة فألقى بعضهم متاعه، لم يرجع، وفي الرعاية: يحتمل أن يرجع إذا نوى، وما هو ببعيد. انتهى. ويجب الإلقاء إن خيف تلف الركاب. ولو قال: طلق زوجتك وعليَّ ألف، أو مهرها، لزمه؛ قاله في الرعاية. وقال: لو قال: بعْ عبدك من زيد بمائة، وعلي مائة أخرى، لم يلزمه، وفيه احتمال. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 باب الحوالة الحوالة ثابتة بالسنة والإجماع، لقوله عليه السلام: "مطْل الغني ظلم، وإذا أُتبع أحدكم على مليء، فليتبع". 1 متفق عليه، وفي لفظ: "ومن أُحيل بحقه على مليء، فليحتل". 2 وإذا صحت برئت ذمة المحيل، وانتقل الحق إلى ذمة المحال عليه، في قول عامة أهل العلم. وعن الحسن: أنه كان لا يرى الحوالة براءة إلا أن يُبرئه. وعن زفر: أنه أجراها مجرى الضمان. ولنا: أنها مشتقة من تحويل الحق، فمتى رضي بها المحتال، ولم يشترط اليسار، لم يعد الحق أبداً؛ وبه قال الشافعي وأبو عبيد. وقال شريح: متى أفلس أو مات رجع على صاحبه. [وقال أبو يوسف: يرجع في حالين: إذا مات المحال عليه مفلساً، أو إذا جحده وحلف عليه عند الحاكم، وإذا حجر عليه لفلس،] لأنه روي عن عثمان أنه سئل عن: رجل أحيل بحقه، فمات المحال عليه مفلساً؟ فقال: يرجع بحقه، لأنه لا توى على مال امرئ مسلم. ولنا: "أن حزناً جد ابن المسيب كان له على عليّ (ديْن فأحاله به، فمات المحال عليه، فأخبره، فقال: اخترت علينا، أبعدك الله! ". فأبعده بمجرد احتياله ولم يخبره أن له الرجوع. وحديث عثمان لم يصح، يرويه معاوية بن قرة عن عثمان، ولم يصح سماعه منه، ولو صح لكان قول عليّ مخالفاًً له.   1 البخاري: الحوالات (2287, 2288) وفي الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2400) , ومسلم: المساقاة (1564) , والترمذي: البيوع (1308) , والنسائي: البيوع (4691) , وأبو داود: البيوع (3345) , وابن ماجة: الأحكام (2403) , وأحمد (2/376, 2/379, 2/463, 2/465) ، ومالك: البيوع (1379) , والدارمي: البيوع (2586) . 2 البخاري: الحوالات (2287, 2288) , ومسلم: المساقاة (1564) , والترمذي: البيوع (1308) , والنسائي: البيوع (4688, 4691) , وأبو داود: البيوع (3345) , وابن ماجة: الأحكام (2403) , وأحمد (2/463) , ومالك: البيوع (1379) , والدارمي: البيوع (2586) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 ولا تصح إلا بشروط ثلاثة: (أحدها) : أن يحيل على ديْن مستقر، فإن أحال على مال الكتابة، أو السلَم، أو الصداق قبل الدخول، لم يصح. (الثاني) : اتفاق الدينين في الجنس والصفة والحلول والتأجيل. (الثالث) : أن يحيل برضاه، ولا خلاف في هذا. ولا تصح فيما لا يصح السلَم فيه. فأما ما يثبت في الذمة سلماً غير المثليات، كالمعدود والمذروع، ففي صحتها به وجهان. ولا يعتبر رضى المحال عليه، ولا رضى المحتال، إن كان المحال عليه مليئاً، والمليء: القادر على الوفاء غير المماطل. قال أحمد في تفسير المليء: أن يكون مليئاً بماله وقوله وبدنه. وقال أبو حنيفة: يعتبر رضاهما. وقال مالك: يعتبر رضى المحتال، وأما المحال عليه فقال مالك: لا يعتبر رضاه، إلا إن كان المحتال عدوه. ولنا: الحديث المتقدم. وإن شرط ملاءة المحال عليه فبان معسراً رجع. وقال بعض الشافعية: لا يرجع، لأنها لا ترد بالإعسار. ولنا: قوله عليه السلام: "المسلمون على شروطهم". 1 وإذا لم يرض المحتال، ثم بان المحال عليه مفلساً أو ميتاً، رجع بغير خلاف. وإن رضي بالحوالة لم يرجع، ويحتمل أن يرجع لأن الفلس عيب. وإن فسخ العقد بعيب أو إقالة، لم تبطل الحوالة. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وظاهر ما قدمه في المحرر: صحة الحوالة على المهر قبل الدخول، وعلى الأجرة بالعقد، وقال الزركشي: لا يظهر لي منع الحوالة بالمسلَم فيه.   1 أبو داود: الأقضية (3594) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 وقال عن تفسير أحمد: الذي يظهر لي أن المليء بالمال أن يقدر على الوفاء، والقول: ألا يكون مماطلاً، والبدن يمكن حضوره إلى مجلس الحكم. وقال الشيخ: الحوالة على ماله في الديون إذن في الاستيفاء فقط، وللمحتال الرجوع ومطالبة محيله. انتهى. ونقل مهنا فيمن بعث رجلاً إلى رجل له عنده مال، فقال: خذ منه ديناراً، فأخذ منه أكثر، قال: الضمان على المرسل لتغريره، ويرجع هو على الرسول. والله سبحانه أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 باب الصلح الصلح أنواع: بين المسلمين وأهل الحرب، وبين أهل العدل وأهل البغي، وبين الزوجين. وعن أبي هريرة، مرفوعاً: "الصلح بين المسلمين جائز، إلا صلحاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً". 1 صححه الترمذي. وأجمعوا على جواز الصلح في هذه الأنواع، ولكل نوع منها باب يفرد له. وهذا بين (المختلفين في الأموال) ، وهما قسمان: القسم الأول: صلح على الإقرار، وهو نوعان: أحدهما: صلح على جنس الحق، مثل أن يقرّ له بديْن فيضع عنه بعضه، أو عين فيهب له بعضها، فيصح إن لم يكن بشرط. قال أحمد: إذا كان للرجل الديْن فوضع بعض حقه وأخذ الباقي، كان ذلك جائزاً لهما. ولو فعل ذلك قاضٍ شافعي لم يكن عليه في ذلك إثم، إذا كان على وجه النظر لهما، "لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كلّم غرماء جابر ليضعوا عنه، وفي الذي أصيب في حديقته وهو ملزوم، فأشار إلى غرمائه بالنصف". ولا يصح ممن لا يملك التبرع كولي اليتيم، إلا في حال الإنكار وعدم البينة، لأن استيفاء البعض عند العجز أولى من تركه. وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاًّ لم يصح، كرهه ابن عمر، وقال: "نهى عمر أن يباع العين بالديْن"، وكرهه ابن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو حنيفة. وروي عن ابن عباس   1 الترمذي: الأحكام (1352) , وابن ماجة: الأحكام (2353) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 وابن سيرين والنخعي: "أنه لا بأس به". وعن الحسن وابن سيرين أنهما كانا لا يريان بأسا بالعروض أن يأخذها عن حقه قبل محله. وإذا صالحه عن ألف حالّ بنصفه مؤجل اختياراً منه، صح الإسقاط، فلم يلزم التأجيل لأن الحال لا يتأجل. ولو صالح عن المائة الثابتة بالإتلاف بمائة مؤجلة، لم تصر مؤجلة، وعنه: أنها تصير مؤجلة. وإن صالح إنساناً ليقرّ له بالعبودية، أو امرأة لتقرّ له بالزوجية لم يصح، لأنه يحلّ حراماً، فإن إرقاق الحر نفسه لا يحل بعوض ولا غيره. فإن دفعت المرأة عوضاً عن الدعوى، ففيه وجهان. وإن دفع المدعى عليه العبودية إلى المدعي صلحاً صح، لأنه يجوز أن يعتق عبده بمال. النوع الثاني: أن يصالحه عن الحق بغير جنسه، فهو معاوضة، مثل أن يقرّ له بمائة درهم، فيصالحه عنها بعشرة دنانير، فهذا يشترط له شروط الصرف، أو يعترف له بعروض فيصالحه على أثمان أو بالعكس، فهذا بيع يثبت فيه أحكامه، أو يصالحه على سكنى دار، أو يعمل له عملاً معلوماً، فتكون إجارة لها حكمها. وإن صالحت المرأة بتزويج نفسها صح. وإذا ادعى زرعاً في يد رجل فأقر له به، ثم صالحه على دراهم، جاز على الوجه الذي يجوز به بيع الزرع. ويصح الصلح عن المجهول بمعلوم، سواء كان عيناً أو ديناً، إذا كان مما لا سبيل إلى معرفته. وقال ابن أبي موسى: الصلح الجائز هو صلح الزوجة من صداقها الذي لا بيّنة لها به ولا علم لها ولا للورثة بمبلغه، وكذلك الرجلان يكون بينهما المعاملة لا علم لواحد منهما بما عليه لصاحبه، وكذلك من عليه حق لا علم له بقدره، وسواء كان صاحب الحق يعلم قدره ولا بيّنة له أو لا. وقال الشافعي: لا يصح الصلح عن مجهول، لأنه فرع البيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم للذيْن اختصما في مواريث درست: "استهما، وتوخّيا، وليحلل أحدكما صاحبه". 1 رواه أحمد. فأما ما يمكنهما معرفته، أو يعلمه الذي هو عليه ويجهله صاحبه، فلا يصح الصلح عليه مع الجهل. قال أحمد: إن صولحت امرأة من ثمنها لم يصح، واحتج بقول شريح: أيما امرأة صولحت من ثمنها، لم يتبيّن لها ما ترك زوجها، فهي الريبة كلها. قال: وإن ورث قوم مالاً ودوراً أو غير ذلك، فقال بعضهم: نخرجك من الميراث بألف درهم، أكره ذلك. ولا يشترى منها شيئاً وهي لا تعلم، لعلها تظن أنه قليل وهو يعلم أنه كثير. إنما يصالح الرجل الرجل على الشيء لا يعرفه، أو يكون رجل يعلم ما لَه عند رجل، والآخر لا يعلمه، فيصالحه، فأما إذا علم، فَلِمَ يصالحه؟ إنما يريد أن يهضم حقه ويذهب به. القسم الثاني: أن يدعي عليه عيناً أو ديْناً فينكره، ثم يصالحه على مال، فيصح ويكون بيعاً في حق المدعي، حتى إن وجد بما أخذه عيباً فله رده وفسخ الصلح. والصلح على الإنكار صحيح، وبه قال مالك. وقال الشافعي: لا يصح لأنه عاوض عما لا يثبث له. ولنا: عموم قوله: "الصلح بين المسلمين جائز". 2 فإن قالوا: فقد قال: "إلا صلحاً أحلّ حراماً "، 3 وهذا داخل فيه، لأنه لم يكن له أن يأخذ من مال المدعى عليه، فحل بالصلح، قلنا: لا يصح حمل الحديث عليه، لأن هذا يوجد في الصلح بمعنى البيع، فإنه يحل لكل منهما ما كان محرماً عليه قبله، وكذلك الصلح بمعنى الهبة، ولأنه لو حل به المحرّم لكان صحيحاً، فإن الصلح الفاسد لا يحلّ الحرام، وإنما معناه: توصل به إلى تناول المحرّم مع بقائه على تحريمه، وهم يبيحون لمن له حق يجحده غريمه أن يأخذ من ماله بقدره أو دونه، فلأن يحل برضاه أو بذله أولى. وقولهم:   1 البخاري: المظالم والغصب (2458) والشهادات (2680) والحيل (6967) والأحكام (7169, 7181, 7185) , ومسلم: الأقضية (1713) , والترمذي: الأحكام (1339) , والنسائي: آداب القضاة (5401, 5422) , وأبو داود: الأقضية (3583) , وابن ماجة: الأحكام (2317) , وأحمد (6/203، 6/290، 6/307، 6/308، 6/320) ، ومالك: الأقضية (1424) . 2 الترمذي: الأحكام (1352) , وابن ماجة: الأحكام (2353) . 3 أبو داود: الأقضية (3594) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 إنه معاوضة، قلنا: في حقهما أم أحدهما؟ الأول: ممنوع. والثاني: مسلّم. والمدعي يأخذ عوض حقه لعلمه بثبوت، والمنكر يدفع المال لدفع الخصومة واليمين عنه، كشرائه عبداً شهد بحريته، فهو معاوضة في حق البائع واستنقاذ في حقه. وإذا أخذ المدعي شقصاً في دار أو عقار ثبتت فيه الشفعة، فإن كان أحدهما عالماً بكذب نفسه، فالصلح باطل في حقه وما أخذه حرام عليه. وإن صالح عن المنكر أجنبي بغير إذنه صح، ولم يرجع عليه. وإن كان المدعى عيناً فقال أجنبي للمدعي: أنا أعلم أنك صادق، فصالحني عنها فإني قادر على استنقاذها، فقال: أصحابنا يصح، وهو مذهب الشافعي. فإن قال للمدعي: أنا وكيل المدعى عليه، وهو مقر لك وإنما يجحدها في الظاهر، فقال القاضي: يصح الصلح، وهو مذهب الشافعي. ويجوز الصلح عن كل ما يجوز أخذ العوض عنه، سواء كان مما يجوز بيعه أو لا، فيصح عن دم العمد، وسكنى الدار، وعيب المبيع. ومتى صالح عما يوجب القصاص بأكثر من ديته أو أقل جاز. وإن صالح عن حق الشفعة لم يصح، لأنه حق شرع على خلاف الأصل لدفع ضرر الشركة، فإذا رضي بالتزام الضرر سقط الحق، ولم يجز أخذ العوض عنه، لأنه ليس بمال، فهو كحد القذف. وإن صالحه على أن يجري على أرضه أو سطحه ماء معلوماً صح، وإذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره لغير ضرورة، لم يصح إلا بإذنه. وإن كان لضرورة، مثل أن يكون له أرض لها ماء لا طريق له إلا أرض جاره، فهل له ذلك؟ على روايتين: إحداهما: لا يجوز. والأخرى: يجوز، لما روي: "أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى، فكلم فيه عمر. فدعا محمداً وأمره أن يخلي سبيله. فقال: لا والله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 فقال له عمر: لِمَ تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع؟ تسقي به أولاً وآخراً؟ فقال: لا والله. فقال عمر: والله ليمرّنّ به ولو على بطنك. فأمره عمر أن يمر به، ففعل". رواه في الموطإ. وإن صالحه على أن يسقي أرضه من نهره، وقدره بشيء يعلم به، لم يجز؛ ذكره القاضي، لأن الماء ليس بمملوك، ولا يجوز بيعه، ولأنه مجهول. قال: وإن صالحه على سهم من النهر جاز، وكان بيعاً للقرار، والماء تابع له. ويحتمل أن يجوز الصلح على السقي، لأن الحاجة تدعو إليه، والماء مما يجوز أخذ العوض عنه في الجملة. وإن حصل في هوائه أغصان شجرة غيره، فطالبه بإزالتها، فله ذلك؛ فإن أبى، فله قطعها. وإن صالحه عن ذلك بعوض، فقال أبو الخطاب: لا يصح. وقال ابن حامد وابن عقيل: يجوز. فإن اتفقا على أن الثمرة له أو بينهما، جاز ولم يلزم. نقل عن مكحول أنه قال: أيما شجرة ظللت على قوم، فهم بالخيار بين قطع ما ظلل أو أكل ثمرها. ويحتمل أن لا يصح، وهو قول الأكثر، لأن الثمرة مجهولة وجزؤها مجهول. قال شيخنا: ويقوى عندي أن الصلح هنا يصح، فإن إلزام القطع ضرر كبير، وفي الترك من غير نفع يصل إلى صاحب الهواء ضرر عليه، ولأنه مجرد إباحة كقول كل واحد منهما: اسكن في داري وأسكن في دارك من غير تقدير مدة، أو أبيحك الأكل من بستاني وأبحني الأكل من بستانك. وفيما ذكرنا نظر للفريقين. وكذا الحكم فيما امتد من عروق شجر إنسان إلى أرض جاره، سواء أثرت ضرراً مثل تأثيرها في طي الآبار أو لم تؤثر، فالحكم في قطعه والصلح عنه كالغصن. ولا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحاً أو ساباطاً أو دكاناً، سواء كان يضر بالمارة أو لاَ، أذن الإمام أو لم يأذن. وقال ابن عقيل: إن لم يكن فيه ضرر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 جاز بإذن الإمام. وقال مالك والشافعي: يجوز إذا لم يضر بالمارة ولا يملك أحد منعه. فأما الدكان فلا يجوز بناؤه في الطريق، بغير خلاف علمناه، سواء أذن فيه الإمام أو لا، لأنه بناء في ملك غيره بغير إذنه. ولا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق الأعظم، ولا إلى درب نافذ، إلا بإذن أهله. وقال مالك والشافعي: "يجوز إخراجه إلى الطريق الأعظم، لحديث عمر لما اجتاز على دار العباس"، ولأن الناس يعملون ذلك في جميع بلاد الإسلام من غير نكير. ولا يجوز أن يفعل ذلك في ملك إنسان، ولا درب غير نافذ، إلا بإذن أهله، فإن صالح عن ذلك بعوض، جاز في أحد الوجهين. ولا يجوز أن يحفر في الطريق النافذ بئراً لنفسه، وإن أراد حفرها للمسلمين أو لنفع الطريق، مثل أن ينزل فيها ماء المطر عن الطريق، نظرنا: فإن كان الطريق ضيقاً أو يخاف سقوط الدابة فيها لم يجز، لأن ضررها أكثر، وإلا جاز. وإن فعله في درب غير نافذ، لم يجز إلا بإذن أهله. وإذا كان ظهر داره في درب غير نافذ، ففتح فيه بابا لغير الاستطراق، جاز لأنه له رفع جميع حائطه فبعضه أولى. قال ابن عقيل: يحتمل ألا يجوز، لأن شكل الباب مع تقادم العهد ربما استدل به على حق الاستطراق، فإن فتحه للاستطراق لم يجز بغير إذنهم، وفيه وجه: أنه يجوز. وإن كان بابه في آخر الدرب، ملَك نقله إلى أوله، ولم يملك نقله إلى داخل منه، في أحد الوجهين. (فصل) : وليس له أن يفتح في حائط جاره ولا الحائط المشترك روزنة ولا طاقاً بغير إذن، ولا يغرز وتداً، ولا يتصرف فيه بنوع تصرف، إلا بإذن. فأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 الاستناد إليه وإسناد شيء لا يضره فلا بأس. وليس له وضع خشبة عليه إلا عند الضرورة، بأن لا يمكن التسقيف إلا به. أما وضع خشبة عليه، فإن كان يضر بالحائط فلا يجوز، بغير خلاف، لقوله: "لا ضرر ولا ضرار". 1 وإن كان لا يضرّ به إلا أن به غنى، فقال أكثر أصحابنا: لا يجوز. وهو قول الشافعي، لأنه انتفاعٌ بملك غيره بغير إذنه من غير ضرورة. واختار ابن عقيل جوازه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعنّ أحدكم جاره أن يضع خشبة على جداره". 2 متفق عليه. ولا فرق فيما ذكرنا بين البالغ واليتيم والعاقل والمجنون. واختلفت الرواية في وضع خشبة على جدار المسجد. ولو أراد صاحب الحائط إعارة حائطه أو إجارته على وجه يمنع هذا المستحق من وضع خشبته، لم يملك ذلك. وإذا وجد بناءه أو خشبته على حائط مشترك أو حائط جاره ولم يعلم سببه، فمتى زال فله إعادته، لأن الظاهر أن الوضع بحق من صلح أو غيره. وكذلك لو وجد مسيل مائه في أرض غيره، ومجرى ماء سطحه على سطح غيره، وما أشبه هذا، فهو له لأن الظاهر أنه بحق فجرى مجرى اليد. ومتى اختلفا: هل هو بحق أو عدوان، فالقول قول صاحب الخشب والبناء والسيل مع يمينه. وإن كان بينهما حائط فانهدم، فطالب أحدهما صاحبه ببنائه، أُجبر. وعنه: لا يُجبر. وعليها، ليس له منعه من بنائه. فإن بناه بآلته فهو بينهما، وإن بناه بآلة من عنده فهو له، وليس للآخر الانتفاع. فإن طلب الانتفاع خُير الثاني بين أخذ نصف قيمته وأخذ آلته. وإن لم يكن بين ملكيهما حائط، فطلب أحدهما البناء بين ملكيهما، لم يجبر الآخر، رواية واحدة، وليس له البناء إلا في ملكه. فإن كان السفل لرجل والعلو لآخر، فطلب أحدهما المباناة من الآخر، فامتنع، فهل يجبر؟ على   1 ابن ماجة: الأحكام (2340) . 2 البخاري: المظالم والغصب (2463) , ومسلم: المساقاة (1609) , والترمذي: الأحكام (1353) , وأبو داود: الأقضية (3634) , وابن ماجة: الأحكام (2335) , وأحمد (2/274) , ومالك: الأقضية (1462) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 روايتين. فإن انهدمت حيطان السفل وطالبه صاحب العلو بإعادتها، ففيه روايتان. وإن أراد صاحب العلو بناءه لم يمنع، فإن بناه بآلته فهو على ما كان، وإن بناه بآلة من عنده، فعن أحمد: لا ينتفع به صاحب السفل، يعني: حتى يؤدي القيمة، فيحتمل أنه لا يسكن، وهو قول أبي حنيفة، ويحتمل أنه أراد الانتفاع بالحيطان خاصة من طرح الخشب وسمر الوتد، وهو مذهب الشافعي. فإن طالب صاحب السفل بالبناء، وأبى صاحب العلو، ففيه روايتان: إحداهما: لا يجبر، وهو قول الشافعي، لأنه ملك صاحب السفل. والثانية: "يجبر على مساعدته والبناء معه"، وهو قول أبي الدرداء، لأنهما يشتركان في الانتفاع به. وإن كان بينهما نهر أو بئر أو دولاب، فاحتاج إلى عمارة، ففي إجبار الممتنع روايتان، بناء على الحائط المشترك، والحكم في الرجوع بالنفقة، حكم الرجوع في النفقة على الحائط على ما مضى. وليس للرجل التصرف في ملكه بما يتضرر به جاره، وعنه رواية أخرى: لا يمنع، وبه قال الشافعي. ولنا: قوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار". 1 وأما دخان الخبز والطبخ، فإن ضرره يسير، ولا يمكن التحرز عنه، فتدخله المسامحة. فإن كان سطح أحدهما أعلى من سطح الآخر، فليس لصاحب العلو الصعود على وجه يشرف على جاره، إلا أن يبني سترة تستره. وقال الشافعي: لا يلزمه سترة. ولنا: أنه إضرار بجاره فمنع منه، ودل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " لو أن رجلاً اطّلع إليك فحذفته بحصاة ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح" 2. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": لو صالح عن المؤجل ببعضه حالاً لم يصح، وفي الإرشاد رواية: يصح،   1 ابن ماجة: الأحكام (2340) . 2 البخاري: الديات (6902) , ومسلم: الآداب (2158) , والنسائي: القسامة (4861) , وأبو داود: الأدب (5172) , وأحمد (2/243, 2/428) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 اختاره الشيخ. وذكر أيضاً رواية بتأجيل الحالّ في المعاوضة، لا التبرع. وإن صالح عن الحق بأكثر منه من جنسه، مثل أن يصالح عن دية الخطإ أو قيمة متلف، لم يصح. واختار الشيخ الصحة كعرض وكمثلى. وذكر المصنف رواية بالصحة، فيما إذا صالح عن مائة ثابتة بالإتلاف بمائة مؤجلة. وقال في صلح الإنكار: واقتصر صاحب المحرر على قول أحمد: إذا صالحه على بعض حقه بتأخير جاز، وعلى قول ابن أبي موسى: الصلح جائز بالنقد والنسيئة. وإذا أراد أن يجري ماء في أرض غيره من غير ضرر، لم يجز إلا بإذن. وعنه: يجوز ولو مع حفر، اختاره الشيخ. ونقل أبو الصقر: إذا أساح عيناً تحت أرض، فانتهى حفره إلى أرض أو دار، فليس له منعه من ظهر الأرض ولا بطنها إذا لم يكن عليه مضرة. وذكر الشيخ عن أكثر الفقهاء تغيير صفات الوقف لمصلحته. و"قد زاد عمر وعثمان في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وغيّرا بناءه"، ثم عمر بن عبد العزيز، وزاد فيه أبواباً، ثم المهدي ثم المأمون. وإذا حصل في ملكه أو هوائه أغصان شجرة، لزم المالك إزالته إن طالبه. قال ابن رزين: ويضمن ما تلف به إذا أمر بإزالته فلم يفعل، وكذا قال في المغني والشرح وفي المبهج في الأطعمة: ثمرة غصن في هواء طريق عام للمسلمين. ولا يجوز أن يشرع إلى طريق نافذ جناحاً ... إلخ. وحكي عن أحمد جوازه بلا ضرر، واختاره الشيخ. ولا يجوز إخراج الميازيب إلى الطريق ... إلخ. وفي المغني والشرح: احتمال بالجواز مع انتفاء الضرر. وحكي رواية عن أحمد، ذكره الشيخ، وقال: إخراج الميازيب إلى الدرب هو السنة، ولم يذكر أكثر الأصحاب مقدار طول الجدار الذي يشرع عليه الميزاب والساباط إذا قلنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 بالجواز، لكن حيث انتفى الضرر جاز. وقدم في الرعاية: بحيث يمكن عبور محمل، واختاره الشيخ. وليس له منعه من تعلية داره، ولو أفضى إلى سد الهواء عن جاره، قاله الشيخ.، قال في الفروع: ويتوجه من قول أحمد: لا ضرر ولا ضرار، منعه، قلت: وهو الصواب. وقال الشيخ: ليس له منعه خوفاً من نقص أجرة ملكه بلا نزاع. وقال: العين والمنفعة التي لا قيمة لها عادة لا يصح أن يرد عليها عقد بيع أو إجارة اتفاقاً. ولو استهدم جدارهما أو خيف ضرره نقضاه، فإن أبى أحدهما أجبره الحاكم. ولو أراد بناء حائط بين ملكيهما لم يجبر الممتنع منهما، رواية واحدة، قاله المصنف ومن تابعه. قال في الفائق: ولم يفرق بعض الأصحاب، اختاره شيخنا يعني به الشيخ. ولو اتفقا على بناء حائط بستان فبنى أحدهما، فما تلف من الثمرة بسبب إهمال الآخر يضمنه الذي أهمل، قاله الشيخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 كتاب البيع وله صورتان: إحداهما: الإيجاب والقبول، فإن تقدم القبول جاز، وإن تقدم بلفظ الطلب فقال: بِعني بكذا، فقال: بعتك، ففيه روايتان. وإن تقدم بلفظ الاستفهام: مثل أتبيعني؟ لم يصح. وإن تراخى القبول صح، ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه. الثانية: المعطاة، وقال مالك يقع البيع بما يعتقده الناس بيعاً. وقال بعض الحنفية: يصح في خسائس الأشياء، لأن العرف إنما جرى به في اليسير. ولنا: أن الله تعالى أحلّ البيع، ولم يبيِّن كيفيته، فيجب الرجوع فيه إلى العرف، والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك، ولأن البيع كان موجوداً بينهم؛ وإنما علق الشرع عليه أحكاماً وأبقاه على ما كان، فلا يجوز تغييره بالرأي والتحكم. ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه استعمال الإيجاب والقبول، ولو اشترط ذلك لبيّنه صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً. وكذلك في الهبة والهدية والصدقة، فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه استعمال ذلك فيه. ولا يصح إلا بشروط سبعة: (أحدها) : التراضي به بينهما، لقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . 1 إلا أن يُكره بحق، كالذي يُكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه. (الثاني) : أن يكون العاقد جائز التصرف، فأما الصبي المميز والسفيه فيصح بإذن وليهما، في إحدى الروايتين. والأخرى: لا يصح، وهو قول الشافعي، لأن العقل لا يمكن الوقوف منه على الحد الذي يصلح به للتصرف، فجعل له ضابط وهو البلوغ. ولنا: قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} ، 2 معناه: اختبروهم لتعلموا رشدهم؛ فإن تصرف بغير إذن لم يصح إلا في اليسير، وكذلك غير المميز، لما روي: "أن أبا الدرداء اشترى من صبي عصفوراً فأرسله". ويحتمل أن يصح، ويقف على إجازة الولي، وهو قول أبي حنيفة، وكذلك الحكم في تصرف السفيه بإذن وليه، فيه روايتان. (الثالث) : أن يكون المبيع مالاً، وهو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة، فيجوز بيع دود القز وبزره والنحل؛ وقوله: لغير ضرورة، احتراز من الميتة والمحرمات التي تباح في حال المخمصة. وكل عين مملوكة يجوز اقتناؤها والانتفاع بها في غير حال الضرورة، يجوز بيعها، إلا ما استثناه الشرع كالكلب وأم الولد. وقال أبو حنيفة: إن كان مع دود القز قز، جاز بيعه وإلا فلا، لأنه لا ينتفع بعينه؛ وقوله لا ينتفع بعينه، يبطل بالحيوانات التي لا يحصل منها سوى نفع النتاج. وقال القاضي: لا يجوز بيع النحل في كواراته، لأنه لا يمكن مشاهدة جميعه. وقال أبو الخطاب: يجوز كالصبرة. وفي بيع العلق التي ينتفع بها، كالتي تمص الدم، والديدان التي يصاد بها السمك، وجهان: أحدهما:   1 سورة النساء آية: 29. 2 سورة النساء آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 الجواز. ويجوز بيع الهر والفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد، إلا الكلب. وعن أحمد: أنه كره ثمن الهر، لما في صحيح مسلم: "أنه صلى الله عليه وسلم زجر عنه". ولنا: أنه حيوان يباح اقتناؤه، فجاز بيعه. ويمكن حمل الحديث على غير المملوك منها، وعلى ما لا نفع فيه. وقال ابن أبي موسى: لا يجوز بيع الفهد والصقر ونحوهما، لأنها نجسة كالكلب، وهذا يبطل بالبغل والحمار. وأما الكلب، فإن الشرع توعّد على اقتنائه، إلا للحاجة، ولقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، 1 خرج منه ما استثناه الشرع. قال أحمد: أكره بيع القرد، قال ابن عقيل: هذا محمول على بيعه للعب، فأما بيعه لحفظ المتاع ونحوه فيجوز، كالصقر؛ وهذا مذهب الشافعي. فأما بيع لبن الآدميات، فرويت الكراهة فيه عن أحمد. واختلف أصحابنا في جوازه. وقال أحمد: لا أعلم في بيع المصاحف رخصة، ورخص في شرائها. و"ممن كره بيعها: ابن عمر وابن عباس وأبو موسى". ورخص فيه الحسن والشافعي. ولنا: قول الصحابة، ولم نعلم لهم مخالفاًً في عصرهم. ولا يجوز بيعه لكافر، وبه قال الشافعي، وقد "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن تناله أيديهم". ولا يجوز بيع الميتة والخنزير والدم، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول به. ولا يجوز بيع الكلب، أي كلب كان، ورخص في ثمن كلب الصيد عطاء. وأجاز أبو حنيفة بيع الكلاب كلها. ولنا: ?"أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن". 2 متفق عليه. فأما الحديث: "أنه نهى   1 سورة البقرة آية: 275. 2 البخاري: البيوع (2237) , ومسلم: المساقاة (1567) , والترمذي: النكاح (1133) والبيوع (1276) , والنسائي: الصيد والذبائح (4292) والبيوع (4666) , وأبو داود: البيوع (3428, 3481) , وابن ماجة: التجارات (2159) , وأحمد (4/118, 4/119, 4/120) , ومالك: البيوع (1363) ، والدارمي: البيوع (2568) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 عن ثمن الكلب والسنور، إلا كلب صيد"، 1 فقال الترمذي: لا يصح إسناده، وقال الدارقطني: الصحيح أنه موقوف على جابر. ولا يحل قتل الكلب المعلّم ولا غرم على قاتله. فأما قتل ما لا يباح إمساكه منها، فإن كان أسود بهيماً، أبيح قتله، لأنه شيطان، وكذلك الكلب العقور، لحديث: "خمس فواسق ... إلخ". وما لا مضرة فيه، لا يباح قتله، "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم نهى عنه وقال: عليكم بالأسود البهيم، ذي النقتطين؛ فإنه شيطان". 2 رواه مسلم. ويحرم اقتناء الكلاب، إلا كلب الماشية والصيد والحرث، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من اتخذ كلباً، إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع، نقص من أجره كل يوم قيراط". 3 متفق عليه. وإن اقتناه لحفظ البيوت لم يجز، للخبر؛ ويحتمل الإباحة، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، لأنه في معنى الثلاثة. والأول أصح، لأن قياس غير الثلاثة عليها يبيح ما تناول الخبر تحريمه. ويجوز تربية الجرو الصغير، لأجل الثلاثة، في أقوى الوجهين. والثاني: لا يجوز، لأنه ليس من الثلاثة. ولا يجوز بيع السرجين النجس، وقال أبو حنيفة: يجوز لأن أهل الأمصار يتبايعونه لزروعهم من غير نكير، فكان إجماعاً. ولنا: أنه مجمع على نجاسته، فلم يجز بيعه كالميتة. ولا يجوز بيع الحر ولا ما ليس بمملوك، كالمباحات قبل حيازتها، لا نعلم فيه خلافاً. ولا يجوز بيع الأدهان النجسة في ظاهر كلام أحمد، وعنه: يجوز بيعه لكافر يعلم نجاستها. وعن أبي موسى قال: "لتّوا به السويق وبيعوه، ولا تبيعوه من مسلم، وبيّنوه". والصحيح الأول، لقوله: "إن الله إذا حرّم شيئاّ حرّم ثمنه". 4 وفي جواز الاستصباح   1 مسلم: المساقاة (1569) , والترمذي: البيوع (1279) , والنسائي: البيوع (4668) , وأبو داود: البيوع (3479) , وابن ماجة: التجارات (2161) , وأحمد (3/339, 3/349, 3/386) . 2 مسلم: المساقاة (1572) , وأحمد (3/333) . 3 البخاري: المزارعة (2322) , ومسلم: المساقاة (1575) , والترمذي: الأحكام والفوائد (1489) , والنسائي: الصيد والذبائح (4289) , وأبو داود: الصيد (2844) , وأحمد (2/345) . 4 أحمد (1/322) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 بها روايتان: روي عنه: أنه لا يجوز، لقوله: "وإن كان مائعاً، فلا تقربوه". وعنه: "إباحته، لأنه يروى عن ابن عمر"، وهو قول الشافعي. وكره أحمد أن يدهن منه الجلود، وقال: لا يجعل منه الأسقية. ونقل عن ابن عمر: "أنه يدهن بها الجلود"، وعجب أحمد من هذا. ولا يجوز بيع الترياق الذي فيه لحوم الحيات، لأن نفعه بالأكل، وهو محرم ولا يجوز التداوي به ولا بسمّ الأفاعي. فأما سم النبات، فإن أمكن التداوي بيسيره، جاز بيعه. (الرابع) : أن يكون مملوكاً له أو مأذوناً له في بيعه، فإن باع ملك غيره أو اشترى بعين ماله شيئاً بغير إذنه، لم يصح، وعنه: يصح، ويقف على إجازة المالك. والأولى: مذهب الشافعي وابن المنذر. والثانية: قول مالك وإسحاق، وبه قال أبو حنيفة في البيع، وأما الشراء فيقع عنده للمشتري بكل حال، لما روى عروة البارقي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين ثم باع إحداهما في الطريق بدينار، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار والشاة، فقال: بارك الله لك في صفقة يمينك ". 1 ووجه الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم: "لا تبع ما ليس عندك"، 2 ذكره جواباً له حين سأله أنه يبيع الشيء ويمضي ويشتريه ويسلّمه، وحديث عروة نحمله على أن وكالته مطلقة، لأنه سلّم وتسلّم، وليس ذلك لغير المالك أو وكيله باتفاقنا. وإن اشترى في ذمته شيئاً لإنسان بغير إذنه صح، سواء نقد الثمن من مال الغير أم لا؛ فإن أجازه لزمه، وإلا لزم من اشتراه. وإن باع سلعة وصاحبها ساكت، فحكمه حكم ما لو باعها بغير إذنه، في قول الأكثرين. وقال ابن أبي ليلى: سكوته إقرار، لأنه يدل على الرضى، كسكوت البكر. ولنا: أن السكوت محتمل، فلم يكن إذناً، كسكوت الثيب. ولا يجوز بيع ما لا يملكه   1 البخاري: المناقب (3643) , والترمذي: البيوع (1258) , وأبو داود: البيوع (3384) , وابن ماجة: الأحكام (2402) . 2 الترمذي: البيوع (1232) , والنسائي: البيوع (4611, 4613) , وأبو داود: البيوع (3503, 3504) , وابن ماجة: التجارات (2188) , وأحمد (2/174, 2/205, 3/402, 3/434) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 ليمضي ويشتريه ويسلّمه، رواية واحدة، ولا نعلم له مخالفاًً، لحديث حكيم بن حزام. ولا يجوز بيع ما فتح عنوة ولم يقسم، كأرض الشام والعراق، إلا المساكن، وأرضاً من العراق فتحت صلحاً، وهذا قول أكثر أهل العلم. قال الأوزاعي: لم يزل أئمة المسلمين ينهون عن شراء أرض الجزية، ويكرهه علماؤهم. وقال الثوري: إذا أقر الإمام أهل العنوة في أرضهم، توارثوها وتبايعوها؛ وروي نحوه عن ابن سيرين والقرظي، لما روي: "أن ابن مسعود اشترى من دهقان أرضاً، على أن يكفيه جزيتها". وروي عن أحمد أنه قال: كان الشراء هو: أن يشتري الرجل ما يكفيه ويغنيه عن الناس، وهو رجل من المسلمين وكره البيع، قال شيخنا: وإنما رخص فيه لأن بعض الصحابة اشترى، ولم يسمع عنهم البيع. ولنا: إجماع الصحابة، فإن قيل: خالف ابن مسعود، قلنا لا نسلم. وقولهم: اشترى المراد: اكترى، كذا قال أبو عبيد، لأنه لا يكون مشترياً لها وجزيتها على غيره. وروى عنه القاسم أنه قال: "من أقر بالطسق فقد أقر بالصغار والذل". وإذا بيعت وحكم بصحته حاكم، صح كسائر المختلفات. وإن باع الإمام شيئاً لمصلحة رآها، مثل أن يكون في الأرض ما يحتاج إلى عمارة ولا يعمره إلا من يشتريه، صح أيضاً. ولا يجوز بيع رباع مكة، ولا إجارتها، وعنه: يجوز، وهو أظهر في الحجة؛ وما روي من الأحاديث في خلافه، فهو ضعيف. ولا يجوز بيع كل ماء عدّ كمياه العيون ونقع البئر، ولا ما في المعادن الجارية، ولا ما ينبت في أرضه من الكلإ والشوك. وأما نفس البئر وأرض العيون، فهو مملوك، والماء غير مملوك، والوجه الآخر: يملك، روي عن أحمد نحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 فإنه قيل له: رجل له أرض ولآخر ماء، يشتركان في الزرع يكون بينهما؟ قال: لا بأس، وكذا الكلأ النابت في أرضه، فكله يخرج على الروايتين في الماء. قال الأثرم: سئل أبو عبد الله: عن قوم بينهم نهر، فجاء يومي ولا أحتاج إليه، أكريه بدراهم؟ قال: ما أدري. "أما النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن بيع الماء"، فقيل له: إنما أكريه، قال: إنما احتالوا بهذا ليحسنوه، فأي شيء هذا إلا البيع؟ وروى الأثرم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون شركاء في ثلاث: في النار، والكلإ، والماء"؛ 1 والخلاف فيه إنما هو قبل حيازته. فأما ما يحوزه من الماء في إنائه، أو يأخذه من الكلإ في حبله، أو يأخذه من المعادن، فإنه يملكه بغير خلاف، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يأخذ أحدكم حبلاً فيأخذ حزمة من حطب، فيبيع فيكفّ بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أُعطي أو مُنع". 2 رواه البخاري. وروى أبو عبيد: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماء، إلا ما حمل منه". وعلى هذا مضت العادة في الأمصار من غير نكير. قال أحمد: إنما نهي عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره، و"قد اشترى عثمان بئر رومة من يهودي، وسبّلها للمسلمين"، وروي: "أنه اشترى منه نصفها وقال: اختر إما أن تأخذ يوماً وآخذ يوماً، وإما أن تنصب دلواً وأنصب دلواً. فاختار يوماً ويوماً. فكان الناس يسقون منها يوم عثمان لليومين. فقال اليهودي: أفسدت عليَّ بئري، فاشترِ باقيها. فاشترى باقيها". وفيه دليل على صحة بيعها، وملك ما يستقيه منها، وجواز قسمة مائها، وكون مالكها أحق بمائها، وجواز قسمة ما فيه حق وليس بمملوك. وإذا اشترى ممن في ماله حلال وحرام، كالسلطان الظالم والمرابي، فإن علم أن المبيع من حلال فهو حلال، وإن علم أنه من الحرام فهو حرام، وإن لم يعلم من أيهما   1 أبو داود: البيوع (3477) , وأحمد (5/364) . 2 البخاري: الزكاة (1471) , وابن ماجة: الزكاة (1836) , وأحمد (1/164, 1/167) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 هو كره ولم يبطل البيع. وهذه هي الشبهة؛ وبقدر كثرة الحرام وقلّته تكثر الشبهة وتقل، لحديث النعمان بن بشير. والمشكوك فيه على ثلاثة أضرب: الأول: ما أصله الحظر، كالذبيحة في بلد فيها مجوس وعبدة أوثان يذبحون، فإنه لا يجوز شراؤها، وإن جاز أن تكون ذبيحة مسلم، لأن الأصل التحريم؛ والأصل فيه حديث عدي: "إذا أرسلت كلبك فخالط أكلباً لم يسمّ عليها، فلا تأكل؛ فإنك لا تدري أيهما قتله". 1 متفق عليه. فإن كان ذلك في بلد الإسلام، فالظاهر إباحتها، لأن المسلمين لا يقرّون بيع ما لا يجوز بيعه ظاهراً. الثاني: ما أصله الإباحة، كالماء يجده متغيراً لا يعلم بنجاسة تغير أو غيرها، فهو طاهر لأن الأصل الطهارة؛ والأصل فيه حديث عبد الله بن زيد قال: "شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يُخيّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً". 2 متفق عليه. والثالث: ما لا يعرف له أصل كرجل في ماله حلال وحرام، فهذا هو الشبهة. وكان أحمد لا يقبل جوائز السلطان، وذلك على سبيل الورع، فإنه قال: جوائز السلطان أحب إلي من الصدقة. وقال: ليس أحدٌ من المسلمين إلا له في هذه الدراهم نصيب، فكيف أقول: إنها سحت. و"ممن كان يقبل جوائزهم: ابن عمر وابن عباس"، ورخص فيه الحسن ومكحول والزهري. واحتج بعضهم بـ"أنه صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً، ومات ودرعه مرهونة عنده". 3 و"أجاب يهودياً دعاه، وأكل من طعامه". وقد أخبر الله أنهم {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} . 4 قال أحمد فيمن معه ثلاثة دراهم فيها درهم حرام: يتصدق بالثلاثة. وإن كان معه مائتا درهم فيها عشرة حرام، يتصدق بالعشرة،   1 البخاري: الوضوء (175) , ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) , والترمذي: الصيد (1470) , والنسائي: الصيد والذبائح (4263, 4264) , وأبو داود: الصيد (2849) , وابن ماجة: الصيد (3208) , وأحمد (4/256, 4/257) , والدارمي: الصيد (2002) . 2 البخاري: الوضوء (137) , ومسلم: الحيض (361) , والنسائي: الطهارة (160) , وأبو داود: الطهارة (176) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (513) , وأحمد (4/39) . 3 البخاري: السلم (2252) , ومسلم: المساقاة (1603) , والنسائي: البيوع (4609) , وابن ماجة: الأحكام (2436) , وأحمد (6/160, 6/230) . 4 سورة المائدة آية: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 لأن هذا كثير. قيل له: قال سفيان: ما كان دون العشرة يتصدق به، وما كان أكثر يخرج. قال: نعم. لا يجحف به، ولأن تحريمه لم يكن لتحريم عينه، وإنما حرم لتعلق حق غيره به، فإذا أخرج عوضه زال التحريم. (الخامس) : أن يكون مقدوراً على تسليمه، فلا يجوز بيع الآبق والشارد والطير في الهواء، وعن ابن عمر: "أنه اشترى من بعض ولده بعيراً شارداً"، وعن ابن سيرين: لا بأس ببيع الآبق إذا كان علمهما فيه واحداً. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر". 1 [ثبت في الصحيح: "أنه نهى عن بيع الغرر" يتناول كل ما فيه مخاطرة، كبيع الثمار قبل بدوّ صلاحها، وبيع الأجنّة في البطون، وغير ذلك] 2. ولا يجوز بيع السمك في الآجام، روي عن ابن مسعود: "أنه نهى عنه وقال: إنه غرر"، وكرهه الحسن والنخعي، ولا نعلم لهم مخالفاًً. وروي عن عمر بن عبد العزيز فيمن له أجمة يحبس السمك فيها: يجوز بيعه. ولا يجوز بيع المغصوب، لعدم إمكان تسليمه؛ فإن باعه لغاصبه أو لقادر على أخذه جاز، وإن ظن أنه قادر صح البيع، فإن عجز فله الخيار بين الفسخ والإمضاء. (السادس) : أن يكون معلوماً برؤية أو صفة، فإن اشترى ما لم يرهُ ولم يوصف له لم يصح، وعنه: يصح، وللمشتري خيار الرؤية، لعموم قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، 3 ولما روي عن عثمان وطلحة: "أنهما تبايعا داريهما، إحداهما بالكوفة والأخرى بالمدينة. فقيل لعثمان: إنك قد غبنت، فقال: ما أبالي، لأني بعت ما لم أره. وقيل لطلحة، فقال: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره. فتحاكما إلى جبير، فجعل الخيار لطلحة" ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى   1 ابن ماجة: التجارات (2195) , وأحمد (1/302) . 2 زيادة من المخطوطة. 3 سورة البقرة آية: 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 عن بيع الغرر"، 1 وحديث عثمان وطلحة يحتمل أنهما تبايعا بالصفة، وإن قلنا بالصحة فباع ما لم يره فله الخيار عند الرؤية، وإن لم يره المشتري فلكل الخيار. وقال أبو حنيفة: لا خيار للبائع، لحديث عثمان. ولنا: أنه جاهل، فأشبه المشتري بصفة المعقود عليه. وإن ذكر له من صفته ما يكفي في السلم، ورآه ثم عقدا بعد ذلك بزمن لا يتغير فيه ظاهراً، صح في إحدى الروايتين. ثم إن وجده لم يتغير فلا خيار له. وإن وجده متغيراً فله الفسخ. والقول في ذلك قول المشتري مع يمينه، لأن الأصل براءة ذمته من الثمن. ولا يجوز بيع الحمل في البطن، واللبن في الضرع، والمسك في الفأر، والنوى في التمر، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن بيع الملاقيح والمضامين غير جائز. قال أبو عبيد: الملاقيح: ما في البطن، والمضامين: ما في أصلاب الفحول. "ونهى صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة"، 2 ومعناه: نتاج النتاج. وعن ابن عمر "كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم". ولا يجوز بيع اللبن في الضرع، لما روى ابن عباس، مرفوعاً: "نهى عن أن يباع صوف على ظهر، أو لبن في ضرع". [رواه ابن ماجة، وحكي عن مالك أنه يجوز أياماً معلومة إذا عرفا حلابها، كلبن الظئر] ، 3 وأجازه الحسن وغيره. ولا يجوز بيع المسك في الفأر، وقال بعض الشافعية: يجوز لأن بقاءه في فأره مصلحة له، أشبه ما مأكوله في جوفه. وأما الصوف على الظهر فالمشهور أنه لا يجوز، وعنه: يجوز بشرط جزّه في الحال. فأما بيع الأعمى وشراؤه فإن أمكنه معرفة المبيع بالذوق أو الشم صح، وإلا جاز بيعه بالصفة، وله خيار الخلف في الصفة. وقال أبو حنيفة: له الخيار إلى معرفة المبيع.   1 ابن ماجة: التجارات (2195) , وأحمد (1/302) . 2 البخاري: البيوع (2143) , ومسلم: البيوع (1514) , والترمذي: البيوع (1229) , والنسائي: البيوع (4623, 4624, 4625) , وأبو داود: البيوع (3380) , وابن ماجة: التجارات (2197) , وأحمد (1/56, 2/5, 2/10, 2/15, 2/76, 2/80, 2/108, 2/144) , ومالك: البيوع (1357) . 3 زيادة من المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 ولا يجوز بيع الملامسة، وهو أن يقول: بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا، أو يقول: أي ثوب لمسته فهو لك بكذا، ولا بيع المنابذة، وهو أن يقول: أي ثوب نبذته إليَّ فهو عليّ بكذا، ولا بيع الحصاة وهو أن يقول: ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا، أو بعتك من هذه الأرض قدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا، لا نعلم فيه خلافاً. وفي البخاري: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة"، 1 وهو طرح الرجل ثوبه [بالبيع إلى الرجل، قبل أن يقلبه أو ينظر إليه، ونهى عن الملامسة، والملامسة: لمس الثوب لا ينظر إليه] 2. ولا يجوز بيع عبد غير معيّن، ولا شجرة من بستان، ولا هذا القطيع إلا شاة غير معيّنة. وإن استثنى معيّنا من ذلك جاز، وقال مالك: يصح أن يبيع مائة شاة إلا شاة يختارها، وبيع ثمرة بستان ويستثنى ثمرة نخلات يعدّها. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا، إلا أن تعلم". 3 قال الترمذي: حديث صحيح. وإن استثنى معيّناً جاز، لا نعلم فيه خلافاً. وإن باع قفيزاً من هذه الصبرة صح، لأنه معلوم. وإن باعه الصبرة إلا قفيزاً، أو ثمرة شجرة إلا صاعاً، لم يصح؛ وعنه: يصح، لأنها ثنيا معلومة. روي عن ابن عمر: "أنه باع ثمرة بأربعة آلاف، واستثنى طعام الفتيان". وإن باع حيواناً واستثنى ثلثه جاز، وإن باعه أرضاً إلا جريباً، أو جريباً من أرض يعلمان جربانها، صح وكان مشاعاً فيها، وإلا لم يصح. وإن باعه حيواناً مأكولاً إلا جلده أو رأسه أو أطرافه صح، نص عليه، وقال الشافعي: لا يجوز. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم"، 4 وهذه معلومة. وروى أبو بكر في الشافي عن الشعبي قال: (قضى زيد بن ثابت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقرة باعها رجل   1 البخاري: البيوع (2144) , وابن ماجة: التجارات (2170) , وأحمد (3/6, 3/95) . 2 زيادة من المخطوطة. 3 النسائي: الأيمان والنذور (3880) . 4 النسائي: الأيمان والنذور (3880) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 واشترط رأسها، فقضى بالشروى يعني: أن يعطي رأساً مثل رأس (، فإن امتنع المشتري من ذبحها، لم يجبر ويلزمه قيمته، نص عليه، لما روي عن عليّ: (أنه قضى في رجل اشترى ناقة، واشترط ثنياها، وقال: اذهبوا إلى السوق، فإذا بلغت أقصى ثمنها، فأعطوه بحساب ثنياها من ثمنها (. فإن استثنى شحم الحيوان لم يصح، نص عليه أحمد. وإن استثنى الحمل لم يصح، وعنه: صحته، وبه قال إسحاق، لما روى نافع: (أن ابن عمر باع جارية واستثنى ما في بطنها (، والصحيح من حديثه: (أنه أعتق جارية (، لأن الثقات الحفاظ قالوا: (أعتق جارية (والإسناد واحد. وإن باع جارية حاملا بحرّ، فقال القاضي: لا يصح، والأولى صحته. وقد يستثنى بالشرع ما لا يصح استثناؤه باللفظ، كما لو باع جارية مزوّجة. ويجوز بيع ما مأكوله في جوفه، لا نعلم فيه خلافاً. ويجوز بيع الطلع قبل تشققه مقطوعاً وفي شجره، وبيع الحب المشتد في سنبله. ويجوز بيع الجوز واللوز والباقلاء في قشره مقطوعاً وفي شجره. وقال الشافعي: لا يجوز حتى ينزع قشره الأعلى، لأنه مستور. ولنا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها". 1 والحيوان المذبوح يجوز بيعه في سلخه. (السابع) : أن يكون الثمن معلوماً، فإن باعه بمائة ذهباً وفضة لم يصح، وقال أبو حنيفة: يصح، ويكون نصفين. وإن قال: بعتك بعشرة صحاح، أو إحدى عشرة مكسرة، وبعشرة نقداً، أو عشرين نسيئة، لم يصح، لأنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيعتين في بيعة". 2 وهذا هو كذلك فسّره مالك وغيره، وهذا قول أكثر أهل العلم. وروي عن طاووس والحكم وحماد أنهم قالوا: لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا، فيذهب إلى أحدهما. وروي عن أحمد فيمن قال: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غداً فلك نصف   1 البخاري: الزكاة (1487) , ومسلم: البيوع (1536) , والنسائي: البيوع (4523) , وأبو داود: البيوع (3373) , وابن ماجة: التجارات (2216) , وأحمد (3/372, 3/381) . 2 الترمذي: البيوع (1231) , والنسائي: البيوع (4632) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 درهم، أنه يصح، فيحتمل أن يلحق به البيع وأن يفرق بينهما. وإن باعه الصبرة كل قفيز بدرهم صحَّ، وإن لم يعلما قدرها. وقال أبو حنيفة: يصح في قفيز واحد، ويبطل فيما سواه، لأن جملة الثمن مجهولة. وإن باعه من الصبرة كل قفيز بدرهم لم يصح، لأن العدد منها مجهول، ويحتمل أن يصح بناء على قوله، إذا أجر كل شهر بدرهم، قال ابن عقيل: هو الأشبه. وإن قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة على أن أزيدك قفيزاً أو أنقصك قفيزاً لم يصح، لأنه مجهول. وإن قال: قفيزاً من هذه الصبرة الأخرى، أو وصفه بصفة يعلم بها، صح. ويصح بيع الصبرة جزافاً مع جهلهما بقدرها، لا نعلم فيه خلافاً لقول ابن عمر: "كنا نشتري الطعام جزافاً ... إلخ". ولا يضر عدم مشاهدة باطن الصبرة. وكذلك لو قال: بعتك نصفها أو جزءاً منها معلوماً. ولا فرق بين الأثمان والمثمنات في صحة بيعها جزافاً. وقال مالك: لا يصح في الأثمان، لأن لها خطراً، ولا يشق وزنها ولا عددها. وإن كان البائع يعلم قدر الصبرة، لم يجز بيعها جزافاً؛ وكرهه عطاء وابن سيرين ومجاهد، وبه قال مالك وإسحاق. قال مالك: لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك، ولم ير الشافعي بذلك بأساً، لأنه إذا جاز مع جهلهما فمع العلم من أحدهما أولى. وروى الأوزاعي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من عرف مبلغ شيء، فلا يبعه جزافاً حتى يبيِّنه". وقال القاضي وأصحابه: هذا بمنزلة التدليس، إن علم به المشتري فلا خيار له، وإن لم يعلم فله الخيار، وهذا قول مالك. [وذهب بعض أصحابه إلى أن البيع فاسد، والنهي يقتضي الفساد] . 1 فإن أخبره بكيله ثم باعه بذلك صح، فإن قبضه باكتياله تم. وإن قبضه بغير كيل كان بمنزلة قبضه جزافاً. فإن كان المبيع باقياً كاله، فإن كان قدر حقه فقد استوفى، وإن زاد   1 زيادة من المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 رد الفضل، وإن كان ناقصاً أخذ نقصه. وإن تلف فالقول قول القابض في قدره بيمينه. وليس للمشتري التصرف في الجميع قبل كيله، لأن للبائع فيه علقة. ولا يتصرف في أقل من حقه بغير كيل، لأن ذلك يمنع من معرفة كيله. وإن تصرف فيما يتحقق أنه مستحق له، مثل أن يكون حقه قفيزاً فيتصرف في ذلك أو في أقل منه بالكيل، ففيه وجهان. فأما إن أعلمه بكيله ثم باعه إياه مجازفة، على أنه له بذلك الثمن زاد أو نقص، لم يجز، لما روى الأثرم بإسناده عن الحكم قال: "قدم طعام لعثمان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهبوا بنا إلى عثمان لنعينه على طعامه. فقام إلى جنبه، فقال عثمان: في هذه الغرارة كذا وكذا، وأبيعها بكذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سميت الكيل فكِل". قال أحمد: إذا أخبره البائع أن في كل قارورة منّا، فأخذ بذلك ولا يكتاله، فلا يعجبني، لقوله لعثمان: "إذا سميت الكيل فكِلْ". قيل له: إنهم يقولون: إذا فتح فسد، قال: فلِم لا يفتحون واحدة ويذرون الباقي. ولو كال طعاماً وآخر يشاهده، فلمن يشاهده شراؤه بغير كيل ثان، وعنه: يحتاج إلى كيل، للخبر. ولو كاله البائع للمشتري ثم اشتراه منه فكذلك، لما ذكرناه. وإن اشترى اثنان طعاماً فاكتالاه، ثم اشترى أحدهما حصة شريكه قبل تفرقهما، فهو جائز؛ وإن لم يحضر المشتري الكيل لم يجز إلا بكيل. وقال ابن أبي موسى: فيه رواية أخرى: لا بد من كيله. وإن باعه الثاني في هذه المواضع على أنه صبرة جاز، ولم يحتج إلى كيل ثان، وقبضه بنقله كالصبرة. قال أحمد، في رجل يشتري الجوز فيعد في مكيل ألف جوزة، ثم يأخذ الجوز كله على ذلك العيار: لا يجوز. وقال في رجل ابتاع أعكاماً كيلاً، وقال للبائع: كل لي عكماً منها، وآخذ ما بقي على هذا الكيل: أكره هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 يكتالها كلها. قال الثوري: كان أصحابنا يكرهون هذا، وذلك لأن ما في العكوم يختلف، والجوز يختلف. وإن باعه الأدهان في ظروفها جملة وقد شاهدها جاز، وكذلك العسل والدبس والمائعات التي لا تختلف. وإن وجد في ظرف الدهن ربّا، فقال ابن المنذر: قال أحمد وإسحاق: إن كان سمّاناً عنده سمن، أعطاه بوزنه سمناً، وإلا أعطاه بقدر الربّ من الثمن؛ وألزمه شريح بقدر الربّ سمناً بكل حال. وإن باعه بمائة درهم إلا ديناراً لم يصح، ذكره القاضي، ويجيء على قول الخرقي أنه يصح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 فصل في تفريق الصفقة وله ثلاث صور: إحداها: بيع معلوم ومجهول، كهذه الفرس وما في بطن الأخرى بكذا، فهو باطل بكل حال، لا أعلم فيه خلافاً، لأن المعلوم مجهول الثمن، ولا سبيل إلى معرفته، لأن المجهول لا يمكن تقويمه. الثانية: باعه مشاعاً بينه وبين غيره بغير إذن شريكه، كعبد مشترك بينهما، صح في نصيبه بقسطه، ويفسد في نصيب الآخر. والثاني: لا يصح فيهما. وأصل الوجهين: أن أحمد نص فيمن تزوج حرة وأمة على روايتين: إحداهما: يفسد فيهما. والثانية: يصح في الحرة. والأول: قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وقال في الآخر: لا يصح كالجمع بين الأختين وبيع الدرهم بدرهمين. ووجه الأولى: أن البيع سبب اقتضى الحكم في محلين، فامتنع حكمه في أحدهما لسهوه عن قبوله، فيصح في الآخر. وأما الدرهمان والأختان فليس واحد منهما أولى بالفساد من الآخر، فكذلك فيهما؛ ومتى حكمنا بالصحة هنا، فلا خيار لمشتر علم بالحال، وإلا فله الخيار، ولا خيار للبائع. ولو وقع العقد على شيئين يفتقر إلى القبض فيهما فتلف أحدهما قبل قبضه، فقال القاضي: للمشتري الخيار بين إمساك الباقي بحصته وبين الفسخ. الثالثة: باع عبده وعبد غيره بغير إذنه، أو عبداً وحراً، ففيه روايتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 إحداهما: يصح في أحدهما بقسطه. والثانية: يبطل الجميع. وللشافعي قولان. وأبطل مالك العقد فيهما، إلا أن يبيعه ملكه وملك غيره، فيصح في ملكه ويقف في ملك غيره على الإجازة. ونحوه قول أبي حنيفة، فإنه قال: إن كان أحدهما لا يصح بيعه بنص ولا إجماع، كالحرّ والخمر، لم يصح فيهما، وإن لم يثبت بذلك كملكه وملك غيره صح فيما يملكه. ومتى قلنا بالصحة، فللمشتري الخيار إذا لم يكن عالماً به. والحكم في الرهن والهبة وسائر العقود إذا جمعت ما يجوز وما لا يجوز كالحكم في البيع. وإن باع عبده وعبد غيره بإذنه بثمن واحد، فهل يصح؟ على وجهين: أحدهما: يصح، ويتقسط الثمن على قدر قيمتهما، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. وإن جمع بين بيع وإجارة، أو بيع وصرف، صح، ويتقسط العوض عليهما في أحد الوجهين. ولا يحل البيع بعد نداء الجمعة قبل الصلاة، فإن باع لم يصح، للنهي عنه.. ولا يثبت الحكم في حق من لا تجب عليه، وذكر ابن أبي موسى روايتين لعموم النهي، وذكرالقاضي رواية: أن البيع يحرم بزوال الشمس. ويصح النكاح وسائر العقود، لأن النهي مختص بالبيع وغيره ولا يساويه في الشغل لقلة وجوده. ولا يصح بيع العصير لمن يتخذه خمراً، ولا بيع السلاح في الفتنة أو لأهل الحرب. وحكى ابن المنذر عن الحسن وغيره: أنه لا بأس ببيع التمر ممن يتخذه مسكراً، قال الثوري: بع الحلال ممن شئت. ولنا: قوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، 1 فإن باعها لمن يتخذها خمراً، فالبيع باطل، ويحتمل أن يصح، وهو مذهب الشافعي، لأن المحرم في ذلك اعتقاده   1 سورة المائدة آية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 بالعقد دونه، فلم يمنع الصحة كالتدليس. ولنا: أنه عقد على عين المعصية، كإجارة الأمة للزنى. وأما التدليس فهو المحرم دون العقد، ولأن التحريم هنا لحقّ الله، والتدليس لحق آدمي؛ وهكذا الحكم في كل ما قصد به الحرام، كبيع السلاح في الفتنة أو لقطاع الطريق، وبيع الأمة للغناء. ونص أحمد على مسائل نبه بها على ذلك، فقال في القصاب والخباز: إذا علم أن من اشترى منه يدعو عليه من يشرب المسكر، لا يبيعه. ومن يخرط الأقداح لا يبيعها لمن يشرب فيها. ونهى عن بيع الديباج للرجال. وقال في رجل مات وخلف جارية مغنية وولداً يتيماً تساوي ثلاثين ألف درهم، فإذا بيعت ساذجة تساوي عشرين ديناراً فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة. وحكى ابن المنذر الإجماع أن بيع الخمر غير جائز. وعن أبي حنيفة: يجوز للمسلم أن يوكل ذمياً في بيعها وشرائها، ومن وكلهم في بيعها وأكل ثمنها فقد أشبههم، والتوكيل فيه كالميتة والخنزير. ولا يصح بيع العبد المسلم لكافر، إلا أن يكون ممن يعتق عليه، وقال أبو حنيفة: يصح ويجبر على إزالة ملكه. وإن أسلم عبد لذمّي، أجبر على إزالة ملكه عنه، لأنه لا يجوز استدامة الملك للكافر على المسلم إجماعاً، وليس له كتابته لأنها لا تزيل الملك عنه. ولا يجوز بيع الرجل على بيع أخيه، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة، ولا شراؤه على شرائه وهو أن يقول لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة، ليفسخ. فإن فعل فهل يصح؟ على وجهين. وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يسم الرجل على سوم أخيه"، 1 ولا يخلو من أربعة أقسام:   1 صحيح البخاري: كتاب الشروط (2727) , وصحيح مسلم: كتاب النكاح (1413) وكتاب البيوع (1515) , وسنن الترمذي: كتاب البيوع (1292) , وسنن النسائي: كتاب البيوع (4491, 4502) , ومسند أحمد (2/411, 2/427, 2/457, 2/462, 2/487, 2/512, 2/516, 2/529) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 أحدها: أن يوجد من البائع صريح الرضى بالبيع، فهذا يحرم السوم عليه. الثاني: أن يظهر منه ما يدل على عدم الرضى، فلا يحرم، "لأنه صلى الله عليه وسلم باع فيمن يزيد"، حسنه الترمذي، وهذا إجماعاً، فإن المسلمين يتبايعون في أسواقهم بالمزايدة. الثالث: أن لا يوجد منه ما يدل على الرضى ولا عدمه، فلا يحرم السوم أيضاً، استدلالا بحديث فاطمة بنت قيس حين ذكرت له "أن معاوية وأبا جهم خطباها، فأمرها أن تنكح أسامة؛ وقد نهى عن الخطبة على خطبة أخيه، كما نهى عن السوم على سومه". الرابع: أن يظهر منه ما يدل على الرضى من غير تصريح، فقال القاضي: لا يحرم، وذكر أن أحمد نص عليه في الخطبة استدلالاً بحديث فاطمة، لأن الأصل إباحة السوم والخطبة، فخرج منه التصريح بالنص. قال شيخنا: ولو قيل بالتحريم ههنا، لكان حسناً، فإن النهي عام خرجت منه الصورة المخصوصة بأدلتها، فتبقى هذه على العموم؛ وليس في حديث فاطمة ما يدل على الرضى، لأنها جاءت مستشيرة، فكيف ترضى وقد نهاها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تفوتينا بنفسك" 1. وبيع التلجئة باطل، لأنهما لم يقصداه، كالهازلين، وهو أن يخاف أن يأخذ السلطان أو غيره ماله، فيواطئ رجلاً على أن يظهر أنه اشتراه منه ليحتمي به، ولا يريدان بيعاً حقيقياً. وفي بيع الحاضر للبادي روايتان: إحداهما: يصح. والأخرى: لا يصح بخمسة شروط: أن يحضر البادي لبيع سلعته بسعر يومها، جاهلاً بسعرها،   1 مسلم: الطلاق (1480) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ويقصده الحاضر، وبالناس حاجة إليها. وظاهر كلام الخرقي: أنه يحرم بثلاثة شروط: أحدها: أن يكون الحاضر قصد البادي ليتولى البيع، فإن كان هو القاصد للحاضر جاز، لأن التضييق حصل منه لا من الحاضر. الثاني: أن يكون البادي جاهلاً بالسعر، قال أحمد: إذا كان البادي عارفاً بالسعر لم يحرم، لأن التوسعة لا تحصل بتركه بيعها. الثالث: أن يكون جلبها للبيع، فإن جاء بها ليأكلها أو يخزنها فليس لبيع الحاضر له تضييق. وذكر القاضي شرطين آخرين: أحدهما: أن يكون مريداً لبيعها بسعر يومها، فإن كان في نفسه ألا يبيعها رخيصة، فليس في بيعه تضييق. الثاني: أن يكون بالناس حاجة إليها وضرر في تأخير بيعها. فأما شراؤه له فيصح، رواية واحدة؛ وكرهه طائفة أخرى، فروي عن أنس قال: "كان يقال: هي كلمة جامعة تقول: "لا تبيعنّ له شيئاً، ولا تبتاعنّ له شيئاً"". وأما إن أشار الحاضر عليه من غير أن يباشر البيع، فقد رخص فيه طلحة بن عبيد الله وابن المنذر، وكرهه مالك والليث، وقول الصحابي أولى. وليس للإمام أن يسعّر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون. وكان مالك يقول: يقال لمن يريد أن يبيع أقل مما يبيع الناس: بع كما يبيع الناس وإلا فاخرج عنا، واحتج بقول عمر لحاطب. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال"، 1 وأمّا حديث عمر فقد روي فيه: "أنه لما رجع حاسَب نفسه، ثم أتى حاطباً فقال:   1 الترمذي: البيوع (1314) , وأبو داود: البيوع (3451) , وابن ماجة: التجارات (2200) , وأحمد (3/156, 3/286) , والدارمي: البيوع (2545) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 إن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد؛ فبع كيف شئت". و"من باع سلعة بنسيئة، لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به، إلا إن تغيّرت صفتها"، روي ذلك عن ابن عباس والحسن وغيرهما، وأجازه الشافعي. ولنا: حديث عائشة، وقال ابن عباس في مثل هذه: "أرى مائة بخمسين، بينهما حريرة"، يعني: خرقة جعلاها في بيعها. والذرائع معتبرة، فإذا اشتراها بعرض أو كان بيعها الأول بعرض، فاشتراها بنقد، جاز بيعها لا نعلم فيه خلافاً، لأن التحريم لشبهة الربا؛ ولا ربا بين الأثمان والعروض. فإن باعها بنقد، ثم اشتراها بنقد آخر، فقال أصحابنا: يجوز، لأنه لا يحرم التفاضل بينهما. وقال أبو حنيفة: لا يجوز، لأنهما كالشيء الواحد في معنى الثمنية، وقال شيخنا: وهذا أصح، إن شاء الله. وهذه مسألة العِينة، روى أبو داود عن ابن عمر، مرفوعاً: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم"، 1 وهذا وعيد يدل على التحريم. وروي عن أحمد أنه قال: العِينة: أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باع بنقد ونسيئة، فلا بأس. وقال: أكره للرجل ألا يكون له تجارة غير العينة، لا يبيع بنقد. قال ابن عقيل: إنما كره لمضارعته الربا. فإن باع سلعة بنقد، ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة، فقال أحمد: لا يجوز، إلا أن تتغير السلعة. وإن باع ما يجري فيه الربا بنسيئة، ثم اشترى منه بثمنه قبل قبضه من جنسه، وما لا يجوز بيعه به نسيئة، لم يصح، روي ذلك عن ابن عمر وغيره. وأجازه سعيد بن جبير وعلي بن الحسين والشافعي. ووجه التحريم: أنه ذريعة إلى   1 أبو داود: البيوع (3462) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 بيع الطعام بالطعام نسيئة، قال شيخنا: والذي يقوى عندي جواز ذلك إذا لم يفعله حيلة، ولا قصده في ابتداء العقد، كما قال علي بن الحسين. والاحتكار حرام بثلاثة شروط: أحدها: أن يشتري، قال الأوزاعي: الجالب ليس بمحتكر، لقوله: "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون" 1. الثاني: أن يكون قوتا، فأما الإدام والعسل والزيتون وعلف البهائم فليس احتكاراً محرماً. قال أحمد: إذا كان من قوت الناس، فهو الذي يكره. وكان ابن المسيب يحتكر الزيت، وهو راوي الحديث. الثالث: أن يضيق على الناس بشرائه، ولا يحصل إلا بأمرين: أحدهما: أن يكون في بلد يضيق بأهلها الاحتكار، كالحرمين، قال أحمد: فظاهره أن البلد الواسعة كبغداد، لا يحرم فيها لأنه لا يؤثر غالباً. الثاني: أن يكون في حال الضيق، فإن اشترى في حال الاتساع على وجه لا يضيق على أحد، لم يحرم. ويستحب الإشهاد في البيع، لقوله تعالى {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ، 2 وأقل أحواله الندب. ويختص بما له خطر، فأما حوائج العطار والبقال وشبهها فلا يستحب، لأنه مما يشق ويقبح الإشهاد وإقامة البينة عليها. وقال قوم: "الإشهاد فرض"، روي عن ابن عباس وغيره، لظاهر الأمر، وقياساً على النكاح. ولنا: قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، 3 قال أبو سعيد: صار الأمر إلى الأمانة، وتلا هذه الآية، و"لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من رجل فرساً ولم ينقل أنه أشهد، حتى شهد له خزيمة". وكان الصحابة يتبايعون في عصره بالأسواق، فلم يأمرهم بالإشهاد، ولا نقل   1 ابن ماجة: التجارات (2153) , والدارمي: البيوع (2544) . 2 سورة البقرة آية: 282. 3 سورة البقرة آية: 283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 عنهم فعله. والآية المراد بها الإرشاد إلى حفظ الأموال كما أمر بالرهن والكاتب، وليس بواجب. ويكره البيع والشراء في المسجد، والبيع صحيح؛ وكراهته لا توجب الفساد كالغش والتصرية، وفي قوله: " قولوا: لا أربح الله تجارتك" 1 دليل على صحته. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": واختار الشيخ صحة البيع بكل ما عدّه الناس بيعاً، من متعاقب ومتراخ ومن قول أو فعل. وقال أيضاً: تجهيز المرأة بجهاز إلى بيت زوجها تمليك. و"لا بأس بذوق المبيع عند المشتري"، نص عليه، لقول ابن عباس. ولو أكره على وزن مال فباع لذلك ملكه، كره الشراء وصح، وهو بيع المضطر. ونقل حنبل تحريمه وكراهته، واختار الشيخ تقي الدين الصحة من غير كراهة، وقال: من استولى على ملك غيره ظلماً، فطلبه صاحبه فجحده أو منعه إياه حتى يبيعه على هذا الوجه، فهذا مكره بغير حق. وسأله ابن الحكم عن رجل يقر بالعبودية حتى يباع، قال: يؤخذ البائع والمقر بالثمن؛ فإن مات أحدهما، أخد الآخر بالثمن. واختاره الشيخ تقي الدين، قال في الفروع: ويتوجه هذا في كل غارّ. وقال مهنا: سألت أبا عبد الله: عن السلم في البعر والسرجين؟ قال: لا بأس به. وفي جواز الاستصباح بها أي: الأدهان النجسة، روايتان. إحداهما: يجوز، وهو المذهب، اختاره الشيخ تقي الدين وغيره. واختار أيضاً جواز الانتفاع بالنجاسات، وقال: سواء في ذلك شحم الميتة وغيره، أومأ إليه في رواية ابن منصور؛ وإنما حرم بيع رباع مكة وإجارتها، لأن الحرم حريم البيت والمسجد الحرام، وقد جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، فلا يجوز لأحد التخصيص بملكه وتحجيره؛ لكن إن احتاج إلى ما في يده   1 الترمذي: البيوع (1321) , والدارمي: الصلاة (1401) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 منه سكنه، وإن استغنى عنه وجب بذل فاضله للمحتاج إليه، وهو مسلك ابن عقيل في نظرياته، وسلكه القاضي في خلافه، واختاره الشيخ تقي الدين، وتردد كلامه في جواز البيع، فأجازه مرة ومنعه أخرى. ولا يجوز بيع كل ماء عدّ، ولا ما نبت في أرضه من الكلإ والشوك، وجوّز ذلك الشيخ في مقطوع محسوب عليه يريد تعطيل ما يستحقه من زرع وبيع الماء. قال في الاختيارات: ويجوز بيع الكلإ ونحوه الموجود في أرضه، إذا قصد استنباته يعني: ترك الزرع لينبت الكلأ، وإذا لم ير المبيع فتارة يوصف له وتارة لا يوصف، فإن لم يوصف لم يصح، وعنه: يصح، واختاره الشيخ في موضع وضعفه في موضع آخر. فعليها، له خيار الرؤية، وعنه: لا خيار إلا بعيب. الثاني: بيع موصوف غير معيّن، مثل أن يقول: بعتك عبداً تركياً، ثم يستقصي صفات السلم، فمتى سلم إليه غير ما وصف فردّه فأبدله، لم يفسد العقد، وقيل: لا يصح البيع، وقيل: يصح إن كان في ملكه، وإلا فلا، اختاره الشيخ. وذكر القاضي وأصحابه: أنه لا يصح استصناع سلعةن لأنه بيع ما ليس عنده على غير وجه السلم. قال الشيخ: إن باعه لبناً موصوفاً في الذمة، واشترط كونه من شاة أو بقرة معينة، جاز. قوله: ولا المسك في الفأر، ووجه صاحب الفروع تخريجاً بالجواز، واختار صاحب الهدي قوله: ولا الصوف على الظهر، وعنه: يجوز بشرط جزه في الحال. واختار الشيخ صحة البيع وإن لم يسمّ الثمن، وله ثمن المثل، كالنكاح. واختار صحة بيع السلعة برقمها، وبما ينقطع به السعر، وبما باع به فلان. قوله: الثالثة: باع عبده وعبد غيره ... إلخ، متى صح البيع كان للمشتري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 الخيار، ولا خيار للبائع. وقال الشيخ: يثبت له الخيار أيضاً. وقال: يجوز الجمع بين البيع والإجارة في أظهر قولهم. ولا يصح بيع العصير لمن يتخذه خمراً إذا علم أنه يفعل ذلك، وقيل: أو ظنه، اختاره الشيخ. وقال: يحرم الشراء على شراء أخيه، فإن فعل كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة، وأخذ الزيادة أو عوضها. قال: واستئجاره على استئجار أخيه، واقتراضه على اقتراضه، واتهابه على اتهابه، مثل شرائه على شرائه، أو شرائه على اتهابه، ونحو ذلك، بحيث تختلف جهة الملك. قوله: وإن باع ما يجري فيه الربا نسيئة، ثم اشترى منه بثمن قبل قبضه من جنسه، أو ما لا يجوز بيعه به نسيئة، لم يجز؛ واختار المصنف الصحة مطلقاً إذا لم يكن حيلة، واختار الشيخ الصحة إذا كان ثم حاجة، وإلا فلا. وكره أحمد البيع والشراء من مكان ألزم الناس بهما فيه، والشراء بلا حاجة من جالس على الطريق، ومن بائع مضطر ونحوه. ويجبر المحتكر على بيعه كبيع الناس، فإن أبى وخيف التلف فرقه الإمام ونحوه، ويردون مثله، وكذا سلاح لحاجة، قاله الشيخ. انتهى كلام الإنصاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 باب الشروط في البيع وهي ضربان: (صحيح) وهو ثلاثة أنواع: أحدها: شرط مقتضى البيع، كالتقابض، فهذا لا يؤثر إلا تأكيداً. الثاني: شرط من مصلحة العقد، كتأجيل الثمن أو الرهن أو الضمين أو كون العبد كاتباً أو صانعاً، فهو صحيح يلزم الوفاء به، وإلا فللمشتري الفسخ، لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون عند شروطهم". ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافاً. فإن شرطها ثيباً فبانت بكراً، فلا خيار له لأنه زاده خيراً. وإن شرط الشاة لبوناً صح، وقال أبو حنيفة: لا يصح، لأنه لا يجوز بيع اللبن في الضرع. ولنا: أنه أمر مقصود يأخذ جزءاً من الثمن، كالصناعة في الأمة؛ وإنما لم يجز بيعه منفرداً للجهالة، والجهالة فيما كان تبعاً لا تمنع الصحة؛ ولذلك يصح بيع أساسات الحيطان، والنوى في التمر، وإن لم يجز بيعهما مفردين. وإن شرط أنها تحلب كل يوم قدراً معلوماً لم يصح، لأنه يتعذر الوفاء به. وإن شرطها غزيرة اللبن صح. وإن شرطها حاملاً صح. وقال القاضي: قياس المذهب ألا يصح، لأن الحمل لا حكم له، ويحتمل أنه ريح. ولنا: أنه صفة مقصودة يمكن الوفاء بها كالصناعة، وقوله: لا حكم له، لا يصح، فـ"إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم في الدية بأربعين خلفة في بطونها أولادها، ومنع أخذ الحوامل في الزكاة، ومنع وطء الحبالى المسبيات، وأرخص للحامل في الفطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 في رمضان إذا خافت على ولدها، ومنع من إقامة الحدود عليها من أجل حملها". الثالث: أن يشترط نفعاً معلوماً في المبيع، كسكنى الدار شهراً، أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع، كحمل الحطب أو تكسيره، وقال الشافعي: لا يصح لأنه يروى "أنه نهى عن بيع وشرط". ولنا: ?"أن جابراً باع للنبي صلى الله عليه وسلم جملاً، واشترط ظهره إلى المدينة"، 1 و"لأنه نهى عن الثنيا إلا أن تعلم". 2 ولم يصح النهي عن بيع وشرط. [قال أحمد: إنما النهي عن شرطين في بيع] . 3 وإن باع المشتري العين صح، وتكون في يد الثاني مستثناة أيضاً. فإن كان عالماً بذلك فلا خيار له، وإلا فله خيار الفسخ. وإن أتلف المشتري العين فعليه أجرة المثل، وإن تلفت بتفريطه فكفعله، نص عليه. فأما إن تلفت بغير فعله وتفريطه لم يضمن، قال الأثرم: قلت: لأبي عبد الله: فعلى المشتري أن يحمله على غيره، لأنه كان له حملان؟ قال: لا. إنما شرط عليه هذا بعينه. ولا يجوز للبائع إجارتها أي: المنفعة، إلا لمثله في الانتفاع. ويصح أن يشترط المشتري نفع البائع في المبيع، مثل أن يشتري ثوباً ويشترط خياطه، واحتج أحمد في جواز الشرط، بأن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي حزمة حطب، وشارطه على حملها، قال أحمد: إنما النهي عن شرطين في بيع. فإن تعذر العمل بتلف المبيع أو موت البائع، رجع بعوض ذلك. وإن تعذر بمرض، أقيم مقامه من يعمل والأجرة عليه. وإن أراد المشتري أخذ العوض وتراضيا، احتمل الجواز، ويحتمل أن لا يجوز. وإذا اشترى زرعاً وجزة من الرطبة أو ثمرة، فالحصاد والجز والجذاذ على المشتري، بخلاف الكيل والوزن والعدد، فإنه على البائع، لأنها مؤنة تسليم المبيع، وهنا حصل التسليم بالتخلية، بدليل جواز   1 البخاري: الوكالة (2309) . 2 النسائي: الأيمان والنذور (3880) . 3 زيادة من المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 بيعها والتصرف فيها، وهذا مذهب الشافعي، ولا نعلم فيه خلافاً. فإن شرطه على البائع، فقال ابن أبي موسى: لا يجوز، وقيل: يجوز. وإن جمع بين شرطين لم يصح، قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إن هؤلاء يكرهون الشرط، فنفض يده وقال: الشرط الواحد لا بأس به، إنما "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين في البيع". 1 واختلف في تفسير الشرطين المنهي عنهما: فروي عن أحمد: أنهما شرطان صحيحان ليسا من مصلحة العقد. وروى الأثرم عن أحمد تفسير الشرطين: أن يشتريها على أن لا يبيعها من أحد، ولا يطأها، ففسره بشرطين فاسدين. وروى عنه إسماعيل بن سعيد في الشرطين: أن يقول: إذا بعتها فأنا أحق بها بالثمن، وأن تخدمني سنة، فظاهره أن النهي عنهما ما كان من هذا النحو. الثاني: (فاسد) ، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: أن يشترط على صاحبه عقداً آخر، فهذا يبطل البيع، لحديث: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع"، 2 قال الترمذي: حديث صحيح، ولأنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيعتين في بيعة"، 3 وهذا منه، قاله أحمد، وكذلك ما في معناه، كقوله: على أن تزوجني ابنتك، أو على أن أزوجك ابنتي، قال ابن مسعود: "صفقتان في صفقة ربا"، وهذا قول الجمهور، وجوزه مالك، وجعل العوض المذكور في الشرط فاسداً، وقال: لا ألتفت إلى اللفظ الفاسد إذا كان معلوماً حلالاً، فكأنه باع السلعة بالدراهم التي ذكر أنه يأخذها بالدنانير. ولنا: الخبر، وقوله: لا ألتفت إلى اللفظ، لا يصح، لأن البيع هو اللفظ، فإذا كان فاسداً فكيف يكون صحيحاً. ويحتمل أن يصح البيع ويبطل الشرط.   1 الترمذي: البيوع (1234) , والنسائي: البيوع (4629) , وأبو داود: البيوع (3504) , وأحمد (2/178) , والدارمي: البيوع (2560) . 2 الترمذي: البيوع (1234) , والنسائي: البيوع (4611, وأبو داود: البيوع (3504) , وأحمد (2/205) , والدارمي: البيوع (2560) . 3 الترمذي: البيوع (1231) , والنسائي: البيوع (4632) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 الثاني: شرط ما ينافي مقتضى البيع، نحو لا خسارة عليه، وأن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق، أو إن أعتق فالولاء له، أو يشترط أن يفعل ذلك، فهذا باطل، لحديث بريرة. وهل يبطل البيع؟ على روايتين. قال القاضي: المنصوص عن أحمد: أن البيع صحيح؛ وإذا حكمنا بالصحة، فللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن، وللمشتري الرجوع بزيادة الثمن إذا كان هو المشترط، ويحتمل أن يثبت له الخيار ولا يرجع بشيء، "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم لأرباب بريرة بشيء إلا إذا اشترطوا العتق"، ففي صحته روايتان: إحداهما: يصح، وهو مذهب مالك، لأن أهل بريرة اشترطوا عتقها وولاءها، فـ"أنكر صلى الله عليه وسلم اشتراط الولاء دون العتق"، والثانية: فاسد، وهو مذهب أبي حنيفة، وليس في الحديث أنها شرطت لهم العتق، إنما أخبرتهم أنها تريد ذلك من غير شرط، فاشترطوا ولاءها. فإن حكمنا بصحته فلم يعتق، ففيه وجهان: أحدهما: يجبر. والثاني: لا يجبر، كما لو شرط الرهن والضمان، فللبائع خيار الفسخ، لأنه لم يسلم ما شرطه، أشبه ما لو شرط رهناً فلم يف به. وعنه: فيمن باع جارية وشرط على المشتري أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، أن البيع جائز، لما روي عن ابن مسعود قال: "ابتعت من امرأتي زينب جارية، وشرطت لها: إن بعتها فهي لها بالثمن الذي ابتعتها به. فذكر ذلك لعمر فقال: لا تقربها ولأحد فيها شرط". فقد اتفق عمر وابن مسعود على صحته، وروى عنه المروذي أنه قال: هو في معنى: لا شرطان في بيع، قال شيخنا: يحتمل أن يحمل كلامه على فساد الشرط، والأولى على جواز البيع؛ ومتى حكمنا بفساد العقد، لم يثبت به ملك، سواء اتصل به القبض أو لا، ولا ينفذ تصرف المشتري فيه. وقال أبو حنيفة: يثبت الملك فيه إذا اتصل به القبض، وللبائع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 الرجوع فيه، فيأخذه مع زيادته المتصلة، إلا أن يتصرف فيه المشتري تصرفاً يمنع الرجوع، فيأخذ قيمته، لحديث بريرة. الثالث: أن يشترط شرطاً يعلق البيع، كقوله: بعتك إن جئتني بكذا، أو رضي فلان، فلا يصح، وكذلك إذا قال: إن جئتك بحقك في محله، وإلا فالرهن لك، فلا يصح، إلا بيع العربون، فقال أحمد: يصح، لأن عمر فعله، وممن روي عنه القول بفساد الشرط: ابن عمر وشريح ومالك، ولا نعلم أحداً خالفهم، لحديث: "لا يغلق الرهن". 1 وضعف أحمد حديث العربون في النهي عنه. وإن قال: بعتك على أن تنقد لي الثمن إلى ثلاث، أو مدة معلومة، وإلا فلا بيع بيننا، صح، وقال به أبو ثور: إذا كان إلى ثلاث، وقال الشافعي وزفر: البيع فاسد. وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب، لم يبرأ، وعنه: "يبرأ إلا أن يكون البائع علم العيب فكتمه"، روي ذلك عن عثمان، ونحوه عن زيد بن ثابت؛ وهو قول مالك، وقول الشافعي في الحيوان خاصة؛ ويتخرج أن يبرأ من العيوب كلها بالبراءة بناء على جواز البراءة من المجهول، لما روت أم سلمة: "أن رجلين اختصما في مواريث درست، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استهما وتوخّيا، وليحلّل كل واحد منكما صاحبه "، وهذا يدل على أن البراءة من المجهول جائزة. وإذا قلنا بفساد هذا الشرط، لم يفسد به البيع، لقصة ابن عمر فإنهم أجمعوا على صحتها. وإن باعه داراً أو ثوباً على أنه عشرة أذرع، فبان أحد عشر، فالبيع باطل، لأنه لا يمكن إجبار البائع على تسليم الزيادة، ولا المشتري على أخذ البعض. وعنه: أنه يصح، والزيادة للبائع. وإن اشترى صبرة على أنها عشرة أقفزة، فبانت أحد عشر، رد الزيادة، ولا خيار له ههنا، لأنه لا ضرر في أخذ الزيادة.   1 البخاري: مواقيت الصلاة (525) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قوله: وإن جمع بين شرطين لم يصح، وعنه: يصح، اختاره الشيخ، ومحل الخلاف إذا لم يكونا من مصلحة العقد، فإن كانا منه صح على الصحيح من المذهب، وعنه: لا يصح، اختاره في المجرد. قوله: شرط ما ينافي مقتضى العقد، نحو أن لا خسارة عليه، أو إن أعتق فالولاء له، فهذا باطل، ولا يبطل العقد على الصحيح من المذهب، وللذي فات غرضه الفسخ، أو أرش ما نقص من الثمن، بل إلغاؤه مطلقاً، وقيل: بل يختص ذلك بالجاهل بفساد الشرط، جزم به في الفائق. وقيل: لا أرش له، بل يثبت له الخيار بين الفسخ والإمضاء، قال الشيخ: هذا ظاهر المذهب. قال الشيخ: نقل علي بن سعيد فيمن باع شيئاً وشرط عليه أنه إن باعه فهو أحق به بالثمن، جواز البيع والشرط. وسأله أبو طالب: عمن اشترى أمة بشرط أن يشتريها للخدمة؟ قال: لا بأس به. وروي عنه أي: أحمد، نحو عشرين نصاً على صحة هذا الشرط. قال: وهذا من أحمد يقتضي أنه إذا شرط على البائع فعلاً أو تركاً في البيع مما هو مقصود البائع أو للمبيع نفسه، صح البيع والشرط، كاشتراط العتق. واختار الشيخ صحة العقد والشرط في كل عقد وكل شرط لم يخالف الشرع، لأن إطلاق الاسم يتناول المنجّز والمعلق والصريح والكناية، كالنذور، كما يتناوله بالعربية والعجمية. ولو علق عتق عبده على بيعه، فباعه، عتق وانفسخ البيع، نص عليه. وقال الشيخ: إن قصد اليمين دون التبرر، أجزأه كفارة يمين، لأنه إذا باعه خرج عن ملكه، فبقي كنذره أن يعتق عبد غيره. وإن قصد التقرب صار عتقاً مستحقاً كالنذر، فلا يصح بيعه ويكون العتق معلقاً على صورة البيع. قوله الثالث: اشترط شرطاً يعلق البيع، كقوله: بعتك إن جئتني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 بكذا، قال في الفائق: نقل عن أحمد تعليقه فعلاً منه، قال الشيخ: هو الصحيح، وهو المختار. انتهى. قوله: أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك وإلا فالرهن لك، فلا يصح، وهو معنى قوله: "لا يغلق الرهن". 1 وقال الشيخ: لا يبطل الثاني أي: الشرط، وإن لم يأته صار له، وفعله الإمام أحمد، قاله في الفائق. وقال: قلت: فعليه غلق الرهن، استحقاق المرتهن له بوضع العقد لا بالشرط، كما لو باعه منه. قوله: وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب، لم يبرأ، وعنه: يبرأ، إلا أن يكون البائع علم العيب فكتمه، اختاره الشيخ.   1 البخاري: مواقيت الصلاة (525) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 باب الخيار وهو سبعة أقسام: (أحدها: خيار المجلس) ، والمرجع في التفرق إلى عرف الناس. ولو ألحقا في العقد خياراً بعد لزومه، لم يلحقه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يلحقه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار حتى يفترقا، إلا أن يكون صفقة خيار. ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله". 1 رواه الترمذي وحسنه، وقوله: "إلا أن يكون صفقة خيار" 2 يحتمل أنه البيع المشروط فيه الخيار، فإنه لا يلزم بتفرقهما. ويحتمل أنه الذي شرط أن لا يكون فيه خيار، فيلزم بمجرد العقد. وظاهر الحديث: تحريم مفارقة أحدهما صاحبه خشية الفسخ. قال أحمد لما ذكر له الحديث وفعل ابن عمر قال: هذا الآن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن أحمد أن الخيار لا يبطل بالتخاير ولا بالإسقاط، لأن أكثر الروايات: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" 3 من غير تقييد. وعنه: أنه يبطل بالتخاير، وهو الصحيح، لقوله: "فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع"، 4 وفي لفظ: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، إلا أن يكون البيع كان عن خيار؛ فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع". 5 متفق عليه. والتخاير من ابتداء العقد وبعده في المجلس واحد. وقال أصحاب الشافعي في التخاير في ابتداء العقد قولان: أحدهما: لا يقع لأنه إسقاط للحق قبل سببه. ولنا: ما ذكرنا من حديث   1 الترمذي: البيوع (1247) , والنسائي: البيوع (4483) , وأبو داود: البيوع (3456) . 2 الترمذي: البيوع (1247) , والنسائي: البيوع (4483) , وأبو داود: البيوع (3456) . 3 البخاري: البيوع (2110) , ومسلم: البيوع (1532) , والترمذي: البيوع (1246) , والنسائي: البيوع (4457, 4464) , وأبو داود: البيوع (3459) , وأحمد (3/402, 3/403, 3/434) , والدارمي: البيوع (2547) . 4 مسلم: البيوع (1531) . 5 البخاري: البيوع (2107) , والنسائي: البيوع (4467) , وأحمد (2/9) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 ابن عمر، فإن قال أحدهما لصاحبه: اختر، فالساكت على خياره، وأما القائل فيحتمل أن يبطل خياره، لقوله: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر ". 1 رواه البخاري، ولأنه جعل لصاحبه ما ملكه؛ ويحتمل أن لا يبطل. ويحتمل الحديث على أنه خيره فاختار، كما لو جعل لزوجته الخيار، فلم تختر شيئاً. والأول أولى، لظاهر الحديث، ويفارق الزوجة لأنه ملكها ما لم تملك، فإذا لم تقبل سقط. وهنا كل واحد منهما يملك الخيار، فلم يكن قوله تمليكاً، إنما هو إسقاط فسقط. (الثاني: خيار الشرط) وإن طال، وأجازه مالك فيما زاد على الثلاث بقدر الحاجة، مثل قرية لا يصل إليها في أقل من أربعة أيام، وقال الشافعي: لا يجوز أكثر من ثلاث، لما روي عن عمر أنه قال: "لا أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبان، جعل له الخيار ثلاثة أيام". ولنا: أنه حق يعتمد الشرط، فرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل، ولم يثبت ما روي عن عمر؛ وقد "روي عن أنس خلافه". وتقدير مالك بالحاجة لا يصح، فإنه لا يمكن ضبط الحكم بها لخفائها واختلافها. وقولهم: إن الخيار ينافي مقتضى البيع، لا يصح، لأن مقتضاه نقل الملك، والخيار لا ينافيه وإن سلمنا ذلك، لكن متى خولف الأصل لمعنى في محل، وجب تعدية الحكم لتعدي ذلك المعنى. ولا يجوز مجهولاً كنزول المطر، وعنه: يجوز، وهما على خيارهما، إلا أن يقطعاه، أو تنتهي مدته إن كان مشروطاً إلى مدة. وقال مالك: يصح، ويضرب لهما مدة يختبر المبيع بمثلها في العادة، لأن ذلك مقدر في العادة؛ فإذا أطلقا حمل عليه. وإذا قلنا: يفسد الشرط، فهل يفسد البيع؟ على روايتين: إحداهما: يفسد كنكاح الشغار. والثانية: لا يفسد العقد، لحديث بريرة.   1 البخاري: البيوع (2109) , ومسلم: البيوع (1531) , والترمذي: البيوع (1245) , والنسائي: البيوع (4465, 4466, 4467, 4468, 4469, 4470, 4471, 4473, 4474, 4480) , وأبو داود: البيوع (3454) , وأحمد (1/56, 2/4, 2/9, 2/73) , ومالك: البيوع (1374) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وإن شرطه إلى الحصاد والجذاذ، احتمل أن يصح، لأنه لا يكثر تفاوته ولا يثبت إلا في البيع، والصلح بمعناه. والإجارة في الذمة أو على مدة لا تلي العقد، فأما الإجارة المعينة التي تلي العقد فلا، لأن دخوله يقتضي فوات بعض المنافع المعقود عليها، واستيفاءها في مدة الخيار، وكلاهما لا يجوز. وذكر القاضي مرة مثل هذا، ومرة قال: يثبت فيها خيار الشرط، قياساً على البيع. وإن شرطاه إلى الغد، لم يدخل في المدة، وعنه: يدخل. وإن شرطاه مدة، فابتداؤها من حين العقد؛ ويحتمل أن يكون من حين التفرق. وإن شرط الخيار لغيره جاز، وكان توكيلاً له فيه. وإن قال: بعتك على أن استأمر فلاناً، وحدَّ ذلك بوقت معلوم، فهو خيار صحيح، وله الفسخ قبل أن يستأمره، لأنّا جعلناه كناية عن الخيار. وإن لم يضبطه بمدة، فهو مجهول، فيه من الخلاف ما ذكرنا. وإن شرطاه لأحدهما دون صاحبه، صح، ولمن له الخيار الفسخ بغير حضور صاحبه، ولا رضاه. وقال أبو حنيفة: ليس له الفسخ إلا بحضور صاحبه، كالوديعة. وما ذكره ينتقض بالطلاق، والوديعة لا حق للمودع فيها، ويصح فسخها مع غيبته. فإن قال أحدهما عند العقد: لا خلابة، فقال أحمد: ذلك جائز، وله الخيار إن خلبه، لحديث: "إذا بايعت، فقل: لا خلابة! "، 1 ويحتمل أن يكون الخبر خاصاً بحبان، لأنه روي "أنه عاش إلى زمن عثمان، فكان يبايع الناس ثم يخاصمهم، فيمر به بعض الصحابة فيقول لمن يخاصمه: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار ثلاثاً"، وهذا يدل على اختصاصه به. وقال بعض الشافعية: إن كانا عالمين أن ذلك عبارة عن خيار لثلاث، ثبت، لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال". 2 ولنا: أن هذا اللفظ لا يقتضي الخيار مطلقاً، ولا تقييده بثلاث.   1 البخاري: البيوع (2117) , ومسلم: البيوع (1533) , والنسائي: البيوع (4484) , وأبو داود: البيوع (3500) , وأحمد (2/44, 2/61, 2/72, 2/80, 2/84, 2/107, 2/116, 2/129) , ومالك: البيوع (1393) . 2 ابن ماجة: الأحكام (2355) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 والخبر الذي احتجوا به إنما رواه ابن ماجة مرسلاً، ثم لم يقولوا به على وجه، إنما قالوا به في حق من يعلم أن مقتضاه ثبوت الخيار ثلاثاً، ولا يعلم ذلك أحد، لأن اللفظ لا يقتضيه. وإذا شرط الخيار حيلة على الانتفاع بالقرض، ليأخذ غلة المبيع، فلا خيار فيه. قيل لأبي عبد الله: فإن أراد رفقاً به، كأن يقرضه ما لا يخاف أن يذهب، فاشترى منه شيئاً وجعل له الخيار، ولم يُرد الحيلة؟ فقال: هذا جائز، إلا أنه إذا مات انقطع الخيار، ولم يكن لورثته؛ وقوله محمول على المبيع الذي لا ينتفع به إلا بإتلافه، أو على أن المشتري لا ينتفع به في مدة الخيار، لئلا يفضي إلى أن القرض جر منفعة. وينتقل الملك إلى المشتري بنفس العقد، وعنه: لا ينتقل حتى ينقضي الخيار، وبه قال أبو حنيفة، إذا كان الخيار لهما أو للبائع، وإن كان للمشتري خرج عن ملك البائع ولم يدخل في ملك المشتري، لأنه عقد قاصر فلم ينقل الملك كالهبة قبل القبض. وللشافعي قول ثالث: أن الملك موقوف، فإن أمضاه تبينا أن الملك للمشتري، وإلا تبينا أنه لم ينتقل عن البائع. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبداً وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع". 1 متفق عليه، فجعله للمبتاع بمجرد اشتراطه، وهو عام في كل بيع. وثبوت الخيار لا ينافي كما لو باع عرضاً بعوض، فوجد كل واحد منهما بما اشتراه عيباً. وقولهم: إنه قاصر، غير صحيح، وجواز فسخه لا يوجب قصوره، ولا يمنع نقل الملك كبيع المعيب، وامتناع التصرف إنما كان لأجل حق الغير، فلا يمنع ثبوت الملك كالمرهون، فما حصل من كسب أو نماء منفصل فهو له، أمضيا العقد أو فسخاه. قال أحمد فيمن اشترى عبداً ووهب له مال قبل التفرق، ثم اختار البائع العبد: فالمال للمشتري. وقال الشافعي: إن أمضيا   1 البخاري: المساقاة (2379) , والترمذي: البيوع (1244) , والنسائي: البيوع (4636) , وأبو داود: البيوع (3433) , وابن ماجة: التجارات (2211) , وأحمد (2/9, 2/82) , والدارمي: البيوع (2561) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 العقد، وقلنا: الملك للمشتري أو موقوف، فالنماء له. وإن فسخاه، وقلنا: الملك للبائع أو موقوف، فالنماء له، وإلا فهو للمشتري. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان". 1 قال الترمذي: حديث صحيح. وهذا من ضمان المشتري، فيجب أن يكون خراجه له. وضمان المبيع على المشتري إذا قبضه، ولم يكن مكيلاً ولا موزوناً. وإن اشترى حاملاً فولدت في مدة الخيار، ثم ردها، رد ولدها. وليس لواحد منهما التصرف في مدة الخيار، إلا بما يحصل به تجربة المبيع، فإن تصرف فيه ببيع أو هبة أو نحوهما، لم ينفذ تصرفهما، إلا أن يكون الخيار للمشتري وحده، فينفذ تصرفه ويبطل خياره كالمعيب. وقال أحمد في رواية أبي طالب: إذا اشترى ثوباً بشرط، فباعه بربح قبل انقضاء الشرط، يرده إلى صاحبه إن طلبه، فإن لم يقدر على رده، فللبائع قيمة الثوب، لأنه استهلك ثوبه، أو يصالحه. فقوله: يرده إن طلبه، يدل على أن وجوب رده مشروط بطلبه. وفي البخاري عن ابن عمر: "أنه كان على بكر صعب لعمر، فقال صلى الله عليه وسلم لعمر: بِعْنيه. فقال عمر: هو لك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو لك يا عبد الله"، 2 فهذا يدل على التصرف قبل التفرق، والأول أصح. والحديث ليس فيه تصريح بالبيع، فقوله: "هو لك" يحتمل أنه أراد هبة، فإنه لم يذكر ثمناً. فإن تصرف المشتري بإذن البائع، أو البائع بوكالة المشتري، صح وانقطع خيارهما، لأنه يدل على تراضيهما بإمضاء البيع، كما لو تخايرا في أحد الوجهين، وفي الآخر: البيع والخيار بحالهما. وإن تصرف المشتري في مدة الخيار مما يختص الملك، كإعتاق العبد ووطء الجارية، فهو تراض يبطل خياره؛ ولذلك يبطل خيار المعتقة بتمكينها من   1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجة: التجارات (2243) . 2 البخاري: البيوع (2116) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 نفسها، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن وطئك فلا خيار لك". قال أحمد: إذا شرط الخيار فباعه قبل ذلك بربح، فالربح للمبتاع، لأنه وجب عليه حين عرضه. وإن استخدم المبيع، ففيه روايتان، ومتى بطل خيار المشتري بتصرفه، فخيار البائع باق بحاله. وإن أعتقه المشتري نفذ عتقه، وبطل خيارهما. وكذا إذا تلف المبيع. وعنه: لا يبطل خيار البائع، وله الفسخ والرجوع بالقيمة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا عتق فيما لا يملك ابن آدم" 1 يدل بمفهومه على أنه ينفذ في الملك، وملك البائع الفسخ، لا يمنع نفوذ العتق، كما لو وهب رجل ابنه عبداً فأعتقه، نفذ عتقه مع ملك الأب استرجاعه، ولا ينفذ عتق البائع. وقال الشافعي ومالك: ينفذ، لأنه ملكه، وإن كان الملك انتقل، فإنه يسترجعه بالعتق. وإذا قال لعبده: إذا بعتك فأنت حر، ثم باعه، صار حراً، نص عليه أحمد، سواء شرط الخيار أو لا. وقال أبو حنيفة: لا ينفذ، لأنه إذا تم بيعه زال ملكه عنه. ولنا: أن زمن انتقال الملك زمن الحرية، لأن البيع سبب لنقل الملك وشرط للحرية، فيجب تغليب الحرية، كقوله: إذا مت فأنت حر. وإذا أعتق المشتري العبد، بطل خياره وخيار البائع، كما لو تلف. وفيه رواية أخرى: أنه لا يبطل خيار البائع، فله الفسخ والرجوع بالقيمة يوم العتق. وإن تلف المبيع في مدة الخيار، فإن كان قبل القبض وكان مكيلاً أو موزوناً انفسخ البيع، وكان من مال البائع، لا نعلم فيه خلافاً، إلا أن يتلفه المشتري، فيضمنه ويبطل خياره. وفي خيار البائع روايتان. فإن كان غير المكيل والموزون ولم يمنعه البائع من قبضه، فظاهر المذهب: أنه من ضمان المشتري كتلفه بعد القبض، وإن تلف بعد القبض، فهو من ضمان المشتري ويبطل خياره. وفي خيار البائع روايتان: إحداهما: يبطل. والثانية:   1 النسائي: الأيمان والنذور (3812) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 لا، ويطالب بقيمته أو مثله إن كان مثلياً، كما لو اشترى ثوباً بثوب فتلف أحدهما، ووجد بالآخر عيباً، فإنه يرده ويرجع بقيمته. وحكم الوقف حكم البيع، في أحد الوجهين. وفيه وجه آخر: أنه كالعتق. وليس للمشتري وطء الجارية في مدة الخيار، إذا كان لهما أو للبائع وحده، لا نعلم فيه خلافاً. فإن وطئها، فلا حد عليه، ولا مهر لها؛ فإن علقت منه فالولد حر، يلحقه نسبه وتصير أم ولد له. فإن فسخ البائع رجع بقيمتها. وإن قلنا: إن الملك لا ينتقل، فعليه المهر وقيمة الولد، وإن علم التحريم وأنّ ملكه غير ثابت، فولده رقيق. ولا بأس بنقد الثمن وقبض المبيع في مدة الخيار، وهو قول الشافعي، وكرهه مالك، قال: لأنه في معنى بيع وسلف، إذا قبض الثمن ثم تفاسخا صار كأنه أقرضه؛ وما ذكره لا يصح، لأننا لا نجيز له التصرف فيه. ومن مات منهما بطل خياره، إلا أن يكون قد طالب بالفسخ قبل موته، فيكون لورثته؛ ويتخرج ألا يبطل وينتقل إلى ورثته، وهذا قول مالك والشافعي. ولنا: أنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه، فلم يورث كخيار الرجوع في الهبة. (والثالث: خيار الغبن) ، ويثبت في ثلاث صور: (إحداها) : إذا تلقى الركبان فباعهم أو اشترى منهم، فلهم الخيار إذا هبطوا السوق وعلموا أنهم قد غُبنوا غبناً يخرج عن العادة. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وروي عن أبي حنيفة: أنه لا يرى بذلك بأساً، وسنة رسول الله أحق أن تتبع. إذا تقرر هذا، فللبائع الخيار إذا غُبن، وقال أصحاب الرأي: لا خيار له. ولا قول لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وظاهر المذهب: أنه لا خيار إلا مع الغبن. ويحتمل إطلاق الحديث، لجعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الخيار له إذا هبط السوق، ولولا ذلك لكان الخيار له من حين البيع. وظاهر كلام الخرقي: أن الخيار يثبت بمجرد الغبن، وإن قل، والأولى أن يقيد بما يخرج عن العادة. وقال أصحاب مالك: إنما نهى عن تلقي الركبان، لما يفوت به من الرفق بأهل السوق، لئلا ينقطع عنهم ما له جلسوا من ابتغاء فضل الله. قال ابن القاسم: فإن تلقاها متلقٍ فاشتراها، عرضت على أهل السوق فيشتركون فيها. وقال الليث: تباع في السوق؛ وهذا مخالف لمدلول الحديث، فـ"إنه صلى الله عليه وسلم جعل الخيار للبائع إذا هبط السوق"، ولم يجعلوا له خياراً، وجعْله الخيار له يدل على أن النهي عن التلقي لحقه. فإن تلقاهم فباعهم شيئاً فهو كمن اشترى منهم. وهذا أحد الوجهين للشافعية. وقالوا في الآخر: النهي عن الشراء دون البيع فلا يدخل. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تلقوا الركبان"، 1 والبائع داخل فيه. فإن خرج لغير قصد التلقي، فقال القاضي: لا يجوز الابتياع منهم ولا الشراء، ويحتمل أن لا يحرم ذلك، وهو قول الليث، لأنه لم يتناوله النهي. (الثانية) : النجش وهو: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، ليغر المشتري. فإن اشترى معه، فالشراء صحيح في قول أكثر العلماء، وعنه: أنه باطل، وهو قول مالك للنهي. ولنا: أن النهي عاد إلى الناجش، لا إلى العاقد، ولأن النهي لحق آدمي كبيع المدلس، وفارق ما كان لحق الله تعالى؛ فإن حق الآدمي يمكن جبره بالخيار وزيادة في الثمن. لكن إن كان فيه غبن لم تجر العادة بمثله، فله الخيار. وقال أصحاب الشافعي: إن لم يكن ذلك يعلم من البائع، فلا خيار. واختلفوا فيما إذا كان بمواطأة منه، فقال بعضهم: لا خيار. ولنا: أنه تغرير بالعاقد، فإذا غبن ثبت له الخيار، كما في تلقي الركبان.   1 البخاري: البيوع (2150) , ومسلم: البيوع (1515) , والنسائي: البيوع (4487, 4496) , وأبو داود: البيوع (3443) , وأحمد (2/465) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ولو قال: أُعطيت بهذه السلعة ما لم يُعط، فصدقه ثم كان كاذباً، فله الخيار، لأنه في معنى النجش. (الثالثة) : المسترسل إذا غبن الغبن المذكور، ثبت له الخيار، وبه قال مالك. وقيل: لا فسخ له، وهو مذهب الشافعي. ولنا: أنه غبن حصل لجهله، فأثبت له الخيار، كالغبن في تلقي الركبان. وإذا وقع البيع على غير معيّن، كقفيز من صبرة، فظاهر قول الخرقي أنه يلزم بالتفرق. وقال القاضي في موضع ما يدل على أنه لا يلزم إلا بالقبض، لأنه لا يملك بيعه ولا التصرف فيه، ولأنه لو تلف فهو من ضمان البائع. ووجه اللزوم: قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن تفرّقا بعد أن تبايعا، ولم يترك أحدهما البيع، فقد وجب البيع". 1 وما ذكرناه للقول الآخر ينتقض بالموصوف والسلم، فإنه لازم مع ما ذكرناه. (الرابع: خيار التدليس) بما يزيد به الثمن، كتصرية اللبن في الضرع، وتحمير وجه الجارية، وتسويد شعرها، وذلك حرام، لقوله: "مَن غشنا فليس منا"، 2 وقوله: " لا تصرّوا الإبل". 3 فمن اشترى مصرّاة فله الخيار، في قول عامة أهل العلم. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا خيار له، لأنه ليس بعيب، كما لو علفها فانتفخ بطنها فظن المشتري أنها حامل؛ وهذا قياس يخالف النص، واتباع قول النبي صلى الله عليه وسلم أولى، ولأنه تدليس يختلف به الثمن، فوجب به الرد، كالشمطاء إذا سوّد شعرها؛ وبه يبطل قياسهم، فإن بياضه ليس بعيب كالكبر، وانتفاخ البطن قد يكون لغير الحمل. وإن علم بالتصرية، فلا خيار. وقال أصحاب الشافعي: يثبت له في وجه، للخبر، فإن حصل هذا من غير تدليس، مثل إن اجتمع اللبن من غير قصد، أو احمر وجهها لخجل أو تعب، فقال القاضي: له الرد أيضاً لدفع الضرر، أشبه العيب، ويحتمل أن'   1 البخاري: البيوع (2112) . 2 مسلم: الإيمان (101) , وابن ماجة: الحدود (2575) , وأحمد (2/329, 2/417) . 3 البخاري: البيوع (2148) , والنسائي: البيوع (4487) , وأحمد (2/465) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 لا يثبت الخيار لحمرة الوجه بخجل أو تعب. وإن أراد إمساك المدلس مع الأرش، لم يكن له ذلك، "لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل له في المصراة أرشاً، بل خيّره بين الإمساك والرد مع صاع تمر". وإن تصرف في المبيع بعد علمه بالتدليس، بطل رده كالمعيب. ويرد مع المصراة عوض اللبن صاعاً من تمر، فإن لم يجده فقيمته في موضعه، سواء كان ناقة أو بقرة أو شاة. وذهب مالك إلى أن الواجب صاع من قوت البلد، لأن في بعض الألفاظ: "رد معها صاعاً من طعام"، وفي بعضها: "رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً"، فجمع بين الأحاديث وجعل نصه على التمر، لأنه غالب قوت المدينة، وعلى القمح لأنه غالب قوت بلد آخر. وقال أبو يوسف: يرد قيمة اللبن لأنه ضمان متلف. ولنا: الحديث الصحيح، ولمسلم: "ردها وردّ صاعا من تمر، لا سمرا" 1 يعني: لا يرد قمحاً؛ والمراد بالطعام في الحديث التمر، لأنه مقيد في الآخر في قضية واحدة، والمطلق في مثل هذا يحمل على المقيد. وحديث ابن عمر يعني: الذي فيه ذكر القمح في رواية جميع بن عمير، قال ابن حبان: كان يضع الحديث. وقياس أبي يوسف مخالف للنص فلا يقبل. ولا يبعد أن يقدر الشارع بدل هذا المتلف قطعاً للتنازع، كما قدّر دية الآدمي ودية أطرافه. ولا فرق بين الناقة والبقرة والشاة. وأبو داود لا يثبت بتصرية البقر، لأن الحديث: "لا تصرّوا الإبل والغنم"، 2 والقياس لا تثبت به الأحكام. ولنا: عموم قوله: "من اشترى مصرّاة"، 3 "ومن ابتاع محفلة"، 4 والخبر فيه تنبيه على تصرية البقر، لأن لبنها أكثر وأنفع، فثبت بالتنبيه، وهو حجة عند الجميع. وإذا اشترى مصراتين أو أكثر في عقد واحد، رد مع كل واحدة صاعاً، وقال بعض المالكية: في الجميع صاع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:   1 البخاري: البيوع (2148) , ومسلم: البيوع (1524) , والترمذي: البيوع (1252) , والنسائي: البيوع (4489) , وابن ماجة: التجارات (2239) , وأحمد (2/430, 2/507) , والدارمي: البيوع (2553) . 2 البخاري: البيوع (2148) , والنسائي: البيوع (4487) , وأحمد (2/465) . 3 البخاري: البيوع (2151) , ومسلم: البيوع (1524) , والترمذي: البيوع (1251) , والنسائي: البيوع (4488, 4489) , وأبو داود: البيوع (3444, 3445) , وابن ماجة: التجارات (2239) , وأحمد (2/259, 2/273, 2/317, 2/430, 2/463, 2/469, 2/507) , والدارمي: البيوع (2553) 4 النسائي: البيوع (4489) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 "من اشترى غنماً مصرّاة فاحتلبها، فإن شاء أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع". 1 ولنا: قوله: "من اشترى مصرّاة". 2 وأما الحديث فالضمير فيه يعود إلى الواحدة؛ فإن كان اللبن بحاله لم يتغير رده وأجزأه، ويحتمل أن لا يجزئه إلا التمر، لظاهر الخبر، ولأن الضرع أحفظ له. ولو اشترى شاة غير مصراة فاحتلبها، ثم وجد بها عيباً، فله الرد. فإن لم يكن في ضرعها شيء في حال العقد، فلا شيء عليه، لأن اللبن الحادث في ملكه. وإن كان يسيراً لا يخلو الضرع من مثله، فلا شيء عليه. وإن كان كثيراً وكان قائما بحاله، ابتنى رده على رد لبن المصراة للنص. فإن قلنا يردّه، رد مثل اللبن، لأنه من المثليات، والأصل ضمانها بمثلها، لأنه خولف في المصراة. وإذا علم بالتصرية قبل الحلب، فله ردها ولا شيء معها، لأن التمر بدل اللبن. قال ابن عبد البر: وهذا مما لا خلاف فيه. ومتى علم التصرية فله الرد، وقال القاضي: ليس له ردها إلا بعد ثلاث، ليس له الرد قبل مضيها ولا إمساكها بعدها، لقوله: "فهو بالخيار ثلاثة أيام". 3 رواه مسلم؛ قالوا: قدّرها الشارع لمعرفة التصرية، فإنها لا تعرف قبل مضيها. وقال أبو الخطاب: متى ثبتت التصرية جاز له الرد قبل الثلاث وبعدها، لأنه تدليس. فعلى هذا، فائدة التقدير بالثلاث، لأن الظاهر لا يحصل العلم إلا بها، فإن حصل بها أو لم يحصل، فالاعتبار به دونها. وظاهر قول ابن أبي موسى أنه متى علم بالتصرية ثبت له الخيار في الأيام الثلاثة إلى تمامها، وهو قول ابن المنذر، وحكي عن الشافعي، لظاهر الحديث؛ فإنه يقتضي ثبوت الخيار في الأيام الثلاثة. وقال القاضي: لا يثبت في شيء منها، وقول أبي الخطاب يسوي بينها وبين غيرها، والعمل بالخبر أولى. ولا يحل للبائع تدليس سلعته ولا كتمان عيبها، فإن فعل فالبيع صحيح في قول الأكثر، منهم   1 البخاري: البيوع (2151) , وأبو داود: البيوع (3445) . 2 البخاري: البيوع (2151) , ومسلم: البيوع (1524) , والترمذي: البيوع (1251) , والنسائي: البيوع (4488, 4489) , وأبو داود: البيوع (3444, 3445) , وابن ماجة: التجارات (2239) , وأحمد (2/259, 2/273, 2/317, 2/430, 2/463, 2/469, 2/507) , والدارمي: البيوع (2553) . 3 مسلم: البيوع (1524) , والترمذي: البيوع (1251, 1252) , والنسائي: البيوع (4489) , وأبو داود: البيوع (3444) , وابن ماجة: التجارات (2239) , وأحمد (2/248, 2/417, 2/507) , والدارمي: البيوع (2553) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 مالك وأبو حنيفة والشافعي، بدليل حديث التصرية. وقال أبو بكر: إن دلس فالبيع باطل، لأن النهي يقتضي الفساد، قيل له: ما تقول في التصرية؟ فلم يذكر جواباً. (الخامس: خيار العيب) . والعيوب: النقائص الموجبة لنقص المالية في عادات التجار، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم في الجارية تشترى ولها زوج، أنه عيب. والثيوبة ليست بعيب، لأنها الغالب على الجواري، فالإطلاق لا يقتضي خلافها. والعسر ليس بعيب، وكان شريح يرد به. فمن اشترى معيباً لا يعلم عيبه فله الخيار بين الرد، والإمساك مع الأرش. ومن اشترى ما يعلم عيبه أو مدلساً أو مصراة وهو عالم، فلا خيار له، لا نعلم فيه خلافاً. فإن اختار إمساك المعيب وأخذ الأرش فله ذلك. وقال الشافعي: ليس إلا الإمساك، أو الرد، إلا أن يتعذر رد المبيع، روي ذلك عن أحمد، "لأنه صلى الله عليه وسلم جعل في المصراة الخيار من غير أرش"، ولنا: أنه ظهر على عيب لم يعلم به، فكان له الأرش، كما لو تعيب عنده. وما كسب فهو للمشتري، وكذلك نماؤه المنفصل، وعنه: لا يرده إلا مع نمائه. والزيادة المنفصلة نوعان: أحدهما: أن يكون من غير المبيع كالكسب والأجرة. وما يوهب له فهو للمشتري، في مقابلة ضمانه، لا نعلم فيه خلافاً. الثاني: أن يكون منه كالولد والثمرة، فهو للمشتري أيضاً، وبه قال الشافعي، لأن الولد إن كان لآدمية لم يملك ردها دونه، وعنه: ليس له رده دون نمائه، قياساً على النماء المتصل. وقال مالك: إن كان النماء ثمرة لم يردها، وإن كان ولداً رده معها. وقال أبو حنيفة: النماء الحادث في يد المشتري يمنع الرد. "ووطء الثيب لا يمنع الرد"، روي عن زيد بن ثابت، وبه قال مالك والشافعي. وعنه: "يُمنع"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 روي ذلك عن علي، لأن الوطء كالجناية، لأنه لا يخلو في ملك الغير من عقوبة أو مال. وقال شريح وابن المسيب: يردها ومعها أرش، واختلفوا فيه. ولو اشتراها مزوّجة فوطئها الزوج، لم يمنع الرد، بغير خلاف نعلمه. وإن وطئ البكر أو تعيبت عنده فله الأرش. وعنه: أنه مخير بين الأرش وبين الرد، وأرش العيب الحادث عنده ويأخذ الثمن. وكذلك كل مبيع كان معيباً، ثم حدث به عيب عند المشتري، قبل علمه بالأول، ففيه روايتان: إحداهما: ليس له الرد، وله أرش العيب القديم، روي عن ابن سيرين والزهري والشعبي. والثانية: له الرد، ويرد أرش العيب الحادث عنده، ويأخذ الثمن. وإن شاء أمسكه وله الأرش. وقال الحكم: يرده ولم يذكر معه شيئاً. ولنا: حديث المصراة، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بردّها بعد حلبها، ورد عوض لبنها، ولأنه روي عن عثمان: "أنه قضى في الثوب إذا كان به عوار، يردّه وإن كان قد لبسه". ولو اشترى أمة فحملت عنده، ثم أصاب بها عيباً، فالحمل عيب، لأنه يمنع الوطء. فإن ولدت، فالولد للمشتري، وليس له ردها دون ولدها، لما فيه من التفريق. وقال الشريف وأبو الخطاب: له ردها دون ولدها، لأنه موضع حاجة، أشبه ما لو ولدت حراً، فإنه يجوز بيعها دونه. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "من فرّق بين والدة وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة" 1، ولأنه أمكن رفع الضرر بأخذ الأرش، ويردّ ولدها معها، أما الحر فلا سبيل إلى بيعه بحال. وإذا تعيّب المبيع في يد البائع بعد العقد، وكان المبيع من ضمانه، فهو كالعيب القديم. وإن كان من ضمان المشتري، فهو كالحادث بعد القبض، فأما الحادث بعض القبض فهو من ضمان المشتري. وقال مالك: عهدة الرقيق ثلاثة أيام، لأنه إجماع أهل المدينة، لحديث عقبة بن عامر مرفوعاً: "عهدة   1 الترمذي: السير (1566) , وأحمد (5/412, 5/414) , والدارمي: السير (2479) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 الرقيق ثلاثة أيام". 1 ولنا: أنه عيب كسائر العيوب. وحديثهم لا يثبت، قال أحمد: ليس في العهدة حديث صحيح. قال ابن المنذر: لا يثبت في العهدة حديث. مسألة التدليس حرام، فمتى فعله البائع فلم يعلم به المشتري حتى تعيب في يده، فله رده وأخذ ثمنه كاملاً ولا أرش عليه، سواء كان بفعل المشتري كوطء البكر وقطع الثوب، أو بفعل آدمي آخر مثل أن يجنى عليه، أو بفعل الله. وسواء كان ناقصاً للمبيع أو مُذهبا لجملته، قال أحمد في رجل اشترى عبداً فأبق، وأقام بينة أن إباقه كان موجوداً في يد البائع: يرجع على البائع بجميع الثمن، لأنه غر المشتري، ويتبع البائع عبده حيث كان. قال شيخنا: ويحتمل أن يلزمه عوض العين إذا تلفت، وأرش البكر إذا وطئها، لقوله عليه السلام: "الخراج بالضمان"، 2 وكما يلزم عوض لبن المصراة على المشتري، ولأن وجوب الضمان على البائع لا يثبت إلا بنص أو إجماع، ولا نعلم لهذا أصلاً، ولا يشبه التغرير، لأنه يرجع على من غره ههنا. ولو كان التدليس من وكيل البائع، لم يرجع عليه بشيء، نص عليه. وإذا زال ملك المشتري عن المبيع بعتق أو موت أو وقف، أو تعذر الرد قبل علمه بالعيب، فله الأرش، وبه قال مالك والشافعي، وكذا إن باعه غير عالم بعيبه، قال ابن المنذر: كان الحسن وشريح وعبد الله بن الحسن وابن أبي ليلى والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي يقولون: إن اشترى سلعة فعرضها على البيع بعد علمه بالعيب، بطل خياره؛ وهذا قول الشافعي، ولا أعلم فيه خلافاً. قيل لأحمد: هؤلاء يقولون: إذا اشترى عبداً فوجده معيباً فاستخدمه بأن يقول: ناولني هذا الثوب، بطل خياره، فأنكر ذلك وقال: من قال هذا؟ أو من أين أخذوا هذا؟   1 أبو داود: البيوع (3506) , وأحمد (4/150, 4/152) , والدارمي: البيوع (2551) . 2 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجة: التجارات (2243) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 ليس هذا برضى حتى يكون الشيء بيِّن ويطول. وإذا أعتق العبد، ثم علم به عيباً فأخذ أرشه فهو له، وعنه: يجعله في الرقا. وكلامه في هذه الرواية يحمل على الاستحباب. وإن صبغه أو نسجه فله الأرش ولا رد، وعنه: يرده ويأخذ زيادته بالصبغ. وقال الشافعي: ليس له إلا رده. ولنا: أنه لا يمكنه رده إلا بشيء من ماله، فلم يسقط حقه من الأرش بامتناعه من رده. وإن اشترى ما مأكوله في جوفه، فكسره فوجده فاسداً، فإن لم يكن له مكسوراً قيمة كبيض دجاج، رجع بالثمن كله؛ وإن كان له قيمة كبيض نعام، خُيّر بين أخذ أرشه وبين رده. وعنه: لا يرجع على البائع بشيء في هذا كله، وهو مذهب مالك، لأنه ليس من البائع تدليس ولا تفريط، فجرى مجرى البراءة. ووجه الأولى: أن العقد اقتضى السلامة من عيب لم يطلع عليه المشتري، وكونه لم يفرط لا يقتضي إيجاب ثمن ما لم يسلمه كالعيب الذي لم يعلمه في العبد، ووجه رد الأرش أنه نقص لم يمنع الرد، فلزم رد أرشه كلبن المصراة والبكر إذا وطئها. وهذا يبطل قول من قال: لا أرش عليه، لأنه حصل بطريق استلام والبائع سلطه عليه، بل هنا أولى لأنه تدليس، والتصرية تدليس. وإن كسره كسراً لا يبقى معه قيمة، فله الأرش لا غير، لأنه أتلفه. ومن علم العيب وأخر الرد، لم يبطل خياره، إلا أن يوجد منه ما يدل على الرضى، من التصرف ونحوه. وعنه: أنه على الفور، ولا يفتقر الرد إلى رضى ولا حضور قبل القبض ولا بعده. وقال أبو حنيفة: إن كان بعده افتقر إلى رضى صاحبه. ولنا: أنه رفع عقد من مستحق له كالطلاق. وإن اشترى اثنان شيئاً، وشرطا الخيار، أو وجداه معيباً فرضي أحدهما، ففيها روايتان: إحداهما: لمن لم يرض الفسخ، وبه قال الشافعي، وإحدى الروايتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 عن مالك. والأخرى: لا يجوز له رده مشتركاً ناقصاً كما لو تعيب عنده. ولنا: أنه إنما باع كل واحد نصفها، فخرجت من ملك البائع مشقصة، بخلاف العيب الحادث. وإن ورثا خيار عيب فرضي أحدهما، سقط حق الآخر، لأنه لو رد وحده تشقصت السلعة. وإن اشترى من اثنين شيئاً فوجده معيباً، رده عليهما، فإن غاب أحدهما، رد على الحاضر حصته وبقي نصيب الآخر في يده حتى يقدم. وإن كان أحدهما باع العين بوكالة الآخر، فالحكم كذلك، نص أحمد على نحو من هذا. وإن اشترى حلي فضة بوزنه دراهم فوجده معيبا، فله رده ولا أرش، لإفضائه إلى التفاضل. فإن حدث به عيب عند المشتري فعلى إحدى الروايتين: يرده وأرش العيب الحادث، ويأخذ ثمنه. وقال القاضي: لا رد، لإفضائه إلى التفاضل، ولا يصح لأن الرد فسخ العقد، والأرش عوض عن العيب الحادث، كما لو جنى عليه في ملك صاحبه. وعلى الرواية الأخرى: يفسخ الحاكم البيع، ويرد البائع الثمن، ويطالب بقيمة الحلي، لأنه لا يمكن إهمال العيب ولا أخذ الأرش. واختار شيخنا أن الحاكم إذا فسخ وجب رد الحلي وأرش نقصه، وليس فيه تفاضل، وإنما الأرش بمنزلة الجناية عليه. وإن اشترى معيبين صفقة، فليس له إلا ردهما أو إمساكهما، ولا أرش، وعنه: له رد أحدهما بقسطه، لأن المانع من الرد تشقيص المبيع على البائع، وهو موجود فيما إذا كان أحدهما صحيحاً؛ فإن تلف فله رد الباقي بقسطه، وهذا قول الأوزاعي وإسحاق. والثانية: ليس له إلا الأرش مع إمساك الباقي، وهو ظاهر قول الشافعي. والقول في قيمة التالف قول المشتري مع يمينه، لأنه منكر لما يدعيه البائع من الزيادة، ولأنه بمنزلة الغارم، كالمستعير والغاصب. وإن كان أحدهما معيباً فله رده بقسطه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وعنه: ليس له إلا ردهما أو إمساكهما. فإن كان مما ينقصه التفريق كمصراعي باب، أو من لا يجوز كجارية وولدها، فليس له رد أحدهما. وإن اختلفا في حدوث العيب، فروايتان: إحداهما: قول المشتري، فيحلف أنه اشتراه وبه هذا، لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت واستحقاق ما يقابله. والثانية: قول البائع مع يمينه على البت، لأن الأيمان كلها على البت، إلا على النفي في فعل الغير؛ وعنه: أنها على نفي العلم. والرواية الثانية: مذهب الشافعي، لأن الأصل سلامة المبيع وصحة العقد، ولأن المشتري يدعي استحقاق الفسخ والبائع ينكره. وإذا باع الوكيل ثم ظهر على عيب، رده على الموكل، فإن أقر به الوكيل وأنكره الموكل، فقيل: يقبل إقراره على موكله لخيار الشرط، وقال أصحاب أبي حنيفة والشافعي: لا يقبل إقراره على الموكل، وهو أصح، لأنه إقرار على الغير، وفارق خيار الشرط من حيث أن الموكل يعلم صفة سلعته ولا يعلم صفة العقد؛ فعليها، لا يملك الوكيل رده على الموكل. فإن ردت على الموكل بعيب، فأنكر البائع السلعة، فقوله مع يمينه، ونحوه قول الأوزاعي، فإنه قال فيمن صرف دراهم فقال الصيرفي: ليس هذا درهمي: يحلف الصيرفي بالله: لقد وفيتك، ويبرأ. فإن رد بخيار فأنكرها البائع، فحكى ابن المنذر عن أحمد: أن القول قول المشتري، وهو قول الثوري وإسحاق، لأنهما اتفقا على استحقاق الفسخ. وإن باع عبداً يلزمه عقوبة، وعلم المشتري، فلا شيء له. وإن علم بعد البيع، فله الرد أو الأرش. فإن لم يعلم حتى قتل، فله الأرش. وقال الشافعي: يرجع بالثمن، لأن تلفه لمعنى استحق عند البائع، فجرى مجرى إتلافه. وإن كانت الجناية موجبة للمال أو القود، فعفى عنه إلى مال، فعلى السيد. وإن كان معسراً، ففي رقبة الجاني مقدماً على المشتري، وللمشتري الخيار إن لم يكن عالماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 (السادس: خيار يثبت في التولية والشركة والمرابحة والمواضعة) ، ولا بد في جميعها من معرفة المشتري رأس المال، ولا يثبت فيها الخيار إذا أخبره بزيادة في الثمن أو نحو ذلك. والتولية: الببع برأس المال، قال أحمد: لا بأس ببيع الرقم، والرقم: الثمن المكتوب عليه إذا كان معلوماً. وكره طاووس بيع الرقم. وإذا اشترى شيئاً فقال لغيره: أشركتك، انصرف إلى النصف. فإن اشترى اثنان فقالا لثالث: أشركناك، احتمل أن يكون له النصف، ويحتمل أن يكون له الثلث، لأن الاشتراك يفيد التساوي. وإن أشركه كل واحد منهما منفرداً كان له النصف، ولكل واحد منهما الربع. وإن قال: أشركاني، فأشركه أحدهما، فعلى الوجه الأول: له نصف حصة الذي أشركه، وعلى الآخر له السدس، لأن طلب الشركة بينهما يقتضي طلب ثلث ما في يد كل واحد منهما. وإن قال أحدهما: أشركناك، ابتنى على تصرف الفضولي. والمرابحة: أن يبيعه بربح فيقول: بعتك بربح عشرة. وإن قال: علي أن أربح في كل عشرة درهماً أوده يازده، فرويت كراهته عن ابن عمر وابن عباس. وقال إسحاق: لا يجوز، لأن الثمن مجهول حال العقد، فلم يجز. ورخص فيه ابن المسيب وغيره. ووجه الكراهة أن ابن عمر وابن عباس كرهاه، ولأن فيه نوعاً من الجهالة؛ وهذا كراهة تنزيه، والجهالة يمكن إزالتها بالحساب، كبيع الصبرة كل قفيز بدرهم. والمواضعة: أن يقول: بعتك بها، ووضيعة درهم من كل عشرة. فإن باعه مرابحة، مثل أن يخبر أن ثمنها مائة ويربح عشرة، ثم علم ببينة أو إقرار أن ثمنها تسعون، فالبيع صحيح ويرجع بما زاد على الثمن، وهو عشرة وحظها من الربح وهو درهم؛ وبهذا قال الثوري وأحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 يخير بين الأخذ بكل الثمن، أو يترك قياسا على المبيع المعيب، والفرق بينهما أن المعيب لم يرض به إلا بالثمن المذكور، وهنا رضي برأس المال والربع المقرر. والمنصوص عن أحمد: أن المشتري يخير بين الأخذ برأس المال وحصته، وبين الفسخ، لأنه ربما كان له غرض في الشراء بذلك الثمن، لكونه حالفاً أو وكيلاً أو غير ذلك. وظاهر كلام الخرقي: أنه لا خيار له، وأما البائع فلا خيار له. وإن قال: رأس مالي مائة وأربح عشرة، ثم قال: غلطت، رأس مالي مائة وعشرة، لم يقبل إلا ببينة تشهد أن رأس ماله ما قاله. ثانياً: ذكره ابن المنذر عن أحمد وإسحاق، وروى أبو طالب عن أحمد: إذا كان البائع معروفاً بالصدق قبل قوله، فإن لم يكن صدوقاً جاز البيع. وقال القاضي: ظاهر كلام الخرقي: أن القول قول البائع مع يمينه، لأنه أمين، والصحيح الأول؛ وكونه مؤتمناً لا يوجب قبول دعواه في الغلط، كالمضارب إذا أقر بربح ثم قال: غلطت. وعنه: لا يقبل قوله ولو أقام بينة حتى يصدّقه المشتري، وهو قول الشافعي، لأنه أقر بالثمن، وإن أقام بينة لإقراره بكذبها. ولنا: أنها بينة فتقبل كسائر البينات، وإقراره حال الإخبار لم يكن عليه حق لغيره، فلم يكن إقراراً. ومتى اشتراه بثمن مؤجل، أو ممن لا تقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنه حيلة، أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن، ولم يبين ذلك، فللمشتري الخيار. وحكي عن أحمد: إن كان المبيع قائماً، خُير بين أخذه بالثمن مؤجلاً وبين الفسخ. وإن كان قد استهلك، حبس الثمن بقدر الأجل، وهو قول شريح. وإن اشترى شيئين صفقة واحدة، وأراد بيع أحدهما مرابحة، أو اشترى اثنان شيئاً فتقاسماه، وأراد أحدهما بيع نصيبه مرابحة، فإن كان من المتقومات التي لا ينقسم عليها الثمن بالأجزاء كالثياب، لم يجز حتى يبين الحال، وهذا مذهب الثوري وإسحاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وقال الشافعي: يجوز كما لو كان المبيع شقصاً وسيفاً، فإن الشفيع يأخذ الشقص بحصته. ولنا: أن قسمة الثمن طريقه الظن، والخطأ فيه كثير، وبيع المرابحة أمانة، فلم يجز فيه؛ فهو كالخرص لا يباع به ما يجب التماثل فيه. وأما الشفيع، فلنا فيه منع، وإن سلم فللحاجة، لأنه يتخذ طريقاً إلى إسقاط الشفعة. فإن باع فللمشتري الخيار. وإن كان من المتماثلات كالبر المتساوي، جاز ذلك، لا نعلم فيه خلافاً. وإن أسلم في ثوبين بصفة واحدة، فأخذهما على الصفة، فله بيع أحدهما مرابحة بحصته. وإن حصل في أحدهما زيادة على الصفة، جرت مجرى الحادث بعد البيع على ما نذكره. وإن حط عنه بعض الثمن، أخبر به، لا نعلم فيه خلافاً. وإن تغير سعرها، فإن غلت لم يلزمه الإخبار، وإن رخصت فكذلك، لأنه صادق، نص عليه. ويحتمل أن يلزمه الإخبار وما يؤخذ أرشاً لعيب، فذكر القاضي أنه يخبر به. وقال أبو الخطاب: يحط أرش العيب من الثمن، ويخبر بالباقي. وإن اشترى ثوباً بعشرة، وقصره بعشرة، أخبر بذلك على وجهه، فإن قال يحصل بعشرين فهل يجوز؟ على وجهين. وإن أخذ النماء المنفصل، أو استخدم الأمة، أو وطئ الثيب، أخبر برأس المال. وروي عن أحمد أنه يبين ذلك كله. وإن عمل فيها عملاً أخبر به، ولا يقول تحصل بكذا عليّ، وبه قال الحسن وابن سيرين وابن المسيب وغيرهم. وفيه وجه: أنه يجوز أن يضم الأجرة إلى الثمن، ويقول تحصلت عليّ بكذا، لأنه صادق، وبه قال الشعبي والشافعي. وإن اشتراه بعشرة، ثم باعه بخمسة عشر، ثم اشتراه بعشرة، أخبر به على وجه. وإن قال: اشتريته بعشرة جاز. وقال أصحابنا: يحط الربح من الثمن الثاني، ويخبر أنه اشتراه بخمسة عشر، روي عن ابن سيرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا أن يبين أمره، أو يخبر أن رأس ماله عليه خمسة. وإن ابتاع اثنان ثوباً بعشرين، ثم بذل لهما فيه اثنان وعشرون، فاشترى أحدهما نصيب صاحبه بذلك السعر، فإنه يخبر بأحد وعشرين، نص عليه؛ وهذا قول النخعي. وقال الشعبي: يبيعه على اثنين وعشرين، لأن ذلك الدرهم الذي أعطيه قد أحرزه. ثم رجع إلى قول النخعي بعد ذلك، ولا نعلم أحداً خالفه. قال أحمد: المساومة عندي أسهل من بيع المرابحة، لأنه يعتريه أمانة واسترسال من المشتري. (السابع: خيار يثبت لاختلاف المتبايعين) . فمتى اختلفا في قدر الثمن تحالفا، فيبدأ بيمين البائع فيحلف: ما بعت بكذا، وإنما بعته بكذا. ثم يحلف المشتري: ما اشتريت بكذا، وإنما اشتريته بكذا؛ وبه قال شريح والشافعي ورواية عن مالك، وله رواية أخرى: القول قول المشتري مع يمينه، وبه قال أبو ثور، لأن البائع يدعي ما ينكر المشتري. وقال الشعبي: القول قول البائع أو يترادّان البيع، وحكاه ابن المنذر عن أحمد، لما روى ابن مسعود، مرفوعاً: "إذا اختلف البيّعان وليس بينهما بينة، فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع". 1 رواه ابن ماجة؛ والمشهور الأول. ويحتمل أن معنى القولين واحد، وأن القول قول البائع مع يمينه. فإذا حلف فرضي المشتري، أخذ به. وإن أبى حلف أيضاً، وفسخ البيع، لأن في بعض ألفاظه: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، ولا بينة لأحدهما، تحالفا"، ولأن كل واحد منهما مدعٍ ومدعَى عليه، لأن المشتري يدعي عقداً بعشرة ينكره البائع، وهذا الجواب عما ذكروه. وقال أبو حنيفة: يبدأ بيمين المشتري، لأنه منكر، ولأنه يقضي بنكوله. ولنا: قوله: "فالقول ما قال البائع، أو يترادّان البيع"، 2 وفي لفظ: "فالقول قول البائع،   1 الترمذي: البيوع (1270) , وأبو داود: البيوع (3511) , والدارمي: البيوع (2549) . 2 ابن ماجة: التجارات (2186) , وأحمد (1/466) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 والمشتري بالخيار". 1 رواه أحمد، ومعناه: إن شاء أخذ وإن شاء حلف، ولأن البائع أقوى جنبه، لأنهما إذا تحالفا عاد المبيع إليه كصاحب اليد، والبائع إذا حلف فهو بمنزلة نكول المشتري، فهما سواء. وإذا تحالفا فرضي أحدهما بقول صاحبه، أقرّ العقد، وإلا فلكل واحد منهما الفسخ. ويحتمل أن يقف الفسخ على الحاكم، وهو ظاهر مذهب الشافعي، لأن أحدهما ظالم، ويتعذر إمضاء العقد في الحكم، كنكاح من زوّجها وليان وجهل السابق. ولنا: قوله: "أو يترادان البيع"، وروي: "أن ابن مسعود باع الأشعث رقيقاً من رقيق الإمارة، فقال: بعتك بعشرين ألفاً، وقال الأشعث: شريت منك بعشرة. فقال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة، والمبيع قائم بعينه، فالقول قول البائع، أو يترادان البيع. قال: فإني أرد البيع". 2 رواه سعيد. وروي أيضاً عن عبد الملك بن عبدة، مرفوعاً: "إذا اختلف المتبايعان، استحلف البائع، ثم كان للمشتري الخيار: إن شاء أخذ، وإن شاء ترك". 3 وهذا ظاهر أنه يفسخ من غير حاكم، ولا يشبه النكاح، لأن لكل واحد من الزوجين الاستقلال بالطلاق. وإن كانت السلعة تالفة رجعا إلى قيمة مثلها. وإن اختلفا في صفتها، فالقول قول المشتري مع يمينه. وعنه: لا يتحالفان إذا كانت تالفة، والقول قول المشتري مع يمينه؛ وهو قول أبي حنيفة لمفهوم قوله: والسلعة قائمة، ولأنهما اتفقا في نقل السلعة إلى المشتري واستحقاق عشرة، واختلفا في عشرة؛ وتركنا هذا القياس حال قيامها للحديث. ووجه الأولى: عموم قوله: "إذا اختلف المتبايعان، فالقول قول البائع، والمشتري بالخيار". قال أحمد ولم يقل فيه: والمبيع قائم إلا يزيد بن هارون، قال أبو عبد الله: وقد أخطأ، رواه الخلق عن المسعودي ولم يقولوا هذه الكلمة.   1 أحمد (1/466) . 2 ابن ماجة: التجارات (2186) . 3 أحمد (1/466) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وقولهم: تركناه للحديث، قلنا: لم يثبت في الحديث: تحالفا. قال ابن المنذر ليس في هذا الباب حديث يعتمد عليه، وإذا خولف الأصل لمعنى، وجب تعدية الحكم بتعدي المعنى؛ بل يثبت الحكم بالبينة بأن التحالف إذا ثبت مع قيام السلعة، مع أنه يمكن معرفة ثمنها للمعرفة بقيمتها، فمع تعذره أولى. فإذا تحالفا، فإن رضي أحدهما بما قال الآخر لم يفسخ لعدم الحاجة، وإلا فلكل واحد منهما فسخه، ويرد المشتري قيمتها إلى البائع؛ وينبغي أن لا يشرع التحالف ولا الفسخ إذا كانت القيم متساوية الثمن، ويكون القول قول المشتري مع يمينه، لأنه لا فائدة فيه. وإن كانت القيمة أقل، فلا فائدة للبائع في الفسخ؛ فيحتمل أن لا يشرع له اليمين ولا الفسخ، ويحتمل أن يشرع لتحصيل الفائدة للمشتري. فإن اختلفا في الصفة، فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه غارم، وإن تقايلا المبيع، أو رد بعيب بعد قبض الثمن، ثم اختلفا في قدره، فقول بائع لأنه منكر. وإن اختلفا في صفة الثمن تحالفا، إلا أن يكون للبلد نقد معلوم فيرجع إليه. وإن كان في البلد نقود رجع إلى أوسطها، نص عليه، وعلى مدعي ذلك اليمين. وإن لم يكن في البلد إلا نقدان، تحالفا كما لو اختلفا في قدره. وإن اختلفا في أجل أو شرط، فقول من ينفيه؛ وهو قول أبي حنيفة، لأن الأصل عدمه. والرواية الثانية: يتحالفان، وهو قول الشافعي. وإن اختلفا في ما يفسد العقد، فقول مدعي الصحة مع يمينه. وإن قال: بعتك وأنا صبي، فالقول قول المشتري، نص عليه؛ وهو قول الثوري وإسحاق، لأنهما اتفقا على العقد واختلفا فيما يفسده. وإن قال: بعتني هذين، فقال: أحدهما، فقول بائع. وإن قال البائع: بعتك هذا العبد بألف، فقال: بل هو والعبد الآخر بألف، فقول بائع؛ وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي: يتحالفان كما لو اختلفا في الثمن، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 أقيس. وإن قال: بعتني هذا، فقال: بل هذا، حلف كل واحد منهما على ما أنكره، ولم يثبت بيع واحد منهما، لأن كل واحد منهما يدعي عقداً على عين ينكرها المدعى عليه. فإذا حلف: ما بعتك هذه الجارية، أُقرت في يده، وإن كان المدعي قبضها رُدت. وأما العبد فإن كان في يد البائع أُقر في يده، ولم يكن للمشتري طلبه، لأنه لا يدعيه، وعلى البائع رد الثمن. وإن كان في يد المشتري ردَّه، لأنه يعترف أنه لم يشتره، وليس للبائع طلبه إذا بذل ثمنه، لاعترافه ببيعه، وإلا فله استرجاعه. وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه، ثبت العقدان لأنهما لا يتنافيان. وإن قال البائع: لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري: حتى أقبض المبيع، وكان الثمن عيناً أو عرضاً، جعلا بينهما عدلاً يقبض ويسلّم إليهما. وعن أحمد ما يدل على أن البائع يجبر على التسليم [أولاً، وقال أبو حنيفة ومالك: يجبر المشتري على تسليم الثمن] ، 1 لأن للبائع حبس المبيع عليه. وإن كان ديْناً، أجبر البائع على التسليم، ثم المشتري على تسليم الثمن. وقال مالك وأبو حنيفة: يجبر المشتري أولاً، كالتي قبلها. وإذا سلمه البائع، وكان المشتري موسراً، أُجبر على تسليم الثمن إن كان حاضراً. وإن كان الثمن غائباً في مسافة القصر، أو كان المشتري معسراً، فللبائع الفسخ، كالمفلس. وإن كان غائباً قريباً، فللبائع الفسخ في أحد الوجهين. والثاني: لا. فإن هرب المشتري وهو معسر، فاللبائع الفسخ. وإن كان موسراً، أثبت البائع ذلك عند الحاكم، ثم إن وجد له الحاكم مالاً قضاه، وإلا باع المبيع وقضى ثمنه منه. وقال شيخنا: ويقوى عندي: أن للبائع الفسخ بكل حال، لأنا أبحنا له الفسخ مع حضوره إذا كان الثمن بعيداً. وليس للبائع الامتناع من التسليم بعد قبض الثمن، لأجل الاستبراء، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وحكي عن مالك في القبيحة، وقال في الجميلة: يضعها على يدي عدل حتى تستبرأ.   1 زيادة من المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 (فصل) : ومن اشترى مكيلاً أو موزوناً، لم يجز بيعه حتى يقبضه. وإن تلف قبله، فمن مال بائع، إلا أن يتلفه آدمي فيخير المشتري بين الفسخ ومطالبة المتلف، وسواء كان متعيّناً كالصبرة أو غير متعيّن كقفيز منها. وروي عن عثمان وابن المسيب وغيرهما: "أن ما بيع على الكيل والوزن لا يجوز بيعه قبل قبضه، وما ليس بمكيل ولا موزون فيجوز بيعه قبل قبضه". وقال القاضي وأصحابه: المراد بذلك: ما ليس بمتعيّن، ونقل عن أحمد نحو ذلك، فإنه قال في رجل اشترى طعاماً وطلب من يحمله، فرجع وقد احترق، فمن مال المشتري. وذكر الجوزجاني فيمن اشترى ما في السفينة صبرة ولم يسم كيلاً، فلا بأس أن يشرك فيها ويبيع ما شاء، إلا أن يكون بينهما كيلاً ونحوه؛ قال مالك وأبو حنيفة: ووجه قول ابن عمر: "مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً، فهذا من مال المبتاع". رواه البخاري. ونقل عن أحمد: المطعوم لا يجوز بيعه قبل قبضه، سواء كان مكيلاً أو موزوناً أو لم يكن؛ فعليها، يختص ذلك بالمطعوم. قال الترمذي: روي عنه: أنه أرخص في بيع ما لا يكال ولا يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب، قبل قبضه. قال الأثرم: سألته عن قوله: نهى عن ربح ما لم يضمن؟ قال: هذا في الطعام وما أشبهه من مأكول أو مشروب، فلا يبيعه حتى يقبضه. قال ابن عبد البر: الأصح عن أحمد: أن الذي يمنع منه: الطعام، "لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعه قبل قبضه"، فمفهومه: إباحة بيع ما سواه. وروى ابن عمر قال: "رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يُضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يأووا إلى رحالهم"، 1 وهذا نص في بيع المعيّن، وعموم قولهم: من ابتاع طعاماً ... إلخ، متفق عليهما؛ وهذا يدل على تعميم المنع في كل طعام، مع نصه على البيع مجازفة بالمنع، وهو خلاف قول القاضي. وكل ما لا يدخل في ضمان المشتري   1 البخاري: البيوع (2131) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 إلا بقبضه، لا يجوز بيعه حتى يقبضه، لا نعلم فيه خلافاً، إلا ما حكي عن البتي: أنه لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه. قال ابن عبد البر: وهذا مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام، وأظنه لم يبلغه الحديث؛ ومثل هذا لا يلتفت إليه. والبيع بصفة أو رؤية متقدمة من ضمان البائع حتى يقبضه المبتاع. وإن تعيّب في يد البائع أو تلف بعضه بآفة سماوية، خُيّر المشتري بين أخذه ناقصاً وبين الفسخ. وما عدا المكيل والموزون يجوز التصرف فيه قبل قبضه، في أظهر الروايتين، وقال الشافعي: لا يجوز بيع شيء قبل قبضه. ولنا: على جواز التصرف فيه قبل قبضه ما روى ابن عمر قال: "كنا نبيع الإبل في البقيع بالدراهم، فنأخذ بدل الدراهم الدنانير، وبالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم. فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء"، وهذا تصرف في الثمن قبل قبضه. وقال صلى الله عليه وسلم في البكر: " هو لك يا عبد الله بن عمر، فاصنع به ما شئت". 1 ولنا على أنه إذا تلف فمن مال المشتري: قوله: "الخراج بالضمان"، 2 وهذا نماؤه له. وأما أحاديثهم، فقد قيل: لم يصح منها إلا حديث الطعام، وهو حجة لنا بمفهومه. وكل عوض ملك بعقد، ينفسخ بهلاكه قبل القبض، لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه. والأجرة وبدل الصلح عن دم العمد، إذا كان من المكيل والموزون أو المعدود، وما لا ينفسخ بهلاكه، يجوز التصرف فيه، كعوض الخلع والعتق على مال، لأن المقتضي للتصرف الملك وقد وجد. لكن ما يتوهم فيه غرر لانفساخه بهلاك المعقود عليه، لم يجز لنا بناء عقد آخر عليه، تحرزاً من الغرر. وما لا يتوهم فيه ذلك، جاز العقد عليه؛ وهذا قول أبي حنيفة، والمهر كذلك، لأنه لا ينفسخ بهلاكه. وقال الشافعي: لا يجوز التصرف فيه قبل   1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2611) . 2 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجة: التجارات (2243) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 قبضه، ووافقه أبو الخطاب في غير المتعيّن، لأنه يخشى رجوعه بانتقاض سببه، بالرد قبل الدخول، أو انفساخه بسبب من جهة المرأة، أو نصفه بالطلاق، أو سبب من غير جهتها. وكذلك قال الشافعي في عوض الخلع، وهذا التعليل باطل بما بعد القبض؛ فإن قبضه لا يمنع الرجوع فيه قبل الدخول. فإن اشترى اثنان طعاماً فقبضاه، ثم باع أحدهما الآخر نصيبه قبل أن يقسماه، فكرهه الحسن وابن سيرين، لأنه لم يقبض نصيبه مفرداً. ويحتمل الجواز، لأنه مقبوض لهما، يجوز بيعه لأجنبي، فجاز لشريكه. فإن تقاسماه وتفرقا، ثم باع أحدهما نصيبه بذلك الكيل، لم يجز، كما لو اشترى من رجل طعاماً فاكتاله وتفرقا، ثم باعه إياه بذلك الكيل. وإن لم يتفرقا، خرج على الروايتين. وكل ما يجوز بيعه قبل قبضه، لا يجوز الشركة فيه، ولا التولية، ولا الحوالة به؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: يجوز هذا كله في الطعام قبل قبضه، لأنه يختص بمثل الثمن الأول، فجاز كالإقالة. ولنا: أن التولية والشركة من أنواع البيع، فيدخل في عموم النهي. ويحصل القبض فيما بيع بكيل أو وزن، بكيله أو وزنه؛ روي عن أحمد: أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز. ولنا: ما روى عثمان مرفوعاً: "إذا بعت فكِلْ، وإذا ابتعت فاكتل". رواه البخاري. وروى ابن ماجة: "أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشتري"، 1 وهذا فيما بيع كيلاً. وفي الصبرة وما يُنقل، بالنقل، لحديث ابن عمر، وهو يبين أن الكيل وجب فيما بيع بالكيل، وقد دل على ذلك قوله: "إذا سميت الكيل، فكِل ". 2 وأجرة الكيال والوزان على البائع، كسقي الثمرة، وأما نقل المنقولات وما أشبهه فعلى المشتري، لأنه لا يتعلق به حق توفية.   1 ابن ماجة: التجارات (2228) . 2 البخاري: البيوع (2054) والذبائح والصيد (5475, 5476) , والترمذي: الصيد (1471) , والنسائي: الصيد والذبائح (4264, 4274) , وأبو داود: الصيد (2854) , وأحمد (4/256, 4/380) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 والإقالة فسخ، تجوز قبل القبض، ولا يستحق بها شفعة، ولا تجوز إلا بمثل الثمن. وفيه وجه آخر: أنها تجوز بمثل الثمن الأول وأقل منه. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": لو ألحقنا بالعقد خياراً بعد لزومه لم يلحق، قال في الفائق: يتخرج إلحاقه، وهو المختار. انتهى. وهو رواية في الرعاية وغيرها. ولا يجوز الخيار مجهولاً، وعنه: يجوز، وهما عليه إلا أن يقطعاه، أو تنتهي مدته. ولو وليت الإجارة العقد، لم يثبت فيها، يعني: خيار الشرط. وقيل: يثبت، قال في الفائق: اختاره شيخنا، وهو المختار. وقال الشيخ: يثبت خيار الشرط في كل العقود، ولمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه. ونقل أبو طالب: له الفسخ برد الثمن، وجزم به الشيخ كالشفيع. وليس لواحد منهما التصرف في المبيع في مدة الخيار. وقال في القواعد: المنصوص عن أحمد: أن للمشتري التصرف فيه بالاستغلال، وظاهر قوله: ليس لواحد منهما التصرف في المبيع في مدة الخيار، أن للبائع التصرف في الثمن المعين وغيره إذا قبضه، وهو ظاهر كلامه في الشرح والفروع وغيره، لعدم ذكرهم للمسألة. وأما تصرف المشتري ووطؤه وتقبيله، فهو إمضاء وإبطال لخياره. وعنه: لا يبطل به. وإن أعتقه المشتري نفذ عتقه، وبطل خيارهما. وعنه: لا يبطل خيار البائع، وله الفسخ والرجوع بالقيمة يوم العتق. قوله في التلقي: وعلموا أنهم قد غبنوا، وعنه: لهم الخيار وإن لم يغبنوا. وثبت للمسترسل الخيار إذا غبن، وهو من المفردات، وعنه: لا يثبت. ويحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 تغرير مشتر، بأن يسومه كثيراً ليبذل قريباً منه، ذكره الشيخ. وقال: وإن دلس مستأجر على مؤجر، وغره حتى استأجره بدون القيمة، فله أجرة المثل. ويرد مع المصراة صاعاً من تمر، وقال الشيخ: يعتبر في كل بلد صاعاً من غالب قوته. ولا يحل تدليس ولا كتمان عيب، قال الشيخ: وكذا لو أعلمه ولم يعلما قدره، وأنه يجوز عقابه بإتلافه، والتصدق به إذا دلسه. قال: والجار السوء عيب، قال أحمد: من اشترى مصحفاً فوجده ينقص الآية والآيتين، ليس هذا عيباً، لأنه لا يخلو المصحف من هذا. وقوله: فله الخيار، وعنه: ليس له أرش إلا إذا تعذر رده، اختاره الشيخ. وكذلك يقال في نظائره، كالصفقة إذا تفرقت. وعنه: لا رد ولا أرش لمشتر، وهبة بائع ثمناً أو براءة منه كمهر، وفي رواية: ولو أسقط المشتري الخيار بعوض بُذل له جاز، وليس من الأرش. ونص أحمد على مثله في خيار المعتقة تحت عبد. والنماء المتصل للبائع، وقال الشيرازي: للمشتري، اختاره الشيخ، ونص عليه أحمد في رواية ابن منصور. فعلى هذا يقوم على البائع. ووطء الثيب لا يمنع الرد، وعنه: يمنع، اختاره الشيخ. وعنه: عهدة الحيوان ثلاثة أيام، والمذهب: لا عهدة. قال أحمد: لا يصح فيه حديث. وتقدم أن الشيخ قال: يجبر في خيار العيب على الرد أو الأرش، إن تضرر البائع أي: بالتأخير. وقوله: لم يجز بيعه حتى يقبضه، وعنه: يجوز بيعه لبائعه، اختاره الشيخ. وجوز التولية فيه والشركة، وخرجه من بيع دين، واختار أيضاً جواز التصرف فيه بغير بيع. وذكر أبو الخطاب رواية: أن المطعوم كالمكيل والموزون، لا يجوز التصرف فيه مطلقاً ولو ضمنه، اختاره الشيخ وقال: عليها تدل أصول أحمد، كتصرف المشتري في الثمرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 والمستأجر في العين، مع أنه لا يضمنها. وعكسه كالصبرة المعينة، كما شرط قبضه لصحته، كسلم وصرف. وما جاز له التصرف فيه فمن ضمانه، إذا لم يمنعه البائع. وقال الشيخ: لا يكون من ضمانه إلا إذا تمكن من قبضه، وقال: ظاهر المذهب: الفرق بين ما تمكن من قبضه وغيره ليس هو الفرق بين المقبوض وغيره. قال في الفروع: كذا قال. ويحرم تعاطيهما عقداً فاسداً، فلا يملك به. قال الشيخ: يترجح أنه يملك بعقد فاسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 باب الربا والصرف وهو نوعان: (ربا الفضل) و (ربا النسيئة) ، وأجمعت الأمة على تحريمهما. وقد روي في ربا الفضل عن ابن عباس، ثم رجع؛ قاله الترمذي وغيره. وقوله: "لا ربا إلا في النسيئة" 1 محمول على الجنسين. فأما ربا الفضل فيحرم في كل مكيل أو موزون، وإن كان يسيراً كتمرة بتمرتين. وعنه: لا يحرم إلا في الجنس الواحد من الذهب والفضة وكل مطعوم. وعنه: لا يحرم إلا فيما إذا كان مكيلاً أو موزوناً. والأعيان الستة ثبت الربا فيها بالنص والإجماع. واختلف فيما سواها. فعن طاووس وقتادة أنهما قصرا الربا عليهما، وبه قال داود ونفاة القياس. واتفق القائلون به على أن الربا فيها لعلة، وأنه يثبت فيما وجدت فيه، ثم اتفقوا على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد، إلا سعيد بن جبير فإنه قال: "كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما، لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، كالحنطة والشعير، والتمر والزبيب، والذرة والدخن"، وهذا مخالف لقوله: "بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم، يداً بيد"، 2 فلا يُعوّل عليه. واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة. ثم اختلفوا في علة كل واحدة منهما. فعن أحمد ثلاث روايات: أشهرهن: أن علة الذهب والفضة: كونه موزون جنس، وعلة الأعيان الأربعة: كونه مكيل جنس؛ وبه قال النخعي والزهري والثوري. فعليها، لا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن كالمعدودات. والثانية: أن العلة   1 مسلم: المساقاة (1596) , والنسائي: البيوع (4580, 4581) , وابن ماجة: التجارات (2257) , وأحمد (5/202) . 2 الترمذي: البيوع (1240) , والنسائي: البيوع (4560, 4561, 4562) , وأحمد (5/320) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 في الأثمان: الثمنية، وما عداها: كونه مطعوم جنس؛ فيختص بالمطعومات ويخرج منه ما عداها. ونحوه قال الشافعي، لما روى معمر بن عبد الله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام، إلا مثلاً بمثل"، رواه مسلم، ولأن الطعم وصف شرف إذ به قوام الأبدان، والثمنية وصف شرف إذ به قوام الأموال، ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات. والثالثة: العلة فيما عدا النقدين: كونه مطعوم جنس مكيل أو موزون، فلا يجرى في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالتفاح والرمان والبطيخ، ولا فيما ليس بمطعوم، كالزعفران والحديد؛ يروى ذلك عن سعيد بن المسيب، وهو قديم قولي الشافعي، لما روي عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ربا إلا فيما كِيل أو وُزن، مما يؤكل أو يشرب". أخرجه الدارقطني وقال: الصحيح أنه من قوله، ومَن رفعه فقد وهم. والأحاديث الواردة في هذا يجب الجمع بينها، فنهيه عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل يتقيد بما فيه معيار شرعي، ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين يتقيد بالمطعوم المنهي عن التفاضل فيه، وهذا اختيار شيخنا. وقال مالك: العلة: القوت أو ما يصلح به القوت من جنس واحد من المدّخرات. وقال ابن سيرين: الجنس الواحد علة، وهذا لا يصح "لأنه صلى الله عليه وسلم ابتاع عبداً بعبدين". 1 قال الترمذي: حسن صحيح. وقول مالك ينتقض بالحطب والإدام يستصلح به القوت، ولا ربا فيه عنده. فالحاصل: أن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد، ففيه الربا، رواية واحدة، كالأرز والدخن والذرة والدهن ونحوه؛ وهذا قول الأكثر. قال ابن المنذر: هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث، وما انعدم فيه ذلك فلا ربا فيه، رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم،   1 مسلم: المساقاة (1602) , وأبو داود: البيوع (3358) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 كالنوى والقت. وما وجد فيه الطعم وحده أو الكيل أو الوزن من جنس واحد، ففيه روايتان. والأولى، إن شاء الله، حلُّه إذ ليس فيه دليل موثوق به، وهي مع ضعفها يعارض بعضها بعضاً، فوجب إطراحها والرجوع إلى أصل الحِلّ. وقوله: في كل مكيل ... إلخ، أي: بأن كان جنسه ذلك، وإن لم يتأت فيه إما لقلته كالحبة والحفنة، وما دون الأرزة من الذهب والفضة، أو كثرته كالزبرة العظيمة. ورخص أبو حنيفة في الحفنة بالحفنتين، وسائر المكيل الذي لا يتأتى كيله، ووافق في الموزون، واحتج بأن العلة: الكيل، ولم يوجد في اليسير. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "التمر بالتمر، مثلاً بمثل ... إلخ". 1 ولا يجوز بيع تمرة بتمرة ولا حفنة بحفنة. قال أحمد: لا بأس بالثوب بالثوبين، وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال: لا يباع الفلس بالفلسين، ولا السكين بالسكينين، ولا الإبرة بالإبرتين، أصله الوزن. ونقل القاضي حكم إحدى المسألتين إلى الأخرى، فجعل في الجميع روايتين: إحداهما: لا يجري في الجميع، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم، لأنه ليس بموزون ولا مكيل؛ وهذا هو الصحيح، إذ لا معنى لثبوت الحكم مع انتفاء العلة وعدم النص والإجماع فيه. والثانية: يجري في الجميع، لأن أصله الوزن، فلا يخرج عنه بالصناعة. ويجري الربا في لحم الطير، وعن أبي يوسف: لا يجري فيه، لأنه يباع بغير وزن. ولنا: أنه لحم، وهو من جنس ما يوزن، أشبه ما يباع من الخبز عدداً، والجيد والرديء، والتبر والمضروب، والصحيح والمكسور، سواء. وهذا قول الأكثر. وحكي عن مالك: جواز بيع المضروب بقيمته من جنسه، وأنكره أصحابه. وحكي عن أحمد: أنه لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة، لأن للصناعة قيمة، بدليل حالة الإتلاف. ولنا: قوله: "الذهب بالذهب، مثلاً بمثل ... إلخ". 2 وكل ما حرم فيه ربا الفضل، حرم فيه النسأ بغير خلاف.   1 مسلم: المساقاة (1587) , والترمذي: البيوع (1240) , والنسائي: البيوع (4560, 4561 ,4562, 4564) , وأبو داود: البيوع (3349) , وأحمد (5/314 , 5/320) , والدارمي: البيوع (2579) . 2 البخاري: البيوع (2176) , والترمذي: البيوع (1241) , والنسائي: البيوع (4570) , وأحمد (3/47, 3/53, 3/58, 3/73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 ويحرم التفرق قبل القبض، لقوله صلى الله عليه وسلم: "عينا بعين". ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزناً، وقال مالك: يجوز بيع بعض الموزونات ببعض جزافاً. ولنا: قوله: "الذهب بالذهب، وزناً بوزن ... إلخ". 1 ولو باع بعضه ببعض جزافاً، أو كان جزافاً من أحد الطرفين، لم يجز. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن ذلك لا يجوز، إذا كان من صنف واحد، لما روى مسلم عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها، بالكيل المسمى من التمر" 2. وفي قوله: "الذهب بالذهب ... إلخ" دليل على أنه لا يجوز إلا كذلك، قال ابن المنذر: أجمع أكثر أهل العلم على أن بيع الصبرة من الطعام بالصبرة لا يدري كم كيل هذه ولا كيل هذه من صنف واحد، غير جائز، ولا بأس به من صنفين، استدلالاً بقوله: "فإذا اختلف الجنسان، فبيعوا كيف شئتم". وذهب بعض أصحابنا إلى منع بيع المكيل بالمكيل، والموزون بالموزون، جزافاً. قال أحمد في رواية: أكره ذلك، وقاله القاضي والشريف، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الطعام بالطعام مجازفة". ولنا: قوله: "فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، يداً بيد". 3 وحديثهم أراد به الجنس الواحد، ولهذا جاء في بعض ألفاظه: "نهى أن تباع الصبرة لا يعلم مكيلها من التمر بالصبرة لا يعلم مكيلها من التمر". 4 واختلفت الرواية في البر والشعير، فظاهر المذهب أنهما جنسان، وعنه: جنس واحد، لقول معمر: "إني أخاف أن يضارع الربا"، أخرجه مسلم. ولنا: قوله: "بيعوا البر بالشعير كيف شئتم.. . إلخ"، 5 وحديث معمر لا بد فيه من إضمار الجنس بدليل سائر أجناس الطعام. ويحتمل أنه أراد المعهود، فإنه قال في الخبر: "وكان طعامنا يومئذ الشعير، وفعله معمر وقوله لا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم".   1 مسلم: المساقاة (1588) . 2 مسلم: البيوع (1530) , والنسائي: البيوع (4547) . 3 مسلم: المساقاة (1587) , والترمذي: البيوع (1240) , والنسائي: البيوع (4560, 4562) . 4 مسلم: البيوع (1530) , والنسائي: البيوع (4547) . 5 الترمذي: البيوع (1240) , وابن ماجة: التجارات (2254) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 وفروع الأجناس أجناس، كالأدقة والأخباز والأدهان. وعن أحمد: أن خل التمر وخل العنب جنس واحد، لأن الاسم الخاص يجمعهما. وهذا منقوض بسائر فروع الأصول التي ذكرنا، وقد يكون الجنس مشتملا على جنسين، كالتمر على النوى، واللبن على الزبد، فما داما متصلين فهما جنس، فإذا ميز أحدهما من الآخر صارا جنسين. واللحم أجناس باختلاف أصوله، وعنه: جنس واحد، وعنه: أربعة أجناس: لحم الأنعام، ولحم الوحش، ولحم الطير، ولحم دواب الماء. وفي اللبن روايتان. واللحم والشحم والكبد أجناس، وقال القاضي: لا يجوز بيع اللحم بالشحم، وكرهه مالك إلا أن يتماثلا. ولا يجوز بيع لحم الحيوان بحيوان من جنسه، وهو مذهب مالك والشافعي، وبغير جنسه وجهان. وحكي عن مالك: لا يباع بحيوان معدّ للحم، ويجوز بغيره. وقال أبو حنيفة: يجوز مطلقاً. ولنا: "نهيه صلى الله عليه وسلم من بيع اللحم بالحيوان"، رواه مالك. ولا يجوز بيع حب بدقيقه، وعنه: أنه جائز؛ فعليها يباع وزناً، لأن الدقيق يأخذ من المكيال كثيراً، وبهذا قال إسحاق. فأما الخبز والهريسة والفالوذج وأشباهها، فلا يباع بالحنطة، وقال أبو حنيفة: يجوز، بناء على مسألة "مد عجوة". ولا يجوز بيع أصل بعصيره، ولا خالصه بمشوبه، وقال أبو ثور: يجوز. وقال أبو حنيفة: يجوز إذا علم أن ما في الأصل من الدهن والعصير أقل من المفرد. وعن أحمد: يجوز بيع اللبن بالزبد، إذ الزبد المنفرد أكثر من الزبد الذي في اللبن. ولا يجوز بيع الخالص بالمشوب، كحنطة فيها شعير بخالصه، ولبن مشوب بخالص، واللبن بالكشك الكامخ، ويتخرج الجواز إذا كان اللبن أكثر من الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 في الكشك والكامخ، بناء على مسألة "مدّ عجوة". [ولا يجوز بيع المشوب بالمشوب، بناء على مسألة "مد عجوة"] 1. ويجوز بيع نوع بنوع آخر إذا لم يكن فيه منه، وممن أجاز بيع الزبد بالمخيض: الشافعي وإسحاق، لأن اللبن الذي في الزبد غير مقصود، كالملح في الشيرج. ولا يجوز بيع الزبد بالسمن، لأن في الزبد لبناً يسيراً فيحيل التماثل، واختار القاضي جوازه، لأن اللبن غير مقصود، ولا يصح ذلك لأن التماثل شرط، كتمر منزوع النوى بما نواه فيه. "ولا يجوز بيع رطب بيابس، كالرطب بالتمر، والعنب بالزبيب"، وبه قال سعد بن أبي وقاص وابن المسيب. وقال أبو حنيفة: يجوز، لأنه إما أن يكون جنساً فيجوز متماثلاً، وجنسين فيجوز. وعن سعد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: عن بيع الرطب بالتمر؟ (فقال: أينقص الرطب إذا يبس؟) قالوا: نعم. فنهى عن ذلك". 2 رواه مالك. ويجوز بيع دقيقه بدقيقه إذا استويا في النعومة، والمشهور عن الشافعي: المنع. وذكر القاضي: يباع وزناً بوزن، ولا وجه له. ولا يباع الدقيق بالسويق، وعنه: الجواز. ويجوز بيع الخبز بالخبز وزناً، إذا تساويا في النشافة والرطوبة، وقال مالك: إذا تحرى المماثلة فلا بأس. وعن أبي حنيفة: لا بأس قرصاً بقرصين. وقال الشافعي: لا يباع بعضه ببعض، إلا أن ييبس ويدق ويباع كيلاً، ففيه قولان. ويجوز بيع العصير بجنسه متماثلاً ومتفاضلاً بغير جنسه، وقال أصحاب الشافعي: لا يباع المطبوخ بجنسه، لأن النار تعقد أجزاءهما فتختلف. وإن باع   1 زيادة من المخطوطة. 2 الترمذي: البيوع (1225) , والنسائي: البيوع (4545) , وأبو داود: البيوع (3359) , وابن ماجة: التجارات (2264) , وأحمد (1/175, 1/179) , ومالك: البيوع (1316) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 عصير شيء من ذلك بتفله، فإن كان فيه بقية من المستخرج منه لم يجز، إلا على قولنا بجواز "مدّ عجوة". ويجوز بيع الرطب بالرطب، والعنب بمثله، في قول الأكثرين؛ ومنع منه الشافعي فيما يبس، فأما ما لا ييبس كالخيار، فعلى قولين. ولنا: أن نهيه عن بيع التمر بالتمر يدل على إباحة بيع كل واحد منهما بمثله. ويجوز بيع الدبس والخل، كل نوع بعضه ببعض متساوياً، قال أحمد في خل الدقل: يجوز بيع بعضه ببعض متساوياً، لأن الماء في كل واحد منهما غير مقصود. ولا يباع نوع بآخر، لأن في كل واحد منهما من غير جنسه يقلّ ويكثر، فيفضي إلى التفاضل. ولا يباع خل العنب بخل الزبيب، لانفراد أحدهما بما ليس من جنسه. ويجوز بيع خل الزبيب بعضه ببعض، كخل العنب وخل التمر. ويجوز بيع اللحم باللحم رطباً، وقال الخرقي: لا يجوز إلا إذا تناهى جفافه؛ وهذا مذهب الشافعي. وإذا جاز الرطب بالرطب، فهنا أولى، فأما رطبه بيابسه، ونيئه بمطبوخه، فلا يجوز. وقال القاضي: لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا بعد نزع العظام، كالعسل بمثله بعد التصفية. ولا يجوز بيع المحاقلة، وهو: الحب المشتد في سنبله، بجنسه، قال جابر: المحاقلة: أن يبيع الزرع بمائة فرق من الحنطة، وفسره أبو سعيد باستكراء الأرض بالحنطة. ولأنه بيع الحب بجنسه جزافاً من أحد الجانبين، فإن كان بدراهم أو دنانير جاز، وإن باعه بغير جنسه ففيه وجهان: أحدهما: يجوز، لقوله: "إذا اختلف الجنسان، فبيعوا كيف شئتم". والثاني: لا يجوز، لعموم الحديث. ولا بيع المزابنة، وهو: بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، إلا في العرايا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وقال أبو حنيفة: لا تحل، لعموم الحديث. قال ابن المنذر: الذي نهى عن المزابنة هو الذي أرخص في العرايا، وحديثهم في سياقه: "إلا العرايا"، وإنما تجوز بشروط خمسة: (أحدها) : أن تكون فيما دون خمسة أوسق، ولا خلاف أنه لا يجوز في زيادة عليها، وإنما تجوز فيما نقص عنها. وأما الخمسة فظاهر المذهب أنه لا يجوز فيها، وبه قال ابن المنذر. وقال مالك: يجوز، لأن في حديث زيد وسهل: "أنه رخص في العرايا مطلقاً، ثم استثنى ما زاد على الخمسة"، وشك الراوي في الخمسة، فبقي المشكوك فيه على الإباحة. ولنا: النهي عن المزابنة، ثم رخص في العرية فيما دون خمسة، وشك فيها، فتبقى على العموم في التحريم. وقولهم: أرخص فيها مطلقاً، فلم يثبت أن الرخصة المطلقة ثابتة سابقة على الرخصة المقيدة ولا متأخرة عنها؛ بل الرخصة واحدة، رواها بعضهم مطلقة وبعضهم مقيدة، فيصير القيد المذكور كأنه مذكور في الآخر، ولذلك تقيد فيما زاد على الخمسة، باتفاقنا. ولا يشتري أكثر من خمسة فيما زاد على صفقة من واحد وجماعة، وقال الشافعي: يجوز للرجل بيع حائطه كله عرايا، من واحد أو رجال، في عقود متكررة، لعموم حديث زيد، ولأن كل عقد جاز مرة جاز أن يتكرر. ولنا: عموم النهي عن المزابنة، استثنى منها ما ذكر؛ فما زاد يبقى على التحريم، ولأن ما لا يجوز العقد عليه مرة إذا كان نوعاً واحداً لا يجوز في عقدين، كالجمع بين الأختين. ولا تعتبر حاجة البائع، فلو باع رجل عرية من رجلين فيهما أكثر من خمسة أوسق جاز. وقال القاضي: لا يجوز، لما ذكرنا في المشتري. ولنا: أن المغلب في التجويز حاجة المشتري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 (الثاني) : أن يكون مشتريها محتاجاً إلى أكلها رطباً، فلا يجوز لغني، وهو أحد قولي الشافعي. وله قول: تباح مطلقاً، لأن كل ما بيع وقد جاز للمحتاج جاز للغني، كسائر البياعات، ولأن حديث أبي هريرة وسهل مطلقان. ولنا: حديث زيد بن ثابت، وإذا خولف الأصل بشرط، لم تجز مخالفة بدونه، ولا يلزم من إباحته للحاجة إباحته مع عدمها، كالزكاة للمساكين. ولو باعها لواهبها، تحرزاً من دخول صاحب العرية حائطه كمذهب مالك، أو لغيره، لم يجز. وقال ابن عقيل: يباح، ويحتمله كلام أحمد، لأن الحاجة وجدت من الجانبين. ولنا: حديث زيد: "شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي، ولا نقد بأيديهم يبتاعون رطباً، وعندهم فضول من التمر، فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر". والرخصة لمعنى خاص، فلا تجوز مع عدمه، ولأن في حديث زيد وسهل يأكلها أهلها رطباً، ولو جازت لتخليص المعرى لما شرط ذلك. (الثالث) : ألا يكون للمشتري نقدٌ يشتري به، للخبر المذكور. (الرابع) : أن يشتريها بخرصها من التمر، ويجب أن يكون التمر معلوماً بالكيل لا جزافاً، لا نعلم خلافاً في هذا عند من أباح بيع العرايا، لقوله: "تباع بخرصها كيلاً"، 1 ومعناه: أن ينظر الخارص إلى العرية كم تجيء من التمر، فللمشتري بمثله؛ وبها قال الشافعي. ونقل حنبل: بخرصها رطباً ويعطى تمراً، وهذا يحتمل الأول، ويحتمل أن يشتريها بتمر مثل الرطب الذي عليها؛ قال القاضي: والأول أصح، لأنه يبتني على خرص الثمار في العشر، والصحيح: ثم خرصه تمراً، ولأن المماثلة معتبرة حالة الادخار، وبيع الرطب بمثله تمراً يفضي إلى فوات ذلك. وإن اشتراها بخرصها رطباً، لم يجز، وهذا أحد الوجوه لأصحاب   1 البخاري: البيوع (2191) , وأبو داود: البيوع (3363) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 الشافعي. والثاني: يجوز. والثالث: لا يجوز مع اتفاق النوع. ووجه جوازه: ما روى الجوزجاني عن زيد، مرفوعاً: "أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو التمر". 1 ولنا: ما روى مسلم عنه: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرايا، تؤخذ بمثل خرصها تمراً". 2 وحديثهم شك في الرطب أو التمر، فلا يجوز مع الشك. (الخامس) : التقابض في المجلس، لا نعلم فيه مخالفاًً، ولا يشترط فيها أن تكون موهوبة لبائعها، وبه قال الشافعي. وقال مالك: بيع العرايا الجائز: أن يعري الرجل النخلات من حائطه، ثم يكره صاحب الحائط دخوله حائطه، لأنه ربما كان مع أهله في الحائط، فيجوز أن يشتريها. واحتجوا بأن العرية في اللغة هبة ثمرة النخل عاماً، قال أبو عبيد: الإعراء أن يجعل الرجل للرجل ثمرة نخلة عامها ذلك، فتعين صرف اللفظ إلى موضوعه في اللغة ما لم يوجد ما يصرفه. ولنا: حديث زيد، وهو حجة على مالك، لتصريحه في جواز بيعها من غير الواهب، ولأنه لو كان لحاجة الواهب لما اختص بخمسة أوسق. وفيه حجة على أن من اشترط كونها موهوبة لبائعها، لأن العلة حاجة المشتري، ولأن اشتراط ذلك مع حاجة المشتري إلى أكلها رطباً ولا ثمن معه يفضي إلى سقوط الرخصة، إذ لا يكاد يتفق ذلك، ولا يجوز في سائر الثمار في أحد الوجهين. وقال القاضي: يجوز في سائر الثمار، وهو قول مالك والأوزاعي، ويحتمل أن يجوز في العنب دون غيره، وهو قول الشافعي. ووجه الأولى: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة، التمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا فإنه أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل ثمرة بخرصه"، 3 وهذا حديث حسن رواه الترمذي، وهو يدل على تخصيصها   1 مسلم: البيوع (1539) , والنسائي: البيوع (4540) , وابن ماجة: التجارات (2269) . 2 البخاري: البيوع (2188) , ومسلم: البيوع (1539) , والترمذي: البيوع (1300, 1302) , والنسائي: البيوع (4536, 4538, 4539) , وابن ماجة: التجارات (2268) . 3 مسلم: البيوع (1540) , والترمذي: البيوع (1303) , والنسائي: البيوع (4543, 4544) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 بالتمر. وعن زيد بن ثابت عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه أرخص بعد ذلك في بيع العرية بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غير ذلك". (فصل) : ولا يجوز بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض، ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما، كمد عجوة ودرهم، بمدين، أو بدرهمين، أو بمد ودرهم. وعنه: يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه، هذه تسمى "مدّ عجوة". وظاهر المذهب: أنه لا يجوز، نص عليه أحمد في مواضع. روي عن سالم والقاسم وبه قال الشافعي. وقال حرب: قلت لأحمد: دفعت ديناراً كوفياً ودرهماً، وأخذت ديناراً شامياً، وزنهما سواء، قال: لا يجوز، إلا أن ينقص الدينار فيعطيه بحسابه فضة. وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن: الدراهم بعضها صفر وبعضها فضة بالدراهم؟ فقال: لا أقول فيه شيئاً. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: يجوز بما ذكرنا من على الشرط، وقال الحسن: "لا بأس ببيع السيف المحلى بالفضة بالدراهم"، وبه قال الشعبي والنخعي، واحتجوا بأن العقد إذا أمكن حمله على الصحة لم يحمل على الفساد، وقد أمكن جعل الجنس في مقابلة غير الجنس، أو جعل غير الجنس في مقابلة الزائد على المثل. ولنا: ما روى فضالة قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو بسبعة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا، حتى تميز بينهما. قال: فردّه حتى ميز بينهما". 1 رواه أبو داود. ولمسلم: "أمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال: الذهب بالذهب، وزناً بوزن"، 2 ولأن العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس، وجب أن ينقسم أحدهما على الآخر على قدر قيمة الآخر في نفسه، فإذا فعلنا ذلك فيمن باع   1 أبو داود: البيوع (3351) . 2 مسلم: المساقاة (1588) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 درهماً ومداً قيمته درهماً بمدين قيمتهما ثلاثة، حصل الدرهم في مقابلة ثلثي مد، والمد الذي مع الدرهم في مقابلة مد وثلث، هذا إذا تفاوتت القيم، ومع التساوي بجهل ذلك، لأن التقويم ظن، والجهل بالتساوي كالعلم بعدمه. وإن باع نوعي جنس بنوع واحد منه، كدينار قراضة وصحيح بصحيحين، أو حنطة حمراء وسمراء ببيضاء، صح، أومأ إليه أحمد؛ وهو مذهب مالك والشافعي، لأن العقد يقتضي انقسام الثمن على عوضه على حسب اختلافه في قيمته، وروي عن أحمد منعه في النقد، لأن الأنواع في غير الأثمان يكثر اختلاطها، فعفي عنها. ولنا: قوله: "الذهب بالذهب، مثلاً بمثل. .. إلخ"، 1 وهذا يدل على الإباحة عند وجود المماثلة. وإن باع جنساً فيه الربا بجنسه، ومع كل واحد من غير جنسه غير مقصود، فعلى أقسام: أحدها: أن يكون غير المقصود يسيراً لا يؤثر في كيل ولا وزن، كالملح في الخبز، وحبات الشعير في الحنطة، فلا يمنع، لأنه لا يخل بالتماثل. ولو باع ذلك بجنس غير مقصود الذي معه، كخبز بملح جاز. الثاني: أن يكون غير المقصود كثيراً، إلا أنه لمصلحة المقصود، كالماء في الخل، فيجوز بيعه بمثله، ويستنزل خلطه منزلة رطوبته، كالرطب بالرطب. ومنع الشافعي ذلك كله، إلا الشيرج بالشيرج، لكون الماء لا يظهر فيه. الثالث: أن يكون غير المقصود كثيراً أو ليس من مصلحته، كاللبن المشوب بالماء بمثله، والأثمان المغشوشة بغيرها، فلا يجوز بيع بعضها ببعض، لأن خلطه ليس من مصلحته، وهو يخل بالتماثل. وإن باعه بجنس غير مقصود كبيع الدينار المغشوش بالفضة بالدراهم، احتمل الجواز، لأنه يبيعه بجنس غير مقصود فيه، فأشبه بيع اللبن بشاة فيها لبن. ويحتمل المنع بناء على الوجه   1 البخاري: البيوع (2176) , والترمذي: البيوع (1241) , والنسائي: البيوع (4570) , وأحمد (3/47, 3/53, 3/58, 3/73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 الآخر في الأصل. ولو دفع درهماً وقال: أعطني بنصفه نصف درهم، وبنصفه الآخر فلوساً، جاز. والمرجع في الكيل والوزن إلى عرف أهل الحجاز في زمنه صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حنيفة: الاعتبار في كل بلد بعادته. (فصل) : ومتى كان أحد العوضين ثمناً والآخر مثمناً، جاز النسأ فيهما بغير خلاف، وإلا فكل شيئين يجري فيهما الربا بعلة واحدة، يحرم بيع أحدهما بالآخر نسيئة، بغير خلاف نعلمه عند من يعلل به. وإن تفرقا قبل التقابض بطل العقد، وقال أبو حنيفة: لا يشترط التقابض في غير النقدين، لأن ما عداهما ليس بأثمان، كبيعه بأحد النقدين. ولنا: قوله: "يداً بيد". وإن باع مكيلاً بموزون، كاللحم بالبرّ، جاز التفرق قبل القبض، وفي النسإ روايتان؛ هذا ذكره أبو الخطاب، وقال: هو رواية واحدة، لأن العلة مختلفة فجاز التفرق، كالثمن والمثمن. ويحتمل كلام الخرقي وجوب التقابض، وفي النسإ روايتان: إحداهما: لا يجوز، لأنهما من أموال الربا كالمكيل بالمكيل. والثانية: يجوز، وهو قول النخعي، لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي العلة؛ وعند من يعلل بالطعم: لا يجيزه هنا. وما لا يدخله ربا الفضل، كالثياب والحيوان، فيه أربع روايات: إحداهن: لا يحرم النسأ فيه، لما روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشاً، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة"، 1 فعليها تحريم النسإ للوصف الذي مع الجنس، أما الكيل أو الوزن أو الطعم عند من يعلل به، [فيختص تحريم النسإ بالمكيل والموزون] 2. الثانية: يحرم النسأ في كل مال بيع بمال آخر، سواء كان من جنسه أو لا، لحديث سمرة: "نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة". 3 قال الترمذي: حديث صحيح، فتكون علة النسإ: المالية.   1 أبو داود: البيوع (3357) . 2 زيادة من الأصل. 3 الترمذي: البيوع (1237) , والنسائي: البيوع (4620) , وأبو داود: البيوع (3356) , وابن ماجة: التجارات (2270) , وأحمد (5/12, 5/19, 5/21, 5/22) , والدارمي: البيوع (2564) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 قال القاضي: فعليها، لو باع عرضاً بعرض ومع أحدهما دراهم، العروض نقد والدراهم نسيئة، جاز. وإن كان بالعكس لم يجز، لأنه يفضي إلى النسيئة في العروض. قال شيخنا: وهذه الرواية ضعيفة جداً، لأنه إثبات حكم يخالف الأصل بغير نص ولا إجماع ولا قياس صحيح، لأن في المحل المجمع عليه أو المنصوص عليه أوصافاً لها أمر في تحريم الفضل، فلا يجوز حذفها، وما هذا سبيله لا يجوز إثبات الحكم فيه، وإن لم يخالف أصلاً، فكيف مع مخالفة الأصل في حل البيع. والحديث من رواية الحسن عن سمرة، وأبو عبد الله لا يصحح سماعه منه. الثالثة: يحرم النسأ في كل مال بيع بجنسه، كالحيوان بالحيوان، ولا يحرم في غيره؛ وهذا مذهب أبي حنيفة. ويروى كراهة بيع الحيوان بالحيوان نسيئة عن ابن الحنفية وابن سيرين وغيرهما، لأن الجنس أحد وصفي العلة. الرابعة: لا يحرم إلا فيما بيع بجنسه متفاضلاً، لما روى جابر، رفعه: " الحيوان اثنين بواحد لا يصلح نسأ، ولا بأس به يداً بيد"، 1 قال الترمذي: حديث حسن، ولأحمد عن ابن عمر: "أن رجلاً قال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس؟ " 2 الحديث، والرواية الأولى أصح لموافقتها الأصل، والأحاديث المخالفة لها فقد قال أحمد: ليس فيها حديث يعتمد عليه، ويعجبني أن يتوقاه. وإن كان أحد المبيعين لا ربا فيه والآخر فيه ربا، كالمكيل بالمعدود، ففي تحريم النسإ فيهما روايتان. ولا يجوز بيع الكالئ بالكالئ، وهو بيع الديْن بالديْن. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا، أن الصرف فاسد، ويجزئ القبض في المجلس وإن طال، ولو تماشيا مصطحبين؛ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. وقال مالك:   1 الترمذي: البيوع (1238) , وابن ماجة: التجارات (2271) , وأحمد (3/310, 3/380, 3/382) . 2 أحمد (2/109) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 لا خير في ذلك، لأنهما فارقا مجلسهما. ولنا: أنهما لم يفترقا، وقد دل عليه حديث أبي برزة في اللذيْن مشيا إليه قال: "ما أراكما افترقتما". وإن قبض البعض ثم افترقا، بطل في الجميع، وفيما لم يقبض، بناء على تفريق الصفقة. وإن تقابضا ثم افترقا، فوجد أحدهما عيباً فردّه، بطل العقد؛ هذا إن كان فيه عيب من غير جنسه، وإن كان منه، فتذكره. والرواية الأخرى: لا يبطل، لأن قبض عوضه في مجلس الرد يقوم مقام قبضه. وإذا اشترى من رجل ديناراً صحيحاً بدراهم وتقابضا، ثم اشترى منه بالدراهم قراضة من غير مواطأة ولا حيلة، فلا بأس. قال أحمد: بيعها من غيره أحب إلي. قيل له: فإن لم يعلمه أنه يريد بيعها منه؟ قال: يبيعها من غيره، فهو أطيب لنفسه، وأحرى أن يستوفي الذهب منه، فإنه إذا ردها إليه لعله ألا يوفيه الذهب. ولا يحكم الوزن ولا يستقصي، يقول: هي رجع إلي. قيل له: فذهب ليشتري الدراهم بالذهب الذي أخذها منه من غيره، فلم يجدها فرجع إليه. قال: إذا كان لا يبالي اشتراها منه أو من غيره، فنعم. وقال مالك: إن فعل ذلك مرة جاز، وإن فعله أكثر من مرة لم يجز، لأنه يضارع الربا. ولنا: حديث بلال، ولم يأمره أن يبيع من غير من يشتري منه، ولأن ما جاز من التبايعات مرة جاز على الإطلاق. وإن تواطآ على ذلك لم يجز، وكان حيلة محرمة، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز ما لم يكن مشروطاً في العقد. و (الصرف) قسمان: أحدهما: عين بعين. الثاني: أن يقع على موصوف نحو: بعتك ديناراً مصرياً بعشرة دراهم ناصرية، وقد يكون أحدهما معيناً، وكل ذلك جائز. فإن تبايعا عيناً بعين، ثم تقابضا فوجد أحدهما عيباً، فإن كان غشاً من غير جنسه كالنحاس في الدراهم، فالصرف باطل. وذكر أبو بكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 ثلات روايات: هذه إحداها. والثانية: صحيح، وللمشتري الخيار والرد وأخذ البدل. والثالثة: يلزمه العقد ولا رد ولا بدل. ولنا: أنه باعه غير ما سمى فلم يصح، واللزوم لا يصح، لأنه اشترى معيباً لم يعلمه، فلا يلزمه بغير أرش. وإن كان العيب من جنسه، كالسواد في الفضة، فيصح، ويخيّر بين الإمساك والرد. وإن قلنا: إن النقد لا يتعين بالتعيين، فله أخذ البدل ولا يبطل العقد ولو أراد أخذ الأرش، والعوضان من جنس واحد لم يجز بحصول الزيادة، وإن كان بغير جنسه فله أخذه في المجلس. وإن كان بعد التفرق لم يجز، إلا أن يجعلا الأرش من غير جنس الثمن، كأخذ أرش عيب الفضة حنطة فيجوز. وكذلك الحكم في سائر أحوال الربا، لأنه لم يحصل التفرق قبل قبض ما شرط فيه القبض. وإن تلف العوض في الصرف بعد القبض، ثم علم عيبه، فسخ ورد الموجود، ويبقى قيمة المعيب في ذمة من تلف في يده، سواء كان الصرف بجنسه أو غيره. قال ابن عقيل: وروي عن أحمد جواز أخذ الأرش، والأول أولى، إلا أن يكونا في المجلس والعوضان من جنسين. وإن تصارفا في الذمة صح، إذا تقابضا قبل الافتراق، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وعنه: لا يجوز حتى يظهر أحد العينين وتعيّن، لقوله: "ولا تبيعوا غائباً بناجز"، 1 ولأنه بيع دين بدين. ولنا: أنهما تقابضا في المجلس، فالحديث يراد به ألا يباع عاجل بآجل، أو مقبوض بغير مقبوض، بدليل ما لو عيّن أحدهما فإنه يصح. وإن وجد أحدهما عيباً قبل التفرق، فله المطالبة بالبدل، سواء كان العيب من جنسه أو لا، لأن العقد وقع على مطلق لا عيب فيه. وإن رضيه بعيبه وهو من جنسه جاز. وإن اختار الأرش والعوضان من جنس جاز. وإن افترقا والعيب من جنسه، فله إبداله، في إحدى الروايتين؛ روي عن الحسن   1 البخاري: البيوع (2177) , ومسلم: المساقاة (1584) , والترمذي: البيوع (1241) , والنسائي: البيوع (4571) , وأحمد (3/4, 3/51, 3/53, 3/61, 3/73) , ومالك: البيوع (1324) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وقتادة. والثانية: ليس له ذلك. ومن نصر الأول قال: قبض الأول صح به العقد، والثاني بدل عن الأول. ويشترط أخذ البدل في مجلس الرد، وإلا بطل العقد. وإن وجد في البعض، فعلى الأولى له البدل، وعلى الثانية يبطل في المردود، وفيما لم يردّ على وجهين، بناء على تفريق الصفقة. وإن اختار الفسخ، فعلى قوله البدل: لا فسخ له إن أبدله، وعلى الأخرى: له الفسخ والإمساك في الجميع. وإن اختار الأرش بعد التفرق، لم يكن له ذلك، ويجوز على الرواية الأخرى. وإذا كان لرجل في ذمة آخر ذهب، وللآخر عليه دراهم، فاصطرفا، لم يصح؛ وبه قال الشافعي، لأنه بيع ديْن بديْن. وحكى ابن المنذر الإجماع على أنه لا يجوز. قال أحمد: إنما هو إجماع. وحكى ابن عبد البر عن مالك وأبي حنيفة: جوازه، لأن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة. ولو كان لرجل على رجل دنانير، فقضاه دراهم شيئاً بعد شيء، فإن كان يعطيه كل يوم درهماً بحسابه من الدينار صح، نص عليه. ويجوز اقتضاء أحد النقدين عن الآخر، ويكون صرفاً بعين وذمة، في قول الأكثرين. ومنع منه ابن عباس وغيره. ولنا: حديث ابن عمر، وفيه: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تتفرقا وبينكما شيء". 1 قال أحمد: إنما يقضيه إياها بالسعر، لم يختلفوا، إلا ما قال أصحاب الرأي: أنه يقضيه مكانها ذهباً على التراضي، لأنه بيع في الحال، فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس، كما لو كان العوض عرضاً. ولنا: قوله: "بسعر يومها "، ولأنه جرى مجرى القضاء فتقيد بالمثل، والتماثل هنا بالقيمة لتعذره بالصورة. قيل لأبي عبد الله: فإن أهل السوق يتغابنون بالدانق في الدينار وما أشبهه، فسهل فيه   1 النسائي: البيوع (4582) , وأبو داود: البيوع (3354) , وأحمد (2/139, 2/154) , والدارمي: البيوع (2581) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 ما لم يكن حيلة. فإن كان الذي في الذمة مؤجلاً، فقد توقف أحمد فيه، ومنعه مالك، لأنه غير مستحق القبض، فكان القبض ناجزاً في أحدها والتأخير يأخذ قسطاً من الثمن. والثاني: الجواز، وهو قول أبي حنيفة، لأن ما في الذمة بمنزلة المقبوض، فكأنه رضي بتعجيل المؤجل، وهذا الصحيح إذا قضى بسعر يومها ولم يجعل للمقتضي فضلاً لأجل تأجيل ما في الذمة، ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر حين سأله. ولو كان له عند رجل دينار وديعة، فصارفه به، وهو معلوم بقاؤه أو مظنون، صح. وإذا عرفا وزن العوضين، جاز أن يصطرفا بغير وزن. وكذلك لو أخبر أحدهما الآخر بوزن ما معه فصدّقه، فإن وجد أحدهما نقصاً بطل. والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين، فلا يجوز إبدالها. وإن خرجت مغصوبة، بطل العقد؛ وبه قال مالك والشافعي. وعن أحمد: أنها لا تتعين، فيجوز إبدالها، وهذا مذهب أبي حنيفة. فعلى الأول، إن وجدها معيبة، خُيّر بين الإمساك والرد. وفي إنفاق المغشوش من النقود روايتان: أظهرهما: الجواز. ورواية المنع محمولة على ما يخفى غشه ويقع اللبس به. وقد أشار أحمد إلى هذا فقال في رجل اجتمعت عنده زيوف يسبكها، قيل: يبيعها بدينار؟ قال: لا. قيل: يبيعها بفلوس؟ قال: أخاف أن يغرّ بها مسلماً. فقد صرح بأنه إنما كرهه للتغرير، وعليه يحمل منع عمر بيع نفاية بيت المال. فإن قيل فقد روي عن عمر: "من زافت دراهمُه فليخرج بها إلى البقيع، فيشتري بها سحق الثياب"، قلنا: قد قال أحمد: معنى: زافت أي: نفيت، ليس أنها زيوف؛ ويتعين حمله عليه، جمعاً بين الروايتين. ولا يجوز بيع تراب الصاغة والمعدن بشيء من جنسه. وإن كان بغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 جنسه، فقد حكى ابن المندر عن أحمد: كراهة بيع تراب المعادن، وهو قول عطاء والشعبي والشافعي، لأنه مجهول. وقيل: يجوز، وهو قول مالك، روي ذلك عن الحسن والنخعي. والحيل كلها محرمة، قال أيوب السختياني: إنهم ليخادعون الله كما يخادعون صبياً، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون عليّ. وقال أبو حنيفة والشافعي: هذا جائز إذا لم يشرط في العقد. ولنا: أن الله عذب أمة بحيلة احتالوها، وجعل ذلك موعظة للمتقين ليتعظوا بهم. وإن اشترى شيئا بمكسرة، لم يجز أن يعطيه صحيحا أقل منها، قال أحمد: هذا الربا المحض. ويحرم الربا بين المسلم والحربي، وبين المسلمين في دار الحرب. وقال أبو حنيفة: لا يحرم بين مسلم وحربي في دار الحرب، وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب: لا ربا بينهما، لما روى مكحول، رفعه: "لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب". ولنا: قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبا} ، والخبر مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك؛ ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة بخبر مجهول. وقولهم: إن مال أهل الحرب يباح، ينتقض بالحربي في دار الإسلام، فإن ماله يباح إلا ما حضره الأمان. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وجوز الشيخ بيع المصوغ المباح من النقدين بقيمته حالاً، وكذا جوزه نسأ، ما لم يقصد كونها ثمناً، قال: وإنما خرج عن القيمة بالصنعة، فليس بربوي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وإلا فجنس بنفسه، فيباح خبز بهريسة. وجوز أيضاً بيع موزون ربوي بالتحري للحاجة. وعلى المذهب، يجوز التفاضل فيما لا يوزن لصناعة، كالمعمول من الذهب والفضة، والصفر والحديد، وكالمعمول من الموزونات كالخواتم والسكاكين ونحو ذلك، اختاره الشيخ. وبيع فلس بفلسين فيه روايتان: إحداهما: لا يجوز، نص عليه في رواية جماعة. والثانية: يجوز. فعليها، لو كانت نافقة هل يجوز؟ على وجهين. وجزم أبو الخطاب في خلافه الصغير: بأنها مع نفاقها لا تباع بمثلها إلا مماثلة، معللاً بأنها أثمان، ثم حكى الخلاف في معمول الحديد. وعنه: يجوز بيع ثوب بثوبين يداً بيد، وأصله الوزن، ولم يراع أصله. ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزناً ... إلخ، وقال الشيخ: إن بيع المكيل بجنسه وزناً، ساغ. وذكر في الفروع عنه: جواز بيع مكيل وزناً وموزون كيلاً. ولا يصح بيع لحم حيوان ... إلخ، وقال الشيخ: يحرم إذا كان الحيوان مقصود اللحم، وإلا فلا. ولا يجوز في غير التمر، يعني: العرايا، إلا أن الشيخ جوز ذلك في الزرع. وخرج أيضاً جواز الخبز الطري باليابس في برية الحجاز ونحوها، وبيع الفضة الخالصة بالمغشوش نظراً للحاجة. ولا يجوز بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما، وعنه: يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه، اختاره الشيخ في موضع من كلامه. فعليها، يشترط ألا يكون حيلة، نص عليه في رواية حرب، وعنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 رواية ثالثة: يجوز إذا لم يكن الذي معه مقصوداً كالسيف المحلى، اختاره الشيخ. فعلى المذهب: يكون من باب توزيع الأفراد على الجمل، وتوزيع الجمل على الجمل. وعلى الثانية: يكون من باب توزيع الأفراد على الأفراد. ولو صرف الفلوس النافقة بذهب أو فضة لم يجز النسأ، نص عليه. ونقل ابن المنصور: الجواز، اختاره الشيخ. وما لا يدخله ربا الفضل كالثياب يجوز النسأ، فيه سواء بيع بجنسه أو بغيره، متساوياً أو متفاضلاً. وعنه: لا يجوز النسأ في كل مال بيع بآخر؛ فعليها، علة النسإ: المالية. وعنه رواية ثالثة: لا يجوز في الجنس الواحد، كالحيوان بالحيوان. وعنه رواية رابعة: يجوز النسأ إلا ما بيع بجنسه متفاضلاً، اختاره الشيخ. ولو كان لكل واحد دْين على صاحبه من غير جنسه، وتصارفا ولم يحضرا شيئاً، فإنه لا يجوز سواء كانا حالين أو مؤجلين، واختار الشيخ الجواز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 باب بيع الأصو ول الأثمان ... باب بيع الأصول والثمار وإن ظهر في الأرض معدن لا يعلم به البائع، فله الخيار. وروي: "أن ولد بلال بن الحارث باعوا عمر بن عبد العزيز أرضاً، فظهر فيها معدن، فقالوا: إنما بعنا الأرض ولم نبع المعدن. وأتوا عمر بالكتاب الذي فيه قطيعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيهم، فأخذه وقبله، وردّ عليهم المعدن". وعن أحمد: إذا ظهر المعدن في ملكه، ملكه. وظاهره أنه لم يجعله للبائع، ولا جعل له خياراً. وإن كان في الأرض زرع لا يحصد إلا مرة كالبر، فهو للبائع يبقى إلى الحصاد، إلا أن يشترطه المبتاع. ولا يضر جهله وعدم كماله، كما لو اشترى شجرة فاشترط ثمرتها بعد تأبيرها. وإن أطلق البيع، فهو للبائع، لا أعلم فيه مخالفاًً. ومتى حصد الزرع وبقيت له عروق تستضر بها الأرض، فعلى البائع إزالتها، وكذلك كل نقص دخل على ملك شخص لاستصلاح ملك آخر من غير إذن الأول، ولا فعل صدر عنه النقص وأسند إليه، كان الضمان على مُدخل النقص. ومن باع نخلاً مؤبراً وهو ما تشقق طلعه، فالثمر للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع. والإبار: التلقيح، إلا أنه لا يكون حتى يتشقق، فعبر به عن ظهور الثمرة، وهذا قول الأكثر. وحكى ابن أبي موسى رواية عن أحمد: أنه إذا تشقق ولم يؤبر، أنه للمشتري، لظاهر الحديث. فإن أُبر بعضه، فما أُبر للبائع وما لم يؤبَّر للمشتري، نص عليه. وقال ابن حامد: الكل للبائع، وهو مذهب الشافعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 ولا يجوز بيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها، ولا الزرع قبل اشتداد حبه، إلا بشرط القطع في الحال، لما روى مسلم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة. نهى البائع والمشتري". 1 قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً يعدل عن القول به. ولا يجوز بيع الرطبة والبقول إلا بشرط جزه، ولا القثاء ونحوه إلا لقطة لقطة إلا أن يبيع أصله. ورخص مالك في شراء جزتين وثلاث. وإن باع ثمرة شيء من هذه البقول كالقثاء والباذنجان، لم يجز إلا أن يبيع الموجود منها دون المعدوم. وقال مالك: يجوز بيع الجميع، لأنه يشق تمييزه، فجعل ما لم يظهر تبعاً لما ظهر، كما أن ما لم يبد صلاحه تبع لما بدا. ولا يجوز بيع ما المقصود منه مستور في الأرض كالبصل حتى يقلع، وأباحه مالك وإسحاق، لأن الحاجة تدعو إليه، أشبه ما لم يبد صلاحه. ولنا: النهي عن بيع الغرر. والحصاد واللقاط على المشتري، وكذلك الجذاذ، وفارق الكيل والوزن، لأنهما من مؤنة التسليم، وهنا حصل بالتخلية، ولا نعلم فيه مخالفاًً. وبيع الثمرة قبل الصلاح مع الأصل جائز بالإجماع. وإن باعها منفردة لمالك الأصل ففيه وجهان: أحدهما: يصح وهو المشهور عن مالك. والثاني: لا يصح، لأنها تدخل في عموم النهي، بخلاف بيعهما معاً فإنه مستثنى بالخبر. وإذا باع الزرع الأخضر مع الأرض جاز، وإن باعه لمالك الأرض منفرداً فوجهان. وإذا اشترى قصيلا من شعير ونحوه، فقطعه ثم نبت، فهو لصاحب الأرض، لأن المشتري ترك الأصول على سبيل الرفض لها. ولو سقط من الزرع حب ثم نبت من العام المقبل، فلصاحب الأرض، نص أحمد على المسألتين.   1 مسلم: البيوع (1535) , والترمذي: البيوع (1227) , وأبو داود: البيوع (3368) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 فإن باعها بشرط القطع، ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح، أو طالت الجزة، أو حدثت ثمرة أخرى فلم تميز، أو اشترى عرية ليأكلها رطباً فأتمرت، بطل البيع. وعنه: لا يبطل، ويشتركان في الزيادة. وعنه: يتصدقان بها. ويجوز لمشتري الثمرة بيعها في شجرها، روي ذلك عن الزبير والحسن، و"كرهه ابن عباس لأنه بيع قبل القبض". وإن تلفت بجائحة من السماء، رجع على البائع؛ وهو قول أكثر أهل المدينة. وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد: هو من ضمان المشتري. قال الشافعي: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، ولو ثبت لم أعده، ولو كنت قائلاً بوضعها لوضعتها في القليل والكثير. قلنا: الحديث ثابت رواه مسلم وغيره، وحديثهم لا حجة لهم فيه، فإن فعل الواجب خير، فإذا تألى ألا يفعل الواجب فقد تألى ألا يفعل خيراً، وإنما لم يخّيره لأنه يخيّر لمجرد قول المدعي. والجائحة: كل آفة لا صنع لآدمي فيها، وما كان بفعل آدمي فقال القاضي يخّير المشتري فيها بين الفسخ ومطالبة البائع، وبين البقاء ومطالبة الجاني. فإن قيل: فقد نهي عن ربح ما لم يضمن، وإذا كانت القيمة أكثر من الثمن فقد ربح فيه، قلنا: النهي عن الربح بالبيع بدليل أن المكيل لو زادت قيمته قبل قبضه ثم قبضه جاز إجماعاً، وظاهر المذهب: أنه لا فرق بين القليل والكثير، إلا ما جرت العادة بتلف مثله. قال أحمد: لا أدري ما الثلث، ولكن إذا كانت الجائحة تستغرق الثلث أو الربع أو الخمس توضع. وعنه: ما دون الثلث من ضمان المشتري، وهو مذهب مالك، لأنه لا بد أن يأكل الطائر وتنثر الريح، فحد بالثلث لاعتبار الشارع له في الوصية، وعطية المريض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 قال أحمد: إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة. وإن استأجر أرضاً فزرعها فتلف الزرع، فلا شيء على المؤجر، نص عليه، ولا نعلم فيه خلافاً، كدار استأجرها ليقصر الثياب فيها، فتلفت الثياب فيها. وصلاح بعض الثمرة في الشجرة صلاح لجميعها، لا نعلم فيه خلافا، وهل يكون صلاحاً لسائر النوع الذي في البستان؟ على روايتين. وقال محمد بن الحسن: ما كان متقارب الإدراك فبدو صلاح بعضه يجوز به بيع جميعه، وما تأخر تأخراً كثيراً، فلا يجوز في الباقي. وبدو الصلاح في النخل أن يحمر أو يصفر، وفي العنب أن يتموّه، وفي سائر الثمرات أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله. ومن باع عبداً وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، رواه مسلم. فإن كان قصده المال، اشترط علمه وسائر شروط البيع. وإن لم يكن قصده المال لم يشترط علمه. قال أحمد في رجل اشترى أمة معها قناع فاشترطه، وظهر على عيب وقد تلف القناع: غرم قيمته بحصته من الثمن. وإن كان عليها ثياب، فقال أحمد: ما كان للجمال فهو للبائع، وأما للبس المعتاد فهو للمشتري. وقال ابن عمر: "من باع وليدة زينها بثياب، فللذي اشتراها ما عليها، إلا أن يشترطه الذي باعها"، وبه قال الحسن والنخعي. ولنا: الخبر المذكور. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": مرافق الأملاك، كالطرق والأفنية ومسيل الماء ونحوها، هل هي مملوكة أو يثبت فيها حق الاختصاص؟ فيه وجهان: أحدهما: ثبوت حق الاختصاص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 من غير ملك، جزم به القاضي، ودل عليه نصوص أحمد. ولو باع قرية لم تدخل مزارعها إلا بذكرها، قال المصنف وغيره: أو قرينة. قلت: وهو الصواب. قوله: ومن باع نخلاً مؤبراً، وهو ما تشقق ... إلخ، وعنه: أن الحكم منوط بالتأبير، لا بالتشقق، نصرها الشيخ واختارها. وإذا باعه ولم يشترط القطع، لم يصح، وعنه: يصح إن قصد القطع، ويلزم به في الحال. وقال الشيخ: يجوز بيع اللقطة الموجودة والمعدومة إلى أن تيبس المقثاة. وقال: يجوز بيع المقاثي دون أصولها. وعن أحمد: لا جائحة في غير النخل، واختار الشيخ ثبوت الجائحة في زرع مستأجر، وحانوت نقص نفعه عن العادة، وحكم به أبو الفضل بن حمزة في حمام. وقال الشيخ: قياس نصوصه إذا عطل نفع الأرض بآفة، انفسخت فيما بقي، كانهدام الدار، وأنه لا جائحة فيما تلف من أجناسه، فيتبع الجوز التوت، والعلة: عدم اختلاف الأيدي على الثمرة، قال في الفروع: واختار شيخنا بقية الأجناس التي تباع عادة كالنوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 باب السلم قال ابن عباس: "أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحلّه الله في كتابه، وأذن فيه. ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} الآية 1". رواه سعيد. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السّلَم جائز، ولا يصح إلا بشروط سبعة: (أحدها) : أن يكون مما يمكن ضبط صفاته، كالمكيل والموزون والمزروع. وأجمعوا على أن السّلَم في الطعام جائز؛ فأما المعدود كالحيوان ونحوه، فعنه: لا يصح. قال عمر: "إن من الربا أبواباً لا تخفى، وإن منها السّلَم في السن"، ولأن الحيوان لا يمكن ضبطه. وعن أحمد: جوازه. قال ابن المنذر: وممن روينا عنه ذلك: ابن مسعود وابن عباس وابن عمر. فأما حديث عمر فلم يذكره أصحاب الاختلاف. ثم هو محمول على أنهم يشترطون من ضراب فحل بني فلان، قال الشعبي: "إنما كره ابن مسعود السلف في الحيوان"، لأنهم اشترطوا نتاج فحل معلوم، رواه سعيد. قال أحمد: لا أرى السلَم إلا فيما يُكال ويوزن أو يوقف عليه بحد، فأما الرمان والبيض فلا أرى السلَم فيه. ونقل ابن منصور جواز السلَم في الفواكه والخضروات، لأن كثيراً من ذلك يتقارب، وفي السلَم في الرؤوس من الخلاف ما ذكرناه، وكذلك الأطراف.   1 سورة البقرة آية: 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 ويصح في اللحم، لقوله: " في كيل معلوم " ظاهره: إباحته في كل موزون، ولا يصح فيما لا ينضبط كالجواهر. (الثاني) : أن يصفه بما يختلف به الثمن، فيذكر جنسه ونوعه وقدره وبلده وحداثته وقدمه وجودته ورداءته، وما لا يختلف به الثمن لا يحتاج إلى ذكر؛ وإن جاءه بجنس آخر لم يجز له أخذه، لقوله: "من أسلف في شيء، فلا يصرفه إلى غيره". 1 رواه أبو داود. وذكر ابن أبي موسى رواية: أنه يجوز أن يأخذ مكان البر شعيراً مثله. (الثالث) : أن يذكر قدره بالكيل في المكيل والوزن في الموزون والزرع في المزروع، ولا نعلم في اعتبار معرفة قدر السلَم فيه خلافاً. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلَم جائز في الثياب بزرع معلوم. فإن أسلم في المكيل وزناً والموزون كيلاً، لم يصح. ونقل المروذي عن أحمد: أن السلَم في اللبن يجوز إذا كان كيلاً أو وزناً، وهو قول الشافعي وابن المنذر. وقال مالك: ذلك جائز إذا كان الناس يبايعون التمر وزناً، وهذا الصحيح؛ وهذا يدل على إباحة السلَم في المكيل وزناً وفي الموزون كيلاً، ولأن الغرض معرفة قدره. ولا بد أن يكون المكيال معلوماً، فإن اشترط مكيالاً بعينه أو صنجة بعينها غير معلومة، لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلَم في الطعام لا يجوز بقفيز لا يعرف عياره، ولا في ثوب بذرع فلان، لأن المعيار لو تلف ومات فلان بطل السلم. وما عدا المكيل والموزون والحيوان، فعلى ضربين: معدود، وغيره. والمعدود نوعان: أحدهما: لا يتباين كثيراً، كالجوز والبيض فيسلم فيه عدداً، وقال الشافعي: لا يسلم فيهما عدداً. ولنا: أن التفاوت يسير. والثاني: ما يتفاوت، كالرمان   1 أبو داود: البيوع (3468) , وابن ماجة: التجارات (2283) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 والسفرجل فحكمه حكم ما ليس بمعدود من البطيخ والبقول، وفيه وجهان: أحدهما: يسلم فيه عدداً ويضبط بالصغر والكبر. والثاني: لا يسلم فيه إلا وزناً، وبه قال الشافعي. (الرابع) : أن يشترط أجلاً معلوماً له وقع في الثمن كالشهر ونحوه، فإن أسلم حالاً أو إلى أجل قريب كاليوم ونحوه، لم يصح. وقال الشافعي وابن المنذر: يجوز السلَم حالاً. ولنا: قوله: "إلى أجل معلوم"، فأمر بالأجل. فإن باعه ما يصح السلَم فيه حالاً في الذمة صح، ولكن يشترط أن يكون المبيع مملوكاً للبائع، فإن باعه ما ليس عنده لم يصح، إلا أن يسلم في شيء يأخذ منه كل يوم أجزاء معلومة فيصح. فأما إن أسلم إلى الحصاد والجذاذ، فعلى روايتين، قال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس؛ وبه قال مالك. وعن ابن عمر: "أنه كان يبتاع إلى العطاء". وعن ابن عباس أنه قال: "لا تبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تبايعوا إلا إلى شهر معلوم". فإن قيل: قد روي عن عائشة: "أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلي يهودي أن أبعث إليَّ بثوبين إلى الميسرة"، 1 قلنا: قال ابن المنذر: رواه حرمي بن عمارة، وقال أحمد: فيه غفلة، وهو صدوق. قال ابن المنذر: فأخاف أن يكون من غفلاته إذ لم يتابع عليه. ثم إنه لا خلاف أنه لو جعل الأجل إلى الميسرة لم يصح. وإذا جاءه بالسلَم قبل محله ولا ضرر فيه، قبضه وإلا فلا. وليس له إلا أقل ما يقع عليه الصفة. وعليه أن يسلم في الحبوب نقية، وإن كان فيها تراب لا يؤثر في الكيل ولا يعيب، لزمه أخذه. ولا يلزمه أخذ التمر إلا جافاً، ولا يلزمه أن يتناهى جفافه. (الخامس) : أن يكون المسلَم فيه عام الوجود في محله، لا نعلم فيه خلافاً، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يمكن تسليمه، فلا يصح، كبيع الآبق، بل أولى، لأن   1 الترمذي: البيوع (1213) , والنسائي: البيوع (4628) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 السلَم إذا أسلم في ثمرة بستان احتمل فيه أنواع من الغرر للحاجة، فلا يحتمل فيه غرر آخر لئلا يكثر. وقال ابن المنذر: إبطال السلَم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم. ولا يشترط وجود السلَم فيه حال العقد، بل يجوز أن يسلم في الرطب في أوان الشتاء. وقال الثوري وأصحاب الرأي: يشترط أن يكون جنسه موجوداً لأن كل زمان يجوز أن يكون محلاً لموت المسلَم إليه. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين ... إلخ"، 1 ولم يذكر الوجود، ولو كان شرطاً لذَكره ولنهاهم عن السلف سنين، لأنه يلزم منه انقطاع المسلَم فيه أوسط السنة. ولا نسلّم أن الديْن يحل بالموت، وإن سلّمنا فلا يشترط ذلك، إذ لو لزم أفضى إلى أن تكون آجال السلَم مجهولة. وإذا تعذر تسليم المسلَم فيه عند محله، إما لغيبة المسلَم إليه، أو عجز عن التسليم حتى عدم المسلَم فيه، أو لم تحمل الثمار تلك السنة، فالمسلم بالخيار بين الصبر وبين الفسخ، ويرجع بالثمن إن كان موجوداً أو بمثله إن كان مثلياً، وإلا فقيمته. وفيه وجه آخر: أنه ينفسخ بنفس التعذر. وإذا أسلم ذمي إلى ذمي في خمر، ثم أسلم أحدهما، فقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم: أن المسلم يأخذ دراهمه. (السادس) : أن يقبض رأس مال السلَم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل ذلك بطل؛ وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: يجوز أن يتأخر قبضه يومين أو ثلاثة وأكثر ما لم يكن شرطاً. وإن قبض بعضه، فهل يصح في المقبوض؟ على وجهين، بناء على تفريق الصفقة. وإن قبض الثمن فوجده رديئاً فرده، والثمن معيّن، بطل بردّه. فإن كان أحد النقدين، وقلنا يتعين بالتعيين، بطل. وإن كان في الذمة، فله إبداله في المجلس. وإن تفرقا ثم علم عيبه فردّه،   1 البخاري: السلم (2239, 2241, 2253) , ومسلم: المساقاة (1604) , والترمذي: البيوع (1311) , والنسائي: البيوع (4616) , وأبو داود: البيوع (3463) , وابن ماجة: التجارات (2280) , وأحمد (1/217, 1/222, 1/282, 1/358) , والدارمي: البيوع (2583) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 ففيه وجهان: أحدهما: يبطل. والثاني: لا، وهو قول أبي يوسف ومحمد وأحد قولي الشافعي، ولكن يشترط أن يقبض البدل في مجلس الرد. قال أحمد: إذا ظهرت الدراهم مسروقة، فليس بينهما بيع. وإن كان له في ذمة رجل دينار، فجعله سلماً في طعام إلى أجل، لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم. وروي عن ابن عمر أنه قال: "لا يصح ذلك". فإن اختلفا في المسلَم فيه، فقال أحدهما: في حنطة، وقال الآخر: في شعير، تحالفا وتفاسخا. وإن أسلم ثمناً واحداً في جنسين، لم يجز حتى يبيّن ثمن كل جنس. وقال مالك: يجوز. وللشافعي قولان. (السابع) : أن يسلم في الذمة، فإن أسلم في عين لم يصح، لأنه ربما تلف قبل تسليمه، ولأنه يمكن بيعه في الحال، فلا حاجة إلى السلَم فيه. ولا يشترط مكان الإيفاء، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يذكره، إلا أن يكون موضع العقد لا يمكن الوفاء فيه، فيشترط ذكره. ولا يجوز بيع المسلَم فيه قبل قبضه، بغير خلاف علمناه، "لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح ما لم يضمن"، 1 وكذلك التولية والشركة، في قول الأكثر. وحكي جوازها عن مالك. ولا يجوز هبته قياساً على البيع، ولا أخذ غيره مكانه؛ وبه قال الشافعي. وذكر ابن أبي موسى رواية فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل، فرضي أن يأخذ شعيراً مثله، جاز. وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلَم فيه يتعجله، ولا يتأجله إلى الطعام. قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس قال: "إذا أسلمت في شيء إلى أجل، فخُذ ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عرضاً أنقص منه، ولا تربح مرتين". رواه سعيد.   1 الترمذي: البيوع (1234) , والنسائي: البيوع (4631) , وأبو داود: البيوع (3504) , وابن ماجة: التجارات (2188) , وأحمد (2/174, 2/178, 2/205) , والدارمي: البيوع (2560) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 ويجوز بيع الديْن المستقر لمن هو في ذمته، بشرط أن يقبض عوضه في المجلس، ولا يجوز لغيره، لحديث ابن عمر: "كنا نبيع الإبل ... إلخ" فدل على جواز بيع ما في الذمة من أحد النقدين بالآخر، وغيره مقاس عليه. ودل على اشتراط القبض في المجلس قوله: "إذا تفرقتما وليس بينكما شيء ". وإن أعطاه مما يشترط فيه التقابض، مثل إن أعطاه عوض الحنطة شعيراً جاز، ولم يجز التفرق قبل القبض. وإن أعطاه مما لا يشترط فيه التقابض جاز التفرق قبل قبضه، كما لو قال: بعتك هذا الشعير بمائة درهم في ذمتك. ويحتمل أن لا يجوز، لأنه في الذمة، فلم يجز التفرق قبل القبض، كالسلم. وإن باع الديْن لغير من هو في ذمته لم يصح، قال أحمد: إذا كان لك على رجل طعام قرضاً، فبعْه من الذي هو عليه بنقد، ولا تبعْه من غيره بنقد ولا نسيئة. وإذا أقرضت رجلاً دراهم أو دنانير، فلا تأخذ من غيره عوضاً بما لك عليه. وقال الشافعي: إن كان على معسر أو مماطل لم يصح، وإن كان على مليء باذل، ففيه قولان: أحدهما: يصح، لأنها تباع بمال ثابت. ويشترط أن يشتري بعين أو يتقابضا في المجلس، لئلا يكون بيع ديْن بديْن. ولنا: أنه غير قادر على تسليمه، كبيع الآبق. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة، وأما الإقالة في البعض فاختلفت الرواية فيها. وإذا أقاله رد الثمن إن كان باقياً، وإلا مثله أو قيمته إن لم يكن مثلياً. ويشترط رده في المجلس كما يشترط في السلَم. وإن انفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فقال الشريف: لا يجوز له صرف ذلك الثمن في عقد آخر، وبه قال أبو حنيفة، وقال القاضي: يجوز أخذ العوض عنه، وهو قول الشافعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 فإن قلنا بهذا، لم يجعل في سلَم آخر، لأنه بيع ديْن بديْن. ويجوز فيه ما يجوز في القرض وأثمان البياعات إذا فسخت، ويأخذ أحد النقدين عن الآخر، ويقبضه في مجلس الإقالة. وإذا كان لرجل سلَم وعليه سلَم من جنسه، فقال لغريمه: اقبض سلَمي لنفسك ففعل، لم يصح، لأنه حوالة به ولا يجوز بالسلَم. وهل يقع قبضه للآمر؟ على روايتين، وإن قال: أنا أقبضه لنفسي وخذه بالكيل الذي تشاهده جاز في إحدى الروايتين. والثانية: لا يجوز، وهو مذهب الشافعي، "لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشتري". 1 وإن اكتاله وتركه في المكيال، وسلمه إلى غريمه، صح، لأنه لا معنى لابتداء الكيل هنا، لأنه لا يحصل به زيادة علم. وقال الشافعي: لا يصح، للحديث الذي ذكرناه. وهذا يمكن القول بموجبه لأن قبض المشتري له في المكيال جرى لصاعه فيه. وإن دفع زيد إلى عمرو دراهم فقال: اشتر لك بها مثل الطعام الذي لك عليّ، ففعل، لم يصح. وإن قال: اشتر لي بها طعاماً، ثم اقبضه لنفسك، ففعل، صح الشراء ولم يصح القبض لنفسه. وإن قال: اقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك، ففعل، صح؛ نص عليه. وقال أصحاب الشافعي: لا يصح، لأنه لا يكون قابضاً من نفسه لنفسه. وهل يجوز الرهن والكفيل بالمسلَم فيه، على روايتين: رويت الكراهة عن علي وابن عباس. وروى حنبل جوازه، وهو قول عطاء ومجاهد ومالك والشافعي، لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} 2 - إلى قوله - {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} . 3 وروي عن ابن عباس وابن عمر: " أن المراد به السلَم"، ولأن اللفظ عام فيدخل فيه السلَم. ووجه الأولى: أن الراهن والضمين إن أخذ برأس   1 ابن ماجة: التجارات (2228) . 2 سورة البقرة آية: 282. 3 سورة البقرة آية: 283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 المال فقد أخذ بما ليس بواجب، ولا مآله إلى الوجوب، لأن المسلَم إليه قد ملكه. وإن أخذ بالمسلَم فيه فالرهن إنما يجوز بشيء يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن، والمسلَم فيه لا يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن ولا من ذمة الضامن، لقوله: "من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره" 1. فإن أخذ رهناً أو ضميناً بالمسلَم فيه، ثم تقايلا أو فسخ العقد لتعذر المسلَم فيه، بطل الرهن وبرئ الضامن، وعلى المسلَم إليه رد رأس مال السلَم في الحال. ولا يشترط قبضه في المجلس، لأنه ليس بعوض. ولو أقرضه ألفاً وأخذ به رهناً، ثم صالحه من الألف على طعام في ذمته، صح وزال الرهن، وبقي الطعام في الذمة، ويشترط قبضه في المجلس لئلا يكون بيع ديْن بديْن. فإن تفرقا قبل القبض، رجع الألف إلى ذمته برهنه، وكذا لو صالحه عن الدراهم بدنانير في ذمته، فالحكم على ما بيّنّا. والذي يصح أخذ الرهن به: كل ديْن ثابت في الذمة يمكن استيفاؤه من الرهن، كالأجرة والمهر وعوض الخلع وأرش الجنايات. ولا يجوز أخذ الرهن بما ليس بواجب، ولا مآله إلى الوجوب، كالدية على العاقلة قبل الحول، لأنها لم تجب بعد ولا يعلم إفضاؤها إلى الوجوب، لأنها قد تسقط بالجنون والفقر والموت. ولا يجوز أخذ الرهن في الجعل في الجعالة قبل العمل. ولا يجوز أخذ الرهن بمال الكتابة. ولا يجوز أخذ الرهن بعوض غير ثابت في الذمة، كالثمن المعين، والأجرة المعينة في الإجارة، والمعقود عليه في الإجارة، إذا كان منافع معينة كإجارة الدار والدابة المعينة، لأنه تعلق بالعين لا بالذمة، ومنفعة العين لا يمكن استيفاؤها   1 أبو داود: البيوع (3468) , وابن ماجة: التجارات (2283) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 من غيرها. وأما الأعيان المضمونة كالغصوب والعواري والمقبوض على وجه السوم، ففيه وجهان. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": يجوز إسلام عرض في عرض على الصحيح، وعنه: لا يجوز إلا بعين أو ورق. فإن أسلم حالاً أو إلى أجل قريب كاليوم، لم يصح. وذكر في الانتصار رواية: يصح حالاً، اختاره الشيخ إذا كان في ملكه، وقال: وهو المراد بقوله عليه أفضل الصلاة والسلام: " لا تبع ما ليس عندك"، 1 أي: ما ليس في ملكك، فلو لم يجز السلَم حالاً لقال: لا تبعْ هذا سواء كان عندك أو لا. ولا يجوز بيع الديْن المستقر لغير من هو في ذمته، وعنه: يصح، قاله الشيخ. وقد شمل كلام المصنف مثله بيع الصكاك، وهو الديون الثابتة على الناس تكتب في صكاك وهو الورق ونحوه. فإن كان نقداً وبيع بنقد لم يجز. وإن بيع بعرض وقبضه في المجلس، ففيه روايتان: عدم الجواز، قال أحمد: هو غرر. والجواز نص عليها في رواية حرب وغيره.   1 الترمذي: البيوع (1232) , والنسائي: البيوع (4611, 4613) , وأبو داود: البيوع (3503, 3504) , وابن ماجة: التجارات (2188) , وأحمد (2/174, 2/205, 3/402, 3/434) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 باب القرض قال أحمد: ليس القرض من المسألة، يريد: أنه لا يكره. وقال: ما أحب أن يقترض بجاهه لإخوانه. وإن لم يذكر البدل، ولم توجد قرينة، فهو هبة؛ وإن اختلفا، فالقول قول الموهوب له، لأن الظاهر معه. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم: أن اقتراض ما له مثلٌ من المكيل والموزون والأطعمة جائز. وقال أبو حنيفة: لا يجوز قرض غير المكيل والموزون، لأنه لا مثل له، أشبه الجواهر.. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً". 1 ولو اقترض دراهم أو دنانير غير معروفة الوزن، لم يجز، وكذلك لو اقترض مكيلاً أو موزوناً جزافاً. فإن كانت الدراهم يتعامل بها عدداً جاز قرضها عدداً. ولو أجّله لم يتأجل، وكل دين حلّ لم يصر مؤجّلا بتأجيله. وقال مالك والليث: يتأجل الجميع بالتأجيل، لحديث: "المؤمنون عند شروطهم". فإن ردّه المقترض عليه، لزمه قبوله ما لم يتعيب أو يكن فلوساً أو مكسرة فيحرمها السلطان، فيكون له القيمة وقت القرض، نص عليه في الدراهم المكسرة، قال يقوّمها كم تساوي يوم أخذها. وأما رخص السعر فلا يمنع، سواء كان قليلاً أو كثيراً، أشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت. ويجب رد المثل في المكيل والموزون والقيمة في الجواهر ونحوها، إذا قلنا بجواز قرضها، وفي ما سوى ذلك وجهان: أحدهما: يرد القيمة. والثاني: يرد مثله، "لأنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً فرد مثله".   1 مسلم: المساقاة (1600) , والترمذي: البيوع (1318) , والنسائي: البيوع (4617) , وأبو داود: البيوع (3346) , وابن ماجة: التجارات (2285) , وأحمد (6/390) , ومالك: البيوع (1384) , والدارمي: البيوع (2565) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 ويجوز قرض الخبز، وإن أقرضه بالوزن ردّ مثله. وإن استقرضه عدداً وردّ عدداً، فروايتان. ولا يجوز شرط ما يجر نفعاً. وقد روي عن أبيّ وابن مسعود وابن عباس: "أنهم نهوْا عن قرض جرّ منفعة"، فإن شرط أن يعطيه إياه في بلد آخر، فروي عن أحمد: أنه لا يجوز. ورويت كراهته عن الحسن ومالك والشافعي. وروي جوازه عن أحمد. وإن فعل ذلك من غير شرط، أو قضاه خيراً منه، أو أهدى له هدية بعد الوفاء، جاز. وروي عن أبيّ وابن عباس المنع من ذلك. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً، فردّ خيراً منه". وإن فعله قبل الوفاء لم يجز، إلا أن تكون العادة جارية بينهما بذلك قبل القرض، إلا أن يكافئه أو يحسبه من ديْنه؛ قال أحمد: لو قال: اقترض لي من فلان مائة، ولك عشرة فلا بأس. ولو قال: اكفل عني ولك ألف، لم يجز، لأن الكفيل يلزمه أداء الديْن، فيجب له على المكفول عنه، فصار كالقرض. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قوله: يصح في كل عين ... إلخ، وقال الشيخ: يجوز قرض المنافع، مثل أن يحصد معه يوماً، أو يسكنه داره ليسكنه الآخر بدلها. ولو أقرض من له عليه ديْن ليوفيه كل وقت شيئاً جاز، نقله مهنا، ونقل حنبل: يكره. ولو أقرض فلاحه في شراء بقر أو بذر بلا شرط، حرم عند أحمد، وجوزه المصنف. وإن أمره ببذره وأنه في ذمته كالمعتاد في فعل الناس ففاسد، له تسمية المثل، ولو تلف لم يضمنه لأنه أمانة، ذكره الشيخ. ولو أقرض من عليه بر يشتريه به ويوفيه إياه، فقال أحمد: حرام، وقال في المغني: يجوز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وأداء الديْن واجب على الفور عند المطالبة، وبدونها لا يجب على الفور، قال ابن رجب: محله إذا لم يكن عيّن له وقتاً للوفاء كيوم كذا، فإن عيّن فلا ينبغي أن يجوز تأخيره. وقال في القواعد الأصولية: ينبغي أن يكون محل جواز التأخير إذا كان صاحب المال عالماً به، وإلا فيجب إعلامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 باب الرهن يجوز الرهن في الحضر. قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً خالف فيه إلا مجاهد لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} الآية. 1 ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي بالمدينة". 2 فأما ذكر السفر فإنه خرج مخرج الغالب، لكون الكاتب يعدم في السفر غالباً، ولهذا لم يشترط عدم الكاتب، وهو مذكور في الآية، وهو غير واجب، لا نعلم فيه مخالفاًً. والأمر فيه إرشاد لا إيجاب، بدليل قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} الآية. ويجوز عقده مع الحق وبعده. ولا يجوز قبله، وهو مذهب الشافعي. واختار أبو الخطاب: يصح قبله، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. ويجوز رهن ما يسرع الفساد إليه بديْن مؤجل، ويباع ويجعل ثمنه رهناً. ويصح رهن المشاع، فإن رضي الشريك والمرتهن بكونه في يد أحدهما أو غيرهما، جاز، وإلا جعله الحاكم في يد أمين. ويجوز رهن المبيع غير المكيل والموزون قبل قبضه، فأما رهنه على ثمنه قبل قبضه ففيه وجهان. فأما المكيل والموزون فذكر القاضي أنه يصح، لأنه يمكن المشتري أن يقبضه ثم يقبضه، ويحتمل أن لا يصح، لأنه لا يصح بيعه، وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه، إلا الثمرة قبل بدو صلاحها. ولو قال للمرتهن:   1 سورة البقرة آية: 283. 2 البخاري: البيوع (2069) , والترمذي: البيوع (1215) , والنسائي: البيوع (4610) , وابن ماجة: الأحكام (2437) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 زدني ما لا يكون الذي عندك به رهناً وبالديْن الأول، لم يجز. وقال مالك وأبو يوسف وأبو ثور وابن المنذر: يجوز. ولو رهن المبيع في مدة الخيار لم يصح، إلا أن يرهنه المشتري، والخيار له وحده، فيصح ويبطل خياره. ولو أفلس المشتري فرهن البائع عين ماله التي له الرجوع فيها قبل الرجوع لم يصح، لأنه رهن ما لا يملكه، وكذلك رهن الأب العين التي له الرجوع فيها قبل رجوعه في الهبة، وفيه وجه لأصحاب الشافعي: أنه يصح. ولو رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت دين صح، وفيه وجه: أنه لا يصح. فإذا رهنه ثم قضى الحق من غيره، فالرهن بحاله، وإلا فللغرماء انتزاعه. ولا يلزم الرهن إلا بالقبض، وأما قبله فيجوز للراهن فسخه، وبهذا قال الشافعي. وقال بعض أصحابنا في غير المكيل والموزون رواية أخرى: أنه يلزم بمجرد العقد، نص عليه في رواية الميموني. وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد، كالبيع. ووجه الأولى: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} . 1 واستدامة القبض شرط، فإن أخرجه المرتهن إلى الراهن باختياره، زال لزوم الرهن. وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطاً. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن الرجل إذا استعار شيئاً يرهنه على دنانير معلومة، عند رجل قد سماه، إلى وقت معلوم، ففعل، أن ذلك جائز. ومتى شرط شيئاً من ذلك، فخالف ورهن بغيره، لم يصح. وهذا إجماع أيضاً، حكاه ابن المنذر. وإن رهنه بأكثر، احتمل أن يبطل في الكل، قاله الشافعي. واحتمل أن يصح في المأذون فيه، ويبطل في الزائد، كتفريق الصفقة. فإن أطلق الإذن في الرهن، فقال القاضي: يصح.   1 سورة البقرة آية: 283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 وله رهنه بما شاء، وهو أحد قولي الشافعي، والآخر: لا يجوز حتى يبيّن القدر وصفته وحلوله وتأجيله. فإن تلف فإن الراهن يضمنه، نص عليه، لأن العارية مضمونة. وإن فك المعير الرهن بغير إذن الراهن، محتسبا بالرجوع، فهل يرجع؟ على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه. وإذا رهنه المضمون على المرتهن كالمغصوب والعارية صح، وزال الضمان، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يزول الضمان ويثبت حكم الرهن، لأنه لا تنافي بينهما، لأنه لو تعدى في الرهن ضمن. ولنا: أنه مأذون له في إمساكه رهناً لم يتجدد فيه منه عدوان، وقوله: لا تنافي بينهما، ممنوع لأن يد الغاصب والمستعير ونحوهما يد ضامنة، ويد المرتهن يد أمانة، وهذان متنافيان، ولأن السبب المقتضي للضمان زال [فزال بزواله. وإذا تعدى في الرهن، ضمن لعدوانه لا لكونه غاصباً أو مستعيراً، وهنا زال السبب. ويجوز للمرتهن أن يوكّل في قبض الرهن] ، 1 ويقوم وكيله مقامه في القبض وسائر الأحكام. وتصرف الراهن في الرهن لا يصح، إلا العتق، فإنه يصح، ويؤخذ منه قيمته فيجعل رهناً مكانه. وعنه: لا ينفذ عتق المعسر، فإن أذن فيه المرتهن صح، وبطل الرهن. وليس للراهن الانتفاع بالرهن باستخدام ولا غيره بغير رضى المرتهن، وقال مالك وغيره: للراهن إجارته وإعارته مدة لا يتأخر انقضاؤها عن حلول الديْن. وهل له أن يسكن بنفسه؟ على اختلاف بينهم. وليس له إجارة الثوب ولا ما ينقص بالانتفاع، وبنَوْه على أن المنافع للراهن لا تدخل في الرهن. وذكر أبو بكر في الخلاف:   1 زيادة من المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 أن منافع الرهن تعطل مطلقاً. ولا يؤجره، وهو قول الثوري وأصحاب الرأي. وقالوا: إذا أجره بإذن المرتهن كان إخراجاً من الرهن. ولنا: أن تعطيله تضييع للمال. وقد نهي عن إضاعته. ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن ودفع الفساد عنه، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمرتهن منع الراهن من وطء أَمته المرهونة، وإن أذن له المرتهن في بيع الرهن أو هبته أو نحو ذلك صح، وبطل الرهن، إلا أن يأذن له في بيعه بشرط أن يجعل ثمنه رهناً، أو يعجل ديْنه من ثمنه. ونماء الرهن وغلاته تكون رهناً، وقال مالك: يتبع الولد في الرهن خاصة دون سائر النماء. وقال الشافعي وابن المنذر: لا يدخل في الرهن شيء من النماء المنفصل ولا من الكسب، حتى قال الشافعي: لو رهنه ماشية مخاضاً فنتجت، فالنتاج لا يدخل في الرهن. وخالفه أبو ثور وابن المنذر، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه"، والنماء غنم فيكون للراهن. ولنا: أنه حكم ثبت في العين بعقد المالك فيدخل فيه النماء والمنافع. وأما الحديث فنقول به، وأن غنمه وكسبه ونماءه للراهن، لكن يتعلق به حق المرتهن، ومؤنته على الراهن. وقال أبو حنيفة: أجر المسكن والحافظ على المرتهن. ولنا: قوله: "الرهن من راهنه" الحديث، قال الدارقطني: إسناده جيد متصل، وإن كان الرهن نخلاً فاحتاج إلى تأبير فهو على الراهن. وكل زيادة تلزم الراهن فامتنع منها، أجبره الحاكم عليها، فإن لم يفعل اكترى الحاكم من ماله، وإن لم يكن له مال فمن الرهن؛ فإن بذلها المرتهن محتسباً بالرجوع، وقال الراهن: أنفقت متبرعاً، فقال: بل محتسباً، فالقول قول المرتهن، لأن الخلاف في نيته وهو أعلم بها، وعليه اليمين، لأن ما قال الراهن محتمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 (فصل) : "وهو أمانة في يد المرتهن، إن تلف بغير تعدّ منه فلا شيء عليه". روي عن علي، وبه قال عطاء والزهري والشافعي. وروي عن شريح والنخعي والحسن: أن الراهن يضمنه بجميع الديْن وإن كان أكثر من قيمته، لأنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرهن بما فيه". وقال مالك: إن كان تلفه بأمر ظاهر كالموت والحريق لم يضمن، وإن ادعى تلفه بأمر خفي ضمن. وقال الثوري وأبو حنيفة: يضمنه بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الديْن، لما روى عطاء: "أن رجلاً رهن فرساً فنفق عند المرتهن، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: ذهب حقك". ولنا: ما روى ابن أبي ذئب عن الزهري عن ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن، لصاحبه غُنمه، وعليه غُرمه". 1 فأما حديث عطاء فمرسل، وقوله يخالفه، قال الدارقطني: يرويه إسماعيل بن أمية وكان كذاباً. والحديث الآخر إن صح فيحتمل أنه محبوس بما فيه. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: على أن من رهن شيئاً بمال فأدى بعضه، وأراد إخراج بعض الرهن، أن ذلك ليس له، حتى يوفيه آخر حقه أو يبرئه. وإن رهن عند رجلين فوفى أحدهما انفك في نصيبه. قال أحمد في رجلين رهنا داراً لهما عند رجل، فقضاه أحدهما: الدار رهن على ما بقي؛ وهذا محمول على أنه ليس للراهن مقاسمة المرتهن للضرر، لأن العين كلها تكون رهناً، لأنه إنما رهنه نصفها. وإن جعلا الرهن في يد عدل وادعى دفع الثمن إلى المرتهن، فأنكر ولم يكن قضاه ببيّنة، ضمن. وعنه: لا يضمن إلا أن يكون أمر بالإشهاد فلم يفعل؛ وهكذا الحكم في الوكيل. ولو تعدى المرتهن في الرهن ثم زال التعدي، أو سافر به ثم رده، لم يزل عنه الضمان لأن استئمانه زال بذلك. وإذا   1 البخاري: مواقيت الصلاة (525) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 استقرض ذمي من مسلم مالاً ورهنه خمراً، لم يصح. فإن باعها الراهن أو نائبه الذمي وجاء المقرض بثمنها، لزمه قبوله، لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرت مجرى الصحة. قال عمر في أهل الذمة معهم الخمر: "ولّوهم بيعها، وخذوا أثمانها". وإن شرط أن يبيعه المرتهن أو العدل صح. فإن عزله صح عزله، وقال مالك: لا ينعزل، لأن وكالته صارت من حقوق الرهن. قال ابن أبي موسى: ويتوجه لنا مثل ذلك، فإن أحمد قد منع الحيلة في غير موضع، وهذا يفتح باب الحيلة للراهن. فإن شرط أن لا يبيعه عند الحلول، أو إن جاءه بحقه في محله وإلا فالرهن له، لم يصح الشرط، وفي صحة الرهن روايتان. وعن أحمد: إذا شرط في الرهن أنه ينتفع به المرتهن أنه يجوز في البيع، وقال مالك: لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين، وكرهه في الحيوان والثياب، وكرهه في القرض. وهل يفسد الرهن بالشروط الفاسدة، نصر أبو الخطاب صحته، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن"، 1 ولم يحكم بفساده. قال أحمد: معناه لا يدفع رهناً إلى رجل يقول: إن جئتك بالدراهم إلى كذا، وإلا فالرهن لك. قال ابن المنذر: هذا معنى قوله: "لا يغلق الرهن" عند مالك والثوري وأحمد، وفي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر: "أن رجلاً رهن داراً بالمدينة إلى أجل مسمى، فمضى الأجل فقال الذي ارتهن: منزلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يغلق الرهن". 2 وإذا قال: رهنتك عبدي هذا على أن تزيدني في الأجل، كان باطلاً، لأنه يضاهي ربا الجاهلية. وإذا كان له على رجل ألف، فقال: أقرضني ألفاً بشرط أن أرهنك عبدي هذا بألفين، فنقل حنبل عن أحمد:   1 البخاري: مواقيت الصلاة (525) . 2 البخاري: مواقيت الصلاة (525) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 أن القرض باطل، لأنه قرض يجر منفعة. ونقل مهنا: أن القرض صحيح، ولعل أحمد حكم بصحة القرض مع فساد الشرط، كي لا يفضي إلى جر منفعة بالقرض، أو حكم بفساد الرهن في الألف الأول وحده. وحكي عن مالك وأبي ثور: أنه يصح الرهن المجهول، ويلزمه أن يدفع إليه رهناً بقدر الديْن، قال أحمد: حبس المبيع ببقية الثمن فهو غاصب ولا يكون رهناً، إلا أن يكون شرط عليه في نفس البيع. (فصل) : وإذا كان الرهن محلوباً أو مركوباً، فللمرتهن أن يركب ويحلب بقدر نفقته، متحرياً للعدل في ذلك، نص عليه. وعنه رواية أخرى: لا يحتسب، وهو متطوع، ولا ينتفع من الرهن بشيء، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي، لقوله: "الرهن من راهنه، له غُنمه، وعليه غُرمه". ولنا: ما روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة"، 1 فجعل منفعته بنفقته، وهذا محل النزاع. فإن قيل: المراد به أن الراهن ينفق وينتفع، قلنا: لا يصح لأن في بعض الألفاظ: " إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب نفقته ويركب"، 2 فجعل المنفق المرتهن، ولأن قوله: "بنفقته" يشير إلى أن الانتفاع عوض عن النفقة، والراهن إنفاقه وانتفاعه لا بطريق المعاوضة، ولأن النفقة واجبة وللمرتهن فيه حق، وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن، كما يجوز للمرأة أخذ مؤونتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه. والحديث نقول به، والنماء للراهن، ولكن للمرتهن فيه حق ولاية صرفه إلى نفقته لثبوت يده عليه. وأما غير المحلوب والمركوب كالعبد   1 البخاري: الرهن (2512) , والترمذي: البيوع (1254) , وابن ماجة: الأحكام (2440) , وأحمد (2/472) . 2 أحمد (2/228) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 والأمة، فليس للمرتهن أن ينفق عليه ويستخدمه بقدر نفقته، نص عليه. قال: الراهن لا ينتفع منه بشيء، إلا حديث أبي هريرة خاصة في الذي يركب ويحلب ويعلف. قيل له: فإن كان الركوب واللبن أكثر؟ قال: لا، إلا بقدر. ونقل حنبل أن له استخدام العبد أيضاً، وبه قال أبو ثور. إذا امتنع المالك من الإنفاق عليه، قال أبو بكر: خالف حنبل الجماعة، والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشيء إلا ما خصه الشرع، ففيما عداه يبقى على مقتضى القياس. وما لا يحتاج إلى مؤنة، كالدار والمتاع، فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن، لا نعلم فيه خلافاً. فإن أذن الراهن في الانتفاع بغير عوض وكان الديْن من قرض، لم يجز لأنه جر منفعة. قال أحمد: أكره قرض الدور، وهو الربا المحض، يعني: إذا كانت الدار في قرض رهناً ينتفع بها المرتهن، وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له جاز؛ روي عن الحسن وابن سيرين، وهو قول إسحاق. وإن كان الانتفاع بعوض مثل إن استأجر المرتهن الدار بأجرة مثلها من غير محاباة، جاز في القرض وغيره، وإن حاباه فهو كالانتفاع بغير عوض. ومتى استأجرها أو استعارها المرتهن، فظاهر كلام أحمد: أنها تخرج عن كونها رهناً، فمتى انقضت الإجارة والعارية عاد الرهن بحاله. قال في رواية ابن منصور: إذا ارتهن داراً ثم أكراها لصاحبها، خرجت من الرهن. فإذا رجعت إليه عادت رهناً. ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضموناً، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه. وإن أنفق عليه بغير إذن الراهن مع إمكانه، فهو متبرع. وإن عجز عن استئذانه ولم يستأذن الحاكم، فعلى روايتين، وقال شيخنا فيما إذا أنفق بغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 إذن الراهن بنية الرجوع مع إمكانه: أنه يخرج على روايتين بناء على ما إذا قضى ديْنه بغير إذنه، وهذا أقيس، إذ لا يعتبر في قضاء الديْن العجز عن استئذان الغريم. وإن انهدمت الدار فعمرها بغير إذن الراهن، لم يرجع به، رواية واحدة. وليس له أن ينتفع بها بقدر عمارتها، لأنها غير واجبة على الراهن، فليس لغيره أن ينوب عنه فيما لا يلزمه. وإذا جنى العبد المرهون على إنسان أو على ماله، تعلقت الجناية برقبته، وقدمت على حق المرتهن، بغير خلاف علمناه. فإن لم يستغرق الأرش قيمته بيع منه بقدره، وباقيه رهن. وقيل: يباع جميعه، ويكون باقي ثمنه رهناً، لأن التشقيص عيب ينقص به الثمن، وقد قال عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار". 1 ولا يحل للمرتهن وطء الجارية المرهونة إجماعاً، ويجب عليه الحد والمهر، وولده رقيق. وقال الشافعي: لا يجب المهر مع المطاوعة، "لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي". ولنا: أن المهر يجب للسيد، والحديث مخصوص بالمكرهة على البغاء، فإن الله تعالى سماها بذلك مع كونها مكرهة، فقال تعالى {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} . 2 وإن وطئها بإذن الراهن وادعى الجهالة وكان مثله يجهل ذلك، فلا حد ولا مهر وولده حر. قال عبد الله: سألت أبي: عن رجل عنده رهون كثيرة لا يعرف أصحابها، ولا من رهن عنده؟ قال: إذا أيست من معرفتهم ومعرفة ورثتهم، فأرى أن تباع ويتصدق بثمنها.، فإن عرف بعد أربابها خيّرهم بين الأجر أو يغرم لهم؛ هذا الذي أذهب إليه. وقال أبو الحارث عن أحمد في الرهن يكون عنده السنين   1 ابن ماجة: الأحكام (2340) . 2 سورة النور آية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 الكثيرة يئس من صاحبه: يبيعه ويتصدق بالفضل. فظاهره أنه يستوفي حقه. ونقل أبو طالب: لا يستوفي حقه من ثمنه، ولكن إن جاء صاحبه بعد وطلبه، أعطاه إياه وطلب منه حقه. وأما إن رفع أمره إلى الحاكم فباعه، ووفاه حقه منه، جاز. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": لو أقرض غريمه ليرهنه على ما لَه عليه وعلى القرض، ففي صحته روايتان. وأما المكيل والموزون وما يلحق بهما قبل قبضه، فاختار الشيخ جواز رهنه. وجوز أحمد القراءة للمرتهن يعني: في المصحف، وعنه: يكره. نقل عبد الله: لا يعجبني بلا إذنه، ويلزم ربه بذله لحاجة. وقيل: يلزمه مطلقاً. ولا يجوز رهن العبد المسلم لكافر. والوجه الثاني: يصح إذا شرطه في يد عدل مسلم، اختاره الشيخ. وقال: يجوز أن يرهن الإنسان مال نفسه على ديْن غيره كما يجوز أن يضمنه وأوْلى، وهو نظير إعارته للرهن. انتهى. وقيل: لا يصح عتق الموسر أيضاً، قال في الفائق: اختاره شيخنا. قوله: فإن أذن له في البيع لم يبع إلا بنقد البلد ... إلخ، وقيل: يبيع بما رأى أنه أحظّ، اختاره القاضي، قلت: وهو الصواب. وإذا اختلفا في قدر الديْن فالقول قول الراهن، وقال الشيخ: القول قول المرتهن ما لم يدَّع أكثر من قيمة الرهن. قوله: وإن انهدمت الدار فعمرها، لم يرجع ... إلخ، فعلى هذا، لا يرجع إلا بأعيان آلته. وجزم القاضي في الخلاف الكبير: أنه يرجع بجميع ما عمر في الدار، لأنه من مصلحة الرهن. وقال الشيخ فيمن عمر وقفاً بالمعروف ليأخذ عوضه فيأخذه من مغلّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 كتاب الحجر وهو على ضربين: حجر على الإنسان لحظ نفسه، وحجر لحق غيره، كالمريض والراهن والمفلس، وهو المذكور هنا. ومن لزمه ديْن مؤجل لم يطالب به قبل أجله، ولم يحجر عليه من أجله؛ فإن كان بعضه حالاً وماله يفي بالحال لم يحجر عليه أيضاً. وقال بعض أصحاب الشافعي: إن ظهرت أمارات الفلس، ككون ماله بإزاء ديْنه، ولا نفقة له إلا من ماله، حجر عليه. فإن أراد سفراً يحل الديْن قبل مدته، فلغريمه منعه، إلا أن يوثقه برهن أو كفيل. فإن كان لا يحل قبله، ففي منعه روايتان. فإن كان إلى الجهاد، فله منعه إلا بضمين أو رهن، لأنه يتعرض فيه لذهاب نفسه. وقال الشافعي: ليس له منعه من السفر، ولا المطالبة بكفيل، إذا كان مؤجلاً، سواء كان يحل قبل محل سفره أو لاَ، إلى الجهاد أو غيره. ولنا: أنه سفر يمنع استيفاء الدين في محله، فملك منعه إذا لم يوثقه. وإن كان حالاً وله ما يفي به، لم يحجر عليه لعدم الحاجة، ويأمره الحاكم بالوفاء؛ فإن أبى حبسه، لقوله: "ليُّ الواجد ظلم يُحلّ عِرضه وعقوبته". 1 رواه أحمد. فإن أصر باعه الحاكم وقضى ديْنه، وهذا مذهب الشافعي وأبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: ليس له بيع ماله، لكن يجبره على البيع وإلا حبسه ليبيع، إلا أن يكون عليه أحد النقدين وماله من الآخر، فيدفع أحدهما عن الآخر. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ، وباع ماله في ديْنه". رواه الخلال. وعن عمر أنه خطب فقال: "إن   1 النسائي: البيوع (4689) , وأبو داود: الأقضية (3628) , وابن ماجة: الأحكام (2427) , وأحمد (4/388) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج فأدان معرضاً، فأصبح وقد رين به. فمن كان عليه مال فليحضر غداً، فإنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه". وإن ادعى الإعسار، وكان ديْنه عن عوض كالبيع والقرض أو عرف له مال سابق، حبسه إلى أن يقيم البينة على نفاد ماله أو إعساره، وهل يحلف معها؟ على وجهين. وإن لم يكن كذلك حلف وخلي سبيله. قال ابن المنذر: أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم يرون الحبس في الديْن. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يقسم ماله بين الغرماء ولا يحبس، وبه قال الليث. وحكي عن مالك: لا تسمع البينة على الإعسار، لأنها شهادة على النفي. ولنا: حديث قبيصة، وفيه: "حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة". 1 وتسمع البينة في الحال، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يحبس شهراً، وقيل: ثلاثة أشهر، وروي أربعة، حتى يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لأظهره. فإن قال الغريم: أحلفوه لي مع بينته أنه لا مال له، لم يستحلف. وفيه وجه آخر: أنه يستحلف، لأنه يحتمل أن يكون له مال خفي. فإن كان الحق ثبت عليه في غير مقابلة مال أخذه، كأرش جناية، ومهر، وضمان، ولم يعرف له مال، حلف وخلي سبيله؛ وهذا قول الشافعي وابن المنذر، فإنه قال: العقوبة حبس، ولم نعلم له ذنباً، والأصل عدم ماله. ومتى ثبت إعساره عند الحاكم، لم يجز مطالبته، ولا ملازمته. وقال أبو حنيفة: لغرمائه ملازمته من غير أن يمنعوه من الكسب، لقوله: لصاحب الحق اليد واللسان. ولنا: أن من ليس لصاحب الحق مطالبته، لم تكن له ملازمته،   1 مسلم: الزكاة (1044) , وأحمد (3/477) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 وقوله تعالى: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} . 1 والحديث فيه مقالة، قاله ابن المنذر. ثم يحمل على الموسر بدليل ما ذكرنا. وفي حديث الذي أصيب في ثماره: "خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك ". 2 رواه مسلم. وإن كان له مال لا يفي بدينه فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه، لزمه إجابتهم. ويستحب إظهار الحجر عليه والإشهاد عليه، لتجتنب معاملته. (فصل) : ويتعلق بالحجر عليه أربعة أحكام: أحدها: تعلق حق الغرماء بماله، فلا يصح تصرفه فيه، ولا يقبل إقراره عليه إلا العتق، على إحدى الروايتين. فإن أقر بدين تبع به بعد فك الحجر عنه، وهو قول مالك والشافعي في قول. وقال في آخر: يشاركهم، اختاره ابن المنذر، والأخرى: لا ينفذ عتقه، وبه قال مالك والشافعي، وهو أصح، إن شاء الله. فإن تصرف في ذمته بشراء أو إقرار أو ضمان صح، ويتبع به بعد فك الحجر عنه. وإن جنى شارك المجني عليه الغرماء. وإن جنى عبده قدم المجني عليه بثمنه. الثاني: "أن من وجد عنده عيناً باعه إياها، فهو أحق بها بشرط كون المفلس حياً ولم ينقد من ثمنها شيئاً، والسلعة قائمة بحالها لم يتلف بعضها، ولم تتغير صفتها بما يزيل اسمها"؛ روي ذلك عن عثمان وعلي؛ وبه قال مالك والشافعي وابن المنذر. وقال الحسن وأبو حنيفة: هو أسوة الغرماء، ولنا: قوله: "من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس، فهو أحق به". 3 متفق عليه. فإن بذل   1 سورة البقرة آية: 280. 2 مسلم: المساقاة (1556) , والترمذي: الزكاة (655) , والنسائي: البيوع (4530, 4678) , وأبو داود: البيوع (3469) , وابن ماجة: الأحكام (2356) , وأحمد (3/36, 3/58) . 3 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519, 3523) , وابن ماجة: الأحكام (2358) , وأحمد (2/228, 2/258, 2/385, 2/410) , ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 الغرماء الثمن لم يلزمه قبوله. وقال مالك: لا رجوع له. ولنا: الخبر الذي روينا. فإن اشترى المفلس من إنسان في ذمته وتعذر الاستيفاء، لم يكن له الفسخ، سواء علم أو لم يعلم، لأنه لا يستحق المطالبة بثمنها، فلا يستحق الفسخ لتعذره. وقيل: له الخيار لعموم الخبر. وفيه وجه ثالث: أنه إن كان عالماً بفلسه فلا فسخ، وإلا فله. ومن استأجر أرضاً للزرع فأفلس قبل مضي شيء من المدة، فللمؤجر الفسخ. وإن كان بعدها فهو غريم. وإن كان بعد مضي بعضها، لم يملك الفسخ. ولو اكترى من يحمل له متاعاً إلى بلد ثم أفلس المكتري قبل حمل شيء، فللمكري الفسخ. وإن حمل البعض أو بعض المسافة، لم يكن له الفسخ، في قياس المذهب. فإن أقرض رجلاً مالاً ثم أفلس المقترض وعين ماله قائمة، فله الرجوع فيها، للخبر. وإنما يستحق الرجوع بشروط خمسة: (أحدها) : أن يكون المفلس حياً، فإن مات فهو أسوة الغرماء. وقال الشافعي: له الرجوع، لما روى أبو داود عن أبي هريرة، مرفوعاً: "أيما رجل مات أو أفلس، فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه". 1 ولنا: ما روى أبو داود في حديث أبي هريرة: "فإن مات، فصاحب المتاع أسوة الغرماء". 2 وحديثهم مجهول الإسناد، قاله ابن المنذر. وقال ابن عبد البر: يرويه أبو المعتمر عن الزرقي، ثم هو غير معمول به إجماعاً، فإنه جعل المتاع لصاحبه لمجرد موت المشتري، من غير شرط آخر.   1 البخاري: في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2402) , ومسلم: المساقاة (1559) , والترمذي: البيوع (1262) , والنسائي: البيوع (4676) , وأبو داود: البيوع (3519, 3523) , وابن ماجة: الأحكام (2360) , وأحمد (2/258, 2/410, 2/413, 2/468, 2/474, 2/487) ، ومالك: البيوع (1383) , والدارمي: البيوع (2590) . 2 أبو داود: البيوع (3520) , وابن ماجة: الأحكام (2359, 2361) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 (الثاني) : ألا يكون البائع قبض شيئاً وإلا سقط الرجوع، وبه قال إسحاق والشافعي في القديم. وقال في الجديد: له أن يرجع في قدر ما بقي من الثمن. وقال مالك: إن شاء رد ما قبض ورجع في العين، وإن شاء حاصَّ الغرماء. ولنا: في حديث أبي هريرة: "أيما رجل أفلس، فوجد رجل عنده ماله ولم يكن اقتضى من ماله شيئاً، فهو له". 1 رواه أحمد، ولفظ أبي داود "وإن كان قبض من ثمنها شيئاً، فهو أسوة الغرماء". 2 فإن قيل: يرويه أبو بكر بن عبد الرحمن مرسلاً، قلنا رواه مالك وموسى بن عقبة عن الزهري عن أبي هريرة، كذلك أخرجه أبو داود. (الثالث) : أن تكون باقية لم يتلف منها شيء، وبه قال إسحاق. وقال مالك والشافعي: له الرجوع في الباقي، ويضرب مع الغرماء بحصة التالف. ولنا: قوله: "من أدرك متاعه بعينه"، وهذا لم يجده بعينه. وإن كان المبيع عيناً كثوبين، ففي جواز الرجوع في الباقي منهما روايتان. وإن تغيرت بما يزيل اسمها، كطحن الحنطة ونسج الغزل وتقطيع الثوب قميصاً، سقط الرجوع. وقال الشافعي: فيه قولان: أحدهما: به أقول: يأخذ عن ماله، ويعطي قيمة عمل المفلس. (الرابع) : أن لا يتعلق بها حق الغير، فإن رهنها لم يملك الرجوع، لقوله: "عند رجل قد أفلس"، وهذا لم يجده عنده، وهذا لا نعلم فيه خلافاً. (الخامس) : أن لا يكون زاد زيادة متصلة كالسمن، وعنه: لا تمنع، وهو مذهب مالك، لأنه يخير الغرماء بين أن يعطوه السلعة أو ثمنها الذي باعها به. فأما الزيادة المنفصلة والنقص بهزال، فلا تمنع الرجوع والزيادة للمفلس. وعنه:   1 أحمد (2/525) . 2 ابن ماجة: الأحكام (2359) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 للبائع. وقوله: "الخراج بالضمان" 1 يدل على أن النماء والغلة للمشتري. وإن اشترى زيتاً فخلطه بزيت آخر، سقط الرجوع، وقال مالك: يأخذ أرشه. وقال الشافعي: إن خلطه بمثله أو دونه، لم يسقط الرجوع، ويأخذ متاعه بالكيل أو الوزن. وإن خلطه بأجود منه، ففيه قولان: أحدهما: يسقط حقه، وبه أقول. انتهى. ولنا: أنه لم يجد عين ماله، وإنما يأخذ عوضه كالثمن. وإن قصر الثوب، فإن لم تزد قيمته فللبائع الرجوع. وإن زادت فلا رجوع. وقال القاضي: له الرجوع، لأنه متاعه بعينه. فعلى قولهم، إن كانت القصارة بعمل المفلس أو بأجرة وفاها، فهما شريكان فيه. فإذا كان قيمته خمسة فساوى ستة، فللمفلس سدسه. فإن اختار البائع دفع قيمة الزيادة إلى المفلس، لزمه قبولها، لأنه يتخلص من ضرر الشركة من غير مضرة. وإن لم يختر البيع، أخذ كل واحد بقدر حقه. وإن كان العمل من صانع لم يستوف أجره، فله حبس الثوب على استيفاء أجره. فإن كانت الزيادة بقدر الأجر دفعت إليه. وإن كانت أقل فله حبس الثوب على استيفاء قدر الزيادة، ويضرب مع الغرماء بما بقي. وإن كانت أكثر فله قدر أجره، وما فضل للغرماء. فإن اشترى أمة حائلاً، فحملت ثم أفلس، فزادت قيمتها بالحمل، فهي زيادة متصلة تمنع الرجوع، على قول الخرقي، ولا تمنعه، على رواية الميموني. وإن أفلس بعد الوضع، فهي منفصلة، فتكون للمفلس، ويمتنع الرجوع في الأم لما فيه من التفريق بينهما. ويحتمل أن يرجع في الأم على ما ذكرنا في التي قبلها، ويدفع قيمة الولد. وعلى قول أبي بكر: الزيادة للبائع، فيكون له الرجوع. (فصل) : فإن كان المبيع شجراً، لم يخل من أربعة أحوال:   1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجة: التجارات (2243) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 (أحدها) : أن يفلس وهي بحالها، فله الرجوع. (الثاني) : أن يكون فيها ثمر ظاهر فيشترطه المشتري فيأكله أو يتصرف فيه، أو يذهب بجائحة ثم يفلس، فهل للبائع الرجوع في الأصول، ويضرب مع الغرماء بحصة التالف؟ على روايتين. وتلف بعضها كجميعها. وإن زادت فهي متصلة في أحد العينين، قد ذكرنا حكمها. (الثالث) : أن يبيعه شجراً فيه ثمرة لم تظهر، فإن أفلس بعد تلف الثمرة أو بعضها، فحكمه كتلف بعض المبيع وزيادته المتصلة؛ ولهذا دخل في مطلق البيع، بخلاف التي قبلها. (الرابع) : باعه شجرة حائلاً فأثمرت، فإن أفلس قبل التأبير، فالطلع زيادة متصلة تمنع الرجوع؛ ويحتمل أن يرجع في النخل دون الطلع. وعلى رواية الميموني: يرجع والطلع للبائع. والقول الثاني: يرجع في الأصل دون الطلع. وإن أفلس بعد التأبير، فلا يمنع الرجوع، والطلع للمشتري، إلا على قول أبي بكر. ولو باعه أرضاً فارغة فزرعها المشتري، رجع في الأصل دون الزرع، قولاً واحداً. وإن أفلس والطلع غير مؤبر، فلم يرجع حتى أبر، لم يكن له الرجوع، لأن العين لا تنتقل إلا باختياره، ولم يختر إلا بعد التأبير. وإن أفلس بعد أخذ الثمرة أو ذهابها بجائحة، فله الرجوع في الأصل، والثمرة للمشتري، إلا على قول أبي بكر. وكل موضع لا يتبع الثمر الشجر إذا رجع البائع فيه، فليس له المطالبة بقطعه قبل أوان الجذاذ؛ وكذلك إذا رجع في الأرض المزروعة، لأنه زرع بحق، وليس عليه أجرة، لأنه يجب تبقيته، وكأنه استوفى منفعة الأرض فلم يكن عليه ضمان. فإن اتفق المفلس والغرماء على التبقية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 أو القطع فلهم ذلك؛ وإن اختلفوا وطلب بعضهم القطع وكانت قيمته يسيرة، لم يقطع لأنه إضاعة مال، وقد نهي عنه. وإن كانت قيمته كثيرة، قدم قول من طلب القطع، لأنه إن كان المفلس فهو يطلب براءة ذمته، وإن كان الغرماء فهم يطلبون تعجيل حقوقهم. وقيل: ينظر ما فيه الحظ فيعمل به، لأنه أنفع للجميع. فإن أقر الغرماء بالطلع للبائع، أو شهدوا به فردت شهادتهم، حلف المفلس وثبت الطلع له دونهم، لأنهم أقروا أنه لا حق لهم فيه. فإن أراد دفعه إلى أحدهم أو تخصيصه بثمنه، فله ذلك لإقرارهم. فإن امتنع الغريم من قبوله، أُجبر عليه أو على الإبراء من قدره من ديْنه. وإن أراد قسمه عليهم، لزمهم قبوله أو الإبراء. فإن قبضوا الثمرة لزمهم ردها إلى البائع؛ فإن باعها وقسم ثمنها فيهم أو دفعه إلى بعضهم، لم يلزمهم رده، لأنهم اعترفوا بالعين لا بثمنها. وإن عرض عليهم الثمرة بعينها، لم يلزمهم أخذها، إلا أن يكون فيهم من له من جنسها، فيلزمه أخذها، لأنه بصفة حقه. فإن صدق المفلس البائع في الرجوع قبل التأبير، وكذبه الغرماء، لم يقبل إقراره وعليهم اليمين أنهم لا يعلمون رجوعه قبله، لأن اليمين في حقهم ابتداء، بخلاف ما لو ادعى حقاً وأقام شاهداً لم يكن لهم أن يحلفوا مع الشاهد، فلا يحلفون لإثبات حق غيرهم. وإن غرس الأرض أو بنى فيها، فله الرجوع ودفع قيمة ما فيها، إلا أن يختار المفلس والغرماء القلع ومشاركته بالنقص. فإذا قلعوه، فله الرجوع في أرضه. ويحتمل أن لا يستحق الرجوع إلا بعد القلع، لأنه أدرك متاعه مشغولاً. فإن قلنا: له حق الرجوع قبله، لزمهم تسويتها وأرش النقص، كما لو دخل فيلاً دار إنسان فكبرُ، فأراد صاحبه إخراجه فلم يمكن إلا بهدم فيهدم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 ويضمن صاحبه النقص، بخلاف النقص في ملك المفلس. وإن قلنا: ليس له الرجوع قبل القلع، لم يلزمهم تسوية الحفر ولا أرش النقص. فإن امتنعوا من القلع لم يجبروا، لأنه غرس بحق. ومفهوم: "ليس لعرق ظالم حق" 1 أنه إذا لم يكن ظالماً فله حق. فإن بذل البائع قيمة الغرس والبناء ليملكه، أو قال اقلع وأضمن النقص، فله ذلك إن قلنا: له الرجوع قبل القلع، كالشفيع إذا أخذ الأرض وفيها غراس. وإن قلنا: ليس له الرجوع قبل القلع، لم يكن له ذلك، لأنه بناء المفلس وغرسه، فلم يجبر على بيعه وقلعه، كما لو لم يرجع في الأرض. وإذا أفلس وفي يده عين ديْن بائعها مؤجل، وقلنا: لا يحل الديْن بالفلس، فقال أحمد: يكون موقوفاً إلى أن يحل ديْنه، فيختار البائع الفسخ أو الترك. وقال الشافعي: تباع في الديون الحالّة، والأول أولى للخبر. (فصل) : (الحكم الثالث) : بيع الحاكم ما له وقسم ثمنه، لما ذكرنا من حديث معاذ. ويستحب إحضار المفلس والغرماء، لأنه أطيب لقلوبهم، ويأمرهم أن يقيموا منادياً ينادي على المتاع. فإن تراضوا ثقة أمضاه، وإلا رده. فإن قيل: لم يرده، وقد اتفقوا عليه، فأشبه اتفاق الراهن والمرتهن على أن يبيع غير ثقة، قلنا: الحاكم هنا له نظر، لأنه قد يظهر غريم آخر. ولا تباع داره التي لا غنى له عنها، وبه قال إسحاق. وقال مالك: تباع ويكتري له بدلها، اختاره ابن المنذر، لقوله: "خذوا ما وجدتم"، وينفق عليه بالمعروف من ماله إلى أن يقسم، إلا إن كان ذا كسب، كقوله: "ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول". 2 وممن أوجب الإنفاق عليه وزوجته وأولاده: مالك والشافعي، ولا نعلم فيه   1 الترمذي: الأحكام (1378) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3073) . 2 البخاري: الزكاة (1426) , والنسائي: الزكاة (2534) , وأبو داود: الزكاة (1676) , وأحمد (2/230, 2/245) , والدارمي: الزكاة (1651) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 خلافاً. وتجب كسوتهم، قال أحمد: يترك له قدر ما يقوم به معاشه، ويباع الباقي. وهذا في حق الشيخ الكبير وذوي الهيئات الذين لا يمكنهم التصرف بأبدانهم. ومن استأجر داراً وبعيراً أو غيرهما ثم أفلس المؤجر، فالمستأجر أحق بالعين حتى يستوفي حقه، لا نعلم فيه خلافاً. ومن مات وعليه دين مؤجل، لم يحل إذا وثق الورثة، وعنه: يحل. وهل يمنع الديْن انتقال التركة إلى الورثة؟ على روايتين: إحداهما: لا يمنع، للخبر: " من ترك مالاً، فلورثته". 1 والثانية: يمنع، لقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . 2 وهل يجبر على إيجار نفسه لوفاء دينه؟ على روايتين: إحداهما: لا يجبر، لقوله: "وليس لكم إلا ذلك". والثانية: يجبر، وهو قول عمر بن عبد العزيز، "لأنه صلى الله عليه وسلم باع سرقاً في ديْنه". رواه الدارقطني من رواية خالد بن مسلم الزنجي، وفيه كلام. والحر لا يباع، ثبت أنه باع منافعه. ومتى فك الحجر عنه، فلزمته ديون وظهر له مال فحجر عليه، شاركهم غرماء الحجر الأول. وقال مالك: لا يدخلون حتى يستوفي الذين تجددت حقوقهم، إلا أن يكون له فائدة من ميراث، أو يجنى عليه جناية. (الحكم الرابع) : انقطاع المطالبة عن المفلس، فمن أقرضه أو باعه شيئاً، لم يملك مطالبته حتى يفك الحجر عنه. (فصل) : الضرب الثاني المحجور عليه لحظّه، وهو الصبي والمجنون والسفيه.   1 البخاري: الحوالات (2297) , ومسلم: الفرائض (1619) , والترمذي: الجنائز (1070) , والنسائي: الجنائز (1963) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2955) , وابن ماجة: الأحكام (2415) , وأحمد (2/290, 2/453) . 2 سورة النساء آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 والأصل فيه قوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} الآية. 1 قال سعيد وعكرمة: هو مال اليتيم، لا تؤته إياه وأنفق عليه. فلا يصح تصرفهم قبل الإذن. ومن دفع إليهم ماله ببيع أو قرض رجع فيه ما كان باقياً. فإن أتلفه واحد منهم فمن ضمان مالكه، لأنه سلطه عليه برضاه، علِم بالحجر أو لم يعلم. فإن حصل في يده برضى صاحبه من غير تسليط كالوديعة والعارية، فاختار القاضي أنه يلزم الضمان إن أتلفه أو تلف بتفريطه؛ ويحتمل أن لا يضمن. وأما ما أخذه بغير اختيار المالك كالغصب والجناية فعليه ضمانه، وكذلك الحكم في الصبي والمجنون. ومذهب الشافعي على ما ذكرنا. فإن أودع عند الصبي والمجنون أو أعارهما، فلا ضمان عليهما فيما تلف، وإن أتلفاه فوجهان، نذكرهما في الوديعة. وإذا عقل المجنون انفك الحجر بلا حكم حاكم، بغير خلاف، وكذا الصبي إذا رشد وبلغ؛ وقال مالك: لا يزول إلا بحكم حاكم لأنه موضع اجتهاد. ولنا: قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ} 2. فالحجر ثلاثة أقسام: قسم يزول بغير حاكم وهو الجنون، وقسم لا يزول إلا بحكمه وهو الحجر للسفه، وقسم فيه الخلاف وهو الحجر للصغر، ولا يدفع إليه ماله قبل الرشد ولو صار شيخاً. قال ابن المنذر: أكثر علماء الأمصار يرون الحجر على كل مضيع لماله، صغيراً كان أو كبيراً؛ وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمساً وعشرين سنة فكّ عنه الحجر ودفع إليه ماله، لقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} . 3 ولنا: قوله:   1 سورة النساء آية: 5. 2 سورة النساء آية: 6. 3 سورة الأنعام آية: 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ، 1 وقوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} ، 2 علق الدفع على شرطين: بلوغ النكاح والإيناس، وقوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} ، 3 فأثبت الولاية على السفيه. والآية التي احتج بها، إنما تدل بدليل خطابها وهو لا يقول به؛ ثم هي مخصوصة فيما قبل الخمس والعشرين بالإجماع، لعلة السفه، وهو موجود بعدها. كما خصصت في حق المجنون، وما ذكرنا من المنطوق أولى. إذا ثبت هذا، فإنه لا يصح تصرفه ولا إقراره. وقال أبو حنيفة: يصح بيعه وإقراره، لأن البالغ عنده لا يحجر عليه، وإنما لم يسلم إليه ماله، للآية. ولنا: أنه لا يُدفع إليه ماله لعدم رشده، فلم يصح تصرفه وإقراره، ولأنه إذا نفذ تلف ماله. ويثبت بلوغ ذكر وأنثى بخروج المني الدافق يقظة أو مناماً، بجماع أو احتلام أو غير ذلك، لا نعلم فيه خلافاً، لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} الآية، 4 وقوله: "رُفع القلم عن ثلاثة ... إلخ". 5 الثاني: بلوغ خمس عشرة سنة، وبه قال الشافعي، وقال داود: لا حد للبلوغ من السنين، للحديث المتقدم، وهو قول مالك. وقال أصحابه: تسع عشرة أو ثماني عشرة. ولنا: حديث ابن عمر. ولما سمعه عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله: أن لا يعرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة سنة. الثالث: إنبات الشعر الخشن، وبه قال مالك والشافعي في قول. وفي الآخر: هو بلوغ في حق المشركين. وقال أبو حنيفة: لا اعتبار به. ولنا: حديث حكم سعد في بني قريظة.   1 سورة النساء آية: 5. 2 سورة النساء آية: 6. 3 سورة البقرة آية: 282. 4 سورة النور آية: 59. 5 الترمذي: الحدود (1423) , وابن ماجة: الطلاق (2042) , وأحمد (1/116, 1/118, 1/140, 1/158) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 والحيض بلوغ في حق الجارية، لا نعلم فيه خلافاً، لقوله: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار"، 1 وكذلك الحمل يحصل به البلوغ، لأن الولد من مائهما. والرشد: الصلاح في المال، في قول أكثر أهل العلم. وقال الشافعي وابن المنذر: الرشد الصلاح في الدين والمال. ولنا: قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} الآية، 2 قال ابن عباس: "صلاحاً في أموالهم". وقولهم: الفاسق غير رشيد، قلنا: غير رشيد في دينه، رشيد في ماله. ولا يدفع إليه ماله حتى يُختبر، لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} . 3 وعنه: لا يُدفع إلى الجارية مالها حتى تتزوج وتلد، أو تقيم في بيت الزوج سنة، لقول شريح: "عهد إليَّ عمر ألا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولاً أو تلد". ولنا: عموم قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية، 4وحديث عمر إن صح، فهو مختص بمنع العطية. ووقت الاختبار قبل البلوغ في إحدى الروايتين، لأنه سماهم يتامى، ولأنه مد اختبارهم إلى البلوغ. ولا تثبت الولاية على الصبي والمجنون إلا للأب، ثم وصيه، ثم الحاكم. وقال الشافعي: يقوم الجد مقام الأب في الولاية. وليس لوليهما التصرف في مالهما إلا على وجه الحظ لهما، لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 5.   1 الترمذي: الصلاة (377) , وأبو داود: الصلاة (641) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (655) , وأحمد (6/150, 6/218, 6/259) . 2 سورة النساء آية: 6. 3 الآية السابقة. 4 سورة النساء آية: 6. 5 سورة الإسراء آية: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 ولا يجوز أن يشتري من مالهما شيئاً لنفسه ولا يبيعهما إلا الأب، وبه قال مالك والشافعي، وزاد الجد. وله السفر بمالهما للتجارة والمضاربة به، ولا نعلم أحداً كرهه إلا الحسن. وأجاز إسحاق أن يأخذه الولي مضاربة لنفسه، وبه قال أبو حنيفة؛ والصحيح: أن الربح كله لليتيم، لأنه لا يجوز أن يعقد مع نفسه. فأما إن دفعه إلى غيره، فللمضارب ما جعل له الولي. وإذا لم يكن في قرض ماله حظ له لم يجز. قيل لأحمد: "ابن عمر اقترض"، قال أحمد: إنما اقترض نظراً لليتيم، إن أصابه شيء غرمه. وإن أودعه جاز ولا ضمان عليه، وهل له أن يستنيب فيما يتولى مثله؟ على روايتين. وله شراء الأضحية لليتيم الموسر، وهو قول أبي حنيفة ومالك، وقال الشافعي: لا يجوز. وإن كان خلط ماله أرفق به فهو أولى، وإن كان إفراده أرفق به أفرده، لقوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الآية. 1 قال أحمد: إنما يجوز له بيع دور على الصغار إذا كان أحظ لهم، وهذا يقتضي الإباحة في كل موضع يكون أحظ؛ وهذا الصحيح إن شاء الله. ومن فك عنه الحجر فعاود السفه أعيد الحجر عليه، وقال أبو حنيفة: لا يعاد الحجر على بالغ عاقل، روي عن النخعي؛ ولا ينفك الحجر إلا بحكم حاكم، وقيل بمجرد رشده. ويصح تزويجه بغير إذن وليه، وقال الشافعي: لا يصح إلا بإذنه. وهل يصح عتقه على روايتين. ويصح تدبيره ووصيته. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: على أن إقرار المحجور عليه على نفسه جائز، إذا كان بزنى أو سرقة   1سورة البقرة آية: 220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 أو شرب خمر أو قذف أو قتل، وأن الحدود تقام عليه، وإن طلَّق نفذ في قول الأكثر، وقال ابن أبي ليلى: لا يقع. وإن أقر بمال لم يلزمه حال حجره، ويحتمل ألا يلزمه مطلقة، وهو قول الشافعي. وللولي أن يأكل بقدر عمله إذا احتاج، وإن كان غنياً لم يجز، للآية. وهل يلزمه العوض إذا أيسر؟ على روايتين. ومتى زال الحجر فادعى على الولي ما يوجب ضماناً، فالقول قول الولي، وكذلك في دفع المال إليه بعد رشده، لأنه أمين؛ ويحتمل أن القول قول الصبي، لقوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} . 1 وهل للزوج أن يحجر على امرأته في التبرع بما زاد على الثلث من مالها، فقال الشافعي وابن المنذر: ليس له ذلك، وقال مالك: له ذلك، وليس معه حديث يدل على تحديد المنع بالثلث، مع أن الحديث ضعيف: شعيب لم يدرك عبد الله بن عمرو، وفي الصحيح: "تصدّقن ولو من حليّكنّ"، 2 ولم يستفصل. ويجوز للولي أن يأذن للصبي في التجارة، ويصح تصرفه. وقال الشافعي: لا يصح حتى يبلغ. وهل له أن يوكل فيما يتولى مثله بنفسه؟ على روايتين: إحداهما: يجوز، لأنه ملك التصرف بنفسه، فملكه بنيابته. وإن رآه سيده أو وليه يتجر فلم ينهه، لم يصر إذناً. وقال أبو حنيفة في العبد: يصير مأذوناً له، لأنه سكت عن حقه، فكان مسقطاً له كالشفيع. وما استدان العبد فهو في رقبته، يفديه سيده أو يسلمه، وعنه: يتعلق بذمته، يتبع به العبد بعد العتق، إلا المأذون له، هل يتعلق برقبته أو ذمة سيده؟ على   1 سورة النساء آية: 6. 2 البخاري: الزكاة (1466) , والترمذي: الزكاة (635) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 روايتين. فأما أرش الجناية وقيمة المتلف ففي رقبته، أذن له أم لا، رواية واحدة. وكل ما تعلق برقبته خُير السيد بين تسليمه للبيع وبين فدائه؛ فإن كان ثمنه أقل مما عليه فليس لرب الدين إلا ذلك. ويصح إقرار المأذون له فيما أذن له فيه دون ما زاد عليه. ويجوز له هدية المأكول، وإعارة دابته، واتخاذ الدعوة ما لم يكن إسرافاً. وقال الشافعي: لا يجوز ذلك بغير إذن السيد. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة المملوك". وهل لغير المأذون له الصدقة من قوته إذا لم يضرَّ به؟ على روايتين. وهل للمرأة الصدقة من بيت زوجها بغير إذنه بنحو ذلك؟ على روايتين: إحداهما: يجوز لقوله: "ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة، كان لها أجرها. وله مثله بما كسب، ولها بما أنفقت". 1 والخازن مثل ذلك، ولم يذكر إذناً، وقوله لأسماء: "لا توعي فيوعى عليك"، 2 متفق عليهما. والثانية: لا يجوز، لقوله: "إن الله حرّم بينكم دماءكم وأموالكم ... إلخ"، 3 وقوله: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس". 4 والصحيح الأول، لأن الأحاديث فيه خاصة صحيحة. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": اختار الشيخ أن من أراد سفراً وهو عاجز عن وفاء دينه، أن لغريمه منعه حتى يقيم كفيلاً ببدنه. وفي الإفصاح: أول من حبس على الديْن شريح، ومضت السنة قبله لا يحبس، لكن يتلازم الخصمان؛ فأما الحبس الآن على الديْن، فلا أعلم أنه يجوز عند أحد من المسلمين. وقال الشيخ: إن صبر على الحبس والضرب، كرر حتى يقضيه، لا أعلم فيه نزاعاً. ونقل حنبل: إذا تقاعد بحقوق الناس   1 البخاري: الزكاة (1440) , ومسلم: الزكاة (1024) , والترمذي: الزكاة (672) , وأبو داود: الزكاة (1685) , وابن ماجة: التجارات (2294) , وأحمد (6/44, 6/278) . 2 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2590) , ومسلم: الزكاة (1029) , وأحمد (6/139, 6/345, 6/346, 6/353) . 3 أحمد (5/411) . 4 أحمد (5/72) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 يباع عليه ويقضي. وقال الشيخ: من طولب بأداء حق فطلب إمهالاً أُمهل بقدر ذلك، اتفاقاً؛ لكن إن خاف غريمه منه، احتاط بملازمته أو كفيل أو ترسيم عليه. وقال: إذا مطل غريمه فاحتاج إلى الشكاية، فما غرم بسببه لزم المماطل. وقال: لو غرم بسبب كذب عليه عند ولي الأمر، رجع به على الكاذب. وقال: إن ضاق ماله عن ديونه، صار محجوراً عليه بغير حكم حاكم، ولا يصح تصرفه. ونقل حنبل: من تصدق وأبواه فقيران، رُد عليهما، لا لمن دونهما. ونص في رواية على أن من أوصى لأجانب وله أقارب محتاجون، أن الوصية تُرد عليهم. ونقل ابن منصور فيمن تصدق بماله كله عند موته: هذا كله مردود، ولو كان في حياته لم أجوّز إذا كان له ولد. وإن تصرف المحجور عليه في ذمته بشراء أو ضمان أو إقرار، صح ويتبع به بعد فك الحجر عنه. ولا يشارك من ديْنه قبل الحجر، وعنه: يصح إقراره إن أضافه إلى ما قبل الحجر أو أدانه عامل قبل قراضه. قاله الشيخ. وقال: بيع الحاكم مال المفلس بشرط أن يبيعه بثمن مثله المستقر في وقته أو أكثر. وسئل أحمد: متى تجوز هبة الغلام؟ قال: ليس فيه اختلاف: إذا احتلم أو يصير ابن خمس عشرة سنة. قال ابن عقيل: ظاهر كلام أحمد أن التبذير والإسراف: الإنفاق في الحرام. وفي النهاية: أو صدقة تضر بعياله، أو كان وحده ولم يثق بإيمانه. قال الشيخ: أو أخرج في مباح قدراً زائداً على المصلحة. ولا تثبت الولاية على الصبي والمجنون إلا للأب، قاله في الفائق وغيره، ما لم يعلم فسقه. وقيل: للإمام ولاية، وقيل: للعصبة ولاية بشرط العدالة، اختاره الشيخ. واختار: إن عدم ولي فأمين يقوم مقامه. وقال: الحاكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 العاجز كالعدم. ولا يشتري من مالهما لنفسه، وعنه: يجوز إن وكل من يبيعه. وله أن يبيع ويشتري في مال المولى عليه، وجميع الربح للمولى عليه، وقيل: يستحق الأجرة، اختاره الشيخ. وله أن يأذن للصغيرة أن تلعب باللعب غير المصورة، وشراؤها لها من مالها، نص عليه. وله أن يأذن له بالصدقة بالشيء اليسير. والصحيح: جواز بيعه عقارهما إذا كان فيه مصلحة، نص عليه، سواء حصل زيادة أم لا، اختاره الشيخ. والمنصوص عن أحمد: جواز الأكل لناظر الوقف بالمعروف، قال في الفائق: إلحاقه بعامل الزكاة في الأكل مع الغنى أولى؛ وعنه: يأكل إذا اشترط. وقال الشيخ: لا يقدم بمعلومه بلا شرط، إلا أن يأخذ أجر عمله مع فقره كوصي اليتيم. وإن رآه سيده يتجر فلم ينهه، لم يكن إذناً، لكن قال الشيخ: الذي ينبغي أن يقال فيما إذا رأى عبده يبيع فلم ينهه، وفي جميع المواضع، أنه لا يكون إذناً، ولا يصح التصرف، لكن يكون تغريراً فيكون ضامناً، بحيث أنه ليس له أن يطالب المشتري بالضمان. فإن ترك الواجب عندنا كفعل المحرم؛ كما نقول فيمن قدر على إنجاء إنسان من هلكة. بل الضمان هنا أقوى. وقال: إذا استدان أو اقترض بإذن السيد لزم السيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 باب الوكالة الوكالة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، لقوله {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} ، 1 وقوله: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ} الآية، 2ولحديث عمرو بن الجعد وغيره، و"وكل عمرو بن أمية في قبول نكاح أم حبيبة، وأبا رافع قبول نكاح ميمونة". وهي تصح بكل قول يدل على الإذن، ويصح القبول على التراخي، وتعليقها على شرط. وقال الشافعي: لا يصح. ولنا: قوله: "فإن قُتل فجعفر ... إلخ". وتصح في الخصومة من الحاضر، لأنه إجماع الصحابة، و"وكل علي عبد الله بن جعفر في خصومة عند عثمان، وقال: إن للخصومة قحماً، وإن الشيطان يحضرها، وإني لأكره أن أحضرها"، والقحم المهالك. وتجوز في كل حق لله تدخله النيابة من العبادات والحدود، ويجوز التوكيل في إثباته. وقال الشافعي: لا يجوز، لأنها تسقط بالشبهات. ولنا: قوله: " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت ... إلخ" 3. ولا يصح للوكيل أن يبيع ويشتري بالوكالة لنفسه، كالوصي لا يشتري من مال اليتيم لنفسه، وحكي عن مالك والأوزاعي الجواز فيهما. وعن أحمد يجوز بشرطين: أن يزيد على ثمن المثل، وأن يتولى النداء غيره. وإذا اشترى من مال اليتيم بأكثر من ثمنه فقد قربه بالتي هي أحسن. والأمناء على ضربين: فمن قبض المال لنفع مالكه كالمودع والوكيل   سورة التوبة آية رقم: 60. 2 سورة الكهف آية: 19. 3 البخاري: الوكالة (2315) , ومسلم: الحدود (1698) , والترمذي: الحدود (1433) , والنسائي: آداب القضاة (5410, 5411) , وأبو داود: الحدود (4445) , وابن ماجة: الحدود (2549) , وأحمد (4/115) , ومالك: الحدود (1556) , والدارمي: الحدود (2317) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 بغير جعل، قبل قولهم في الرد. والذي ينتفع بالقبض كالوكيل بجُعل والمضارب، فعلى وجهين. ولو قال: بع بعشرة وما زاد فهو لك صح، وهو قول إسحاق وغيره؛ وكرهه النخعي وابن المنذر، لأنه مجهول. ولنا: قول ابن عباس، ولا يعرف له مخالف. قال أحمد: إذا دفع إلى رجل ثوباً ليبيعه، فوهب له المشتري منديلاً، فالمنديل لصاحب الثوب. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وهل ينعزل بالموت والعزل قبل علمه؟ على روايتين. فإن قلنا: ينعزل ضمن وإلا فلا، وقال الشيخ: لا يضمن مطلقاً. وقال: من وكل في بيع أو استئجار، فإن لم يسم موكله في العقد فضامن، وإلا فروايتان. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 كتاب الشركة الشركة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، لقوله {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ} الآية، 1 ومن السنة قول زيد: "كنت أنا والبراء شريكين، فاشترينا فضة بنقد ونسيئة ... إلخ". وهي على خمسة أضرب: شركة العنان، وشركة المضاربة، وشركة الوجوه، وشركة الأبدان، وشركة المفاوضة. قال أحمد يشارك اليهودي والنصراني، ولكن لا يخلو اليهودي ولا النصراني بالمال دونه، لأنه يعمل بالربا. وكره الشافعي مشاركتهم، لأنه مروي عن ابن عباس، ولأن مالهم ليس بطيب. ولنا: ما روى الخلال بإسناده عن عطاء: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشاركة اليهودي والنصراني، إلا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم"، وقول ابن عباس محمول على هذا، فإنه علله به في رواية أبي حمزة. وقولهم: أموالهم غير طيبة، فإنه صلى الله عليه وسلم قد عاملهم، وما باعوه من الخمر والخنزير قبل مشاركة المسلم فثمنه حلال لاعتقادهم حله، ولهذا قال عمر: "ولّوهم بيعها وخذوا أثمانها". وشركة (العنان) أن يشتركا بماليهما ليعملا فيه، وهي جائزة بالإجماع. ولا تصح إلا بشرطين: أن يكون رأس المال دراهم أو دنانير، ولا تصح بالعروض، وعنه:   1 سورة ص آية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 تصح ويجعل قيمتها وقت العقد رأس المال. وهل تصح بالفلوس والمغشوش؟ على وجهين. الثاني: أن يشترطا لكل منهما جزءاً من الربح مشاعاً معلوماً كالنصف، سواء شرطا لكل واحد منهما قدر ماله من الربح أو أقل أو أكثر؛ وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك والشافعي: لا بد من الربح والخسران على قدر المالين، فإن شرطا لأحدهما في الشركة والمضاربة دراهم معلومة أو ربح أحد الثوبين لم يصح، حكاه ابن المنذر إجماعاً، إذا جعل أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة، وما يشتريه كل واحد منهما بعد عقد الشركة فهو بينهما، فأما ما يشتريه لنفسه فهو له والقول قوله لأنه أعلم بنيته. وإن تقاسما الدين في الذمة لم يصح، وعنه: يجوز فلا يرجع من توى ماله على من لم يتو. وإن أقر بمال لم يقبل على شريكه، لأنه إنما أذن له في التجارة، وقال القاضي: يقبل إقراره على مال الشركة. وعلى كل واحد أن يتولى ما جرت العادة به من إحراز المال ونحوه. فإن استأجر أحدهما فالأجرة عليه. وما جرت العادة أن يستنيب فيه كحمل المتاع فمن مال القراض، فإن فعله ليأخذ الأجرة فهل له ذلك؟ على وجهين. والشروط فيها ضربان: (صحيح) : مثل أن يشترط أن لا يتجر إلا في نوع أو بلد، أو لا يبيع إلا بنقد، أو لا يسافر بالمال. (وفاسد) : مثل ما يعود بجهالة الربح أو ضمان المال، أو أن عليه من الوضيعة أكثر من قدر ماله، فما نافى مقتضى العقد مثل أن لا يعزله أو يوليه ما يختار من السلع ونحو ذلك، لأنها تفوت المقصود من المضاربة وهو الربح، أو يمتنع الفسخ الجائز، وما عاد بجهالة الربح مثل أن يشترط جزءاً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 الربح مجهولاً، أو ربح أحد الكبشين، أو دراهم معلومة، فهذه شروط فاسدة، لأنها تفضي إلى جهل حق كل واحد منهما من الربح، أو إلى فواته بالكلية. وما ليس من مصلحة العقد ولا مقتضاه، مثل أن يشترط المضاربة في مال آخر، أو يأخذه قرضاً أو بضاعة، أو ضمان المال، فما عاد بجهالة الربح فسدت المضاربة، وما عداه من الشروط الفاسدة فأظهر الروايتين أن العقد صحيح. الثاني: (المضاربة) ، وهي مجمع على جوازها، ومن شرطها: تقدير نصيب العامل، فلو قال: خذه مضاربة فالربح كله لرب المال، وللعامل أجرة مثله، وقال الحسن والأوزاعي: الربح بينهما نصفين. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أنه لا يجوز أن يجعل الرجل ديْناً له على رجل مضاربة. وقال بعض أصحابنا: يحتمل أن يصح. وإن أخرج مالاً ليعمل فيه وآخر والربح بينهما صح، نص عليه. ومذهب مالك والشافعي: أنه إذا شرط على رب المال أن يعمل معه لم يصح، وقاله الأوزاعي وابن المنذر، وقال: لا تصح المضاربة حتى يسلم المال إلى العامل ويخلي بينه وبينه. وإن اشترك مالان ببدن صاحب أحدهما، فهذا شركة ومضاربة، وهو صحيح، وقال مالك: لا يجوز. "وإذا تعدى المضارب ضمن"، في قول الأكثر، روي عن أبي هريرة وحكيم بن حزام ومالك والشافعي وأصحاب الرأي. وروي عن علي: "لا ضمان على شريكه في الربح". وروي عن الحسن والزهري. وإن اشترى ما لم يؤذن له فيه فربح، فالربح لرب المال، نص عليه؛ وبه قال أبو قلابة. وعنه: يتصدقان به، وهو قول النخعي. وقال مالك: الربح على ما شرطا. وليس لرب المال أن يشتري من مال المضاربة شيئاً لنفسه، وعنه: يجوز. وإن اشترى المضارب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 ولم يظهر ربح صح، وقال أبو ثور: البيع باطل لأنه شريك. ولنا: أنه إنما يكون شريكاً إذا ظهر الربح. وليس للمضارب نفقة إلا أن يشترط، وقال مالك وإسحاق: ينفق من المال بالمعروف إذا شخص به عن البلد. فإن أذن له في التسري صح. فإن اشترى جارية ملكها وصار ثمنها قرضاً، نص عليه. وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال ويسلمه إلى ربه. وفي ملك العامل نصيبه من الربح قبل القسمة، روايتان. وإن تلف بعض رأس المال قبل التصرف فيه، انفسخت فيه المضاربة. وإذا ظهر الربح، لم يكن له أخذ شيء إلا بإذن رب المال، لا نعلم فيه خلافاً. وإن مات المضارب ولم يعلم مال المضاربة، فهو ديْن في تركته، وكذلك الوديعة. وقال الشافعي: ليس على المضارب شيء. وإذا كان لرجلين ديْن إما عقد أو ميراث أو غيره، فقبض أحدهما منه شيئاً، فللآخر مشاركته؛ وعنه: أن لأحدهما أخذ حقه دون صاحبه، وهو قول أبي العالية وأبي قلابة وأبي عبيد. الثالث: (شركة الوجوه) ، وهو أن يشترك اثنان فيما يشتريان بجاههما، من غير أن يكون لهما رأس مال. قال أحمد في رجلين اشتركا بغير رؤوس أموال: هو جائز. وبه قال الثوري وابن المنذر، وقال أبو حنيفة: لا يصح حتى يذكر الوقت أو المال أو صنفاً من الثياب. وقال مالك والشافعي: يشترط ذكر شرائط الوكالة. وهما في التصرفات كشريكي العنان فيما يجب لها وعليهما وغير ذلك. الرابع: (شركة الأبدان) ، وهي أن يشتركا فيما يكسبان بأبدانهما أو فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 يكسبان من المباح، كالحشيش؛ فهذا جائز، نص عليه فقال: لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم وليس معهم مال؛ قد "أشرك النبي صلى الله عليه وسلم بين سعد وابن مسعود وعمار، فجاء سعد بأسيرين، ولم يجيئا بشيء". 1 وقال أبو حنيفة: تصح في الصناعة لا في اكتساب المباح. وقال الشافعي: شركة الأبدان كلها فاسدة. ولنا: ما تقدم. فإن قيل: المغانم بين الغانمين، فكيف اختص هؤلاء بالشركة؟ وقال بعض الشافعية: "مغانم بدر لرسول الله دفعها إلى من شاء"، قلنا: غنائم بدر لمن أخذها قبل أن يشرك الله بينهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من أخذ شيئاً فهو له"، 2 والله سبحانه إنما جعلها لنبيه بعد أن غنموا واختلفوا فيها. ويصح مع اختلاف الصنائع، في أحد الوجهين. والربح في شركة الأبدان على ما اتفقوا عليه، فإن مرض أحدهما فالكسب بينهما، فإن طالبه الصحيح أن يقيم مقامه لزمه. وإن دفع دابته إلى من يعمل عليها وما رزق الله فهو بينهما على ما شرطا صح، وكرهه الحسن، وقال الشافعي وابن المنذر: لا يصح، والربح كله لرب الدابة، وللعامل أجرة مثله. وقال أحمد فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة: أرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال الأوزاعي. وقال أحمد: لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع، قيل: يعطيه بالثلث والربع ودرهم أو درهمين؟ قال: أكرهه، لأنه لا يعرف الثلث. وإذا لم يكن معه شيء نراه جائزاً، لإعطائه خيبر على الشطر. الخامس: شركة المفاوضة، وهي أن يدخلا في الشركة الأكساب النادرة كوجدان لقطة أو ركاز، أو ما يحصل لهما من ميراث، أو ما يلزم أحدهما   1 النسائي: الأيمان والنذور (3937) , وأبو داود: البيوع (3388) , وابن ماجة: التجارات (2288) . 2 أحمد (1/178) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 من أرش جناية، فهي فاسدة؛ وأجازها الثوري والأوزاعي. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وإن تقاسما في الذمة لم يصح، وعنه: يصح، اختاره الشيخ، وقال: ولو في ذمة واحدة. وقال: إذا تكافأت الذمم، فقياس المذهب من الحوالة على مليء وجوبه. وإذا قبض أحد الشريكين من مال بينهما بسبب واحد كإرث - قال الشيخ: أو ضريبة سبب استحقاقها واحد - فلشريكه الأخذ من الغريم ومن الآخذ، واختار الشيخ أن الآخذ لو أخرجه من يده برهن أو قضاء دين أو تلف في يده، أنه يضمنه. وإذا فسد العقد، فأوجب الشيخ فيه نصيب المثل، فيجب من الربح جزء جرت العادة بمثله. وقال: الربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة به، قيل: للمالك، وقيل: للعامل، وقيل يتصدقان به، وقيل: بينهما على قدر النفعين بحسب معرفة أهل الخبرة، وهو أصحها، إلا أن يتجر به على غير وجه العدوان، مثل أن يعتقد أنه ماله، فهنا يقتسمان الربح بلا ريب. وقال في موضع آخر: إن كان عالماً بأنه مال الغير، فهنا يتوجه قول من لا يعطيه شيئاً. فإذا تاب، أبيح له بالقسمة، وإن لم يتب ففي حله نظر. وكذلك إذا غصب شيئاً كفرس فكسب به، يجعل الكسب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما، بأن تقوّم منفعة الراكب ومنفعة الدابة ثم يقسم الصيد بينهما. وأما إذا كسب العبد، فالواجب أن يعطي المالك أكثر الأمرين من كسبه أو قيمة نفقته. انتهى. وليس للمضارب أن يضارب لآخر إذا كان فيه ضرر على الأول، فإن فعل رد نصيبه من الربح في شركة الأول. واختار الشيخ أن رب المضاربة الأولى لا يستحق من ربح المضاربة الثانية شيئاً. وقال: ليس للمضارب نفقة إلا بشرط أو عادة، وهل يملك العامل حصته من الربح قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 القسمة؟ على روايتين. وعنه رواية ثالثة: يملكها بالمحاسبة، والتنضيض، والفسخ قبل القسمة، والقبض، اختاره الشيخ. وقال: لو مات وصي وجهل بقاء مال موليه، فهو في تركته. واختار أن له دفع دابته ونخله لمن يقوم به بجزء من نمائه. واختار صحة أخذ الماشية ليقوم عليها بجزء من درها ونسلها وصوفها. وقال: تصح شركة الشهود، وللشاهد أن يقيم مقامه إن كان على عمل في الذمة، وإن كان الجعل على شهادته بعينه، ففيه وجهان، قال: والأصح جوازه. قال: وللحاكم إكراههم، لأن له نظراً في العدالة وغيرها. وقال: إن اشتركوا على أن كل ما حصله واحد منهم بينهم، بحيث إذا شهد أحدهم وكتب شاركه الآخر وإن لم يعمل، فهي شركة الأبدان، تجوز حيث تجوز الوكالة؛ وأما حيث لا تجوز، ففيه وجهان كشركة الدلالين. ونص أحمد على جوازها. وقال الشيخ: تسليم الأموال إليهم مع العلم بالشركة إذْن لهم. قال: إن باع كل واحد منهم ما أخذ ولم يعط غيره واشتركا في الكسب، جاز لئلا تقع منازعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 باب المساقاة "تجوز في كل شجر له ثمر مأكول ببعض ثمرته"، هذا قول الخلفاء الراشدين. وقال داود: لا تجوز إلا في النخل، وقال الشافعي: لا تجوز إلا فيه وفي الكرم. وفي سائر الشجر قولان. وقال أبو حنيفة: لا تجوز بحال، لأنها إجارة بثمرة لم تخلق أو مجهولة. ولنا: الخبر، والإجماع، فلا يعوّل على ما خالفهما. فإن قيل: راوي الخبر ابن عمر، وقد رجع إلى حديث رافع، قلنا: لا يجوز حمل حديث رافع ولا حديث ابن عمر على ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يزل يعامل أهل خيبر، ثم الخلفاء بعده ثم من بعدهم، ولو صح خبر رافع لحمل على ما يوافق السنة؛ فروى البخاري فيه: "كنا نكري الأرض بالناحية منها". 1 وفسر بغير هذا من أنواع الفساد، وهو مضطرب جداً. قال أحمد: يروى عن رافع في هذا ضروب، كأنه يريد أن اختلاف الروايات عنه توهن حديثه. وأنكره زيد بن ثابت عليه. ورجوع ابن عمر يحتمل أنه عن شيء من المعاملات التي فسرها رافع، وأما غير ابن عمر فأنكر على رافع ولم يقبل حديثه، وحمله على أنه غلط في روايته. وأما تخصيصه بالنخل أو به وبالكرم، فخالف قوله: "عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر"، 2 وهذا عام في كل ثمر. وهل يصح على ثمرة موجودة؟ على روايتين: إحداهما: يجوز. ولو دفع أرضه إلى من يغرسها على أن الشجر بينهما لم يجز، ويحتمل   1 البخاري: المزارعة (2327) . 2 البخاري: المزارعة (2329) والمغازي (4248) , ومسلم: المساقاة (1551) , والترمذي: الأحكام (1383) , والنسائي: الأيمان والنذور (3929) , وأبو داود: البيوع (3408) , وابن ماجة: الأحكام (2467) , وأحمد (2/17) , والدارمي: البيوع (2614) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 الجواز بناء على المزارعة. فإن شرط الأرض والشجر بينهما لم يصح، لا نعلم فيه مخالفاًً. وتصح على البعل كالسقي، لا نعلم فيه مخالفاًً، لأن الحاجة تدعو إلى المعاملة فيه، كدعائها إلى المعاملة في غيره. وهي عقد جائز، سئل أحمد عن: إكار يخرج من غير أن يخرجه صاحب الضيعة؟ فلم يمنعه، وقيل لازم، وهو قول أكثر الفقهاء. ويلزم العامل ما فيه صلاح الثمرة، وعلى رب المال ما فيه حفظ الأصل. فإن شرط على أحدهما شيء مما يلزم الآخر، فقيل: لا يجوز، وهو مذهب الشافعي، وعن أحمد ما يدل على صحة ذلك. ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم زائداً على ما له من الثمرة، بغير خلاف. وإذا ساقاه أو زارعه فعامل العامل غيره لم يجز، وأجازه مالك، إذا جاء برجل أمين. فأما من استأجر أرضاً فله أن يزارع غيره فيها، والأجرة على المستأجر دون المزارع كما ذكرنا في الخراج، ولا نعلم فيه خلافاً عند من أجاز المساقاة والمزارعة. وإن شرط: إن سقى سيحاً فله الربع، وإن سقى بكلفة فله النصف، أو إن زرعها شعيراً فله الربع، وحنطة النصف، لم يصح، وقيل: يصح. وإن قال: ما زرعتها من شيء فلي نصفه، صح، لحديث خيبر. وإن قال: لك الخمسان إن كان عليك خسارة، وإلا فالربع، لم يصح، نص عليه وقال: هذا شرطان في شرط، وكرِهه. وتجوز المزارعة بجزء معلوم للعامل، في قول أكثر أهل العلم، وكرهها مالك، وأجازها الشافعي في الأرض بين النخل إذا كان بياض الأرض أقل، فإن كان أكثر فعلى وجهين. ومنعها في الأرض البيضاء، لحديث رافع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 وجابر. وإن زارعه أرضاً فيها شجرات يسيرة، لم يجز أن يشترط العامل ثمرتها، وأجازه مالك إذا كان الشجر بقدر الثلث أو أقل. وإن شرط أن يأخذ رب الأرض مثل بذرة ويقتسما الباقي لم يصح، وكذلك لو شرط لأحدهما زرع ناحية معينة، أو ما على الجداول منفرداً ومع نصيبه، فهو فاسد إجماعاً، لصحة الخبر في النهي. وعن أحمد: إذا شرط الجذاذ على العامل فجائز، لأنه عليه، وإلا فعلى رب المال حصة ما يصير إليه؛ فجعل الجذاذ عليهما، وأجاز اشتراطه على العامل. وقال محمد بن الحسن: تفسد بشرطه على العامل. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم دفع خبير إلى يهود على أن يعملوها من أموالهم". 1 وإن زارع رجلاً أو آجره أرضه فزرعها، فسقط من الحب شيء فنبت، فهو لصاحب الأرض، وقال الشافعي: لصاحب الأرض. ولنا: أنه أسقط حقه منه بحكم العرف، وزال ملكه عنه، ولهذا أبيح التقاطه، لا نعلم فيه خلافاً. وتجوز إجارة الأرض بالذهب والفضة والعروض غير المطعوم، في قول عامة أهل العلم. وروي عن الحسن: الكراهة، لحديث رافع. ولنا: قول رافع: "إنما نهي عنها ببعض ما يخرج منها، أما بالذهب والفضة فلا بأس"، ولمسلم: "أما بشيء معلوم مضمون، فلا بأس" 2. وأما إجارتها بطعام، فثلاثة أقسام: أحدها: بطعام معلوم غير الخارج منها، فأجازه الأكثر، ومنع منه مالك. وعن أحمد: ربما تهيبته، لما في حديث رافع: "لا يكريها بطعام مسمى" رواه أبو داود. الثاني: إجارتها بطعام معلوم من جنس ما يخرج منها، ففيه روايتان:   1 البخاري: المزارعة (2331) , والترمذي: الأحكام (1383) , والنسائي: الأيمان والنذور (3872) , وأبو داود: البيوع (3409) , وابن ماجة: الأحكام (2467) , وأحمد (2/17, 2/22) . 2 مسلم: البيوع (1547) , والنسائي: الأيمان والنذور (3899) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 إحداهما: المنع، لأنه ذريعة إلى المزارعة عليها بشيء معلوم من الخارج منها. الثالث: إجارتها بجزء مشاع بما يخرج منها، فالمنصوص عنه: جوازه، وقال الشافعي: لا يصح. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف ": لو صح فيما تقدم إجارة أو مزارعة فلم يزرع، نظر إلى معدل المغل فيجب القسط المسمى فيه، وإن فسدت وسميت إجارة فأجرة المثل، واختار الشيخ قسط المثل. واختار جواز المساقاة على شجر يغرسه ويعمل عليه بجزء معلوم من الشجر، أو بجزء من الشجر والثمر كالمزارعة، وقال: ولو كان مغروساً، ولو كان ناظر وقف، وإنه لا يجوز للناظر بعده بيع نصيب الوقف من الشجر بلا حاجة. وللحاكم الحكم بلزومها في محل النزاع فقط. ولو كان الاشتراك في الغراس والأرض فسد، وجهاً واحداً. وقال الشيخ: قياس المذهب: صحة ما سقط من الحب وقت الحصاد إن نبت فلرب الأرض، وفي الرعاية: هو لرب الأرض مالكاً ومستأجراً أو مستعيراً. وكذا نص أحمد فيمن باع قصيلاً فحصد وبقي يسير فصار سنبلاً، فهو لرب الأرض. والمساقاة عقد جائز، وقيل: لازم، اختاره الشيخ. وأفتى فيمن زارع رجلاً على مزرعة بستان ثم أجرها، هل تبطل المزارعة؟ فقال: إن زارعه مزارعة لازمة لم تبطل، وإن لم تكن لازمة أعطى الفلاح أجرة عمله. وأفتى فيمن زرع أرضاً بوراً فهل له إذا خرج منها فلاحة؟ أنه إن كان له في الأرض فلاحة لم ينتفع بها، فله قيمتها على من انتفع بها. فإن انتفع بها المالك وأخذ عوضاً عنها من المستأجر، فضمانها عليه، وإن أخذ الأجرة عن الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 وحدها فضمان الفلاحة على المستأجر المنتفع بها. ونص أحمد فيمن استأجر أرضاً مفلوحة وشرط عليه أن يردها مفلوحة كما أخذها، أنه له أن يردها كما شرط. وقال الشيخ: السياج على المالك، وكذا تسميد الأرض بالزبل إذا احتاجت إليه، ولكن تفريقه فيها على العامل. وقال: المزارعة أحل من الإجارة لاشتراكهما في المغنم والمغرم. وإن كان فيها شجر فزارعه الأرض وساقاه على الشجر صح، وإن جمع بينهما في عقد واحد فكجمع بين بيع وإجارة. قال الشيخ: سواء صحت أو لا، فما ذهب من الشجر ذهب ما يقابله من العوض. ولا تجوز إجارة أرض وشجر لحملها، حكاه أبو عبيد إجماعاً، وجوزه ابن عقيل تبعاً للأرض ولو كان الشجر أكثر، اختاره الشيخ. بل جوز إجارة الشجر مفرداً ويقوم عليها المستأجر كأرض لزرع، بخلاف بيع السنين، فإن تلفت الثمرة فلا أجرة، وإن نقصت عن العادة فالفسخ أو الأرش، لعدم المنفعة المقصودة بالعقد كجائحة. واختار أنه لا يشترط كون البذر من رب الأرض، وجوز أخذ البذر أو بعضه بطريق القرض، وقال: يلزم من اعتبر البذر من رب الأرض، وإلا فقوله فاسد. وقال أيضاً: يجوز كالمضاربة، وكاقتسامهما الباقي بعد الكلف. وقال: يتبع الكلف السلطانية العرف ما لم يكن شرطاً، واشترط عمل الآخر حتى يثمر ببعضه. قال: وما طلب من قرية من وظائف سلطانية ونحوها، فعلى قدر الأموال، وإن وضعت على الزرع فعلى ربه، أو على العقار فعلى ربه، ما لم يشرطه على مستأجر. وإن وضع مطلقاً، رجع إلى العادة. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 باب الإجارة الإجارة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، 1 وقول تعالى: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي} الآية، 2 وقال تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} . 3 ولابن ماجة مرفوعاً: "إن موسى عليه السلام أجّر نفسه ثماني حجج أو عشراً، على عفة فرجه وطعام بطنه"، 4 وفي الصحيح: "أنه استأجر رجلاً من بني الديل"، 5 وفيه: "ثلاثة أنا خصمهم: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يؤته أجره " 6. وهي عقد على المنافع، تنعقد بلفظ الإجارة والكراء، وما في معناهما. ولا تصح إلا بشروط ثلاثة: أحدها: معرفة المنفعة، مثل بناء الحائط يذكر طوله وعرضه. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن إجارة المنازل والدواب جائزة. ويجوز الاستئجار للخدمة كل شهر بشيء معلوم. قال أحمد: أجير المشاهرة   1 سورة الطلاق آية: 6. 2 سورة القصص آية: 26-27. 3 سورة الكهف آية: 77. 4 ابن ماجة: الأحكام (2444) . 5 البخاري: الإجارة (2263) . 6 البخاري: البيوع (2227) , وابن ماجة: الأحكام (2442) , وأحمد (2/357) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 يشهد الأعياد والجمعة وإن لم يشترط. قيل له: فيتطوع بالركعتين؟ قال: ما لم يضر بصاحبه. قال ابن المبارك: يصلي الأجير ركعتين من السنّة، وقال ابن المنذر: ليس له منعه منها. وإذا استأجر أرضاً احتاج إلى ذكر ما تكترى له من غراس أو بناء أو زرع. الثاني: معرفة الأجرة، لا نعلم فيه خلافاً، فإن علمت بالمشاهدة دون القدر كالصبرة جاز. واختلفت الرواية عن أحمد: فيمن استأجر أجيراً بطعامه وكسوته، أو جعل له أجراً، وشرط طعامه وكسوته، فعنه: يجوز، وهو مذهب مالك وإسحاق. وروي عن أبي بكر وعمر وأبي موسى "أنهم استأجروا الأجراء لإطعامهم وكسوتهم". وعنه: يجوز في الظئر دون غيرها، وهو مذهب أبي حنيفة لأنه مجهول. وجاز في الظئر، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} الآية. 1 وعنه: لا يجوز في الظئر ولا غيرها، وبه قال الشافعي وابن المنذر، لأنه يختلف اختلافاً كثيراً متبايناً. ولو استأجر دابة بعلفها لم يجز لأنه مجهول، وعن أحمد: أنه يجوز. وقال: لا بأس أن يحصد الزرع ويصرم النخل بالسدس، وهو أحب إلي من المقاطعة. ويستحب أن يعطي عند الفطام عبداً أو وليدة إذا كان موسراً، لحديث حجاج الأسلمي: "قلت: يا رسول الله، ما يذهب عني مذمّة الرضاع؟ قال: الغرة، العبد أو الأمة". 2 صححه الترمذي. والمذمة بكسر الذال من الذِمام، وبفتحها من الذَّم. قيل: خص الرقبة بالمجازاة، لأن فعلها من الحضانة والرضاعة سبب حياة الولد، فاستحب جعل الجزاء هيئتها رقبة لتناسب ما بين النعمة والشكر، ولهذا جعل الله المرضعة أماً، فقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي} ، 3   1 سورة البقرة آية: 233. 2 الترمذي: الرضاع (1153) , والنسائي: النكاح (3329) , وأبو داود: النكاح (2064) , وأحمد (3/450) , والدارمي: النكاح (2254) . 3 سورة النساء آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 وقال: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه". 1 وإذا دفع ثوبه إلى خياط أو قصار من غير عقد ولا شرط فلهما الأجر، وقال أصحاب الشافعي: لا أجر لهما. ولنا: أن العرف الجاري يقوم مقام القول، كنقد البلد، ودخول الحمام، وركوب السفينة. وقال أحمد: لا بأس أن يكتري بطعام موصوف، وكرهه الثوري. وتجوز إجارة الحلي بأجرة من جنسه، وقيل: لا، وعن أحمد في إجارة الحلي: ما أدري ما هو. وقال مالك في إجارة الحلي والثياب: هو من المشتبهات. ولو استأجر راعياً لغنم بدرّها ونسلها وصوفها أو بعضه لم يصح، نص عليه، لأنه مجهول. وسئل عن: الرجل يدفع البقرة بعلفها، والولد بينهما؟ قال: أكرهه، ولا أعلم فيه مخالفاًًً؛ فإن قيل: جوزتم دفع الدابة إلى من يعمل عليها بنصف مغلها، قلنا: ذلك تشبيهاً بالمضاربة. وذكر صاحب المحرر رواية أخرى: أنه يجوز. وإن قال: إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم، وإن خطته غداً فنصف درهم، فهل يصح؟ على روايتين. ونقل عبد الله فيمن اكترى دابة فقال: إن رددتها اليوم فكراها خمسة، وإن رددتها غداً فكراها عشرة: لا بأس، وظاهر رواية الجماعة: الفساد، على قياس بيعتين في بيعة، وقياس حديث عليّ: صحته، وسنذكره. ونص أحمد على أنه لا يجوز أن يكتري لمدة غزاته، وهذا قول أكثر أهل العلم، وقال مالك: قد عرف وجه ذلك، وأرجو أن يكون خفيفاً. وإن سمى لكل يوم شيئاً معلوماً جاز، وقال الشافعي: لا يصح، لأن مدة الإجارة مجهولة. ولنا: "أن علياً أجّر نفسه كل دلو بتمرة، وكذلك   1 مسلم: العتق (1510) , والترمذي: البر والصلة (1906) , وأبو داود: الأدب (5137) , وابن ماجة: الأدب (3659) , وأحمد (2/230, 2/263, 2/376, 2/445) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 الأنصاري فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم". قال علي: "كنت أدلي الدلو بتمرة وأشترطها جَلْدة. واشترط الأنصاري أن لا يأخذ حدرة ولا بارزة ولا حشفة ولا يأخذ إلا جلدة. فاستقى بنحو من صاعين فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم". رواهما ابن ماجة. الثالث: أن تكون المنفعة مباحة، فلا تجوز على الزمر والغناء، ولا إجارة دار لتجعل كنيسة، أو لبيع الخمر والقمار. والاستئجار لكنس الكنيف جائز، إلا أنه يكره له أكل أجرته كأجرة الحجام. وروى سعيد بن منصور: "أن رجلاً حج وأتى ابن عباس فقال: إني رجل أكنس، فما ترى في مكسبي؟ قال: أي شيء تكنس؟ قال العذرة. قال: فمنه حججت ومنه تزوجت؟ قال: نعم. قال: أنت خبيث، وحجك خبيث، وما تزوجت خبيث". ولا يجوز استئجار شمع ليتجمل به ويردّه، ولا طعام ليتجمل به على مائدته ثم يردّه، لأن فيه سفهاً، وأخذه من أكل المال بالباطل. والإجارة على ضربين: أحدهما: إجارة عين، فيجوز إجارة كل عين يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها، كالأرض والدار والعبد. ويجوز استئجار كتاب ليقرأ فيه، إلا المصحف، في أحد الوجهين. والذي يحرم بيعه تحرم إجارته، إلا الحر والوقف وأم الولد. ويجوز استئجار دار يتخذها مسجداً يصلى فيه. وبه قال الشافعي ومالك، وقال أبو حنيفة: لا يجوز. ويجوز استئجار امرأته لرضاع ولده، وحكي عن الشافعي: لا يجوز، لأنه قد استحق حبسها والاستمتاع بها بعوض، فلا يجوز أن يلزمه عوض آخر لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 ولا تصح إلا بشروط خمسة: أحدها: أن يعقد على نفع العين دون أجزائها، فلا يجوز استئجار الشمع ليشعله، ولا حيوان ليأخذ لبنه إلا في الظئر ونقع البئر. ولا يجوز استئجار الفحل للضرب، وجوزه الحسن. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن عسب الفحل" 1. الثاني: معرفة العين برؤية أو صفة، في أحد الوجهين. وفي الآخر: يصح، وللمستأجر خيار الرؤية. وكره أحمد كراء الحمام، لأنه يدخله من يكشف عورته، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن كراء الحمام جائز، إذا حدده وذكر جميع آلته شهوراً مسماة. الثالث: القدرة على التسليم، فلا يصح إجارة الآبق ولا المغصوب من غير غاصبه أو قادر على أخذه، ولا إجارة المشاع مفرداً لغير شريكه، وعنه: ما يدل على الجواز. ولا تجوز إجارة المسلم للذمي لخدمته، وإن كان في عمل شيء جاز بغير خلاف، لحديث علي. الرابع: اشتمال العين على المنفعة، فلا يجوز إجارة أرض لا تنبت للزرع. الخامس: كون المنفعة مملوكة للمؤجر أو مأذونا له فيها، ويحتمل أن يجوز، ويقف على إجازة المالك. وللمستأجر أن يؤجر العين إذا قبضها، وعنه: لا يجوز، لنهيه عن ربح ما لم يضمن، والمنافع لم تدخل في ضمانه؛ والأول أصح، لأن قبض العين قام مقام قبض المنافع بدليل جواز التصرف فيها كبيع الثمرة على الشجر. ولا يجوز إلا لمن يقوم مقامه أو دونه في الضرر، فأما إجارتها قبل قبضها، فيجوز من غير المؤجر، في أحد الوجهين. والثاني: لا يجوز، وهو   1 البخاري: الإجارة (2284) , والترمذي: البيوع (1273) , والنسائي: البيوع (4671) , وأبو داود: البيوع (3429) , وأحمد (2/14) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 قول أبي حنيفة. وأما إجارتها للمؤجر قبل القبض، فإن قلنا: لا يجوز من غيره، فهنا فيه وجهان: أحدهما: يجوز، لأن القبض لا يتعذر عليه، وأصلها بيع الطعام قبل قبضه، هل يصح من بائعه؟ على روايتين. ويجوز إجارتها من المؤجر بعد قبضها، وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وتجوز إجارتها بمثل الأجرة وزيادة، وعنه: لا تجوز الزيادة. وعنه: إن جدد فيها عمارة جازت الزيادة، و"نهى صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن". 1 ولنا: أن المنافع قد دخلت في ضمانه من وجه، لأنها لو فاتت من غير استيفائه كانت من ضمانه. والقياس على بيع الطعام قبل قبضه لا يصح، فإنه لا يجوز وإن لم يربح فيه. وسئل أحمد عن: الرجل يتقبل عملاً فيقبله بأقل، أيجوز له الفضل؟ قال: ما أدري، هي مسألة فيها بعض الشيء. قلت: أليس إذا قطع الخياط الثوب أو غيره إذا عمل في العمل شيئاً؟ قال: إذا عمل فهو أسهل. فإن مات المؤجر لم تنفسخ، في أحد الوجهين. والثاني: تنفسخ فيما بقي، لأنا تبينا أنه أجر ملكه وملك غيره، بخلاف الطلق، فإن الوارث لا يرث إلا ما خلفه. وإن أجر الولي اليتيم أو ماله مدة فبلغ في أثنائها، فليس له الفسخ، ويحتمل أن تبطل فيما بعد البلوغ، لزوال الولاية. وإن مات الولي أو عزل وانتقلت الولاية إلى غيره، لم يبطل عقده، كما لو مات ناظر الوقف أو عزل. وإجارة العين على قسمين: أحدهما: أن تكون على مدة، كإجارة الدار شهراً، والعبد للخدمة مدة معلومة؛ ويسمى الأجير فيها: الأجير الخاص، لأن المستأجر يختص بمنفعة في مدة الإجارة. ولا تتقدر أكثر مدة الإجارة، بل يجوز إجارتها مدة يغلب على الظن بقاء العين فيها وإن طالت، هذا قول عامة أهل العلم، غير أن   1 الترمذي: البيوع (1234) , وأبو داود: البيوع (3504) , وابن ماجة: التجارات (2188) , وأحمد (2/174, 2/205) , والدارمي: البيوع (2560) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 بعضهم حكى عن الشافعي: لا تجوز أكثر من سنة. ولنا: قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} . 1 ولا يشترط أن تلي العقد، وقال الشافعي: يشترط، إلا أن يستأجرها من هي في إجارته، ففيه قولان. الثاني: عقد على منفعة في الذمة مضبوطة بصفات السلَم، كخياطة ثوب، ويسمى الأجير فيها: الأجير المشترك، مثل الخياط الذي يتقبل الخياطة لجماعة فتكون منفعته مشتركة. ولا تجوز على عمل يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، كالحج والأذان ونحوهما. وكره إسحاق تعليم القرآن بأجر، قال عبد الله بن شقيق: هذه الرغفان التي يأخذها المعلمون من السحت؛ وعنه: يصح، وأجازه مالك والشافعي. فأما الأخذ على الرقية فإن أحمد اختار جوازه، لأنها نوع مداواة، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أحق ما أخذتم عليه أجراً: كتاب الله" 2 يعني به: الجعل في الرقية. وأما جعل تعليم القرآن صداقاً، فعنه: فيه اختلاف، وليس في الخبر تصريح بأن التعليم صداق، بل يحتمل أنه زوجه بغير صداق إكراماً له، كما زوج أبا طلحة أم سليم على إسلامه. فإن أُعطي المعلم شيئاً من غير شرط جاز، قال أحمد: لا يطلب ولا يشارط، فإن أُعطي شيئاً أخذه، وقال: أكره أجر المعلم إذا شرط. فأما ما لا يختص أن يكون فاعله من أهل القربة ومعناه كونه مسلماً، كتعليم الخط والحساب وبناء المساجد، فيجوز أخذ الأجر عليه. فأما ما لا يتعدى نفعه من العبادات المحضة، كالصيام والصلاة، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه، بغير خلاف. فإن استأجر من يحجمه صح، ويكره للحجام أكل أجرته، ويطعمه الرقيق والبهائم، وقوله: "أطعمه   1 سورة القصص آية: 27. 2 البخاري: الطب (5737) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 رقيقك" دليل على إباحته؛ وتسميته خبيثاً لا يلزم منه التحريم، فقد سمى الثوم والبصل خبيثين. وللمستأجر استيفاء المنفعة بنفسه وبمثله، ولا تجوز بمن هو أكثر ضرراً منه ولا بمن يخاف ضرره. والإجارة عقد لازم، وبه قال مالك والشافعي، فلا تنفسخ بموت أحدهما، وقال الثوري وأصحاب الرأي: تنفسخ. ولا تنفسخ بعذر لأحدهما مثل أن يكتري للحج فتضيع نفقته، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز للمكتري فسخها لعذر، مثل أن يكتري جملاً ليحج عليه فيمرض، فلا يتمكن من الخروج أو تضيع نفقته. ولا ضمان على الأجير الخاص. قال أحمد فيمن أمر غلامه يكيل لرجل فسقط المكيال من يده فانكسر: لا ضمان عليه، قيل: أليس بمنزلة القصار؟ قال: لا، القصار مشترك. وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وظاهر مذهب الشافعي، وله قول آخر: أن جميع الأجراء يضمنون. وروى في مسنده عن علي: "أنه كان يضمن الأجراء ويقول: لا يصلح الناس إلا هذا". "والأجير المشترك يضمن ما جنت يده، كالحائك إذا أفسد حياكته، والطباخ والخباز والحمال يضمن ما سقط من حمله عن دابته، أو تلف من عثرته"؛ روي ذلك عن عمر وعلي وشريح والحسن، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي. وقال في الآخر: لا يضمن ما لم يتعدَّ، قال الربيع: هذا مذهب الشافعي وإن لم يبح به، روي عن عطاء وطاووس. ولنا: ما روى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي "أنه كان يضمن الصباغ والصواغ، وقال: لا يصلح الناس إلا على ذلك". واختلفت الرواية عن أحمد في الأجير المشترك إذا تلفت العين من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 حرزه أو بغير فعله بغير تفريط، فروي عنه: لا يضمن. وعنه: إذا جنت يده أو ضاع من بين متاعه ضمنه، وإن كان عدواً أو غرقاً فلا ضمان؛ والصحيح الأول، وهذه الرواية تحتمل إنما وجب الضمان إذا تلف من بين متاعه خاصة، لأنه متهم. وقال مالك: يضمن بكل حال، لحديث: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه". 1 والعين المستأجرة أمانة، إن تلفت بغير تفريط لم تضمن. قال أحمد فيمن يكري الخيمة إلى مكة فتسرق من المكتري: أرجو أن لا يضمن، وكيف يضمن إذا ذهب؟ ولا نعلم في هذا خلافاً. فإن شرط المؤجر الضمان، فالشرط فاسد. وروى الأثرم عن ابن عمر قال: "لا يصلح الكري بالضمان". وعن فقهاء المدينة أنهم قالوا: لا يكرى بضمان، إلا أنه من شرط على المكتري أن لا ينزل بطن واد، أو لا يسير به ليلاً، مع أشباه هذه الشروط، فتعدى ذلك فتلف، فهو ضامن. وإذا ضرب المستأجر الدابة بقدر العادة أو الرائض لم يضمن، وكذلك المعلم إذا ضرب الصبي للتأديب، وبهذا في الدابة قال مالك والشافعي وإسحاق. وقال الثوري وأبو حنيفة: يضمن، لأنه تلف بجنايته فضمن كغيره. وكذلك قال الشافعي في المعلم يضرب الصبي، لأنه يمكنه تأديبه بغير الضرب. وإذا اختلفا في قدر الأجرة فقال: أجرتنيها سنة بدينار، فقال: بل بدينارين، تحالفا؛ ويبدأ بيمين المؤجر، نص عليه. وقال أبو ثور: القول قول المستأجر، لأنه منكر للزيادة. وإن اختلفا في المدة، فقال: أجرتكها سنة، فقال: بل سنتين، فالقول قول المالك، لأنه منكر للزيادة. وتجب الأجرة بنفس العقد، إلا أن يتفقا على تأخيرها؛ وبه قال الشافعي. وقال مالك: لا يستحق المطالبة بها إلا يوماً بيوم، إلا أن يشترط تعجيلها. وإذا   1 الترمذي: البيوع (1266) , وأبو داود: البيوع (3561) , وابن ماجة: الأحكام (2400) , وأحمد (5/8, 5/13) , والدارمي: البيوع (2596) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 انقضت الإجارة وفي الأرض غراس أو نبات، لم يشترط قلعه عند انقضاء الأجل؛ فللمالك أخذه بالقيمة وتركه بالأجرة، أو قلعه وضمان نقصه، وبه قال الشافعي. وقال مالك: عليه القلع من غير ضمان، لأن تقدير المدة يقتضي التفريغ عند انقضائها. ولنا: قوله: "ليس لعِرق ظالم حق" 1 مفهومه: أن غير الظالم له حق. وإذا تسلم العين بالأجرة الفاسدة، فعليه أجرة المثل سكن أو لم يسكن، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا شيء له، لأنه عقد فاسد على منافع لم يستوفها. وإن استوفى المنفعة فعليه أجرة المثل، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجب أقل الأمرين من المسمى وأجر المثل، بناء منه على أن المنافع لا تضمن إلا بالعقد. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وأما بلفظ البيع، فقال الشيخ في قاعدة له في تقرير القياس: التحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأي لفظ كان، وهذا علم في جميع العقود، فإن الشرع لم يحد حداً لألفاظها؛ وكذا قال في إعلام الموقعين: لو أجره الأرض وأطلق، فقال الشيخ: يعم، أو قال: انتفع بها بما شئت، فله زرع وغرس وبناء. ويستحب أن يعطى عند الفطام عبداً أو وليدة، قال الشيخ: لعله في المتبرعة بالرضاع، وليس عليها إلا وضع الحلمة في فمه وحمله ووضعه في حجرها، قال في الهدي: الله يعلم والعقلاء قاطبة أن الأمر ليس كذلك، وأن وضع الطفل في حجرها ليس مقصوداً أصلاً، ولا ورد عليه عقد الإجارة لا عرفًا ولا شرعاً. ولو أرضعت الطفل وهو في مهده استحقت الأجرة، ولو كان المقصود   1 الترمذي: الأحكام (1378) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3073) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 إلقام الثدي لاستؤجر له كل من لها ثدي ولو بلا لبن، فهذا هو القياس الفاسد حقاً والفقه البارد، والمقصود إنما هو اللبن. ولا يستأجر الدابة بعلفها، وعنه: يصح، اختاره الشيخ. وقال: لو أنزى الفحل على فرسه فنقص ضمن نقصه، ويجوز استئجار امرأته لرضاع ولده، وعند الشيخ: لا أجرة لها مطلقاً. ولا تجوز إجارة الشمع ليشعله، قال الشيخ: ليس هذا إجارة، بل إذن في الإتلاف، وهو سائغ، كقوله: " من لقي متاعه"، واختار جواز إجارة قناة ماء مدة، وماء فائض ير له راياه، وإجارة حيوان لأجل لبنه قام به هو أو ربه، فإن قام عليها المستأجر فكاستئجار الشجر، وإن علفها ربها وأخذ المشتري لبناً مقدراً فبيع محض. وإن أخذ اللبن مطلقاً فبيع أيضاً، وليس هذا بغرر. ولأنه يحدث شيئاً فشيئاً فهو بالمنافع أشبه، فإلحاقه بها أولى، ولأن المستوفى بعقد الإجارة على زرع الأرض هو عين من الأعيان، وهو ما يحدثه من الحب بسقيه وعمله، وكذا مستأجر الشاة للبنها مقصوده ما يحدثه الله من لبنها بعلفها، فلا فرق. والآفات التي تعرض للزرع أكثر من آفات اللبن، ولأن الأصل في العقود الجواز وكظئر. وتجوز إجارة الوقف، فإن مات المؤجر لم تنفسخ، وقيل: تنفسخ، قال الشيخ: هذا أصح. وقال ابن رجب: هو الصحيح، لأن الطبقة الثانية تستحق العين بمنافعها تلقياً عن الواقف بانقراض الطبقه الأولى. ومحل الخلاف: إذا كان المؤجر هو الموقوف عليه بأصل الاستحقاق، فإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 هو الناظر العام أو من شرطه له وكان أجنبياً، لم تنفسخ بموته، قولاً واحداً، قاله الشيخ. فإن شرطه للموقوف عليه، أو أتى بلفظ يدل على ذلك، فقال الشيخ: الأشبه أنه لا ينفسح، قولاً واحداً. فعلى الأول: يستحق البطن الثاني حصته من الأجرة من تركة المؤجر إن قبضها. وعلى الثاني: يرجع المستأجر على ورثة المؤجر. وقال الشيخ: إن قبضها المؤجر ففي تركته، فإن لم يكن تركة فأفتى بعض أصحابنا بأنه إذا كان الموقوف عليه هو الناظر فمات، فللبطن الثاني فسخها والرجوع بالأجرة على من هو في يده؛ قال: والذي يتوجه أنه لا يجوز سلف الأجرة للموقوف عليه، لأنه لا يستحق المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها، فالتسليف لهم قبض ما لا يستحقونه، بخلاف المالك. وعلى هذا، فللبطن الثاني أن يطالبوا المستأجر بالأجرة، لأنه لم يكن له التسليف، ولهم أن يطالبوا الناظر. وقال: يجوز إجازة الإقطاع كالوقف، ولم يزل يؤجر من زمن الصحابة إلى الآن، وما علمت أحداً قال: إنها لا تجوز، حتى حدث في زمننا. قال: وليس لوكيل مطلق إجارة مدة طويلة، بل العرف كسنتين ونحوهما، قلت: الصواب: الجواز إن رأى مصلحة، والذي يظهر أن الشيخ لا يمنع ذلك. وفي الفائق: عدم صحة إجارة المشغول بملك غير المستأجر، وقال شيخنا: يجوز في أحد القولين، وهو المختار. وقال الشيخ أيضاً فيمن استأجر أرضاً من جندي وغرسها قصباً، ثم انتقل الإقطاع عن الجندي: إن الجندي الثاني لا يلزمه حكم الإجارة الأولى، وأنه إن شاء أجرها لمن له القصب، وإن شاء لغيره. قال: ويجوز للمؤجر إجارة العين المؤجرة من غير المستأجر في مدة الإجارة، ويقوم المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجر. وغلط بعض الفقهاء فأفتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 بفسادها، ظاناً أنه كبيع المبيع، وأنه تصرف فيما لا يملك؛ وليس كذلك، بل تصرف فيما استحقه على المستأجر. وإن أجره في أثناء شهر سنة، استوفى شهراً بالعدد وسائرها بالأهلة، وعنه: يستوفي الجميع بالعدد. وعند الشيخ: إلى مثل تلك الساعة، وقال: يعتبر الشهر الأول بحساب تمامه ونقصانه. الضرب الثاني: عقد على منفعة في الذمة، ويلزمه الشروع فيه عقب العقد، كخياطة ثوب، وبناء دار، وحمل إلى موضع معيّن. فلو ترك ما يلزمه، قال الشيخ: بلا عذر فتلف، ضمنه. ولا تصح على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، وعنه: يصح، وقيل: يصح للحاجة، اختاره الشيخ. وقال: لا يصح الاستئجار على القراءة وإهدائها إلى الميت، لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة، وقد قال العلماء: إن القارئ لأجل المال لا ثواب له، فأي شيء يهدي إلى الميت؟ وإنما تنازعوا في الاستئجار على التعليم. والمستحب أن يأخذ الحاج ليحج، لا أن يحج ليأخذ، ومثله كل رزق أخذ على عمل صالح، يفرق بين من يقصد الدين فقط، والدنيا وسيلة، وعكسه؛ والأشبه أن عكسه ليس له في الآخرة من خلاق. ولو أجر أرضاً بلا ماء صح، فإن أطلق صح، إن علم المستأجر بحالها. وإن ظن تحصيل الماء وأطلق لم يصح. وإن ظن وجوده بالأمطار أو زيادة الأنهار صح. ومتى زرع فغرق أو تلف أو لم ينبت، فلا خيار له وتلزمه الأجرة. وإن تعذر زرعها لغرقها، فله الخيار؛ وكذا له الخيار لقلة ماء قبل زرعها أو بعده، أو عابت بغرق يعيب به بعض الزرع. واختار الشيخ: أو برد أو فأر أو عذر، قال: فإن أمضى العقد فله الأرش كعيب الأعيان، وإن فسخ فعليه القسط قبل القبض، ثم أجرة المثل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 كماله. قال: وما لم يروَ من الأرض فلا أجرة له، اتفاقاً، وإن قال في الإجارة: مقيلاً ومراحاً أو أطلق، لأنه لم يرد على عقد كأرض البرية. قوله: وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ، وقيل: يملك الإمساك مع الأرش، وهو من المفردات؛ قال الشيخ: إن لم نقل بالأرش، فورود ضعفه على أصل أحمد بيّن. ولا ضمان على طبيب إذا عُرف منه الحذق، بشرط إذن المكلف أو الولي، وإلا ضمن. واختار في الهدي عدم الضمان، قال: لأنه محسن لو أجلها فمات المستأجر لم تحل الأجرة، وإن قلنا بحلول الدين بالموت، لأن حلها مع تأخير استيفائه المنفعة ظلم، قاله الشيخ. وقال: ليس لناظر الوقف تعجيلها كلها إلا لحاجة، ولو شرطه لم يجز، لأن الموقوف عليه يأخذ ما لا يستحقه الآن، كما يفرقون في الأرض المحتكرة إذا بيعت وورثت، فإن الحكر من الانتقال يلزم المشتري والوارث، وليس لهم أخذه من البائع، وتركه في الصحيح من قولهم. وقال: من احتكر أرضاً بنى فيها مسجداً أو بناء وقفه عليه، متى فرغت المدة وانهدم البناء زال حكم الوقف، وما زال البناء قائماً، فعليه أجر المثل، كوقف علو ربع أو دار مسجداً، فإن وقف علو ذلك لا يسقط حق ملاك السفل، كذا وقف البناء لا يسقط حق ملاك الأرض، قلت: وهو الصواب، ولا يسع الناس إلا ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 باب السبق تجوز المسابقة على الدواب والأقدام والخيل والسفن والمزاريق وسائر الحيوانات، بالسنة والإجماع. أما السنة، فحديث ابن عمر وغيره. وأجمعوا على جواز المسابقة في الجملة. فأما المسابقة بغير عوض فتجوز مطلقاً من غير تقييد بشيء معيّن، كالمسابقة على الأقدام والسفن والطيور والبغال والحمير. وتجوز المصارعة ورفع الحجارة ليعرف الأشد وغير هذا، "لمسابقته عائشة، ومسابقة سلمة رجل من الأنصار بين يديه صلى الله عليه وسلم. وصارع صلى الله عليه وسلم ركانة. ومرَّ بقوم يرفعون حجراً ليعوفوا الأشد، فلم ينكر عليهم". ولا يجوز بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام. السبْق بسكون الباء: المسابقة، وبفتحها المخرج في المسابقة. واختصت هذه الثلاثة بتجويز العوض فيها، لأنها من آلات الحرب المأمور بتعلمها وإحكامها والتفوّق فيها، وفي المسابقة بها مع العوض مبالغة في الإحكام لها؛ وقد ورد الشرع بالأمر بها والترغيب فيه، قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} الآية. 1 ولمسلم: "ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي". 2 وقال أهل العراق: يجوز العوض في المسابقة على الأقدام والمصارعة، لورود الأثر بهما. ولأصحاب الشافعي وجهان، ولهم في المسابقة بالطيور والسفن وجهان. ولنا: قوله: "إلا في نصل أو حافر" 3 ويحتمل   1 سورة الأنفال آية: 60. 2 مسلم: الإمارة (1917) , والترمذي: تفسير القرآن (3083) , وأبو داود: الجهاد (2514) , وابن ماجة: الجهاد (2813) , وأحمد (4/156) , والدارمي: الجهاد (2404) . 3 الترمذي: الجهاد (1700) , وأبو داود: الجهاد (2574) , وابن ماجة: الجهاد (2878) , وأحمد (2/256, 2/358, 2/474) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 أنه أراد نفي الجعل، ويحتمل نفي المسابقة بعوض؛ فإنه يتعين حمله على أحد الأمرين، للإجماع على جوازها بغير عوض في غير الثلاثة. وقال أصحاب الشافعي: تجوز المسابقة بكل ما له نصل من المزاريق، وفي الرمح والسيف وجهان، وفي الفيل والبغال والحمير وجهان، ولأن للمزاريق والرماح والسيوف نصلاً وللفيل خف. ولا يصح إلا بشروط خمسة: (أحدها) : تعيين المركوب والرماة، لأن المقصد معرفة جوهر الدابتين ومعرفة حذق الرماة. ولا يشترط تعيين القوس ولا السهام في المناضلة، ولا تعيين الراكب، لأن المقصود عَدْو الفرس. ويجوز عقد النضال على اثنين وعلى جماعة، لقوله: "ارموا، وأنا معكم كلكم"، 1 وكذلك في الخيل، وقد ثبت: "أنه صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة وبين التي لم تضمر" 2. (الثاني) : أن يكون القوسان والمركوبان من نوع واحد، فلا تجوز بين عربي وهجين، ولا بين قوس عربية وفارسية. ويحتمل الجواز. فإن كانا من جنسين كالفرس والبعير لم يجز، فإن كانا من نوعين كالعربي والهجين والبختي والعرابي فوجهان. ولا بأس بالرمي بالقوس الفارسية، ونص على جواز المسابقة بها، وقال أبو بكر: يكره. ولنا: انعقاد الإجماع على الرمي بها. وحكى أحمد أن قوماً استدلوا على القسي الفارسية بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} 3 لدخوله في عموم الآية. (الثالث) : تحديد المسافة والغاية ومدى الرمي بما جرت به العادة، وقد قيل: "ما رمى في أربعمائة ذراع إلا عقبة بن عامر الجهني".   1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3373) , وأحمد (4/50) . 2 البخاري: الجهاد والسير (2869) , ومسلم: الإمارة (1870) , والترمذي: الجهاد (1699) , والنسائي: الخيل (3584) , وأبو داود: الجهاد (2575) , وأحمد (2/11, 2/55) , ومالك: الجهاد (1017) , والدارمي: الجهاد (2429) . 3 سورة الأنفال آية: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 (الرابع) : كون العوض معلوماً، ويجوز حالاً ومؤجلاً. (الخامس) : الخروج عن شبه القمار، بأن لا يخرج جميعهم، فإن أخرج كل منهما لم يجز، وهو قمار. فإن كان الجعل من الإمام أو أحد غيرهما أو أحدهما، على أن من سبق أخذه جاز، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا يجوز من غير الإمام، لأنه مما يحتاج إليه للجهاد، فاختص به الإمام. فإن كان منهما، اشترط كونه من أحدهما، فيقول: إن سبقتني فلك عشرة، وإن سبقتك فلا شيء عليك، جاز. وحكي عن مالك: لا يجوز، لأنه قمار. ولنا: أن أحدهما يختص به كما لو أخرجه الإمام، والقمار لا يخلو كل واحد منهما من أن يغرم أو يغنم، وهنا لا خطر على أحدهما، فإن جاءا معاً فلا شيء لهما. فإن سبق المخرج أحرز سبقه ولا شيء له على صاحبه، لأنه لو أخذ كان قماراً، وإن سبق الآخر أحرز سبق المخرِج. وإن أخرجا معاً لم يجز، إلا أن يُدخلا بينهما محلِّلاً تكافئ فرسه فرسيهما أو بعيره بعيريهما أو رميه رميهما، فإن سبقهما أحرز سبقيهما، وإن سبقاه أحرزا سبقهماَ ولم يأخذا منه شيئاً، وإن سبق أحدهما أحرز السبقين، وإن سبق معه المحلل فسبق الآخر بينهما. السّبَق بفتح الباء: الجعل، ويسمى: الخطر والندب والقرع والرهن. ويقال: سبق إذا أخذ وإذا أعطى، وهو من الأضداد. وقوله: إلا أن يدخلا ... إلخ، وبه قال ابن المسيب والزهري، وحكي عن مالك: لا أحبه. وعن جابر بن زيد أنه قيل له: إن الصحابة لا يرون به بأساً، فقال: هم أعف من ذلك. ولنا: قوله: "من أدخل فرساً ... إلخ"، فجعله قماراً إذا أمن أن يسبق، لأنه لا يخلو كل واحد منهما من أن يغرم أو يغنم، وإذا لم يأمن لم يكن قماراً، لأن كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 واحد منهما يجوز أن يخلو عن ذلك. وإذا كان المخرج غيرهما، فقال: أيكم سبق فله عشرة، جاز. وإن قال: وأيكم صلى فله ذلك، لم يصح، لأنه لا فائدة في طلب السبق. فإن قال: ومن صلى فله خمسة، صح، والصلوان هما العظمان النابتان من جانبي الذنب. وفي الأثر عن علي: "سبق أبو بكر، وصلى عمر، وخبطتنا فتنه". والسبق في الخيل بالرؤوس إذا تماثلت الأعناق، وفي مختلفي العنق والإبل بالكتف. ولا يجوز أن يجنب مع فرسه فرساً يحرضه على العَدْو، ولا يصيح به وقت سياقه، لقوله: "لا جلب ولا جنب"، 1 والجنب: أن يجنب المسابق إلى فرسه فرساً لا راكب عليه تحرض التي تحته على العدْو، والجلب: أن يتبع الرجل ويركض خلفه ويجلب عليه ويصيح وراءه، هكذا فسره مالك. وعن أبي عبيد مثله، وحكي عنه: أن الجلب: أن يحشر الساعي أهل الماشية ليصدقهم، لا يفعل ليأتهم على مياههم. والمناضلة: المسابقة في الرمي بالسهام، ويشترط لها أربعة شروط 2. (أحدها) : أن تكون على من يحسن الرمي، ويشترط استواؤهما في عدد الرشق والإصابة وصفتها وسائر أحوال الرمي. فإن جعلا رشق أحدهما أزيد من الآخر، أو أن يرمي أحدهما من بعد، وأشباهه مما يفوت المساواة، لم يصح. (الثاني) : معرفة عدد الرشق وعدد الإصابة. الرِّشق بكسر الراء: عدد الرمي، وبفتحها: الرمي.   1 الترمذي: النكاح (1123) , والنسائي: النكاح (3335) , وأبو داود: الجهاد (2581) , وأحمد (4/429, 4/443) . 2 كذا في المطبوعة والخطبة, ولم يذكر فها إلا ثلاثة، وبالرجوع إلى الأصل وجد كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 (الثالث) : معرفة الرمي هل هو مفاضلة أو مبادرة. المفاضلة على ثلاثة أضرب: أحدها: يسمى المبادرة، وهي أن يقول: من سبق إلى خمس إصابات من عشرين رمية فهو السابق. الثاني: المفاضلة، وهي أن يقول: أينا فضل صاحبه بإصابة أو إصابتين أو ثلاث من عشرين فقد سبق. الثالث: أن يقولا: أينا أصاب خمساً من عشرين فهو سابق. والسنة: أن يكون لهما غرضان يرميان أحدهما، ثم يمضيان إليه فيأخذان السهام يرميان الآخر، لأن هذا فعل الصحابة. قال إبراهيم التيمي: "رأيت حذيفة يشتد بين الهدفين، وعن ابن عمر مثله". والهدف: ما ينصب الغرض عليه، إما تراب مجموع أو حائط. ويروى: "أن الصحابة يشتدون بين الأغراض يضحك بعضهم إلى بعض، فإذا جاء الليل كانوا رهباناً". ويكره للأمين والشهود مدح أحدهما إذا أصاب وعيبه إذا أخطأ. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": في كراهة لعب غير معين على عدد وجهان، قلت: الأولى الكراهة، إلا أن يكون له فيه قصد حسن. وقال الشيخ: يجوز ما قد يكون فيه منفعة بلا مضرة، وقال: كل فعل أفضى إلى محرم كثير حرمه الشارع إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة. قال: وما ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه كبيع ونحوه. ولا يجوز بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام، وذكر ابن البنا وجهاً يجوز بعوض، في الطير المعدة لأخبار الأعداء. و"قد صارع النبي صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 عليه وسلم ركانة على شاة، فصرعه. ثم عاد مراراً فصرعه. فأسلم، فردّ عليه غنمه". 1 رواه أبو داود في مراسيله، وهذا وغيره مع الكفار من جنس الجهاد، فهو في معنى الثلاثة فإن جنسها جها؛، وهي مذمومة إذا أريد بها الفخر والظلم. والصراع والسبق بالأقدام ونحوها طاعة، إذا قصد بها الإسلام، وأخذ العوض عليه أخذ بالحق. والمغالبة الجائزة تحل بالعوض، إذا كانت مما يعين على الدِّين، كما في مراهنة أبي بكر، اختار هذا كله الشيخ. قال في الفروع: ظاهره جواز المراهنة بعوض في باب العلم لقيام الدِّين بالجهاد والعلم. قوله: فإن أخرجا معاً لم يجز، إلا أن يدخلا محلِّلاً، وقال الشيخ: يجوز من غير محلل، وهو أولى وأقرب إلى العدل من كون السبق من أحدهما، وأبلغ في تحصيل مقصود كل منهما، وهو بيان عجز الآخر. وإن الميسر والقمار منه لم يحرم لمجرد المخاطرة، بل لأنه أكل للمال بالباطل، أو للمخاطرة المتضمنه له. وقال: يصح شرط السبق للأستاذ، وكشراء قوس وكراء الحانوت وإطعامه للجماعة، لأنه مما يعين على الرمي.   1 الترمذي: اللباس (1784) , وأبو داود: اللباس (4078) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 باب العارية الأصل فيها: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} ، 1 روي عن ابن عباس وابن مسعود قال: "العواري". وفسرها ابن مسعود قال: "القِدر والميزان والدلو". وهي غير واجبة في قول الأكثر. وقيل: واجبة، للآية، ولحديث أبي هريرة: "قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال: إعارة دلوها، وإطراق فحلها، ومنحة لبنها يوم وردها". 2 ولنا: قوله: "هل عليَّ غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوَّع". 3 و "الآية فسرها ابن عمر والحسن بالزكاة"، وقال عكرمة: إذا جمع ثلاثتها فله الويل: إذا سها وراءى ومنع الماعون. ولا يجوز إعارة العبد المسلم لكافر. وللمعير الرجوع متى شاء ما لم يأذن له في شيء يستضير المستعير برجوعه. وقال مالك: إن كانت مؤقته فليس له الرجوع قبل الوقت، وإلا لزمه مدة ينتفع بها في مثلها. وإن أعاره أرضاً للزرع لم يرجع إلى الحصاد، أو جداراً وليضع عليه خشبة لم يرجع ما دام عليه. وإن حمل السيل بذراً إلى أرضه، فهو لصاحبه ولا يجبر على قلعه. وقال أصحاب الشافعي: يجبر في أحد الوجهين، كما لو انتشرت أغصان شجرته في هواء ملك جاره، ويحتمل أن لصاحب الأرض أخذه بقيمته كزرع الغاصب. و"العارية مضمونة بقيمتها يوم التلف، وإن شرط نفي ضمانها". روي عن ابن عباس وأبي هريرة، وهو قول   1 سورة الماعون آية: 7. 2 مسلم: الزكاة (988) , والنسائي: الزكاة (2454) , وأحمد (3/321) , والدارمي: الزكاة (1616) . 3 البخاري: الإيمان (46) , ومسلم: الإيمان (11) , والنسائي: الصلاة (458) والصيام (2090) والإيمان وشرائعه (5028) , وأبو داود: الصلاة (391) , ومالك: النداء للصلاة (425) , والدارمي: الصلاة (1578) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 الشافعي وإسحاق. وقال الحسن والشعبي ومالك وأبو حنيفة: لا تضمن إلا بالتعدي. وإن شرط نفي الضمان لم يسقط، وقيل: يسقط، أومأ إليه أحمد، وبه قال قتادة والعنبري. وليس له أن يعير. وقال مالك: إذا لم يعمل بها إلا الذي كان يعمل الذي أعارها، فلا ضمان عليه، وعلى المستعير مؤنة الرد لقوله: " على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه". 1 وإن قال: أجرتك، فقال: بل أعرتني، عقيب العقد، فالقول قول الراكب، لأن الأصل عدم عقد الإجارة؛ فإن كان بعد مضي مدة لها أجرة، فالقول قول المالك فيما مضى دون ما بقي. وقال الشافعي: القول قول الراكب، لأنهما اتفقا على تلف المنافع على ملك الراكب، وادعى المالك العوض. وإن اختلفا بعد تلف الدابة، فالقول قول المالك، لأن الأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمان، لقوله: " على اليد ما أخذت حتى تردّه" 2. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قيل: تجب العارية مع غناء المالك، اختاره الشيخ، واختار أنها لا تضمن إلا بالشرط. ومؤنة العارية على المعير، وقيل: على المستعير، ومال إليه الشيخ.   1 الترمذي: البيوع (1266) , وأبو داود: البيوع (3561) , وابن ماجة: الأحكام (2400) , وأحمد (5/8, 5/13) , والدارمي: البيوع (2596) . 2 الترمذي: البيوع (1266) , وأبو داود: البيوع (3561) , وابن ماجة: الأحكام (2400) , وأحمد (5/8) , والدارمي: البيوع (2596) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 باب الغصب وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . 1 وأما السنة، ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام". 2 وأجمعوا على تحريمه في الجملة، وإنما اختلفوا في فروع منه نذكرها: يضمن العقار بالغصب، وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يتصور غصبه، ولا يضمنه بالغصب. فإن أتلفه ضمنه، لأنه لا يوجد فيه النقل. ولنا: قوله: "من أخذ شبراً من الأرض، طُوِّقه يوم القيامة"، 3 وفي لفظ: "من غصب شبراً". وإن غصب أرضاً وزرعها ثم ردّها، فعليه الأجرة. وإن أدركها ربها والزرع قائم، خيِّر بين تركه بأجرة مثله وبين أخذه بعوض؛ وهل ذلك قيمته أو نفقته؟ على روايتين؛ وهذا قول أبي عبيد، وقال أكثر الفقهاء: يملك إجبار الغاصب على قلعه، لقوله: "ليس لعِرق ظالم حق". 4 ولنا: قوله: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته". 5 حسنه الترمذي. وحديثهم ورد في الغرس، وحديثنا في الزرع، فيجمع بين الحديثين. وأحمد ذهب إلى هذا استحساناً، فإن القياس: أن الزرع لصاحب البذر؛ قال أحمد: هذا شيء لا يوافق القياس، أستحسن أن تدفع إليه نفقته، للأثر. وإن غصب شجراً فأثمر، فالثمر لصاحب الشجر، بغير خلاف نعلمه،   1 سورة النساء آية: 29. 2 أحمد (3/313) . 3 البخاري: المظالم والغصب (2453) , ومسلم: المساقاة (1612) , وأحمد (6/259) . 4 الترمذي: الأحكام (1378) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3073) . 5 الترمذي: الأحكام (1366) , وأبو داود: البيوع (3403) , وابن ماجة: الأحكام (2466) , وأحمد (3/465, 4/141) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 ويرد الثمر إن كان باقياً، وبدله إن تلف. وإن غرس أو بنى في أرض غيره بغير إذنه، فطلب صاحب الأرض قلع ذلك، لزمه؛ لا نعلم فيه خلافاً، لقوله: "ليس لعِرق ظالم حق". 1 فإن أراد صاحب الأرض أخذه بغير عوض فليس له. وإن طلبه بالقيمة وأبى مالكه، فله ذلك لأنه ملكه فملك نقله. وإذا غصب أرضاً، فحكمها في دخول غيره إليها حكمها قبل الغصب. فإن كانت محوطة كالدار، لم يجز دخولها إلا بإذن. قال أحمد في الضيعة تصير غيضة فيها سمك: لا يصيد فيها أحد إلا بإذنهم. وإن كانت صحراء جاز الدخول فيها ورعي حشيشها، قال أحمد: لا بأس برعي الكلإ في الأرض المغصوبة. وإن غصب ثوباً فقصره أو شاة فذبحها، رد ذلك بزيادته وأرش نقصه. وقال أبو حنيفة في هذه المسائل: ينقطع حق صاحبها عنها، لأن الغاصب لا يجوز له التصرف فيها إلا بالصدقة، إلا أن يدفع قيمتها فيملكها، لقوله في الشاة: "أطعموها الأسارى" 2. ويضمن زوائد الغصب كالولد والثمرة، وبه قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يضمن زوائد الغصب، إلا أن يطالب بها فيمتنع من أدائها، لأنها غير مغصوبة. وإن وطئ الجارية، فعليه الحد والمهر وأرش البكارة، وإن كانت مطاوعة. وقال الشافعي: لا مهر للمطاوعة، للنهي عن مهر البغي. قال أحمد في رجل يجد سرقته عند إنسان بعينها: هو ملكه يأخذه، أذهب إلى حديث سمرة، رفعه: "من وجد متاعه عند رجل، فهو أحق به، ويتبع المبتاع من باعه". 3 رواه هشيم عن موسى بن السائب عن قتادة عن سمرة، وموسى بن السائب ثقة. وإن تلف المغصوب، ضمنه بمثله إن كان مكيلاً أو موزوناً، قال ابن عبد البر: كل مطعوم من مأكول أو مشروب مجمع على أنه يجب على مستهلكه مثله، لا قيمته، وإن لم يكن مثلياً ضمنه بقيمته، لقوله:   1 الترمذي: الأحكام (1378) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3073) . 2 أبو داود: البيوع (3332) , وأحمد (5/293) . 3 أبو داود: البيوع (3531) , وأحمد (5/10) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 " من أعتق شركاً له في عبد، قوّم عليه قيمته العدل". وحكي عن العنبري: يجب في كل شيء مثله، لحديث القصعة لما كسرتها إحدى نسائه، صححه الترمذي. ولنا: حديث العتق، وهذا محمول على أنه جوزه بالتراضي. فإن كان للمغصوب أجرة فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامه في يده، استوفى المنافع أو تركها. وقال أبو حنيفة: لا يضمن المنافع، وهو الذي نصره أصحاب مالك، واحتج بعضهم بقوله: "الخراج بالضمان"، 1 وهذا في البيع لا يدخل فيه الغاصب، لأنه لا يجوز له الانتفاع به إجماعاً. ومن في يده غصوب لا يعرف أربابها، تصدق بها عنهم بشرط الضمان. وإن ربط دابة في طريق ضيق ضمن ما جنت، فإن كان واسعاً ضمن، في إحدى الروايتين. والثانية: لا يضمن. وإن اقتنى كلباً عقوراً فعقر أو خرق ثوباً ضمن، إلا إن دخل منزله بغير إذنه. وإن اقتنى سنوراً يأكل فراخ الناس ضمن ما أتلفه، وقيل في الكلب العقور: لا يضمن، لقوله: "العجماء جبار". 2 وإن أجج في ملكه ناراً أو سقى أرضه فسرى إلى ملك غيره فأتلف، ضمن إذا أسرف أو فرط، وإلا فلا. وإذا حفر بئراً لنفسه في الطريق، ضمن ما تلف بها سواء حفرها بإذن الإمام أو لا. وإن حفرها في سابلة لنفع المسلمين لم يضمن. وإن مال حائطه فلم يهدمه حتى أتلف شيئاً لم يضمن، ونحوه قول الحسن والنخعي، وقيل: يضمن، وهو قول ابن أبي ليلى وإسحاق. فإن طولب بنقضه فلم يفعل، فقد توقف أحمد، ومذهب مالك: يضمن. وقال أبو حنيفة: القياس: ألا يضمن. وما أتلفته البهيمة فلا ضمان على صاحبها، إلا أن تكون في يد إنسان، كالراكب والسائق والقائد، فيضمن ما جنت يدها أو فمها دون رجلها، لحديث: "العجماء جبار"، 3 أي: هدر. وقال مالك: لا ضمان على الراكب والسائق،   1 الترمذي: البيوع (1285) , والنسائي: البيوع (4490) , وأبو داود: البيوع (3508) , وابن ماجة: التجارات (2243) . 2 البخاري: الزكاة (1499) , ومسلم: الحدود (1710) , والترمذي: الزكاة (642) والأحكام (1377) , والنسائي: الزكاة (2495) , وأبو داود: الديات (4593) , وابن ماجة: الديات (2673) , وأحمد (2/228, 2/239, 2/254, 2/274, 2/284, 2/319, 2/382, 2/386, 2/406, 2/415, 2/454، 2/456، 2/467، 2/475، 2/482، 2/493، 2/495، 2/499، 2/501) ، ومالك: العقول (1622) , والدارمي: الزكاة (1668) والديات (2377, 2378) . 3 البخاري: الزكاة (1499) , ومسلم: الحدود (1710) , والترمذي: الزكاة (642) والأحكام (1377) , والنسائي: الزكاة (2495) , وأبو داود: الديات (4593) , وابن ماجة: الديات (2673) , وأحمد (2/228, 2/239, 2/254, 2/274, 2/284, 2/319, 2/382, 2/386, 2/406, 2/415, 2/454، 2/456، 2/467، 2/475، 2/482، 2/493، 2/495، 2/499، 2/501) ، ومالك: العقول (1622) , والدارمي: الزكاة (1668) والديات (2377, 2378) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 والقائد أيضاً، للحديث. ولنا: قوله: "الرجل جبار"، 1 ففيه دليل على الضمان في غيرها. وحديثهم محمول على من لا يد له عليها. وقال شريح والشافعي: يضمن ما جنت برجلها أيضاً. ولنا: قوله "الرجل جبار". ويضمن ما أفسدت من الشجر والزرع ليلاً لا نهاراً، وقال أبو حنيفة: لا ضمان، لقوله: "العجماء جبار". 2 ولنا: حديث ناقة البراء، قال ابن عبد البر: إن كان مرسلاً فهو مشهور، حدث به الأئمة الثقات وتلقاه فقهاء الحجاز بالقبول. فإن أتلفت غير الزرع والشجر لم يضمن ليلاً كان أو نهاراً. وحكي عن شريح أنه قضى في شاة وقعت في غزل حائك ليلاً، بالضمان، وقرأ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} ، 3 قال: والنفش لا يكون إلا بالليل. وعن الثوري: يضمن وإن كان نهاراً، لتفريطه بإرسالها. ولنا: قوله: "العجماء جبار"، وأما الآية، فالنفش: الرعي بالليل، وهذا في الحرث الذي تدعوها نفسها إلى أكله، فلا يقاس غيره عليه. وإن صال عليه آدمي أو غيره فقتله دفعاً، لم يضمنه. فإن كانت بهيمة ولم يمكنه دفعها إلا بقتلها، جاز له قتلها إجماعاً، ولا يضمنها. وقال أبو حنيفة: يضمنها. وإن كسر مزماراً أو طنبوراً لم يضمن، وقال أبو حنيفة: يضمن. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال الشيخ: من زرع بلا إذن شريكه، والعادة بأن من زرع فيها له نصيب معلوم ولربها نصيب، قسم ما زرعه في نصيب شريكه كذلك. ولو طلب أحدهما من الآخر أن يزرع معه أو يهايئه فيها فأبى، فللأول الزرع في قدر حقه بلا أجرة، كدار بينهما فيها بيتان سكن أحدهما عند امتناعه مما يلزمه.   1 أبو داود: الديات (4592) . 2 البخاري: الزكاة (1499) , ومسلم: الحدود (1710) , والترمذي: الزكاة (642) والأحكام (1377) , والنسائي: الزكاة (2495) , وأبو داود: الديات (4593) , وابن ماجة: الديات (2673) , وأحمد (2/228, 2/239, 2/254, 2/274, 2/284, 2/319, 2/382, 2/386, 2/406, 2/415, 2/454، 2/456، 2/467، 2/475، 2/482، 2/493، 2/495، 2/499، 2/501) ، ومالك: العقول (1622) , والدارمي: الزكاة (1668) والديات (2377, 2378) . 3 سورة الأنبياء آية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 انتهى. قلت: وهذا الصواب، ولا يسع الناس غيره. وقال الشيخ: يتوجه فيمن غصب فرساً وكسب عليه مالاً، أن يجعل بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما، بأن تقوَّم منفعة الراكب ومنفعة الفرس، ثم يقسم بينهما. واختار الشيخ: إن نقصت العين لتغير الأسعار ضمن. قوله: وإن وطئ الجارية فعليه الحد والمهر، وعنه: لا يلزمه مهر للثيب، اختاره الشيخ، ولم يوجب عليه سوى أرش البكارة. وقال: لو باع عقاراً ثم خرج مستحقاً، فإن كان المشتري عالماً ضمن المنفعة سواء انتفع بها أو لم ينتفع، وإن لم يعلم فقرار الضمان على البائع الظالم. وإن انتزع المبيد من يد المشتري فأخذت منه الأجرة وهو معروف، رجع بذلك على البائع الغارّ. انتهى. وإن تلفت عند المشتري فعليه قيمتها للمغصوب منه، ولا يرجع على الغاصب بالقيمة، لكن يأخذ منه ثمنها، ويأخذ أيضاً نفقته وعمله من البائع الغار، قاله الشيخ. واختار في الثوب والعصا والقصعة ونحوها: يضمنها بالمثل مراعياً للقيمة. قوله: ولا قصاص في المال، مثل شق ثوبه، واختار الشيخ أنه مخير. وأفتى في الغاصب إذا تاب أن يأخذ من الغصب لنفسه إذا تصدق به. واختار أنه يصرف في المصالح، وقاله في وديعة وغيرها، وقال: قاله العلماء، وأنه مذهبنا ومذهب أبي حنيفة. ومالك قال: ومن تصرف فيه لولاية شرعية لم يضمن. وقال: ليس لصاحبه إذا عرف رد المعاوضة، لثبوت الولاية عليها شرعاً للحاجة، كمن مات ولا ولي له ولا حاكم. وقال فيمن اشترى مال مسلم من التتر، إن لم يعرف صاحبه صرف في المصالح، وأعطي مشتريه ما اشتراه به، لأنه لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 يصل لها إلا بنفقته، وإن لم يقصد ذلك. كما رجحه فيمن اتجر بمال غيره وربح. وقال من لم يسدَّ بئره سداً يمنع من الضرر، ضمن ما تلف بها. وقال: من أمر إنساناً بإمساك دابة ضارية ولم يعلمه، ضمنه. وقال: إذا جنى ولد الدابة، يضمن إن فرط، نحو أن يعرفه شموساً، وإلا فلا. قوله: ولا يضمن ما أفسدت نهاراً، وقيل: إن أرسلها بقرب ما تتلفه عادة ضمن، وذكر رواية. قلت: وهو الصواب. وفي الانتصار: البهيمة الصائلة يلزم مالكها وغيره إتلافها. ومن وجب قتله لم يضمن كمرتد. وصحح ابن القيم في الطرق الحكمية: أنه إن أرسل طائراً فأفسد أو لقط حباً، ضمن. وقال في الهدي: يجوز تحريق أماكن المعاصي وهدمها، كما "حرق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار". قوله: وإن غصب غزلاً فنسجه، إلى قوله: رده بزيادته وأرش نقصه. وعنه: يكون شريكاً بالزيادة، اختاره الشيخ. وعنه: يملكه وعليه قيمته قيل تغييره، وعنه: يخير المالك بين العين والقيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 باب الشفعة الشفعة ثابتة بالسنة والإجماع؛ أما السنة، فحديث جابر متفق عليه. وقال ابن المنذر: أجمعوا على إثبات الشفعة للشريك الذي لم يقاسم فيما بيع من أرض أو دار أو حائط. والشفعة على خلاف الأصل، إذ هي انتزاع ملك المشتري بغير رضاه، فأثبتها الشرع لمصلحة راجحة. ولا تثبت إلا بشروط أربعة: أحدها: أن يكون الملك مشاعاً. "فأما الجار، فلا شفعة له"، وبه قال عثمان وابن المسيب ومالك والشافعي. وقال الثوري وأصحاب الرأي: الشفعة بالشركة، ثم بالشركة في الطريق، ثم بالجوار، لحديث: "الجار أحق بصقبه". 1 ولنا: قوله: "الشفعة فيما لم يقسم.. . إلخ" 2. الثاني: أن يكون المبيع أرضاً لأنها تبقى، وأما غيرها فقسمان: أحدهما: فيه الشفعة، تبعاً للأرض، وهو البناء والغراس يباع مع الأرض، لا نعلم فيه خلافاً. والثاني: ما لا شفعة فيه تبعاً ولا مفرداً، وهو الزرع والثمرة الظاهرة، فإنها لا تؤخذ مع الأصل، وبه قال الشافعي. وقال مالك: يؤخذ ذلك مع أصوله. فإن كان فيه ثمرة غير ظاهرة كالطلع الذي لم يؤبر دخل، لأنه تبع. وأما ما بيع مفرداً من الأرض، فلا شفعة فيه، سواء كان مما ينقل كالثياب والحجارة، أو لا كالبناء والغراس؛ وبه قال الشافعي. واختلف   1 البخاري: الحيل (6977) , والنسائي: البيوع (4702) , وأبو داود: البيوع (3516) , وابن ماجة: الأحكام (2495) , وأحمد (6/390) . 2 ابن ماجة: الأحكام (2497) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 عن عطاء ومالك فقالا مرة: الشفعة في كل شيء حتى الثوب. وعن أحمد: إنها واجبة فيما لا يقسم كالسيف. وعنه: تجب في البناء والغراس وإن بيع مفرداً، وهو قول مالك للعموم. الثالث: أن يكون المبيع مما يمكن قسمته، فأما ما لا يمكن ففيه روايتان. الرابع: أن يكون الشقص منتقلاً بعوض، فأما المنتقل بغير عوض كالهبة والوصية والإرث فلا شفعة فيه، في قول عامة أهل العلم. وحكي عن مالك في المنتقل بهبة أو صدقة: أن فيه الشفعة ويأخذه بقيمته. فإن كان الشقص مَهراً أو عوض خلع فلا شفعة، اختاره ابن المنذر. وقيل: تجب، وبه قال مالك والشافعي: قال مالك بالقيمة، وقال الشافعي بمهر المرأة 1. وحق الشفعة على الفور، إن طالب بها ساعة يعلم بها، وإلا بطلت. وعنه: أنها على التراخي ما لم يوجد منه ما يدل على الرضى، وهو قول مالك. ولنا: قوله: "الشفعة كنشط العقال". 2 وإن قيدت ثبتت، وإن تركت فاللوّم على من تركها. وإن ظهر أن الثمن أكثر مما وقع به العقد فترك الشفيع الشفعة، لم تسقط، وكذلك إن أظهر أن المبيع سهام قليلة فبانت كثيرة، أو أظهر أن الثمن دنانير فبان دراهم أو عكسه؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن كان قيمتها سواء سقطت الشفعة، فإن أظهر أنه اشترى بثمن فبان أكثر، أو بثمن فبان أنه اشتري به بعضه، فإن أخبر بالبيع فلم يطالب سقطت، إلا إن كان ممن لا يعمل بقوله كالفاسق. فإن قال للمشتري: بعني ما اشتريت، أو صالحني، بطلت. وإن أسقطت قبل البيع لم تسقط، وعنه: بلى. قيل له: ما معنى: "من كان بينه وبين أخيه ربعة فأراد بيعها، فليعرضها عليه" 3؟ قال: ما هو   1 من أول الباب إلى هنا: مختصر من المغنى. 2 ابن ماجة: الأحكام (2500) . 3 مسلم: المساقاة (1608) , والترمذي: البيوع (1312) , والنسائي: البيوع (4646, 4701) , وأبو داود: البيوع (3513) , وأحمد (3/382) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 ببعيد، إلا أن يكون له شفعة، وهذا قول الثوري وأبي عبيد. قال ابن المنذر: احتجوا بقوله: "وإن شاء ترك "، ومحال إلا أن يكون لتركه معنى، ولأن مفهوم قوله: "فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به"، 1 أنه إذا آذنه لا حق له. وإذا بيع في شركة الصغير شقص، فله الشفعة، في قول عامة الفقهاء. فإذا كبر فله الأخذ، عفا عنها الولي أو لا، وسواء كان الحظ في الأخذ أو الترك. وقال ابن حامد: إن تركها الولي لحظ الصبي، أو لكونه ليس له ما يأخذها به، سقطت؛ وهو ظاهر مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: تسقط بعفو الولي عنها في الحالين، يعني: سواء كان له الحظ أو لا. وقال ابن أبي ليلى: لا شفعة للصبي، وروي عن النخعي. [الرابع] : 2 أن يأخذ جميع المبيع، فإن طلب أخذ البعض سقطت. وقال أبو يوسف: لا تسقط. فإن كانا شفيعين فهي بينهما على قدر ملكيهما. وعنه: على عدد الرؤوس. فإن تركها بعضهم فليس للباقي إلا أخذ الجميع، حكاه ابن المنذر إجماعاً. وإن كان المشتري شريكاً فهي بينه وبين الآخر، وللآخر بقدر نصيبه، وبه قال الشافعي. وحكي عن الحسن والشعبي: لا شفعة للآخر، لأنها لدفع ضرر الداخل. وإذا اشترى اثنان حق واحد، فللشفيع أخذ حق أحدهما، وبه قال مالك والشافعي. وإن تصرف المشتري في المبيع قبل الطلب بوقف أو هبة سقطت، نص عليه. وقال مالك والشافعي وأصحاب الرأي: للشفيع فسخ ذلك وأخذه بالثمن. وإن مات بطلت شفعته، إلا أن يموت بعد طلبها فهي لورثته، قال أحمد: الموت يبطل به ثلاثة أشياء: الشفعة، والحد إذا مات المقذوف، والخيار إذا مات الذي اشترطه. وقال مالك والشافعي: تورث، ويأخذه الشفيع بالثمن، لقوله في حديث جابر: "هو أحق به بالثمن". 3 رواه الجوزجاني. ولا يأخذ   1 مسلم: المساقاة (1608) , والنسائي: البيوع (4701) , وأبو داود: البيوع (3513) , والدارمي: البيوع (2628) . 2 هذا هو ابتداء الشرط الرابع في الأصل. 3 أحمد (3/310) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 بها من لا يقدر عليه ولو أحضر رهناً أو ضميناً، لأن على المشتري ضرراً في تأخير الثمن، قال أحمد: ينتظر الشفيع يوماً أو يومين بقدر ما يرى الحاكم، فإن كان أكثر فلا؛ وهذا قول مالك. وإن كان مؤجلاً أخذ بأجل إن كان ملياً، وإلا أقام كفيلاً ملياً، وبه قال مالك. وقال الثوري: لا يأخذه إلا بالنقد حالاً. فإن كان الثمن عرضاً أعطاه مثله كالحبوب والأدهان. وإن كان مما لا مثل له كالثياب والحيوان، أخذ بقيمة العرض، في قول أكثر أهل العلم. وحكي عن الحسن وسوار: لا شفعة. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": اختار الشيخ أنها تجب بالشركة في مصالح عقار، قال الحارثي: هذا الذي يتعين المصير إليه. ثم ذكر أدلته، قال: وفيه جمع بين الأخبار. قوله: ولا شفعة فيما لا تجب قسمته، كالحمام الصغير والبئر، وما ليس بعقار كالشجر والحيوان، وعنه: في ذلك الشفعة، اختاره الشيخ. واختار سقوطها إن أسقطها قبل البيع. وإن ترك الولي شفعة للصبي فيها حظ، لم تسقط. وإن تركها لعدم الحظ، سقطت؛ اختاره الشيخ. ولا تسقط رهنه الشفعة، وإن سقطت بالوقف والهبة. قال في الفائق: خص القاضي النص بالوقف ولم يجعل غيره مسقطاً، اختاره شيخنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 باب الوديعة الأصل فيها: الكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، 1 وقوله: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} ، 2 وقوله صلى الله عليه وسلم: "أدّ الأمانة إلى من ائتمنك". 3 وأجمعوا على جواز الإيداع والاستيداع. وقبولها مستحب لمن يعلم من نفسه الأمانة، لأن فيه قضاء حاجة أخيه. وهي أمانة لا ضمان عليه إلا أن يتعدى، وعنه: إن ذهبت من بين ماله ضمنها، "لأن عمر ضمن أنسا وديعة ذهبت من بين ماله"، والأول أصح، وكلام عمر محمول على التفريط. فإن شرط عليه الضمان لم يضمن، وكذلك كل ما كان أصله الأمانة كالمضاربة، ومال المشاركة، والرهن، والوكالة، وبه قال الثوري وإسحاق وابن المنذر. ويلزمه حفظها في حرز مثلها. فإن عيّن صاحبها حرزاً، فجعلها في دونه، ضمن. وإن دفعها إلى زوجته أو عبده لم يضمن. وإن دفعها إلى أجنبي أو حاكم ضمن. وإن أخذ درهماً ثم رده فضاع الكل ضمن. وقال مالك: لا ضمان عليه إذا رده أو مثله. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن المودع إذا أخذها، ثم ذكر أنها ضاعت، أن القول قوله. وقال أكثرهم: مع يمينه. وإن ادعى ردها فالقول قوله مع يمينه، وبه قال الشافعي. وقال مالك: إن دفعها إليه ببينة لم   1 سورة النساء آية: 58. 2 سورة البقرة آية: 283. 3 الترمذي: البيوع (1264) , وأبو داود: البيوع (3535) , والدارمي: البيوع (2597) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 يقبل قوله في الرد إلا ببينة. وإن قال: دفعتها إلى فلان بأمرك، فالقول قوله. وقال مالك: القول قول المالك، لأن الأصل عدم الإذن. وإن جحدها ثم أقرّ أو ثبتت ببينة، ثم ادعى التلف، لم يقبل وعليه ضمانها؛ وبه قال مالك والشافعي، وإن قال: ما لك عندي شيء، قبل قوله في الرد والتلف. وإن مات وثبت أن عنده وديعة لم توجد، فهي ديْن عليه، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. فإن كان عليه دين فهما سواء إن وفت، وإلا اقتسما بالحصص. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": إذا أنفق على الدابة بغير إذن ربها بنية الرجوع رجع، قاله في الفائق، قلت: وهو الصواب. وإن دفعها إلى أجنبي بغير عذر ضمن، فإن كان الثاني عالماً بالحال ضمن، وإلا لم يضمن، وليس للمالك مطالبة الأجنبي، اختاره الشيخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 باب احياء الموت ... باب إحياء الموات ما فيه آثار الملك ولا يعلم لها مالك، ففيه روايتان، وما ملك بشراء أو عطية لم يملك بالإحياء، بغير خلاف. قال ابن عبد البر: جميعهم على أن ما عرف بملك مالك غير منقطع، أنه لا يجوز إحياؤه لأحد غير أربابه. وإن ملك بالإحياء ثم ترك حتى عاد مواتاً، فلا يملك؛ وقال مالك: يملك، لعموم الحديث. ولنا: أن في الرواية الأخرى: "من أحيا أرضاً ميتة ليست لأحد"، 1 وقوله في غير حق مسلم، ثم هو مخصوص بما ملك بشراء أو عطية، فيقاس هذا عليه. وإن وجد فيه آثار ملك قديم جاهلي، كآثار الروم ومساكن ثمود، ملك بالإحياء. وروى سعيد من مراسيل طاووس: "عاديّ الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم بعد". قال أبو عبيد: عاديّ الأرض: التي بها ساكن في آباد الدهر فانقرضوا، نسبهم إلى عاد، لأنهم مع تقدمهم ذوو قوة وآثار كثيرة، فنسب كل أثر قديم إليهم. والرواية الثانية: لا يملك، لأنه إما لمسلم أو ذمي أو لبيت مال. وما جرى عليه الملك في الإسلام لمسلم أو ذمي غير معيّن، فعنه: لا يملك بالإحياء، وعنه: أنها تملك؛ وهو مذهب مالك، لعموم الأخبار. ولا يفتقر إلى إذن الإمام، وبه قال الشافعي. ولو أحيا مسلم مواتاً في أرض كفار صولحوا عليها، لم يملكه، ويحتمل أن يملكها، لعموم الخبر. وروي عن أحمد: ليس في السواد موات، يعني: سواد العراق. ويحتمل أنه قال: لكونه كله معموراً في زمن عمر، حتى بلغنا أن رجلاً من الكفار   1 أحمد (3/326) , والدارمي: البيوع (2607) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 سأل أن يعطى خربة فلم يجدوها، فقال: أردت أن أعلمكم كيف أخذتموها منا. وإذا لم يكن فيها موات حين ملكها المسلمون لم يصر ما دثر من أملاك المسلمين مواتاً، على إحدى الروايتين. وما قرب من العامر وتعلق بمصالحه، لم يملك بالإحياء، وإن لم يتعلق بمصالحه فعلى روايتين. وقال الشافعي: يملك ولو تعلق بمصالحه. وقال الليث: لا يملك ولو لم يتعلق بمصالحه. ولا تملك المعادن الظاهرة، كالملح والكحل، بالإحياء؛ وليس للإمام إقطاعه، ولا نعلم فيه مخالفاًً. وأما التي لا يوصل إليها إلا بالمؤنة، وهي المعادن الباطنة كالذهب والفضة والحديد، فإن كانت ظاهرة لم تملك بالإحياء، وإن حفرها إنسان وأظهرها لم تملك بذلك. ويحتمل أن تملك، وهو قول الشافعي. وليس للإمام إقطاعها. والصحيح: جوازه، "لأنه صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث معادن القبيلة". ويلزمه بذل ما فضل من مائه لبهائم غيره. وهل يلزمه بذله لزرع غيره؟ على روايتين. قال أحمد: الإحياء أن يحوط عليها حائطاً، أو يحفر فيها بئراً أو نهراً، لحديث سمرة: "من أحاط حائطاً على أرض، فهو له". 1 رواه أبو داود. وإن حفر بئراً عادية، وهي القديمة، ملك حريمها خمسين ذراعاً، وإن لم تكن عادية فخمسة وعشرون ذراعاً، نص عليه. ولا بد أن تكون البئر فيها ماء، فإن لم يصل إليه فهو كالمتحجر. والبئر العادية: التي انطمست وذهب ماؤها، فجدد حفرها وانقطع ماؤها واستخرجه. وأما البئر التي ينتفع بها المسلمون فليس لأحد احتجارها، لأنها بمنزلة المعادن الظاهرة. وهكذا العيون النابعة، ليس لأحد أن يختص بها. ولو حفر رجل بئراً للمسلمين أو ينتفع بها مدة إقامته ثم يتركها، لم يملكها وكان له الانتفاع بها. فإذا تركها كانت للمسلمين كلهم، كالمعادن الظاهرة، وهو أحق   1 أبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3077) , وأحمد (5/12, 5/21) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 بها ما دام عندها. وإذا كان لإنسان شجرة في موات، فله حريمها قدر ما تمتد إليه أغصانها حواليها. و"في النخلة مدّ جريدها"، لحديث أبي سعيد. وإن غرس شجرة في موات فهي له وحريمها. وإن سبق إلى شجر فسقاه وأصلحه فهو له، لحديث: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به". ومن كانت له بئر فحفر أخرى قريباً منها يتسرب إليها ماؤها، فليس له ذلك سواء حفر في ملكه أو في موات، ووافق الشافعي في الموات وقال: في ملكه له ذلك كتعلية داره. وهكذا الخلاف في كل ما يحدثه الجار مما يضر بجاره، مثل أن يجعل داره مدبغة أو حماماً يضر بعقار جاره. وقال الشافعي: له ذلك كله. ولنا: قوله: "لا ضرر ولا ضرار". 1 ولو كان الذي حصل منه الضرر سابقاً لم يلزمه إزالة الضرر، بغير خلاف نعلمه، لأنه لم يحدث ضرراً. ومن تحجر مواتاً لم يملكه وكان أحق به ووارثه بعده ومن ينتقل إليه، وليس له بيعه، وقيل: له ذلك، لحديث: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فهو أحق به". فإن لم يُتم إحياءه قيل له: أحيه أو اتركه، فإن أحياه غيره ملكه بالإحياء، لعموم الحديث في الإحياء، وقيل: لا، لقوله: "في غير حق مسلم". وروى سعيد أن عمر قال: "من كانت له أرض - يعني: من تحجر أرضاً - فعطلها ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها". وهذا يدل على أن من عمرها قبل ثلاث سنين لا يملكها. وللإمام إقطاع موات لم يحيه ولا يملكه به، بل بمنزلة المتحجر، ولا يقطع إلا ما قدر على إحيائه، لأن إقطاعه أكثرَ ضرر على المسلمين. فإن فعل فتبين عجزه عن إحيائه، استرجعه "كما استرجع عمر من بلال بن الحارث ما عجز عن عمارته مما أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم".   1 ابن ماجة: الأحكام (2340) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 وإن كان الماء في نهر غير مملوك، فإن كان عظيماً كالنيل والفرات الذي لا يستضر أحد بالسقي منه، فلكل أحد أن يسقي كيف شاء. وإن كان صغيراً يزدحم الناس فيه ويتشاحون في مائه، أو سيلاً يتشاح فيه أهل الأرض، فيبدأ بمن في أوله فيسقي ويحبس الماء حتى يبلغ الكعب، ثم يرسل إلى الذي يليه فيصنع كذلك، إلى أن تنتهي الأرض، ولا نعلم فيه مخالفاًً، لحديث الزبير والأنصاري. والنهر المملوك قسمان: أحدهما: أن يكون الماء مباح الأصل، مثل أن يحفر إنسان نهراً صغيراً يتصل بنهر كبير مباح، فما لم يتصل الحفر لا يملكه وإنما هو تحجر، فإذا اتصل الحفر ملكه، لأن الملك بالإحياء أن تنتهي العمارة إلى قصدها، بحيث يتكرر الانتفاع بها على صورتها، سواء أجرى الماء أو لا. فإن كان لجماعة فهو بينهم على حسب العمل والنفقة. والثاني: أن يكون منبع الماء مملوكاً مثل أن يشترك جماعة في استنباط عين وإجرائها، فإنهم يملكونها، لأن ذلك إحياء لها. وعلى كل حال، فلكل أحد أن يسقي من الماء الجاري لشربه ووضوئه وغسل ثيابه وأشباه ذلك، مما لا يؤثر فيه، من غير إذن إذا لم يدخل إلى محوط، ولا يحلّ لصاحبه المنع، لحديث: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم". 1 رواه البخاري. وللإمام أن يحمي أرضاً من الموات لدواب المسلمين، ما لم يضيق عليهم، وقال الشافعي في أحد قوليه: ليس له ذلك، لقوله: "لا حمى إلا لله ولرسوله". 2 ولنا: "أن عمر وعثمان حميا"، واشتهر فلم ينكر، فكان إجماعاً.   1 البخاري: المساقاة (2358) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجة: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253, 2/480) . 2 البخاري: المساقاة (2370) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3083) , وأحمد (4/38, 4/71, 4/73) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": إذا كان الموات لم يجر عليه ملك لأحد، ولا فيه أثر عمارة، ملك بالإحياء بلا خلاف، وإن علم له مالك بشراء أو عطية والمالك موجود هو أو أحد من ورثته، لم يملك بالإحياء بلا خلاف. وإن ملك بالإحياء ثم ترك حتى دثر وعاد مواتاً، فلا يملك به أيضاً. وإن لم يعلم له مالك، فهو أربعة أقسام: أحدها: ما أثر الملك فيه غير جاهلي، كالقرى الخربة التي درست آثارها، ففي ملكها بالإحياء روايتان. وإذا لم يملك بالإحياء كان للإمام إقطاعه. الثاني: ما أثر الملك فيه جاهلي قديم، كديار ثمود، فلم يذكر المصنف وغيره خلافاً في جواز إحيائه. الثالث: ما لا أثر فيه جاهلي قريب، والصحيح أنه يملك بالإحياء. الرابع: ما تردد في جريان الملك عليه، وفيه روايتان. ولو ملكها من له حرمة ولم يعلم، لم تملك بالإحياء لأنها فيء، وعنه: تملك، قال في الفائق: في أظهر الروايات. وموات أرض العنوة كغيره، وهو المذهب، وعنه: لا تملك بالإحياء، لكن تقر بيده بالخراج، وقيل: لا موات في أرض السواد. ولو اختلفوا في الطريق وقت الإحياء، جعلت سبعة أذرع، للخبر؛ ولا تغير بعد وضعها وإن زادت على سبعة، لأنها للمسلمين، نص عليه. وذكر ابن بطة أن الخبر ورد في أرباب ملك مشترك أرادوا قسمته، واختلفوا في قدر حاجتهم، خلاف ما ذكر الجوزجاني عن قول أحمد: لا بأس ببناء مسجد في طريق واسع إذا لم يضر بالطريق، قال: مراده: ما وقت النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الأذرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 وقال الشيخ فيمن نزل عن وظيفة الإمامة: لا يتعين المنزول له، ويولِّي من له الولاية من يستحق التولية شرعاً. ولو ترك دابته بفلاة ليأسه منها، ملكها آخذها، نص عليه؛ وهو من المفردات. وما حماه النبي صلى الله عليه وسلم فليس لأحد نقضه، وما حماه غيره فعلى وجهين. قال في الفروع: ويتوجه في نقض الإطلاقات الخلاف، ونقل حرب: القطائع جائز، وأنكر شديداً قول مالك: لا بأس بقطائع الأمراء، وقال: يزعم أنه لا بأس بقطائعهم، وقال: قطائع الشام والجزيرة من المكروهة كانت لبني أمية فأخذها هؤلاء، وقال: ما أدري ما هذه القطائع يخرجونها ممن شاؤوا؟ قال أبو بكر: لأنه لا يملكها من أقطعها، فكيف تخرج منه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 باب الجعالة وهي أن يبذل جعلاً على رد آبق أو ضالة أو بناء حائط أو خياطة ثوب، ولا نعلم فيها مخالفاًً، لقوله: {ولمن جاء به حمل بعير} ، 1 وحديث الرقية، لأن الحاجة تدعو إليه، لأن العمل قد يكون مجهولاً كردّ الضالة، فلا تجوز الإجارة عليه فدعت الحاجة إلى العوض مع جهالة العمل، وهي أن يقول: مَن ردّ عبدي أو بنى لي هذا الحائط فله كذا، فإذا قاله صح وكان لكل منهما الرجوع قبل العمل. فمن فعله بعد أن بلغه الجعل استحقه، لما ذكرنا من الآية والحديث، وإن فعله جماعة فهو بينهم. فإن قال: من ردّ عبدي من موضع كذا فله دينار، فرده إنسان من نصف الطريق استحق النصف. وإذا التقط لقطة قبل بلوغ الجعل لم يستحق شيئاً ولو بعد الجعل. ومن عمل لغيره عملاً بغير جعل، غير رد الآبق، فلا شيء له، لا نعلم فيه خلافا؛ "فأما رد الآبق فإنه يستحق الجعل بردّه وإن لم يشرطه"، روي عن عمر وعلي وابن مسعود. وعن أحمد: لا أدري، قد تكلم الناس فيه. لم يكن عندي فيه حديث صحيح. وقال الشافعي: لا يستحق شيئاً. ويجوز أخذ الآبق لمن وجده، لا نعلم فيه خلافاً، لأنه لا يؤمن لحوقه بدار الحرب.   1 سورة يوسف آية: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 باب اللقطة وهي على ثلاثة أقسام: أحدها: ما لا تتبعه الهمة، كالعصا والسوط، فيملك بلا تعريف، لحديث جابر. ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في إباحة أخذ اليسير والانتفاع به، وقال مالك لا يجب تعريف ما لا يقطع بة السارق. وروي عن علي: "أنه وجد ديناراً فتصرّف فيه"، وعن سلمى بنت كعب قالت: "وجدت خاتماً من ذهب في طريق مكة، فسألت عائشة فقالت: تمتعي به"، و"رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحبل" في حديث جابر، وقد تكون قيمته دراهم. وليس عن أحمد تحديد اليسير. وقال: ما كان مثل الثمرة والكسرة والخرقة وما لا خطر له، فلا بأس. ولنا على إبطال التحديد: حديث زيد بن خالد في كل لقطة، وحديث عليّ ضعيف، قال أبو داود: طرقه مضطربة، ثم هو مخالف لمذهبهم، ولسائر المذاهب. والذي رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في التقاطه لم يذكر فيه ضماناً، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. الثاني: الضوالّ التي تمتنع من صغار السباع، كالإبل والبقر والخيل والبغال، فلا يجوز التقاطه. وقال مالك والليث في ضالة الإبل: من وجدها في القرى عرّفها، ولا يقربها في الصحراء. وقال الزهري: "من وجد بدنة فليعرّفها، فإن لم يجد صاحبها فلينحرها قبل أن تنقضي الأيام الثلاثة. والبقر كالإبل"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 نص عليه. وحكي عن مالك: البقرة كالشاة. ولنا: خبر جرير، فـ"إنه طرد البقرة". فأما الحمر فجعلها أصحابنا من هذا، والأوْلى إلحاقها بالشاة، لقوله: "معها سقاؤها وحذاؤها"، 1 يريد شدة صبرها عن الماء لكثرة ما توعي في بطنها منه، وقوله في الغنم: "إنها معرضة للذئب". فإن أخذ ما لا يجوز التقاطه ضمنه، فإن رده إلى موضعه لم يبرأ، وقال مالك: يبرأ "لأن عمر قال: أرسله في الموضع الذي أصبته فيه". فإن دفعها إلى نائب الإمام زال عنه الضمان. وللإمام أو نائبه أخذ الضالة ليحفظها لصاحبها، "لأن عمر حمى النقيع لخيل المجاهدين والضوال ". ولا يلزمه تعريفها، "لأن عمر لم يكن يعرّفها". وإن أخذها غير الإمام أو نائبه ليحفظها ضمنها. ولأصحاب الشافعي وجه: أن له أخذها لحفظها. فإن وجدها في موضع يخاف عليها به، كأرض مسبعة أو قريبة من دار الحرب أو في موضع يستحل أهله أكل أموال المسلمين، فالأولى جواز أخذها للحفظ؛ وإن رأى الإمام المصلحة في بيعها باعها. ومن ترك دابة بمهلكة فأخذها إنسان ملكها، وقال مالك: هي لمالكها، ويغرم ما أنفق عليها. وقال الشافعي هي لمالكها ولا يغرم. الثالث: سائر الأموال، كالأثمان والمتاع والغنم، فيجوز التقاطها لمن يقصد تعريفها، ويملكها بعده. وقال الليث: لا يقربها إلا أن يحرزها لصاحبها، لقوله: "لا يؤوي الضالة إلا ضال" 2 ولنا: قوله: "هي لك أو لأخيك أو للذئب"، 3 ولأنه يخشى عليه التلف، أشبه غير الحيوان، وحديثنا أخص من حديثهم، ولو قدر التعارض فهو أصح. ولا فرق بين المصر والمهلكة. وقال مالك في الشاة توجد في الصحراء: اذبحها وكلها، وفي المصر: ضمّها حتى يجدها   1 البخاري: العلم (91) , ومسلم: اللقطة (1722) , وأبو داود: اللقطة (1704) , وأحمد (4/115) , ومالك: الأقضية (1482) . 2 أبو داود: اللقطة (1720) , وابن ماجة: الأحكام (2503) , وأحمد (4/360, 4/362) . 3 البخاري: العلم (91) , ومسلم: اللقطة (1722) , وأبو داود: اللقطة (1704) , وابن ماجة: الأحكام (2504) , وأحمد (4/115) , ومالك: الأقضية (1482) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 صاحبها، لقوله: "هي لك أو لأخيك أو للذئب"، 1 ولا يكون الذئب في المصر. ولنا: أنه أمر بأخذها ولم يفرّق، وكونها للذئب في الصحراء لا يمنع كونها لغيره في المصر. ومتى عرّفها حولاّ ملكها، وعنه: لا. ولنا: قوله: "هي لك" إضافة إليه بلام التمليك، ولأن التقاطها مباح، فملكت بالتعريف؛ حكاه ابن المنذر إجماعاً. ومن أمن نفسه وقوي على تعريفها فله أخذها، والأفضل تركها، قاله أحمد. وقال الشافعي: إن وجدها بمضيعة وأمن نفسه، فالأفضل أخذها، وعنه: يجب، لقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ {أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2. وقال مالك: إن كان شيئاً له بال، يأخذه أحب إليّ. ولنا: قول ابن عمر وابن عباس، ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة. ومن وجد لقطة في دار الحرب وكان في جيش، فقال أحمد: يعرّفها سنة ثم يطرحها في المغنم، لأنه وصل إليها بقوة الجيش. وملتقط الشاة ومثلها مما يباح أكله يخّير بين ثلاثة أشياء: أحدها: أكلها في الحال، قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن ضالة الغنم في الموضع المخوف عليها له أكلها، لأنه سوَّى بينه وبين الذئب. فإن جاء صاحبها غرمها. وقال مالك: كُلْها ولا غرم ولا تعريف، لقوله: "هي لك". قال ابن عبد البر لم يوافق مالكاً أحد من العلماء على قوله، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ردّ على أخيك ضالته" دليل على أنها على ملك صاحبها، وقوله: "هي لك" لا يمنع الغرم، فقد أذن في لقطة الذهب بعد التعريف في أكلها، وقال هي كسائر مالك، ثم أجمعنا على وجوب الغرم.   1 البخاري: العلم (91) , ومسلم: اللقطة (1722) , وأبو داود: اللقطة (1704) , وابن ماجة: الأحكام (2504) , وأحمد (4/115) , ومالك: الأقضية (1482) . 2 سورة التوبة آية: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 الثاني: تركها والإنفاق عليها من ماله، فإن كان بنيّة الرجوع رجع به، وقيل: لا يرجع. الثالث: بيعها وحفظ ثمنها، ولم يذكر أصحابنا تعريفاً في هذه المواضع، وهو قول مالك. ولنا: أنها لقطة لها خطر، فوجب تعريفها. وما يخشى فساده، فإن كان مما لا يمكن تجفيفه كالفاكهة والخضروات فهو مخير بين أكله وبيعه وحفظ ثمنه؛ فإن أكلَه ثبتت القيمة في ذمته. وفي التعريف فصول ستة: في وجوبه، وقدره، وزمانه، ومكانه، ومن يتولاه، وكيفيته. أما وجوبه: فواجب على كل ملتقط، وقال الشافعي: لا يجب على من أراد حفظها لصاحبها. ولنا: أنه أمر به ولم يفرّق. وقدره: "سنة"، روي عن عمر وغيره، وعن عمر: "ثلاثة أشهر"، وعنه: "ثلاثة أعوام"، لحديث أبيّ. وقال إسحاق: ما دون الدينار يعرّفه جمعة. ولنا: حديث زيد بن خالد، فـ"إنه أمره بعام واحد"، وحديث أبيّ قال الراوي: "لا أدري ثلاثة أعوام أم عام واحد"، قال أبو داود: شك الراوي. وزمانه: النهار دون الليل، في اليوم الذي وجدها والأسبوع، ولا يجب بعده متوالياً. ومكانه: الأسواق وأبواب المساجد ومجامع الناس، و"أمر عمر واجدها بتعريفها على باب المسجد". والكيفية: يذكر جنسها لا غير، فيقول: من ضاع له ذهب أو فضة أو دنانير أو ثياب، ولا يصفها. ويعرّفها بنفسه أو يستنيب، فإن وجد متبرعاً وإلا استأجر، والأجرة عليه. وقال مالك: إن أعطى منها شيئاً لمن عرّفها لا يغرم. وإذا أخره عن الحول الأول أثم، لقوله: "لا تكتم ولا تغيب". 1 ويسقط بتأخيره عن الحول الأول، في المنصوص عن أحمد، لأن حكمة التعريف لا تحصل بعده. فإن تركه في بعض الحول عرّف بقيته، لقوله:   1 أحمد (5/80) , والدارمي: البيوع (2602) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". 1 "فإذا عرّفها حولاً فلم تعرف، ملَكها، غنياً كان أو فقيراً". روي عن عمر وغيره، وبه قال الشافعي. وقال مالك: يتصدق بها، فإذا جاء صاحبها خيّر بين الأجر والغرم، لحديث أبي هريرة، ولقوله: في حديث عياض: "وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء"، 2 وما يضاف إلى الله إنما يتملك بالصدقة. ونقل عن أحمد مثله، وأنكره الخلال. ولنا: قوله: "فاستنفقها"، وقوله: "وإلا فهي كسائر مالك". 3 وحديثهم عن أبي هريرة لا يثبت، ولا نقل في كتاب يعتمد عليه، ودعواهم إنما يضاف إلى الله، ما قالوه لا دليل عليه. ولا أعلم بين أكثر أهل العلم فرقاً بين الأثمان والعروض، وقال أكثر أصحابنا: لا تملك العروض بالتعريف، واختلفوا هل يعرّفها أبداً أو يتصدق بها. ولنا: عموم الأحاديث في اللقطة. وقولهم: روي ذلك عن ابن مسعود، قيل: إن صح فقد روي عن عمر وابنه خلافه. والمشهور عن أحمد: "أن لقطة الحرم والحل سواء". وروي عن ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك، وعن أحمد: أنها لا تلتقط للتملك بل للحفظ، ويعرّفها أبداً حتى يأتي صاحبها، وهو قول أبي عبيد. وعن الشافعي كالمذهبين، لقوله: "لا تحلّ ساقطتها إلا لمنشد". 4 ووجه الأولى: عموم الأحاديث، ويحتمل أن قوله: "إلا لمنشد" أي: لمن عرّفها عاماً، وتخصيصها به لتأكيدها، كقوله: " ضالة المؤمن حرق النار"، 5 وضالة الذمي مقيسة عليها. ويستحب أن يشهد عليها حين يجدها، لحديث عياض، ولا يجب، لأنه لم يأمر به زيد أو أبي بن كعب. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف ": لو وجد لقطة في طريق غير مأتي، فهي لقطة، واختار الشيخ أنه كالركاز.   1 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم: الحج (1337) , والنسائي: مناسك الحج (2619) , وابن ماجة: المقدمة (2) , وأحمد (2/247, 2/258, 2/313, 2/355, 2/428, 2/447, 2/456, 2/467, 2/482, 2/495, 2/508, 2/517) . 2 أبو داود: اللقطة (1709) , وابن ماجة: الأحكام (2505) , وأحمد (4/161, 4/266) . 3 البخاري: في اللقطة (2426, 2437) , ومسلم: اللقطة (1723) , والترمذي: الأحكام (1374) , وأبو داود: اللقطة (1701) , وابن ماجة: الأحكام (2506) , وأحمد (5/126) . 4 البخاري: في اللقطة (2434) , ومسلم: الحج (1355) , وأبو داود: المناسك (2017) , وأحمد (2/238) . 5 الترمذي: الأشربة (1880) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 كتاب الوقف القول بصحته قول الأكثر. وعن شريح: لا حبس عن فرائض الله. قال أحمد: هذا مذهب أهل الكوفة. ولا يصح إلا بشروط أربعة: أحدها: أن تكون في عين يجوز بيعها، ويمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، كالعقار والحيوان والسلاح. قال أحمد: إنما الوقف في الدور والأرضين على ما وقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال فيمن وقف خمس نخلات على مسجد: لا بأس به؛ وهذا قول الشافعي. وقال أبو يوسف: لا يجوز وقف الحيوان ولا العروض، إلا الكراع والسلاح. وعن مالك في الكراع [والسلاح] 1 روايتان. ولنا: قوله: "أما خالد، فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله". قال الخطابي: الأعتاد: ما يعدّ من مركوب وسلاح وآلة الجهاد. وقول أم معقل: "يا رسول الله، إن أبا معقل جعل ناضحه في سبيل الله، فقال: اركبيه، فإن الحج من سبيل الله". ويصح وقف المشاع، وقال محمد بن الحسن: لا يصح. ولنا: في حديث عمر: "أنه أصاب مائة سهم من خيبر، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقفها". "ويصح وقف الحلي على اللبس والعارية"، لما روي عن حفصة، وعنه: لا يصح، وأنكر حديث حفصة. الثاني: أن يكون على بر، كالمساكين والمساجد والأقارب؛ ولا يصح على نفسه. قال أحمد فيمن وقف على نفسه، ثم على المساكين، فقال: ما أعرف 2   1 زيادة في المخطوطة. 2 في المطبوعة: (لا أعرف) ، وهي عبارة الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 الوقف إلا ما أخرجه لله تعالى أو في سبيله. وقال أبو يوسف وابن شريح: يصح، "لأن في صدقته صلى الله عليه وسلم أن يأكل أهله منها بالمعروف". وإن وقف على غير معين، واستثنى الأكل منه مدة حياته، جاز، لما ذكرنا في وقف النبي صلى الله عليه وسلم، احتج به أحمد، ولقول عمر: "لا جناح على من وليها أن يأكل"، ولأنه إذا وقف وقفاً عاماً كالمقبرة والمسجد جاز له الانتفاع به. الثالث: أن يقفه على معيّن يملك، فلا يصح على عبده حتى يعتقه، ولا على مجهول كرجل. الرابع: أن يقف ناجزاً، فإن علقه على شرط لم يصح، إلا إن قال: هو وقف بعد موتي. واحتج أحمد بقول عمر: "إن حدث بي حادث إن ثمغاً صدقة". وإن وقف على من لا يجوز ثم على من يجوز، فمنقطع الابتداء، فإن لم يذكر مالاً فباطل. والوقف الصحيح: ما كان معلوم الابتداء والانتهاء غير منقطع، مثل أن يجعله على المساكين أو طائفة لا يجوز بحكم العادة انقراضهم. فإن كان غير معلوم الانتهاء، مثل أن يقف على قوم يجوز انقراضهم بالعادة، ولم يجعل آخره لجهة غير منقطعة، فهو صحيح أيضاً، وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه. والثاني: لا يصح، لأن الوقف مقتضاه التأبيد؛ فإن انقرضوا صرف إلى أقرباء الواقف. وعن أحمد: يصرف إلى المساكين، لأنهم مصرف الصدقات، فإذا وجدت صدقة غير معينة المصرف صرفت إليهم، وعنه: في بيت المال. ولا يشترط إخراج الوقف عن يده، وعنه: ما يدل على اشتراطه، فإنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 قال: الوقف المعروف أن يخرجه عن يده، أو يوكل من يقوم به. ولنا: حديث عمر. ولا يجوز بيعه إلا أن تتعطل منافعه، لقوله: "لا يباع أصلها، ولا تورث، ولا توهب ". 1 فإن تعطلت منافعه بِيع. قال أحمد: إذا كان في المسجد خشبتان لهما قيمة، جاز بيعهما وصرف ثمنهما عليه، وقال: يحول المسجد خوفاً من اللصوص. وإذا كان موضعه قذراً، قال أبو بكر: روي عنه: أن المساجد لا تباع وإنما تنقل آلتها. قال: وبالقول الأول أقول، لإجماعهم على جواز بيع الفرس الحبيس. وقال مالك والشافعي: لا يجوز بيع شيء من ذلك، لقوله: "لا يباع أصلها، ولا يوهب". 2 ولنا: ما روي: "أن عمر كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال بالكوفة: أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصلّ"، وهذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه، فكان إجماعاً. قال ابن عقيل: الوقف مؤبد، فإذا لم يكن تأبيده على وجه تخصيصه استوفينا الغرض، وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى، وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض. ويقرب هذا من الهدي إذا عطب، فإنه يذبح في الحال وإن اختص بموضع، فيستوفى منه ما أمكن. فإن لم يكن ثمن الفرس أعين به في فرس حبيس، نص عليه. وما فضل من حصر المسجد وزيته عن حاجته، جاز صرفه إلى مسجد آخر والصدقة به. وقال المروذي: قال أحمد: يتصدق به، وأرى أنه قد احتج بكسوة البيت إذا تخرقت يتصدق بها، وقال أيضاً: كان شيبة يتصدق بخلقان الكعبة. ولا يغرس به شجرة، نص عليه، قال: إن غرست بعد أن صار مسجداً، لا أحب الأكل منها؛ غرست بغير حق. فإن كانت   1 البخاري: الشروط (2737) والوصايا (2764, 2772) , ومسلم: الوصية (1633) , والترمذي: الأحكام (1375) , والنسائي: الأحباس (3597) , وأبو داود: الوصايا (2878) , وأحمد (2/55) . 2 البخاري: الشروط (2737) , ومسلم: الوصية (1633) , والترمذي: الأحكام (1375) , وأبو داود: الوصايا (2878) , وابن ماجة: الأحكام (2396) , وأحمد (2/55) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 مغروسة فيه جاز الأكل منها. قال أحمد: لا بأس أن يبيعها من الجيران. وعنه: لا تباع وتجعل للمسلمين وأهل الدروب يأكلونها، وذلك، والله أعلم، لأن صاحب الأرض قد وقف الأرض والشجرة جميعاً ولم يعين مصرفها، فصارت كالذي لم يعيّن له مصرف. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال الشيخ: إذا قال واحد أو جماعة: جعلنا هذا المكان مسجداً أو وقفاً، صار مسجداً أو وقفاً بذلك، وإن لم يكملوا عمارته. وإذا قال كل واحد منهم: جعلت ملكي للمسجد أو في المسجد، صار بذلك حق للمسجد. واختار صحة وقف الدراهم للقرض، قال: ولو وقف قنديلاً للنبي صلى الله عليه وسلم، صرف لجيرانه قيمته. وقال في النذور للقبور: هو للمصالح ما لم يعلم ربه، وفي الكفارة الخلاف، ومن الحسن صرفه في نظيره من المشروع. واختار جواز تعليق الوقف على شرط، ولو شرط أن يبيعه أو يهبه أو يرجع فيه ما شاء، فاختار الشيخ الصحة، فإن لم يقبل الموقوف عليه، بطل في حقه دون من بعده، وهو مفرع على اشتراط القبول. قال الشيخ: ليس كالوقف المنقطع الابتداء، بل الوقف هنا صحيح قولاً واحداً. وإن قال: على أولادي ثم أولادهم، على أنه من توفي منهم من غير ولد فنصيبه لمن في درجته، استحق كل ولد نصيب أبيه، وكذلك لو قال: وقف على أولادي، ثم على أولادهم، ثم على الفقراء، فاختار الشيخ أنه ترتيب أفراد، فيستحق الولد نصيب أبيه بعده. فهو من ترتيب الأفراد بين كل شخص وأبيه. وقال: من ظن أن الوقف كالإرث، فإن لم يكن أبوه أخذ لم يأخذ، فلم ينقله أحد من الأئمة ولم يدر ما يقول؛ ولهذا لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى أو بعضهم، لم تحرم الثانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 مع وجود الشروط فيهم إجماعاً. وقد وافق الشيخ على ذلك كثير من أرباب المذهب، وجعلوه من تخصيص العموم بالمفهوم، وهو أظهر. وصنف الشيخ في ذلك مصنفاً حافلاً خمس كراريس. وقال: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء واحتيج إلى الجهاد صرف إلى الجند. وقال: وما يؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرة، وإنما هو رزق للإعانة على الطاعة، وكذلك المال الموقوف على أعمال البر والموصى به والمنذور له. وقال: يجب عمارة الوقف بحسب البطون، وتقدم عمارة الوقف على أرباب الوظائف. وقال الشيخ: الجمع بينهما حسب الإمكان أولى، بل قد يجب. وقال: إذا وقف في صحته ثم ظهر عليه ديْن، فهل يباع لوفاء الدين؟ فيه خلاف. ومنعه قوي. وفي الاختيارات قال الشيخ: ليس بأبلغ من التدبير، وقد ثبت "أنه عليه السلام باعه في الدين". وجوز الشيخ بيع الوقف لمصلحة، وقال: هو قياس الهدي. وذكره وجهاً في المناقلة، وأومأ إليه أحمد: نقل صالح نقل المسجد لمصلحة الناس، واختاره صاحب الفائق وحكم به، ووافقه برهان الدين ابن القيم. وقال الشيخ: يد الواقف ثابتة على المتصل به ما لم تأت حجة تدفع موجبها، كمعرفة كون الغارس غرسه بماله بحكم إجارة أو إعارة، ويد المستأجر على المنفعة، فليس له دعوى البناء بلا حجة، ويد أهل الوصية المشتركة ثابتة على ما فيها بحكم الاشتراك، إلا مع بينة باختصاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 باب الهبة والعطية إن شرط فيها عوضاً معلوماً صارت بيعاً، وعنه: يغلب فيها حكم الهبة، لقول عمر (: "من وهب هبة أراد بها الثواب، فهو على هبته إذا لم يرض منها". وقال أحمد: إذا وهب على وجه الإثابة فلا يجوز، إلا أن يثيبه منها. وتلزم بالقبض، وعنه: في غير المكيل والموزون بمجرد الهبة، وقال مالك: تلزم بالعقد، لقوله: "العائد في هبته ... إلخ". ولنا: أنه روي عن أبي بكر وعمر ولم يعرف لهما مخالف. وفي الموطإ حديث أبي بكر، وقوله لعائشة: "كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقاً.. . إلخ". قال المروذي: "اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة". ووجه رواية اللزوم قبل القبض: ما تقدم من الحديث، ولأنه روي عن علي وابن مسعود. وأما هبة أبي بكر فيحتمل أنه غير معيّن، وهو لا بد فيه من القبض، وقول عمر: "ما بال قوم ينحلون أولادهم، فإذا مات أحدهم قال: مالي وفي يدي. لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد" أراد به: التحيل لنحلة الولد بنحلة موقوفة على الموت. وإذا مات أحدهما قبل القبض بطلت. قال أحمد في رجل أهدى هدية فلم تصل حتى مات المهدى إليه: عادت إلى صاحبها. وإن أبرأ الغريم غريمه برئ، وإن لم يقبل. وتصح البراءة من المجهول إذا لم يكن لهما سبيل إلى معرفته. وقال الشافعي: لا يصح. ولنا: أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 صلى الله عليه وسلم قال للرجلين: "اقتسما وتوخّيا، ثم استهما، ثم تحالاّ". 1 رواه أبو داود. فإن كان الموهوب له طفلاً أو مميزاً، قبض له أبوه أو وصي أبيه أو الحاكم، قال أحمد: لا أعرف للإمام قبضاً، ولا يكون إلا للأب؛ ويحتمل أن يصح القبض والقبول من غيرهم عند عدمهم، لأن الحاجة داعية إليه، لأن الصبي قد يكون في مكان لا حاكم فيه. فإن وهب لولده الصغير قبض له، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أن الرجل إذا وهب لولده الطفل داراً بعينها أو عبداً بعينه، وقبض له من نفسه وأشهد عليه، أنها تامة وأن الإشهاد فيها يغني عن القبض. وقال مالك: إن وهب له ما لا يعرف بعينه كالأثمان لم يجز، إلا أن يضعها في يد غيره. وتصح هبة المشاع، أمكنه قسمته أم لا. وقال أصحاب الرأي: لا تصح ما لا يمكن قسمته. ولنا: قوله: "ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم". 2 رواه البخاري. ولا تصح هبة المجهول كالحمل في البطن، وأجازه مالك. ولا يجوز تعليقها على شرط ولا توقيتها إلا في العمرى والرقبى، وهو أن يقول: أعمرتك أو أرقبتك هذه الدار، أو جعلتها لك عمرك أو حياتك، فإنها تصح وتكون له ولورثته من بعده. سميت: "عُمْرى"" لقيدها بالعمر، و"رُقْبى" لأن كلاهما يرقب موت صاحبه، وهي أن يقول: أرقبتك هذه الدار، أو هي لك حياتك، على أنك إن مت قبلي عادت إليّ، وإن مت قبلك فهي لك ولعقبك. وعن بعضهم: لا تصح، لقوله: "لا تعمروا ولا ترقبوا". 3 ولنا: قوله: "العمرى جائزة، والرقبى جائزة لأهلها". 4 حسنه الترمذي. والنهي: إعلام أنكم إن فعلتم نفذت، وسياقه يدل عليه، فإنه قال: "فمن أعمر عمرى، فهي للذي أعمرها حياً وميتاً   1أحمد (6/320) . 2 النسائي: الهبة (3688) . 3 النسائي: العمرى (3731) . 4 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2626) , ومسلم: الهبات (1626) , والنسائي: العمرى (3754) , وأبو داود: البيوع (3548) , وأحمد (2/347, 2/429) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 وعقبه". 1 وقال مالك والليث: "العمرى تمليك المنافع، فإذا مات عادت إلى المعمر". وسئل القاسم عنها فقال: ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم وما أعطوا. قال ابن الأعرابي: لم تختلف العرب أن العمرى والرقبى والفقار والمنحة والعارية والسكنى، أنها على ملك أربابها، ومنافعها لمن جعلت له. ولنا: قوله: "أمسكوا عليكم أموالكم؛ فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً ولعقبة ". 2 رواه مسلم. وقد روى مالك حديث العمرى في الموطإ، وهو صحيح، رواه جابر وابن عمر وابن عباس ومعاوية وزيد بن ثابت وأبو هريرة. وقول القاسم لا يقبل في مقابلة مَن سمّينا من الصحابة والتابعين، فكيف في مخالفة سيد المرسلين؟! ولا يصح دعوى إجماع أهل المدينة لكثرة من قال بها منهم، وقضى بها طارق بالمدينة بأمر عبد الملك. وقول ابن الأعرابي لا يضر إذ نقلها الشرع إلى التمليك الرقبة، وإن شرط رجوعها إلى المعمر بعد موته أو قال: لآخرنا موتاً، صح الشرط، وعنه: لا يصح. وهي للمعمر ولورثته، لقول جابر: "إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك. فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها"، وفي الموطإ عنه، مرفوعاً: "أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى من أعطاها"، 3 لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. وحجة الرواية الثانية: الأحاديث المطلقة، والحديث الذي احتجوا به من قول جابر، وقوله في الحديث الآخر: لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث، هو من قول أبي سلمة بن عبد الرحمن. وقال مالك: الرقبى باطلة، لأنها روي أنه أجاز العمرى وأبطل الرقبى. ولنا: ما ذكرنا من الأحاديث، وهذا الحديث لا نعرفه. وأما إن قال: سكناها   1 مسلم: الهبات (1625) , والنسائي: العمرى (3737) , وأبو داود: البيوع (3551) , وابن ماجة: الأحكام (2380) , وأحمد (3/312, 3/317, 3/385) . 2 مسلم: الهبات (1625) , والترمذي: الأحكام (1350) , والنسائي: العمرى (3736) ,3737) , وأحمد (3/312) . 3 مسلم: الهبات (1625) , والترمذي: الأحكام (1350) , والنسائي: العمرى (3745) , وأبو داود: البيوع (3553) , وأحمد (3/399) , ومالك: الأقضية (1479) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 لك عمرك، فله أخذها، أي: وقت أحب، وتبطل بموت أحدهما، وبه قال الأكثر. وقال الحسن وقتادة: هي كالعمرى. ولنا: أن هذا إباحة المنافع كالعارية. ولا خلاف في استحباب التسوية بين الأولاد وكراهة التفضيل، قال إبراهيم: كانوا يستحبون التسوية بينهم حتى في القُبلة، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين. قال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله، وقال مالك والشافعي: يعطي الأنثى كالذكر، لقوله: "سوِّ بينهم"، وعلله بقوله: "أيسرك أن يستووا في برك". ولنا: أن أولى ما اقتدي به قسمة الله، وقضية بشير قضية عين لا عموم لها، إنما ثبت حكمها في مثلها، ولا نعلم حالهم هل كان فيهم أنثى، ولعله علم أن ليس له إلا ذكر. ثم نحمل التسوية على كتاب الله، وما ذكر عن ابن عباس رفعه: "سوّوا بين أولادكم، ولو كنت مؤثراً أحداً لآثرت النساء"، الصحيح أنه مرسل. وقول عطاء خبر عن جميعهم، فإن خص أو فضل رجع أو أعطى حتى يستووا، وكان الحسن يكرهه ويجيزه في القضاء، وأجازه مالك والشافعي لخبر أبي بكر لما نحل عائشة، واحتج الشافعي بقوله: "أشهد غيري"، فأمره بتأكيدها. ولنا: حديث بشير، وفيه: ""اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم". فرجع أبي وردّ تلك الصدقة ?"، 1 وفي لفظ قال: "فارددها"، وفي لفظ: "فأرجعه"، وفي لفظ: "أتشهدني على جور؟ "، وفي لفظ: "سوِّ بينهم ". متفق عليه، وهو دليل على التحريم، لأنه سماه جوراً، وأمره بردّه، وامتنع من الشهادة عليه، والجور حرام والأمر يقتضي الوجوب، ولأن هذا يوقع القطيعة، كتزويج المرأة على عمتها. وقول أبي بكر لا يعارض النص، ويحتمل أن أبا بكر خصها لعجزها عن الكسب، ولكونها أم المؤمنين، وقوله: "أشهد غيري" ليس بأمر، لأن   1 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) , ومسلم: الهبات (1623) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 أقل أحواله الاستحباب؛ ولا خلاف في كراهة هذا، وكيف يأمره بتأكيده مع أمره؟ وحمله على هذا محمل [له] على التناقض. وإن خص بعضهم لزمانة أو كثرة عائلة أو صرف عنه لفسقه، فعنه: ما يدل على الجواز، وظاهر لفظ الحديث: المنع على كل حال؛ والأول أولى، لحديث أبي بكر. وإن مات قبل ذلك ثبت للمعطى، وعنه: لا يثبت، وللباقين الرجوع. والأول قول أكثر أهل العلم، لقول أبي بكر: "وددت لو أنك حزتيه"، وقول عمر: "لا أعطيه إلا ما حازه الولد". والثاني قول عروة، قال أحمد: عروة روى الأحاديث الثلاثة: حديث عائشة، وحديث عمر، وحديث عثمان، وتركها وذهب إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "يردّه في حياة الرجل وبعد موته"، و"لأن أبا بكر وعمر أمرا قيس بن سعد بردّ قسمة أبيه حين ولد له ولد لم يعلم به". وسئل أحمد: عمن زوَّج ابنه فأعطى عنه الصداق ثم مرض، وله ابن آخر، هل يعطيه في مرضه كما أعطى الآخر في صحته؟ فقال: لو كان أعطاه في صحته فيحتمل أن يصح، وهو الصحيح، ويحتمل أن لا يصح. وقال أحب ألا يقسم ماله، يدعه على فرائض الله، لعله أن يولد له؛ فإن فعل ثم وُلد له، فأعجب إليّ أن يرجع فيسوي. فإن أعطى ولده ثم مات، ثم ولد له ولد، استحب للمعطي أن يساوي أخاه، لحديث قيس بن سعد. فإن سوى بين الذكر والأنثى في الوقف، أو وقف ثلثه في مرضه على بعضهم، جاز، وقياس المذهب: لا يجوز. قال أحمد: إن كان على طريق الأثرة فأكرهه، وإن كان على أن بعضهم له عيال وبه حاجة فلا بأس، "لأن الزبير خص المردودة من بناته". وقال فيمن أوصى لأولاد بنيه بأرض توقف عليهم، فقال: إن لم يرثوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 فجائز، وعنه: لا يجوز. قال في رواية الميموني: يجوز. قيل له أليس تذهب إلى: "لا وصية لوارث"؟ 1 قال: الوقف غير الوصية، لأنه لا يصير ملكاً، واحتج بحديث عمر: "تليه حفصة ما عاشت ثم ذوو الرأي". وفيه: "لا حرج على من وليه أن يأكل". ولنا: "أن عمر لم يخص بعض الورثة"، والنزاع في تخصيص بعضهم، وجعل الولاية إلى حفصة ليس وقفاً. ولا يجوز لغير الأب والأم الرجوع في الهبة، وقال الثوري وإسحاق: من وهب لغير ذي رحم، فله الرجوع ما لم يثب عليها، لقول عمر: "من وهب هبة يرى أنه أراد بها صلة الرحم أو على جهة صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة أراد بها الثواب، فهو على هبته، يرجع فيها ما لم يرض منها". رواه في الموطإ. ولنا: قوله: "العائد في هبته ... إلخ". فأما الأب فله الرجوع، وبه قال مالك والشافعي، وعنه: لا يرجع، لقوله: "العائد في هبته ... إلخ". ولنا: حديث بشير، وعن ابن عمر وابن عباس، مرفوعاً: "ليس لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده". 2 حسنه الترمذي. فأما الأم فظاهر كلام أحمد: ليس لها الرجوع، لأنه سئل فقال: ليست عندي كالرجل، وذكر حديث عائشة: "أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإنّ ولده من كسبه"، 3 أي: كأنه الرجل. ويحتمل أن لها الرجوع، وهو مذهب الشافعي، لدخولها في قوله: "إلا الوالد فيما يعطي ولده"، وفي قوله: "سوّوا بين أولادكم". 4 وقال مالك: لها الرجوع ما كان أبوه حياً، فإن كان ميتاً فلا رجوع، لأنها هبة ليتيم. وحكم الصدقة حكم الهبة، ولم يجوزه مالك في الصدقة بحال، لقول عمر: "أو على وجه الصدقة". ولنا: حديث بشير، فإن النعمان قال: "تصدق أبي عليّ بصدقة". فإن تعلق بها رغبة لغير الولد، مثل أن يهب ولده شيئاً فيرغب الناس في معاملته   1 الترمذي: الوصايا (2121) , والنسائي: الوصايا (3641, 3643) , وأحمد (4/186) , والدارمي: الوصايا (3260) . 2 الترمذي: البيوع (1299) , والنسائي: الهبة (3703) . 3 الترمذي: الأحكام (1358) , والنسائي: البيوع (4452) , وأبو داود: البيوع (3528, 3529) , وابن ماجة: التجارات (2137, 2290) , وأحمد (6/31, 6/41, 6/126, 6/127, 6/162, 6/173, 6/193, 6/201, 6/202, 6/220) , والدارمي: البيوع (2537) . 4 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) , ومسلم: الهبات (1623) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 فيداينوه، أو مناكحته فيزوجوه، أو يهب بنته فتتزوج لذلك، ففيها روايتان: أولاهما: لا رجوع، قال أحمد في الرجل يهب ابنه مالاً: فله الرجوع إلا إن يكن غرَّ به قوماً، فلا يرجع؛ وهذا مذهب مالك. واختلف عن أحمد في هبة المرأة زوجها، فعنه: لا رجوع لها، وبه قال مالك والشافعي، لقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ} ، 1 وقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} الآية، 2 وعموم الأحاديث. وعنه: لها الرجوع، وذكر حديث عمر: "أن النساء يعطين أزواجهن رغبة ورهبة، فأيما امرأة أعطت زوجها شيئاً، ثم أرادت أن تعتصره فهي أحق به"، وذكر الحديث: "إنما يرجع في المواهب: النساء وشرار الرجال"، وعنه: إذا وهبت له مهرها إن سألها رده إليها، وإن لم يكن سألها فجائز، لأن الله إنما أباحه عن طيب نفس، وشاهد الحال يدل على أنها لم تطب به نفسها. وللأب أن يأخذ من مال ولده ما شاء بشرطين: أحدهما: أن لا يضر بالابن. الثاني: أن لا يأخذ من مال ولده ويعطيه الآخر، نص عليه، لأنه ممنوع من التخصيص من مال نفسه. وقال مالك والشافعي: لا يأخذ إلا بقدر حاجته، لقوله: " فإن دماءكم وأموالكم ... إلخ". ولنا: حديث عائشة، مرفوعاً: "إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم"، 3 ولأن الله جعله موهوباً، قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ، 4 {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} . 5 وقوله: "أحق به من والده وولده"، الحديث مرسل، ثم هو يدل على   1 سورة البقرة الآية رقم: 237. 2 سورة النساء آية: 4. 3 الترمذي: الأحكام (1358) , والنسائي: البيوع (4450) , وابن ماجة: التجارات (2290) , وأحمد (6/41, 6/162, 6/201) . 4 سورة الأنعام آية: 84. 5 سورة الأنبياء آية: 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 ترجيح حقه على أبيه، وهو أحق به فيما تعلقت به حاجته. وليس لغير الأب الأخذ، ويحتمل أن يجوز للأم، لقوله: "أولادكم". وليس له مطالبة أبيه بديْن، ولا قيمة متلف، ولا غير ذلك. وقال مالك والشافعي: له ذلك. وروى الزبير بن بكار بإسناده: "أن رجلاً استقرض من ابنه مالاً فحبسه فأطال حبسه، فاستعدى عليه الابن علي بن أبي طالب، وذكر قصة في شعر، فأجابه أبوه بشعر، فقال علي: قد سمع القاضي ومن ربى الفهم ... المال للشيخ جزاء بالنعم يأكله برغم أنف من رغم ... من قال قولاً غير ذا فقد ظلم ... وجار في الحكم وبئس ما جرم ... قال الزبير: وبه أقول". وإذا برئ المريض أو كان مرضه غير مخوف، فعطاياه كعطايا الصحيح، وإن كان مرض الموت المخوف فعطاياه صحيحة "لأن عمر أوصى حين جرح، وأبو بكر عهد إلى عمر حين اشتد مرضه، وكذلك عليّ بعد ضرب ابن ملجم، وصّى وأمر ونهى"، ولم يختلف في صحة ذلك. وهي كالوصية لا تصح لوارث ولا لأجنبي بزيادة على الثلث، وحكي عن الظاهرية: أن الهبة المقبوضة من رأس المال. ولنا: حديث: ستة الأعبد، فإذا لم ينفذ العتق مع سرايته فغيره أولى. ومن كان بين الصفين عند التحام الحرب، أو في لجة البحر عند هيجانه، أو وقع الطاعون ببلده، أو قدم ليقتص منه، أو الحامل عند المخاض، فكالمريض، وكذلك الأسير والمحبوس إذا كان عادتهم القتل. وقال إسحاق والثوري: ولو لم يخف القتل. وقال مالك: الغازي عطيته من الثلث. وقال إسحاق: إذا ثقلت الحامل فعطيتها من الثلث، وقال قتادة: "عطية الحامل من الثلث". وقال الزهري: عطيتها كعطية الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 فإن قضى بعض غرمائه ووفت التركة، لم يكن للغرماء الاعتراض عليه، وإن لم تف فوجهان: أحدهما: الاعتراض، وهو قول أبي حنيفة، لأن حقهم تعلق بماله في مرضه. والثاني: الاعتراض عليه، وهو قول الشافعي. فإن لم يف الثلث بالتبرعات المنجزة، بدأ بالأول فالأول، سواء كان الأول عتقاً أو غيره، وبه قال الشافعي. وقال أبو يوسف: يقدم العتق تقدم أو تأخر. وإن تساوت، قسم بين الجميع بالحصص، وعنه: يقدم العتق. وتفارق العطية الوصية في أربعة أشياء: أحدها: أنه يبدأ بالأول فالأول، والوصايا يسوى بين المتقدم والمتأخر منها. الثاني: أنه لا يجوز الرجوع في العطية. الثالث: أنه يعتبر قبول العطية، وتفتقر إلى شروط الهبة. والعطية تقدم على الوصية، وهو قول الشافعي والجمهور. الرابع: أن الملك يثبت في العطية من حينها. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وإن شرط ثواباً مجهولاً لم يصح، وعنه: قال: يرضيه بشيء، ذكرها الشيخ. وقال: إن أعطاه ليعاوضه أو ليقضي له حاجة فلم يف، فكالشرط. ولو وهب الغائب هبة وأنفذها مع رسول الموهوب له، ثم مات الواهب أو الموهوب له قبل وصولها، كانت للموهوب له. وإن أبرأ غريم غريمه وهما يعلمانه صح، وإن أعلمه المبرَأ، بفتح الراء، أو جهله، وكان المبرِئ، بكسرها، يجهله، صح. وعنه: يصح مع جهل المبرأ، بفتح الراء. وعنه: لا يصح إلا إذا تعذر علمه. وأما إن علم المديون فروايتان. ولا تصح هبة الدين لغير من هو في ذمته، قال في الفائق: المختار: الصحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 ولا تصح البراءة بشرط، كقوله: إن متَّ فأنت في حل، نص عليه. فإن ضم التاء فهو وصية. وجعل أحمد رجلاً في حل من غيبة بشرط أن لا يعود. وقال: ما أحسن الشرط. وأخذ صاحب النوادر من شرطه أن لا يعود، رواية في صحة البراءة بشرط. وفي صحيح مسلم: أن أبا اليسر قال لغريمه: إن وجدت قضاء فاقض، وإلا فأنت في حل. وأعلم به الوليد بن عبادة وابنه وهما تابعيان فلم ينكراه واختاره الشيخ. وقال: لا تصح هبة المجهول، كقوله: ما أخذت من مالي فهو لك، أو من وجد شيئاً من مالي فهو له، واختار هبة المعدوم كالثمر واللبن بالسنة. واختار جواز التوقيت كقوله: وهبتك سنة، واختار، إن شرط رجوع العمرى إلى المعمِر بكسر الميم عند موته، أو قال: لآخرنا موتاً، الصحة. قوله: فإن مات يعني: الأب قبل الرجوع ثبت للمعطى، وعنه: لا يثبت، وللباقين الرجوع، إلا أن يتعلق به حق أو رغبة، اختاره الشيخ. وقال: يرجع فيما زاد على قدر الديْن أو الرغبة. وقال: ليس للأب الكافر الرجوع، إذا كان وهبه في حال الكفر وأسلم الولد. وقال يستثنى مما للأب أن يأخذ سرية الابن، وإن لم تكن أم ولد، فإنها ملحقة بالزوجة، نص عليه أحمد. وسأله ابن منصور وغيره عن: الأب يأكل من مال ابنه؟ قال: نعم، إلا أن يفسده؛ فله القوت فقط. وقال الشيخ: قياس المذهب: أنه ليس له أن يتملك من مال ابنه في مرض موت الأب ما يخلفه تركة، كما لو تملك في مرض موت الابن. وقال: لو أخذ من مال ولده ثم انفسخ سبب الاستحقاق، وجب رده إلى الذي كان مالكه، مثل أن يأخذ صداق ابنته ثم تطلق، أو ثمن السلعة ثم تُردّ بعيب. وقال: يملك الأب إسقاط ديْن الابن عن نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 كتاب الوصايا الأصل فيها: الكتاب والسنة والإجماع، لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية، 1 وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . 2 وأما السنة: فحديث سعد وابن عمر وغيرهما. وأجمعوا على جوازها. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنها غير واجبة إلا على من عليه حق بغير بيّنة، أو أمانة بغير إشهاد، إلا طائفة شذت فأوجبتها؛ روي عن الزهري وأبي مجلز، وهو قول داود. ولنا: أن أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوصوا، ولم ينقل لذلك نكير. وأما الآية فقال ابن عباس وابن عمر: "نسختها آية الميراث"، وحديث ابن عمر محمول على من عليه واجب. وتصح من السفيه المحجور عليه، ومن الصبي إذا جاوز العشر لا من دون سبع، وفي ما بينهما روايتان. وعن ابن عباس: "لا تصح حتى يبلغ"، وللشافعي قولان. ولنا: ما روي: "أن صبياً من غسان له عشر سنين أوصى إلى إخوانه، فرفع إلى عمر فأجازه، رواه في الموطإ، وفيه: "أن الوصية بيعت بثلاثين ألفاً"؛ وهذه قصة اشتهرت فلم تنكر. ومن له فوق السبع فيه روايتان: إحداهما: تصح، قال شريح وعبد الله بن عتبة: من أصاب الحق أجزنا وصيته، وأما الطفل والمجنون فلا تجوز   1 سورة البقرة آية: 180. 2 سورة النساء آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 في قول الأكثر، ولا نعلم أحداً خالفهم، إلا إياس بن معاوية، فإنه قال في الصبي والمجنون: إذا وافقت وصيتهما الحق جازت. وتصح وصية الأخرس بالإشارة، لا من اعتقل لسانه، ويحتمل الصحة؛ وهو قول الشافعي وابن المنذر، واحتج بـ"صلاته صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، فأشار إليهم: أن اجلسوا". وإن وجدت وصية مكتوبة بخطه صحت، وعنه: لا تصح حتى يُشهد. ووجه الأولى: حديث ابن عمر. وإن كتب وصيته وقال: اشهدوا على ما في هذه الورقة لم يجز، ويحتمل أن يجوز، وهو قول مالك والليث والأوزاعي وأبي عبيد، واحتج بـ"كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عماله والخلفاء من كتبهم إلى ولاتهم بالأحكام التي فيها الدماء والفروج، مختومة لا يعلم حاملها ما فيها". وذكر استخلاف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز وقال: ولا نعلم أحداً أنكر ذلك مع شهرته، فيكون إجماعاً. وعن أنس: "كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: هذا ما أوصى به فلان بن فلان: أنه يشهد أن لا إله إلا الله [وحده لا شريك له] 1 وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين. وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2". أخرجه سعيد عن فضيل عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أنس. والوصية مستحبة لمن ترك خيراً، للآية؛ فنسخ الوجوب وبقي الاستحباب   1 من المخطوطة. 2 سورة البقرة آية: 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 في حق من لا يرث، فإن كان له ورثة محتاجون وهو فقير، فلا يستحبّ، لحديث سعد. واختلف في قدر الخير، فقال ابن عباس: "من ترك سبعمائة درهم، ليس عليه وصية". وعن علي: "أربعمائة دينار". وقال طاووس: الخير ثمانون. قال شيخنا: والذي يقوى عندي: أنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لم تستحب، لتعليله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير لك ... إلخ"؛ 1 فيختلف باختلاف كثرة الورثة وقلّتهم وغنائهم وحاجتهم. والأوْلى: أن لا يستوعب الثلث وإن كان غنياً، لحديث سعد. وعن إبراهيم كانوا يقولون: صاحب الربع أفضل من صاحب الثلث، وصاحب الخمس أفضل من صاحب الربع. "وأوصى أبو بكر الصديق بالخمس وقال: رضيت ما رضي الله به لنفسه"، يريد قوله: {فأن لله خمسه} 2. والأفضل أن يجعلها لأقاربه الذين لا يرثون إن كانوا فقراء، قال ابن عبد البر: لا خلاف فيه إذا كانوا ذوي حاجة، لأن الله كتب الوصية للوالدين والأقربين، فخرج الوارث وبقي سائرهم على الوصية. فإن أوصى لغيرهم وتركهم صحت في قول الأكثر. وعن طاووس: يردّ إلى قرابته. وعن ابن المسيب والحسن: للذي أوصي له [ثلث] 3 الثلث، والباقي يردّ إلى قرابته. ولنا: حديث عمران في ستة الأعبد، فأما من لا وارث له فتجوز بجميع ماله، وعنه: ليس له إلا الثلث. ووجه الأولى: حديث سعد، وهنا لا وارث له، وهو مروي عن ابن مسعود وعبيدة ومسروق. فأما ذوو الأرحام فظاهر كلام الخرقي أنه لا يمنع الوصية بجميع المال، ويحتمل كلام شيخنا أنه لا ينفذ   1 البخاري: الجنائز (1296) , ومسلم: الوصية (1628) , والترمذي: الوصايا (2116) , والنسائي: الوصايا (3626, 3628) , وأبو داود: الوصايا (2864) , وأحمد (1/176, 1/179) , ومالك: الأقضية (1495) , والدارمي: الوصايا (3196) . 2 سورة الأنفال آية: 41. 3 زيادة المخطوطة، وهو الموافق لعبارة الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 إلا الثلث، لدخولهم في قوله: "إنك أن تذر ورثتك ... إلخ" 1. والوصية لغير وارث تلزم في الثلث من غير إجازة الورثة، وما زاد يقف على إجازة الورثة. قال ابن المنذر أجمعوا على أنها تبطل فيما زاد على الثلث، بردّ الورثة وبردّهم في الوصية للوارث، وإن أجازوا جازت في قول الأكثر. وقال المزني والظاهرية: الوصية لبعضهم باطلة، وإن أجاز الورثة، ولا نعلم خلافاً في أن اعتبارها بالموت. فلو وصى لثلاثة إخوة له مفترقين، ولا ولد له، ومات ولم يولد له، لم تصح لغير الأخ من الأب، وإن ولد له صحت للجميع. ولا تصح إجازتهم وردّهم إلا بعد موت الموصي، وما قبله لا عبرة به، نص عليه؛ وهو قول الشافعي. وقال الحسن والأوزاعي: يجوز كما لو رضي المشتري بالعيب. وقال مالك: إن أذنوا له في صحته، فلهم الرجوع. وإن كان في مرضه حين يحجب عن ماله، فذلك جائز عليهم. وإن مات الموصى له قبل موت الموصي، بطل في قول أكثر أهل العلم. واتفق أهل العلم على أن له أن يرجع في كل ما أوصى به وفي بعضه، إلا العتق؛ فالأكثر على جواز الرجوع. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه: أنه إذا أوصى لرجل بطعام فأكله، أو بشيء فأتلفه أو وهبه، أو بجارية فأحبلها، أنه رجوع. وتخرج الواجبات من رأس المال، أوصى بها أو لا، لقوله سبحانه: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 2. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": عن الشيخ: أن إجازة الورثة تثبت قبل موت الموصي. وأن المجيز لو قال: ظننت باقي المال كثيراً قبل قوله، أو ظننت قيمته ألفاً فبان أكثر، وأن الموصى بوقفه إذا نما بعد الموت وقبل إيقافه، صرف النماء مصرف الوقف إلى آخره.   1 البخاري: الجنائز (1296) , ومسلم: الوصية (1628) , والترمذي: الوصايا (2116) , والنسائي: الوصايا (3626, 3628) , وأبو داود: الوصايا (2864) , وأحمد (1/176, 1/179) , ومالك: الأقضية (1495) , والدارمي: الوصايا (3196) . 2 سورة النساء آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 باب الموصى له تصح لمسلم وذمي وحربي، لا نعلم فيه خلافاً، قال ابن الحنفية في قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} : 1 هو وصية المسلم لليهودي والنصراني. وقال أبو حنيفة: لا تصح للحربي إذا كان في دار الحرب، لقوله: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية. 2 ولنا: أنها حجة في من لم يقاتل، وأما المقاتل فنهى عن توليه لا عن بره، وحديث عمر في الحلة التي كساها مشركاً بمكة. ولا نعلم خلافاً في صحة الوصية للحمل. وإن وصى في أبواب البر صرف في القرب كلها. وإن أوصى لجيرانه تناول أربعين داراً من كل جانب، نص عليه؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: الجار الملاصق، لقوله: "الجار أحق بصقبه". 3 وقال قتادة: الجار الدار والداران. ولنا: حديث أبي هريرة، مرفوعاً: "الجار أربعون داراً، هكذا وهكذا وهكذا وهكذا ". وهذا نص إن صح، وإن لم يثبت فالجار يرجع إلى العرف. وقال أبو بكر: مستدار أربعين داراً، يعني: من كل جانب، والحديث يحتمله.   1 سورة الأحزاب آية: 6. 2 سورة آية: 9. 3 البخاري: الحيل (6977) , والنسائي: البيوع (4702) , وأبو داود: البيوع (3516) , وابن ماجة: الأحكام (2495) , وأحمد (6/390) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": أفتى الشيخ بدخول المعدوم في الوصية تبعاً، كمن وصى بغلّة ثمرة للفقراء إلى أن يحدث لولده ولد. واشترط أيضاً في صحة الوصية: كونها على قربة. قوله: وإن وصى لصنف من أصناف الزكاة أو لجميع الأصناف صح. قال في الفائق: الرقاب والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل: مصارف الزكاة، فيعطى في فداء الأسرى لمن يفديه، قال الشيخ: أو يوفى ما استدان فيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 باب الموصى به تصح الوصية بما لا يقدر على تسليمه، لأنها إذا صحت بالمعدوم كالحمل فهذا أولى. وتصح بالمعدوم كما لو قال: بما تحمل هذه الجارية، فإن وصى بمائة لا يملكها صح، فإن قدر عليها عند الموت وإلا بطلت. وتصح بالمجهول كعبد وشاة، وإن وصى له بطبل حرب صحت الوصية لأن فيه منفعة مباحة، وإن كان بطبل لهْو لم تصح. وإن أوصى بثلثه فاستحدث مالاً دخل ثلثه في الوصية، في قول أكثر أهل العلم. وتصح بالمنفعة المفردة وبغلّة دار وثمرة بستان، فإن أراد الموصى له بمنفعة الدار إجارتها في تلك المدة فله ذلك. وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وقال ابن المنذر: أجمع من أحفظ عنه: على أن الرجل إذا أوصي له بشيء فهلك الشيء، ألاّ شيء له في مال الميت. والاعتبار في قيمة الوصية وخروجها من الثلث أو عدم خروجها بحالة الموت، وهذا قول الشافعي، لا نعلم فيه خلافاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 باب الموصى إليه تصح وصية المسلم إلى كل مسلم عاقل عدل، وإن كان عبداً أو مراهقاً أو امرأة. وقال الأوزاعي: تصح إلى عبده لا عبد غيره. وقال الشافعي: لا تجوز إلى العبد بحال. ويحتمل أن لا تصح إلى الصبي، وهو مذهب الشافعي. ولم يجز عطاء الوصية إلى المرأة. ولنا: "أن عمر أوصى إلى حفصة". ولا تصح وصية المسلم إلى كافر، بغير خلاف، وأما الفاسق، فعنه: لا تصح؛ وهو قول مالك والشافعي. وعنه: تصح، وهو مذهب أبي حنيفة. وإذا أوصى إلى رجل، وبعده إلى آخر، فهما وصيان؛ وليس لأحدهما الانفراد بالتصرف، إلا أن يجعل ذلك إليه. وإذا قال: إلى زيد، فإن مات فإلى عمرو، صح لحديث زيد وجعفر وعبد الله. وله عزل نفسه متى شاء، وبه قال الشافعي، وعنه: لا يجوز بعد موت الموصى. وليس له أن يوصي إلا أن يجعل ذلك إليه، وعنه: له ذلك. وأما من لا ولاية له عليهم، كالإخوة والأعمام وسائر من عدا الأولاد، فلا تصح الوصية عليهم، لا نعلم فيه خلافاً، إلا أن أبا حنيفة والشافعي قالا: للجد ولاية على ابن ابنه وإن سفل. ولأصحاب الشافعي في الأم عند عدم الأب والجد وجهان. ولا بأس بالدخول في الوصية، فـ"إن الصحابة يوصي بعضهم إلى بعض فيقبلون". وإن مات رجل لا وصي له ولا حاكم فى بلده، فظاهر كلام أحمد: أنه يجوز لرجل من المسلمين أن يتولى أمره، ويبيع ما دعت الحاجة إلى بيعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 وإذا علم الموصى إليه أن على الميت ديناً، فقال أحمد: لا يقضيه إلا ببيّنة. قيل له: فإن كان ابن الميت فصدّقه؟ قال: يكون في حصة من أقر بقدر حصته. ونقل أبو داود في رجل أوصى أن لفلان عليَّ كذا: ينبغي للوصي أن ينفذه، ولا يحل له إلا أن ينفذه؛ فهذه محمولة على أن الورثة يصدقون، والأولى إذا لم يصدقوا، جمعاً بين الروايتين. فقيل له: فإن علم الموصى إليه أن لرجل حقاً على الميت فجاء الغريم يطالب الوصي، وقدمه إلى القاضي ليستحلفه أن ما لي في يديك حق؟ قال: لا يحلف، ويعلم القاضي، فإن أعطاه القاضي فهو أعلم. فإن ادعى رجل ديْنا على الميت وأقام بيّنة، فهل يجوز للوصي قضاء الدين من غير حضور حاكم؟ فكلام أحمد يدل على روايتين. وقال أحمد: إذا كان في يده مال للمساكين وأبواب البر وهو محتاج، فلا يأكل منه شيئاً؛ إنما أمر بتنفيذه، وبه قال مالك والشافعي. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": لا نظر لحاكم مع وصي خاص إذا كان كفؤاً. قال الشيخ فيمن أوصى إليه بإخراج حجة: إن ولاية إخراجها والتعيين للناظر، إجماعاً؛ وإنما للولي العام الاعتراض لعدم أهليته أو فعله محرماً. قوله: وإن دعت الحاجة إلى بيع بعض العقار لقضاء دين الميت أو حاجة الصغار وفي بيع [بعضه] 1 نقص، فله البيع على الصغار والكبار إذا امتنعوا أو غابوا. قال في الفائق: والمنصوص: الإجبار على بيع غير قابل للقسمة إذا حصل ببيع بعضه نقص، ولو كان الكل كبارا وامتنع البعض، نص عليه، واختاره شيخنا، لتعلق الحق بنصف القيمة للشريك، لا بقيمة النصف.   1 لفظ المطبوعة: (بعض حقه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 كتاب النكاح يجب، إن خاف على نفسه العنت، في قول عامة الفقهاء. فإن لم يخف وله شهوة، استحب، وهو أفضل في حقه من التخلي لنوافل العبادة. وقال الشافعي: التخلي أفضل، لقوله تعالى: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} ، 1 فلو كان أفضل لما مدح بتركه. ولنا: أمر الله ورسوله به وحثهما عليه، وقوله: "وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني"، 2 ولا يشتغل صلى الله عليه وسلم إلا بالأفضل، ولا يجمع الصحابة على ترك الأفضل. وأما من لا شهوة له، فهل يستحب له، أو التخلي له أفضل؟ فيه وجهان. ولا فرق بين القادر على الإنفاق والعاجز عنه، فإن أحمد قال: ينبغي للرجل أن يتزوج، فإن كان عنده ما ينفق أنفق وإلا صبر. فلو تزوج بشر كان قد تم أمره، واحتج بـ"أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبح وما عندهم شيء ويمسي كذلك، وزوج من لا يقدر على خاتم حديد"، وهذا فيمن يمكنه، فأما من لا يمكنه فقد قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 3. وعنه: أنه واجب على الإطلاق. وعن داود: ويجب في العمر مرة، للآية. والخبر المشهور ما تقدم، لأن الله علقه على الاستطاعة، والواجب لا يقف عليها،   1 سورة آل عمران آية: 39. 2 البخاري: النكاح (5063) , ومسلم: النكاح (1401) , والنسائي: النكاح (3217) , وأحمد (3/241, 3/259, 3/285) . 3 سورة النور آية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 قال: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، 1 ولا يجب ذلك بالاتفاق، والخبر يحمل على الندب، أو على من يخاف على نفسه العنت. ويستحب تخيّر ذات الدين الولود البكر الحسنة الجميلة الأجنبية، لقوله: "فاظفر بذات الدين"، 2 وقوله: "تزوجوا الودود الولود"، 3 وقوله لمّا سئل: أي النساء خير؟ قال: "التي تسرّه إذا نظر ... إلخ". ولا نعلم خلافاً في إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها، وفيه أحاديث كثيرة. ولا يباح إلى ما لا يظهر عادة. وعن الأوزاعي: ينظر إلى مواضع اللحم. وأما ما يظهر غالباً سوى الوجه والكفين والقدمين، ففيه روايتان، ووجه الجواز: "أنه صلى الله عليه وسلم أذن في النظر إليها من غير علمها"، ولا يمكن إفراد الوجه بالنظر. وله النظر إلى ذلك وإلى الرأس والساقين من الأمة المستامة ومن ذوات محارمه. وعنه: لا ينظر من ذوات محارمه إلا الوجه والكفين، والصحيح: إباحته إلى ما يظهر غالباً، لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية. 4 وقالت سهلة: "كان سالم يراني فضلاً، قال: أرضعيه". ومعنى: "فضلاً": في ثياب البذلة التي لا تستر الأطراف، قال: لدى الستر إلا لبسة المتفضل وذوات المحارم: كل من حرم نكاحها على التأبيد، لحديث سالم مع سهلة، وزينب مع الزبير لما ارتضعت من أسماء، وقوله لعائشة: "ائذني له فإنه عمك". وتوقف أحمد في النظر إلى أم امرأته وابنتها، لأنهما غير مذكورين   1 سورة النساء آية: 3. 2 البخاري: النكاح (5090) , ومسلم: الرضاع (1466) , والنسائي: النكاح (3230) , وأبو داود: النكاح (2047) , وابن ماجة: النكاح (1858) , وأحمد (2/428) . 3 النسائي: النكاح (3227) , وأبو داود: النكاح (2050) . 4 سورة النور آية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 في الآية. قال القاضي: إنما حكى قول سعيد بن جبير ولم يأخذ به، وقد صرح في رواية المروذي أنه محرم يجوز له المسافرة بها، وقال في يهودي أسلمت ابنته: لا يسافر بها، ليس هو بمحرم لها، يعني: في السفر. أما النظر فلا، "لأن أم حبيبة لم تحتجب عن أبي سفيان". وللعبد النظر إليهما من مولاته، لقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، 1 فأما النظر إلى شعرها فكرهه الحسن، وأباحه ابن عباس، للآية، ولقوله: {ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} 2 - إلى قوله - {ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن} الآية. 3 ولغير أولي الأربة، أي: الشهوة، كالكبير والعنّين ونحوهما، النظر إلى ذلك "لأنه صلى الله عليه وسلم لم يمنع المخنث من الدخول على نسائه. فلما وصف ابنة غيلان وفهم أمر النساء، أمر بحجبه"، وللشاهد النظر إلى وجه المشهود عليها، وكذلك من يعامل المرأة في بيع أو إجارة. ولطبيب النظر إلى ما تدعو الحاجة إليه لأمره بالكشف عن مؤتزر بني قريظة. وللصبي المميز غير ذي الشهوة النظر إلى ما فوق السرة وتحت الركبة، لقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} الآية 4 والتي بعدها، فدل على التفريق بين البالغ وغيره. وقال أبو عبد الله: "حجم أبو طيبة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام"، وعنه: حكمه حكم ذي المحرم في النظر إذا كان ذا شهوة، لقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} ، 5 وعنه: كالأجنبي، لأنه كالبالغ في الشهوة. وللمرأة مع المرأة والرجل مع الرجل   1 سورة النور آية: 31. 2 سورة النور آية: 58. 3 سورة النور آية: 58. 4 سورة النور آية: 58. 5 سورة النور آية: 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 النظر إلى ما فوق السرّة وتحت الركبة. وعنه: أن الكافرة مع المسلمة كالأجنبي [وأما الغلام قبل السبع، فلا عورة له يحرم النظر إليها] ، لقوله: {أَوْ نِسَآئِهِنَّ} ، والأول أوْلى، "لأن اليهوديات وغيرهن من الكوافر يدخلن على أزواجه صلى الله عليه وسلم فلا يحتجبن". وللمرأة النظر من الرجل إلى غير العورة. وعنه: لا يباح، لحديث نبهان عن أم سلمة في ابن أم مكتوم. ولنا: قوله لفاطمة: "اعتدّي في بيت أم مكتوم"، 1 و"ستر عائشة وهي تنظر إلى الحبشة". متفق عليهما. ونبهان مجهول، قال أحمد: روى حديثين عجيبين: هذا والآخر: "إذا كان لأحداكن مكاتب، فلتحتجب"، 2 ثم يحتمل الخصوص، قيل لأحمد: حديث نبهان لأزواجه صلى الله عليه وسلم، وحديث فاطمة لسائر الناس؟ قال: نعم. فأما الرجل ينظر إلى الأجنبية من غير سبب فيحرم، وقيل: إلا الوجه والكفين؛ وهذا مذهب الشافعي، لقوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، قال ابن عباس: "الوجه والكفين". فأما العجوز التي لا تُشتهى، فلا بأس بالنظر إلى ما يظهر غالباً، لقوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} الآية، 3 وفي معناها: الشوهاء التي لا تُشتهى. والأمة يباح النظر منها إلى ما يظهر غالباً "لأن عمر رأى أمة ملثمة فضربها بالدرة وقال: يا لكاع! تشبهين بالحرائر! ". فإن كانت جميلة حرم النظر إليها، كما يحرم إلى الغلام عند خشية الفتنة. قال أحمد في الأمة: إذا كانت جميلة تنتقب، ولا ينظر إلى المملوكة، كم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل.   1 مسلم: الطلاق (1480) , والترمذي: النكاح (1135) , والنسائي: النكاح (3244) والطلاق (3418) , وأبو داود: الطلاق (2284) , وأحمد (6/411, 6/415) , ومالك: الطلاق (1234) , والدارمي: النكاح (2177) والطلاق (2275) . 2 الترمذي: البيوع (1261) , وأبو داود: العتق (3928) , وابن ماجة: الأحكام (2520) , وأحمد (6/289, 6/308, 6/311) . 3 سورة النور آية: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 ولا بأس بالنظر إلى الطفلة، قال أحمد في الرجل يأخذ الصغيرة فيضعها في حجره يقبّلها: إن وجد شهوة فلا، وإلا فلا بأس. فأما إذا بلغت حداً يصلح للنكاح كابنة تسع، فإن عورتها ليست كالبالغة، لقوله: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار"، 1 وقد دل على صحة صلاة من لم تحض مكشوفة الرأس، فيحتمل أن يكون حكمها كذوات المحارم. ولا يجوز التصريح بخطبة المعتدة، ولا التعريض بخطبة الرجعية. وأما المتوفى عنها والبائن بطلاق ثلاث أو فسخ لتحريمها كرضاع أو لعان فيجوز التعريض للآية. وهل يجوز في عدة البائن بغير الثلاث كالمختلعة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، للآية. فإن صرح أو عرّض فيما لا يجوز التعريض فيه، ثم تزوجها بعد حلها صح، وقال مالك: يطلقها تطليقة ثم يتزوجها. ولا يجوز أن يخطب على خطبة أخيه إن أُجيب، وإن رُدّ حلّ، لحديث فاطمة بنت قيس: "انكحي أسامة". وإن وجد منها ما يدل على الرضى تعريضاً لم تحلّ خطبتها، وقال الشافعي: يجوز، لحديث فاطمة، لأن الظاهر كونها إلى أحدهما. واستدل القاضي بخطبته لها قبل سؤالها: هل وجد منها ما يدل على الرضى أو لا. ولنا: عموم النهي. وحديث فاطمة لا حجة فيه، فإن فيه ما يدل على أنها لم تركن لأحدهما من وجهين: أحدهما: أنه قال لها: "لا تسبقينا بنفسك"، وفي رواية: "إذا حللت فآذنيني"، فلم تكن لتفتات بالإجابة قبل إذنه. الثاني: أنها ذكرت له ذلك كالمستشير. وخطبته على خطبة أخيه محرمة، فإن فعل فنكاحه صحيح، وعن مالك وداود: لا يصح. ولا تحرم الخطبة على خطبة الذمي، وقال ابن عبد البر: لا تجوز، لأنه   1 الترمذي: الصلاة (377) , وأبو داود: الصلاة (641) , وابن ماجة: الطهارة وسننها (655) , وأحمد (6/150, 6/218, 6/259) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 خرج مخرج الغالب، لا لتخصيص المسلم. ولنا: أن لفظ النهي خاص، والأخوة الإسلامية لها تأثير في وجوب الاحترام، فلم يجز خلافها. ويستحب أن يخطب بخطبة ابن مسعود، وليست واجبة عند أحد، إلا داود. والمستحب خطبة واحدة، وقال الشافعي: خطبتان: الثانية من الزوج قبل قبوله. والمقول عنه صلى الله عليه وسلم وعن السلف خطبة واحدة. وليقل إذا زفت إليه ما روى صالح عن أبيه: حدثنا داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد مولى أبي أسيد: "أنه تزوج فحضره ابن مسعود وأبو ذر وحذيفة وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحضرت الصلاة، فقدّموه فصلى بهم وهو مملوك. ثم قال له: إذا دخلت على أهلك فصلّ ركعتين، ثم خذ برأس أهلك فقل: اللهم بارك لي في أهلي وبارك لأهلي فيّ، وارزقهم مني وارزقني منهم، ثم شأنك وشأن أهلك". ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه: "إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادماً فليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه. وإذا اشترى بعيراً فليأخذ بذروة سنامه وليقل مثل ذلك" 1. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال الشيخ: إذا خشي العنت جاز له تزوج الأمة، مع أن تركه أفضل، أو مع الكراهة، وهو يخاف العنت؛ فيكون الوجوب مشروطاً بالقدرة على النكاح ... إلخ. واختار أيضاً كراهة نظر المرأة إلى الرجل، وأنه لا يجوز النظر إلى من يحل النظر إليه إذا خاف ثوران الشهوة، وأن اللمس أولى بالمنع من النظر.   1 أبو داود: النكاح (2160) , وابن ماجة: التجارات (2252) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 وقال: الخلوة بأمرد حسن ومضاجعته كامرأة، والمقر [لمواليه] 1 عند من يعاشره كذلك ملعون وديوث، ولو لمصلحة تعليم وتأديب. وقال: لو خطبت المرأة أو وليها الرجل ابتداء فأجابها، فينبغي أن لا يحل لآخر خطبتها، إلا أنه أضعف من أن يكون هو الخاطب، ونظير الأولى أن تخطبه أمرأة أو وليها بعد أن يخطب امرأة، فإن هذا إيذاء للمخطوب في الموضعين كما أن ذلك إيذاء للخاطب.   1 نص المطبوعة: (لوليه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 باب أركان النكاح وشروطه أركانه: الإيجاب والقبول. فإن فهمت إشارة الأخرس وكتابته صح، وفي كتابة القادر على النطق وجهان. فإن تقدم الإيجاب على القبول لم يصح، وقال مالك والشافعي: يصح. وإذا عقده هازلاً أو تلجئة صح، لحديث: "ثلاث هزلهن جدّ وجدّهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة". 1 نقل أبو طالب عن أحمد في رجل مشى إلى قوم فقالوا له: زوِّجْ فلاناً، فقال: قد زوجته على ألف، فرجعوا إلى الزوج فأخبروه، فقال: قد قبلت، هل يكون هذا نكاحاً؟ قال: نعم [ولا يثبت خيار الشرط، ولا خيار المجلس في النكاح، لا نعلم فيه خلافاً] 2. وشروطه خمسة: أحدها: تعيين الزوجين، فإن كانت حاضرة فقال: زوجتك هذه، صح. وإن قال: زوجتك ابنتي ولم يكن له غيرها، صح. وإن كان له اثنتان لم يصح. قال أحمد في رجل خطب جارية فزوجوه أختها، ثم علم بعد: يفرَّق بينهما، ويكون الصداق على وليها لأنه غرَّه، وتجهَّز إليه أختها بالصداق الأول. يعني، والله أعلم: بعقد جديد بعد انقضاء عدة هذه. وقال في رجل تزوج امرأة فأدخلت عليه أختها: لها المهر بما أصاب منها، ولأختها المهر ويرجع على وليها. هذه مثل التي بها برص وجذام، عليّ يقول: "ليس   1 الترمذي: الطلاق (1184) , وأبو داود: الطلاق (2194) , وابن ماجة: الطلاق (2039) . 2 زيادة من المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 عليه غرم". وهذا ينبغي أن يكون في امرأة جاهلة بالحال، أما إذا علمتْ، فهي زانية. وروي عن عليّ في رجلين تزوجا امرأتين فزُفت كل امرأة إلى زوج الأخرى: "لهما الصداق، ويعتزل كل واحد منهما امرأته حتى تنقضي عدتها"، وبه قال الشافعي وإسحاق. الثاني: رضى الزوجين وإلا لم يصح، إلا الأب له تزويج أولاده الصغار وبناته الأبكار بغير إذنهم. أما الغلام العاقل فلا نعلم خلافاً في أن لأبيه تزويجه. وأما الغلام المعتوه فله تزويجه. وقال الشافعي: لا يجوز. وليس لغير الأب أو وصيه تزويج الغلام قبل بلوغه، وقال الشافعي: يملك وليه تزويجه. وللأب تزويج ابنته التي لم تبلغ تسع سنين، بغير خلاف، إذا وضعها في كفاءة، مع كراهتها وامتناعها. ودل على تزويج الصغيرة: قوله: {وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} ، 1 "وتزوجت عائشة وهي ابنة ست". وفي البكر البالغة العاقلة روايتان: إحداهما: له إجبارها، وهو مذهب مالك والشافعي. والثانية: ليس له، وهو قول أصحاب الرأي وابن المنذر، لقوله "ولا البكر حتى تُستأذن". ووجه الأولى: قوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تُستأمر"، 2 فدل على أن الاستئمار غير واجب، وعن أحمد: لا يجوز تزويج ابنة تسع بغير إذنها، والمشهور عنه: الجواز؛ وهو مذهب مالك والشافعي وسائر الفقهاء. ولا يجوز للأب ولا لغيره تزويج الثيب إلا بإذنها، في قول عامة أهل العلم، إلا الحسن. وقال النخعي: يزوج بنته إذا كانت في عياله. قال إسماعيل بن إسحاق: لا نعلم أحداً قال في الثيب بقول الحسن، وهو قول شاذ؛ فـ"إن الخنساء زوجها أبوها وهي ثيب فكرهت ذلك، فردّ رسول الله صلى الله عليه   1 سورة الطلاق آية: 4. 2 مسلم: النكاح (1421) , والترمذي: النكاح (1108) , والنسائي: النكاح (3260, 3261) , وأبو داود: النكاح (2098) , وأحمد (1/219, 1/241) , ومالك: النكاح (1114) , والدارمي: النكاح (2188) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 عليه غرم". وهذا ينبغي أن يكون في امرأة جاهلة بالحال، أما إذا علمتْ، فهي زانية. وروي عن عليّ في رجلين تزوجا امرأتين فزُفت كل امرأة إلى زوج الأخرى: "لهما الصداق، ويعتزل كل واحد منهما امرأته حتى تنقضي عدتها"، وبه قال الشافعي وإسحاق. الثاني: رضى الزوجين وإلا لم يصح، إلا الأب له تزويج أولاده الصغار وبناته الأبكار بغير إذنهم. أما الغلام العاقل فلا نعلم خلافاً في أن لأبيه تزويجه. وأما الغلام المعتوه فله تزويجه. وقال الشافعي: لا يجوز. وليس لغير الأب أو وصيه تزويج الغلام قبل بلوغه، وقال الشافعي: يملك وليه تزويجه. وللأب تزويج ابنته التي لم تبلغ تسع سنين، بغير خلاف، إذا وضعها في كفاءة، مع كراهتها وامتناعها. ودل على تزويج الصغيرة: قوله: {وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} ، 1 "وتزوجت عائشة وهي ابنة ست". وفي البكر البالغة العاقلة روايتان: إحداهما: له إجبارها، وهو مذهب مالك والشافعي. والثانية: ليس له، وهو قول أصحاب الرأي وابن المنذر، لقوله "ولا البكر حتى تُستأذن ". ووجه الأولى: قوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تُستأمر"، 2 فدل على أن الاستئمار غير واجب، وعن أحمد: لا يجوز تزويج ابنة تسع بغير إذنها، والمشهور عنه: الجواز؛ وهو مذهب مالك والشافعي وسائر الفقهاء. ولا يجوز للأب ولا لغيره تزويج الثيب إلا بإذنها، في قول عامة أهل العلم، إلا الحسن. وقال النخعي: يزوج بنته إذا كانت في عياله. قال إسماعيل بن إسحاق: لا نعلم أحداً قال في الثيب بقول الحسن، وهو قول شاذ؛ فـ"إن الخنساء زوجها أبوها وهي ثيب فكرهت ذلك، فردّ رسول الله صلى الله عليه   1 سورة الطلاق آية: 4. 2 مسلم: النكاح (1421) , والترمذي: النكاح (1108) , والنسائي: النكاح (3260, 3261) , وأبو داود: النكاح (2098) , وأحمد (1/219, 1/241) , ومالك: النكاح (1114) , والدارمي: النكاح (2188) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 الشافعي: في صماتها في حق غير الأب وجهان، وهذا شذوذ وترك للسنة الصحيحة، يصان الشافعي عن إضافته إليه. ولا فرق بين الثيوبة بوطء مباح أو محرم. وقال مالك: المصابة بالفجور كالبكر، فأما زوال البكارة بأصبع أو وثبة فلا تغير صفة الإذن. وإذا اختلفا في الإذن قبل الدخول، فالقول قولها في قول أكثر الفقهاء. والمحجور عليه للسفه، لوليه تزويجه إذا علم حاجته، فإن زوجه بغير إذنه ففي الصحة احتمالان: فإن تزوج بغير إذن وليه فقيل: يصح. وقيل: إن أمكنه استئذان وليه لم يصح إلا بإذن. وإن طلب النكاح فأبى وليه، ففيه وجهان. الثالث: الولي، "فإن زوجت المرأة نفسها أو غيرها لم يصح"، روي عن عمر وعلي وغيرهما. وقال أبو حنيفة: لها أن تزوج نفسها، لأن الله تعالى قال: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} ، 1 أضاف النكاح إليهن ونهى عن منعهن منه. ولنا: قوله: "لا نكاح إلا بولي"، 2 قال المروزي: سألت أحمد ويحيى عنه، فقالا: صحيح، وعن عائشة، مرفوعاً: "أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل ... إلخ". 3 رواه أبو داود وغيره. فإن قيل: فالزهري راويه وقد أنكره، قال ابن جريج: سألته عنه، فلم يعرفه، قلنا: لم يقله عن ابن جريج إلا ابن علية، كذلك قال أحمد ويحيى، ولو ثبت لم يكن حجة، لأنه نقله ثقات عنه، فلو نسيه لم يضره، لأن النسيان لم يعصم منه إنسان. وأما الآية، فإن عضلها الامتناع من تزويجها، وهذا يدل على أن إنكاحها إلى الولي، وعنه: لها تزويج أمتها ومعتقتها، فيخرج منه أن لها تزويج نفسها بإذن وليها، لقوله: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها"؛ 4 والمذهب الأول: لقوله: "لا نكاح إلا بولي". 5 وأحق الناس بنكاح المرأة أبوها، وبه   1 سورة البقرة آية: 232. 2 الترمذي: النكاح (1101) , وأبو داود: النكاح (2085) , وابن ماجة: النكاح (1881) , وأحمد (4/394, 4/413, 4/418) , والدارمي: النكاح (2182) . 3 الترمذي: النكاح (1102) , وأبو داود: النكاح (2083) , وابن ماجة: النكاح (1879) , وأحمد (6/66) , والدارمي: النكاح (2184) . 4 الترمذي: النكاح (1102) , وأبو داود: النكاح (2083) , وأحمد (6/66) , والدارمي: النكاح (2184) . 5 الترمذي: النكاح (1101) , وأبو داود: النكاح (2085) , وابن ماجة: النكاح (1881) , وأحمد (4/394, 4/413, 4/418) , والدارمي: النكاح (2182) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 قال الشافعي. وقال مالك وإسحاق: الابن أولى، ثم أبوه وإن علا، وهو قول الشافعي؛ وعنه: أن الابن مقدم على الجد. وعن أحمد: أن الأخ يقدم على الجد، فإن عدم الأب وأبوه فابنها، ثم ابنه وإن نزل، وقال الشافعي: لا ولاية للابن، إلا أن يكون ابن عم أو مولى أو حاكماً. ولنا: حديث أم سلمة، وفيه: "قم يا عمر، فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ثم أخوها لأبويها ثم لأبيها، وعنه: أنهما سواء، ثم بنو الإخوة وإن سفلوا، ثم العم، ثم ابنه، ثم الأقرب فالأقرب في العصبة. ولا ولاية لغير العصبات كالأخ من الأم والخال، نص عليه؛ وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة. والثانية: أن كل من يرث بفرض أو تعصيب يلي، ثم المولى المنعم، ثم عصباته، ثم السلطان؛ وبه قال مالك والشافعي وإسحاق. واختلف عن أحمد في والي البلد، فقال في موضع: يزوج لأنه ذو سلطان فيدخل في عموم الحديث. وإذا استولى أهل البغي على بلد جرى حكم سلطانهم وقاضيهم في ذلك مجرى الإمام، واختلفت الرواية في المرأة تسلم على يد رجل، هل هو ولي لها فيزوجها، أم لا ولاية له؟ فإن لم يوجد ولي ولا ذو سلطان، فعن أحمد: يزوجها رجل عدل. وقال في دهقان قرية: يزوج من لا وليّ لها إذا احتاط لها في الكفء والمهر، إذا لم يكن في الرستاق قاض. ويشترط في الولي ستة شروط: العقل، والحرية، والإسلام إن كانت المرأة مسلمة، والذكورة، والبلوغ، والعدالة. وفي كونها شرطاً روايتان. قال أحمد أصح شيء في هذا قول ابن عباس: "لا نكاح إلا بشاهدي عدل ووليّ مرشد". وعنه: ليست شرطاً، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 الشافعي. وإن عضل الأقرب زوَّج الأبعد، وعنه: يزوج الحاكم، لقوله: " فإن اشتجروا، فالسلطان وليّ من لا وليّ له"، 1 سواء طلبت التزويج بمهر المثل أو دونه. وقال أبو حنيفة: لهم منعها. وإن غاب غيبة منقطعة زوَّج الأبعد، وهي ما لا يقطع إلا بمشقة. وقال الشافعي: يزوجها الحاكم. ولنا: قوله: " السلطان وليّ من لا وليّ له". 2 وقال الشافعي: يزوجها الحاكم وإن كان الولي قريباً. وقال بعض أصحابنا: يزوجها في مسافة القصر. ولا يلي مسلم نكاح كافرة، إلا سيد الأمة، أو ولي سيدها، أو السلطان، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ {أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 3. وسيد الأمة الكافرة يلي تزويجها لكافر، وكذلك ولي سيدتها، فأما السلطان فله الولاية على من لا ولي لها من أهل الذمة. وإذا زوج الأبعد من غير عذر للأقرب لم يصح، وقال مالك: يصح لأنه ولي، وعنه: يقف على الإجازة، وهذا قول أصحاب الرأي في كل مسألة يعتبر فيها الإذن؛ روي ذلك في النكاح بغير ولي عن علي وابن سيرين والقاسم وإسحاق، لحديث التي خيرها لما زوجها أبوها وهي كارهة. رواه أبو داود، ووجه الأولى: قوله: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل"، 4 وقال: "إذا نكح العبد بغير إذن سيده، فنكاحه باطل". 5 رواه أبو داود، وقال: هو موقوف على ابن عمر. وكذلك الحكم إذا زوج الأجنبي أو تزوجت المرأة المعتبر إذنها [بغير إذنها] ، 6 أو تزوج العبد بغير إذن سيده فالنكاح في هذا كله باطل في أصح الروايتين. ويجوز التوكيل في النكاح، سواء كان الولي حاضراً أو غائباً مجبراً وغير مجبر، "لأنه صلى الله عليه وسلم وكل أبا رافع في تزويج ميمونة، وعمرو بن أمية   1 الترمذي: النكاح (1102) , وأبو داود: النكاح (2083) , وابن ماجة: النكاح (1879) , وأحمد (6/47, 6/66) , والدارمي: النكاح (2184) . 2 الترمذي: النكاح (1102) , وأبو داود: النكاح (2083) , وابن ماجة: النكاح (1879, 1880) , وأحمد (1/250, 6/47, 6/66, 6/260) , والدارمي: النكاح (2184) . 3 سورة الأنفال آية: 73. 4 الترمذي: النكاح (1102) , وأبو داود: النكاح (2083) , وأحمد (6/66) , والدارمي: النكاح (2184) . 5 أبو داود: النكاح (2079) . 6 نص المطبوعة "أو زوجت المرأة المعتبر أذنها أو تزوج العبد ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 في تزويج أم حبيبة". ويجوز مطلقاً ومقيداً. فالمقيد في تزوج الرجل نفسه، والمطلق التوكيل في تزويج من يرضاه. وهل تستفاد ولاية النكاح بالوصية؟ فيه روايتان. وإذا استووا في الدرجة قدم أفضلهم استحباباً، لقوله: "كبّر كبّر" أي: قدم الأكبر. وإذا كان لها وليان فأذنت لكل منهما في معين أو مطلق، فزوجاها لرجلين، وعلم السابق منهما، فالنكاح له سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل. وقال مالك: إن دخل بها الثاني فهي له، لقول عمر: " إذا نكح وليان، فالأول أحق، ما لم يدخل بها الثاني". ولنا: ما روى سمرة وعقبة عنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة زوجها وليان، فهي للأول". 1 وأخرج حديث سمرة أبو داود والترمذي، وأخرجه النسائي عنه وعن عقبة، وروى نحوه عن علي. وحديث عمر لم يصححه أصحاب الحديث. فإن جهل الأول منهما فسخ النكاحان، وعنه: يقرع بينهما. والولي إذا أذنت له أن يتزوجها فله ذلك. وهل له أن يلي طرفي العقد بنفسه؟ فيه روايتان. روى البخاري أن عبد الرحمن بن عوف فعَله. ولأبي داود عن المغيرة "أنه أمر رجلاً أن يزوجه امرأةً المغيرة أولى بها". و"إذا قال السيد لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك، صح"؛ روي عن عليّ، وفعله أنس، وقال الشافعي ومالك: لا يصح. ولنا: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها". ولا بأس أن يعتق الأمة ويتزوجها، و"كرهه أنس". الرابع: الشهادة، فـ"لا ينعقد إلا بشاهدين عدلين بالغين"، روي عن عمر وعلي وغيرهما، وعنه: "يصح بغير شهود"، فعله ابن عمر وابن الزبير؛   1 الترمذي: النكاح (1110) , والنسائي: البيوع (4682) , وأبو داود: النكاح (2088) , وأحمد (5/8) , والدارمي: النكاح (2193) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 وهو قول مالك، إذا أعلنوه. قال ابن المنذر: لا يثبت في الشاهدين في النكاح خبر. و"قد أعتق صفية وتزوجها بغير شهود". وقال يزيد بن هارون: أمر الله بالإشهاد في البيع دون النكاح، فاشترطه أصحاب الرأي للنكاح دون البيع. الخامس: كون الرجل كفؤاً، فلو رضيت المرأة والأولياء بغيره لم يصح، في إحدى الروايتين. والثانية: ليست شرطاً، وهي أصح؛ وهو قول أكثر أهل العلم، لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . 1 وفي البخاري: "أن أبا حذيفة أنكح سالماً ابنة أخيه الوليد بن عقبة. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة. وزوّج أباه زيداً بنت عمته زينب". وقال ابن مسعود لأخته:? " أنشدك الله ألا تنكحي إلا مسلماً، وإن كان أحمر رومياً أو أسود حبشياً". فإن لم يرض بعض الأولياء، فله الفسخ، وقال أبو حنيفة: إذا رضيت المرأة وبعض الأولياء لم يكن للباقي فسخ. وقال مالك والشافعي: ليس لهم فسخ إذا زوج الأقرب، لأنه لا حق للأبعد معه. والكفاءة: الدين والنسب، وقال مالك: الكفاءة في الدين لا غير، والعرب بعضهم لبعض أكفاء. وعنه: لا تزوج قرشية لغير قرشي، ولا هاشمية لغير هاشمي، لقوله: "اصطفى قريشاً من بني كنانة"، 2 وقال عثمان: "إخواننا من بني هاشم، لا ننكر فضلهم علينا".   1 سورة الحجرات آية: 13. 2 مسلم: الفضائل (2276) , والترمذي: المناقب (3605, 3606) , وأحمد (4/107) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 باب المحرمات في النكاح وهن ضربان: محرمات على الأبد، وهن أربعة أقسام: أحدها: المحرمات بالنسب: وهن سبع: فأما الأمهات فهن كل من انتسب إليها بولادة. والبنات كل أنثى انتسبت إليك بولادة. والأخوات من الجهات الثلاث. والعمات أخوات الأب من الجهات الثلاث. والخالات أخوات الأم من الجهات الثلاث. وأخوات الجدات وإن علون. وبنات الأخ كل من انتسب إليه بولادة من أي جهة كان الأخ. وبنات الأخت كذلك أيضاً. الثاني: المحرمات بالرضاع، فيحرم به ما يحرم بالنسب سواء. الثالث: تحريم المصاهرة وهن أربع: الأولى: أمهات النساء، فمن تزوج امرأة حرُم عليه كل أم لها، من نسب أو رضاع، بمجرد العقد؛ وهو قول أكثر أهل العلم. وحكي عن علي: "أنها لا تحرم إلا بالدخول كابنتها"، وقال زيد: "تحرم بالدخول أو بالموت". ولنا: قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} ، 1 قال ابن عباس: " أبهموا ما أبهم القرآن". الثانية: حلائل الآباء، فتحرم على الرجل امرأة أبيه من نسب أو رضاع، ومن وطئها بملك يمين أو شبهة. قال ابن المنذر: الملك في هذا والرضاع   1 سورة النساء آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 بمنزلة النسب، وممن حفظنا ذلك عنه: عطاء وطاووس وغيرهم، ولا نحفظ عن أحد خلافهم. الثالثة: حلائل الأبناء من نسب أو رضاع، لا نعلم فيه خلافاً. ولا تحرم بناتهن، لقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 1. الرابعة: بنات النساء اللاتي دخل بهن، وهن الربائب من نسب أو رضاع، سواء كانت في حجره أو لم تكن؛ إلا أنه روي عن عمر وعلي: "أنهما رخصا فيها إذا لم تكن في حجره"، وهو قول داود. وقال ابن المنذر: أجمع علماء الأمصار على خلافه. فإن متن قبل الدخول، فهل تحرم بناتهن؟ على روايتين: إحداهما: تحرم، وبه قال زيد. والثانية: لا تحرم، وهو قول عامة العلماء؛ وحكاه ابن المنذر إجماعاً، لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ} ، 2 وهذا نص لا يترك بقياس ضعيف. والدخول بها: وطؤها. فإن خلا بها ولم يطأ لم تحرم ابنتها، لأنها غير مدخول بها. ويثبت تحريم المصاهرة بالوطء الحلال والحرام. ولو وطئ أم امرأته حرمت عليه امرأته. وعن ابن عباس: "إن وطء الحرام لا يحرِّم"، وبه قال ابن المسيب وعروة والزهري ومالك والشافعي. والوطء ثلاثة: الأول: مباح، وهو [الوطء] 3 في نكاح صحيح أو ملك يمين، فيتعلق به التحريم إجماعاً. الثاني: الوطء بالشبهة، وهو الوطء في نكاح فاسد، أو شراء فاسد، أو وطء   1 سورة النساء آية: 24. 2 سورة النساء آية: 23. 3 زيادة في المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 من ظنها امرأته أو أمة له فيها شرك، وأشباه هذا، فيتعلق به التحريم كالمباح إجماعاً، ولا يصير به الرجل محرماً لمن حرمت عليه. الثالث: الحرام المحض، وهو الزنى. وإن باشر امرأة، أو نظر إلى فرجها، أو خلا بها لشهوة، فعلى روايتين: إذا باشر فيما دون الفرج لغير شهوة لم ينشر الحرمة بغير خلاف، وإن كان لشهوة وكان في أجنبية لم ينشر الحرمة أيضاً. وإن كان لامرأة محللة له كامرأته ومملوكته لم تحرم عليه ابنتها.، وأما تحريم أمها وتحريمها على أبيه وابنه، فإنها في النكاح تحرم بمجرد العقد قبل المباشرة، فلا يظهر للمباشرة أثر. وأما الأمة فمتى باشرها دون الفرج لشهوة، هل يثبت تحريم المصاهرة؟ فيه روايتان. ومن نظر إلى فرج امرأة لشهوة، فهو كلمسها لشهوة فيه، روايتان: إحداهما: ينشر. روي عن عمر وابنه، فيمن يشتري الخادم ثم يجردها أو يقبّلها: "لا يحل لابنه وطؤها"، لما روي عن ابن مسعود، مرفوعاً: "من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها وبنتها". والثانية: لا يتعلق به التحريم، وهو قول أكثر أهل العلم، والخبر ضعيف. ثم يحتمل أنه كني به عن الوطء. والصحيح: أن الخلوة لا تنشر الحرمة. وروي عن أحمد: إذا خلا بها وجب الصداق والعدَّة، ولا تحل له أمها وابنتها. قال القاضي: محمول على أنه حصل معها مباشرة، وأما مع خلوه من ذلك فلا يؤثر، لمخالفة قوله: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} 1. الرابع: الملاعنة. الضرب الثاني: المحرمات إلى أمد. وهن نوعان:   1 سورة النساء آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 (أحدهما) : المحرمات للجمع: فيحرم الجمع بين الأختين من نسب أو رضاع، وبين المرأة وعمتها [أو خالتها] ، 1 حكاه ابن المنذر إجماعاً. وبلغنا: أن رجلين من الخوارج أتيا عمر بن عبد العزيز، فكان مما أنكرا: الرجم، والجمع بين المرأة وعمتها. فقال: كم فرض الله عليكم من الصلاة؟ قالا: خمساً، وسأل عن عدد ركعاتها فأخبراه. قال: وأين تجدان ذلك في كتاب الله؟ قالا: لا نجده. قال: فمن أين صرتما إليه؟ قالا: فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده، قال: فكذلك هذا. ولا يحرم الجمع بين ابنتي العم وابنتي الخال، في قول عامة أهل العلم. [وفي الكراهة روايتان، ولا بأس بالجمع بين من كانت امرأة لرجل وابنته من غيرها] . 2 وكرهه الحسن. ولو كان لرجل ابن من غير زوجته، ولها بنت من غيره، أو له بنت ولها ابن، جاز تزويج أحدهما من الآخر. وحكي عن طاووس كراهته إذا كان ممن ولدته المرأة بعد وطء الزوج لها؛ والأول أولى لعموم الآية. وأجمعوا على أن الحر لا يزيد على أربع لقوله لغيلان: "أمسك أربعة وفارق سائرهن ". 3 والآية أريد بها التخيير بين اثنتين وثلاث وأربع، كقوله: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، 4 ومن قال غير ذلك فقد جهل العربية. و"ليس للعبد أن يزيد على اثنتين"، وهو قول عمر وعلي، وقال القاسم وسالم: له أربع، لعموم الآية. ولنا: أنه قول مَن سمّينا من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعاً، والآية فيها ما يدل على إرادة الأحرار، لقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 5. ويحرم الجمع بين المرأة   1 زيادة من المخطوطة. 2 زيادة من المخطوطة. 3 الترمذي: النكاح (1128) , وابن ماجة: النكاح (1953) , وأحمد (2/13, 2/14, 2/44) , ومالك: الطلاق (1243) . 4 سورة فاطر آية: 1. 5 سورة النساء آية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 وعمتها وخالتها، فإن طلق رجعياً فالتحريم باق، وإن كان بائناً أو فسخاً فكذلك. وقال مالك والشافعي وابن المنذر: لا يحرم، لأن المحرم الجمع بينهما بالنكاح، لقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ، 1 أي: نكاحهن، {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} 2 معطوف عليه، والبائن ليست في نكاحه. (النوع الثاني) : محرمات لعارض يزول، كزوجة غيره، والمعتدة منه، والمستبرأة منه. وتحرم الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها، وقال الثلاثة: لا تشترط التوبة. ولنا: قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . 3 والتوبة: الندم والاستغفار والإقلاع كسائر الذنوب. وعن ابن عمر: "أنه سئل: كيف تعرف توبتها؟ قال: يراودها، فإن أبت فقد تابت"، فصار أحمد إلى قوله. والصحيح: الأول، فإنه لا ينبغي لمسلم أن يدعو امرأة إلى الزنى. وتحل للزاني وغيره، في قول الأكثر، وعن ابن مسعود: لا تحل للزاني، ولعله أراد قبل التوبة، وإلا لم يصح، لقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} . 4 فإن زنت امرأة رجل أو زنى زوجها، لم ينفسخ النكاح، في قول عامة أهل العلم. وعن جابر: "إذا زنت، فرّق بينهما". وعن علي: "أنه فرّق بين رجل وامرأته، زنى قبل أن يدخل بها". وإذا علم من امرأته الفجور، فقال أحمد لا يطؤها لعلها تلحق به ولداً ليس منه. وكان ابن المسيب ينهى أن يطأ الرجل امرأته وفيها جنين لغيره. قال ابن عبد البر: هذا مجمع على تحريمه. و"كان ابن عباس يرخص في وطء الأمة الفاجرة"، ولعل من كرهه كرهه قبل الاستبراء، أو إذا لم يحصنها ويمنعها من الفجور. ولا يحل نكاح كافرة إلا حرائر أهل الكتاب، نكاح   1 سورة النساء آية: 23. 2 سورة النساء آية: 23. 3 سورة النور آية: 3. 4 سورة النساء آية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 الكتابيات حلال إجماعاً، قال ابن المنذر لا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرمه. وأهل الكتاب أهل التوراة والإنجيل، فأما من سواهم من المتمسك بصحف إبراهيم وشيث وزبور داود فليسوا أهل كتاب. وذكر القاضي وجهاً: أنهم أهل كتاب. ولنا: قوله تعالى {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} . 1 فأما المجوس فلا تحل ذبائحهم، ولا نكاح نسائهم، وهو قول عامة العلماء، إلا أبا ثور، فإنه أباح ذلك، لقوله: "سنّوا بهم سنة أهل الكتاب". 2 ولنا: قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} ، 3 {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} . 4 وقوله: "سنّوا بهم سنة أهل الكتاب" دليل على أنهم لا كتاب لهم، وإنما أراد في حقن دمائهم وإقرارهم بالجزية. وضعف أحمد رواية من روى عن حذيفة: "أنه تزوج مجوسية، وكان أبو وائل يقول: يهودية"، وهو أوثق. ولا يحل لحر نكاح أمة مسلمة إلا أن يخاف العنت، ولا يجد طولاً لنكاح حرة، ولا ثمن أمة؛ والصبر مع ذلك أفضل. وحكى ابن المنذر الإجماع على أن نكاح المرأة عبدها باطل. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": النكاح: حقيقة في العقد، مجاز في الوطء، وقيل: حقيقة فيهما، فيحتمل أن هذا يراد به الاشتراك. الفرق بين الاشتراك والتواطؤ: أن الاشتراك يقال على كل واحد منهما بانفراده حقيقة مع اختلاف الحقائق، والتواطؤ   1 سورة الأنعام آية: 156. 2 مالك: الزكاة (617) . 3 سورة البقرة آية: 221. 4 سورة الممتحنة آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 يقال على كل واحد منهما حقيقة بانفراده مع اتفاق الحقائق. وقال الشيخ: هو في الإثبات لهما وفي النهي لكل منهما، بناء على أنه إذا نهي عن شيء نهي عن بعضه، والأمر به أمر بكل، في الكتاب والسنة والكلام. فإذا قيل مثلاً: انكح ابنة عمك، فالمراد العقد والوطء. وإذا قيل: لا تنكحها، تناول كل واحد منهما. والمعقود عليه في النكاح: المنفعة، وقيل بل: الازدواج كالمشاركة؛ ولهذا فرق الله سبحانه بين الأزواج وملك اليمين، وإليه ميل الشيخ. وهل يكتفى عنه بالتسري؟ فيه وجهان، ويشهد لسقوطه به، قوله تعالى: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 1. وقال الشيخ: هل يحرم النظر إلى وجه الأجنبية لغير حاجة؟ روي عن أحمد: يكره ولا يحرم، وهو مذهب الشافعي، وقال: من كرر النظر إلى الأمرد وقال: إني لا أنظر لشهوة، فقد كذب. فإن خاف ثوران الشهوة، فاختار الشيخ التحريم. قوله: ولا يجوز النظر إلى أحد ممن ذكرنا بشهوة، بلا نزاع، قال الشيخ: من استحله كفر إجماعاً. ولمس من تقدم ذكره كالنظر إليه، بل هو أولى بالمنع، قاله الشيخ. وقال: ينعقد بما عدّه الناس نكاحاً، بأي لغة ولفظ وفعل، قال: ومثله كل عقد، وقال: والشرط بين الناس ماعدوه شرطاً؛ فالأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع، وتارة باللغة، وتارة بالعرف، وكذلك العقود. ولم ينقل عن أحمد أنه خص بلفظ إنكاح أو تزويج. وأول من قاله من أصحابه فيما علمت: ابن حامد وتبعه عليه القاضي ومن جاء بعده بسبب انتشار كتبه وكثرة أصحابه وأتباعه. والبكر البالغة للأب إجبارها، وعنه: لا، اختاره الشيخ، واختار أن الجد   1 سورة النساء آية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 يجبر كالأب. وليس لغير الأب من الأولياء تزويج صغيرة، وعنه: لهم ذلك، ولها الخيار إذا بلغت ولو قبل تسع سنين؛ فعليها، يفيد الحل والإرث وبقية أحكام النكاح. واشترط في المحرر: الرشد في الولي، قال الشيخ: الرشد هنا: المعرفة بالكفء، ومصالح النكاح، ليس هو حفظ المال؛ فإِن رشد كل مقام بحسبه. وإن عضل الأقرب زوّج الأبعد، قال: الشيخ مِن صور العضل: إذا امتنع الخطاب من خطبتها لشدة الولي، وإن غاب غيبة لا تقطع إلا بكلفة، وقيل: ما تستضر به الزوجة، قلت: وهو الصواب. وقيل: ما يفوت به كفء راغب. ومن تعذر مراجعته كالمحبوس فكغائب. ولو لم يعلم أقريب الولي أم بعيد، فقال في المغني: يزوج الأبعد، وكذلك إذا علم أنه قريب ولكن لا يعلم مكانه، قال الشيخ: وكذلك لو كان مجهولاً لا يعلم أنه عصبة ثم عرف بعد العقد. واختار أن النسب لا اعتبار به في الكفاءة، واستدل بقوله: {يَا أَيُّهَا {النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الآية. 1 وقال: من قال إن الهاشمية لا تزوج بغير هاشمي، بمعنى: أنه لا يجوز ذلك فهذا مارق من دين الإسلام، إذ "قصة تزويج الهاشميات من بنات النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن بغير الهاشميين ثابت في السنة ثبوتاً لا يخفى"، فلا يجوز أن يحكى هذا خلافاً في مذهب أحمد، وليس في لفظه ما يدل عليه. ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. واختار الشيخ أنه لا يثبت تحريم المصاهرة، فلا يحرم نكاح أم زوجته وابنتها من الرضاع، ولا على المرأة نكاح أبي زوجها وابنه من الرضاع، وقال: لا أعلم نزاعاً أنها لا تحرم زوجة   1 سورة الحجرات آية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 ربيبه. وقال: الوطء الحرام لا ينشر تحريم المصاهرة، واعتبر في موضع آخر التوبة حتى في اللواط. وقال: إن وطئ بنته غلطاً لا ينشر، لكونه لم يتخذها زوجة ولم يعلن نكاحاً. وقال: إن قتله ليتزوج امرأته لم تحل له أبداً. وقال: من خبّب امرأة على زوجها حتى طُلقت ثم تزوجها، يعاقب عقوبة بليغة، والنكاح باطل في أحد قولي العلماء ويجب التفريق فيه. ولم يحرم الجمع بين الأختين من الرضاع. واختار جواز وطء إماء غير أهل الكتاب، وذكره ابن أبي شيبة عن ابن المسيب وعطاء وغيرهما، فلا يصح ادعاء الإجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 باب الشروط في النكاح وهي قسمان: صحيح وفاسد. فالصحيح نوعان: أحدهما: يقتضيه العقد، كتسليم المرأة إليه، فهذا لا يؤثر وجوده كعدمه. الثاني: ما تنتفع به المرأة، كنقد معيّن، فهو صحيح ويجب الوفاء به. وإن شرط أن لا يخرجها من دارها أو بلدها أو لا يتزوج عليها أو لا يتسرى صح ولزم؛ فإن أوفى وإلا فلها الفسخ. وأبطل هذه الشروط مالك والشافعي، واحتجوا بقوله: "كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل"، 1 وبقوله: "إلا شرطاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً". 2 ولنا: قوله: "إنّ أحق ما وفّيتم به من الشروط، ما استحللتم به الفروج"، 3 ولأنه قول عمر وغيره من الصحابة، ولا يعلم لهم مخالف في عصرهم. وقوله: "كل شرط ليس في كتاب الله" أي: في حكم الله وشرعه، وهذا مشروع. وقولهم: يحرّم حلالاً فلا، ولكن نقول: لها الفسخ. وإن شرط طلاق ضرتها فالصحيح أنه باطل، لنهيه أن تشترط المرأة طلاق أختها. الثاني: فاسد، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: ما يبطل النكاح، وهو ثلاثة أشياء: (أحدها) : نكاح الشغار، فإن زوّجه وليته على أن يزوجه وليته ولا مهر، فهو فاسد، وهو نكاح الشغار. وإن سميا لكل منهما مهراً، فالمشهور عن أحمد: الصحة لقوله: "وليس   1 البخاري: البيوع (2155) , ومسلم: العتق (1504) , وأبو داود: العتق (3929) , ومالك: العتق والولاء (1519) . 2 أبو داود: الأقضية (3594) . 3 البخاري: الشروط (2721) , ومسلم: النكاح (1418) , والترمذي: النكاح (1127) , والنسائي: النكاح (3281, 3282) , وأبو داود: النكاح (2139) , وابن ماجة: النكاح (1954) , وأحمد (4/144, 4/150, 4/151) , والدارمي: النكاح (2203) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 بينهما صداق"، وقيل: لا يصح، لحديث أبي هريرة، ولقول معاوية: "هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم". ومتى قلنا بالصحة، فقيل: تفسد التسمية، ويجب مهر؛ المثل قاله الشافعي، وقيل: المسمى. الثاني: نكاح المحلِّل، وهو باطل حرام، في قول عامة أهل العلم. الثالث: نكاح المتعة، وهو باطل. قال ابن عبد البر: على تحريمه مالك وأهل المدينة، وأبو حنيفة في أهل الكوفة، والأوزاعي في أهل الشام، والليث في أهل مصر، والشافعي وسائر أصحاب الآثار. وإن تزوجها بغير شرط إلا أن نيته طلاقها بعد شهر أو إذا انقضت حاجته، فهو صحيح في قول عامة أهل العلم، إلا الأوزاعي فقال: هو نكاح متعة. النوع الثاني: أن يشرط ألا مهر لها ولا نفقة، أو يقسم لها أكثر أو أقل من الأخرى، أو لا يطأها، أو يعزل عنها، أو لا يكون عندها في الجمعة إلا ليلة أو النهار دون الليل، أو تنفق عليه، أو تعطيه شيئاً، فهذه كلها باطلة، وأما العقد فصحيح. قال أحمد في الرجل يتزوج ويشرط أن يأتيها في الأيام: إن شاءت رجعت، ونقل عنه: ما يحتمل إبطال العقد. فروي عنه في النهاريات والليليات: ليس هذا من نكاح أهل الإسلام. وكان الحسن وعطاء لا يريان بتزويج النهاريات بأساً. النوع الثالث: أن يشرط الخيار، أو إن جاءها بالمهر في وقت وإلا فلا نكاح بينهما، فالشرط باطل، وفي صحة النكاح روايتان. وعنه: أن الشرط والعقد جائزان، لقوله: "المسلمون عند شروطهم". والرواية الأخرى: يبطل العقد في هذا كله،، ونحوه عن مالك وأبي عبيد، وهو قول الشافعي. وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 شرطها بكراً فبانت ثيباً، فعنه: لا خيار له، لأن النكاح لا يرد إلا بالعيوب الثمانية، ولا يثبت فيه الخيار. وعنه: له الخيار، وكذلك لو شرطها حسناء فبانت شوهاء، أو ذات نسب فبانت دونه، خرج في ذلك كله وجهان. وكذلك لو شرط نفي العيوب التي لا يفسخ بها النكاح، كالعمى والخرس والصمم، وممن ألزم الزوج من هذه صفتها: الثوري والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي. وعن الحسن والشعبي: إذا لم يجدها عذراء ليس عليه شيء، العذرة يذهبها كثرة الحيض والوثبة والتعنيس والحمل الثقيل. وإن عتقت الأمة وزوجها حر، فلا خيار لها، وقال الثوري وغيره: لها الخيار، "لأنه صلى الله عليه وسلم خيّر بريرة، وزوجها حر". رواه النسائي، ورواه الأسود عن عائشة. ولنا: أن القاسم وعروة رويا عنها: أنه كان عبداً، وهما أخص بها من الأسود. قال ابن عباس: "كان عبداً". رواه البخاري، قال أحمد: هذا ابن عباس وعائشة قالا: "إنه عبد"، رواية علماء المدينة وعملهم، فإذا روى أهل المدينة حديثاً وعملوا به، فهو أصح شيء، وإنما يصح أنه حر عن الأسود وحده. وإن كان عبداً فلها الخيار إجماعاً، وإن رضيت المقام معه لم يكن لها فراقه بعد، لا نعلم فيه خلافاً. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": الشروط المعتبرة في هذا، محلها صلب العقد، قال الشيخ: وكذا لو اتفقا عليه قبل العقد، وقال: على هذا جواب أحمد في مسائل الحيل، لأن الأمر بالوفاء بالشروط والعقود والعهود يتناول ذلك تناولاً واحداً. وقال: لو خدعها فسافر بها ثم كرهته، لم يكن له أن يُكرهها بعد ذلك. وقال ابن القيم: الشرط العرفي كالشرط لفظاً، ولها الفسخ بالنقلة والتزوج والتسري. فأما إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 أراد نقلها وطلبه منها، فقال القاضي: لها الفسخ بالعزم، وضعفه الشيخ، وقال: العزم المجرد لا يوجب الفسخ، إذ لا ضرر فيه، وهو صحيح ما لم يقترن به طلب النقلة. ولو شرطت ألا تسلم نفسا إلا بعد مدة معينة لم يصح، وقال الشيخ: قياس المذهب: صحته. وإن شرط أن لا مهر لها ولا نفقة، بطل الشرط. قال الشيخ: يحتمل صحة شرط عدم النفقة، لا سيما إذا قلنا: إنه إذا أعسر ورضيت به أنها لا تملك المطالبة بعد. واختار فيما إذا شرط ألا مهر، فساد العقد، وأنه قول أكثر السلف. واختار الصحة في شرط عدم الوطء، كشرط ترك ما تستحقه. وقال: لو شرطت مقام ولدها عندها ونفقته على الزوج، كان مثل اشتراط الزيادة في الصداق، ويرجع فيه إلى العرف، كالأجير بطعامه وكسوته. فإن شرط الخيار فالشرط باطل، وعنه: صحة الشرط، اختاره الشيخ. واختار أن له الخيار إذا شرطها بكراً أو جميلة أو نسيبة، أو شرط نفي العيوب التي يفسخ بها النكاح، فبانت بخلافه، قال: ويرجع على الغارّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 باب حكم العيوب في النكاح يثبت خيار العيب لكل واحد منهما في الجملة، روي عن عمر وابنه وابن عباس وعن عليّ: "لا ترَدّ الحرة بعيب"، وبه قال الثوري. والعيوب المجوّزة للفسخ ثمانية: اثنان يخصان الرجل، وهما الجبّ والعنّة. وثلاثة تخص المرأة: وهن الفتق والقرن والعَفَل. وثلاثة يشترك فيها الزوجان، وهي الجذام والبرص والجنون. وقال القاضي: سبعة، جعل القرن والعفل واحداً، وهو الرتق: وهو لحم ينبت في الفرج يمنع الوطء، والفتق: انخراق ما بين السبيلين. فإن اختلفا في وجود العيب، وكان للمدعي بيّنة، وإلا حلف المنكر. و"يُضرب للعنّين مدة يختبر بها حاله"، وبه قال عمر وعثمان، وعليه فقهاء الأمصار. ويؤجَّل سنة منذ ترافعا. قال ابن عبد البر: على هذا جماعة القائلين بتأجيله، قال معمر في حديث عمر: يؤجل سنة من يوم ترافعه، فإن اعترفت أنه وطئها مرة، بطل كونه عنيناً عند أكثر أهل العلم، ولم يضرب له مدة، ولم تُسمع دعواها. ولا يجوز الفسخ إلا بحكم حاكم. ويرجع بالمهر على من غره من المرأة والولي، قال أحمد: كنت أذهب إلى قول علي فهبته، وملت إلى قول عمر: "إذا تزوجها فرأى جذاماً أو برصاً، فإن لها صداقها بمسيسه إياها، ووليُّها ضامن للصداق". ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال ابن القيم في الهدي فيمن به عيب، كقطع يد أو رجل أو عمى أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 خرس أو طرش وكل عيب يغرّ الزوج الآخر منه ولا يحصل به مقصود النكاح من المودّة والرحمة: يوجب الخيار، وأنه أولى من البيع، وإنما ينصرف الإطلاق إلى السلامة، فهو كالمشروط. قال أحمد: إذا كان عقيماً أعجب إليّ أن يبيّن لها. وقال الشيخ: له الخيار بالاستحاضة. واختار أن جميع الفسوخ لا تتوقف على حكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 باب نكاح الكفار تتعلق بأنكحتهم أحكام النكاج الصحيح، من وقوع الطلاق والظهار والإباحة للزوج الأول والإحصان وغير ذلك. ولم يجوّز مالك طلاق الكفار، ويقرّون على الأنكحة المحرمة ما اعتقدوا حلها ولم يرتفعوا إلينا، "لأنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، ولم يتعرض لهم في أنكحتهم". وعن أحمد في مجوسي تزوج كتابية أو اشترى نصرانية قال: يحال بينه وبينها، فيخرج منه، أنهم لا يقرون على نكاح المحارم. فـ"إن عمر كتب أن فرّقوا بين كل ذي رحم من المجوس". وإن أسلموا وترافعوا إلينا في ابتداء العقد لم نمضه إلا على الوجه الصحيح، وإن كان في أثنائه لم نتعرض لكيفية عقدهم. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معاً في حال واحدة، أن لهما المقام على نكاحهما ما لم يكن بينهما نسب أو رضاع. وإن كان المهر مسمى صحيحاً أو فاسداً أو قبضته استقر، وإن كان فاسداً لم تقبضه فمهر المثل. وإن أسلمت الكتابية قبله وقبل الدخول، تعجلت الفرقة سواء، كان زوجها كتابياً أو غير كتابي، حكاه ابن المنذر إجماعاً. وإن أسلم أحدهما بعد الدخول، وقف الأمر إلى انقضاء العدة، فإن أسلم الثاني قبل انقضائها فهما على نكاحهما، وإلا تبيّنّا أن الفرقة وقعت من حين أسلم الأول؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 فلا تستأنف عدة. وعن الحسن وغيره: تتعجل الفرقة كما قبل الدخول، ونصره ابن المنذر. ولنا: "أن امرأة صفوان وامرأة عكرمة أسلمتا قبلهما، فبقوا على النكاح الأول. وأسلم أبو سفيان قبل هند، وأسلم أبو سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية بالأبواء، ولم يعلم أنه فرّق بين أحد وبين امرأته". فإن لم يسلم أحدهما حتى انقضت العدة، انفسخ النكاح. قال ابن عبد البر: لم يختلفوا فيه إلا شيء روي فيه عن النخعي شذّ فيه، وزعم أنها تردّ إلى زوجها وإن طالت المدة، "لأنه صلى الله عليه وسلم ردَّ زينب على أبي العاص بالنكاح الأول". رواه أبو داود، واحتج به أحمد. قيل له: أليس يروى أنه ردَّها بنكاح مستأنف؟ قال: ليس لذلك أصل، قيل: إن بين إسلامها وردِّها إليه ثمان سنين. وفي حديث عمرو بن شعيب: "أنه ردها بنكاح جديد"، قال يزيد بن هارون: حديث ابن عباس أجود إسناداً، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. وإن ارتد أحدهما قبل الدخول، انفسخ النكاح، ولا مهر لها إن كانت المرتدة، وإن كان هو فلها نصفه. وحكي عن داود: لا ينفسخ النكاح بالردة، فإن كانت بعد الدخول فهل تعجل الفرقة أو تقف على انقضاء العدة؟ على روايتين. وإن ارتدا معاً فكما لو ارتد أحدهما. وإن أسلم وتحته أكثر من أربع، اختار منهن أربعاً. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال الشيخ: الصواب أن أنكحتهم المحرمة في دين الإسلام حرام مطلقاً، فإذا لم يسلموا عوقبوا عليها، وإن أسلموا عفي عنها لعدم اعتقادهم تحريمه. وأما الصحة والفساد فالصواب: أنها صحيحة من وجه، فاسدة من وجه. فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 أريد بالصحة: إباحة التصرف، فإنما يباح لهم بشرط الإسلام. وإن أريد: نفوذه وترتب أحكام الزوجية عليه من حصول الحل به للمطلق ثلاثاً ووقوع الطلاق وحصول الإحصان به، فصحيح. وهذا مما يقوي طريقة من فرّق بين التحريم لعين المرأة أو لوصف، لأن ترتيب هذه الأحكام على نكاح المحارم بعيد. وإن أسلم أحدهما بعد الدخول، وقف الأمر على انقضاء العدة، واختار الشيخ فيما إذا أسلمت قبله: بقاء نكاحه قبل الدخول وبعده، ما لم تنكح غيره؛ والأمر إليها ولا حكم له عليها ولا حق عليه. وكذا إن أسلم قبلها، وليس له حبسها. وأنها متى أسلمت ولو قبل الدخول وبعد العدة، فهي امرأته إن اختار، وقال فيما إذا ارتد أحدهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 كتاب الصداق الأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع: أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} الآية، 1 قال: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} ، 2 قال أبو عبيد: يعني: عن طيب نفس بالفريضة التي فرض الله. وقيل: نحلة من الله تعالى للنساء. وأما السنة، فقوله لعبد الرحمن: "ما أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب". وأجمعوا على مشروعيته. ويستحب تخفيفه، لقول عمر: "لا تغلوا في صدقات النساء" الحديث أخرجه أبو داود والنسائي. ويستحب تسميته، لأنه صلى الله عليه وسلم يزوج ويتزوج كذلك، وقال: "التمس ولو خاتماً من حديد". 3 وأجمعوا على أنه لا يتقدر أقله ولا أكثره، وبه قال الشافعي وإسحاق. وعن مالك وأبي حنيفة: تقدير الأقل. ثم اختلفوا فيه. ولنا: قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} ، 4 وقوله: "ولو خاتماً من حديد". وأجمعوا على أنه لا توقيت في أكثره   1 سورة النساء آية: 24. 2 سورة النساء آية: 4. 3 البخاري: النكاح (5135) , ومسلم: النكاح (1425) , والترمذي: النكاح (1114) , والنسائي: النكاح (3280, 3359) , وأبو داود: النكاح (2111) , وأحمد (5/336) , ومالك: النكاح (1118) . 4 سورة النساء آية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 وكل ما جاز أن يكون ثمناً جاز أن يكون صداقاً، من ديْن، ومنفعة معلومة كرعاية غنمها مدة معلومة، وخياطة ثوب. وقال أبو حنيفة: منافع الحر لا تجوز، لأنها ليست مالاً، وإنما قال: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} الآية. 1 ولنا: قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} الآية. 2 وقولهم: ليست مالاً، ممنوع، فإنها تجوز المعاوضة عنها وبها. ثم إن لم تكن مالاً فقد أجريت مجراه في هذا فكالنكاح. وإن أنكحها على أن يحج بها لم تصح التسمية، وقال مالك والثوري: تصح، وكل موضع لا تصح التسمية فيه يجب فيه مهر المثل، وعنه: يفسد. وإن أصدقها تعليم شيء معيّن من القرآن لم يصح، وعنه: يصح، لحديث سهل. وقيل معناه: زوجتكها لأنك من أهل القرآن، "كما زوج أبا طلحة على إسلامه". ويجوز لأبي المرأة أن يشترط شيئاً من الصداق لنفسه، وبه قال إسحاق. وروي عن مسروق أنه لما زوج ابنته، اشترط لنفسه عشرة آلاف. وروي ذلك عن علي بن الحسين. وقال الثوري وأبو عبيد: يكون كله للمرأة. ولنا: قصة شعيب. وإن شرطه غير الأب، فالكل لها. وللأب تزويج ابنته بدون صداق مثلها بكراً كانت أو ثيباً، وإن كرهت. وقال الشافعي: ليس له ذلك، فإن فعل فلها مهر مثلها. ولنا: قول عمر بمحضر من الصحابة: "لا تغالوا في صداق النساء". وإن تزوج العبد بإذن سيده على صداق مسمى، صح بغير خلاف. والمهر   1 سورة النساء آية: 24. 2 سورة القصص آية: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 والنفقة على سيده. وعنه: يتعلق بكسبه، فإن لم يكن عنده ما ينفق فرّق بينهما. وأجمعوا على أنه ليس له النكاح بغير إذن سيده، فإن فعل ففيه روايتان: أظهرهما: البطلان، وهو قول عثمان وابن عمر والشافعي. وعنه: موقوف على إجازة السيد، وهو قول أصحاب الرأي. وإذا تزوج امرأة فضمن أبوها نفقتها عشر سنين، صح. والزوج هو الذي بيده عقدة النكاح، فإذا طلقها قبل الدخول فأيهما عفا لصاحبه عما وجب له من المهر برئ منه صاحبه. وعنه: أنه الأب، فله أن يعفو عن نصف صداق الصغيرة إذا طلقت قبل الدخول. والتفويض على ضربين: تفويض البضع، وهو أن يزوج الأب ابنته البكر، أو تأذن المرأة لوليها في تزويجها بغير مهر. والثاني: تفويض المهر، وهو أن يزوجها على ما شاء أو شاءت أو شاء أجنبي، فالنكاح صحيح ويجب مهر المثل، في قول عامة أهل العلم لقوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} ، 1 ولحديث بروع، صححه الترمذي. وقال الشافعي: لا يكون التفويض إلا بإذنها. ويجوز الدخول بالمرأة قبل إعطائها شيئاً، سواء كانت مفوضة أم لا، وبه قال الشافعي. وقال مالك: "لا يدخل بها حتى يعطيها شيئاً"، وروي عن ابن عباس، "لأن علياً أراد الدخول بفاطمة، فمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعطيها شيئاً". ولنا: حديث عقبة بن عامر "في الذي زوجه النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل بها، ولم يعطها شيئاً". وأما الأخبار، فمحمولة على الاستحباب، ويمكن حمل قول ابن عباس ومن وافقه عليه، فلا يكون بين القولين فرق.   1 سورة البقرة آية: 236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 وإن طلقت قبل الدخول، لم يكن لها إلا المتعة، وعنه: لها نصف مهر مثلها. وقال مالك: المتعة مستحبة لتخصيصه المحسنين. ولنا: قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} الآية، 1 وآية الأحزاب، ولقوله: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} ؛ 2 وأداء الواجب من الإحسان، فلا تعارض. والمتعة معتبرة بحال الزوج، للآية، وقيل: بحال الزوجة؛ والآية نص في القول الأول. وكل من وجب لها نصف المهر لم يجب لها متعة. وعنه: "لكل مطلقة متاع"، روي عن علي وغيره، لظاهر قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} الآية. 3 قال أبو بكر: كل من روى عن أبي عبد الله أنه لا يحكم بالمتعة إلا لمن لم يسمّ لها مهراً، إلا حنبلاً، فإنه روى عن أحمد: أن لكل مطلقة متاعاً؛ والعمل عليه عندي، لولا تواتر الروايات عنه بخلافها. ولنا: قوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية 4 - إلى قوله - {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ} ، 5 فخص الأولى بالمتعة، والثانية بنصف المفروض، فدل على اختصاص كل قسم بحكمه. ويحتمل أن الأمر به في غير المفروضة للاستحباب، جمعاً بين الآيات. والنكاح الفاسد إن افترقا قبل الدخول فلا مهر، فإن دخل بها استقر المهر المسمى، وعنه: مهر المثل. ولا يستقر بالخلوة، في قول الأكثر. وإذا تزوجت المرأة تزويجا فاسداً، لم يحل تزويجها لغير من تزوج بها، حتى   1 سورة البقرة آية: 236. 2 سورة البقرة آية: 180. 3 سورة البقرة آية: 241. 4 سورة البقرة آية: 236. 5 سورة البقرة آية: 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 يطلقها أو يفسخ نكاحها. فإن امتنع فسخ الحاكم. وقال الشافعي: لا حاجة إلى فسخ ولا طلاق، لأنه غير منعقد، أشبه النكاح في العدة. ولنا: أنه نكاح يسوغ فيه الاجتهاد، فاحتاج إلى التفريق. ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة، والمكرهة على الزنى، قال الشافعي: إذا أكرهها، فعليه المهر وأرش البكارة. وإذا دفع أجنبية فأذهب عذرتها، فعليه أرش البكارة، وهو مذهب الشافعي. وعن أحمد: لها صداق نسائها. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قوله: يستحب أن لا يعرى النكاح عن تسمية، هذا مبني على أصل، وهو أن الصداق هل هو حق لله أو لها. قال الشيخ: كلام أحمد يقتضي أن المستحب أن يكون أربعمائة درهم، وهو الصواب مع اليسار؛ فيستحب بلوغه ولا يزاد عليه. وإن تزوجها على عبد، فخرج حراً أو مغصوباً، أو عصير فبان خمراً، فلها قيمته. وقيل: مهر المثل. وعند الشيخ: لا يلزمه في هذه المسائل شيء. وكذا قال في مهر معيّن تعذر حصوله. وذكر في بعض قواعده جواز فسخ المرأة إذا ظهر المعقود عليه حراً أو مغصوباً أو معيباً. قوله: وإن فعل ذلك غيره بإذنها صح، وبغير إذنها يجب مهر المثل فيكمله الزوج. ويحتمل أن لا يلزمه إلا المسمى والباقي على الولي، كالوكيل في البيع، اختاره الشيخ. والزوج هو الذي بيده عقدة النكاح، وعنه: أنه الأب، اختاره الشيخ. وقال: ليس في كلام أحمد أن عفوه صحيح، لأن بيده عقدة النكاح، بل إن له أن يأخذ من مالها ما شاء. وتعليله بذلك يقتضي جواز العفو بعد الدخول عن الصداق كله، وكذلك سائر الديون. ولو اتفقا قبل العقد على مهر وعقداه بأكثر منه تجملاً، فالمهر المعقود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 عليه. وعلى هذا، قال أحمد: تفي بما وعدته وشرطته. وقال القاضي: استحباباً، وقال أبو حفص البرمكي: وجوباً، قلت: وهو الصواب. وقال الشيخ: إن كانت الهدية قبل العقد وقد وعدوه أن يزوجوه فزوجوا غيره، رجع به، وقال: ما قبض بسبب النكاح فكمهر. قوله: والتفويض على ضربين - إلى أن قال - وإن مات أحدهما قبل الإصابة ورثة صاحبه، ولها مهر نسائها. وقيل: لا مهر، وعنه: لا يتنصف. قال الشيخ: في القلب حزازة من هذه الرواية، فالمنصوص عنه في رواية الجماعة: أن لها مهر المثل على حديث بروع، وهذه تخالف السنة وإجماع الصحابة بل الأمة؛ فإن القائل قائلان: قائل يوجب مهر المثل، وقائلٌ بسقوطه، فعلمنا أن ناقل ذلك غالط عليه، والغلط إما في النقل أو ممن دونه في السمع أو في الحفظ أو في الكتاب، إذ من أصل أحمد الذي لا خلاف عنه: أنه لا يجوز الخروج عن أقوال الصحابة، ولا ترك الحديث الصحيح من غير معارض من جنسه، وكان شديد الإنكار على من يخالف ذلك، فكيف يفعله مع إمامته، من غير موافقة لأحد، ومع أن القول لا حظ له في الآية ولا له نظير؛ هذا مما يعلم قطعاً أنه باطل. واختار أن لكل مطلقة متعة، ولو كان قد دخل بها وسمى لها مهراً، قال أحمد فيما خرجه في مجلسه: قال ابن عمر: "لكل مطلقة متاع، إلا التي لم يدخل بها وقد فرض لها". قوله: ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة، وظاهر كلام الشيخ: لا يجب، لأنه قال: البضع إنما يتقوم على زوج أو شبهة فيملكه به. قوله: والمكرهة على الزنى لها مهر المثل، وعنه: للبكر خاصة، وعنه: لا يجب مطلقاً، اختاره الشيخ وقال: هو خبيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 باب الوليمة لا خلاف أنها في العرس سنة، "لأنه صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها"، وليست واجبة في قول الأكثر. وقيل: بلى، "لأمره بها ولوجوب الإجابة إليها". ولنا: أنها طعام لسرور حادث، فأشبه سائر الأطعمة، والخبر محمول على الاستحباب لما ذكرنا، ولكونه أمر بشاة، ولا خلاف أنها لا تجب أي: الشاة، وما ذكروه باطل بالسلام. قال ابن عبد البر: لا خلاف في وجوب الإجابة إلى الوليمة، لمن دعي إليها إذا لم يكن فيها لهو، لقوله: "شر الطعام طعام الوليمة، يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء. ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله". 1 أي: طعام الوليمة التي يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء، ولم يُرد كل وليمة، فلو أراده لما أمر بها ولا أمر بالإجابة إليها. وإذا صنعت أكثر من يوم جاز، فإن دعي اليوم الثاني استحب، وفي الثالث لا يُستحب. قال أحمد: الأول يجب، والثاني يستحب، والثالث لا. وسائر الدعوات الإجابة إليها مستحبة، وقال العنبري: تجب. ولنا: أن الصحيح من السنة في إجابة الداعي إلى الوليمة، وإجابة كل داع مستحبة، لحديث البراء: "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإجابة الداعي". فإن كان صائماً صوماً واجباً لم يفطر، فإن كان نفلاً أو كان مفطراً استحبّ الأكل. وإن أحب دعا وانصرف، ويخبر بصيامه ليعلموا عذره. وقيل: يجب الأكل لقوله: "فليطعم". ولنا: قوله: "إذا دعي أحدكم فليجب. فإن   1 البخاري: النكاح (5177) , ومسلم: النكاح (1432) , وأبو داود: الأطعمة (3742) , وابن ماجة: النكاح (1913) , وأحمد (2/240, 2/267, 2/405, 2/494) , ومالك: النكاح (1160) , والدارمي: الأطعمة (2066) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 شاء أكل، وإن شاء ترك". 1 حديث صحيح. فإن دعاه اثنان فلأولهما، فإن استويا أجاب أقربهما منه باباً، لقوله: "أجب أقربهما باباً، فإن أقربهما باباً أقربهما جواراً. فإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق". 2 رواه أبو داود. فإن علم أن فيها منكراً وأمكنه الإنكار، حضر وأنكر، وإلا لم يحضر. وقال مالك: أما اللهو الخفيف كالدف والكَبَر، فلا يرجع. وسئل أحمد عمن يدعى إلى الختان أو العرس وعنده المخنثون، فيدعوه بعد ذلك بيوم أو ساعة وليس عنده أولئك، فقال: أرجو أن لا يأثم إن لم بجب، وإن أجاب فأرجو أن لا يكون آثماً. وقال: إنما تجب الإجابة إذا كان المكسب طيباً ولم ير منكراً. وإن كانت صور الحيوان على الحيطان وما لا يوطأ وأمكنه حطها فعل وجلس، وإلا انصرف، وعلى هذا أكثر أهل العلم. قال ابن عبد البر: هذا أعدل المذاهب. و"كان أبو هريرة يكره التصاوير ما نصب منها وما بسط". وكذلك مالك إلا أنه يكرهه تنزهاً، والنهي محمول على ما كان معلقاً، والمباح ما كان مبسوطاً، بدليل حديث عائشة: "فإن قطع رأس الصورة ذهبت الكراهة"، قاله ابن عباس. وصفة التصاوير محرمة على فاعلها والآمر بفعلها. وأما دخول منزل فيه صورة فلا يحرم، وقيل: إذا كانت غير موطوءة لم يجز الدخول. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل"، وفي "شروط عمر على أهل الذمة أن يوسعوا أبواب كنائسهم وبيعهم ليدخلها المسلمون". فإن سترت الحيطان بستور للصور فيها أو فيها صور غير الحيوان، فهل يباح؟ على روايتين: إحداهما: يكره. قال سالم: "أعرست في عهد أبي، فدعا أبا أيوب فأقبل فرأى   1 مسلم: النكاح (1430) , وأبو داود: الأطعمة (3740) , وابن ماجة: الصيام (1751) , وأحمد (3/392) . 2 أبو داود: الأطعمة (3756) , وأحمد (5/408) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 البيت مستوراً، فقال: يا عبد الله، لم تسترون الجدر؟ فقال أبي واستحيا: غلبتنا النساء، يا أبا أيوب. فقال: من حسبت أن يغلبنه لم أحسب أن يغلبنك. ثم قال: لا أطعم لكم طعاماً ولا أدخل لكم بيتاً. ثم خرج". رواه الأثرم. ويحتمل كلام أحمد الكراهة من غير تحريم، "لأن ابن عمر أقر على فعله"، ويحتمل التحريم ولم يثبت في تحريمه حديث. وسئل أحمد عن: الستور فيها القرآن؟ فقال: لا ينبغي أن يكون شيء معلقاً فيه القرآن يستهان به. قيل: يقلع؟ فكره قلع القرآن، وقال: إذا كان ستر فيه ذكر الله، فلا بأس. وكره أن يشتري الثوب فيه ذكر الله يجلس عليه، قيل له: يكتري الرجل البيت فيه تصاوير، ترى أن يحكها؟ قال: نعم. وقال: لا بأس باللعب ما لم تكن صورة. والنثار والتقاطه مكروه. وعنه: لا، فإن قسم على الحاضرين ما ينثر مثل اللوز والسكر، فلا خلاف غير أنه مكروه. وكذلك إن وضعه وأذن في أخذه على وجه لا يقع تناهب. ويستحب إعلان النكاح والضرب عليه بالدف حتى يشتهر، لقوله عليه السلام: " فصل ما بين الحلال والحرام: الصوت والدف في النكاح". 1 رواه النسائي. وإنما يستحب الضرب بالدف للنساء، وقال أحمد: لا بأس بالغزَل في العرس. ولا بأس أن يخلط المسافرون أزوادهم ويأكلون جميعاً، وإن أكل بعضهم أكثر من بعض، وقال المروذي: رأيت أحمد يغسل يديه قبل الطعام وبعده. وروى البخاري: "أنه صلى الله عليه وسلم كان يحتزُّ من كتف شاة في يده، فدعي إلى الصلاة، فألقاها من يده، وقام فصلى، ولم يتوضأ" 2.   1 الترمذي: النكاح (1088) , والنسائي: النكاح (3369) , وابن ماجة: النكاح (1896) . 2 البخاري: الأطعمة (5408) , ومسلم: الحيض (355) , والترمذي: الأطعمة (1836) , والدارمي: الطهارة (727) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 ولا بأس بتقطيع اللحم بالسكين، لهذا الحديث؛ احتج به أحمد. وسئل عن: حديث النهي عنه؟ فقال: ليس بصحيح. واستحب التسمية عند الأكل، وأن يأكل بيمينه مما يليه، وأن يأكل بالأصابع الثلاث، ولا يمسح يده حتى يلعقها. ويكره الأكل متكئاً، ويحمد إذا فرغ. ويستحب الدعاء لصاحب الطعام. ولا بأس بالجمع بين طعامين. ويكره عيب الطعام. وإذا صادف قوما يأكلون الطعام فدعوه، لم يكره له الأكل. وفي المتفق عليه: "لا يتنفس أحدكم في الإناء". 1 قيل لأحمد: الإناء يؤكل فيه، ثم تغسل فيه اليد؟ قال: لا بأس به. قيل فغسل اليد بالنخالة؟ قال: لا بأس به، واستدل الخطابي بقوله للمرأة: "اجعلي مع الماء ملحاً" في غسل الحقيبة. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": استحب الوليمة بالعقد، قال الشيخ: بالدخول. والإجابة إليها واجبة، واختار الشيخ أنها مستحبة. وكره أحمد الخبز الكبارَ، وقال: ليس فيه بركة. ويغسل يديه قبله وبعده، وعنه: يكره قبله. قال الشيخ: لو زاد: "الرحمن الرحيم" عند الأكل لكان حسناً، بخلاف الذبح فقد قيل لا يناسب ذلك. ويأكل مما يليه، قال ابن حامد: إن كان مع غيره، وظاهر كلامهم أن الفاكهة كغيرها، وكلام القاضي يحتمل الفرق، ويؤيده حديث عكراش، لكن فيه مقالة. ويكره الأكل من أعلى القصعة. ولا يكره الشرب قائماً، وعنه: يكره، اختاره الشيخ. قال ابن عقيل: كنت أقول: لا يقدم بعضهم لبعض، ولا السنور، حتى وجدت في البخاري حديث أنس في الدباء. ولا يباح الأكل بلا إذن، ولو من بيت قريب أو صديق لم يحرزه عنه، وأجازه الشيخ. وكره أحمد الطبل لغير حرب.   1 البخاري: الأشربة (5630) , ومسلم: الطهارة (267) , والترمذي: الأشربة (1889) , والنسائي: الطهارة (47) , وأحمد (4/383, 5/295, 5/300, 5/310) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 باب عشرة النساء يلزم كلاً منهما معاشرة الآخر بالمعروف، ولا يمطله بحقه، ولا يظهر الكراهة لبذله، لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، 1 وقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . 2 وقال بعضهم: التماثل هنا في تأدية كل منهما ما عليه لصاحبه، ولا يمطله به، ولا يظهر الكراهة، بل ببشاشة وطلاقة، ولا يتبعه أذى ولا منة، لأن هذا من المعروف الذي أمر الله به. ويستحب لكل منهما الرفق بصاحبه، واحتمال أذاه، لقوله: "استوصوا بالنساء خيراً" 3 الحديث رواه مسلم. وحق الزوج أعظم، لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} . 4 وله الاستمتاع بها ما لم يشغلها عن الفرائض، من غير إضرار بها. ولا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، ويكره من غير حاجة. ولها عليه: أن يبيت عندها ليلة من أربع إن كانت حرة، وله الانفراد بنفسه فيما بقي. فإن سافر أكثر من ستة أشهر فطلبت قدومه، لزمه إن لم يكن له عذر. ويقول عند الجماع: "بسم الله. اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا"، 5 لحديث ابن عباس.   1 سورة النساء آية: 19. 2 سورة البقرة آية: 228. 3 البخاري: النكاح (5186) , ومسلم: الرضاع (1468) . 4 سورة البقرة آية: 228. 5 البخاري: الوضوء (141) , ومسلم: النكاح (1434) , والترمذي: النكاح (1092) , وأبو داود: النكاح (2161) , وابن ماجة: النكاح (1919) , وأحمد (1/216, 1/220, 1/243, 1/283, 1/286) , والدارمي: النكاح (2212) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 ويكره التجرد عنده. ولا يجامع بحيث يسمع حسهما أحد. ولا يقبّلها ويباشرها عند الناس. قال أحمد: كانوا يكرهون الوحس، وهو الصوت الخفي. ولا يتحدث بما بينه وبينها. ولا يكثر الكلام حال الوطء، قيل: إن منه الخرس والفأفأة. وليس له أن يجمع بين امرأتيه في مسكن واحد إلا برضاهما. ولا نعلم خلافاً في وجوب التسوية بين الزوجات في القسم، وعماده الليل، إلا لمن عيشته بالليل كالحارس، والنهار يدخل تبعاً "لأن سودة وهبت يومها لعائشة". ولا يجب التسوية بينهن في الجماع، لا نعلم فيه خلافاً، فإن أمكن فهو مستحب، لقوله: "فلا تلمني فيما لا أملك". 1 وليس عليه التسوية في النفقة والكسوة إذا قام بواجب كل واحدة. وإن امتنعت من سفر معه، أو من المبيت عنده، أو سافرت بغير إذنه، سقط حقها من القسم، لا نعلم فيه خلافاً. فإذا تزوج بكراً أقام عندها سبعاً، وثلاثاً إن كانت ثيباً، وقيل غير ذلك. قال ابن عبد البر: الأحاديث المرفوعة في هذا على ما قلنا، وليس مع من خالف حديث مرفوع، والحجة مع من أدلى بالسنة. وإن ظهرت منها أمارات النشوز، بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع، أو تجيبه متكرهة، وعظها. فإن أصرت هجرها. فإن أصرت ضربها [ضَرْباً] 2 غير مبرِّح، أي: غير شديد، لقوله تعالى: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} الآية. 3 وإن خافت نشوز زوجها لرغبته عنها، فلا بأس أن تضع عنه بعض   1 الترمذي: النكاح (1140) , والنسائي: عشرة النساء (3943) , وأبو داود: النكاح (2134) , وابن ماجة: النكاح (1971) , وأحمد (6/144) , والدارمي: النكاح (2207) . 2 من المخطوطة. 3 سورة النساء آية: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 حقها، لقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} الآية. 1 وروى البخاري عن عائشة في الآية: "هي المرأة تكون عند الرجل فيريد طلاقها، فتقول: أمسكني، وأنت في حل من النفقة والقسمة لي". فإن خرجا إلى الشقاق، بعث الحاكم حكمين، فعن أحمد: أنهما وكيلان، وعنه: أنهما حاكمان يفعلان ما يريان من جمع أو تفريق، وبه قال مالك وإسحاق وابن المنذر. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وعليه وطؤها في كل أربعة أشهر، واختار الشيخ: بقدر كفايتها ما لم ينهك بدنه، أو يشغله عن معيشته، من غير تقدير بمدة. وليس عليها طبخ ولا عجن. وأوجب الشيخ: المعروف من مثلها لمثله. وأوجب التسوية بين الزوجات في الكسوة والنفقة. واختار أن الحكمين في قوله: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} 2 أنهما حكمان لا وكيلان.   1 سورة النساء آية: 128. 2 سورة النساء آية: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 كتاب الخلع إذا كرهت زوجها وظنت أنها لا تؤدي حق الله في طاعته، جاز الخلع على عوض، للآية. [قال ابن عبد البر: لا نعلم أحداً خالف، إلا بكر بن عبد الله المزني، فإنه زعم أنها منسوخة بقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ} الآية 1] . 2 و"لا يفتقر إلى الحاكم"، روى البخاري ذلك عن عمر وعثمان. ولا بأس به في الحيض والطهر الذي أصابها فيه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يسأل المختلعة عن حالها. وإن خالعته لغير ذلك كره ووقع، وعنه: ما يدل على التحريم، فإنه قال: الخلع على مثل حديث سهلة، تكره الرجل فتعطيه المهر، فهذا الخلع؛ وهذا يدل على أنه لا يصح إلا هكذا، وهذا قول ابن المنذر قال: روي معنى ذلك عن ابن عباس وكثير من أهل العلم، وذلك لأن الله قال: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} ، 3 وهذا صريح في التحريم إذ لم يخافا ألا يقيما حدود الله. ثم قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، 4 فدل بمفهومه أن الجناح لاحقٌ بهما إذا افتدت من غير خوف، ثم غلظ الوعيد فقال: {تِلْكَ حُدُودُ} الآية. 5 واحتج من أجازه بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ   1 سورة النساء آية: 20. 2 زيادة من المخطوطة. 3 سورة البقرة آية: 229. 4 سورة البقرة آية: 229. 5 سورة البقرة آية: 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} الآية 1. قال ابن المنذر: لا يلزم [من] الجواز في غير عقد الجواز في المعاوضة، بدليل الربا حرمه الله في العقد وأجازه في الهبة. فإن عضلها لتفتدي فهو باطل والزوجية بحالها. فإن قلنا الخلع: طلاق، وقع طلاقاً رجعياً. وقال مالك: إن أخذ منها شيئاً على هذا الوجه رده، ومضى الخلع عليه. فإن أتت بفاحشة مبينة فعضلها لتفتدي صح، لقوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} ، 2 والاستثناء من النهي إباحة. ويصح من الأجنبي من غير إذن المرأة، في قول الأكثر. واختلفت الرواية إذا لم ينو به الطلاق، فعنه: أنه فسخ، وعنه: طلقة بائنة. ولا يحصل بمجرد بذل المال وقبوله من غير لفظ الزوج، لقوله: "اقبل الحديقة، وطلّقها تطليقة". 3 وليس في الخلع رجعة في قول الأكثر، لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} . 4 ويكره أن يأخذ أكثر مما أعطاها، ولم يكرهه مالك والشافعي. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": استحب للزوج الإجابة، يعني: إلى الخلع الصحيح، واختلف [كلام الشيخ] 5 في وجوبها. وألزم به بعض حكام الشام المقادسة الفضلاء. وإن خالعت مع استقامة الحال كره ووقع، وعنه: لا يجوز ولا يصح، اختاره ابن بطة وصنف   1 سورة النساء آية: 4. 2 سورة النساء آية: 19. 3 البخاري: الطلاق (5273) , والنسائي: الطلاق (3463) , وابن ماجة: الطلاق (2056) . 4 سورة البقرة آية: 229. 5 من المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 [فيه] مصنفاً. واعتبر الشيخ خوف قادر على القيام بالواجب ألا يقيما حدود الله، فلا يجوز انفرادهما به. وقال: كراهته متوجهة للرجل إذا كان له ميل ومحبة، فإن ظلمها لتفتدي فهو باطل. وإن ظلمها لا لتفتدي، فقال الشيخ: لا يحل له ولا يجوز. ومن شرط وقوعه فسخاً ألا ينوي به الطلاق. وعنه: هو فسخ، ولو نوى به الطلاق، اختاره الشيخ قال: ولو أتى بصريح الطلاق. وقال: هو كعقد البيع حتى في الإقالة. وقال: لا يجوز إذا كان فسخ بلا عوض إجماعاً. وإن خالعها على رضاع ولده عامين صح. ولو خالع حاملا فأبرأته من نفقة حملها، فلا نفقة لها ولا للولد حتى تفطمه، نقله المروذي. وإن قال: إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق، فأي وقت أعطته طلقت، المذهب: أن الشرط لازم من جهته لا يصح إبطاله. وقال الشيخ: ليس بلازم من جهته كالكتابة عنده، ووافق على شرط محض، كقوله: إن قدم زيد فأنت طالق، وقال: التعليق الذي يقصد به إيقاع الجزاء [إن] كان معاوضة [فهو معاوضة] ، ثم إن كانت لازمة فلازم وإلا فلا. ولا يصح تعليقه بقوله: إن بذلت لي كذا فقد خلعتك. قال الشيخ: وقولها: إن طلقتني فلك كذا، أو أنت بريء منه، كإن طلقتني فلك علي ألف، وأولى وليس فيه النزاع في تعليق البراءة بشرط. أما لو التزم دينا [لا] 1 على وجه المعاوضة، كإن تزوجت فلك ألف، لم يلزم عند الجمهور. وقال: خلع الحيلة لا يصح، واختار في إعلام الموقعين: أنه يحرم ويصح، ونصره من عشرة أوجه.   1 زيادة من المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 كتاب الطلاق يباح عند الحاجة، ويكره من غير حاجة، ويستحب إذا كان بقاء النكاح ضرراً. وأجمعوا على تحريمه في الحيض، وفي طهر أصابها فيه. ويصح من الصبي العاقل، وعنه: لا يصح حتى يبلغ. قال أبو عبيد: هو قول أهل العراق وأهل الحجاز. وأما السفيه فيقع طلاقه في قول الأكثر. وفي طلاق السكران روايتان. قال ابن المنذر: "ثبت عن عثمان أنه لا يقع طلاقه"، ولا نعلم أحداً من الصحابة خالفه. قال أحمد: حديث عثمان أرفع شيء فيه، وهو أصح، يعني: من حديث علي، منصور لا يرفعه إلى علي. ولا تختلف الرواية عن أحمد: أن طلاق المكره لا يقع. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": وعنه: يجب الطلاق إذا أمره أبوه، وعنه: شرط أن يكون أبوه عدلاً. وأما أمه، فقال أحمد: لا يعجبني طلاقه، ومنع منه الشيخ. ومن زال عقله بسبب يعذر فيه كالنائم، لم يقع طلاقه. قال الشيخ: إن غّيره الغضب ولم يزل عقله لم يقع الطلاق، لأنه ألجأه وحمله عليه، فأوقعه وهو يكرهه ليستريح منه، فلم يبق له قصد صحيح، فهو كالمكره، ولهذا لا يجاب دعاؤه على نفسه وماله، ولا يلزمه نذر الطاعة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 واختار أن طلاق السكران لا يقع، وقال: لا تقبل صلاته أربعين يوماً حتى يتوب. وتقبل دعوى الزوج أنه رجع عن الوكالة قبل إيقاع الوكيل، ونص في رواية أبي الحارث: لا يقبل إلا ببينة، واختاره الشيخ، وكذا دعوى عتقه ورهنه ونحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 باب سنية الطلاق وبدعيته ... باب سنة الطلاق وبدعته السنة: أن يطلقها واحدة في طهر لم يصبها فيه، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، ولا يتبعها طلاقا آخر في العدة. وقال الثوري: السنة أن يطلقها ثلاثاً في كل قرء طلقة. واحتجوا بحديث ابن عمر، ولا حجة لهم فيه. وطلاق البدعة محرم ويقع، قال ابن المنذر: لم يخالف فيه إلا أهل البدع. وحكي عن ابن علية: وتستحب رجعتها، وعنه: أنها واجبة، وهو قول مالك لظاهر الأمر. فإذا راجعها وجب إمساكها حتى تطهر، ويستحب أن يمسكها حتى تحيض أخرى، ثم تطهر على ما أمر [به في] 1 حديث ابن عمر، وقيل: يجب. ولنا: قوله: {طلقوهن لعدتهن} . 2 وعن ابن عمر: "أنه صلى الله عليه وسلم أمره بمراجعتها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك". متفق عليه، لم يذكر الزيادة؛ والزيادة محمولة على الاستحباب. وإن طلقها ثلاثاً في طهر لم يصبها فيه، ففي تحريمه روايتان: إحداهما: "أنه يحرم، روي عن عمر وعليّ وابن مسعود وغيرهم"، ولم يصح في عصرهم خلاف قولهم. فأما حديث المتلاعنين فلا حجة فيه، فإن اللعان يحرمها أبداً، فهو كالطلاق بعد انفساخه برضاع أو غيره. وحديث فاطمة "أنه أرسل   1 زيادة من المخطوطة. 2 سورة الطلاق آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 إليها بتطليقة بقيت لها من طلاقها"، وحديث امرأة رفاعة جاء فيه: "أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات". متفق عليه. وإن طلق ثلاثاً بكلمة واحدة وقع الثلاث، قبل الدخول أو بعده، وهو قول الأكثر، وقال عطاء وطاووس وغيرهما: من طلق البكر ثلاثاً فهي واحدة. فإن كانت المرأة صغيرة، أو آيسة، أو غير مدخول بها، أو استبان حملها، فلا سنة لطلاقها ولا بدعة. وقيل طلاق الحامل طلاق سنة، وهو ظاهر كلام أحمد، فإنه قال: أذهب إلى حديث سالم عن أبيه، وفيه: "ليطلقها طاهراً أو حاملا" 1. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": اختار الشيخ وابن القيم الطلاق المحرم، وقال الشيخ: اختاره طائفة من الأصحاب، واختار أن القرء: الأطهار؛ فعليها، يباح طلاقها في آخر طهر لم يصبها فيه، وأوقع من ثلاث مجموعة أو متفرقة قبل رجعته طلقة واحدة. وذكر أن إلزام عمر بالثلاث عقوبة، وهي من التعزير الذي يرجع إلى اجتهاد الأئمة، كالزيادة على أربعين في حد الخمر لما أكثروا منه، واختاره ابن القيم وكثير من أتباعه. قال ابن المنذر: هو مذهب أصحاب ابن عباس، كعطاء وطاووس وعمرو بن دينار.   1 مسلم: الطلاق (1471) , والترمذي: الطلاق (1176) , والنسائي: الطلاق (3397) , وأبو داود: الطلاق (2181) , وابن ماجة: الطلاق (2023) , وأحمد (2/58) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 باب صريح الطلاق وكنايته لو نواه بقلبه من غير لفظ لم يقع، في قول عامة أهل العلم، وقال الزهري: إذا عزم عليه، طلقت. قال ابن سيرين فيمن طلق في نفسه: أليس قد علمه الله؟ ولنا: قوله: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدّثت به أنفسها، ما لم تكلم به أو تعمل ". 1 صححه الترمذي. ولو قيل: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم، وأراد الكذب، طلقت. ولو قيل: ألك امرأة؟ فقال: لا، وأراد الكذب، لم تطلق، لأنه كناية تفتقر إلى نية. وإن نوى به الطلاق، طلقت؛ وبه قال مالك والشافعي. قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه: أن جِدّ الطلاق وهزله سواء. والكنايات الظاهرة سبع: أنت خلية، وبرية، وبائن، وبتة، وبتلة، وأنت حرة، وأنت الحرج. أكثر الروايات عن أحمد كراهة الفتيا في هذه الكنايات مع ميله إلى أنها ثلاث. والثانية: ترجع إلى ما نواه، وهو مذهب الشافعي. فإن لم ينو شيئاً فواحدة. ونحوه قول النخعي، إلا أنه قال: طلقة بائنة. واحتج الشافعي بحديث ركانة، "أنه طلق البتة فاستحلفه صلى الله عليه وسلم: ما أردت إلا واحدة، فحلف فردّها عليه". رواه أبو داود. وقال مالك: يقع بها ثلاث، إلا في خلع، أو قبل الدخول، وإن لم ينو؛ ووجه أنها ثلاث: أنه قول عمر وعلي وزيد، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، وحديث ركانة ضعف أحمد إسناده   1 البخاري: العتق (2528) والطلاق (5269) , ومسلم: الإيمان (127) , والترمذي: الطلاق (1183) , والنسائي: الطلاق (3435) , وأبو داود: الطلاق (2209) , وابن ماجة: الطلاق (2040) , وأحمد (2/393, 2/425, 2/474, 2/481, 2/491) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 والصحيح في قوله: الحقي بأهلك، أنها واحدة، لقوله لابنة الجون: "الحقي بأهلك". 1 متفق عليه. ولم يكن ليطلق ثلاثاً وقد نهى عنه. والصحيح: أن "اعتدي! " من الخفية، لأن في الصحيح أنه قال لسودة: " اعتدي". ونقل الأثرم في "رجل جعل أمر امرأته بيدها، فقالت: أنتَ طالق، لم تطلق"، روي ذلك عن عثمان؛ وهو قول أبي عبيد وابن المنذر. ويحتمل أن تطلق إذا نوى، وبه قال مالك والشافعي. "وجاء رجل إلى ابن عباس فقال: ملّكت امرأتي أمرها، فطلقتني ثلاثاً، فقال ابن عباس: خطّأَ الله نوءها، إن الطلاق لك، وليس لها عليك"، احتج به أحمد. وإن قال: "أنت عليَّ حرام"، أو "ما أحل الله عليَّ حرام"، ففيه روايات: إحداهن: أنه ظهار وإن نوى الطلاق. والثانية: كناية. والثالثة: "يمين"، روي عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس. وفي المتفق عليه عن ابن عباس قال: "إذا حرّم الرجل امرأته فهي يمين يكفرَّها، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، 2 ولأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} 3 فجعل الحرام يميناً". وروي عن مسروق والشعبي: ليس بشيء لأنه قول كاذب فيه، وهذا يبطل بالظهار وفيه الكفارة.   1 البخاري: الطلاق (5254) , والنسائي: الطلاق (3417) , وابن ماجة: الطلاق (2050) . 2 سورة الأحزاب آية: 21. 3 سورة التحريم آية: 1-2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 باب الرجعة لا تفتقر الرجعة إلى وليّ ولا صداق ولا رضى المرأة ولا علمها، إجماعاً، فأما الإشهاد ففيه روايتان: إحداهما: يجب، للأمر به. والثانية: لا، وهو قول مالك، ويحمل الأمر على الاستحباب. والرجعية زوجة يلحقها الطلاق والظهار والإيلاء، ويرث أحدهما صاحبه إن مات، إجماعاً؛ ويباح له وطؤها والسفر بها والخلوة، ولها أن تتزين له. وعنه: لا رجعة بالوطء، وإن أكرهها فعليه المهر، وتعود على ما بقي من طلاق ولو بعد زوج. وعنه: ترجع بالثلاث بعد زوج. والأول قول الأكابر من الصحابة: عمر وعلي وأبيّ ومعاذ وغيرهم. والثاني: قول ابن عمر وابن عباس وأبي حنيفة. ويقبل قولها في انقضاء عدتها إن أمكن، لقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} 1. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال الشيخ: لا يمكن من الرجعة إلا من أراد إصلاحاً وأمسك بمعروف، والقرآن يدل على أنه لا يملك الطلاق، ولو أوقعه لم يقع، كما لو طلق البائن. ومن قال: إن الشارع ملك الإنسان ما حرم عليه، فقد تناقض. وهل من شرطها   1 سورة البقرة آية: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 الإشهاد؟ الثانية: نعم، فعليها، إن أشهد وأوصى الشهود بكتمانها، فالرجعة باطلة، نص عليه. وألزم الشيخ بإعلان الرجعة والتسريح والإشهاد، لا على ابتداء الفرقة، واختار أن الوطء رجعة مع النية. ولو جاءت امرأة حاكماً وادعت أن زوجها طلقها وانقضت عدتها، فله تزويجها إن ظن صدْقها، كمعاملة عبْد لم يعرف عتقه. قال الشيخ: لا سيما إن كان زوجها لا يعرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 كتاب العدد أجمعوا على أن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية، 1 وكذا كل فرقة في الحياة كالفسخ لرضاع أو عيب أو اختلاف دين أو عتق. والمعتدات ثلاثة أقسام: بالحمل، فعدتها بوضعه ولو بعد ساعة، لقوله تعالى: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 2. الثاني: بالقرء إذا كانت ذات قرء، لقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 3. الثالث: معتدة بالشهور، لقوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية. 4 وذات القروء إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، اعتدت تسعة أشهر للحمل. وعدة الآيسة والمتوفي عنها ولا حمل بها قبل الدخول وبعده، عدتها بالشهور، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} - إلى قوله - {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} 5.   1 سورة الأحزاب آية: 49. 2 سورة الطلاق آية: 4. 3 سورة البقرة آية: 228. 4 سورة الطلاق آية: 4. 5سورة البقرة آية: 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 وكل فرقة بين زوجين فعدتها عدة الطلاق، سواء كانت بخلع أو لعان أو رضاع أو فسخ بعيب أو غير ذلك، في قول الأكثر. وروي عن عثمان وابن عمر وإسحاق وابن المنذر: "أن عدة المختلعة حيضة"، لحديث ابن عباس في امرأة ثابت وفيه: "فجعل عدتها حيضة". رواه النسائي. ولنا: قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، 1 وحديث ابن عباس يرويه عكرمة مرسلاً. والموطوءة بشبهة عدتها عدة المطلقة، وكذلك في نكاح فاسد؛ وبه قال الشافعي، لأنه في شغل الرحم ولحوق النسب كالصحيح. وإن وُطئت المزوجة بشبهة، لم يحل لزوجها وطؤها قبل انقضاء عدتها، والمزنيُّ بها كالموطوءة بشبهة في العدة. وعنه: تستبريء بحيضة، وهو قول مالك. ولا خلاف في وجوبها على المطلقة بعد المسيس. "فإن خلا بها ولم يمسها، وجبت العدة"، روي ذلك عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن عمر؛ وبه قال عروة وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال الشافعي في الجديد: لا عدة عليها، لقوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} . 2 ولنا: إجماع الصحابة. وضعف أحمد ما روي في خلافهم. "وإن ارتفع حيضها ولم تدر ما رفعه، اعتدت سنة". قال الشافعي: هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منكر علمناه. وقال الشافعي في أحد قوليه: تتربص أربع سنين، ثم تعتد بثلاثة أشهر. وفي قوله الجديد: تكون في عدة أبداً حتى تحيض أو تبلغ سن الإياس، هذا قول عطاء وأبي عبيد وأهل العراق. وإن عرفت ما رفعه فهي في عدة حتى يعود أو تصير آيسة.   1 سورة البقرة آية: 228. 2 سورة الأحزاب آية: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 والمستحاضة إن كانت لها عادة أو تمييز محكوم به، فحكمها حكم غير المستحاضة. وإن علمت أن لها في كل شهر حيضة، ولم تعلم موضعها، فعدتها ثلاثة أشهر. وإن شكت في شيء، تربصت حتى تستيقن أن القروء الثلاثة قد انقضت. وإن كان لا تمييز لها، أو ناسية لا تعرف لها وقتاً ولا تمييز، فعنه: ثلاثة أشهر؛ وهو قول أبي عبيد، "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر حمنة أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة". وعنه: تعتد سنة، وهو قول مالك. والصغيرة التي لم تحض إذا حاضت قبل انقضاء عدتها ولو بساعة، استأنفت العدة، في قول علماء الأمصار، وبعد انقضائها ولو بلحظة، لا تستأنف. وإن ارتابت في الحمل قبل انقضاء العدة، بقيت في العدة حتى تزول الريبة. وبعد انقضاء العدة والتزوج، فالنكاح صحيح لكن لا يحل وطؤها. وإن كان بعد انقضائها وقبل التزوج، فقيل: لا تتزوج مع الشك، وقيل: بلى. وأجمعوا على أن عدة الحرة غير الحامل من وفاة زوجها: أربعة أشهر وعشر، مدخول بها أو لا، صغيرة أو كبيرة. وعدة الأمة: شهران وخمسة أيام، في قول عامة أهل العلم، إلا ابن سيرين فإنه قال: ما أراها [إلا] كعدة الحرة، إلا أن تكون قد مضت في ذلك سنّة، فالسنّة أحق أن تتبع. وإذا مات زوج الرجعية، استأنفت أربعة أشهر وعشراً، حكاه ابن المنذر إجماعاً. والبائن تبني على عدة الطلاق، وقال الثوري: عليها أطول الأجلين. وأجمعوا على أن الحامل تعتد بالوضع، إلا ابن عباس فإنه قال: "تعتد بأقصى الأجلين"، وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن عدة المرأة تنقضي بالسقط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 إذا علم أنه ولد. فإن ألقت مضغة لم تبيّن فيها الخلقة فشهد ثقات من القوابل أن فيها صورة خفية بان بها أنها خلقة آدمي، فهي كالأولى. وإذا تزوج امرأة لها ولد من غيره، فمات ولدها، فقال أحمد: يعتزل امرأته حتى تحيض حيضة؛ وبه قال مالك وإسحاق، لأنها إن كانت حاملاً حين موته ورثه حملها. وإن غاب الرجل عن امرأته غيبة يعرف خبره ويأتي كتابه، فليس لها أن تتزوح إجماعاً، إلا أن يتعذر الإنفاق عليها من ماله، فلها أن تطلب الفسخ. وأجمعوا على أن زوجة الأسير لا تنكح حتى تعلم يقين وفاته. فإن انقطع خبره ولم يعلم له موضع، فإن كان ظاهر غيبته السلامة، كالتجارة وطلب العلم، فلا تزول الزوجية ما لم يعلم موته. وقال مالك والشافعي في القديم: تربص أربع سنين، وتعتد للوفاة، وتحل للأزواج، لأنه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطء بالعنّة وتعذر النفقة بالإعسار، فلأن يجوز هنا لتعذر الجمع أولى. واحتجوا بحديث عمر في المفقود، والمذهب الأول، وخبر عمر فيمن ظاهر غيبته الهلاك. فإن كان ظاهرها الهلاك، كأن يفقد بين أهله ليلاً أو نهاراً، أو يخرج إلى مكان قريب ليقضي حاجته ويرجع، ولا يظهر له خبر، فتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة وتحل للأزواج. قيل لأحمد: تذهب إلى حديث عمر؟ قال: هو أحسنها، يروى عنه من ثمانية وجوه. قيل: زعموا أن عمر رجع، قال: هؤلاء الكذابون. قيل: فروي من وجه ضعيف أن عمر قال بخلافه، قال: لا، إلا أن يكون إنسان يكذب. وقال ابن المسيب في امرأة المفقود بين الصفين: تربص سنة. وقال الثوري والشافعي في الجديد: لا تتزوج امرأة المفقود حتى يتبين موته أو فراقه. وهل يعتبر أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 يطلقها ولي زوجها، ثم تعتد بعد ذلك، لأنه في حديث عمر، أو لا؟ وهو قول ابن عمر وابن عباس. تجتنب المتوفى عنها: الطيب والزينة والبيتوتة في غير منزلها والكحل بالإثمد والنقاب. أما الطيب فلا خلاف في تحريمه. وأما اجتناب الزينة فواجب في قول عامة أهل العلم. وأما زينة الثياب فيحرم عليها الثياب المصبغة للتحسين، كالمعصفر والمزعفر. فأما ما لا يقصد بصبغه حسنه، كالأسود والأخضر المشبع فلا تمتنع منه، لأنه ليس بزينة. و"ممن أوجب الإحداد في منزلها: عمر وعثمان"، وبه قال مالك والشافعي. قال ابن عبد البر: وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار. وقال: الحسن وعطاء: تعتد حيث شاءت. قال ابن عباس: "نسخت هذه الآية وهي قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} الآية، 1 عدتها عند أهلها". قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى، فتعتد حيث شاءت. ولنا: حديث فريعة أخت أبي سعيد، وهو حديث صحيح، رواه مالك في الموطإ. ولا سكنى لها إذا كانت حائلاً. وللشافعي قولان. ولنا: أن الله تعالى إنما جعل لها ثمن التركة أو ربعها والمسكن فيها، والباقي للورثة. وليس لهم أن يخرجوها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، للآية، وهي أن يطول لسانها على أحمائها وتؤذيهم بالسب ونحوه، روي عن ابن عباس، وهو قول الأكثرين. والفاحشة تعم الأقوال الفاحشة، لقوله عليه السلام: "إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش "، 2 قاله لعائشة. ولها الخروج في حوائجها نهاراً مطلقة أو متوفي عنها، لقوله: "اخرجي فجذِّي نخلك". 3 رواه أبو داود وغيره.   1 سورة البقرة آية: 240. 2 أحمد (2/159) . 3 مسلم: الطلاق (1483) , والنسائي: الطلاق (3550) , وأبو داود: الطلاق (2297) , وابن ماجة: الطلاق (2034) , وأحمد (3/321) , والدارمي: الطلاق (2288) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 وإذا كانت المبتوتة حاملاً، وجبت لها السكنى. وإن لم تكن حاملاً، فعنه: "لا يجب لها"، وهو قول ابن عباس، وبه قال عطاء وإسحاق وغيرهم. قال أبو بكر: لا خلاف عن أحمد أعلمه، "أن العدة تجب من حين الموت والطلاق"، إلا ما رواه إسحاق. وبه قال عمر وابن عباس ومالك والشافعي. وعنه: إن قامت بذلك بينة وإلا من يوم يأتيها الخبر. ولنا: قوله: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، 1 وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} . 2 وفي إيجاب الإخلاد مخالفة هذه النصوص. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": اختار الشيخ أن عدة المختلعة حيضة، وكذا بقية الفسوخ. والتي عرفت ما رفع الحيض من مرض أو رضاع أو نحوه، فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض، فتعتد به إلا أن تصير آيسة. وعنه: تنتظر زواله، ثم إن حاضت اعتدت به، وإلا اعتدت بسنة؛ ذكره محمد بن نصر المروزي عن مالك، ومن تابعه منهم أحمد. ونقل ابن هانيء أنها تعتد بسنة. واختار الشيخ إن علمت عدم عوده فكآيسة، وإلا اعتدت سنة. وهل تفتقر إلى الرفع للحاكم؟ قال الشيخ: لا يعتبر الحاكم على الأصح. فلو مضت العدة تزوجت، يعني: امرأة المفقود. وعدة الموطوءة بشبهة عدة المطلقة، وكذا من نكاحها فاسد. واختار الشيخ أن كل واحدة منهما تستبرأ بحيضة، وكذا المزْنّي بها. وإذا أراد زوج البائن إسكانها في منزله أو غيره تحصيناً لفراشه ولا محذور فيه لزمها، واختار الشيخ: إن أنفق عليها.   1 سورة الطلاق آية: 4. 2 سورة البقرة آية: 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 كتاب الرضاع الذي يتعلق به التحريم: خمس رضعات فصاعدا، وهو قول الشافعي. وعنه: أن قليله يحرم، وهو قول مالك، لقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} . 1 وعنه: بثلاث رضعات، وهو قول أبي عبيد وابن المنذر. ووجه الأولى: قول عائشة: أنزل عشر رضعات، فنسخ خمس وصار إلى خمس رضعات؛ فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك. والآية فسرتها السنة، وصريحه يخص مفهوم ما رووا، يعني: لا تحرم المصّة ولا المصّتان. واللبن الذي ثاب للمرأة من رجل، ينشر الحرمة إليه وإلى أقاربه. ومن شرطه: أن يكون في الحولين، و"كانت عائشة ترى أن إرضاع الكبير يحرم، لحديث سالم". ولنا: قوله: "إنما الرضاعة من المجاعة ". 2 أخرجاه. وكره أحمد الارتضاع بلبن أهل الفجور والمشركات، قال عمر: "اللبن نسبة، فلا يسقى من يهودية ولا نصرانية". ويكره الارتضاع بلبن الحمقى كيلا يشبهها الولد في الحمق، فإنه قال: "الرضاع يغير الطباع".   1 سورة النساء آية: 23. 2 البخاري: الشهادات (2647) , ومسلم: الرضاع (1455) , والنسائي: النكاح (3312) , وأبو داود: النكاح (2058) , وابن ماجة: النكاح (1945) , والدارمي: النكاح (2256) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 كتاب النفقات نفقة المرأة معتبرة بحال الزوجين جميعاً، فإن كانا موسرين فلهما نفقة الموسرين، وكذلك المتوسطين. وإن كان أحدهما موسراً فعليه نفقة المتوسطين، وقال مالك: يعتبر حال المرأة، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ، 1 ولقوله: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، 2 والمعروف: الكفاية. وقال الشافعي: الاعتبار بحال الزوج وحده، لقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} الآية. 3 وفي ما ذكرنا جمع بين الدليلين. والشرع ورد بالإنفاق من غير تقدير، فيردّ إلى العرف، وقال الشافعي: نفقة المعسر مدّ ونفقة الموسر مدّان، وقال: يجب فيهما الحب. فإن كانت ممن لا تخدم نفسها وجب لها خادم، لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . 4 فإن منعها أو أعطاها أقل من كفايتها، فلها أن تأخذ من ماله الواجب بغير إذنه. و"إذا منعها لعسرته، خيّرت بين الصبر وبين فراقه"، روي عن عمر وغيره؛ وبه قال مالك والشافعي. وذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تملك فراقه، ولكن يرفع يده عنها لتكتسب. وقال العنبري: يحبس إلى أن ينفق. ولنا: قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، 5 وليس الإمساك عن ترك الإنفاق كذلك.   1 سورة البقرة آية: 233. 2 البخاري: النفقات (5364) , ومسلم: الأقضية (1714) , والنسائي: آداب القضاة (5420) , وأبو داود: البيوع (3532) , وابن ماجة: التجارات (2293) , وأحمد (6/39, 6/50, 6/206) , والدارمي: النكاح (2259) . 3 سورة الطلاق آية: 7. 4 سورة النساء آية: 19. 5 سورة البقرة آية: 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 سئل ابن المسيب عن: الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، أيفرّق بينهما؟ قال: نعم. قيل: سنة؟ قال: سنة. ومن ترك الإنفاق الواجب، لم يسقط وكان ديناً في ذمته. وعنه: يسقط، ما لم يفرضها حاكم. ولنا: "أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم: يأمرهم بأن ينفقوا أو يطلّقوا. فإن طلّقوا بعثوا بنفقة ما مضى"، قال ابن المنذر: ثبت ذلك عنه. ويجبر الرجل على نفقة والديه وولده إذا كانوا فقراء وكان له ما ينفق عليهم، الأصل في وجوب نفقتهم: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} الآية، 1 وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ، 2 وقوله: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، 3 وقوله: "أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه". 4 وأما الإجماع فحكاه ابن المنذر. وتجب نفقة الأم، وحكي عن مالك: لا نفقة عليها ولا لها، لأنها ليست عصبة؛ فإن أعسر الأب وجبت على الأم. ويجب الإنفاق على الأجداد والجدات وإن علوا، وولد الولد وإن سفلوا، وقال مالك: لا تجب عليهم ولا لهم. ولنا: قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . 5 ويشترط أن يكون المنفق وارثاً ولو كان محجوبا بمعسر أقرب منه، إلا إن كان من غير عمودي النسب إذا حجب. ويتخرج في كل وارث لولا الحجب إذا كان الحاجب معسراً وجهان: فأما ذوو الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب، فإن كانوا من   1 سورة البقرة آية: 233. 2 سورة البقرة آية: 83. 3 البخاري: النفقات (5364) , ومسلم: الأقضية (1714) , والنسائي: آداب القضاة (5420) , وأبو داود: البيوع (3532) , وابن ماجة: التجارات (2293) , وأحمد (6/39, 6/50, 6/206) , والدارمي: النكاح (2259) . 4 الترمذي: الأحكام (1358) , والنسائي: البيوع (4452) , وأبو داود: البيوع (3528, 3529) , وابن ماجة: التجارات (2137, 2290) , وأحمد (6/31, 6/41, 6/126, 6/127, 6/162, 6/173, 6/193, 6/201, 6/202, 6/220) , والدارمي: البيوع (2537) . 5 سورة البقرة آية: 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 غير عمودي النسب فلا نفقة عليهم، قال أحمد: الخالة والعمة لا نفقة عليهما. وقال أبو الخطاب: يخرج فيهم رواية أخرى: أنها تلزمهم عند عدم العصبة وذوي الفرض. وهل تجب لمن يقدر على الحرفة من الوالدين والمولودين؟ فيه روايتان. وقال أبو حنيفة: ينفق على الغلام حتى يبلغ، وقال مالك: ينفق على النساء حتى يتزوجن. ولنا: قوله: "خذي ما يكفيك وولدك"، 1 ولم يستثن بالغاً ولا صحيحاً. والصبي إذا لم يكن له أب أُجبر وارثه على نفقته على قدر ميراثهم؛ وحكي عن أحمد في الصبي المرضع لا أب له ولا جد: نفقته وأجر رضاعه على الرجال دون النساء، وبه قال إسحاق، لما روي عن عمر "أنه قضى على ابن عم منفوس بنفقته"، احتج به أحمد. وقال مالك والشافعي وابن المنذر: لا نفقة إلا على الوالدين والمولودين. ولنا: قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} 2 - إلى قوله - {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . 3 وعلى المعتق نفقة معتقه إذا كان فقيراً، لأنه وارث. ولا سكنى ولا نفقة للمبتوتة، إلا أن تكون حاملاً، لحديث فاطمة. قال ابن عبد البر: من طريق الحجة وما يلزم منها قول أحمد بن حنبل ومن تابعه أصح وأحجّ، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نصاً صريحاً، فأي شيء يعارض هذه الأمثلة؟ لأنه هو المبين عن الله مراده؛ ومعلوم أنه أعلم بتأويل كتاب الله في قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} 4 إلخ. وأما قول عمر ومن وافقه، فقد خالفه عليّ وابن عباس ومن وافقهما والحجة معهما، ولو لم يخالفه أحد منهم لما قبل قول المخالف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حجة على   1 البخاري: النفقات (5364) , ومسلم: الأقضية (1714) , والنسائي: آداب القضاة (5420) , وأبو داود: البيوع (3532) , وابن ماجة: التجارات (2293) , وأحمد (6/39, 6/50, 6/206) , والدارمي: النكاح (2259) . 2 سورة البقرة آية: 233. 3 سورة البقرة آية: 233. 4 سورة الطلاق آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 عمر وعلى غيره. ولم يصح عن عمر أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنّة نبينا لقول امرأة، فإن أحمد أنكره. أما هذا فلا، ولكن لا نقبل في ديننا قول امرأة. وهذا يرده الإجماع على قبول قول المرأة في الرواية، قال إسماعيل بن إسحاق: ونحن نعلم أن عمر لا يقول: لا ندع كتاب ربنا إلا لما هو موجود في كتاب الله، والذي فيه أن لها النفقة إذا كانت حاملاً بقوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} ، 1 وأما غير ذوات الحمل فلا يدل الكتاب إلا على أن لا نفقة لهن لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": واختار في الهدي أنها لو تزوجته عالمة بعسره، أو كان موسراً ثم افتقر، أنه لا فسخ لها، قال: ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد الإيسار ولم يرفعهم أزواجهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم. ونقل جماعة: تجب لكل وارث، اختاره الشيخ، لأنه من صلة الرحم، وهو عام كعموم الميراث في ذوي الأرحام بل أولى. قوله: وإن ترك الإنفاق مدة لم يلزمه عوضه، قال الشيخ: من أنفق عليه بإذن حاكم رجع، وبلا إذن فيه خلاف؛ وظاهر كلامه: يستدين عليه بإذن حاكم.   1 سورة الطلاق آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 باب من أحق بكفالة الطفل لا تثبت الكفالة لطفل، ولا لفاسق، لأنه ينشأ على طريقته، ولا لكافر على مسلم. وقال أبو ثور: حديث أبي رافع بن سنان لا يثبته أهل النقل. قال ابن المنذر: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم علم أنها تختار أباها بدعوته، فكان خاصاً. والأم أحق بكفالة الطفل والمعتوه إذا طلقت، لا نعلم فيه خلافاً. وإذا بلغ سبع سنين خيّر بين أبويه، وقال مالك لا يخيّر، لأنه ربما اختار من يترك تأديبه. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم خيّر غلاما بين أبيه وأمه". رواه أبو داود، ولأنه إجماع الصحابة. "فإن عدم الأب، أو كان لا حضانة له، خيّر بين أمه وبين العصبات"، فعله عليّ (. وإذا بلغت الجارية سبعاً فالأب أحق بها. وقال مالك: الأم أحق بها حتى تتزوج. وقال الشافعي: تخيّر. فقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الأم إذا تزوجت سقطت حضانتها. وعن أحمد: لا تزول الحضانة عن الجارية لتزويج أمها، لحديث ابنة حمزة؛ والأول هو الصحيح، لقوله: "أنت أحق به ما لم تنكحي". 1 "وأما ابنة حمزة فقضى بها للخالة، لأن زوجها من أهل الحضانة". وإن عدمت الأم واجتمع أم أب وخالة، فأم الأب أحق، وعنه: الخالة. والأخت أحق من الخالة. وقال ابن سريج: تقدم الخالة. وللرجال من العصبات مدخل في الحضانة "لأنه لم ينكر على عليّ وجعفر".   1 أبو داود: الطلاق (2276) , وأحمد (2/182) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 وعلى ملاّك المملوكين أن ينفقوا عليهم ويكسوهم بالمعروف. ولا يكلف من العمل ما لا يطيق. وإذا تولى طعاماً استحب له أن يجلسه يأكل معه، فإن لم يفعل استحب له أن يطعمه منه. ولا يجبر المملوك على المخارجة. ويزوج المملوك إن احتاج، لقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية. 1 فإن امتنع السيد مما يجب عليه، وطلب العبد البيع، أجبر عليه. ومن ملك بهيمة لزمه القيام عليها والإنفاق عليها ما تحتاج إليه. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": لو لم تلائم أخلاق العبد أخلاق سيده، لزمه إخراجه عن ملكه. وليس لابن العم حضانة، واختار في الهدي: أن له، ويسلمها إلى ثقة يختارها هو أو إلى محرم، لأنه أولى من أجنبي وحاكم. وكذا قال فيمن تزوجت وليس للولد غيرها.   1 سورة النور آية: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 كتاب الجنايات الأكثر يرون القتل ينقسم إلى: عمد، وشبه عمد، وخطإ. وأنكر مالك شبهه، وقال: ليس في كتاب الله، وجعله من قسم العمد. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن ديّة الخطإ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا: مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها". رواه أبو داود. فالعمد: أن يقتله بما يغلب على الظن موته به، عالماً بكونه معصوماً، مثل أن يجرحه بسكين، أو يغرزه بمسلة أو ما في معناه، مما يجرح من الحديد أو الخشب أو القصب أو العظم، إذا جرح به جرحاً كبيراً فمات؛ فهو عمد بلا خلاف علمناه. فأما إن جرحه جرحاً صغيراً، كشرط الحجام أو غرزه بإبرة أو شوكة، أو جرحه جرحاً صغيراً بكبير في غير مقتل، فمات في الحال، ففي كونه عمداً وجهان. وإن قطع سلعة من أجنبي بغير إذنه [فمات] ، فعليه القود. وكذلك إن ضربه بمثقل كبير، أو بما يغلب على الظن موته به، أو يلقيه من شاهق، أو يكرر الضرب بصغير. وعن عطاء: العمد ما كان بالسلاح. وقال أبو حنيفة: لا قود إلا أن يقتله بالنار. وعنه في مثقل الحديد روايتان، واحتج بالحديث المتقدم قال: فأوجب الدية دون القصاص. ولنا: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، 1 وفي الصحيحين: "إن يهودياً قتل جارية بحجر، فقتله رسول الله بين حجرين". 2 والحديث محمول على المثقل   1 سورة البقرة آية: 178. 2 البخاري: الخصومات (2413) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672) , والترمذي: الديات (1394) , والنسائي: القسامة (4779) , وأبو داود: الديات (4529) , وابن ماجة: الديات (2666) , وأحمد (3/171, 3/203) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 الصغير، لأنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحجر، فدل على أنه أراد ما يشبههما. وإنما حد الموجب للقصاص هنا بفوق عمود الفسطاط "لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن: المرأة التي ضربت جارتها بعمود الفسطاط، فقتلتها وجنينها؟ قضى في الجنين بغرة، وقضى بالدية على عاقلتها"، والعاقلة لا تحمل العمد؛ فدل على أنها التي تتخذها العرب لبيوتها، وفيها رقة. وشبه العمد: أن يقصد الجناية بما لا يقتل غالباً فيقتل، فلا قود فيه. والدية على العاقلة في قول أكثر أهل العلم، وجعله مالك عمداً موجباً للقصاص. ولنا: حديث المرأتين المتقدم، والحديث الأول. وقولهم: هذا قسم ثالث، قلنا: نعم، هذا ثبت بالسنة، والأولان بالكتاب. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن قتل الخطإ أن يرمي شيئاً فيصيب غيره. والأصل في وجوب الدية والكفارة قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} الآية، 1 وسواء كان المقتول مسلماً أو كافرًا له عهد، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآية. 2 ولا قصاص في شيء من هذا، لأن الله تعالى لم يذكره. ويقتل الجماعة بالواحد، إذا كان فعْل كل واحد منهم لو انفرد وجب القصاص عليه، وعنه: لا يقتلون به، وتجب الدية. ولنا: إجماع الصحابة. ولا خلاف أنه لا قصاص على صبي ومجنون ومن زال عقله بسبب يعذر فيه. وفي السكران روايتان. والمرتد لا يجب بقتله قصاص ولا دية ولا كفارة، لأنه مباح الدم، أشبه الحربي.   1 سورة النساء آية: 92. 2 سورة النساء آية: 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 ويقتل العبد المسلم بالعبد المسلم وإن اختلفت القيمة، وعنه: لا. ولنا: قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية. 1 ويجري القصاص بينهما فيما دون النفس، وعنه: لا. ولنا: قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية. 2 ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر، وعنه: يقتل الرجل بالمرأة ويعطى أولياؤه نصف الدية. ولنا: قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، 3 وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} ، 4 وحديث اليهودي الذي رض رأس الجارية. ولا يقتل مسلم بكافر، في قول الأكثر. وقال النخعي والشعبي: يقتل بالذمي، قال أحمد: سبحان الله! هذا عجب! يصير المجوسي مثل المسلم؟ ما هذا القول؟ واستشنعه وقال: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقتل مسلم بكافر "، 5 وهو يقول: يقتل؛ فأي شيء أشد من هذا؟! ولا يقتل حر بعبد، وروي عن ابن المسيب والثوري وأصحاب الرأي: يقتل به، لعموم الآية والأخبار. ولنا: قول عليّ: "من السّنّة أن لا يُقتل حرّ بعبد". وعن ابن عباس مرفوعاً مثله، رواه الدارقطني. ولا يقتل السيد بعبده في قول الأكثر. ولا يقتل الأب بولده ولا ولد ولده وإن نزل، سواء في ذلك ولد البنين والبنات. وقال ابن المنذر: يقتل به، لظاهر آي الكتاب. ولنا: قوله: " لا يُقتل والد بولده". 6 رواه النسائي وابن ماجة. قال ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض   1 سورة البقرة آية: 178. 2 سورة المائدة آية: 45. 3 سورة المائدة آية: 45. 4 سورة البقرة آية: 178. 5 البخاري: العلم (111) , والترمذي: الديات (1412) , والنسائي: القسامة (4735) , وأبو داود: الديات (4530) , وابن ماجة: الديات (2658) , وأحمد (1/79, 1/122) , والدارمي: الديات (2356) . 6 الترمذي: الديات (1400) , وابن ماجة: الديات (2662) , وأحمد (1/49) , ومالك: العقول (1620) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 عندهم، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد، حتى يكون الإسناد في مثله تكليفاً. وقتل الغيلة وغيره سواء، وقال مالك: يقتل به. وليس لولي الدم أن يعفو عنه، وذلك إلى السلطان. وإذا كان من يستحق القصاص واحداً غير مكلف، فالقصاص له، وليس لغيره استيفاؤه. ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ويقدم الغائب. وليس لبعض الأولياء الاستيفاء دون بعض، فإن فعل فلا قصاص عليه، وعليه لشركائه حقهم من الدية. وإن عفا بعضهم سقط القصاص. وقال الليث والأوزاعي: ليس للنساء عفو، وللباقين حقهم من الدية، لا نعلم فيه خلافاً، لحديث عمر رواه أبو داود. فإن كان القاتل العافي مطلقاً أو إلى مال، فعليه القصاص، وروي عن الحسن: لا يقتل. ولنا: قوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذب أليم} . 1 قال ابن عباس وغيره: "أي: بعد أخذ الدية". وإن كان بعضهم صغيراً أو مجنوناً فليس للبالغ العاقل استيفاء حتى يصيرا مكلفين. وعنه: للكبار استيفاؤه، لأن الحسن قتل ابن ملجم وفي الورثة صغار، فلم ينكر. وقيل: قتله لكفره، وقيل: لسعيه في الأرض بالفساد. وإذا وجب القصاص على حامل أو حملت بعد وجوبه، لم تقتل حتى تضع وتسقيه اللبأ، لا نعلم فيه خلافاً. ثم إن لم يكن له من يرضعه، لم تقتل حتى يجيء أوان فطامه، لحديث الغامدية. وأجمعوا على أن العفو عن القصاص أفضل، لقوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} 2.   1 سورة البقرة آية: 178. 2 سورة المائدة آية: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 والواجب بقتل العمد: القصاص أو الدية، وعنه: موجبه القصاص عيناً، لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} . 1 والمشهور: أحد شيئين، وأن الخيرة إلى الولي إن اختار الدية فله، لقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} الآية. 2 ومن أقيد بغيره في النفس أقيد به في ما دونها، ومن لا فلا. وعنه: لا قصاص بين العبيد في الأطراف لأنها أموال. ويشترط له ثلاثة شروط: أحدها: الأمن من الحيف، بأن يكون القطع من المفصل، أو له حد ينتهي إليه، كمارن الأنف وهو ما لان منه. الثاني: المماثلة، فتؤخذ اليمنى واليسرى والسفلى من الشفتين بمثلها. الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال، فلا تؤخذ صحيحة بشلاء، ولا كاملة الأصابع بناقصة. ويجب القصاص في كل جرح ينتهي إلى عظم يمكن استيفاؤه من غير زيادة. ولا يقتص من الطرف إلا بعد برئه.   1 سورة البقرة آية: 178. 2 سورة البقرة آية: 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 كتاب الديات أجمعوا على أن دية العمد في مال القاتل، وإن كان شبه عمد أو خطأ أو ما جرى مجراه، فعلى العاقلة. وأما الكفارة، ففي مال القاتل لا يدخلها تحمل. ولا يلزم القاتل شيء من دية الخطإ. ولو شهر سيفاً في وجه إنسان، أو أدلاه من شاهق فمات روعة أو ذهب عقله، فعليه ديته. وإن صاح بصبي أو مجنون صيحة شديدة فخرّ من سطح أو نحوه فمات أو ذهب عقله، أو تغفل عاقل فصاح به، فعليه ديته تحملها العاقلة. ومن اضطر إلى طعام إنسان أو شرابه وليس به مثل ضرورته فمنعه حتى مات، ضمنه. ومن أدّب ولده أو امرأته، أو المعلم صبيه، أو السلطان رعيته، ولم يسرف فتلف، لم يضمن. وإن أمر إنساناً أن يصعد شجرة أو ينزل بئراً فهلك، لم يضمنه. ولا خلاف أن الإبل أصول في الدية، وأن دية الحر المسلم: مائة. ولا يختلف المذهب أن أصولها: الإبل والذهب والورق والبقر والغنم. فمن الإبل: مائة، ومن البقر: مائتان، ومن الغنم: ألفا شاة، أو ألف مثقال، أو اثنا عشر ألف درهم. فإن كان القتل عمداً وشبهه، وجبت أرباعاً: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 جذعة. وعنه: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها. وإن كانت خطأ وجبت أخماساً. وأجمعوا على أن دية المرأة نصف دية الرجل، ودية الجنين الحر المسلم إذا سقط ميتاً من الضربة غرة عبد أو أمة قيمته: خمس من الإبل. وإن سقط حياً ثم مات فديته دية حر إذا كان لستة أشهر، فإن كان لدونها فغرة. وإن شربت الحامل دواء فألقت جنيناً، فعليها غرة لا ترث منها، بغير خلاف. وإن جنى على بهيمة فألقت جنينها، ففيه ما في نقصها. وإن جنى العبد خطأ، خيّر سيده بين فدائه بالأقل من قيمته، أو أرش جنايته، أو تسليمه ليباع في الجناية. والشجاج عشر: خمس لا توقيت فيها: أولها: الحارصة وهي: التي تشق الجلد قليلاً ولا تظهر دماً. ثم البازلة: التي يسيل منها الدم. ثم الباضعة: التي تشق اللحم بعد الجلد. ثم المتلاحمة: التي تأخذ في اللحم دخولاً كثيراً. ثم السمحاق: التي تصل إلى قشرة رقيقة فوق العظم. فلم يرد فيها توقيت، فالواجب الحكومة كجراحات البدن. وخمس فيها مقدر: أولها: الموضحة: التي توضح العظم أي: تبرزه، ففيها: خمس من الإبل. ثم الهاشمة: التي تهشم العظم، ففيها: عشر من الإبل. ثم المنقلة وهي: التي توضح وتهشم وتزيل العظام عن مواضعها، فتحتاج إلى نقل العظم ليلتئم، ففيها: خمسة عشر. ثم المأمومة: التي تصل إلى جلدة الدماغ، ففيها: ثلث الدية. وفي الجائفة: ثلث الدية، وهي: التي تصل إلى باطن الجوف. والحكومة: أن يقوّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به، ثمَّ يقوّم وهي به قد برئت، فما نقص منه فله مثله من الدية؛ ولا نعلم خلافاً أن هذا تفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 الحكومة. ولا يقوّم إلا بعد برء الجرح، فإن لم ينقص في تلك الحال قوّم حال جريان الدم. والعاقلة: العصبات من النسب، قريبهم وبعيدهم إلا عمودي نسبه. وعنه: أنهم منهم، سموا: "العاقلة"، لأنهم يمنعون عنه، والعقل: المنع. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة والذي لم يبلغ لا يعقلان، وأن الفقير لا يلزمه شيء. وخطأ الإمام والحاكم في أحكامه في بيت المال، وعنه: على عاقلته، لحديث عمر. ومن لا عاقلة له، فهل تجب في بيت المال؟ على روايتين. "ولا تحمل العاقلة عمداً، ولا عبداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً"، قاله ابن عباس، ولم يعرف له مخالف من الصحابة. ولا تحمل ما دون ثلث الدية. وما يحمله كل واحد منهم غير مقدر، فيرجع إلى اجتهاد الحاكم، فيحمل كل إنسان ما يسهل. وعمد الصبي والمجنون تحمله العاقلة، وعنه: أن الصبي العاقل عمده في ماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 باب القسامة قال القاضي: يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله، لأنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم"، ولأن للإنسان أن يحلف على غالب ظنه. واختلفت الرواية عن أحمد في اللوث: فروي عنه: أنه العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه. الثانية: أن اللوث أن يغلب على الظن صدق المدعي مثل العداوة، أو يتفرق جماعة عن قتيل فيكون لوثاً في حق كل واحد منهم. الثالثة: أن يزدحموا في مضيق فيوجد بينهم قتيل. الرابعة: أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم. الخامسة: أن يقتتل فئتان فيتفرقون عن قتيل من إحداهما فاللوث على الأخرى. السادسة: أن يشهد بالقتل عبيد أو نساء، وفي الفاسق والصبيان روايتان. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف ": اختار الشيخ: الدالّ يلزمه القود إن تعمد وإلا الدية، وأن الآمر لا يرث. قوله: أن يقتل في دار الحرب من يظنه حربياً، قال الشيخ: محل هذا في المسلم المعذور، كالأسير أو لا يمكنه الهجرة والخروج من صفهم، فأما الذي يقف في صف قتالهم باختياره فلا يضمن بحال. وقال: ليس في العبد نصوص صحيحة صريحة تمنع قتل الحرّ به، وقوى قتله به. وروى عبادة عنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 صلى الله عليه وسلم: "منزل الرجل حريمه، فمن دخل عليك حريمك فاقتله"، ولهذا ذكر في المغني: أن الولي إن اعترف بذلك فلا قود ولا دية، واحتج بقول عمر، قال في الفروع: كلامهم وكلام أحمد يدل على أنه لا فرق بين كونه محصناً أو لا. وصرح به بعض المتأخرين كشيخنا وغيره، لأنه ليس بحد، وإنما هو عقوبة على فاعله، وإلا لاعتبرت شروط الحر. وسأله أبو الحارث: وجده يفجر بها، له قتله؟ قال: قد روي عن عمر وعثمان. وكل من ورث المال ورث القصاص. واختار الشيخ: تختص العصبة. ولا يستوفى القصاص إلا بحضرة السلطان. واختار الشيخ: يجوز بغير حضوره إذا كان في النفس، ولا يستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف. وعنه: يفعل به كما فعل، اختاره الشيخ، وقال: هذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل. وقال: استيفاء الإنسان حقه من الدم عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل؛ لكن هنا الإحسان لا يكون إحساناً إلا بعد العدل، وهو أن لا يحصل بالعدل ضرر، فإذا حصل ضرر كان ظلماً من العافي إما لنفسه وإما لغيره، فلا يشرع. واختار أن العفو لا يصح في قتله الغيلة، لتعذر الاحتراز كالقتل مكابرة. واختار القصاص في كل شيء من الجراح والكسر يقدر على القصاص منه، للأخبار. وقال: ثبت عن الخلفاء الراشدين. وإن غصب صغيراً فنهشته حيّة أو أصابته صاعقة ففيه الدية. قال الشيخ: مثله كل سبب يختص البقعة، كالوباء وانهدام السقف عليه ونحوهما. ولو أمر عاقلاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك بذلك لم يضمنه، كما لو استأجره لذلك، ولو أمر من لا يميز بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 وذكر 1 الأكثر: لو أمر غير مكلف بذلك ضمنه، قال في الفروع: ولعل مراد الشيخ: ما جرى به عرف وعادة، كقرابة وصحبة وتعليم ونحوه، فهذا متجه، وإلا ضمنه. قوله: وفي جراحه أي: العبد إن لم يكن مقدراً من الحر ما نقصه، وعنه: يضمن ما نقص مطلقاً، اختاره الشيخ. واختار أن اللوث [يثبت] 2 بشهادة النساء والصبيان وفسقة وعدل واحد ونحو ذلك.   1 بين هذه الجملة والتي قبلها بياض في المخطوطة والمطبوعة. 2 ساقط في المطبوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 باب الحدود لا يجب الحد إلا على بالغ، عاقل، عالم بالتحريم. ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه، إلا السيد فله جلد رقيقه. وعنه: يملك القتل والقطع. وحد المحصن: الرجم. وهل يجلد قبله؟ على روايتين. وغيره: يجلد مائة ويغرب عاماً. ويجب أن يحضر طائفة من المؤمنين، و"الطائفة: واحد فما فوقه"، قاله ابن عباس ومجاهد. واللوطي كالزاني، وعنه: الرجم بكل حال، لأنه إجماع الصحابة "فإنهم أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في الكيفية". ومن أتى بهيمة فحده حد اللوطي. وعنه: "يعزر ولا حد عليه"، روي عن ابن عباس، وهو قول مالك والشافعي، لأنه لم يصح فيه نص. وفي وجوب قتلها روايتان، وكره أحمد أكل لحمها. فإن ثبت الزنى بإقرار، اعتبر أربع مرات، وقال مالك والشافعي وابن المنذر: يحد بإقراره مرة، لحديث أنيس. ولا ينزع عن إقراره حتى يتم، فإن رجع أو هرب كف عنه؛ وبه قال مالك والشافعي. وإذا ثبتت الشهادة بالزنى فصدقهم، لم يسقط الحد، وقال أبو حنيفة: يسقط، لأن صحة البينة يشترط لها الإنكار. ولو وطئ في نكاح مجمع على بطلانه فعليه الحد، وقال أبو حنيفة: لا حد عليه للشبهة. وإن استأجر أمة للزنى أو غيره فزنى بها، حُدّ، وقال أبو حنيفة: لا، للشبهة. ويستحب للإمام أو الحاكم الذي يثبت عنده الإقرار التعريض له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 بالرجوع إذا تم، والوقوف عن إتمامه إذا لم يتم، "لأنه صلى الله عليه وسلم أعرض عن ماعز"، وعن أبي داود: "أنه أُتي بجارية سوداء سرقت، فقال لها: أسرقتِ؟ قولي: لا، فقالت: لا. فخلى سبيلها" ويكره لمن علم حاله أن يحثه على الإقرار. وقد أجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف محصناً، وأن حده ثمانون إن كان حراً، للآية، وإن كان عبداً فحده أربعون، في قول الأكثر. ويشترط مطالبة المقذوف، وأن يأتي ببيّنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 باب القطع في السرقة الأصل فيه الكتاب والسنّة والإجماع، وهي أخذ المال على وجه الاختفاء؛ فلا قطع على منتهب ولا مختلس ولا غاصب ولا جاحد وديعة، وعنه: روايتان في جاحد العارية. وكذلك الطرّار الذي يشق الجيب، فيه روايتان. وإذا سرق من الثمر المعلق، فعليه غرامة مثليه، للخبر؛ قال أحمد: لا أعلم شيئاً يدفعه. ولا يقطع بالسرقة من مال ابنه أو أبيه، والأم والأب في ذلك سواء وإن علوا وإن سفلوا، ولا العبد من مال سيده، ولا من مال له فيه شرك. ولا قطع إلا بمطالبة المالك أو دعواه، وقال مالك وابن المنذر: لا يشترط، لعموم الآية. ولا خلاف أن أول ما يقطع يده اليمنى، وإن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى، إلا ما حكي عن عطاء: تقطع يده اليسرى، لقوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . 1 فإن عاد حُبس ولم يقطع، وعنه: تقطع يده اليسرى في الثالثة، ورجله اليمنى في الرابعة؛ وهو قول مالك والشافعي وابن المنذر. ويجتمع القطع والضمان، وقال الثوري: لا يجتمعان. وقال مالك: لا غرم على معسر.   1 سورة المائدة آية: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 باب حد المحاربين الأصل فيهم: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} الآية. 1 "نزلت في قطّاع الطريق" في قول ابن عباس وكثير من العلماء. وحكي عن ابن عمر: "أنها نزلت في المرتدّين"، قال أنس: "نزلت في العرنيّين الذين استاقوا إبل الصدقة وارتدّوا"، ولنا: قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} ؛ 2 والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة. ولهم ثلاثة شروط: (أحدها) : أن يكون في الصحراء، وبه قال الثوري وإسحاق، لأن قطع الطريق لا يكون إلا في الصحراء. وقال الأوزاعي والليث والشافعي: الحضر والصحراء واحد، لأن الآية تعم كل محارب. (الثاني) : أن يكون معهم سلاح، ولو بالعصي والحجارة. (الثالث) : أن يجاهروا، فإن أخذو مختفين فهم سراق، وإن اختطفوا وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم. وحكم الردء حكم المباشر، وبه قال مالك. والنفي: أن يترك لا يأوي إلى بلد، وعنه: نفيه: تعزيره بما يردعه، وقيل:   1 سورة المائدة آية: 33. 2 سورة المائدة آية: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 نفيه حبسه، وقال ابن سريج: يحبسهم في غير بلدهم، وهذا مثل قول مالك، لأن تشريدهم يخرجهم إلى قطع الطريق. ومن أريدت نفسه أو حرمته أو ماله فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يكون، فإن لم يحصل إلا بالقتل فله ذلك، ولا شيء عليه. وإن قُتل كان شهيداً. وهل يلزمه الدفع عن نفسه؟ على روايتين. قال ابن سيرين: ما أعلم أحداً ترك قتال الحرورية واللصوص تأثماً، إلا أن يجبن. ويلزمه الدفع عن حرمته ولا يلزمه عن ماله. فإن أريدت نفسه فالأولى في الفتنة ترك الدفع، ولغيره الدفع عنه، لقوله: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" 1.   1 البخاري: المظالم والغصب (2443) , والترمذي: الفتن (2255) , وأحمد (3/99, 3/201) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 باب قتال أهل البغي الأصل فيه: قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية. 1 من اتفق المسلمون على إمامته ثبتت إمامته ووجبت معونته، وفي معناه: من ثبتت إمامته بعهد من إمام قبله، وكذلك لو خرج رجل فقهر الناس حتى بايعوه صار إماماً، يحرم الخروج عليه، كعبد الملك بن مروان؛ فيدخل في عموم قوله: "من خرج على أمتي وهم جميع، فاضربوا عنقه بالسيف" 2. ومن هنا إلى كتاب الأطعمة من "الإنصاف": لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه. واختار الشيخ أنه لا يجوز إلا بقرينة، كتطلب الإمام له ليقتله. وقال: إن عصى الرقيق علانية، أقام السيد عليه الحد، وإن عصى سراً فينبغي أن لا يجب إقامته، بل يخير بين ستره واستتابته بحسب المصلحة. وقال: إن تعدى أهل مكة على الركب، دفعوا عن أنفسهم كما يدفع الصائل، ولغيرهم أن يدفع معهم، بل قد يجب إن احتيج إليه. وتردَّد في الأشهر الحرم، هل تعصم شيئا من الحدود والجنايات؟ واختار ابن القيم في الهدي: أنها تعصم، وفيه: أن الطائفة الممتنعة بالحرم من مبايعة الإمام لا تقاتل.   1 سورة الحجرات آية: 9. 2 مسلم: الإمارة (1848) , والنسائي: تحريم الدم (4114) , وابن ماجة: الفتن (3948) , وأحمد (2/296, 2/306, 2/488) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 وإن وطيء ذات محرم، فقال أحمد: يقتل ويؤخذ ماله، لخبر البراء، قيل له: فالمرأة؟ قال: كلاهما في معنى واحد. قوله: أو وطئ في نكاح مجمع على بطلانه، وإن جهل البطلان فلا حد عليه. وإن حملت من لا زوج لها ولا سيد، لم تحد بمجرده. وعنه: تحد إذا لم تدّع شبهة، اختاره الشيخ. قوله: وهل حد القذف حق لله ... إلخ؟ وحكى الشيخ الإجماع: أنه لا يجوز أن يعرض له إلا بطلب. واختار وجوب الحد بأكل الحشيشة سكر أو لم يسكر، وضررها من بعض الوجوه أعظم من ضرر الخمر، وإنما حدث أكلها في آخر المائة السادسة أو قريباً منها مع ظهور سيف جنكس خان. قوله: حده ثمانون، وعنه: أربعون، وجوز الشيخ الثمانين للمصلحة. قال: ويقتل الشارب في الرابعة عند الحاجة إلى قتله، إذا لم ينته الناس بدونه. وإن أكره على شربها حل له، قال الشيخ: يرخص أكثر العلماء فيما يكره عليه من المحرمات لحق الله، كأكل الميتة وشرب الخمر، وقال: يحد بالرائحة إذا لم يدَّع شبهة. وقال: لا نزاع بين العلماء أن غير المكلف كالصبي المميز يعاقب على الفاحشة تعزيراً بليغاً. وقال في الخلوة بأجنبية، واتخاذ الطواف بالصخرة ديناً، وقول: انذروا لي، واستعينوا بي: إن أصرّ ولم يتب قُتل. وعن أحمد: لا يشترط في القطع مطالبة المسروق منه بالمال، اختارها الشيخ. وقال: الخوارج يقتلون ابتداء، ويجهز على جريحهم، وقال: جمهور العلماء: يفرقون بينهم وبين البغاة المتأولين، وهو المعروف عن الصحابة؛ وعليه عامة الفقهاء. وإن أظهر قوم رأي الخوارج لم يتعرض لهم. وعنه: الحرورية إذا دعوا إلى ما هم عليه فقاتلْهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 وسئل عن: قتل الجهمي؟ فقال: أرى قتل الداعية منهم، وقال مالك: عمرو بن عبيد يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل. قال أحمد: أرى ذلك إذا جحد العلم، وكان عمرو لا يقر بالعلم، وهذا كافر. وقال الشيخ: أجمعوا على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة متواترة من شرائع الإسلام، يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين وأولى. وقال: الرافضة شر من الخوارج اتفاقاً. وقال: في قتل الواحد منهما ونحوهما وكفره روايتان، والصحيح جواز قتله كالداعية ونحوه، وقال: مذهب الأئمة أحمد وغيره: التفصيل بين النوع والعين. قوله: وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو رياسة ... إلخ، قال الشيخ: إن جهل قدر ما نهبه كل طائفة من الأخرى تساوتا، كمن جهل قدر المحرّم من ماله أخرج نصفه، والباقي له. قوله: من أشرك بالله ... إلخ، قال الشيخ: أو كان مبغضاً لرسوله أو لما جاء به، اتفاقاً، أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم، إجماعاً. قوله: وما أتلفه من شيء ضمنه، وعنه: إن فعله في دار الحرب أو في جماعة مرتدة ممتنعة لا يضمن، اختاره الشيخ. وقال: التنجيم كالاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، من السحر، ويحرم إجماعاً. وأقرَّ أولهم وآخرهم أن الله يدفع عن أهل العبادة والدعاء ببركة ما زعموا أن الأفلاك توجبه، وأن لهم من ثواب الدارين ما لا تقوى الأفلاك أن تجلبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 كتاب الأطعمة الأصل فيها: الحل، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} 1. يحل كل طعام طاهر لا مضرة فيه، من الحبوب والثمار. والحيوانات مباحة، لعموم النصوص، إلا الحمر الأهلية. قال أحمد: خمسة وعشرون من الصحابة كرهوها، قال ابن عبد البر: لا خلاف اليوم في تحريمها، وحكي عن ابن عباس وعائشة "أن ما خلا المذكور في قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الآية، 2 فهو حلال". وألبان الحمر محرمة في قول الأكثر، ورخص فيها عطاء وطاووس. وما له ناب يفترس به، كالذئب والكلب والسنور، إلا الضبع، حرام في قول الأكثر، ورخص في ذلك الشعبي وبعض أصحاب مالك، لعموم الآية. ولنا: قوله "أكل كل ذي ناب من السباع حرام". 3 وقال أبو ثعلبة: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع". 4 متفق عليه. قال ابن عبد البر: هذا نص صريح يخص العموم. وقال: لا أعلم خلافاً في أن القرد لا يؤكل، ولا يجوز بيعه، وما له مخلب من الطير يصيد به، في قول الأكثر. وقال مالك والليث: لا يحرم من الطير شيء، واحتجوا بعموم الآية، وقول أبي الدرداء وابن عباس: "ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه".   1 سورة البقرة آية: 29. 2 سورة الأنعام آية: 145. 3 البخاري: الذبائح والصيد (5527) , ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1932) , والترمذي: الأطعمة (1477) والسير (1560) , والنسائي: الصيد والذبائح (4325, 4326, 4342) , وأبو داود: الأطعمة (3802) , وابن ماجة: الصيد (3232) , وأحمد (4/193, 4/194, 4/195) ، ومالك: الصيد (1075) , والدارمي: الأضاحي (1980, 1981) . 4 البخاري: الذبائح والصيد (5527) , ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1932, 1936) , والترمذي: الأطعمة (1477) والسير (1560) , والنسائي: الصيد والذبائح (4325, 4326, 4342) , وأبو داود: الأطعمة (3802) , وابن ماجة: الصيد (3232) , وأحمد (4/193, 4/194، 4/195) ، ومالك: الصيد (1075) , والدارمي: الأضاحي (1980, 1981) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 ولنا: "نهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير"، رواه أبو داود. والخمس الفواسق محرمة: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور، "لأنه أباح قتلها في الحرم". ولا يجوز قتل الصيد المأكول فيه، ولأن ما يجوز أكله لا يقتل إذا قدر عليه بل يذبح، وما يأكل الجيف كالنسر والرخم. وسئل أحمد عن: العقعق؟ فقال: إن لم يكن يأكل الجيف فلا بأس به، وما يستخبث كالقنفذ والحية والحشرات، ورخص الشافعي في القنفذ. ولنا: قوله: "هو خبيثة من الخبائث". 1 رواه أبو داود. وما استطابته العرب فهو حلال، وما استخبثته فهو حرام، قال ابن عبد البر: الوزغ مجمع على تحريمه، وفي الثعلب والوبر وسنور البر واليربوع روايتان. والفيل محرم لأن له ناباً، والضبع مباحة، وحرمها مالك لأنها سبع. ولنا: حديث جابر: "أمرنا بأكل الضبع"، 2 قلت: صيد؟ قال: نعم. احتج به أحمد، وصححه الترمذي. قال ابن عبد البر: لا يعارض حديث النهي عن كل ذي ناب، لأنه أصح منه. قلنا: هذا تخصيص لا معارض ولا يعتبر ما ذكر في التخصيص لتخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد. والضب مباح في قول الأكثر، وقال أبو حنيفة: هو حرام، لنهيه عن أكل الضب، وهو حديث لا يثبت. و"أباحه قول عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة"، ولم يعرف عن صحابي خلافه، فيكون إجماعاً. وفي الهدهد والصرد روايتان. وتحرم الجلالة التي أكثر علفها النجاسة، وبيضها ولبنها، وعنه: يكره ولا يحرم حتى تحبس. و"كان ابن عمر إذا أراد أكلها حبسها ثلاثاً"، وقال عطاء: تحبس الناقة والبقرة أربعين يوماً.   1 أبو داود: الأطعمة (3799) , وأحمد (2/381) . 2 الترمذي: الأطعمة (1791) , والنسائي: مناسك الحج (2836) والصيد والذبائح (4323) , وأبو داود: الأطعمة (3801) , وابن ماجة: المناسك (3085) والصيد (3236) , وأحمد (3/297, 3/318, 3/322) , والدارمي: المناسك (1941) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 ومن اضطر إلى محرم أكل ما يسدّ رمقه، وهل له الشبع؟ على روايتين. ويجب الأكل على المضطر، وقيل: لا، لقصة عبد الله بن حذافة. وإذا اشتدت المخمصة في زمن مجاعة وعنده قدر كفايته من غير فضلة، لم يلزمه دفع ما معه ولو لم يضطر في تلك الحال، لأن هذا مفض إلى هلاك نفسه وعياله. وقد نهى الله عن الإلقاء باليد إلى التهلكة. ولا يجوز التداوي بشيء محرم. و"من مرّ بثمر في شجرة لا حائط عليها ولا ناظر، فله أن يأكل منها، ولا يحمل"، وعنه: لا يحل إلا لحاجة. والأول قول عمر وابن عباس وغيرهما، لحديث عمرو بن شعيب، حسنه الترمذي. وأكثر الفقهاء على الثاني، ولنا: قول مَن سمينا من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف منهم. فإن كانت محوطة، لم يجز الدخول، قال ابن عباس: "إن كان عليها حائط، فهو حريم، فلا تأكل". وفي الزرع وشرب لبن الماشية روايتان: إحداهما: يجوز، لحديث سمرة في الماشية، صححه الترمذي، وقال: العمل عليه عند بعض أهل العلم. والثانية: لا يجوز، لحديث عمر المتفق عليه: "لا يحلب أحد ماشية أحد إلا بإذنه" 1 الحديث. قال أحمد: أكره أكل الطين، ولا يصح فيه حديث، إلا أنه يضرّ بالبدن. ويكره أكل البصل والثوم والكراث وكل ذي رائحة كريهة، لقوله: "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس، فإن أكله لم يقرب المسجد"، 2 وليس أكلها محرماً، لحديث أبي أيوب في الطعام الذي فيه الثوم، حسنه الترمذي. فإن أتى المسجد كره ولم يحرم، وعنه: يأثم، لأن ظاهر النهي التحريم. ويجب على المسلم ضيافة المسلم الذي يجتاز به، يوماً وليلة، فإن أبى فللضيف طلبه به عند الحاكم. قال أحمد: الضيافة على المسلمين كل من نزل به ضيف، قيل: فإن ضاف الرجل ضيف كافر؟ قال النبي   1 البخاري: في اللقطة (2435) , ومسلم: اللقطة (1726) , وأبو داود: الجهاد (2623) , وابن ماجة: التجارات (2302) , وأحمد (2/4, 2/6, 2/57) , ومالك: الجامع (1812) . 2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (564) , والنسائي: المساجد (707) , وأحمد (3/374, 3/387) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 صلى الله عليه وسلم: " الضيف حق واجب على كل مسلم". 1 وقال الشافعي: الضيف مستحب غير واجب، والواجب يوم وليلة، والكمال ثلاثة أيام. وقيل: الواجب: ثلاثة، ولا يأخذ شيئاً إلا بعلم أهله. وعنه: يأخذ بغير علمهم، لحديث عقبة بن عامر المتفق عليه، وفيه: "فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف". 2 قال أحمد: هي مؤكدة، وكأنها على أهل القرى، فأما مثلنا الآن فكأنه ليس مثلهم، وذلك لأن أهل القرى ليس عادتهم بيع القوت. وكره أحمد الخبز الكبار، وقال: ليس فيه بركة. وذكر له حديث سلمان: "بركة الطعام الوضوء قبله وبعده"، فقال: ما حدث به إلا قيس بن الربيع، وهو منكر الحديث. قيل له: لِم كره سفيان غسل اليد عند الطعام؟ قال: لأنه من زي العجم، قيل: لِم كره سفيان أن يجعل الرغيف تحت القصعة؟ قال: كره أن يستعمل الطعام. قيل: "إن أسامة قدم إليهم خبزاً فكسره، قال: لئلا يعرفوا كم يأكلون. قيل: تكره الأكل متكئاً؟ قال: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا آكل متكئاً"؟ ولأبي داود عن ابن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل الرجل وهو منبطح" 3. ويستحب التسمية عند الطعام والحمد عند آخره، ولأحمد عن أبي هريرة، مرفوعاً: "الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر"، 4 قال: معناه: إذا أكل وشرب يشكر الله ويحمده على ما رزقه. ولأبي داود عن عائشة مرفوعاً: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل: "بسم الله أوله وآخره". ويستحب الأكل بثلاث أصابع، لحديث كعب بن مالك: كان صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع. ولا يمسح يده حتى يلعقها". 5 رواه أحمد، وذكر له حديث: "يأكل بكفه كلها"، فلم يصححه ولم ير   1 أبو داود: الأطعمة (3750) , وأحمد (4/132, 4/133) , والدارمي: الأطعمة (2037) . 2 البخاري: المظالم والغصب (2461) , ومسلم: اللقطة (1727) , والترمذي: السير (1589) , وأبو داود: الأطعمة (3752) , وابن ماجة: الأدب (3676) , وأحمد (4/149) . 3 أبو داود: الأطعمة (3774) , وابن ماجة: الأطعمة (3370) . 4 أحمد (2/289) . 5 الترمذي: الأطعمة (1858) , وأبو داود: الأطعمة (3767) , وابن ماجة: الأطعمة (3264) , وأحمد (6/143) , والدارمي: الأطعمة (2020) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 إلا ثلاث أصابع. وسئل عن: حديث عائشة: "لا تقطعوا اللحم بالسكين"؟ 1 فقال: ليس بصحيح، وحديث عمرو بن أمية بخلافه: "كان يحتز من لحم الشاة، فقام إلى الصلاة وطرح السكين". 2 وسئل عن: حديث: "اكفف جشاءك! فإن أكثر الناس شبعاً اليوم أكثرهم جوعاً يوم القيامة"؟ فقال: ليس بصحيح. و"لم يكن صلى الله عليه وسلم ينفخ في طعام ولا شراب، ولا يتنفس في الإناء". وسئل أحمد عن: غسل اليد بالنخالة؟ فقال: لا بأس به. وسئل عن: الرجل يأتي القوم وهم على طعام فجأة فدعوه، يأكل؟ قال: نعم، وما بأس. ولأبي داود عن جابر، مرفوعاً: "أثيبوا أخاكم. قيل: يا رسول الله، وما إثابته؟ قال: إن الرجل إذا دخل بيته وأكل طعامه وشرب شرابه، فادعوا له؛ فذلك إثابته" 3. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قوله: وما يأكل الجيف، وعنه: يكره. وجعل الشيخ روايتي الجلالة فيه، وقال: عامة أجوبة أحمد ليس فيها تحريم. وقال: إذا كان ما يأكلها من الدواب السباع فيه نزاع أو لم يحرموه، والخبر في الصحيحين، فمن الطير أولى. قوله: وما يستخبث. قال الشيخ: وعند أحمد وقدماء الأصحاب لا أثر لاستخباث العرب وإن لم يحرمه الشرع حل، واختاره. وقال: أول من قال يحرم الخرقي، وإن مراده: ما يأكل الجيف، لأنه تبع الشافعي وهو حرّمه بهذه العلة. ويباح أكل دود الفاكهة معها. وعلل أحمد القنفذ بأنه بلغه أنه مسخ، أي لما مسخ على صورته دل على خبثه، قاله الشيخ. وقال أحمد عن تفتيش التمر المدوّد: لا بأس به إذا علمه. ويجوز أن يعلف النجاسة الحيوان   1 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2130) . 2 البخاري: الوضوء (208) , ومسلم: الحيض (355) , والترمذي: الأطعمة (1836) , والدارمي: الطهارة (727) . 3 أبو داود: الأطعمة (3853) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 الذي لا يذبح أو لا يحلب قريباً، واحتج أحمد بكسب الحجام، والذين عجنوا من آبار ثمود. وعن أحمد: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أذن القلب"، وكره أكل الغدة. وكره أحمد حباً ديس بالحمر. ويجب تقديم السؤال عن الأكل المحرم، وقال الشيخ: لا يجب ولا يأثم. قوله: وإن لم يجد إلا طعاماً لم يبذل، فإن كان مالكه مضطراً فهو أحق به، وهل له الإيثار؟ ذكر في الهدي في غزوة الطائف: أنه يجوز، وأنه غاية الجود. قوله: وإلا لزمه بذله بقيمته. واختار الشيخ: يجب بذله مجاناً كالمنفعة. والواجب للضيف كفايته، وأوجب الشيخ المعروف عادة، قال: كزوجة وقريب. قال: ومن امتنع من الطيبات بلا سبب شرعي، فمذموم مبتدع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 باب الذكاة لا يباح المقدور عليه بغير ذكاة، إلا الجراد وشبهه، وما لا يعيش إلا في الماء، وكره الطافي طاووس وغيره. ولنا: قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم} 1 قال ابن عباس: "طعامه ما مات فيه"، وما رواه أبو داود عن جابر، مرفوعاً: "ما مات فيه وطفا، فلا تأكلوه"، 2 فهو موقوف عليه، قاله أبو داود. وعن أحمد: لا يؤكل الجراد إلا أن يموت بسبب، وسهل أحمد في إلقاء الجراد في النار. ويشترط للذكاة أربعة شروط: (أحدها) : أهلية الذابح، وهو أن يكون عاقلاً، مسلماً أو كتابياً. وقال الشافعي: لا يعتبر العقل. (الثاني) : الآلة، وهو أن يذبح بمحدود، من حديد أو حجر أو قصب أو غيره، إلا السن والظفر؛ فأما العظم غير السن، فمقتضى إطلاق أحمد والشافعي: أنه يجوز، وقال النخعي: لا يذكى بالعظم، لقوله: "أما السن فعظم". (الثالث) : قطع الحلقوم والمريء، وعنه: والودجين؛ وبه قال مالك، لحديث أبي هريرة: "نهى عن شريطة الشيطان" 3 الحديث، وهو محمول على من لم يقطع المريء. ولا خلاف في استحباب نحر الإبل، وذبح ما سواها،   1 سورة المائدة آية: 96. 2 أبو داود: الأطعمة (3815) , وابن ماجة: الصيد (3247) . 3 أبو داود: الضحايا (2826) , وأحمد (1/289) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، 1 وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ؛ 2 فإن ذبح الإبل ونحر ما سواها أجزأ، في قول الأكثر. وحكي عن داود: لا يباح. وحكي عن مالك: لا يجزئ في الإبل إلا النحر. ولنا: قوله: "أمرر الدم بما شئت". وقال ابن المنذر: أجمعوا على إباحة ذبيحة المرأة والصبي. فإن عجز عن الذكاة، مثل أن يند البعير، أو يتردى في بئر فلا يقدر على ذبحه، كالصيد إذا جرحه في أي موضع أمكن فقتله حل، إلا أن يموت بغيره، هذا قول الأكثر. وقال مالك: لا يحل إلا أن يذكَّى. قال أحمد: لعل مالكاً لم يسمع حديث رافع، وهو الذي فيه: "ما غلبكم فاصنعوا هكذا". متفق عليه. وإن ذبحها من قفاها وهو مخطئ فأتت السكين على موضع ذبحها وهي في الحياة أكلت، وإن فعله عمداً فعلى وجهين: قيل: لا تؤكل، حكي عن مالك وإسحاق، وعنه: ما يدل على إباحتها مطلقاً، فإنه قال: "لو ضرب رأس بطة بالسيف أو شاة يريد بذلك الذبيحة، كان له أن يأكل". وروي عن علي وعمران بن حصين، وبه قال الثوري. والمنخنقة والموقوذة ونحوها، وما أصابها مرض فماتت بذلك، فهي حرام، إلا أن تدرك ذكاتها، لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} ؛ 3 فإن أدركها وفيها حياة مستقرة بحيث يمكن ذبحها، حلت لعموم الآية. قال ابن عباس في ذئب عدا على شاة فوضع قصبها بالأرض، فأدركها فذبحها بحجر، قال: "يلقي   1 سورة الكوثر آية: 2. 2 سورة البقرة آية: 67. 3 سورة المائدة آية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 ما أصاب الأرض منها ويأكل سائرها"، قال أحمد: إذا مصعت بذنبها، وطرفت بعينها، وسال الدم، فأرجو. وعنه: إذا شق الذئب بطنها وخرج قصبها لا يؤكل، وهذا قول أبي يوسف؛ والأول أصح، لعموم الآية، و"لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل في حديث جارية كعب". (الرابع) : أن يذكر اسم الله عز وجل عند الذبح فيقول: "بسم الله"، لا يقوم غيرها مقامها. وثبت "أنه صلى الله عليه وسلم يقول: بسم الله والله أكبر". ولا خلاف أن التسمية تجزئ. وإن سبح أو هلل أو كبر أو حمد، احتمل الإجزاء وعدمه. والأخرس يومئ برأسه إلى السماء، قال ابن المنذر: أجمعوا على إباحة ذبيحة الأخرس، يدل عليه حديث: "الأعجمية لما قال لها: أين الله؟ أشارت برأسها إلى السماء ". قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً كره ذبيحة الجنب. فإن ترك التسمية عمدًا لم تبَح، وإن تركها ساهياً أبيحت، وعنه: لا تباح، وعنه: تباح في الحالين. المشهور عن أحمد: "أنها شرط، تسقط بالسهو". روي عن ابن عباس؛ وبه قال مالك وإسحاق والثوري، وعنه: ليست شرطاً في عمد ولا سهو، وبه قال الشافعي. قال أحمد: "إنما قال الله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} ، 1 يعني: الميتة"، وذكر ذلك عن ابن عباس. وعنه: تجب في العمد والسهو، للآية، وهي محمولة على العمد، لقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} . 2وإن لم يعلم أسمّى الذابح أم لا، فهي حلال. وذكاة الجنين ذكاة أمه إذا خرج ميتا أو تحرك حركة المذبوح، وإن   1 سورة الأنعام آية: 121. 2 سورة الأنعام آية: 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 كان فيه حياة مستقرة لم يبح إلا بذبحه، أشعر أو لا. قال ابن المنذر: كان الناس على إباحته، لا نعلم أحداً خالف ما قالوا، إلى أن جاء النعمان فقال: لا يحل، لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة لنفسين. و"استحب أحمد ذبحه إذا خرج ميتاً ليخرج الدم الذي في جوفه"، وذكر ذلك عن ابن عمر. ويستحب أن يستقبل بها القبلة. و"كره ابن عمر أكل ما ذبح لغير القبلة"، والأكثرون على أنه لا يكره. ويكره الذبح بآلة كالّة، لقوله: "إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" 1 الحديث. ويكره أن تحد السكين والحيوان يبصره، "ورأى ابن عمر رجلاً وضع رجله على شاة وهو يحد السكين، فضربه". ويكره أن يذبح شاة والأخرى تنظر إليه، وأن يكسر العنق أو يسلخ حتى تبرد. قال عمر: "لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق". قال البخاري: قال ابن عمر وابن عباس: "إذا قطع الرأس فلا بأس به، فأما إن قطع شيئاً من الحيوان وفيه حياة مستقرة، فهو ميتة". قال أحمد: لا تؤكل المصبورة ولا المجثومة التي يجعل فيها الروح غرضاً، والمصبورة مثله، إلا أن المجثومة لا تكون إلا في الطائر والأرنب وشبهها. ومن ذبح حيواناً فوجد في بطنه جراداً لم يحرم، وعنه: يحرم، وقال في موضع آخر: "رخص أبو بكر الصديق في الطافي"، وهذا أشد، يعني: الجراد. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": ذكر الشيخ: لو لم يقصد الأكل، أو قصد حل ميتة، لم يبح، نقل صالح وجماعة اعتبار إرادة التذكية. وقال الشيخ: "كل من تديّن بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده قد دخل في دينهم أو لا، وسواء كان دخوله   1 مسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) , والترمذي: الديات (1409) , والنسائي: الضحايا (4405, 4411, 4412, 4413, 4414) , وأبو داود: الضحايا (2815) , وابن ماجة: الذبائح (3170) , وأحمد (4/123, 4/124, 4/125) , والدارمي: الأضاحي (1970) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 بعد النسخ والتبديل أو قبله"، وهو المنصوص عن أحمد، وهو الثابت عن الصحابة بلا نزاع بينهم. وذكر الطحاوي أنه إجماع قديم. وقال ابن القيم بعد ذكر قوله: "ليس السن والظفر": هذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام، إما لنجاسة بعينها وإما لتنجيسه على مؤمني الجن. وذكر الشيخ وجهاً: يكفي قطع ثلاثة من الأربعة، وقال: إنه الأقوى. وسئل: عمن قطع الحلقوم والودجين لكن فوق الجوزة؟ فقال: هذه فيها نزاع، والصحيح: أنها تحل. وقال بعد ذكر كلامهم في شروط تذكية المريضة ونحوها: الأظهر أنه لا يشترط شيء من هذه الأقوال، بل متى ذبح فخرج الدم الأحمر الذي يخرج من المذكى في العادة ليس هو دم الميت، فإنه يحل أكله وإن لم يتحرك. وقال في موضع آخر: يحل إذا ذكّي قبل موته. وقال: الإحسان واجب على كل حال حتى في حال إزهاق النفوس، ناطقها وبهيمها. وقال: تحرم ذبيحة الكتابي إذا ذبحها لغير الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 كتاب الصيد الأصل في إباحته: الكتاب والسنة والإجماع. من صاد صيداً فأدركه حياً حياة مستقرة، لم يحل إلا بالذكاة. فإن كان الزمان لا يتسع لذكاته فمات، حلَّ، قال قتادة: يأكله ما لم يتوانَ في ذكاته أو يتركه عمداً. وقال أبو حنيفة: لا يحل، فإن لم يجد ما يذكيه به أرسل الصائد له حتى يقتله. وعنه: لا يحل، وهو قول الأكثر. وإن أدركه متحركاً كحركة المذبوح، لم يحتج إلى ذكاة. ومتى أدركه ميتاً [حلَّ] 1 بشروط أربعة: (أحدها) : أن يكون من أهل الذكاة، وما لا يفتقر إلى ذكاة كالحوت والجراد فيباح إذا صاده من لا تحل ذبيحته، إجماعاً، إلا أن مالكاً والليث وأبا ثور شذوا في الجراد. فلم ير أكله إذا صاده المجوسي: مالك والليث، وأباح أبو ثور صيد المجوسي وذبيحته. وإن أرسل كلبه المعلّم فاسترسل معه معلم آخر بنفسه، لم يحل في قول الأكثر. (الثاني) : الآلة، وهي نوعان: محدود، فيشترط له ما يشترط لآلة الذكاة، ولا بد أن يجرحه. فإن [قتله] 2 بثقله لم يبح، لأنه وقيذ. وإن صاد   1 من النسخة الخطية. 2 من النسخة الخطية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 بالمعراض، أكل ما قتل بحده دون عرضه. المعراض: عود محدد ربما جعل في رأسه حديدة. وقال الأوزاعي وأهل الشام: يباح ما قتل بحده وعرضه. ولنا: حديث عدي، متفق عليه. وإن رمى صيداً فغاب، ثم وجده ميتاً لا أثر به غير سهمه، حلّ. وعنه: إن كان الجراح موجبة حل، وإلا فلا. وعنه: إن وجده من يومه حل، وإلا فلا. وكره الثوري أكل ما غاب لأن ابن عباس قال: "كل ما أصميت، وما أنميت فلا تأكل". الإصماء: أن يموت في الحال، والإنماء: أن يغيب عنك. ولنا: حديث عدي، متفق عليه. وإن ضربه فأبان منه عضواً وبقيته فيه حياة مستقرة، لم يبح ما أبان منه، وإن بقي معلقا بجلده حل. وإن أبانه ومات في الحال، حلّ الجميع. قال أحمد: قوله: " ما أبين من حيّ فهو كميته ": 1 إذا قطعت وهي حيّة تمشي وتذهب. النوع الثاني: الجارحة، فيباح ما قتلته إذا كانت معلّمة، إلا الكلب الأسود البهيم، والبهيم: الذي لا يخالط لونه سواد. قال أحمد: ما أعلم أحداً يرخص فيه، يعني: من السلف. وأباح صيده: مالك والشافعي، لعموم الآية والخبر. ولنا: أنه محرم اقتناؤه وتعليمه، فلم يبَح. والذي يصيد بنابه، تعليمه: أن يسترسل إذا أُرسل وينزجر إذا زُجر، وإذا أُرسل لم يأكل. وعن مالك: لا يشترط الأكل، لحديث أبي ثعلبة: "إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله عليه، فكُلْ، وإن أكل ". 2 رواه أبو داود. ولنا: حديث عدي، وهو أولى لأنه أصح. والانزجار إنما يعتبر قبل إرساله على الصيد أو رؤيته، أما بعد ذلك فلا يعتبر. قال شيخنا: ولا أحسب هذه الخصال تعتبر في غير الكلب، لأن الفهد لا يكاد يجيب داعياً وإن عد متعلماً، فيكون التعليم في حقه بما يعدّه أهل العرف معلماً. "فإن أكل بعد تعلّمه لم يبَح   1 ابن ماجة: الصيد (3217) . 2 البخاري: الوضوء (175) والبيوع (2054) والذبائح والصيد (5475, 5476, 5477, 5483, 5485, 5486, 5487) والتوحيد (7397) , ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) , والترمذي: الصيد (1465, 1469, 1470, 1471) , والنسائي: الصيد والذبائح (4263, 4264, 4265 4267، 4268، 4269، 4270، 4272، 4273، 4274، 4275) ، وأبو داود: الصيد (2847) , وابن ماجة: الصيد (3208, 3212, 3213, 3214, 3215) , وأحمد (4/256, 4/257, 4/258, 4/376, 4/379, 4/380) , والدارمي: الصيد (2002) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 ما أكل منه"، فيروى عن ابن عباس وغيره. وعنه: "يحل"، روي عن ابن عمر وغيره، وبه قال مالك، لعموم الآية. والآية لا تتناول هذا، لأنه أمسك على نفسه، وحديث أبي ثعلبة قال أحمد: يختلفون عن هشيم فيه، وقال: حديث الشعبي هذا أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: حديث عدي. الشعبي يقول: كان جاري وربيطي فحدثني. وإن شرب من دمه لم يحرم، وكرهه الثوري. ولنا: عموم الآية والأخبار. وكل ما يقبل التعليم ويمكن الاصطياد به من سباع البهائم وجوارح الطير حكمه حكم الكلب، وحكي عن ابن عمر: "لا يجوز الصيد إلا بالكلب لقوله: {مُكَلِّبِينَ} ". ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن: صيد البازي؟ فقال: "إذا أمسك عليك، فكلْ". 1 والجوارح في الآية: الكواسب، قال الله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} ، 2 والتكليب: الإغراء. ولا يعتبر في الطير ترك الأكل، وقال الشافعي: يعتبر. ولنا: إجماع الصحابة، فذكرنا "عن أربعة منهم إباحة ما أكل [منه] 3 الكلب، وخالفهم ابن عباس في الكلب ووافقهم في الصقر قال: لأنك تستطيع أن تضرب الكلب، ولا تستطيع أن تضرب الصقر"، ولم ينقل عن أحد في عصرهم خلافهم. وحديث مجالد: "إن أكل الكلب والبازي فلا تأكل"، فمجالد ضعيف، قال أحمد: كم من أعجوبة لمجالد! ولا بد أن يجرح. وقال الشافعي: يباح، لعموم الآية والخبر. ولنا: أن الله حرم الموقوذة، وقوله: "ما أنهر الدم". وهل يجب غسل ما أصاب فم الكلب؟ على وجهين.   1 البخاري: الذبائح والصيد (5475) , ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) , والترمذي: الصيد (1465, 1469, 1470, 1471) , والنسائي: الصيد والذبائح (4263, 4264, 4265, 4267, 4268, 4269, 4270, 4272, 4273, 4274, 4275) , وأبو داود: الصيد (2847, 2848، 2849، 2850، 2851، 2853، 2854) ، وابن ماجة: الكفارات (2113) والصيد (3208, 3212, 3214, 3215) , وأحمد (4/256, 4/257, 4/376, 4/377, 4/378) , والدارمي: الصيد (2002) . 2 سورة الأنعام آية: 60. 3 زيادة من المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 (الثالث) : أن يرسل الآلة، فإن استرسل بنفسه لم يبح وإن زجره، إلا أن يزيد عَدْوَه بزجره فيحل، وبه قال مالك والشافعي. وقال الأوزاعي: يؤكل إذا جرح. وقال إسحاق: يؤكل إذا سمى عند انفلاته. ولنا: قوله: "إذا أرسلت كلبك". (الرابع) : التسمية، وهي شرط لإباحة الصيد، ولا تسقط سهواً؛ وهو قول الشعبي وأبي ثور. وأباحه مالك مع النسيان، وعنه: إن نسي على السهم أبيح دون الجارحة. وكره الشيخ الرمي بالنبل، لـ"نهي عثمان عنها"، قاله في الإنصاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 كتاب الأيمان الأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع. لا تصح اليمين من غير مكلف، ولا تنعقد يمين مكره، وبه قال مالك والشافعي. وتصح من كافر، وتلزمه الكفارة بالحنث. وقال الثوري: لا تنعقد. ولنا: "أن عمر نذر في الجاهلية أن يعتكف فأمر بالوفاء به"، ولأنه من أهل القسم، لقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} 1. والأيمان خمسة: (أحدها) : واجب، وهي التي ينجي بها إنساناً معصوماً من هلكة. (والثاني) : مندوب، وهو ما تعلق به مصلحة من إصلاح أو دفع شر. (الثالث) : المباح، مثل الحلف على فعل مباح أو تركه. (الرابع) : مكروه، [وهو الحلف على مكروه] ، 2 وتركه مندوب، لقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} الآية. 3 والحلف في البيع والشراء، لقوله: "الحلف مَنْفَقَة للسلعة ... إلخ" 4. (الخامس) : المحرّم، وهو الحلف الكاذب. ومتى كانت اليمين على فعل واجب أو ترك محرّم حرم حلّها. وإن كانت على مندوب كره. وإن كانت على مباح فيباح. فإن قيل: كيف يباح وقد قال تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا   1 سورة المائدة الآية رقم: 106. 2 زيادة من المخطوطة. 3 سورة البقرة آية: 224. 4 البخاري: البيوع (2087) , ومسلم: المساقاة (1606) , والنسائي: البيوع (4461) , وأبو داود: البيوع (3335) , وأحمد (2/235, 2/242, 2/413) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} ؟ 1 قلنا: هذا في الأيمان في العهود والمواثيق، بدليل قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 2 - إلى قوله - {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} . 3 والعهد يجب الوفاء به بغير يمين، فمع اليمين أولى، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} ، 4 وقال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، 5 ولهذا نهى عن نقض اليمين، والنهي يقتضي التحريم، وذمهم عليه، ومثّله بالتي نقضت غزلها. ولا خلاف أن الحل المختلف فيه لا يدخله شيء من هذا. وإن كانت على فعل مكروه أو ترك مندوب فحلها مندوب، لقوله: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً، فكفِّر ... إلخ". 6 وإن كانت على فعل محرم أو ترك واجب، وجب حلها. واليمين التي تجب بها الكفارة هي اليمين بالله، أو صفة من صفاته. ولا نعلم خلافاً في وجوب الكفارة إذا حلف باسم الله لا يسمَّى به سواه، وأما ما يسمَّى به غيره وإطلاقه ينصرف إلى الله، كالعظيم والرحيم والرب والمولى، فإن نوى اسم الله أو أطلق كان يميناً؛ وهذا مذهب الشافعي. وأما ما لا يعدّ من أسمائه، كالعالم والشاكر، فإن لم ينو به الله أو نوى غيره لم يكن يميناً، وإن نواه كان يميناً. فيختلف هذا والذي قبله في الإطلاق: ففي الأول يكون يميناً، وفي الثاني لا يكون. وقال الشافعي في هذا القسم: لا يكون يميناً وإن قصد به الله. وإن قال: "وحق الله"، فهي يمين مكفرة، وبه قال مالك   1 سورة النحل آية: 91. 2 سورة النحل آية: 91. 3 سورة النحل آية: 92. 4 سورة النحل آية: 91. 5 سورة المائدة الآية رقم: 1. 6 البخاري: الأيمان والنذور (6622) , ومسلم: الأيمان (1652) , والترمذي: النذور والأيمان (1529) , والنسائي: الأيمان والنذور (3782, 3783, 3784) وآداب القضاة (5384) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2929) والأيمان والنذور (3277) , وأحمد (5/61, 5/62, 5/63) ، والدارمي: النذور والأيمان (2346) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا، وحق الله: طاعته. ولنا: أن له حقوقاً يستحقها لنفسه، من البقاء والعظمة والجلال. وقد اقترن العرف بالحلف بها، فينصرف إلى صفة الله. وإن قال: "وعهد الله" فيمين، وبه قال مالك. وقال ابن المنذر: لا، إلا بالنية. وقال أبو حنيفة: ليس بيمين. ولنا: أن عهد الله يحتمل كلامه الذي هو صفته، وقد ثبت له عرف الاستعمال. وإن قال: "وأمانة الله: فيمين، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا تنعقد إلا أن ينوي صفة الله، لأنها تطلق على الفرائض والودائع والحقوق. ولنا: أن أمانة الله صفة من صفاته. والقسم بالصفات ينقسم كالقسم بالأسماء، ثلاثة أقسام: (أحدها) : ما لا يحتمل غير الذات، كعزة الله وعظمته وجلاله، فتنعقد بها اليمين، في قولهم جميعاً. وورد القسم بها، كقول الخارج من النار: "وعزّتك لا أسأل غيرها"، 1 وفي القرآن: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 2. (الثاني) : صفة للذات، إلا أنه يعبر به عن غيرها، كعلم الله وقدرته، كقولهم: اللهم اغفر لنا علمك فينا، اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك. فالقسم بهذا يمين. وقال أبو حنيفة: إذا قال: "وعلْم الله" ليس يمينا. (الثالث) : ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله، لكن ينصرف بإضافته إليه لفظاً أو نية، كالعهد والميثاق والأمانة، فلا يكون يميناً إلا بإضافته أو نيته. ويكره الحلف بالأمانة، لقوله: "من حلف بالأمانة فليس منّا". 3 رواه أبو داود. وإن قال: "لعمرو الله" كان يميناً، وقال الشافعي: لا، إلا أن يقصد اليمين،   1 البخاري: الأذان (806) , ومسلم: الإيمان (182, 183, 185, 194) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) وتفسير القرآن (3148) , والنسائي: التطبيق (1140) , وابن ماجة: الزهد (4280, 4309) , وأحمد (2/275, 3/5, 3/11, 3/20, 3/25, 3/48, 3/56, 3/77, 3/90، 3/94) ، والدارمي: الرقاق (2801, 2803, 2817) . 2 سورة ص آية: 82. 3 أبو داود: الأيمان والنذور (3253) , وأحمد (5/352) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 لأنها لا تكون يميناً إلا بتقدير خبر محذوف، كأنه قال: "لعمرو الله ما أقسم به" فيكون مجازاً، والمجاز لا ينصرف إليه الإطلاق. ولنا: أنه أقسم بصفة، وقيل: معناه: "وحق الله". وإن قال: "لعمري"، أو "لعمرك" فليس بيمين، في قول الأكثر. وقال الحسن: في قول: "لعمري" كفارة. وإن حلف بكلام الله أو بالمصحف أو بالقرآن، فيمين فيها كفارة واحدة، وعنه: بكل آية كفارة. وكان قتادة يحلف بالمصحف، ولم يكرهه أحمد وإسحاق، لأنه قصد الحلف بالمكتوب فيه. وإن قال: "أحلف بالله" أو "أشهد بالله" أو "أقسم لله" أو "أعزم بالله" كان يميناً، لا نعلم فيه خلافاً؛ قال الله: {فيقسمان بالله} ، 1 ويقول الملاعن: "أشهد بالله". وإن لم يذكر اسم الله لم يكن يميناً، وعنه: يكون يمينا. وقال الشافعي: ليس بيمين وإن نوى. ولنا: قوله لأبي بكر: "لا تقسم بالله"، لما قال: أقسمت عليك". وحروف القسم ثلاثة: (الباء) : وتدخل على المظهر والمضمر، كقولك: "بالله وبك". و (الواو) : وتدخل على المظهر خاصة. و (التاء) : وتختص باسم الله دون سائر الأسماء الحسنى. ويجوز القسم بغير حرف، كقوله: الله لأفعلنَّ، بالجر والنصب، وكذا بالرفع، إلا أن يكون من أهل العربية ولا ينوي. وإن قال: "لاها الله"، ونوى اليمين كان يميناً، لقول أبي بكر في سلب أبي قتادة. ويكره [الحلف] 2 بغير الله، ويحتمل أن يكون محرماً. قال ابن عبد البر: هذا أمر مجمع عليه. وقيل: يجوز لأن الله أقسم بمخلوقاته، وقوله: "أفلح وأبيه، إن صدق"، 3 وقوله في حديث أبي العشراء: "وأبيك، لو طعنت   1 سورة المائدة آية: 106. 2 من المخطوطة. 3 البخاري: الإيمان (46) , ومسلم: الإيمان (11) , والنسائي: الصلاة (458) والصيام (2090) والإيمان وشرائعه (5028) , وأبو داود: الصلاة (391) والأيمان والنذور (3252) , وأحمد (1/162) , ومالك: النداء للصلاة (425) , والدارمي: الصلاة (1578) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 في فخذها أجزأك". 1 ولنا: قوله: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت". 2 متفق عليه. وعن ابن عمر، مرفوعاً: " من حلف بغير الله فقد أشرك". 3 حسّنه الترمذي. فأما قسم الله فله أن يقسم بما شاء ولا وجه للقياس. وأما قوله: "أفلح وأبيه"، فقال ابن عبد البر: هذه لفظة غير محفوظة من وجه صحيح. وحديث أبي العشراء، قال أحمد: لو كان يثبت، يعني: أنه لم يثبت. والحلف بغير الله تعظيم يشبه تعظيم الرب تبارك وتعالى، ولهذا سمي شركاً. ويشترط لوجوب الكفارة ثلاثة شروط: (أحدها) : أن [تكون] 4 اليمين منعقدة، وهي التي يمكن فيها البر والحنث. قال ابن عبد البر: اليمين التي فيها الكفارة بالإجماع التي على المستقبل، كمن حلف ليضربنّ غلامه أو لا يضربه. وذهبت طائفة إلى أن الحنث إذا كان طاعة لا يوجب الكفارة. وقال قوم: من حلف على فعل معصية فتركُها كفّارتها، قال سعيد بن جبير: اللغو: أن يحلف على ما لا ينبغي، يعني: لا كفارة. ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب، وفيه: "تركها كفّارتها"، ولنا: قوله: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراَ منها، فليأت الذي هو خير، وليكفِّر"، 5 وحديث أبي موسى أخرجه البخاري. وحديثهم لا يعارض، لأن أحاديثنا أصح وأثبت. ويحتمل أن تركها كفارة لإثم الحلف. واليمين الغموس لا كفارة لها، في قول الأكثر. فإن حلف على غيره فأحنثه، فالكفارة على الحالف. وإن قال: "أسألك بالله لتفعلنّ" وأراد اليمين فيمين، وإن أراد الشفاعة فليس بيمين.   1 الترمذي: الأطعمة (1481) , والنسائي: الضحايا (4408) , وأبو داود: الضحايا (2825) , وابن ماجة: الذبائح (3184) , وأحمد (4/334) , والدارمي: الأضاحي (1972) . 2 البخاري: الأيمان والنذور (6646) , ومسلم: الأيمان (1646) , والترمذي: النذور والأيمان (1533, 1534, 1535) , والنسائي: الأيمان والنذور (3766, 3767, 3768) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3249) , وابن ماجة: الكفارات (2094) , وأحمد (2/7, 2/8, 2/11, 2/17, 2/20، 2/34، 2/69، 2/76، 2/86، 2/98، 2/125، 2/142) ، ومالك: النذور والأيمان (1037) , والدارمي: النذور والأيمان (2341) . 3 سنن الترمذي: كتاب النذور والأيمان (1535) , وسنن أبي داود: كتاب الأيمان والنذور (3251) , ومسند أحمد (2/67, 2/69, 2/86, 2/125) . 4 من المخطوطة. مسلم: الأيمان (1650) , والترمذي: النذور والأيمان (1530) , ومالك: النذور والأيمان (1034) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 ولغو اليمين: أن يحلف على شيء يظنه فيبين بخلافه، وأكثر أهل العلم على عدم الكفارة، وعنه: ليس من اللغو، وفيه الكفارة. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن لغو اليمين لا كفارة فيه. (الثاني) : أن يكون مختاراً لا مكرهاً، وبه قال مالك والشافعي. وإن سبقت اليمين على لسانه لا يعقد عليها قلبه، فلا كفارة، وممن قال: "إنها لغو اليمين": عمر وعائشة وغيرها. (الثالث) : أن يفعل أو يترك ما حلف على فعله أو تركه ذاكراً، فإن نسي فلا كفارة، وعنه: بلى. وظاهر المذهب: الأولى، إلا في الطلاق والعتاق، وعنه: لا يحنث فيهما أيضاً. وهو قول عطاء وإسحاق وظاهر مذهب الشافعي. والجاهل كالناسي. فإن حلف فقال: "إن شاء الله" لم يحنث إذا اتصل باليمين، وبه قال مالك وغيره. وعنه: يجوز إن لم يطل الفصل، لقوله: "والله لأغزونّ قريشاً، ثم سكت. ثم قال: إن شاء الله". 1 وعن الحسن وعطاء: [يصح] 2 ما دام في المجلس. ويشترط أن يستثني بلسانه، لا نعلم فيه خلافاً. ويشترط: قصد الاستثناء، وهو مذهب الشافعي، ويصح في كل يمين مكفرة، كالظهار والنذر. و"إن حرَّم أمته أو شيئاً من الحلال، لم يحرم، وعليه كفارة يمين"، يروى عن أبي بكر وعمر وغيرهما. وقال مالك والشافعي: لا كفارة عليه. ولنا: قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآيتين. 3 وإن قال: هو   1 أبو داود: الأيمان والنذور (3285) . 2 من المخطوطة. 3 سورة التحريم آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 يهودي أو بريء من الإسلام أو النبي إن فعل، فقد فعل محرّماً، لقوله: "من حلف على ملة غير الإسلام كاذباً متعمداً، فهو كما قال"، 1 وفي لفظ: "وإن كان صادقاً، لم يرجع إلى الإسلام سالماً"، 2 وعليه كفارة إن فعل، وعنه: لا كفارة؛ وهو قول مالك والشافعي. وإن قال: عليَّ نذر أو يمين إن فعلت كذا، فعليه كفارة، لقوله: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين ". 3 صححه الترمذي. والكفارة تجمع تخييراً وترتيباً: فالتخيير: بين الإطعام والكسوة والتحرير. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة قبل الحنث أو بعده. وعنه: لا يشترط التتابع، لأنه لم يذكر؛ والأول ظاهر المذهب، لأن في قراءة أبيّ وابن مسعود "ثلاثة أيام متتابعات"، وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ قبل [الحنث] . 4 والأول قول أكثر أهل العلم، روي عن عمر وابنه وغيرهما. قال ابن عبد البر: العجب من أصحاب أبي حنيفة، أجازوا تقديم الزكاة من غير أن يرووا فيها مثل هذه الآثار في تقديم الكفارة، وأبَوْه في الكفارة مع كثرة الرواية فيها؛ والحجة في السنة ومن خالفها محجوج بها. ومن كرر أيماناً قبل التكفير، فكفارة واحدة، وعنه: لكل يمين كفارة. وإذا قال: "حلفت" ولم يحلف، فقال أحمد: هي كذبة لا يمين، وعنه: عليه كفارة. وثبت "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإبرار المقسم أو القسم"، وهذا، والله أعلم، على الندب، بدليل قوله لأبي بكر: "لا تقسم". ويحتمل أن يجب إذا لم يكن فيه ضرر، وامتناعه من إبرار أبي بكر للضرر. ويستحب إجابة من حلف بالله، لقوله: "من استعاذ بالله فأعيذوه" 5 الحديث، رواه النسائي.   1 البخاري: الأدب (6047) , ومسلم: الإيمان (110) , والترمذي: النذور والأيمان (1543) , والنسائي: الأيمان والنذور (3770, 3771, 3813) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3257) , وابن ماجة: الكفارات (2098) , وأحمد (4/33, 4/34) . 2 البخاري: الصوم (1900) , وأحمد (2/145) , والدارمي: الصوم (1684) . 3 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/395, 2/491, 2/499) . 4 من المخطوطة. 5 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الأدب (5109) , وأحمد (2/68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 باب جامع الأيمان يرجع في الأيمان إلى النية، فإن لم تكن، رجع إلى سبب اليمين، مثل أن ينوي بالعامِّ الخاصَّ أو عكسه، وبه قال مالك. وقال الشافعي: لا عبرة بالنية والسبب فيما خالف اللفظ. ولنا: قوله: " وإنما لكل امرئ ما نوى". 1 فإن لم تكن له نية، رجع إلى السبب. فإذا حلف ليقضينه غداً فقضاه، لم يحنث إذا قصد ألا يتجاوزه، وقال الشافعي: يحنث. وإذا حلف أن لا يشرب له الماء من العطش، يقصد قطع منته، حنث بأكل خبزه وكل ما فيه المنة، لقوله تعالى: {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} 2 أي: لا تظلمون شيئاً.   1 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25) . 2 سورة النساء آية: 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 باب النذر الأصل فيه: الكتاب والسنة والإجماع. لا يستحب النذر، للنهي عنه، وهو نهي كراهة لا تحريم، لأنه مدَح الموفين به. والنذر كاليمين، وموجبه موجبها، إلا في لزوم الوفاء به إذا كان قربة، دليله: قوله لمن نذرت المشي ولم تطقه: "ولتكفّر يمينها"، وفي رواية: "ولتصم ثلاثة أيام". 1 قال أحمد: إليه أذهب. ولمسلم عن عقبة، مرفوعاً: "كفارة النذر كفارة يمين"، 2 وقال ابن عباس للتي نذرت ذبح ابنها: "كفّري يمينك". فإن قال: "لله عليّ نذر" وجب به كفّارة يمين، في قول الأكثر، لا نعلم فيه مخالفاًً، إلا الشافعي فقال: لا تنعقد. ولنا: حديث عقبة المتقدم، وفيه: "إذا لم يسمّ". ونذر اللجاج والغضب الذي يقصد به الحض والمنع، فهي يمين يخيّر بين فعله وبين كفارة يمين، لحديث عمران، رفعه: "لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين". 3 رواه سعيد. وعن أحمد: أن الكفارة تتعين للخبر. ونذر المباح يخيّر بين فعله والكفارة، وقال مالك والشافعي: لا ينعقد، لحديث: "لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله"، 4 ولحديث أبي اسرائيل رواه البخاري، وحديث المرأة التي نذرت أن تمشي إلى البيت، فقال: "مروها أن تركب". صححه الترمذي، وحديث الأنصاري الذي نذر مثلها متفق عليه، ولم يأمره بالكفارة. ولنا: ما تقدم من نذر الغضب، وحديث المرأة، فعند   1 البخاري: الحج (1866) , ومسلم: النذر (1644) , والترمذي: النذور والأيمان (1544) , والنسائي: الأيمان والنذور (3814, 3815) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3293) , وابن ماجة: الكفارات (2134) , وأحمد (4/143, 4/145, 4/149, 4/151, 4/201) , والدارمي: النذور والأيمان (2334) . 2 مسلم: النذر (1645) , والترمذي: النذور والأيمان (1528) , والنسائي: الأيمان والنذور (3832) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3323) , وأحمد (4/144, 4/146, 4/147, 4/148, 4/156) . 3 النسائي: الصيام (2116) , وأحمد (4/321) . 4 البخاري: الصوم (1960) , ومسلم: الصيام (1136) , وأحمد (6/359) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 أبي داود: "أنه أمرها بالكفارة"، ويكون الراوي ذكر البعض وترك البعض، أو ترك ذكر الكفارة إحالة على ما علم. فإن نذر مكروهاً كالطلاق فهو مكروه، ويستحب أن يكفّر ولا يفعل، والخلاف فيه كالذي قبله. فإن نذر معصية لم يجز الوفاء به ويكفّر، إلا أن ينذر ذبح ولده، فعليه كفارة، وعنه: ذبح كبش. وقال الشافعي: لا كفارة فيه. ولنا: قوله: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". ورواه أبو داود والترمذي وقال: غريب رواه سعيد، ولحديث: "النذر حلفة، وكفارته كفارة يمين". ولو نذر الصدقة بكل مالِه أخرج ثلثه، ولا كفارة عليه. وبه قال مالك. وقال ربيعة: يتصدق بقدر الزكاة. وقال الشافعي: يتصدق بماله كله. ولنا: حديث أبي لبابة أنه قال: "إن من توبتي أن أنخلع من مالي، فقال: يجزيك الثلث"، وقوله لكعب: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك". 1 متفق عليه، ولأبي داود: "يجزئ عنك الثلث"، قالوا: ليس هذا بنذر، إنما أرادوا الصدقة كما قال سعد، فأمره بالاقتصار على الثلث، قلنا قوله: "يجزيك الثلث" يدل على أنه أتى بما يقتضي الإيجاب، وإلا لما لزمه شيء يجزئ عنه بعضه، ومنعه من الصدقة بزيادة على الثلث دليل على أنه ليس بقربة. ونذر التبرر مطلقاً أو معلقاً يلزم الوفاء به، إجماعاً. والمطلق كذلك، في قول الأكثر. وقال بعض أصحاب الشافعي: لا يلزم، لأن غلام ثعلب قال: النذر عند العرب وعد بشرط. وكذلك نذر طاعة لا أصل لها في الوجوب، كالاعتكاف وعيادة المريض، يلزم عند الأكثر. وعن أبي حنيفة: لا يلزم، لأنه لا يجب بالنذر ما لا يجب نظيره شرعاً. ولنا: قوله: "من نذر أن يطيع الله، فليطعْه". 2 وذمه الذين   1 البخاري: الوصايا (2758) , والنسائي: الأيمان والنذور (3824, 3825, 3826) , وأبو داود: الطلاق (2202) والأيمان والنذور (3317, 3319, 3321) والسنة (4600) , وأحمد (3/454, 3/455, 3/456, 6/386, 6/387, 6/390) . 2 البخاري: الأيمان والنذور (6696) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806, 3807, 3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجة: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36, 6/41, 6/208, 6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 لا يوفون بالنذر. وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية. 1 وما ذكرتم عن غلام ثعلب لا يصح، فإن العرب تسمى الملتزم نذراً وإن لم يكن بشرط. وإن نذر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لزم، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يثبت في وجوب المشي إليهما، لأن البر بإتيان بيت الله فرض، والبر بإتيانهما نفل. وإن نذر الصلاة في المسجد الحرام لم يجزه في غيره، وإن نذر في الأقصى أجزأته في المسجد الحرام. ومن نذر حجاً أو صياماً أو صدقة أو عتقاً أو غير ذلك من الطاعات ومات، فعله الوليّ عنه، وعنه: لا يصلى عن الميت، وأما سائر الأعمال فينوب الوليّ عنه، وليس بواجب ولكن يستحب على سبيل الصلة. وأفتى بذلك ابن عباس "في امرأة نذرت أن تمشي إلى قباء فماتت، فأمر أن تمشي ابنتها عنها". وروى سعيد "أن عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد ما مات". وقال مالك: لا يمشي أحد عن أحد، ولا يصوم ولا يصلي، وكذلك سائر أعمال البدن. وقال الشافعي: يقضي عنه الحج. وقال أهل الظاهر: يجب القضاء على الولي، للأخبار. و"إن نذر أن يطوف على أربع طاف طوافين"، نص عليه، وقاله ابن عباس. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال الشيخ: الأحكام تتعلق بما أراده الناس بالألفاظ الملحونة، كقوله حلفت بالله، رفعاً ونصباً. وكقول: الكافر: "أشهد أن محمدٌ رسولَ الله" صار برفع الأول ونصب الثاني. ومن رام جعل جميع الناس في لفظ واحد بحسب عادة قوم بينهم، رام ما لا يمكن عقلاً ولا يصح شرعاً. نص أحمد على كراهة   1 سورة التوبة آية: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 الحلف بالعتق والطلاق، وفي تحريمه وجهان، اختار الشيخ التحريم، واختار في موضع آخر: لا يحرم بل يكره. قوله: ولغو اليمين: أن يحلف على شيء يظنه فيبين بخلافه، وعنه: ليس لغواً وفيه كفارة. قال الشيخ ما معناه: الروايتان: في كل يمين حتى في عتق وطلاق؛ ومن قطع بحنثه في الطلاق والعتق هو ذهول، بل فيه الروايتان، ومحله إذا عقد على زمن ماض. قال الشيخ: وكذا على مستقبل ظاناً صدقه فلم يكن، كمن حلف على غيره يظن أنه يطيعه فلم يفعل، أو ظن المحلوف عليه خلاف نية الحالف ونحو ذلك. وقال: إن المسألة على روايتين، كمن طلق من ظنها أجنبية فبانت امرأته ونحوهما، مما يتعارض فيه التعيين والقصد. قوله: وإن فعله ناسياً فلا كفارة، وعنه: لا حنث ويمينه باقية، اختاره الشيخ. ولا يعتبر قصد الاستثناء، اختاره الشيخ. ولو أراد تحقيقاً لإرادته لعموم المشيئة، ومثله إن أراد الله وقصد المشيئة، لا إن أراد المحبة والأمر، ذكره الشيخ. ولو شك في الاستثناء فالأصل عدمه، قال الشيخ: إلا مَن عادته الاستثناء، واحتج بالمستحاضة تعمل بالعادة والتمييز ولم تجلس أقل الحيض، والأصل: وجوب العادة. قال: ولو حلف لا يعذر كفّر، للقسم لا لعذره، مع أنها لا ترفع الإثم. قال أحمد: لا يكثر الحلف فإنه مكروه، وقيل: يستحب لمصلحة كزيادة طمأنينته وتوكيد الأمر وغيره، ومنه قوله لعمر عن العصر: "والله ما صليتها"، تطييباً لقلبه. وقاله في الهدي قال: و"قد حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعاً وأمره الله به في سورة "يونس" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 و"سبأ" و"التغابن"". ولا تغير اليمين حكم المحلوف عليه، قال الشيخ: لم يقل أحد إنها توجب إيجاباً، أو تحرم تحريماً لا ترفعه الكفارة. قال: والعقود والعهود متقاربة أو متفقة، فإذا قال: "أعاهد الله أني أحج" فهذا نذر ويمين، وإن قال: "لا أكلم زيداً" فيمين وعهد، لا نذر. فالأيمان إن تضمنت معنى النذر - وهو أن يلتزم لله قربة - لزمه الوفاء، وهو عقد وعهد ومعاهدة لله، لأنه التزم لله ما يطلبه منه. وإن تضمنت معنى العقود التي بين الناس، فمعاقدة ومعاهدة يلزم الوفاء بها. وإن قال: "لعمري " فهو لغو، نصَّ عليه. ولا يجب إبرار القسم كإجابة سؤال بالله، وقيل: يلزم، قال الشيخ: إنما يجب على معيّن، فلا يجب إجابة سائل مقسم على الناس. وتوقف في تحريم النذر ولا يضر قوله على مذهب من يلزم أو لا أقل من يرى الكفارة، ذكره الشيخ، لأن الشرع لا يتغير بتوكيد. قال: وإن قصد لزوم الجزاء مع الشرط لزمه مطلقاً عند أحمد. نقل الجماعة فيمن حلف بالمشي إلى بيت الله أو حجه: إن أراد يمينا كفّر، وإن أراد نذراً فعلى حديث عقبة. وقال الشيخ: إذا حلف بمباح أو معصية فلا شيء عليه، كنذرهما. فإن ما لم يلزم بنذره لا يلزم به شيء إذا حلف به، فإن إيجاب النذر أقوى من إيجاب اليمين. قوله: إلا أن ينذر ذبح ولده ... إلخ، وعنه: إن قصد اليمين فيمين، وإلا فنذر معصية، فيذبح في مسألة الذبح كبشاً، اختاره الشيخ. قوله: وإن نذر الصدقة بماله ... إلخ. نقل الأثرم فيمن نذر ماله في المساكين، أيكون الثلث من الصامت أم من جميع ما يملك؟ قال: إنما يكون هذا على قدر ما نوى، أو على قدر مخرج يمينه. والأموال تختلف عند الناس، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 في الفروع: ويتوجه على اختيار شيخنا كل أحد بحسب عزمه. وعنده: من نذر صوم الدهر كان له صوم يوم وإفطار يوم. وقال: القادر على فعل المنذور يلزمه، وإلا فله أن يكفّر. ولا يلزم الوفاء بالوعد، لأنه يحرم بلا استثناء، لقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . 1 وذكر الشيخ وجهاً: أنه يلزم، واختاره. وقال القرافي: اتفق الفقهاء على الاستدلال بالآية، وهو في غاية الإشكال؛ فإن "إلا" ليست للتعليق، و"أنْ" المفتوحة ليست للتعليق، فما بقي في الآية شيء يدل على التعليق بمطابقة ولا التزام، وطول الأيام يحاولون الاستدلال بها ولا يكاد يفطن له ولا يفطنون لهذا المستثنى من أي شيء هو وما هو المستثنى منه، فتأمله. والجواب: أن هذا استثناء من الأحوال، والمستثنى حالة محذوفة قبل "أن" الناصبة وعامله فيها، أعني: الحال عامله في "أن". وتقريره: 2 {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً?} 3 في حالة من الأحوال، إلا متعلّقاً بـ"إن شاء 4 الله"، ثم حذفت معلقاً والباء من أن فيكون النهي المتقدم مع "إلا" المتأخرة قد حصرت القول في هذه الحال دون سائر الأحوال؛ فتختص هذه الحال بالإباحة وغيرها بالتحريم. وترك المحرم واجب، وليس شيء هناك يترك به الحرام إلا هذه، فتكون واجبة. وأما مدرك التعلق فهو قولنا: معلقاً، فإنه يدل على أنه تعلق في تلك الحالة، كما إذا قال: لا تخرج إلا ضاحكاً، فإنه يفيد الأمر بالضحك للخروج، وانتظم معلقاً مع "أن" بالباء المحذوفة، واتجه الأمر بالتعليق على المشيئة من هذه الصيغة عند الوعد بالأفعال.   1 سورة آية: 23-24. 2 في المطبوعة: تقريره في (لا تقولن ... ) . 3 سورة الكهف آية: 23. 4 في المطبوعة: (بأن يشاء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 كتاب القضاء الأصل في مشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، 1 وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية 2. وأما السنة، فقوله: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر". 3 متفق عليه. وأجمعوا على مشروعية نصب القضاة. وهو فرض كفاية، وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به وأدى الحق فيه، وفيه خطر كبير ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه؛ ولذلك كان السلف يمتنعون منه. ويجب على الإمام أن ينصب في كل إقليم قاضياً، ويختار أفضل من يجد. وإن وجد غيره كره له طلبه، بغير خلاف، لقوله: "لا تسأل الإمارة" 4 الحديث متفق عليه. وله طلب الرزق لنفسه وأمنائه مع الحاجة، في قول أكثر أهل العلم. ولا يجوز أن يوليه على أن يحكم بمذهب إمام بعينهن لا نعلم فيه خلافاً. وإذا ولى الإمام قاضياً ثم مات، لم ينعزل القاضي، "لأن الخلفاء ولّوا حكاماً فلم ينعزلوا بموتهم". وكذلك لا ينعزل إذا عزل الإمام. فأما إن عزله الإمام   1 سورة المائدة آية: 49. 2 سورة النساء آية: 65. 3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7352) , ومسلم: الأقضية (1716) , والترمذي: الأحكام (1326) , والنسائي: آداب القضاة (5381) , وأبو داود: الأقضية (3574) , وابن ماجة: الأحكام (2314) , وأحمد (4/198, 4/204) . 4 البخاري: كفارات الأيمان (6722) , ومسلم: الأيمان (1652) , والترمذي: النذور والأيمان (1529) , والنسائي: آداب القضاة (5384) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2929) , وأحمد (5/62, 5/63) , والدارمي: النذور والأيمان (2346) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 الذي ولاه أو غيره انعزل، "لأن عمر كان يولي الولاة ثم يعزلهم، ومن لم يعزله عزله عثمان بعده، إلا القليل". وإذا تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء وحكماه بينهما، جاز ونفذ حكمه، وقيل: لا يلزمه إلا بتراضيهما، ولا يكون إلا بعد المعرفة بحكمه. ولنا: حديث أبي شريح وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن هذا". ولا يجوز نقض حكمه، وقيل: للحاكم نقضه إذا خالف رأيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 باب أدب القاضي ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، ليِّناً من غير ضعف، حليماً متأنياً، ذا فطنة. قال عمر بن عبد العزيز: "سبع إن فات القاضي منها واحدة كان فيه وصمة: العقل، والفقه، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنن، والحلم". وله أن ينتهر الخصم إذا التوى، ويصيح عليه. وإن قال: "حكمت عليَّ بغير حق" فله تأديبه، وله العفو. ويستعين بالله، ويتوكل سراً عليه، ويدعوه أن يعصمه من الزلل ويوفقه لما يرضيه. ولا يكره القضاء في المسجد، ويبدأ بالأول فالأول. ويعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه والدخول عليه. ويحضر مجلسه الفقهاء ويشاورهم. ولا يقضي وهو غضبان، ولا حاقن، ولا في شدة الجوع والعطش والهمّ والوجع والبرد المؤلم والحر المزعج والنعاس. ولا يحل له أن يرتشي، ولا يقبل هدية إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته، بشرط ألا يكون له حكومة، ويرد الرشوة والهدية إلى ربها، ويحتمل أن يجعلها في بيت المال، "لأنه لم يأمر ابن اللتبية أن يردها". قال أحمد: إذا أهدى البطريق لصاحب الجيش، لم تكن له دون سائر الجيش. ويكره أن يتولى البيع والشراء بنفسه، ويوكل فيه من لا يعلم أنه وكيله. وإن احتاج لم يكره، "لأن أبا بكر قصد السوق يتجر، حتى فرضوا له". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 باب طرق الحكم وصفته ... باب طريق الحكم وصفته إذا جلس له 1 خصمان، فله أن يقول: من المدعي منكما؟ أو يسكت حتى يبتدئ. ويستحب أن يجلسا بين يديه، لما روى أبو داود "أنه صلى الله عليه وسلم قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم". ولا يقول لأحدهما: "تكلم"، لأنه تفضيل له. فإن ذهب المدعى عليه يتكلم، منعه حتى يفرغ المدعي. ثم يقول له: ما تقول فيما ادعاه؟ فإن أقر لم يحكم إلا بمسألة المدعي، ويحتمل أن يجوز له ذلك. والحكم: أن يقول: "ألزمتك"، أو "قضيت عليك"، أو "اخرج إليه منه". وللمدعي أن يقول: "لي بينة"، فإن لم يقل، قال الحاكم: "ألك بينة؟ " لقوله للحضرمي: "ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه". 2 صححه الترمذي. فإن قال: "لي بيّنة" أمره بإحضارها، وقيل: لا يأمره. فإذا حضرت، لم يسألها الحاكم حتى يسأله المدعي ذلك. فإذا سمعها وكانت صحيحة، حكم بها إذا سأله المدعي. ولا خلاف أنه يجوز له الحكم بالإقرار والبيّنة في مجلسه، إذا سمعه معه شاهدان. فإن لم يسمعه معه أحد أو شاهد واحد فله الحكم، نص عليه. وليس له الحكم بعلمه في غير مجلسه، وعنه: ما يدل على جوازه. وقيل: لا يحكم في حق الله بعلمه، بخلاف حق الآدميين. ولنا: قوله: "أقضي على نحو ما أسمع"، 3 فدل على أنه لا يقضي بما يعلم. وكلامه لهند فتيا،   1 في المطبوعة: إليه. 2 مسلم: الإيمان (139) , والترمذي: الأحكام (1340) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3245) والأقضية (3623) , وأحمد (4/317) . 3 البخاري: الحيل (6967) , ومسلم: الأقضية (1713) , والنسائي: آداب القضاة (5401) , وأبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 لا حكم. وما ذكروه من قصة عمر مع أبي سفيان إنكار لمنكر رآه، لا حكم، بدليل أنه ما وجد منه دعوى ولا إنكار بشروطهما. فإن قال: "ما لي بيّنة"، فالقول قول المنكر مع يمينه. فإن سأل إحلافه أحلفه. فإن حُلّف أو حلف من غير سؤال المدعي لم يعتدّ بيمينه. وإن نكل قضى عليه بالنكول، وقيل: تردّ على الخصم، فإن نكل صرفهما. وإن ادعى بيّنة بعد قوله: "ما لي بينة" لم تقبل، ويحتمل أن تقبل، لأنه يجوز أن ينسى أو لا يعلمها. وإن قال: "لي بيّنة، وأريد يمينه"، فإن كانت غائبة فله إحلافه، وإن كانت حاضرة لم يملك إحلافه، لقوله: "شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك". 1 فإذا قال المدعي: "أريد يمينه، لا أريد إقامتها"، فله ذلك. فإن حلف المدعى عليه، ثم أراد المدعي إقامتها، لم يملك ذلك، في أحد الوجهين. وإن حلف المنكر، ثم أحضر المدعي بيّنة، حكم بها. فإن طلب حبس المدعى عليه، وإقامة كفيل إلى إقامة بيّنته البعيدة لم يقبل منه، لأنه لم يثبت له حق. وإن قال: لي حساب أريد أن أنظر فيه، لم يلزم المدعي إنظاره، وقيل: يمهل ثلاثاً. فإن ادعى عليه عيناً في يده فأقر بها لغيره، جعله الخصم فيها. وهل يحلف المدعي؟ على وجهين. ولا تصح الدعوى إلا محررة تحريراً تعلم به، إلا في الوصية والإقرار، فإنه يصح بالمجهول. فإن كان أثماناً، فلا بد من ذكر الجنس والقدر والنوع. وإن كان عيناً، حاضرة عيّنها بالإشارة. وإن كانت غائبة، ذكر صفاتها إن كانت تنضبط، وإلا قيمتها. وإن كانت تالفة من ذوات الأمثال، ذكر قدرها وجنسها وصفتها. ولا يقضي على غائب إلا في حقوق الآدميين. فإن قامت   1 البخاري: الرهن (2516) , ومسلم: الإيمان (138) , والترمذي: البيوع (1269) وتفسير القرآن (2996) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3243) , وابن ماجة: الأحكام (2323) , وأحمد (1/377, 1/379, 1/416, 1/426, 1/442, 1/460) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 بسرقة حكم بالمال دون القطع. وإن كان في البلد، لم تسمع البينة حتى يحضر؛ فإن امتنع سمعت. ويعتبر في البيّنة: العدالة ظاهراً وباطناً، وعنه: تقبل شهادة كل مسلم لم تظهر منه ريبة. ولا يقبل في الجرح والتعديل والترجمة والرسالة إلا قول عدلين، وعنه: يقبل واحد "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر زيداً أن يتعلم كتاب يهود". وعن أحمد: لا يقضي على غائب، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، لقوله لعلي: "لا تقض للأول حتى تسمع الآخر". 1 صححه الترمذي. ولنا: حديث هند وحديث عليّ نقول به. إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما، وهو يقتضي حضورهما. وكذا الحكم في المشتهر في البلد والميت والصبي والمجنون. وهل يحلف المدعي أنه لم يبرأ إليه منه ولا من شيء منه؟ على روايتين. ثم إذا قدم الغائب، أو بلغ الصبي، أو زال الجنون، فهو على حجته. وإذا قضى على الغائب سلم إلى المدعي، ويحتمل أن لا يدفع إليه حتى يقيم كفيلاً. وإذا اختلفا في دار في يد أحدهما، فأقام المدعي بيّنة أنها ملكه منذ شهر أو أمس، فهل تسمع؟ على وجهين. ومن كان له على إنسان حق لا يملك أخذه بالحاكم، لم يجز أن يأخذ قدر حقه. وحكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته في الباطن. قال ابن المنذر تفرد أبو حنيفة، فقال: لو استأجرت المرأة شاهدين فشهدا بطلاق زوجها، وهما يعلمان كذبها، فحكم الحاكم بطلاقها، حل لها أن تتزوج وحل لأحد الشاهدين نكاحها. قال ابن المنذر: يكره للقاضي أن يفتي في الأحكام، كان شريح يقول: أنا أقضي ولا أفتي.   1 الترمذي: الأحكام (1331) , وأبو داود: الأقضية (3582) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 باب حكم كتاب القاضي إلى القضي ... باب حكم كتاب القاضي إلى القاضي الأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقوله تعالى: {إني ألقي إلي كتاب كريم} 1. وأما السنة، فـ"إنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى ملوك الأطراف وإلى عماله". يقبل في المال وما يقصد به المال، كالقرض والغصب، ولا يقبل في حد الله. وهل يقبل فيما عدا ذلك، مثل النكاح والطلاق؟ على روايتين. ويجوز أن يكتب إلى معيّن وإلى من يصل إليه من القضاة. ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان، وحكي عن الحسن وسوار والعنبري أنهم قالوا: إذا عرف خطه وختمه قبله، وهو قول أبي ثور.   1 سورة النمل آية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 باب القسمة الأصل فيها: قوله تعالى: {أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} ، 1 وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} الآية 2. هي نوعان: (قسمة تراض) : وهي ما فيه ضرر أو رد عوض من أحدهما، كالدور الصغار التي لا يمكن قسمها، لا يجوز فيها إلا ما يجوز في البيع. وهل يلزم بالقرعة إذا قسمها حاكم أو رضوا بقاسم؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزم، والثاني: لا يلزم إلا بالتراضي. وإن تراضيا بغير قرعة جاز ذلك. وكذلك لو خيّر أحدهما صاحبه فاختار، ويلزم ههنا بالتفرق والتراضي. والضرر المانع: نقص القيمة، وعنه: ما لا يمكن أحدهما الانتفاع بنصيبه مفردا، فيما كان ينتفع به مع الشركة، والأول ظاهر كلام الشافعي، لأن النقص ضرر وهو منفي شرعاً. وقال مالك: يجبر الممتنع ولو استضر. الثاني: (قسمة الإجبار) : وهي ما لا ضرر فيه ولا رد عوض، وهذه إفراز حق لا بيع. وإن كان في القسمة تقويم لم يجز أقل من قاسمين، وإلا أجزأ واحد.   1 سورة القمر آية: 28. 2 سورة النساء آية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 باب الدعوات والبينات ... باب الدعاوى والبينات إذا تداعيا عيناً في يد أحدهما، فهي له مع يمينه. وإن تنازع صاحب الدار والخياط الإبرة والمقص، فهما للخياط. وإن تنازعا عرصة فيها شجر أو بناء لأحدهما، فهي له. وإن تنازع الزوجان أو ورثتهما في قماش البيت، فما يصلح للرجال فللرجال، وما يصلح للنساء للمرأة، وما يصلح لهما بينهما. وإذا لم يكن لأحد يد حكمية بل تنازعا في غير قماش بينهما، فلا يرجح أحدهما بصلاحية ذلك له، بل إن كان في يد أحدهما فهو له، وإن كان في أيديهما فهو بينهما، وإن كانت في يد غيرهما اقترعا، واليمين على من حكمنا له بها في كل المواضع إذا لم يكن بيّنة. وإن كان لأحدهما بيّنة حكم له بها ولم يحلف، وهو قول أهل الفتيا. وقال شريح والنخعي: يحلف. وقال الشافعي: إذا كان المشهود عليه لا يعبر عن نفسه في دعوى القضاء والإبراء، أحلف المشهود له، وهذا حسن. وإن كان لكل منهما بيّنة، حكم بها للمدعي. وعنه: إن شهدت بيّنة المدعى عليه أنها نتجت في ملكه أو قطيعة من الإمام قدمت. وتسمى بينة المدعي بيّنة الخارج، وبيّنة المدعى عليه بيّنة الداخل. وعنه: أن بيّنة الداخل تقدم بكل حال، وهو قول الشافعي وأبي عبيد وقال: هو قول أهل المدينة وأهل الشام، وأيهما قدّم لم يستحلف صاحبها، وقيل: بلى. وإن كانت العين في يديهما تحالفا، وقسمت بينهما، لا نعلم فيه خلافاً، لما روى أبو موسى: "أن رجلين اختصما في بعير، فأقام كل واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 منهما شاهدين؛ فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين". 1 رواه أبو داود. ولا يرجح أحدهما بكثرة العدد، ولا اشتهار العدالة؛ وهو قول الشافعي. وقال مالك: ترجح، وإن تساوتا قسمت بينهما بغير يمين، وعنه: بلى، كمن لا بيّنة لهما. وعنه: يقرع بينهما. والأول أصح، لخبر أبي موسى. وإن تداعيا عيناً في يد غيرهما، أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها، لحديث أبي هريرة: "أن رجلين تداعيا عيناً لم يكن لواحد منهما بيّنة، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين، أحبّا أم كرها". رواه أبو داود، فإن كان لكل منهما بيّنة، فعنه: "تسقط، ويقترعان"، روي عن ابن عمر وابن الزبير. وبه قال إسحاق وأبو عبيد، لما روى الشافعي عن ابن المسيب: "أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة، وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة، فأسهم النبي صلى الله عليه وسلم بينهما". وعنه: "تستعمل البينات، وتقسم العين بينهما"، وهو قول قتادة وحماد، لحديث أبي موسى، وقيل: يقدم أحدهما بالقرعة، وهو قول الشافعي.   1 النسائي: آداب القضاة (5424) , وأبو داود: الأقضية (3613) , وابن ماجة: الأحكام (2330) , وأحمد (4/402) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 باب تعارض البيّنتين إذا أتلف ثوباً فشهدت بيّنة أن قيمته ثلاثون، وشهدت أخرى أن قيمته عشرون، لزمه أقل القيمتين؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يلزمه ثلاثون. ولو ماتت امرأة وابنها، فقال زوجها: ماتت فورثناها، ثم مات ابني فورثته. وقال أخوها: بل مات ابنها فورثتْه، ثم ماتت فورثناها. حلف كل على إبطال دعوى صاحبه، وكان ميراث الابن لأبيه، وميراث المرأة: لزوجها واحد وأخيها نصفين. وإن أقام كل منهما بيّنة، تعارضتا وسقطتا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 كتاب الشهادات الأصل فيها: الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} الآية، 1وغيرها، وقوله: "شاهداك أو يمينه" 2. تحمُّل الشهادة وأداؤها فرض كفاية، وهل يأثم بالامتناع إذا دعي مع وجود غيره؟ قيل: يأثم، لقوله: {وَلا يَأْبَ {الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ، 3 وقيل: لا. ولا يجوز لمن تعينت عليه أخذ الأجرة، وكذا من لم تتعين عليه، في الأصح. ومن عنده شهادة في حد، أبيح إقامتها ولم يستحب. وللحاكم أن يعرض له بالوقوف عنها، لقصة عمر. ومن كانت عنده شهادة لإنسان، لم يقمها قبل سؤاله. فإن لم يعلم، استحب إعلامه، وله إقامتها قبل ذلك. وتجوز الشهادة لمن عرف المشهود عليه يقيناً، وقد يحصل بالسماع؛ ولهذا قبلت رواية الأعمى، ورواية من روى عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من غير محارمهن. فإن لم يعرف المشهود عليه وعرفه إياه من يعرفه، فعنه: لا يشهد، وحمل على الاستحباب، لتجويزه الشهادة بالاستفاضة. وقال: لا تشهد على امرأة إلا بإذن زوجها، وهذا يحتمل ألا يدخل عليها بيتها إلا بإذنه لِـ"نهيه صلى الله عليه وسلم أن يستأذن على النساء إلا بإذن أزواجهن". رواه أحمد.   1 سورة البقرة آية: 282. 2 البخاري: الرهن (2516) , ومسلم: الإيمان (138) , والترمذي: البيوع (1269) وتفسير القرآن (2996) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3243) , وابن ماجة: الأحكام (2323) , وأحمد (1/377, 1/379, 1/416, 1/426, 1/442, 1/460) . 3 سورة البقرة آية: 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 وإذا عرف خطه ولم يذكرها، فهل يجوز له أن يشهد؟ على روايتين. وأجمعوا على صحة الشهادة بالاستفاضة على النسب، واختلفوا فيما سواه، فقال أصحابنا: تجوز في تسعة أشياء: النكاح، والملك المطلق، والوقف، ومصرفه، والموت، والعتق، والولاء، والولاية، والعزل. وقال أبو حنيفة: لا تقبل إلا في النكاح والموت. ولنا: أن هذه تتعذر الشهادة عليها غالباً لمشاهدتها أو مشاهدة أسبابها، فجازت كالنسب. قال مالك: ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسماع. وقال: السماع في الأجناس والولاء جائز. قيل لأحمد: أتشهد أن فلانة امرأة فلان، ولم يُشهد؟ قال: نعم، إذا كان مستفيضاً. فأشهد أن فاطمة بنت رسول الله، وأن خديجة وعائشة زوجتاه، وكل أحد يشهد بذلك من غير مشاهدة. ولا تقبل الاستفاضة إلا من عدد يقع العلم بخبرهم، وقيل: تسمع من عدلين، وهو قول المتأخرين من الشافعية. وإذا مات رجل فادعى آخر أنه وارثه، فشهد شاهدان أنه وارثه، لا يعلمان له وارثاً غيره، سلّم المال إليه ولو لم يكونا من أهل الخبرة. فإن قالا: لا نعلم له غيره في هذه البلد، احتمل أن يسلّم المال إليه، واحتمل ألا يسلّم. فالأول قول أبي حنيفة، والاحتمال الثاني قول مالك والشافعي. وتجوز شهادة المستخفي، وهو قول الشافعي، وعنه: لا. وقال مالك: إن كان المشهود عليه ضعيفاً يخدع لم يقبل عليه، وإلا قبلت. ومن سمع من يقر بحق، أو سمع حاكماً يحكم، أو يشهد على حكمه، جاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 أن يشهد، وعنه: لا حتى يشهده. وعنه: إن سمعه يقر بقرض لا يشهد، وإن سمعه يقر بديْن شهد، لأن المقترض يجوز أن يكون أوفاه. وحق الآدمي المعيّن لا تسمع الشهادة به إلا بعد الدعوى، والذي على غير معيّن كالوقف أو حق خالص لله كالحدود الخالصة والزكاة أو الكفارة، فلا يفتقر إلى تقدم الدعوى، كما "شهد أبو بكرة وأصحابه وأبو هريرة على قدامة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 باب شروط من تقبل شهاداته ... باب شروط من تقبل شهادته وهي ستة: أحدها: (البلوغ) : فلا تقبل شهادة الصبيان، وعنه: تقبل ممن هو في حال العدالة، وعنه: لا تقبل إلا في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق. قال إبراهيم: كانوا يجيزون شهادة بعضهم على بعض. الثاني: (العقل) . الثالث: (الكلام) :فلا شهادة لأخرس، قيل لأحمد: فإن كتبها؟ قال: لا أدري. وقال مالك والشافعي: تقبل إذا فهمت إشارته. الرابع: (الإسلام) : إلا في الوصية في السفر، وقيل: تقبل شهادة بعضهم على بعض، ثم اختلف من قاله؛ فمنهم من قال: الكفر ملّة واحدة، فتقبل شهادة اليهودي على النصراني وعكسه، قاله الثوري وأبو حنيفة وأصحابه. وعن إسحاق وأبي عبيد: لا تقبل شهادة كل ملة بعضها على بعض. الخامس: (الحفظ) : فلا شهادة لمغفل، ولا معروف بكثرة الغلط والنسيان. السادس: (العدالة) : وهي استواء أحواله في دينه، وقيل: من لم تظهر منه ريبة. وظاهر قول الشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبي حنيفة وأصحابه: قبول شهادة أهل الأهواء، ويتخرج قبول شهادة أهل الذمة على شهادة أهل الأهواء إذا لم يتدين بالشهادة الموافقة على مخالفيه، كالخطابية. وكل لعب فيه قمار فهو محرم، وهو من الميسر، وأما الذي لا عوض فيه، فمنه محرم كاللعب بالنرد، والشطرنج كالنرد في التحريم. فأما اللعب بالحراب كما فعل الحبشة وما في معناه إذا لم يتضمن ضرراً ولا شغلا عن فرض، فالأصل إباحته. والملاهي ثلاثة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 769 محرم، وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير والعود والطنبور والمعرقة والرباب ونحوها. ومباح، وهو الدف. فأما الضرب بالقضيب، فيكره إذا انضم إليه مكروه أو محرم، كالتصفيق والغناء والرقص. واختلف أصحابنا في حكم الغناء، فقال بعضهم: مباح إذا لم يكن معه منكر، لحديث الجاريتين. وقال الشافعي: مكروه غير محرم. وذهب آخرون إلى تحريمه، واحتجوا بقول ابن الحنفية في قوله: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ?} ، 1 قال: الغناء. ويقول ابن مسعود وابن عباس في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} : 2 "إنه الغناء". والحداء الذي تساق به الإبل مباح، وكذلك سائر أنواع الإنشاد ما لم يخرج إلى حد الغناء. والشعر كالكلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح، وليس في إباحته الشعر خلاف، وقد قاله الصحابة والعلماء. ولا يعتبر في التوبة إصلاح العمل، وعنه: يعتبر إصلاح العمل سنة. وشهادة ولد الزنى جائزة في قول الأكثر، وكذا شهادة الإنسان على فعل نفسه، كالمرضعة والقاسم والحاكم. وكذا شهادة البدوي على القروي. ويمنع قبول شهادة القرابة، فلا تقبل شهادة والد لولده وعكسه، ولو ولد بنات، وعنه: تقبل شهادة الابن لأبيه لا عكسه، وعنه: تقبل شهادة كل منهما فيما لا تهمة فيه، كالنكاح والقصاص والمال إذا كان مستغنياً عنه، وبه قال إسحاق وابن المنذر، لعموم الآيات. وتقبل شهادة بعضهم على بعض في الأصح. ولا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه، وبه قال مال، وعنه: تقبل؛ وبه   1 سورة الحج آية: 30. 2 سورة لقمان آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 770 قال الشافعي. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة، وقال مالك: لا تقبل شهادة الصديق الملاطف، ولا تقبل ممن يجر بها إلى نفسه نفعاً، كالوارث لموروثه بالجرح قبل الاندمال، ولا شهادة الشفيع ببيع ما له فيه شفعة، ولا شهادة الغرماء بديْن المفلس، ولا شهادة الموصى له للميت، ولا الوكيل لموكله بما هو موكل فيه، ولا الشريك لشريكه، لا نعلم فيه خلافاً أي: الشريك، ولا شهادة الوصي للموصى إليهم إذا كانوا في حجره، في قول الأكثر، وأجازها شريح وأبو ثور، إذا كان الخصم غيره. ولا تقبل شهادة من يدفع بها عن نفسه ضرراً، قال الزهري: مضت السنة في الإسلام أن لا تجوز شهادة خصم، ولا ظنين وهو: المتهم. ولا تقبل شهادته على عدوه، في قول أكثر أهل العلم، لحديث: "ولا ذي غمر على أخيه". 1 وإن شهد الفاسق فردّت، ثم تاب فأعادها، لم تقبل للتهمة، وبه قال الشافعي، وقال المزني وأبو ثور: لا يشترط في التحمل العدالة ولا البلوغ ولا الإسلام. و"كان ناس يروون عنه صلى الله عليه وسلم بعد أن كبروا، مثل الحسنين 2 وابن الزبير"، وعن مالك: ترد فيمن أسلم وبلغ. والمشهود به خمسة أقسام: (أحدها) : الزنى، فلا يقبل فيه إلا أربعة، وأجمعوا على اشتراط عدالتهم باطناً وظاهراً، والأكثر على اشتراط كونهم رجالاً أحراراً. وهل يثبت الإقرار بالزنى بشاهدين أو أربعة؟ على روايتين. (الثاني) : القصاص وسائر الحدود، فلا يقبل إلا رجلان حرّان، إلا ما روي عن عطاء وحماد أنه يقبل فيه رجل وامرأتان. ولا تقبل الشهادة على القتل إلا مع زوال الشبهة في لفظ الشهادة نحو: ضربه فقتله.   1 أبو داود: الأقضية (3600) , وأحمد (2/204, 2/208) . 2 في الأصل: (كالحسن والحسين) وتناهما تغليباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 771 (الثالث) : ما ليس بمال ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً، كالنكاح والطلاق والوكالة في غير المال والوصية وما أشبه ذلك، فلا يقبل فيه إلا رجلان. وعنه في النكاح والرجعة والعتق: يقبل رجل وامرأتان. وعنه في العتق: شاهد ويمين المدعي. وعنه في الإعسار: لا يثبت إلا بثلاثة، لحديث قبيصة. وقال القاضي: حديثه في حل المسألة، لا في الإعسار. (الرابع) : المال وما يقصد به المال، كالبيع والقرض والرهن وجناية الخطإ، يقبل شاهد ويمين. (الخامس) : ما لا يطلع عليه الرجال، كعيوب النساء تحت الثياب والرضاع والاستهلال والبكارة والثيوبة ونحوه، فيقبل فيه شهادة امرأة واحدة، وعنه: لا يقبل أقل من امرأتين. ولا نعلم خلافاً في قبول النساء المنفردات في الجملة. والشهادة على الشهادة جائزة إجماعاً، في المال وما يقصد به المال. وقال مالك: يقبل في الحدود وفي كل حق. وشروطها تعذر شهادة الأصل بموت أو مرض أو غيبة إلى مسافة القصر. وعنه: لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل، ولا يجوز له أن يشهد حتى يسترعيه. وثبتت شهادة شاهدي الأصل بشاهدين يشهدان عليهما. وقال ابن بطة: لا بد من أربعة، على كل واحد اثنان. قال أحمد: شاهد على شاهد يجوز، لم يزل الناس على هذا، شريح فمن دونه، إلا أن أبا حنيفة أنكره. ومتى رجع شهود المال بعد الحكم، لزمهم الضمان، ولم ينقض الحكم. وإن رجع شهود العتق غرموا القيمة. وإن رجع شهود الطلاق قبل الدخول غرموا نصف المسمى. وإذا عين العدل شهادته بحضرة الحاكم فزاد فيها أو نقص، قبلت منه ما لم يحكم بشهادته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 772 والحقوق على ضربين: أحدهما: 1 ما هو حق الآدمي وهو على ضربين: أحدهما: مال أو مقصود به المال، كالبيع والقرض والصلح. الثاني: ما ليس بمال ولا مقصود منه المال، وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين، كالقصاص، ففيه روايتان: إحداهما: لا يستحلف المدعى عليه. قال أحمد: لم أسمع من مضي جوّز الأيمان، إلا في الأموال خاصة. والثانية: يستحلف في الطلاق والقصاص. وقال الشافعي: يستحلف في كل حق لآدمي. وحقوق الله لا يستحلف فيها، بلا خلاف في الحدود، وأما الزكاة، فإذا ادعى الساعي أن الحول تم أو النصاب، فقال أحمد: لا يستحلف الناس على صدقاتهم. وقال الشافعي: يستحلف. ومن حلف على فعل نفسه أو دعوى عليه في الإثبات، حلف على البت وعلى نفي فعل الغير، فإنها على نفي العلم. وقال الشافعي والنخعي كلها على نفي العلم. ومن توجهت عليه يمين لجماعة فقال: أحلف يميناً واحدة، فرضوا جاز، وإلا حلف لكل واحد يميناً. ولا تدخل اليمين النيابة، فلا يحلف الولي عن الصغير والمجنون.   1 لم يذكر الثاني، ولعله من قوله: وحقوق الله "الطبعة السلفية". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 773 كتاب الإقرار يصح من كل مكلف مختار، غير محجور عليه. وإن أكره على وزن مال، فباع داره لذلك صح. ومن أقر بحق ثم ادعى إكراهاً، لم يقبل إلا ببيّنة، إلا أن يكون دلالة، كالقيد والحبس، فقوله مع يمينه. ويصح إقرار المريض المرض المخوف، بغير المال. وإن أقر بمال لمن لا يرثه صح، حكاه ابن المنذر إجماعاً. ولا يحاصّ المقر له غرماء الصحة، وقيل: بلى؛ وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد، وذكر أنه قول أكثر أهل المدينة. وإن أقر لوارث، لم يقبل إلاّ ببيّنة، وقال عطاء والحسن وإسحاق: تقبل. وقال مالك: يصح إذا لم يتهم، إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فأقل، فيصح في قول الجميع، إلا الشعبي. وإن أقر لوارث وأجنبي، فهل يصح في حق الأجنبي؟ على وجهين. وإن أقر لوارث فصار عند الموت غير وارث لم يصح، وعكسه يصح. وإن أقرّ بوارث صح، وعنه: لا. وإن أقر بطلاقها في صحته، يعني: وهو مريض، لم يسقط ميراثها. ويصح إقراره بإحبال الأمة. ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق، فإذا أقر لعبد صح، ولو كذب سيده. وإن تزوج مجهولة فأقرت بالرق، لم يقبل إقرارها. وإن أقر الورثة على موروثهم بديْن، لزمهم قضاؤه من التركة. فإن أقر به بعضهم، لزمه بقدر ميراثه. وإن أقر لكبير عاقل فلم يصدّقه، بطل إقراره، وقيل: يؤخذ المال حتى يظهر مالكه 1.   1 في المطبوعة: (مالك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 774 باب ما يحصل به الإقرار إذا ادعى عليه ألفاً، فقال: "نعم" أو "صدقتَ"، كان مقراً. وقوله: "أنا أقر" ليس بإقرار. وإن قال::أنا مقر"، فاحتمالان. ولو قال: "بعتك إن شاء الله"، أو "زوجتك إن شاء الله"، فقال ابن شاقلا: لا أعلم خلافاً عنه في أنه إذا قيل له: قبلت هذا النكاح؟ قال: "نعم، إن شاء الله"، أن النكاح واقع. وإن قال له: علي ألف إن شهد به فلان، لم يكن مقراً. وإن قال: إن شهد به فلان فهو صادق، احتمل وجهين. وإن قال له: عليّ ألف قد استوفاه، أو ثمن خمر، أو تكفلت به على أني بالخيار، لزمه ولا يقبل قوله. ولا يقبل رجوع المقر إلا في الحد. وإن قال: له عندي رهن، وقال المالك: وديعة، فالقول قول المالك. وإن قال: له عندي ألف، وفسره بديْن أو وديعة، قبل منه، لا نعلم فيه خلافاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 775 باب الإقرار بالمجمل إذا قال: له عليَّ شيء، قيل: فسّره. فإن أبى حُبس. وإن فسّره بحق شفعة أو مال قُبل. وإن فسّره بما ليس بمال، كخمر وميتة لم يقبل، وبكلب أو حد قذف فوجهان. ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف": قال الشيخ: ما يستفيده بالولاية لا حد له شرعاً، بل يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف. وقال: من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب، فإن تاب وإلا قُتل. وإن قال: "ينبغي"، كان جاهلاً ضالاً. ومن كان متبعاً لإمام فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى، فقد أحسن، ولم يُقدح في عدالته بلا نزاع. وقال: في هذه الحال يجوز عند أئمة الإسلام، وقال: بل يجب، ولا ينعزل قبل علمه بالعزل، رجحه الشيخ، وقال: هو المنصوص عن أحمد، لأن في الولاية حقا لله. قال ابن حزم: أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا مفت تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله. يحرم الحكم والفتيا بالهوى إجماعاً، وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح، إجماعاً. ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده في ما لَه أو عليه، إجماعاً، قاله الشيخ. وقال: الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل وتنفيذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 776 الحكم، والأمانة ترجع إلى خشية الله، وهذه الشروط تعتبر حسب الإمكان. ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره. فيولى للعدم أنفع الفاسقَيْن وأقلهما شراً، وأعدل المقلدَيْن وأعرفهما بالتقليد. وقال: إن حكّم أحدهما خصمه أو حاكما، فأفتى في مسألة اجتهادية جاز. وقال في عمل الولاية بعد ذكر التحكيم: وكذلك يجوز أن يتولى متقدمو الأسواق والمساجد، والوساطات، والصلح عند الفورة والمخاصمة، وصلاة الجنازة، وتفويض الأموال إلى الوصايا، وتفرقة زكاته بنفسه، وإقامة الحد على رقيقه، وخروج طائفة إلى الجهاد تلصصاً وبياتاً، وعمارة المساجد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأشباه ذلك. وفعل الحاكم حكم، كتزويج يتيمة، وشراء عين غائبة، وعقد نكاح بلا ولي، وغيره، ذكر الشيخ أنه أصح الوجهين، وقال: فإذا قال: حكمت بصحته نفذ اتفاقاً، وإن كان ممن لا يصلح نقض أحكامه، واختار الشيخ: لا ينقض الصواب منها. ولو ادعى شهادة له عند آخر، لم تسمع دعواه، ولم يعد عليه، ولم يحلف، خلافاً للشيخ. وقال: لو قال: أنا أعلمها ولا أؤديها فظاهر، ولو نكل لزمه ما ادعى به، إن قيل: كتمانها موجب لضمان ما تلف، ولا يبعد كما يضمن في ترك الإطعام الواجب، اختار فيمن كسب مالاً محرماً برضى الدافع ثم تاب، كثمن خمر ومهر بغي وحلوان كاهن، أن له ما سلف. وقال أيضاً: لا ينتفع ولا يرده لقبضه عوضه، ويتصدق به وللفقراء أكله، ولولي الأمر أن يعطيه لأعوانه. وقال أيضاً فيمن تاب: إن علم صاحبه دفعه إليه، وإلا دفعه في المصالح، وله مع حاجته أخذ كفايته. ولا تجوز الهدية لمن شفع عند السلطان ونحوه، لأنها كالأجرة، والشفاعة من المصالح العامة، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 777 وفيه حديث شريح في السنن. ونص أحمد فيمن عنده وديعة فأداها فأهديت إليه هدية: لا يقبلها إلا بنية المكافأة. وإن قال المعزول: كنت حكمت في ولايتي لفلان بحق قُبل، وقيده في الفروع بالعدل. وقال الشيخ: كتابه في غير عمله أو بعد عزله كخبره. قال: ونظيره أمير الجهاد، وأمين الصدقة، وناظر الوقف. وتسمع البيّنة والدعوى في كل حق لآدمي غير معيّن، كالوقف على الفقراء أو مسجد، قال الشيخ: وكذا عقوبة كذاب مفتر على الناس. ثم ذكر كلام القاضي في احتيال الحنفية على سماع البيّنة من غير وجود مدعى عليه، خوفاً من حدوث خصم مستقبل، قال الشيخ: دخل جماعة معهم في هذا الاحتيال، وسموه الخصم المستحق، وأما على أصلنا وأصل مالك: فإما أن تمنع الدعوى على غير خصم فتثبت الحقوق بالشهادات على الشهادات، وهو كما ذكره من ذكره من أصحابنا، وإما أن تسمع الدعوى والبيّنة بلا خصم، كما ذكره طائفة؛ وهو مقتضى كلام أحمد، لأنا نسمع البيّنة على الغائب والممتنع وكذا على الحاضر في البلد في المنصوص فمع عدم خصم أولى. قوله: وإن نكل قضي عليه، وقيل: ترد اليمين على المدعي، واختاره ابن القيم بإذن الناكل. وقال الشيخ: مع علم مدع وحده بالمدعى به لهم ردها، وإذا لم يحلف لم يأخذ، كالدعوى على ورثة ميت حقاً يتعلق بالتركة. وإن كان المدعى عليه هو العالم بالمدعى به دون المدعي، مثل أن يدعي الورثة والوصي على غريم الميت فينكر، فلا يحلف المدعي. قال: وأما إن كان المدعي يدعي العلم والمنكر يدعي العلم، فهنا يتوجه القولان. واختار أن المدعي يحلف ابتداء مع اللوث، وأن الدعوى في التهمة كسرقة يعاقب المدعى عليه الفاجر، وأنه لا يجوز إطلاقه، ويحبس المستور ليبين أمره. وقال: إن تحليف كل مدعى عليه وإرساله ليس مذهباً للإمام، واحتج بقصة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 778 النعمان بن بشير، قال القاضي: يحبسه. والأول ظاهر كلام أحمد والقاضي، ويشهد له قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} الآية، 1حملناه على الحبس في التهمة. واختار الشيخ تعزير مدع بسرقة ونحوها على من تعلم براءته. قوله: ولا تصح الدعوى إلا محررة، واختار الشيخ أن مسألة الدعوى وفروعها ضعيفة، لحديث الحضرمي، وأن الثبوت المحض يصح بلا مدعى عليه. وقال: إذا قيل: لا تسمع إلا محررَّة، فالواجب أن من ادعى مجملاً، استفصله الحاكم. وقال: المدعى عليه قد يكون متهماً، كـ"دعوى الأنصار قتل صاحبهم، ودعوى المسروق منه على بني أبيرق"، ثم المجهول قد يكون مطلقاً وقد ينحصر. قال: ولا يعتبر في الشهادة قوله، وإن الديْن باق في ذمته، إجماعاً. وقال الآمدي: لو ادعت أن زوجها أقرَّ أنها أخته من الرضاعة وأقامت بيّنة، لم تقبل لأنها شهادة على الإقرار لا على الرضاع، قال الشيخ: لعل مأخذه أنها ادعت بالإقرار لا بالمقر به، ولكن هذه الشهادة تسمع بغير دعوى، لما فيها من حق الله، على أن الدعوى بالإقرار فيها نظر، فإن الدعوى بها تصديق المقر. قوله: ولم يمكنه أخذه بحاكم، واختار الشيخ جواز الأخذ، ولو قدر على أخذه بحاكم في الحق الثابت بإقرار أو بيّنة أو كان سبب الحق ظاهراً. وقال: إن غصب ماله جاز له الأخذ بقدر حقه، وليس من هذا الباب. وقال: أمور الدين والعبادات المشتركة لا يحكم فيها إلا الله ورسوله، إجماعاً. وقال: إذا رفعا إليه عقداً فاسداً عنده، وأقرا بأنه نافذ الحكم، حكم بصحته، فهو كالبينة إن عينا الحاكم. يجوز كتاب القاضي في ما حكم به في المسافة البعيدة والقريبة، وعند   1 سورة النور آية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 779 الشيخ، في حق الله تعالى. ويجوز فيما ثبت عنده الحكم به في المسافة البعيدة فقط، وعنه: فوق يوم، وعند الشيخ: وأقل من يوم كخبره. وقال: كتابه في غير عمله أو بعد عزله كخبره على ما تقدم. وإذا عرف المكتوب إليه خطه وختمه، جاز قبوله. وعند الشيخ: من عرف خطه بإنشاء أو إقرار أو عقد أو شهادة، عمل به كميت، فإن حضر وأنكر فكاعترافه بالصوت وإنكاره مضمونه. وقال: تنازع الفقهاء في كتاب الحاكم، هل يحتاج إلى شاهدين أم واحد؟ أو يكتفي بالكتاب المختوم؟ أم يقبل الكتاب بلا ختم ولا شاهد؟ على أربعة أقوال معروفة في مذهب أحمد وغيره. وقال: الخط كاللفظ إذا عرف أنه خطه. وقال: إنه مذهب الجمهور، وهو يعرف أن هذا خطه كما يعرف أن هذا صوته، مع إمكان الاشتباه. وجوّز الجمهور الشهادة على الصوت، قال في المغني: المحضر شرح ثبوت الحق عنده لا الحكم، وقيل: ما ضمن الحاكم ببيّنة سجل، وما سواه محضر. ومن دعا شريكه إلى البيع في قسمة التراضي أُجبر، فإن أبى بيع عليهما، وكذا حكم الإجارة ولو في وقف، ذكره الشيخ في الوقف. وإن تراضيا على قسمة المنافع بالمهايآت جاز، فإن رجع أحدهما قبل استيفاء نوبته فله ذلك، وبعدها يغرم ما انفرد به. قال الشيخ: لا تنفسخ حتى تنقض الدور ويستوفي كل واحد حقه، ولو انتقلت كانتقال وقف، فإن كان إلى مدة لزمت الورثة والمشتري، قاله الشيخ. وقسم الإجبار يقسمه الحاكم إن ثبت ملكهما عنده، اختاره الشيخ، كبيع مرهون وعبد جان. وقال: كلام أحمد في بيع ما لا يقسم وقسم ثمنه عام فيما ثبت أنه ملكهما وفيما لم يثبت كجميع الأموال التي تباع. قال: ومثله لو جاءته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 780 امرأة فزعمت أنها لا ولي لها، هل يزوجها بلا بيّنة. ونقل حرب في من أقام بيّنة بسهم من ضيعة بيد قوم فهربوا، يقسم عليهم ويدفع إليه حقه، قال الشيخ: وإن لم يثبت ملك الغائب. قال: وأجرة شاهد يخرج لقسم البلاد ووكيل وأمين. الحفظ على مالك وفلاح كأملاك، فإذا فهم الفلاح بقدر ما عليه أو يستحقه الضيف حل لهم. وإن لم يأخذ الوكيل لنفسه إلا قدر أجرة عمله بالمعروف والزيادة يأخذها المقطع، فالمقطع هو الذي ظلم الفلاحين. وإن تلف ثوب فشهدت بيّنة أن قيمته عشرون، وأخرى ثلاثون، أخذ بالأقل، وقيل: بالأكثر، قاله الشيخ في نظيرها فيمن أجر حصة موليه، فقالت بيّنة: أجرها بأجرة مثلها، وقالت بيّنة مثلها، وقالت بيّنة بنصف أجرة المثل. وجّوز أخذ الأجرة على الشهادة مع الحاجة. قوله: ومن كانت عنده شهادة لآدمي لم يقمها حتى يسأله، قال الشيخ: الطلب العرفي أو الحال كاللفظي، علمها أو لا. وقال: إذا أداها قبل الطلب قام بالواجب وكان أفضل، كمن عنده أمانة أداها عند الحاجة. قوله: ولا تقبل الاستفاضة إلا من عدد يقع العلم بخبرهم. وقال الشيخ: أو ممن تطمئن إليه النفس ولو واحداً. وقال: الشاهد يشهد بما سمع، فإذا قامت بينة بتعيين ما دخل في اللفظ قُبل. وإذا مات رجل فادعى آخر أنه وارثه، فشهد اثنان أنهما لا يعلمان له وارثاً، سلّم المال إليه، قال الشيخ: لا بد أن تقيد المسألة بأن لا يكون الميت ابن سبيل ولا غريباً. وتقبل شهادة أهل الكتاب على الوصية في السفر بشرطه، قال الشيخ: هو نص القرآن، ومفهومه: أن غير أهل الكتاب لا تقبل شهادتهم، وعنه: تقبل من الكافر مطلقاً. وعنه: تقبل شهادتهم للحميل، وعنه: تقبل للحميل وموضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 781 الضرورة. 1 وعنه: تقبل سفراً، ذكرها الشيخ. وقال: كما تقبل شهادة النساء في الحدود إذا اجتمعن في عرس أو حمام. وعنه: تقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، اختاره الشيخ: وقال: ترد شهادته بكذبة واحدة. وقال: يحرم محاكاة النفس للضحك، ويعزر هو ومن يأمر به. ولو شهد أحد الغانمين بشيء من المغنم قبل القسمة فقال الشيخ: في قبولها نظر، لأنها تجر نفعاً. وقال في قوم في ديوان أجروا شيئاً: لا تقبل شهادة أحد منهم على مستأجره، لأنهم وكلاء أو ولاة، ولا شهادة ديوان الأموال السلطانية على الخصوم. قوله: ما ليس بمال ولا يقصد به المال، كالنكاح والرجعة والخلع، ثم ذكر أشياء، ثم قال: وعنه: يقبل في ذلك كله رجل وامرأتان، وعنه: يقبل فيه رجل ويمين، اختارها الشيخ. وتثبت شهادة شاهدي الأصل بشاهدين يشهدان عليهما، سواء شهدا على كل واحد منهما أو شهد على كل واحد منهما شاهد من شهود الفرع. قال أحمد: لم يزل الناس على هذا، وثبوت شهادة شاهد على شاهد من المفردات، ولا تقبل الشهادة إلا بلفظ [الشهادة] ، 2 وعنه: تصح ويحكم بها. اختارها الشيخ، وقال: لا يعرف عن صحابي ولا تابعي اشتراط لفظ الشهادة، وفي الكتاب والسنة إطلاق لفظ الشهادة على الخبر المجرد. وقال: قصة مروان مع زيد تدل على أن القاضي إذا رأى التغليظ فامتنع، أدى ما ادعى به، وإلا لم يكن للتغليظ فائدة. وقال: الإقرار قد يكون إنشاء، كقوله: {قالوا أقررنا} ، 3 فلو أقر   1 في المطبوعة: (ضرورة) . 2 زيادة في المخطوطة. 3 زيادة في المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 782 به وأراد إنشاء تمليكه صح، ولو ادعى أنه حين البيع كان صبياً أو غير ذلك، وأنكر المشتري، [فالقول قول المشتري] . 1 قال الشيخ: وهكذا يجيء في الإقرار وسائر التصرفات، مثل دعوى البلوغ بعد تصرف الولي، أو تزويج ولي أبعد منه. وقال: الإقرار مع استدراك متصل، وإن المتقارب في الاستثناء متواصل. آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وجد بآخر الأصل المخطوط الذي اعتمدنا عليه في الطبع ما نصه: بلغ مقابله في ملكه عبد الرحمن بن أحمد بن قاسم، غفر الله له ولوالديه.   1 زيادة في المخطوطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 783