الكتاب: بحوث في قضايا فقهية معاصرة. المؤلف: القاضي محمد تقي العثماني بن الشيخ المفتي محمد شفيع دار النشر: دار القلم - دمشق الطبعة: الثانية، 1424هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] أعده للشاملة: سيد أبو بكر بن محمد عمر الندوي ---------- بحوث في قضايا فقهية معاصرة محمد تقي عثماني الكتاب: بحوث في قضايا فقهية معاصرة. المؤلف: القاضي محمد تقي العثماني بن الشيخ المفتي محمد شفيع دار النشر: دار القلم - دمشق الطبعة: الثانية، 1424هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] أعده للشاملة: سيد أبو بكر بن محمد عمر الندوي ـ[بحوث في قضايا فقهية معاصرة.]ـ المؤلف: القاضي محمد تقي العثماني بن الشيخ المفتي محمد شفيع دار النشر: دار القلم - دمشق الطبعة: الثانية، 1424هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] أعده للشاملة: سيد أبو بكر بن محمد عمر الندوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 الطبعة الثانية 1424هـ - 2003 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 بُحُوثْ فِيْ قَضَايَا فِقْهِيَّةْ مُعَاصِرَةْ تأليف محمد تقي العثماني قاضي التمييز الشرعي بالمحكمة العليا لباكستان ونائب رئيس جامعة دار العلوم بكراتشي ونائب رئيس المجمع الإسلامي بجدة دَارَ الْقَلَمْ دِمَشْقْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 كَلِمَةَ الْمُؤَلِّفْ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى كل من تبعهم بإحسان على يوم الدين. إن عصرنا هذا قد حدثت فيه مسائل جديدة لم تكن معهودة أو متصورة من قبل ولذلك لا يوجد لها ذكر صريح في مآخذ الفقه الإسلامي الأصيلة ولكن الشريعة الإسلامية شريعة خالدة سوف تبقى-إن شاء الله تعالى-إلى قيام الساعة وإنه منبثقة من الوحي الإلهي الذي تجلى في صور القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة-على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم-والذي لا تحول الأزمان دون إدراكه للحقائق الكونية وتطورات البشرية فإنها مهدت للأمة الإسلامية مناهجا وأصولا لا تزال غضة طرية في كل مكان وزمان دون أن يعتبرها بلىً وفساد على كرّ الأعصار ومر الدهور. ولم يزل الفقهاء المسلمون - في كل عصر ومصر - يستنبطون أحكام الحوادث الجديدة في ضوء هذه المناهج والأصول حتى أصبح الفقه الإسلامي يمتاز على غيره من التشريعات البشرية بثروتها الهائلة وتنوعه الشامل وقواعده المحكمة وعطاءه المتواصل بحيث لا يخفى ذلك على من استقى من معينة العذب دون أن تعممه الشحناء والعصيبة العمياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وإني-كأدنى دارس للفقه الإسلامي-لم أزل أكتب على مسائل فقهية في اللغات: العربية, الأردية, الإنكليزية منذ أكثر من ثلاثين عاماً, حتى اجتمعت لدي مجموعة من بحوث فقهية معاصرة في كل من هذه اللغات الثلاث. وبما أن هذه البحوث كانت مبعثرة في عدة مجلات وصحف وكتب فربما تعسر على طلبة العلم اقتناؤها. فأشار إليّ بعض أحبتي أن تجمع هذه البحوث في مجموعة وتنشر في صورة كتاب لتكون ميسرة للطلبة على صعيد واحد فأردت أن تكون هناك ثلاث مجموعات في اللغات الثلاث المذكورة. فابتدأت - بعون الله تعالى بهذه المجموعة التي تضم البحوث الفقهية التي كتبتها باللغة العربية. ومعظمها قد عرضت على ندوات أو مؤتمرات فقهية عالمية في بلاد مختلفة من الوطن الإسلامي. وطبعت هذه المجموعة لأول مرة من مكتبة دار العلوم كراتشي عام:1415هـ حتى نفذت نسخها وعند طبعتها الثانية تولاها (دار القلم) - مشكورة - راجعت هذه البحوث فأصلحت ما وقع فيها من أخطاء في الطبعة الأولى من الأخطاء المطبعية وعدلت العبارات في بعض المواضع إصلاحا لبعض التسامحات التي وقعت في أصل البحث وقد أضفت إلى أصل بعض البحوث فوائد جديدة كما أضفت بحثين جديدين: الأول: أحكام الودائع المصرفية, والثاني: أحكام الذبائح واللحوم المستوردة. هذا, وإن معظم المسائل المدروسة في هذه البحوث مسائل جديدة تحتاج إلى دراسة متقنة واستنباط عميق, وتعرض لاختلاف بعض الآراء والأنظار ولم آل جهدا في تحقيقها وتنقيرها, وفي مراجعة ما يتعلق بها من الأصول الشرعية والنصوص الفقهية ولكن لا عصمة إلا لرسل الله تعالى فإن كان ما أثبته صوابا فهو توفيق من الله سبحانه وتعالى, وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان, ورحم الله تعالى أمرا نبهني على ما وقع فيها من خطأ, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وأسأل الله العلي القدير أن يجعل هذه الدراسات خالصة لوجهه الكريم وينفع بها الطالبين ويجعلها ذخرا لمؤلفها يوم لا ينفع مال ولا بنون إنه تعالى على كل شيء قدير, وبالإجابة جدير وله الحمد أولا وآخراً. محمد تقي العثماني دار العلوم كراتشي 14 باكستان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 (1) أحكام البيع بالتقسيط بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من (17) إلى (23) شعبان (1410) الموافق (14) إلى (20) مارس عام (1990) م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بسم الله الرحمن الرحيم أحكام البيع بالتقسيط وسائله المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن البيع بالتقسيط من البيوع التي قد شاع تداولها في عصرنا الحاضر في جميع البلدان الإسلامية، وهو البيع الذي يلجأ إليه كثير من الناس لشراء حاجاتهم، وتأثيث منازلهم، والتمتع بالآلات الحديثة الغالية التي لا يمكن لهم شراؤها بثمن حال. فمست الحاجة إلى بيان الحكم الشرعي لهذا البيع، وما يتفرع عليه من مسائل مختلفة، وإن هذا البحث الموجز يهدف إلى إنجاز هذه الحاجة، والله سبحانه وتعالى أسأل أن يوفقني فيه للسداد والصواب، ويشرح صدري لما فيه رضاه عز وجل. حقيقة البيع بالتقسيط: البيع بالتقسيط بيع بثمن مؤجل يدفع إلى البائع في أقساط متفق عليها، فيدفع البائع البضاعة المبيعة إلى المشتري حالّة، ويدفع المشتري الثمن في أقساط مؤجلة، وإن اسم (البيع بالتقسيط) يشمل كل بيع بهذه الصفة سواء كان الثمن المتفق عليه مساويا لسعر السوق، أو أكثر منه، أو أقل، ولكن المعمول به في الغالب أن الثمن في (البيع بالتقسيط) يكون أكثر من سعر تلك البضاعة في السوق، فلو أراد رجل أن يشتريها نقدا، أمكن له أن يجدها في السوق بسعر أقل ولكنه حينما يشتريها بثمن مؤجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 بالتقسيط، فإن البائع لا يرضى بذلك إلا أن يكون ثمنه أكثر من ثمن النقد، فلا ينعقد البيع بالتقسيط عادة إلا بأكثر من سعر السوق في بيع الحال. زيادة الثمن من أجل التأجيل: ومن هنا ينشأ السؤال: هل يجوز أن يكون الثمن المؤجل أكثر من الثمن الحال؟ وقد تكلم الفقهاء في هذه المسألة قديما وحديثا، فذهب بعض العلماء إلى عدم جوازه، لكون الزيادة عوضا من الأجل، وهو الربا، أو فيه مشابهة للربا، وهذا مذهب مروي عن زين العابدين علي بن الحسين، والناصر والمنصور بالله، والهادوية، كما نقل عنهم الشوكاني رحمه الله (1) أما الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء والمحدثون، فقد أجازوا البيع المؤجل بأكثر من سعر النقد، بشرط أن يبت العاقدان بأنه بيع مؤجل بأجل معلوم، وبثمن متفق عيه عند العقد، فأما إذا قال البائع: أبيعك نقدا بكذا ونسيئة بكذا، وافتراقا على ذلك، دون أن يتفقا على تحديد واحد من السعرين، فإن مثل هذا البيع لا يجوز، ولكن إذا عين العاقدان أحد الشقين في مجلس العقد، فالبيع جائز. يقول الإمام الترمذي رحمه الله في جامعه: تحت حديث أبي هريرة رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، وقد فسر بعض أهل العلم قالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: (أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإن فارقه على أحدهما، فلا بأس، إذا كانت العقدة على أحد منهما) (2) .   (1) نيل الأوطار: 5/129. (2) جامع الترمذي، كتاب البيوع، باب 18، حديث 1331: 3/533، طبع بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وحاصل قول الإمام الترمذي رحمه الله تعالى: أن علة النهي عن هذا البيع إنما هو تردد الثمن بين الحالتين، دون أن تتعين إحداهما عند العقد، وهذا يوجب الجهالة في الثمن، وليس سبب النهي زيادة الثمن من أجل التأجيل، فلو زالت مفسدة الجهالة بتعيين إحدى الحالتين فلا بأس بهذا البيع شرعا. وإن ما ذكره الإمام الترمذي رحمه الله، هو مذهب الأئمة الأربعة وجمهور الفقهاء (1) ، وهو الراجح بالدليل، لأنه ليس في القرآن والسنة ما يمنع جواز مثل هذا البيع، وإن تعريف الربا لا ينطبق على هذه الزيادة في الثمن، لأنه ليس قرضا، ولا بيعا للأموال الربوية بمثلها، وإنما هو بيع محض، وللبائع أن يبيع بضاعته بما شاء من ثمن، ولا يجب عليه أن يبيعها بسعر السوق دائما، وللتجار ملاحظ مختلفة في تعيين الأثمان وتقديرها فربما تختلف أثمان البضاعة الواحدة باختلاف الأحوال، ولا يمنع الشرع من أن يبيع المرء سلعته بثمن في حالة، وبثمن آخر في حالة أخرى. وبالتالي: فإن من يبيع البضاعة بثمانية نقدا، وبعشرة نسيئة، يجوز له الإجماع أن يبيعها بعشرة نقدا، ما لم يكن فيه غش أو خداع، فلم لا يجوز له أم يبيعها بالعشرة نسيئة؟ وبما أن هذه المسألة متفق عليها فيما بين المذاهب الأربعة المتداولة، وبين أكثر الفقهاء والمحدثين، فلا نريد الإطالة في بيان دلائلها من الكتاب والسنة، بل نريد أن ننطلق في هذا البحث على أساس جواز هذا البيع، ونذكر بعض التفاصيل والمسائل المتفرعة على هذا الجواز.1- الجزم بأحد الثمنين شرط للجواز: قد تبين فيما سبق أنه لا بأس   (1) . راجع المغني، لابن قدامة:4/290؛والمبسوط، للسرخسي:13/8؛والدسوقي على الشرح الكبير:3/58؛ومغني المحتاج للشربيني: 2/31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 للبائع أن يذكر الأثمان المختلفة عند المساومة، فيقول: أبيعه نقدا بثمانية، ونسيئة بعشرة، وهل يجوز أن يذكر أثمانا مختلفة باختلاف الآجال، مثل أن يقول: أبيعه إلى شهر بعشرة، وإلى شهرين باثني عشر مثلا؟ لم أر في ذلك تصريحا من الفقهاء، وقياس قولهم السابق أن يجوز ذلك أيضا؛ لأنه إذا جاز اختلاف الأثمان على أساس كونها نقدا أو نسيئة، جاز اختلافها على أساس آجال مختلفة، لأنه لا فارق بين الصورتين. ولكن اختلاف الأثمان هذا إنما يجيز ذكرها عند المساومة، وأما عقد البيع فلا يصح، إلا إذا اتفق الفريقان على أجل معلوم وثمن معلوم، فلا بد من الجزم بأحد الشقوق المذكورة في المساومة. فلو قال البائع مثلا: إن أديت الثمن بعد شهر، فالبضاعة بعشرة، وإن أديته بعد شهرين، فهو باثني عشر، وإن أديته بعد ثلاثة أشهر، فهو بأربعة عشر، وافترقا على ذلك بدون تعيين أحد هذه الشقوق، زعما من المشتري أنه سوف يختار منها ما يلائمه في المستقبل، فإن هذا البيع حرام بالإجماع. ويجب على العاقدين أن يعقداه من جديد بتعيين أحد الشقوق واضحا. 2 - إنما الجائز زيادة في الثمن، لا تقاضي الفائدة: ومما يجب التنبيه عليه هنا: أن ما ذكر من جواز هذا البيع إنما هو منصرف إلى زيادة في الثمن نفسه، أما ما يفعله بعض الناس من تحديد ثمن البضاعة على أساس سعر النقد، وذكر القدر الزائد على أساس أنه جزء من فوائد التأخير في الأداء، فإنه ربا صراح، وهذا مثل أن يقول البائع: بعتك هذه البضاعة بثماني ربيات نقدا، فإن تأخرت في الأداء إلى مدة شهر، فعليك ربيتان علاوة على الثمانية، سواء سماها "فائدة " (Interest) أو لا، فإنه لا شك في كونه معاملة ربوية، لأن ثمن البضاعة إنما تقرر كونه ثمانية، وصارت هذه الثمانية دينا في ذمة المشتري، فما يتقاضى عليه البائع من الزيادة فإنه ربا لا غير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 والفرق العملي بين الصورتين، أن ما تصور كونه ثمنا في الصورة الأولى، صار ثمنا باتا بعد جزم الفريقين بأحد الشقوق، ولا يزيد هذا الثمن بعد تمام البيع ولا ينقص باختلاف أحوال المشتري في الأداء فلو كان المشتري اشترى البضاعة بعشرة على أنه سيؤدي الثمن بعد شهر، ولكنه لم يتمكن من الأداء إلا بعد شهرين، فإن الثمن يبقى عشرة كما هو، ولا يزيد بزيادة مدة الأداء الفعلي، وأما في الصورة الثانية، فالثمن ثمانية، وما يزيد عليه فائدة تطالب من أجل التأخير في الأداء، فلا تزال تزيد الفائدة كلما يطول التأخير، فتصير ربيتين في شهر، وأربع ربيات في شهرين، وهكذا، فالصورة الأولى نوع من أنواع البيع الحلال، والصورة الثانية داخلة في الربا المحرم شرعا. 3- توثيق الدين وأنواعه: وبما أن الثمن في البيع المؤجل يصير دينا على المشتري فور تمام العقد، فإنه يجوز للبائع أن يطالبه بتوثيق لهذا الدين، أو بضمان للتسديد عند حلول الأجل. الرهن: أما ضمان التسديد، فيمكن بطريق الرهن، أو بكفالة من الطرف الثالث، وفى الصورة الأولى يرهن المشتري شيئا من ممتلكاته لدى البائع، ويحق للبائع أن يمسكه كضمان للتسديد، بدون أن ينتفع به في صورة من الصور، لأن الانتفاع بالمرهون شعبة من شعب الربا، ولكن يبقى الشىء المرهون بيد البائع لضغط المشتري على الاهتمام بأداء الأقساط في موعدها، وليحق له إذا قصر المشتري في الأداء عند حلول الأجل، أن يبيع الشيء المرهون ويسدد دينه بذلك، ولكن لا يجوز له أن يتجاوز عن الثمن المتفق عليه في العقد، فإن فضل من قيمة الشيء المرهون شيء بعد تسديد الدين رده إلى المشتري الراهن، وكما يجوز رهن الأعيان المملوكة للمشتري كذلك يجوز رهن مستندات الملكية لتلك الأعيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 إمساك البائع المبيع لضمان التسديد: وقد اطلعت على صورة من المعاملات المعاصرة الجارية بين الناس، وهي أن البائع في البيع المؤجل يمسك المبيع عنده إلى أن يتم التسديد من قبل المشتري، أو إلى أن يتم تسديد بعض الأقساط. وإن إمساك المبيع بيد البائع في هذه الصورة يمكن أن يتصور بطريقتين: الأول: أن يكون على أساس حبس المبيع لاستيفاء الثمن. والثانى: أن يكون بطريق الرهن، والفرق بين الصورتين أن المبيع المحبوس عند البائع مضمون عليه بالثمن، لا بالقيمة، فلو هلك المبيع وهو محبوس عنده، ينفسخ البيع، ولا يكون مضمونا عليه بقيمته السوقية، أما في الرهن، لو هلك عند البائع بغير تعد منه، لا ينفسخ البيع، بل يضمنه المرتهن بأقل من قيمته ومن الدين عند الحنفية (1) وإذا هلك بتعد منه، يضمنه المرتهن بقيمته السوقية، لا بالثمن. فأما الطريق الأول، وهو حبس البائع المبيع لاستيفاء الثمن، فإنه لا يجوز في البيع بالتقسيط، لأن البيع بالتقسيط بيع مؤجل، وإن حق البائع في حبس المبيع لاستيفاء الثمن إنما يثبت في البيوع الحالة، وليس له ذلك في البيوع المؤجلة، جاء في الفتاوى الهندية: (قال أصحابنا رحمهم الله تعالى: للبائع حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن إذا كان حالا، كذا في المحيط، وإن كان مؤجلا فليس للبائع أن يحبس المبيع قبل حلول الأجل ولا بعده، كذا في المبسوط) (1) .   (1) بدائع الصنائع:6/160. (2) الفتاوى الهندية: 3/15، باب 4، من كتاب البيوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وأما الطريق الثاني، وهو أن يمسك البائع المبيع عنده بصفة كونه رهنا من المشتري بالثمن الواجب في ذمته، فإنه يمكن بطريقين أيضا: الأول: أن يرهنه المشتري قبل أن يقبضه من البائع، فهذا لا يجوز أيضا، لأنه في معنى حبس المبيع عند البائع لاستيفاء الثمن، وذلك لا يجوز في البيوع المؤجلة، كما ذكرنا. والثاني: أن يقبضه المشتري من البائع أولا، ثم يرده إليه بصفة كونه رهنا، فهذا جائز عند أكثر الفقهاء رحمهم الله تعالى، قال الإمام محمد في الجامع الصغير: (ومن اشترى ثوبا بدراهم، فقال للبائع: أمسك هذا الثوب حتى أعطيك الثمن، فالثوب رهن) . ونقله المرغيناني في الهداية، وقال شارحها في الكفاية: (لأن الثوب لما اشتراه وقبضه، كان هو وسائر الأعيان المملوكة سواء في صحة الرهن) (1) . وذكر الحصكفي هذه المسألة في الدر المختار، وأوضحها بقوله: (ولو كان ذلك الشيء الذي قال له المشتري: أمسكه، هو المبيع الذي اشتراه بعينه، لو بعد قبضه، لأنه حينئذ يصلح أن يكون رهنا بثمنه، ولو قبله لا يكون رهنا، لأنه محبوس بالثمن) . وقال ابن عابدين تحته: (قوله: " لأنه حينئذ يصلح ... إلخ "، أي لتعيين ملكه فيه، حتى لو هلك يهلك على المشتري، ولا ينفسخ العقد، قوله: " لأنه   (1) الكفاية شرح الهداية بهامش فتح القدير: 9/99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 محبوس بالثمن "، أى وضمانه يخالف ضمان الرهن، فلا يكون مضمونا بضمانين مختلفين، لاستحالة اجتماعهما، حتى لو قال: أمسك المبيع حتى أعطيك الثمن قبل القبض، فهلك، انفسخ البيع، زيلعي) (1) . والذي يظهر أن جواز مثل هذا الرهن ليس فيه خلاف بين الفقهاء المتبوعين إذا لم يكن هذا الرهن مشروطا في صلب عقد البيع، أما إذا كان مشروطا في صلب العقد فقد حكى ابن قدامة رحمه الله: (وإذا تبايعا بشرط أن يكون المبيع رهنا على ثمنه، لم يصح، قال ابن حامد رحمه الله، وهو قول الشافعي، لأن المبيع حين شرط رهنه لم يكن ملكا له، وسواء شرط أنه يقبضه ثم يرهنه، أو شرط رهنه قبل قبضه ... وظاهر الرواية صحة رهنه ... فأما إن لم يشترط ذلك في البيع، لكن رهنه عنده بعد البيع، فإن كان بعد لزوم البيع، فالأولى صحته، لأنه يصح رهنه عند غيره، فصح عنده كغيره، ولأنه يصح رهنه على غير ثمنه، فصح رهنه على ثمنه، وإن كان قبل لزوم البيع انبنى على جواز التصرف في المبيع، ففي كل موضع جاز التصرف فيه وجاز رهنه، ومالا فلا، لأنه نوع تصرف فأشبه بيعه) (1) . الرهن السائل: وهناك نوع آخر من الرهن يوجد في قوانين كثير من البلاد الإسلامية، لا يقبض فيه المرتهن على الشيء المرهون، وإنما يبقى   (1) . رد المحتار مع الدرالمختار، كتاب الرهن: 6/497، طبع كراتشي. (2) . المغني، لابن قدامة: 4/427 و 428، كتاب الرهن، دار الكتاب العربي، بيروت 1392هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 بيد الراهن، ولكن يحق للدائن إذا قصر المدين في الأداء أن يطالب ببيعه وتسديد دينه من حصيلة بيعه، وهذا النوع من الرهن يسمى أحيانا (الرهن الساذج) (SIMPLE MORTGAGE) وأحيانا: (الذمة السائلة) (FLOTING CHARGE) وهذا مثل أن يرهن المدين سيارته لدي الدائن، ولكن تبقى السيارة بيد المدين الراهن يستعملها لصالحه كيف يشاء، ولكن لا يجوز له نقل ملكيته إلى شخص ثالث حتى يفتك الرهن السائل بتسديد الدين، ويثبت للدائن المرتهن حق في بيعها إذا قصر صاحبها في أداء دينه، وإن هذا الحق يسمى (الذمة السائلة) (FLORTING CHARGE) فهل يجوز شرعا توثيق الدين بهذا النوع من الرهن؟ وربما يقع الإشكال في جوازه من الناحية الفقهية، أن معظم الفقهاء قد اشترطوا قبض المرتهن لصحة عقد الرهن أو لتمامه على أساس قوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [البقرة: 283] . وفي (الرهن السائل) لا يقبض المرتهن على الشيء المرهون، فينبغي أن لا يصح هذا الرهن. والواقع أن الفقهاء، وإن اشترطوا قبض المرتهن للشيء المرهون، ولكنهم في الوقت نفسه أجازوا بعد ذلك للراهن أن يستعير ذلك الشيء منه، وينتفع به لصالحه، ولا يفسد بذلك الرهن، بل يحق للمرتهن أن يسترده متى شاء، ولئن هلك الشيء المرهون عند الراهن، فإنما يهلك على مكة، ويحق للمرتهن أن يبيعه لتسديد دينه عند حلول الأجل، ولا يكون فيه أسوة لسائر الغرماء عند إفلاس الراهن أو موته. وقد جاء في الهداية للمرغيناني: (وإذا أعار المرتهن الرهن للراهن ليخدمه أو ليعمل له عملا، فقبضه، خرج من ضمان المرتهن، لمنافاة بين يد العارية ويد الرهن، فإن هلك في يد الراهن هلك بغير شيء، لفوات القبض المضمون، وللمرتهن أن يسترجعه إلى يده، لأن عقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الراهن باق، لا في حكم الضمان في الحال، ألا ترى أنه لو هلك الراهن قبل أن يرده على المرتهن، كان المرتهن أحق به من سائر الغرماء، وهذا لأن يد العارية ليست بلازمة، والضمان ليس من لوازم الرهن على كل حال) (1) . ولكن هذا إذا تم عقد الراهن بقبض المرتهن مرة، أعارة المرتهن للراهن، أما إذا لم يقبض المرتهن الرهن أصلا، فهل يثبت حكم الإعارة في تلك الصورة أيضا؟ الظاهر من عبارات الفقهاء أنه لا يثبت ذلك في تلك الصورة بناء على اشتراط القبض لصحة الرهن، ولكن هاهنا ملاحظ أذكرها لتأمل الفقهاء المعاصرين، وهي: 1 - إن المرتهن في (الرهن السائل) وإن كان لا يقبض الشيء المرهون، ولكنه في عموم الأحوال يقبض على مستندات ملكيته، فيحتمل أن يقال: إن الرهن قد تم بقبض المستندات، ثم صار الشيء المرهون كالعارية في يد الراهن. 2 - إن علة اشتراط القبض في الرهن، كما ذكر الفقهاء، هو تمكن المرتهن من تسديد دينه ببيع ذلك الشيء عند الحاجة، وإن هذا المقصود حاصل في " الرهن السائل " على أساس شروط الاتفاقية المعترف بها قانونا، فيحتمل أن يكون القبض الحسي غير لازم في الصورة المذكورة، لحصول المقصود بهذه الشروط المقررة. 3 - المقصود من الرهن هو توثيق الدين، وقد أجازت الشريعة لحصول هذا المقصود أن يحبس الدائن ملك المديون ويمنعه عن التصرف فيه إلى أن يتم تسديد الدين، فإن رضي الدائن بحصول مقصوده بأقل من ذلك، وهو أن يبقي العين المرهون بيد الراهن، ويبقى للمرتهن حق   (1) الهداية مع فتح القدير: 9/116؛ وراجع أيضا: رد المحتار: 6/510 و 511. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 التسديد فقط، فلا يرى في ذلك أي محظور شرعي. 4 - إن " الرهن السائل " فيه مصلحة للجانبين، أما مصلحة الراهن فظاهرة، من حيث إنه لا يحرم من الانتفاع بملكه، وأما مصلحة المرتهن، فمن حيث إنه يحتفظ بحق التسديد دون أن يضمن الشيء المرهون عند الهلاك، غاية الأمر أنه ربما بتضرر به الغرماء الآخرون عند إفلاس الراهن، فإن المرتهن يكون أحق بذلك الشيء ممن سواه من الغرماء، ولكن ضررهم هذا لم يعتبر شرعا فيما إذا كان الرهن مقبضا للمرتهن، وفيما إذا قبضه المرتهن، ثم استعاره الراهن منه، كما تقدم، فتبين أن مجرد هذا الضرر لا يفسد الرهن. 5 - إن القبض على الشيء المرهون ربما يكون متعذرا في التجارة الدولية، التي يكون البائع فيه ببلد، والمشتري ببلد آخر، والشيء المرهون يتطلب مؤونة كبيرة ونفقات باهظة لتحويله من محل إلى آخر، ولا سبيل لتوثيق الدين في مثل هذه الصورة إلا " بالرهن السائل ". وإن هذه الملاحظات الخمس قد تجعلني أميل إلى جواز " الرهن السائل "، والمسألة مطروحة لدى العلماء للبت فيها، والله سبحانه أعلم. الكفالة من طرف ثالث: ومن طرق ضمان التسديد أن يكفل طرف ثالث بمبلغ الدين ويلتزم على نفسه تسديد الدين من عنده إذا قصر المدين الأصيل، وهذا النوع من الضمان يسمى " كفالة " وللكفالة أحكام مبسوطة في كتب الفقه، لا نقصد ذكرها في هذا البحث. ولكن نريد هاهنا أن نلم بجزئية واحدة من أحكام الكفالة، وهي تقاضي الأجرة أو الجعل على الكفالة، فإن البنوك التقليدية في عصرنا لا تضمن لأحد بأداء الدين إلا إذا رضي المكفول به ببذل أجرة معلومة على ذلك، وربما تكون لهذه الأجرة نسبة مرتبطة بمبلغ الدين، مثل الثلاث في المائة، أو الأربع في المئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ومن المعروف في الفقه الإسلامي أن الكفالة عقد تبرع كالقرض، فلا يجوز تقاضي الأجرة عليها. ولكن ربما استدل بعض المعاصرين على جواز أخذ الأجرة على الكفالة، بأن الكفالة أصبحت اليوم عنصرا قويا من عناصر التجارة المعاصرة، وقد أنشئت من أجل ذلك مؤسسات مستقلة تقدم خدمات الكفالة وتنفق على هذه الخدمات نفقات باهظة، فلم تعد الكفالة عقد تبرع محض، وإنما أصبحت معاملة مالية يحتاج إليها التجار، وخاصة في التجارات الدولية، وليس من الميسور الحصول على المتبرعين بالكفالة بالعدد المطلوب، فينبغي أن يجوز إعطاء الأجرة عليها. ولكن هذا الدليل غير صحيح، لأنه لو كان صحيحا لجاز تقاضي الفائدة على القرض أيضا، لأن نفس هذا الكلام ينطبق على عقد القرض سواء بسواء، فإن القرض، وإن كان عقد تبرع في الأصل، غير أنه قد أصبح اليوم من الحاجات الأساسية للتجارة، وقد أنشئت لتقديم القروض مؤسسات مستقلة، وهي البنوك، ولا يمكن الحصول على المتبرعين بالقرض بالعدد المطلوب، ومع ذلك لا يقول أحد بجواز تقاضي الفائدة على القروض. والواقع أن الكفالة والقرض لا يختلفان في كونهما عقدي تبرع، وكما لا يجوز أخذ الفائدة على القرض، كذلك لا يجوز أخذ الأجرة على الكفالة، بل إن أجرة الكفالة أولى بالتحريم من فائدة القرض، وذلك لأن الكفالة التزام محض لأداء الدين عن المكفول له، بحيث إذا وقع الأداء فعلا، فإنه يصير قرضا للكفيل على الأصيل، فكأنه التزام بالإقراض، في حين أن الإقراض هو الدفع فعلا، فإذا كان أخذ الأجرة على الإقراض - وهي الفائدة - ممنوعا، فإن أخذ الأجرة على الالتزام به أولى بالمنع. ويتضح هذا بمثال: هب أن زيدا استدان من عمرو مائة دولار، وطالبه عمرو بكفيل. فجاء خالد يقول لزيد: أنا أؤدي عنك دينك الآن، على أن تعطيني بعد ذلك مائة وعشرة، والعشرة أجرة على ما قدمته من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 خدمة الأداء. وجاء بكر يقول لزيد: أنا أكفل عنك دينك، على أن تعطيني عشرة دولارات أجرة الكفالة، وتكون المائة قرضا عليك إذا اضطررت إلى الأداء فعلا. ويلزم القائلين بجواز أجرة الكفالة أن تكون الأجرة التي يتقاضاها بكر جائزة، والأجرة التي تقضاها خالد حراما، مع أن خالدا قد بذل ماله فعلا، وإن بكرا لم يفعل شيئا إلا الالتزام بالبذل عند الأداء، فلو كانت الأجرة المطلوب من قبل الباذل حراما، فالأجرة المطلوبة من قبل الملتزم أولى بالتحريم. وبعبارة أخرى، فإن الكفيل نفسه، لو اضطر إلى أداء الدين من قبل الأصيل، فإنه لا يجوز له أن يطالب الأصيل إلا بما دفع فعلا، ولا يجوز له الزيادة على ذلك، لكونها ربا محرما، فكيف يجوز له أن يطالب الأصيل بشيء فيما إذا لم يدفع شيئا، وإنما التزم بالدفع فقط؟ وبهذا تبين أنه لا سبيل إلى القول بجواز أجرة الكفالة (1) ، فما هو البديل الشرعي الذي يمكن أن تتخذه البنوك الإسلامية، لا سيما في عمليات التجارة الدولية، وفي إصدار خطاب الضمان (etter of Credit) ؟ والجواب أنه يجوز للبنك أن يتقاضى من العميل شيئين: الأول: النفقات الفعلية التي تحملها في عملية إصدار خطاب الضمان. الثاني: الأجر على جميع الأعمال التي يباشرها بصفة الوكيل، أو السمسار، أو الوسيط بين المورد والمصدر. ولكن لا يجوز له أن يطالب بالأجرة على نفس الكفالة والضمان.   (1) هذا ما أراه حتى الآن ولكن المسألة تحتاج إلى مزيد من الدراسة ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 توثيق الدين بالكمبيالة: وربما يقع توثيق الدين بتوقيع المشتري على وثيقة مكتوبة يعترف بها بكونه مديونا للبائع بمبلغ مسمى إلى أجل مسمى. ويلتزم بأداء مبلغها في تاريخ معين، وتسمى هذه الوثيقة المكتوبة في العرف المعاصر " كمبيالة " (Bill of Exchange) وإن التاريخ الذي يلزم فيه الأداء يسمى " تاريخ نضج الكمبيالة " (Maturity date) . وإن توثيق الدين بالكمبيالة جائز شرعا، بل هو مندوب بمقتضى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} [البقرة: 282] . ولكن المشكلة إنما تحدث من جهة أن الكمبيالة قد أصبحت اليوم آلة قابلة للتداول (Negotiable Instrument) وإن حامل الكمبيالة، وهو الدائن الأصيل ربما يبيعها إلى طرف ثالث بأقل من المبلغ المكتوب عليها، طمعا في استعجال الحصول على المبلغ قبل حلول الأجل. وإن هذا البيع يسمى " خصم الكمبيالة " (Discounting of the Bill) فكلما أراد حامل الكمبيالة أن يتعجل في قبض مبلغها، ذهب إلى شخص ثالث، وهو البنك في عموم الأحوال، وعرض عليه الكمبيالة، والبنك يقبلها بعد التظهير (1) (Endorsement) من الحامل، ويعطى مبلغ الكمبيالة نقدا بخصم نسبة مئوية منها. وإن خصم الكمبيالة بهذا الشكل غير جائز شرعا، إما لكونه بيع الدين من غير من عليه الدين، أو لأنه من قبيل بيع النقود بالنقود متفاضلة ومؤجلة، وحرمته منصوصة في أحاديث ربا الفضل. ولكن هذه المعاملة يمكن تصحيحها بتغيير طريقها وذلك أن يوكل   (1) التظهير: هو التوقيع على ظهر الوثيقة، ويعتبر دليلا على أن صاحبها قد تنازل عن مبلغها لغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 صاحب الكمبيالة البنك باستيفاء دينه من المشتري (وهو مصدر الكمبيالة) ويدفع إليه أجرة على ذلك، ثم يستقرض منه مبلغ الكمبيالة، ويأذن له أن يستوفي هذا القرض مما يقبض من المشتري بعد نضج الكمبيالة، فتكون هناك معاملتان مستقلتان: الأولى معاملة التوكيل باستيفاء الدين بالأجرة المعينة، والثانية: معاملة الاستقراض من البنك، والإذن باستيفاء القرض من الدين المرجو حصوله بعد نضج الكمبيالة، فتصح كلتا المعاملتين على أسس شرعية، أما الأولى، فلكونها توكيلا بالأجرة، وذلك جائز، وأما الثانية، فلكونها استقراضا من غير شرط زيادة، وهو جائز أيضا. إسقاط بعض الدين مقابل التعجيل: ومما يتعامل به بعض التجار في الدين المؤجلة أنهم يسقطون حصة من الدين بشرط أن يعجل المدين الباقي، مثل أن يكون لزيد على عمرو ألف، فيقول زيد: عجل لي تسعمائة، وأنا أضع عنك مائة، وإن هذه المعاملة معروفة في الفقه الإسلامي باسم " ضع وتعجل ". وقد اختلف الفقهاء في حكمها، فذهب عبد الله بن عباس رضي الله عنه من الصحابة وإبراهيم النخعي من التابعين وزفر بن الهذيل من الحنفية، وأبو ثور من الشافعية إلى جوازه، وروي عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت من الصحابة رضي الله عنهم وعن محمد بن سيرين والحسن البصري، وابن المسيب، والحكم بن عتيبة، والشعبي رحمهم الله من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 التابعين عدم جواز ذلك (1) ، وهو المروي عن الأئمة الأربعة. وهناك حديثان مرفوعان متعارضان، وفي إسناد كل واحد منهما ضعف: أما الحديث الأول، فقد أخرجه البيهقي بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج بني النضير من المدينة جاء ناس منهم، فقالوا: يا رسول الله, إنك أمرت بإخراجهم ولهم على الناس ديون لم تحل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضعوا وتعجلوا " (2) .وهذا الحديث يدل على الجواز، ويعارضه ما أخرجه البيهقي في الباب اللاحق عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: " أسلفت رجلا مائة دينار، ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: عجل لي تسعين دينارا، وأحط عشرة دنانير، فقال: نعم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أكلت ربا يا مقداد وأطعمته" (3) .وقد صرح البيهقي رحمه الله تعالى، بأن كل واحد من الحديثين ضعيف من جهة الإسناد، فلا تقوم بأي منهما حجة. ورجع جمهور الفقهاء جانب الحرمة، لأن زيادة الدين في مقابلة التأجيل ربا صراح، فكذلك الحط من الدين بإزاء التعجيل في معناه. أما قصة بني النضير، فليس فيها حجة، أما أولا: فلأن إسنادها ضعيف، وأما ثانيا، فلأنه لو ثبتت هذه القصة من جهة الإسناد، فيمكن أن يقال: إن قصة إجلاء بني النضير وقعت في السنة الثانية من الهجرة، وذلك قبل نزول حرمة الربا.   (1) راجع آثارهم في موطأ الإمام مالك: 1/606؛ ومصنف عبد الرازق: 8/74_71. (2) السنن الكبري للبيهقي: 6/28، كتاب البيوع، باب من عجل له أدنى من حقه. (3) السنن الكبرى، للبيهقي: 6/28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله هذه القصة واستدل بها على أنه لا ربا بين المسلم والحربي، قال رحمه الله تعالى: (ولما أجلي بين النضير قالوا: إن لنا ديونا على الناس، فقال: ضعوا وتعجلوا، ومعلوم أن مثل هذه المعاملة لا يجوز بين لمسلمين، فإن من كان له على غيره دين إلى أجل، فوضع عنه بعضه بشرط أن يعجل بعضه لم يجز، كره ذلك عمر، وزيد بن ثابت، وابن عمر (رضي الله عنهم) (ذ) . وحاصل هذا الجواب أن المسلمين كانوا في حالة الحرب مع بني النضير، فكان يجوز لهم أن يقبضوا على جميع أموالهم في تلك الحالة فلو استوضعوا عنهم بعض الديون، جاز من باب أولى. والوجه الرابع في الاعتذار عن قصة بني النضير أن اليهود كانوا يداينون الناس على أساس الربا، والذي أمر رسول الله عليه وسلم بوضعه، هو الربا الزائد على رأس المال، ولم يأمرهم بالوضع في رأس المال نفسه، ويؤيده أن الواقدي ذكر هذه القصة في سيره، فقال: (فأجلاهم -أي بني النضير - رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، وولي إخراجهم محمد بن مسلمة، فقالوا: إن لنا ديونا على الناس إلى آجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تعجلوا وضعوا)) ، فكان لأبي رافع سلام بن أبي الحقيق على أسيد بن حضير عشرون ومائة دينار إلى سنة، فصالحه على أخذ رأس ماله ثمانين دينارا، وأبطل ما فضل) (2)   (1) شرح السير الكبير، للسرخسي:4/1412، فقرة 2738، وذكر هذه المسألة مرة ثانية في:4/4194، فقرة2921، بتحقيق صلاح الدين المنجد، طبع باكستان 1415 هـ. (2) مغازي الواقدي:1/374؛ وذكر الواقدي أن مثل هذه القصة وقعت عند إجلاء بني قينقاع أيضا، يراجع: 1/179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فهذه الرواية صريحة في أن الموضوع كان هو الربا، لا حصة من رأس المال، ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى القول بتحريم " ضع وتعجل " فقال الإمام مالك رحمه الله بعد رواية آثار زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهم: (قال مالك: والأمر المكروه الذي لا اختلاف فيه عندنا أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل، فيضع عنه الطالب، ويعجله المطلوب، قال مالك: وذلك عندنا أن يكون للرجل على الرجل الدين إلى أجل، فيضع عنه الطالب ويعجله المطلوب في حقه، قال: هذا الربا بعينه لا شك فيه) (1) . وقال الإمام محمد في موطئه بعد رواية أثر زيد بن ثابت رضي الله عنه: (قال محمد: وبهذا نأخذ، من وجب له دين على إنسان إلى أجل، فسأل أن يضع عنه، ويعجل له ما بقي، لم ينبغ ذلك، لأنه يعجل قليلا بكثير دينا، فكأن يبيع قليلا نقدا، بكثير دينا وهو قول عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر. وهو قول أبي حنيفة (1) . وقال ابن قدامة في المغني: (إذا كان عليه دين مؤجل فقال لغريمه: ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته، لم يجز. كرهه زيد بن ثابت وابن عمر،   (1) الموطأ، للإمام مالك، بيوع، ما جاء في الربا في الدين: 1/606، طبع كراتشي. (2) الموطأ، للإمام محمد: 1/334، باب الرجل يبيع المتاع أو غيره نسيئة، ثم يقول: أنقدني وأضع عنك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 والمقداد وسعيد بن المسيب وسالم والحسن وحماد والحكم والشافعي ومالك والثوري وهشيم وابن علية وإسحاق وأبو حنيفة، وقال مقداد لرجلين فعلا ذلك: كلاكما قد آذن بحرب من الله ورسوله، وروي عن ابن عباس أنه لم ير به بأسا، وروي ذلك عن النخغي وأبي ثور، لأنه آخذ ببعض حقه، تارك لبعضه، فجاز، كما لو كان الدين حالا، الخرقي: لا بأس أن يعجل المكاتب لسيده ويضع عنه بعض كتابته، ولنا أنه بيع الحلول فيم يجز، كما لو زاده الذي له الدين فقال: أعطيك عشرة دراهم وتعجل لي المائة التي عليك، فأما المكاتب فإن معاملته مع سيده، وهو يبيع بعض ماله ببعض، فدخلت المساهمة فيه، ولأنه سبب العتق، فسومح فيه، بخلاف غيره) (1) . وبناء على هذه النصوص الفقهية، فالراجح حرمة إسقاط بعض الدين في مقابل إسقاط بعض الأجل. (ضع وتعجل) في الديون الحالة: ولكن الذي يبدو أن حكم المنع هذا يختص بالديون المؤجلة. أما في الديون الحالة التي لا يكون الأجل فيها مشروطا في العقد، وإنما يتأخر المدين في الأداء لسبب أو لآخر، فالظاهر أنه لا بأس بالصلح على إسقاط بعض الدين بشرط أن يؤدي المدين الدين المتبقي معجلا، وهذا قد صرح به علماء المالكية، جاء في المدونة الكبرى: (قلت: أريت: لو أن لي على رجل ألف درهم قد حلت، فقلت: اشهدوا: إن أعطاني مائة درهم عند رأس الشهر،   (1) المغني، لابن قدامة، مع الشرح الكبير: 4/174 و175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فتسعمائة درهم له، وإن لم يعطني فالألف كلها عليه. قال مالك: لا بأس بهذا، وإن أعطاه رأس الهلال فهو كما قال: وتوضع عنه التسعمائة، فإن لم يعطه رأس الهلال، فالمال كله عليه) ثم ذكر مسألة أخرى من هذا النوع، فقال: (قلت: أرأيت لو أن لي على رجل مائة دينار ومائة درهم حالة فصالحته من ذلك الربا. على مائة دينار ودرهم نقدا، قال: لا بأس بذلك) (2) . وقال الحطاب رحمه الله تعالى: (وما ذكره عن عيسى هو في نوازله من كتاب المديان والتفليس ونصه: وسئل عن الرجل يقول لغريمه وقد حل حقه: أم عجلت لي كذا وكذا من حقي فبقيته عنك موضع إن عجلته لي نقدا الساعة، أو إلى أجل يسميه، فعجل له نقدا، أو إلى الأجل، إلا الدرهم أو النصف أو أكثر من ذلك: هل تكون الوضيعة لازمة؟ فقال: ما أرى الوضيعة تلزمه إذا لم يعجل له جميع ذلك، وأرى الذي له الحق على شرطه. قال محمد بن رشد: هذه مسألة يتحصل فيها أربعة أقوال: أحدها قوله في هذه الرواية، وهو قول أصبغ في الواضحة. ومثله في آخر كتاب الصلح من المدونة أن الوضيعة لا تلزمه إلا أن يعجل له جميع ما شرط إلى الأجل الذي سمي، وهو أصح الأقوال) (2) .   (1) المدونة الكبرى: 11/27، آخر كتاب الصلح. (2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب: ص231، وراجع أيضا: فتح العلي المالك: 1/289 و 290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فهذا تصريح من علماء المالكية في جواز " ضع وتعجل " في الديون الحالة، ويبدو أن مذهب غيرهم من الفقهاء موافق لهم في ذلك، فإنهم حيث ذكروا حرمة " ضع وتعجل" قيدوا ذلك بالديون المؤجلة، كما هو ظاهر من عبارة الإمام محمد بن حسن في موطئه ومن ترجمة الباب التي عقدها، كذلك قيد ابن قدامة هذه المسألة بالدين المؤجل، (وقد مرت نصوصهما آنفا) ومن المعلوم أن مفاهيم كتب الفقه فيها حجة، فدل على جواز " ضع وتعجل " في الديون الحالة، وقال الشيخ ولي الدهلوي رحمه الله تعالى بعد ذكر قصة كعب وابن أبي حدود في وضع نصف الدين (1) : (فقال أهل العلم في التطبيق بينه وبين هذه الآثار أن الآثار في المؤجل، وهذا في الحال، وفي كتاب الرحمة: اتفقوا على من كان له دين على إنسان إلى أجل، فلا يحل له أن يضع عنه بعض الدين قبل الأجل ليعجل له الباقي ... على أنه لا بأس إذا حل الأجل أن يأخذ البعض ويسقط البعض) . والفرق بين الديون المؤجلة والديون الحالة ظاهر من جهة أن الدين الحال لا يشترط فيه الأجل، ولا يكون التأجيل فيه حقا من حقوق المدين، وبما أن الأجل منتف، فلا يمكن أن يقال إن الحصة الموضوعة من الدين عوض عن الأجل، فلا يكون في معنى ومما يجدر بالذكر هنا: أن عقد القرض الحسن لا يتأجل بالتأجيل عند الحنفية والشافعية والحنابلة، ويتأجل عند المالكية فقط. قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وإن أجل القرض لم يتأجل، وكان حالا. وكل دين حلّ   (1) المسوى مع المصفى: 2/382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أجله لم يصر مؤجلا بتأجيله، وبهذا قال الحارث العكلي والأوزاعي وابن المنذر والشافعي. وقال مالك والليث: يتأجل الجميع بالتأجيل. وقال أبو حنيفة في القرض وبدل المتلف كقولنا) (1) . وقال العيني رحمه الله تعالى: (اختلف العلماء في تأخير الدين إلى أجل، فقال أبو حنيفة وأصحابه: سواء كان القرض إلى أجل أو غير أجل، له أن يأخذ متى أحب، وكذلك العارية وغيرها، لأنه عندهم من باب العدة والهبة غير مقبوضة، وهو قول الحارث العكلي وأصحابه وإبراهيم النخعي. وقال ابن أبي شيبة: وبه نأخذ. وقال مالك وأصحابه إذا أقرضه إلى أجل، ثم أراد أن يأخذ قبل الأجل، لم يكن له ذلك) (2) . فعلى قول من يقول: إن القرض لا يتأجل بالتأجيل، يجوز " ضع وتعجل " في القروض، لأنها من الديون الحالة التي يجوز فيها " ضع وتعجل ". والأصل فيه حديث كعب بن مالك رضي الله عنه: (أنه كان له على عبد الله بن حدرد الأسلمي دين، فلقيه فلزمه، فتكلما حتى ارتفعت الأصوات، فمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا كعب: وأشار بيده كأنه يقول: النصف. فأخذ نصف ما عليه وترك نصفا) (3) .   (1) المغني، لابن قدامة مع الشرح الكبير: 4/354. (2) عمدة القاري، للعيني:6/60و61، وكتاب الاستقراض، باب إذا أقرضه إلى أجل مسمى. وراجع أيضا أحكام القرآن، للجصاص1/483، تحت آية المداينة، وفتح الباري: 5/ 66، والمسوى مع المصفى: 1/382، وتنقيح الفتاوى الحامدية: 1/277 و 278، وشرح المجلة للأتاسي: 1/439. (3) أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه، وهذا لفظه في الخصومات، باب في الملازمة بحديث 2424. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الوضع عند التعجيل من غير شرط: وكذلك المنع من الوضع بالتعجيل في الديون المؤجلة إنما يكون إذا كان الوضع شرطا للتعجيل. أما إذا عجل المدين من غير شرط، جاز للدائن أن يضع عنه بعض دينه تبرعا. وعليه حمل الجصاص رحمه الله الآثار التي تدل على جواز "ضع وتعجل" قال رحمه الله تعالى: (ومن أجاز من السلف إذا قال: عجل لي وأضع عنك، فجائز أن يكون أجازوه إذا لم يجعله شرطا فيه، وذلك بأن يضع عنه بغير شرط، ويعجل الآخر الباقي بغير شرط) (1) . (ضع وتعجل) في المرابحة المؤجلة: ثم إن وضع بعض الدين المؤجل بشرط التعجيل ممنوع في بيوع المساومة، يعني في البيوع المطلقة التي لا يعقدها البائع بطريق المرابحة، فيعقد البيع بدون ذكر قدر الربح الذي يريد أن يرابحه عليه. أما إذا كان البيع بطريق المرابحة، وقد صرح فيه البائع بزيادة في الثمن من أجل الأجل، فقد أفتى المتأخرون من الحنفية بأنه إذا قضى المدين الدين قبل حلول الأجل، أو مات قبله، فإن البائع لا يأخذ من الثمن إلا بمقدار ما مضى من الأيام، ويحط من دينه ما كان بإزاء المدة الباقية. قال الحصكفي في الدر المختار: (قضى المدين الدين المؤجل قبل الحلول أو مات، فحل بموته، فأخذ من تركته لا يأخذ من المرابحة التي جرت بينهما إلا بقدر ما مضى من الأيام، وهو جواب المتأخرين، قنية، وبه أفتى المرحوم أبو السعود أفندي مفتي الروم، وعلله بالرفق للجانبين) .   (1) أحكام القرآن للجصاص:1/467 تحت آية الربا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وقال ابن عابدين تحته: (قوله: لا يأخذ المرابحة) صورته: اشترى شيئا بعشرة نقدا، وباعه بآخر بعشرين إلى أجل هو عشرة أشهر، وإذا قضاه بعد تمام خمسة (أشهر) أو مات بعدها يأخذ خمسة، ويترك خمسة) (1) . وقد ذكرت هذه المسألة بعينها في تنقيح الفتاوى الحامدية، وفيها من الزيادة ما يلي: (سئل فيما إذا كان لزيد بذمة عمرو مبلغ دين معلوم، فرابحه عليه إلى سنة، ثم بعد ذلك بعشرين يوما مات عمرو المديون، فحل الدين، ودفعه الورثة لزيد، فهل يؤخذ من المرابحة شيء أو لا؟ الجواب: جواب المتأخرين أنه لا يؤخذ من المرابحة التي جرت مبايعة عليها إلا بقدر ما مضى من الأيام. قيل: (للعلامة نجم الدين: أتفتي به؟ قال: نعم. كذا في الأنقروي والتنوير. وأفتى به علامة الروم مولانا أبو السعود) (2) . وإن هذه الفتوى من متأخري الحنفية تفرق بين بيوع المساومة وبيوع المرابحة التي يصرح فيها البائع بزيادة الثمن بسبب الأجل، فلا يجوز " ضع وتعجل " في بيوع المساومة كما أسلفنا، ويجوز في بيوع المرابحة.   (1) رد المحتار، لابن عابدين:6/757، آخر الحظر والإباحة، قبيل كتاب الفرائض. وقد ذكرت هذه المسألة في البيوع قبيل فصل في القرض أيضا، وذكر فيه أنه قد أفتى به الحانوتي ونجم الدين وأبو السعود وغيرهم:5/160، والمسألة مذكورة في حاشية الطحاوي على الدر:3/104و4/363 أيضا. (2) تنقيح الفتاوى الحامدية: 1/278، والمسألة مذكورة في شرح المجلة للأتاسي: 2/455. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ولعلهم أفتوا بذلك على أساس أن الأجل وإن لم يكن صالحا للاعتياض عنه على سبيل الاستقلال، ولكن يجوز أن يقع بإزائه شيء من الثمن ضمنا وتبعا، كما أنه لا يجوز بيع الحمل في بطن البقرة، ولكن يجوز أن يزاد من أجله في قيمة البقرة، فما لا يجوز بيعه مستقلا قد يجوز الاعتياض عنه تبعا. ولما كان أساس المرابحة على بيان قدر من الربح، جاز أن يكون شيء من الربح بإزاء الأجل. فصار الأجل كأنه وصف في المبيع، فلما انتقص ذلك الوصف بأداء الدين قبل الحلول، أو بسبب حلوله بموت المدين، انتقص الثمن بقدره وإلى هذا المعنى أشار ابن عابدين في تعليل هذه المسألة، فقال: (وجه بأن الربح في مقابلة الأجل، لأن الأجل وإن لم يكن مالا، ولا يقابله شيء من الثمن، ولكن اعتبروه مالا في المرابحة إذا ذكر الأجل بمقابلة زيادة الثمن، فلو أخذ كل الثمن قبل الحلول، كان أخذه بلا عوض) (1) . وهذا التوجيه، وإن كان فيه شيء من الوزن، ولكنه مخالف للدلائل التي أسلفناها في منع (ضع وتعجل) فإنها وردت في كل دين مؤجل، دون فرق بين المساومة والمرابحة، وإن العمل بهذه الفتوى قد يجعل المرابحة والبيع بالتقسيط أكثر مشابهة بالمعاملات الربوية، التي يتردد فيها القدر الواجب في الذمة ما بين القليل والكثير مرتبطا بالآجال المختلفة للأداء. فلا أرى من المناسب العمل بهذه الفتوى في البيع بالتقسيط، ولا في المرابحات التي تجريها المصارف الإسلامية. والله سبحانه وتعالى أعلم. حلول الدين بالتقصير في أداء بعض الأقساط: وقد تنص بعض اتفاقيات البيع التقسيط على أن المشتري إذا لم يؤد   (1) . رد المحتار: 6/757، قبيل كتاب الفرائض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 قسطا من الثمن في موعده المحدد، فإن بقية الأقساط تصير حالة ويجوز للبائع أن يطالب بها في الحال مجموعة. فهل يجوز هذا الشرط؟ وقد ذكرت هذه المسألة في بعض كتب الحنفية، فجاء في خلاصة الفتاوى: (ولو قال: كلما دخل نجم ولم تؤد، فالمال حال، صح، ويصير المال حالا) (1) . وقد ذكرت هذه المسألة في الفتاوى البزازية محرفة لا يستقيم بها المعنى، ونبه على ذلك الرملي في حاشيته على جامع الفصولين، فقال: (في البزازية: وإبطال الأجل يبطل بالشرط الفاسد بأن قال: كلما حل نجم ولم تؤد، فالمال حال، صح، وصار حالا. اهـ. وعبارة الخلاصة: وإبطال الأجل يبطل بالشرط الفاسد. ولو قال: كلما دخل نجم ولم تؤد، فالمال حال، صح، والمال يصير حالا. اهـ. فجعلها مسألتين، وهو الصواب. والله أعلم. ذكره الغزي) (2) . وإن هذه النصوص الفقهية تدل على جواز مثل هذا الشرط. وحينئذ إذا قصر المشتري في أداء بعض الأقساط عند حلول موعدها جاز للبائع أن يطالبه ببقية الأقساط حالة. ولكن مقتضى ما ذكرناه عن بعض المتأخرين من الحنفية في مسألة المرابحة السابقة أن لا يطالبه من ربح المرابحة إلا بقدر ما مضى من الأيام. فمن أخذ بتلك الفتوى، فليأخذ بها في هذه المسألة أيضا، ومن لم يأخذ بها، كما هو المناسب في رأينا، فإنما يفتي بحلول الثمن بكامله عند التقصير في أداء بعض الأقساط، والله سبحانه أعلم.   (1) خلاصة الفتاوى: 3/54، طبع لاهور، كتاب البيوع. (2) الفوائد الخيرية على جامع الفصولين: 2/4، طبع الأزهرية، مصر 1300هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 مسألة التعويض عن ضرر المطل: وهناك مسألة أخرى تتعلق بالبيع المؤجل، وهي أن المشتري المدين ربما يقصر في أداء دينه عند حلول الأجل، أو في أداء بعض الأقساط في موعدها. فإن كان هذا التقصير من أجل إعساره، فقد بين القرآن الكريم حكمه واضحا، وهو قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} [البقرة: 280] . يعني: يجب على الدائن في هذه الحال أن يمهله إلى أن يزول إعساره، ويتمكن من أداء دينه، ولا يجوز للدائن أن يضيف إلى دينه شيئا، فإنه ربا صراح، لا شبهة فيه. ولكن التقصير في أداء الدين ربما يكون على وجه المماطلة بدون عذر الإعسار، ولقد نشاهد اليوم أن الناس قد انتقص فيهم الوازع الديني والخلقي، وقد انخفض فيهم مستوى الديانة والأمانة، فلا يحتفل كثير منهم بمسؤوليتهم عن أداء الدين في موعده، فيتضرر الدائن بمماطلته ضررا بينا. وإن مشكلة المماطلة يواجهها اليوم كل دائن، ولكن ما تعانيه المصارف الإسلامية من الأضرار بسبب المماطلة أكثر وأبشع. وذلك لأن النظام الربوي يلعب فيه سعر الفائدة دورا فعالا في الضغط على المدين بأداء دينه في موعده، لأنه إذا قصر فيه لسبب أو آخر تضاعفت الفائدة عليه بصورة تلقائية. وبما أن الدين لا يمكن الزيادة فيه شرعا بسبب التقصير أو المماطلة، فإن الدائن ربما يستغل هذا الوضع، ويستمر في مماطلته إلى ما يشاء. ومعلوم أن لعنصر الوقت أهمية بالغة في النظام التجاري اليوم، وخاصة في النظام المصرفي المعاصر، فهل هناك من سبيل لدفع ضرر المماطلة من الدائنين، وخاصة عن المصارف الإسلامية؟ والذي أعتقد أن هذه المسألة لا تحدث مشكلة كبيرة إن كانت جميع المصارف في البلاد تتبع طريقة شرعية موحدة، وذلك لأن مثل هذا المماطل يجوز أن يعاقب بحرمانه عن الانتفاع بالتسهيلات المصرفية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 المستقبل، فيحمل اسمه في قائمة سوداء، ولا يتعامل معه أي مصرف في الدولة. وإن مثل هذا التهديد يؤثر في الضغط عليه بالوفاء أكثر مما يؤثر سعر الفائدة. وكذلك يجوز شرعا أن يعزر هذا المماطل بعقوبات شرعية أخرى، لقوله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) (1) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عقوبته عرضه) (2) . واللّيّ معناها: المطل، والواجد بمعنى الغني. ولكن الطريقة الأولى (وهي إدراج اسم المماطل في قائمة سوداء) إنما تؤثر إذا كانت المصارف كلها تتبع طريقة واحدة، والطريقة الثانية (وهي التعزير والعقوبة) تحتاج إلى محاكم سريعة تحكم بصفة عاجلة. وحيث إن كلا الأمرين مفقود في كافة البلاد الإسلامية، فإن هذا الحل الأساسي لمشكلة المماطلة ليس بيد المصارف الإسلامية اليوم. ومن أجل هذا، قد اقترح بعض العلماء المعاصرين أن يلزم مثل هذا المماطل بأدائه إلى الدائن عوضا ماليا عن الضرر الفعلي الذي لحقه بسبب مماطلته. وقدرت بعض المصارف الإسلامية هذا الضرر الفعلي على أساس نسبة الربح التي أدتها تلك المصارف فعلا خلال مدة المماطلة إلى مودعيها في حساب الاستثمار. فإن لم يكن في حساب الاستثمار في تلك المدة ربح، لم يطالب المدين بأي تعويض، فإن كان هناك ربح فإنه يطالب بنسبة ذلك الربح الفعلي الذي حصل في تلك المدة. وقد فرق هؤلاء العلماء بين التعويض وبين الفائدة الربوية بالفوارق التالية:   (1) . صحيح البخاري، كتاب الاستقراض، رقم 2400. (2) ذكره البخاري في الاستقراض تعليقا، وأخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وإسحاق في مسنديهما عن عمرو بن شريد رضي الله عنه، وإسناده حسن كما صرح به الحافظ ابن حجر في فتح الباري:5/62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 1- إن الفائدة الربوية تلزم المدين في كل حال، سواء كان معسرا أو موسرا. أما التعويض فلا يلزمه إلا إذا ثبت كونه موسرا مماطلا. ولئن ثبت كونه معسرا، فلا يلزم بأداء أي تعويض. 2- إن الفائدة الربوية تلزم المدين فور تأخيره في الأداء، حتى لو كان التأخير لمدة يوم واحد. أما التعويض: فلا يلزمه إلا إذا ثبت كونه مماطلا، والمعمول به في بعض المصارف الإسلامية أن المصرف يرسل إلى المدين أربع إخطارات أسبوعية، بعد حلول الأجل قبل أن يكلفه بأداء التعويض، فلا يلزمه التعويض إلا بعد انتظار شهر من حلول الأجل. 3- إن الفائدة الربوية تلزم المدين في كل حال، وإن التعويض المقترح لا يجب على المدين إلا إذا تحققت في مدة مماطلته أرباح في حساب الاستثمار عند المصرف، فإن لم تتحقق هناك أرباح، فإن المدين لا يطالب بأي تعويض. 4- إن الفائدة الربوية نسبتها معلومة للجانبين منذ أول يوم من الدخول في اتفاقية الدين. أما التعويض، فلا يمكن معرفة نسبته عند الدخول في اتفاقية المرابحة أو الإجارة، وإنما تتعين هذه النسبة على أساس نسبة الأرباح الفعلية التي سوف تتحقق خلال مدة المماطلة. وعلى أساس هذه الفوارق الأربعة يقول هؤلاء العلماء المعاصرون: إن هذا التعويض لا علاقة له بالفوائد الربوية، ويستدلون على جواز مثل هذا التعويض بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) وبقوله صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عقوبته وعرضه) قائلين بأن هذا التعويض   (1) الحديث أخرجه مالك والشافعي مرسلا، وأحمد وعبد الرزاق وابن ماجه والطبراني بطريق فيه جابر الجعفي، وابن أبي شيبة من وجه آخر أقوى منه، والدارقطني من وجه ثالث، وراجع المقاصد الحسنة للسخاوي ص 468، وحسنه النووي، والمناوي في فيض القدير 6/432، لتعدد طرقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 عقوبة مالية يعاقب بها المماطل. وإن هذا الرأي المعاصر في جواز التعويض فيه نظر من وجوه مختلفة، بعضها نظرية وبعضها عملية. أما من الجهة النظرية، فإن مشكلة المماطلة ليست مشكلة جديدة قد حدثت اليوم، وإنما هي مشكلة لم يزل التجار يواجهونها في كل عصر ومصر، وكانت المشكلة موجودة في عهد النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الصحابة رضي الله عنهم وفي العصور اللاحقة، ولكنه لا يوجد في شيء من الأحاديث أو الآثار ما يدل على أن هذه المشكلة قد التمس حلها بفرض التعويض على المماطل، ولم أجد في الفقهاء والمحدثين طوال أربعة عشر قرنا من حكم أو أفتى بفرض مثل هذا التعويض، بل وجدت ما يخالفه كما سأذكره إن شاء الله تعالى. أما الاستدلال بحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) فلا شك أن إضرار الغير حرام بهذا النص، وكذلك يدل هذا النص على إزالة الضرر بطريق مشروع، ولكن لا يجب أن يزال كل ضرر بالتعويض المالي، ولا يدل النص صراحة أو إشارة، على أن إزالة ضرر المطل يكون بالتعويض. ولو كان هذا النص يدل على أن ضرر المماطل يزال بفرض المال عليه، لكان ذلك واجبا، ولوجب على كل قاض أن يقضي بذلك، وعلى مفت أن يفتي به، ولكنه لا يوجد في التاريخ قاض أو مفت حكم أو أفتى بذلك، مع كثرة قضايا المطل في كل عصر ومصر. ثم إن ضرر الدائن المعترف به شرعا، هو أنه لم يدفع إليه مبلغ الدين في وقته الموعود، وإزالة هذا الضرر أن يسلم إليه ذلك المبلغ الذي هو حقه، وليس من حقه المشروع ما يزيد على مبلغ الدين، فإنه ربا. ولما ثبت أن الزائد من الدين ليس من حقه، ففوات هذه الزيادة ليس ضررا معتبرا عند الشرع، فلا يزال ضرره إلا بقدر حقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أما القول بأن الدائن لو حصل على مبلغ دينه في وقته الموعود، لربح فيه الأرباح، ففوات هذه الأرباح ينبغي أن يزال من قبل من تسبب بهذا الضرر. فإن هذا القول مبني على اعتبار الربح المتوقع من النقود ربحا حقيقيا، وعلى أن النقود مدرة للربح في نفسها بحساب كل يوم. وإن هذا المبدأ إنما أقرته النظريات الربوية، ولا عهد به في الفقه الإسلامي. ولو كان هذا المبدأ معتبرا في الإسلام، لكان الغاصب أو السارق أولى بتطبيقه عليه، ولكن لا يوجد في تاريخ الفقه الإسلامي أحد ذهب إلى فرض التعويض المالي على غاصب النقود أو سارقها، لكونه فوت ربحها على المغصوب منه في مدة الغصب، وقد فرضت الشريعة الإسلامية عقوبة قطع اليد على السارق، ولم تفوض عليه أي تعويض مالي بالإضافة إلى النقود المسروقة. وهذا دليل على أن المبدأ المذكور لا تقره الشريعة الإسلامية. وإن المدين المماطل لا يتجاوز من أن يكون غاصبا أو سارقا، فغاية ما يتصور في حقه أن تجرى عليه أحكام السرقة والغصب، ولم تفرض الشريعة الإسلامية أي تعويض على السارق أو الغاصب، من أجل النقود المغصوبة، ولا شك أن كلا من السارق والغاصب، من أجل النقود المغصوبة، ولا شك أن كلا من السارق والغاصب قد أحدث ضررا على المالك، لا في حرمانه من أصل ماله فقط، بل في فوات الربح المتوقع منه أيضا. ولكن الشريعة الإسلامية قد أمرت بإزالة هذا الضرر برد المال المسروق إلى المالك فقط، وبعقوبة الجاني في جسمه أو عرضه، فتبين أن فوات الربح المتوقع ليس ضررا معوضا عليه في الشرع. وقد استدل بعض المعاصرين على جواز هذا التعويض بأن المنافع المغصوبة مضمونة على الغاصب عند كثير من الفقهاء، وفيما يعد للاستغلال عند الحنفية أيضا، ولكن هذا الاستدلال لا يصح في النقود المغصوبة، فإن منافع المغصوب إنما تضمن (عند من يقول بالضمان) . في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الأعيان المغصوبة، لا في النقود، حتى لو اتجر بالنقود المغصوبة وربح فيها، فالربح لا يقضى به للمغصوب منه في أصح القولين عند الشافعية. وهذا في الربح الذي تحقق فعلا، فما بالك في الربح المتوقع فقط؟ ومن أجل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في المدين المماطل: لي الواجد يحل عقوبته وعرضه " ولم يقل (يحل ماله) ولا يوجد في الفقهاء المحدثين من فسر العقوبة هنا بعقوبة مالية، على اختلاف بينهم في جواز التعزير بالمال، ولو فسرها أحد بذلك، فإن العقوبة إنما يحكم بها الحاكم لا الدائن نفسه، فكيف تنطبق هذه العقوبة على التعويض الذي يطالب به الدائن نفسه بدون حكم أي حاكم؟ ولو فوض تنفيذ العقوبات الشرعية إلى آحاد الناس بدون حكم الحاكم، لأدى ذلك في فوضوية لا يقبلها شرع ولا عقل. هذا ما أراه بالنسبة لأصل فكرة التعويض من الناحية النظرية. أما من الناحية العملية، فإن الفوارق الأربعة التي ذكرناها بين الفوائد الربوية وبين التعويض، فإنها - بالنظر إلى تطبيقها العملي - فوارق نظرية محضة، لا تخرج إلى حيز التطبيق العملي إلا في أحوال نادرة لا تصلح أن يدار عليها الأحكام. أما الفرق الأول، وهو أن التعويض لا يطالب به من قصر في الأداء من أجل الإعسار، فإن إعسار المدين ويساره من الأمور التي يتعذر على المصرف التثبت فيها في كل قضية منفردة، فإن كل مدين يدعي أنه معسر، ولا سبيل للمصرف إلى أن يقنعه بكونه موسرا على خلاف ما يدعيه، إلا برفع القضية إلى المحكمة. ولذا، فالواقع العلمي الذي تسير عليه المصارف الإسلامية التي تقر بمبدأ التعويض، أنها تصرح في اتفاقياتها بأن المدين يعتبر موسرا إلا في الحالة التي قضي عليه فيها بالإفلاس قانونا.   (1) المهذب للشيرازي1/370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ومن المعلوم أن الإفلاس القانوني حالة نهائية لا توجد إلا نادرا. ومن المتيقن أن هناك كثيرا من الذين لم يحكم عليهم بالإفلاس، ولكنهم معسرون بكل معنى الكلمة. وحينئذ، كيف يمكن أن يقال: إن المصارف الإسلامية لا تطالب بالتعويض في حالة إعسار المدين؟ ومن المعلوم أيضا أن من أقرض إنسانا بفائدة ربوية، فإنه لا يصح له في حالة إفلاس المقترض إلا أن يأخذ بقدر ما وجد عنده، فلم يبق في هذا المجال فرق يعتد به بين تقاضي الفائدة ومطالبة التعويض. أما الفارق الثاني: وهو محاسبة التعويض بعد شهر من حلول الأجل، فإنه على تقدير كونه معمولا به في المصارف، فرق صحيح، ولكنه لا يعدو من أن يكون فرقا لمدة شهر فحسب. وأما الفارق الثالث والرابع، وهو كون وجوب التعويض متوقفا على حصول الأرباح في مدة المماطلة، وكون نسبة التعويض غير معلومة من جهة كونها مبنية على نسبة الأرباح، فإن هذا الفرق صحيح نظريا، ولكن إذا نظرنا من الناحية العملية، رأينا أن معظم عمليات المصارف الإسلامية تدور حول المرابحة المؤجلة، وإن تحقق الربح ونسبته في هذه العمليات معروفة لدى المصرف ولدى عملائه، فأصبحت نسبة التعويض معروفة لدى الفريقين عملا. ثم إن معظم المصارف الإسلامية تحاسب أرباحها بعد كل ستة أشهر. فلا تكون الأرباح معلومة بالضبط إلا عند نهاية كل فترة، فلو كانت مدة المماطلة في أثناء هذه الفترة، كيف تعرف الأرباح الحاصلة في هذه الفترة بالضبط؟ وإن أصحاب الودائع الذين يخرجون من المصرف قبل نهاية الفترة، إنما يعطون كدفعة تحت الحساب، وتصير هذه الدفعة تابعة للتصفية الأخيرة عند نهاية الفترة. فهل يكون التعويض المطالب به في أثناء الفترة تابعا للتصفية النهائية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 أيضا؟ الظاهر: لا. فكيف يقال: إن التعويض موافق للأرباح الفعلية الحاصلة في خلال مدة المماطلة؟ وهناك جهة أخرى جديرة بالتأمل في هذا الموضوع وهي أن نسبة الأرباح الحاصلة في حساب الاستثمار تكون أقل دائما من نسبة الربح في عقود المرابحة والإجارة، فلو أراد المدين الخيانة، لأمكن له أن يستمر في صرف المبالغ إلى مشروعات تدر ربحا أكثر مما يحصل في المصرف على حساب الاستثمار، فيدفع قليلا من التعويض، ويحصل على ربح أكثر منه فيستمر في مماطلته إلى ما شاء من مدة. فيرجع نفس المحذور الذي لجأت المصارف إلى التعويض من أجله. فاقتراح فرض التعويض على المماطلين اقتراح لا أعتقد أنه يحل مشكلة المماطلة، لا من جهة الشرع، ولا من الناحية العملية. فما هو الحل إذن؟ والحل الحقيقي لهذه المشكلة ما قدمناه في أول كلامنا في هذا الموضوع، ولكن ذلك إنما يفيد إذا أصبحت المصارف كلها تعمل على أسس شرعية. أما في الظروف الحاضرة التي لا توجد فيها المصارف الإسلامية إلا بعدد قليل، بالنسبة إلى المصارف الربوية التقليدية التي هي مبثوثة في أنحاء العالم كله، فيمكن أن تلجأ المصارف الإسلامية إلى حل مؤقت آخر، وهو أن يلتزم المدين عند توقيعه على اتفاقية المرابحة أو الإجارة بأنه إذا قصر في أداء واجبه المالي، فإنه سوف يتبرع بمبلغ معلوم النسبة من الدين إلى بعض الجهات الخيرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ويسلم ذلك المبلغ إلى المصرف، ليصرفه بالنيابة عنه إلى تلك الجهات. فإن قصر المدين في الأداء لزمه أداء هذه المبالغ إلى المصرف، ولكن هذه المبالغ لا تكون مملوكة للمصرف، ولا تكون جزءا من دخله أو ربحه، وإنما تكون أمانة عنده للصرف إلى الجهات الخيرية. وإن هذا الاقتراح إنما يفيد للضغط على المدين في أداء الدين في وقته، ومن المرجو أن هذا الضغط يؤثر في سد باب المماطلة أكثر مما يؤثر فيه اقتراح التعويض، لأن مقدار هذا التبرع الملتزم به لا يجب أن يكون بمقدار الأرباح الحاصلة في حساب الاستثمار في مدة المماطلة، بل يمكن أن يكون أكثر من ذلك، ولا بأس بتعيين مقداره على أساس نسبة معينة من مبلغ الدين، بما يجعل المدين يحتفظ بمواعيد الأداء. وفي الوقت نفسه لا يعتبر هذا التبرع ربا، لأنه لا يدخل في ملك المصرف شيئا، بل يصرف إلى الجهات الخيرية، ويمكن أن ينشأ لذلك صندوق خاص لا يكون مملوكا للمصرف، بل يكون وقفا على بعض المقاصد الخيرية يتولاه أصحاب المصرف، ويكون من مقاصده أن يقدم منه قروض حسنة لأصحاب الحاجة. وأما المستند الشرعي لهذا الالتزام، فإن الالتزام بالتبرع جائز، عند جميع الفقهاء، وإن مثل هذا التبرع يلزم في القضاء أيضا عند بعض المالكية. والأصل عند المالكية أن الالتزام إن كان على وجه القربة، فإنه يلزم الملتزم في القضاء باتفاق علمائهم. أما إذا كان الالتزام على وجه اليمين، بمعنى أن يكون معلقا على أمر يريد الملتزم الامتناع عنه، ففي لزومه في القضاء خلاف. فذهب بعضهم إلى أنه لا يقضي به في الحكم، وخالفهم آخرون، فجعلوه لازما في القضاء، وقد تكلم الحطاب رحمه الله على هذه المسألة ببسط في كتابه (تحرير الكلام في مسائل الالتزام) وقال فيه: (أما إذا التزم المدعى عليه للمدعي أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا فله عليه كذا وكذا، فهذا لا يختلف في بطلانه، لأنه صريح الربا، وسواء كان الشيء الملتزم به من جنس الدين أو غيره، وسواء كان الشيء معينا أو منفعة ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وأما إذا التزم أنه إن لم يوفه حقه في وقت كذا، فعليه كذا وكذا لفلان، أو صدقة للمساكين، فهذا هو محل الخلاف المعقود له هذا الباب، فالمشهور أنه لا يقضي به كما تقدم، وقال ابن دينار: يقضي به) (1) . وقال قبل ذلك: (وحكاية الباجي الاتفاق على عدم اللزوم فيما إذا كان على وجه اليمين غير مسلمة لوجود الخلاف في ذلك كما تقدم، وكما سيأتي) (2) . وإن الحطاب رحمه الله وإن رجح عدم اللزوم، ولكنه قال في آخر الباب: (إذا قلنا إن الالتزام المعلق على فعل الملتزم الذي على وجه اليمين لا يقضي به على المشهور، فاعلم أن هذا ما لم يحكم بصحة الالتزام المذكور حاكم. وأما إذا حكم حاكم بصحته أو بلزومه، فقد تعين الحكم به، لأن الحاكم إذا حكم بقول لزم العمل به وارتفع الخلاف) (3) . هذا على قول بعض المالكية. أما على أصل الحنفية، فإن الوعد غير لازم في القضاء، لكن صرح فقهاء الحنفية بأن (بعض المواعيد قد تجعل لازمة لحاجة الناس) . (4) فعلى هذا الأساس أرجو أن يكون هناك مجال للقول بلزوم هذا التبرع المقترح، سدا لباب المماطلة، وصيانة لحقوق الناس عن اعتداء المعتدين، والله سبحانه وتعالى أعلم.   (1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب رحمه الله: ص176. (2) المرجع السابق , ص169. (3) المرجع السابق , ص185من طبع دار الغرب الإسلامي، بيروت 1404 هـ. (4) رد المحتار مبحث البيع بالوفاء: 5/277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أثر موت المديون في حلول الدين: والمسألة الأخيرة التي نريد أن نثبتها في هذه العجالة، هي مسألة خراب ذمة المدين بموته، وهل يبقى الدين بعد موته مؤجلا كما كان، أو يصير حالا، فيطالب الدائن الورثة بأدائه من تركة الميت فورا؟ وقد اختلفت في هذه المسألة أقوال الفقهاء. فذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والمالكية إلى أن الدين المؤجل يحل بموت المدين، وهو رواية عن الإمام أحمد ابن حنبل أيضا ولكن المختار عند الحنابلة أن الورثة إن وثقوا الدين، فإنه لا يحل بموت المدين، وإنما يبقى مؤجلا كما كان. قال ابن قدامة رحمه الله: (فأما إن مات وعليه ديون مؤجلة، فهل تحل بالموت؟ فيه روايتان: إحداهما، لا تحل إذا وثق الورثة، وهو قول ابن سيرين وعبيد الله بن الحسن وإسحاق وأبي عبيد. وقال طاوس وأبو بكر بن محمد والزهري وسعيد بن إبراهيم: الدين إلى أجله، وحكي ذلك عن الحسن. والرواية الأخرى: أنه يحل بالموت، وبه قال الشعبي والنخعي وسوار ومالك والثوري والشافعي، وأصحاب الرأي، لأنه لا يخلو: إما أن يبقى في ذمة الميت أو الورثة، أو يتعلق بالمال. ولا يجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها، ولا ذمة الورثة، لأنهم لم يلتزموها، ولا رضي صاحب الدين بذممهم، وهي مختلفة متباينة. ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله، لأنه ضرر بالميت وصاحب الدين، ولا نفع للورثة فيه. أما الميت، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الميت مرتهن بدينه حتى يقضى عنه)) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وأما صاحبه فيتأخر حقه، وقد تتلف العين، فيسقط حقه. وأما الورثة، فإنهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرفون فيها. وإن حصلت لهم منفعة فلا يسقط حظ الميت وصاحب الدين لمنفعة لهم) (1) . ثم ذكر ابن قدامة رحمه الله ترجيحه لمذهب من يقول ببقاء الدين مؤجلا، إذا وثقه الورثة بكفيل أو رهن، وذكر دلائله. وأما الحنفية، فإنهم وإن ذهبوا إلى حلول الدين بموت المدين على قول جمهور الفقهاء المتبوعين، ولكن المتأخرين منهم لم يفتهم النظر إلى أن في المرابحة المؤجلة تكون حصة من الثمن مقابلة لأجل، كما أسلفنا، فلو ألزمنا على تركة المشتري أن يؤخذ منها الثمن كاملا في الحال قبل حلول الأجل، لصارت الحصة المقابلة للمدة الباقية بدون عوض، وفيه ضرر للمشتري الذي لم يرض بهذا القدر من الثمن إلا إذا كان مؤجلا بأجل متفق عليه. ولذلك أفتوا بأن المشتري لا يؤدي من ثمن المرابحة في هذه الصورة إلا بقدر ما مضى من الأيام. ونعيد هنا ما قدمناه عن الدر المختار، فقال: (قضى المديون الدين المؤجل قبل الحلول أو مات فحل بموته، فأخذ من تركته لا يأخذ من المرابحة التي جرت بينهما إلا بقدر ما مضى من الأيام، وهو جواب المتأخرين قنية، وبه أفتى المرحوم أبو السعود أفندي مفتي الروم، وعلله بالرفق للجانبين) . وقال ابن عابدين تحته:   (1) المغني، لابن قدامة:4/486؛كتاب المفلس، وراجع أيضا الشرح الكبير:4/502، وراجع لمذهب الحنفية في حلول الدين بموت المدين، خلاصة الفتاوى: 3/95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 (صورته: اشترى شيئا بعشرة نقدا، وباعه لآخر بعشرين إلى أجل هو عشرة أشهر، فإذا قضاه بعد تمام خمسة أو مات بعدها يأخذ خمسة، ويترك خمسة) (1) . والحاصل عندي في هذه المسألة أن جمهور الفقهاء المتبوعين، وإن ذهبوا إلى حلول الدين بموت المدين، ولكن في عمليات البيع بالتقسيط والمرابحة المؤجلة التي يكون حصة من الثمن فيها مقابلة للأجل، لو أخذنا بمبدأ حلول الدين بكامله، لتضرر به ورثة المدين. فينبغي فيها الأخذ بأحد القولين: إما بقول المتأخرين من الحنفية بسقوط تلك الحصة من الدين التي تقابل المدة الباقية من الأجل المتفق عليه، فلا يؤخذ من التركة إلا بقدر ما مضى من الأيام. أو يؤخذ بقول الحنابلة من بقاء الدين مؤجلا كما كان، بشرط أن يوثقه ورثة المدين بوثيقة معتمدة. ولعل الصورة الأخيرة أولى للبعد عن تذبذب الثمن بآجال مختلفة، الذي فيه مشابهة صورية للمعاملات الربوية. والله سبحانه وتعالى أعلم. وله الحمد في الأولى والآخرة. وصلى الله تعالى على نبيه وعلى آله وصحبه وتابعيهم ومن والاهم. * * *   (1) رد المحتار على الدر المختار: 6/757. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 (2) أحكام البيع بالتعاطي والإستجرار بحث عرض على ندوة أقيمت بالكويت من قبل بيت التمويل الكويتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 (1) بسم الله الرحمن الرحيم أحكام البيع بالتعاطي والإستجرار الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى. وبعد: فالموضوع المفوض إلي في هذه الندوة هو بيع التعاطي والإستجرار ومدى جواز استخدامهما في معالات المصارف الإسلامية, والبيوع الحديثة. فلنشرح أولا معنى كل من النوعين وما قال فيهم الفقهاء - رحمهم الله - ثم لنتكلم عن تطبيقاتهما على بعض المعاملات الحديثة, والله سبحانه هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل البيع بالتعاطي: البيع بالتعاطي عند الفقهاء هو البيع الذي لا يتلفظ فيه المتبايعان بالإيجاب أو القبول وإنما يدفع هذا الثمن ويدفع ذلك المبيع دون أن ينطق أحدهما بقوله: اشتريت أو الآخر: بعت. والتعاطي على قسمين: (1) الأول: أن يلتفظ أحدهما بالإيجاب ويقبله الثاني بالفعل لا بالقول. مثل أن يقول: (أعطني بهذه الربية خبزا) فيعطيه الآخر الخبز, ولا يتكلم بشيء فوقع الإيجاب هنا باللفظ, والقبول بالفعل.   (1) قال النووي في المجموع شرح المهذب:9/172 (صوروا المعاطاة ... أن يعطيه درهما أو غيره ويأخذ شيئا في مقابلته ولا يوجد لفظ أو يوجد لفظ من أحدهما دون الآخر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 والثاني: أن لا يلتفظ أحدهما بشيء مثل أن يدخل الرجل الدكان وفيه أشياء كثيرة مكتوب عليها ثمنها فيأخذ شيئا ويدفع إلى البائع ثمنه المكتوب عليه دون أن يجري بينهما مكالمة أصلا. وكل واحد من النوعين يعتبر تعاطيا أو معاطاة في اصطلاح الفقهاء. وذهب جمهور الفقهاء إلى جواز هذين النوعين من التعاطي في جميع أنواع المبيعات. والمشهور من مذهب الشافعي - رحمه الله - أنه لا يقول بجواز التعاطي لأن البيع يتوقف على الإيجاب والقبول وهما أو إحداهما مفقود في التعاطي. ولكن يظهر من مراجعة كتب الشافعية أنهم اختلفوا في حكم التعاطي على أقوال: 1- التعاطي باطل مطلقا ولا ينعقد به البيع وهو المذهب المشهور عندهم. 2- التعاطي في الأشياء المحقرة ولا يجوز في الأشياء النفسية وهذا القول مروي عن ابن سريج والرؤياني (1) وهو قول الكرخي من الحنفية. (2) . 3- يجوز التعاطي فيما جرى فيه العرق بذلك ولا يجوز فيما سواه. كل من وسم بالبيع اكتفى بالمعاطاة كالعامي والتاجر وكل من لم يعرف بذلك لا يصح منه إلا باللفظ. (3) والراجح مذهب الجمهور من أن التعاطي ينعقد به البيع مطلقا بشرط أن يكون على سبيل التراضي. ونكتفي هنا بحكاية ما ذكره ابن   (1) مغني المحتاج للشربيني:2/4. (2) فتح القدير:5/459. (3) مغني المحتاج:2/4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 قدامة للتدليل على مذهب الجمهور فإنه يكفي ويشفي. قال رحمه الله تعالى (ولنا أن الله أحل البيع ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفرق والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك ولأن البيع كان موجودا بينهم معلوما عندهم وإنما علق الشرع عليه أحكاما وبقاه على ما كان فلا يجوز تغييره بالرأي والتحكم ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه مع كثرة وقوع البيع بينهم استعمال الإيجاب والقبول ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم لنقل نقلا شائعا ولو كان ذلك شرطا لوجب نقله ولم يتصور منهم إهماله والغفلة عن نقله ولأن البيع مما تعم به البلوى فلو اشترط له الإيجاب والقبول لبينه صلى الله عليه وسلم بيانا عاما ولم يخف حكمه لأنه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيرا وأكلهم المال الباطل ولم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه فيما علمناه ولأن الناس يتبايعون في أسواقهم بالمعاطاة في كل عصر ولم ينقل إنكاره قبل مخالفينا فكان ذلك إجماعا وكذلك الحكم في الإيجاب والقبول في الهبة والهدية والصدقة ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه استعمال ذلك فيه وقد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحبشة وغيرها وكان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة متفق عليه وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل: صدقة قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل وإن قيل: هدية ضرب بيده وأكل معهم] وفي حديث [سلمان حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فقال: هذا شيء من الصدقة رأيتك أنت وأصحابك أحق الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: كلوا ولم يأكل ثم أتاه ثانية بتمر فقال: رأيتك لا تأكل الصدقة وهذا شيء أهديته لك فقال النبي صلى الله عليه وسلم بسم الله وأكل] ولم ينقل قبول ولا أمر بإيجاب وإنما سأل ليعلم هل هو صدقة أو هدية وفي أكثر الأخبار لم ينقل إيجاب ولا قبول وليس إلا المعاطاة والتفرق عن تراض يدل على صحته ولو كان الإيجاب والقبول شرطا في هذه العقود لشق ذلك ولكانت عقود المسلمين فاسدة وأكثر أموالهم محرمة ولأن الإيجاب والقبول إنما يرادان للدلالة على التراضي فإذا وجد ما يدل عليه من المساومة والتعاطي قام مقامهما وأجزأ عنهما لعدم التعبد فيه) (1) مدى جواز التعاطي عقود المرابحة الجارية في المصارف الإسلامية: هذا هو حكم التعاطي في البيوع والراجح عند الجمهور جوازه لأدلة ذكرناها عن ابن قدامة - رحمه الله تعالى ولكن التعاطي إنما يعمل به في عقود البيع العامة التي لا يلزم في العمل بها محظور شرعي أو شبهته أما إذا أورث العمل به في بعض العقود محظورا شرعيا أو اشتبه به المعاملة الجائزة بالمعاملة المحظورة فينبغي الإحتراز عنه ومن هنا يظهر أن العمل بالتعاطي في عقود المرابحة التي تجري في المصارف الإسلامية مما لا ينبغي. وتفصيل ذلك أن العميل حينما يتقدم إلى البنك لطلب التمويل لشراء بعض البضائع أو الآلات أو المعدات فإن المصرف الإسلامي بدلا   (1) المغني لابن قدامة:3/561و562. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 من أن يقرضه على فائدة يشتري تلك البضائع المطلوبة لنفسه ثم يبيعها إلى العميل بمرابحة شرعية مؤجلة ولكن المعمول به في مثير من المصارف أنها لا تقوم بشراء البضائع بنفسها وإنما توكل العميل نفسه ليشتري البضائع للمصرف بصفته وكيلا له ثم يعد بعد ما يقبض على البضائع كوكيل للمصرف بعقد عقدا جديدا مع المصرف لشرائها منه على طريق المرابحة الشرعية. ولا بد في هذا الطريق أن يقوم العميل بعد شراء البضائع للمصرف بإخطاره بإتمام مهمته كوكيل ثم يتقدم إليه بإيجاب للشراء منه ويقوم المصرف بقبول ذلك الشراء. وقد يقترح بعض الناس حبا للإختصار في العمليات أن تقع المرابحة بين المصرف وبين العميل على أساس التعاطي دون أن يجري بينهما إيجاب وقبول من جديد فبعد ما يقبض العميل على البضائع كوكيل للمصرف يعتبر كأنه اشترى البضائع من المصرف على أساس التعاطي بصفة تلقائية. وإن هذا الإقتراح فيما أرى غير مقبول شرها على الرغم من جواز التعاطي في الأصل. وذلك لأن عقد المرابحة للآمر بالشراء إنما يلجأ إليه المصارف الإسلامية كبديل للإقراض بفائدة فلا بد لجواز هذا النوع من العقود أن يكون هناك بعض الفروق الجوهرية بينه وبين المعاملات الربوية وإن الفرق الجوهري بين المعاملتين ليس إلا أن المتعامل به في المعاملات الربوية هي السيولة انقدية ويتقاضى البنك عليها بفائدة دون أن يتحمل أي خطر وأما في المرابحة فإن المتعامل به فيها بضاعة مملوكة للمصرف وإنما يبيع المصرف تلك البضاعة بعد ما دخلت في ملكه وضمانه فلا بد لتحقيق هذا الفارق عملا أن يمر على البضاعة زمن ولو كان يسيرا تكون فيه البضاعة مملوكة للمصرف وفي ضمانه بحيث إن هلكت البضاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 في ذلك الزمن هلكت من مال المصرف وبفضل هذا الضمان يطيب للمصرف أن يتقاضى الربح من العميل وإلا لصار ربح ما لم يضمن وهو المحرم بنص الحديث النبوي الشريف. فلو أجزنا التعاطي في المرابحة وقلنا بإبرام البيع فور إستلام العميل للبضائع بصفة تلقائية على أساس التعاطي لفات هذا الفارق الوحيد الذي يفرق المرابحة المصرفية من المعاملات الربوية ولم تكن العملية فعلا إلى دفع مبلغ إلى العميل ومطالبته بمبلغ أكثر منه دون أن يتحمل المصرف مسؤولية الملكية وأخطارها في آن من الأوان. وهناك وجه آخر فقهي لعدم جواز التعاطي هنا , وذلك لأن التعاطي وإن كان يعوزه التلفظ بالإيجاب والقبول , ولكن لابد له من حضور فريقين , أحدهما يعطي والآخر يأخذ. وأما في الإقتراح المذكور , فإن البيع ينعقد بصفة تلقائية دون أن يعطي واحد ويأخذ آخر. ومعروف أن الواحد لا يتولى طرف البيع. إذن , فلا يجوز عقد المرابحة بين المصرف وبين العميل على أساس التعاطي. بيع الإستجرار: أما بيع الإستجرار فهو مأخوذ من قولهم استجر المال: إذا أخذه شيئا فشيئا دون أن يجري بينهما مساومة أو إيجاب وقبول في كل مرة. والإستجرار على نوعين: الأول: الإستجرار بثمن مؤخر من مؤخر. والثاني: الإستجرار بمبلغ مقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 أما الإستجرار بثمن مؤخر فهو ما ذكره الحصكفي في الدر المختار بقوله: (ما يستجره الإنسان من البياع إذا حاسبه على أثمانها بعد استهلاكها) وحاصله أن الرجل يتفاهم مع صاحب الدكان ولا تقع بينهما مساومة بل يعطيه البياع الشيء المطلوب بدون ذكر الثمن ولا تلفظ الإيجاب والقبول فيستعمله المشتري وفي نهاية الشهر مثلا يحاسبه بكل ما أخذ ويعطيه الثمن دفعة واحدة. والقواعد المعروفة تأبى جواز هذا البيع لأننا إن قلنا بانعقاد هذا البيع عندما استلم المشتري شيئا من هذه الأشياء فإنه بيع ثمن مجهول لأنه لم تقع بينهما مساومة ولا بيان ثمن وإن قلنا: إن البيع ينعقد عند تصفية الحساب فإن المبيعات عندئذ معدومة مستهلكة وهذا يتضمن محظورين الأول: أن يقع الإستهلاك من المشتري قبل أن يقع الشراء من المالك والثاني: أن يقع بيع ما هو معدوم. ومن هنا صرح بعض الفقهاء بعدم جواز هذا البيع وهو مذهب عامة الشافعية. وقال النووي رحمه الله تعالى: (فأما إذا أخذ منه شيئا ولم يعطه شيئا ولم يتلفظا ببيع بل نويا أخذه بثمنه المعتاد كما يفعله كثير من فهذا باطل بلا خلاف لأنه ليس ببيع لفظي ولا معاطاة ولا يعد بيعا فهو باطل ولنعلم هذا ولنحترز منه ولا نغتر بكثرة من يفعله فان كثيرا من الناس يأخذ الحوائج من البياع مرة بعد مرة من غير مبايعة ولا معاطاة ثم بعد مدة يحاسبه ويعطيه العوض وهذا باطل بلا خلاف لما ذكرناه) (1) ويبدو أن مذهب الشافعية أقل المذاهب مرونة في بيوع التعاطي   (1) المجموع شرح المهذب:9/173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 والإستجرار ولكن جماعة منهم ذهبوا إلى جوازهما ومنهم الإمام الغزالي رحمه الله تعالى قال العلامة الرملي رحمه الله: (أما الاستجرار من بياع فباطل اتفاقا: أي حيث لم يقدر الثمن كل مرة على أن الغزالي سامح فيه أيضا بناء على جواز المعاطاة) وقال الخطيب الشربيني رحمه الله: وأخذ الحاجات من البياع يقع على ضربين: أحدهما أن يقول: أعطني بكذا لحما أو خبزا مثلا وهذا هو الغالب، فيدفع إليه مطلوبه فيقبضه ويرضى به، ثم بعد مدة يحاسبه ويؤدي ما اجتمع عليه، فهذا مجزوم بصحته عند من يجوز المعاطاة فيما أراه. والثاني: أن يلتمس مطلوبه من غير تعرض لثمن كأعطني رطل خبز أو لحم مثلا فهذا محتمل، وهذا ما رأى الغزالي إباحته ومنعها المصنف - أي النووي رحمه الله -) (2) وأما المالكية فقد ذكروا مسألة الإستجرار بمبلغ مقدم قال مالك رحمه الله في الموطأ: (ولا بأس أن يضع الرجل عند الرجل درهما ثم يأخذ منه بربع أو بثلث أو بكسر معلوم سلعة معلومة فإذا لم يكن في ذلك سعر معلوم وقال الرجل آخذ منك بسعر كل يوم فهذا لا يحل لأنه غرر يقل مرة ويكثر مرة ولم يفترقا على بيع معلوم) (3)   (1) نهاية المحتاج للرملي:3/364. (2) مغني المحتاج:2/4. (3) موطأ الإمام مالك راجع بيع الطعام وراجع للتفصيل المنتقى للباجي:5/15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ومن هنا بعلم أن وجه المنع عندهم هو كون الثمن مجهولا ولا فرق في هذا بين أن يكون الإستجرار بمبلغ مقدم أو بثمن مؤخر وفي هذا يتفق المالكية مع أكثر الشافعية. وأما الحنابلة فقد اختلفت في هذا وجاء في النكت والفوائد السنية لابن مفلح: (وقال أبو داود في مسائله باب في الشراء ولا يسمى الثمن سمعت أحمد سئل عن الرجل يبعث إلى البقال فيأخذ منه الشيء بعد الشيء ثم يحاسبه بعد ذلك قال أرجو أن لا يكون بذلك بأس قال أبو داود قيل لأحمد يكون البيع ساعتئذ قال لا قال الشيخ تقي الدين وظاهر هذا أنهما اتفقا على الثمن بعد قبض المبيع والتصرف فيه وأن البيع لم يكن وقت القبض وإنما كان وقت التحاسب وأن معناه صحة البيع بالسعر) (1) وبه تبين أن رواية الجواز عند الحنابلة مبنية على جوز البيع بسعر السوق وفيه عند الحنابلة روايتان وأما الحنفية فقد أفتى المتأخرون منهم بجواز الإستجرار ولو لم يذكر الثمن عند أخذ الحاجات من البياع وجاء في الدر المختار: (ما يستجره الانسان من البياع إذا حاسبه على أثمانها بعد استهلاكها جاز استحسانا) . (1)   (1) موسوعة الفقه الإسلامي مصرية:5/305 عزوا إلى النكت. (2) الدر المختار مع رد المحتار:4/516. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وقال ابن نجيم رحمه الله: (ومما تسامحوا فيه وأخرجوه عن هذه القاعدة ما في القنية الأشياء التي تؤخذ من البياع على وجه الخرج كما هو العادة من غير بيع كالعدس والملح والزيت ونحوها ثم اشتراها بعد ما انعدمت صح اهـ فيجوز بيع المعدوم هنا) . (1) وبه تبين أن الإستجرار جائز عند الحنفية استحسانا ولكن اختلفت عباراتهم في تكييف وجه الإستحسان والذي تلخص لي بعد دراسة كلام الفقهاء في الكتب المختلفة هو ما يلي: إن الإستجرار بثمن مؤخر لا يخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن ذكر البائع الثمن كلما يأخذ منه المشتري شيئا أو يكون ثمن ذلك الشيء معلوم للجانبين بأي طريق. وهذا لا خلاف في جوازه عند الجمهور القائلين بجواز التعاطي فيقع بيع كل شيء عند أخذه على سبيل التعاطي ويقع المحاسبة عند نهاية مجموعة من البيوع. فلا يلزم منه البيع بثمن مجهول ولا بيع ما هو معدوم ويجوز ذلك عند الحنفية والحنابلة وعند الغزالي وابن سريج وغيرهما من الشافعية وأما على المشهور من مذهب الشافعية فيقع جوازه عند التلفظ بالإيجاب والقبول وقد ذكرنا أن الراجح في التعاطي قول الجمهور الحالة الثانية: أن لا يذكر الثمن في كل مرة ولكن يتفق الفريقان عند الفاهم الإبتدائي أن المشتري سوف يستجر هذه الأشياء بسعر السوق وفي هذه احالة يتوقف جواز البيع عند الأخذ على   (1) البحر الرائق:5/259 شرح تعريف البيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 جواز البيع بسعر السوق والمعروف عند الأئمة الأربعة أن بيع الشيء بسعره أو بثمن مثله أو بالرقم لا يجوز إلا إذا كان معلوما لدى المتبايعين في المجلس (1) ولكن هناك رواية في مذهب الشافعية وأخرى في مذهب الحنابلة تجيز البيع بسعر السوق أما في مذهب الشافعية فهو وجه حكاه الرافعي وذكره النووي بقوله: (وحكى الرافعى وجها ثالثا أنه يصح مطلقا للتمكن من معرفته كما لو قال بعت هذه الصبرة كل صاع بدرهم يصح البيع وإن كانت جملة الثمن في الحال مجهولة وهذا ضعيف شاذ) (2) وأما في مذهب الحنابلة فهو رواية عن الإمام أحمد واختارها الشيخ تقي الدين (3) وقد ذكرنا عبارته من قبل وكذلك ذهب إلى الجواز العلامة ابن القيم وذكر أنه منصوص من الإمام أحمد وهو الذي اختاره شيخه ابن تيمية رحمهم الله تعالى (4) . والذي يظهر لي بعد مراجعة كلام الفقهاء وأدلتهم في هذا الموضوع أن الأشياء على قسمين: قسم تتفاوت أسعاره بتفاوت الآحاد ولا يمكن تحديد سعرها بمعيار منضبط معلوم فمن التجار من يبيعه بعشرة مثلا ومنهم من يبيعه بأكثر وأقل. فالذين ذهبوا إلى حرمة البيع بسعر السوق إنما أرادوا المنع في مثل هذا القسم من المبيعات لأن سعر السوق إذا لم يكن معلوما للمتبايعين في مثل هذه الأشياء اصطلاح غير   (1) رد المحتار:4/529 والمجموع شرح المهذب:9/365و366 والدسوقي على الشرح الكبير:3/15 والإنصاف للمرداوي:4/310. (2) المجموع شرح المهذب:9/366. (3) الإنصاف للمرداوي:4/310. (4) أعلام الموقعين:4/4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 مستقر فيبقى الثمن مجهولا بجهالة تقضي إلى النزاع. ولكن هناك قسماً آخر من المبيعات، وهو الذي لا تتفاوت آحاده، ولا تتفاوت أسعاره، وإنها تنضبط بمعيار معلوم يعرفه كل أحد معلوم يعرفه كل أحد، ولا يحتمل أن يقع الخطأ أو النزاع في تطبيقه، والذين ذهبوا إلى الجواز إنما أرادوا هذا القسم، لأن ذكر مثل هذا المعيار المضبوط يقوم مقام ذكر الثمن، فليس فيه جهالة تفضي إلى النزاع. وإلى هذا المعنى يشير الإمام المحقق ابن الهمام رحمه الله حيث يقول: (ومما لا يجوز البيع به: البيع بقيمته، أو بما حل به، أو بما تريد أو تحب، أو برأس ماله، أو بما اشتراه، أو بمثل ما اشترى فلان، لا يجوز ... وكذا لا يجوز بمثل ما يبيع الناس، إلا أن يكون شيئاً لا يتفاوت كالخبز واللحم) (1) . وذكر ابن عابدين مثله عن صاحب النهر الفائق، فقال: (وخرج أيضاً ما لو كان الثمن مجهولاً، كالبيع بقيمته أو برأس ماله أو بما اشتراه فلان ... ومنه أيضاً ما لو باعه بمثل ما يبيع الناس، إلا أن يكون شيئاً لا يتفاوت) (2) . وهذا فيما أرى أعدل الأقوال وأوفق بالأصول المجمع عليها، فإنه لا مانع من جواز البيع بالسعر إلا جهالة الثمن التي تفضي إلى المنازعة، وإذا ارتفع احتمال المنازعة بتعين معيار منضبط ارتفع المانع، وجاز البيع. وقد ظهر اليوم أشياء كثيرة ينضبط ثمن مثلها بمعيار معلوم لا يحتمل وقوع النزاع في تطبيقه، وفي مثل هذه الأشياء يجوز العقد، ويجوز الاستجرار على أساس سعر السوق.   (1) فتح القدير مع الكفاية:5/467. (2) رد المحتار:4/529. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وهذا مثل ما يتعامل الناس مع باعة الصحف اليومية، وإن البائع يلقي الصحيفة اليومية كل صباح في بيت المشتري على أنه يحاسبه في نهاية الشهر على أساس سعره القطاعيّ. وربما لا يعرفه المشتري، ولكن السعر القطاعي منضبط معروف ولا يتفاوت لآحاد الناس. نعم، ربما يتغير السّعر في أثناء الشّهر، فيتغير لكل واحد من المشترين، فليس هناك مجال للنزاع في تعيين السّعر. فكلّما يلقي البائع صحيفة في بيت المشتري بأمره أو بإذنه، ينعقد البيع على أساس سعر السّوق. وتقع تصفية الحساب في نهاية الشهر. وهذا هو القسم الثاني من الاستجرار بثمن مؤخر. وظهر بهذا التفصيل أن في الحالة الثانية من بيع الاستجرار ينعقد البيع عند أخذ المشتري المبيع كل مرّة إذا كان سعره معروفاً منضبطاً بمعيار معلوم يؤمن معه في تعيين الثمن. أما إذا لم يكن السعر معروفاً بهذه الصفة، فإنه لا ينعقد البيع عند الأخذ، ويصير حكمه مثل ما سيأتي في الحالة الثالثة: أما الحالة الثالثة: فهي أن لا يكون الثمن معلوماً عند الأخذ، ولا يتفاوت المتبايعان في بداية تعاملهما على أساس منضبط لتحديد الثمن يؤمن معه النزاع، بل يتعاملان هملا، ولا يتعارضان للثمن أصلاً. وحينئذ، لاشك في أن الثمن مجهول عند أخذ الأشياء جهالة فاحشة ربما تؤدي إلى النزاع، فلا ينعقد البيع عند الأخذ، فتبقى هذه المعاملة فاسدة إلى أن يقع بينهما تصفية الحساب. ولكن ذكر المتأخرون من الحنفية أن هذه المعاملة تنقلب جائزة عند التّصفية إذا اتفقا على ثمن. ثم ذكر بعضهم أن هذه المعاملة تصح عند التصفية بيعاً. فكأن بيع تلك الأشياء قد انعقد الآن بمعرفة ثمن كل واحد منها. ويستشكل هذا بأن كثيراً من الأشياء المأخوذة قد استهلكها المشتري بعد أخذها حتى انعدمت عند التصفية، فكيف يصح بيعها وهي معدومة؟ فأجابوا عنه بأنه وإن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بيعاً للمعدوم، ولكن مثل هذا البيع جاز استحساناً للعرف، أو التعامل، أو عموم البلوى، وهو موقف ابن نجيم في البحر الرائق والأشياء والنظائر كما ذكرناه من قبل. وأما ما يورد عليه من أنه يستلزم تصرف المشتري في الأشياء المأخوذة من غير ملك ولا بيع، فينبغي أن لا يجوز، فأجابوا عنه بأنه تصرف بإذن من المالك، فلا مانع من جوازه. وخرّج الآخرون صحة هذه المعاملة على أساس ضمان المتلفات لا على أساس البيع، فإن الثمن عند الأخذ مجهول، والمبيع عند التصفية معدوم، فلا يجوز البيع بحال، فكأن الآخذ أخذ الشيء قرضاً، واستهلكه، ثم ضمن قيمته على أساس ما اتفقا عليه عند التّصفية. ويستشكل هذا بأن القرض إنما يصح في المثليّات فقط، ولا يجوز اقتراض القيميّات عند الحنفية، مع أن الاستجرار ربما يجري في ذوات القيم. فأجابوا عنه بأن الاستجرار مستثنى من عدم جواز اقتراض القيميّات استحساناً، كما أجيز الاقتراض في الخبز والخميرة، مع أنها من ذوات القيم. وهذه التخريجات كلّها ذكرها ابن عابدين رحمه الله تعالى في رد المحتار. والذي يظهر لهذا العبد الضعيف عفا الله عنه أن التخريج الأول هو الراجح، وهو أن هذه المعاملة تصح بيعاً عند تصفية الحساب إذا اتفقا الفريقان على الثمن الإجماليّ للمأخوذات. وأما الاستشكال بكونه بيع المعدوم، فالأحسن في جوابه أن يقال: إنه ليس بيعاً للمعدوم، بل هو بيع لما استهلكه المشتري، وانتفع به انتفاعاً تامّاً. وبيع المعدوم إنما يحرم من جهة أنه يتضمن الغرر، فربّما لا يقدر البائع على تسليمه إلى المشتري. ولا غرر ههنا، لأن البائع سلّم المبيع إلى المشتري فعلاً، فالمبيع كان موجوداً عند المشتري، وانتفع به المشتري حتى استهلكه، فيعتبر عند التصفية كالموجود تقديراً، فيصح بيعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وأما استشكاله بأن تصرف المشتري في تلك الأشياء وقع قبل البيع في غير ملكه، فالأحسن في جوابه أن يقال: إن البيع حينما انعقد عند التصفية صحيحاً، فإنه يسند إلى وقت الأخذ تقديراً، ويعتبر كأنّه تصرف فيما ملكه بالبيع، وهذا كما يقع في ضمان المغصوبات، فإن تصرف الغاصب فيما غصب غير صحيح، ولكنه إذا أدى ضمان المغصوب ملكه، ويسند هذا الملك إلى وقت الغصب، فتنقلب جميع تصرفاته فيه صحيحة بعد الضمان على ما هو الراجح، وأمّا إذا أحل له المغصوب منه تصرفه فلا خلاف في أن جميع تصرفاته تنقلب صحيحة جائزة بعد أداء الضمان. (1) فإن الغاصب بعد أداء الضمان يملك المغصوب من حين غصبه، فالآخذ في الاستجرار أولى، لأنه أخذ بإذن صاحبه، فلا يأثم بالأخذ أيضاً، كما يأثم الغاصب. فالاستجرار ليس ضماناً للمتلفات كما زعمه أصحاب التخريج الثاني، ولكنه نظير لضمان المتلفات من حيث إن البيع المتأخر فيه يستند إلى وقت الأخذ كما أن الملك الحاصل بالضمان يستند إلى وقت الغصب. الخلاصة: فخلاصة ما تحقق من حكم الاستجرار بثمن مؤخر ما يلي:   (1) قال ابن عابدين رحمه الله في الغصب من رد المحتار:6/191 (وما أفاده كلامه من أن الملك في المغصوب ثابت قيل أداء الضمان، وإنما المتوقف على أداء الضمان الحل هو ما في عامة المتون، فما في النوازل من أنه بعد الملك لا يحل له الانتفاع لاستفادته بوجه خبيث كالملوك بالبيع الفاسد عند القبض إلا إذا جعله صاحبه في حل اه. مخالف لعامة المتون ... وقال بعض المتأخرين: إن سبب الملك الغصب عند أداء الضمان كما في المبسوط. وقال الرافعي تحته: (أي فيكون كالبيع بشرط الخيار للمشتري يمله بالشراء عند سقوط خياره) راجع التحرير المحتار للرافعي:6/287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 1- إن كان البائع يبين ثمن البضاعة المأخوذة كلّ ما يأخذ منه المشتري، فالبيع ينعقد صحيحاً عند كل أخذ، وهذا بإجماع من يقول بجواز التعاطي. وتقع تصفية الحساب بعد أخذ مجموعة من المبيعات. 2- إن كان البائع لا يبين ثمن البضاعة عند كل أخذ، ولكن المتبايعين تفاهما بأن الأخذ يكون على سعر السّوق، وسعر السّوق منضبط بمعيار معلوم لا يقع الاختلاف في تحديده، فالصّحيح أن البيع ينعقد أيضاً عند كلّ أخذ. 3- إن كان الثمن مجهولاً وقت الأخذ، أو اتفق الفريقان على أنه يقع على أساس سعر السوق ولكن سعر السوق متفاوت تفاوتاً فاحشاً، بحيث يقع الاختلاف في تحديده، فإن البيع لا يصحّ عند الأخذ، وإنما يقع عند تصفية الحساب، ولكنه يسند حينئذ إلى وقت الأخذ، فيثبت الملك للآخذ من وقت الأخذ، وتحل تصرفاته من ذلك الحين بعد أداء الثمن. الاستجرار بمبلغ مقدم: وأما النوع الثاني من الاستجرار، فهو أن المشتري يدفع إلى البائع مبلغاً مقدّما، ثم يستجرّ منه الأشياء، وتقع المحاسبة بعد أخذ مجموعة من الأشياء في نهاية الشهر أو في نهاية السنة مثلاً. وإن هذا النوع من الاستجرار فيه كلام من ناحيتين: الأولى: ناحية كون الثمن معلوماً أو مجهولاً. والكلام فيها مثل ما ذكرناه في النوع الأول سواء بسواء. فالحكم فيها في الحالات الثلاثة مثل الحكم في الحالات الثلاثة المذكورة في النوع الأول. والناحية الثانية: هي حيثية المبلغ المدفوع مقدّماً، هل يعتبر هذا المبلغ ثمناً مقدماً؟ أو أمانة في يد البائع؟ أو قرضاً عليه؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أما كونه ثمناً مقدماً، فلا يصح إلا بشرطين: الشرط الأول: أن يكون المبيع وقدره ووصفه معلوماً عند تقديم المبلغ إلى البائع. فإن الثمن إنما يعتمد البيع، ومن شرائط البيع أن يكون المبيع معلوماً بذاته ووصفه وقدره. والشرط الثاني: أن يكون المبيع مما يجري فيه السّلم أو الاستصناع، وتتوفر في العقد شروط جوازه، على اختلاف في ذلك بين الفقهاء. وذلك لأن الشراء بثمن مقدم لا يكون إلا عن طريق السّلم أو الاستصناع، فيجب أن يفي العقد بشروطه. والذي يُشاهد في الاستجرار أنه لا يوجد فيه هذان الشرطان، فإنّ الذي يدفع إلى البائع المبلغ ربما لا يعرف وقت الدفع ما سيشتري به حينا بعد حين. ولئن علمه فإنّه لا يمكن بيان قدر كل واحد من المأخوذ ووصفه وأجله في الوقت نفسه، فى تتوفر فيه شروط السّّلم، وربما لا تكون الأشياء مما تحتاج إلى صنعة حتى يتحقق الاستصناع. وإن قلنا: إن المبلغ المدفوع أمانة في يد البائع، وكلّما أخذ المشتري منه شيئاً، صار جزء من المبلغ ثمناً للمأخوذ. فينبغي أن يكون المبلغ مودعاً عند البائع كما هو، ولا يجوز له أن يصرفه في حاجة نفسه، لأن الأمانة لايجوز التصرف فيها وهذا، على كونه مشكلاً، بل متعذراً من الناحية العملية، خلاف ما هو متعارف في الاستجرار، فإن الباعة في الاستجرار لا يحتفظون بالمبلغ المدفوع إليهم مقدماً، وإنما يسجّلون قدره في حساب المعطي، ثم يتصرفون فيه كيفما شاؤوا. وإن قلنا: إن المبلغ المدفوع قرض أقرضه المشتري إلى البائع، فحلّ له استعماله، فالإشكال في أنه قرض مشروط فيه البيع اللاحق، فإن المشتري لم يقرض البائع على وجه الصلة، وإنما أقرضه ليقع به البيع في وقت لاحق، فصار البيع مشروطاً في عقد القرض، وهذا شرط يخالف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 مقتضى عقد القرض، فينبغي أن يكون فاسداً. ولم أرَ أحداً من الذين تكلموا عن الاستجرار من تعرض لهذا الإشكال. والذي يظهر لي أنّ هذا المبلغ دفعة تحت الحساب، وهي، وإن كانت قرضاً في الاصطلاح الفقهيّ، من حيث إنّه يجوز للمدفوع له أن يصرفها في حوائج نفسه، ومن حيث كونها مضمونة عليه، ولكنها قرض يجوز فيه شرط البيع اللاحق، لكونه شرطاً متعارفاً، فإن الدفعات تحت الحساب لا يقصد بها الإقراض، وإنما يقصد بها تفريغ ذمة المشتري عن أداء الثمن عند البيع اللاحق وأن يتيسر له شراء الحاجات دون أن يتكلف نقد الثمن في كلّ مرّة. فهذا قرض تعورف فيه شرط البيع. والشرط كلما كان متعارفاً فإنه يجوز عند الحنفية، وإن كان مخالفاً لمقتضى العقد، كما في شراء النعل بشرط أن يحذوه البائع. ومن هنا نرى الفقهاء الذين أجازوا الاستجرار لم يفرقوا بين دفع الثمن مقدماً، وبين دفعه مؤخراً. قال ابن عابدين رحمه الله تعالى: (قال في الولوالجية: دفع دراهم إلى خبّاز، فقال: اشتريت منك مئة منّ من خبز، وجعل يأخذ كل يوم خمسة أمناء، فالبيع فاسد وما أكل فهو مكروه، لأنه اشترى خبزاً غير مشار إليه، فكان المبيع مجهولاً. ولو أعطاه الدراهم وجعل يأخذ منه كل يوم خمسة أمناء، ولم يقل في الابتداء: اشتريت منك، يجوز. وهذا حلال وإن كان نيته وقت الدفع الشراء، لأنه بمجرد النية لا ينعقد البيع، وإنما ينعقد البيع الآن بالتعاطي، والآن المبيع معلوم، فينعقد البيع صحيحاً. اهـ. قلت: ووجهه أن ثمن الخبز معلوم، فإذا انعقد بيعاً بالتعاطي وقت الأخذ مع دفع الثمن قبله، فكذا إذا تأخر دفع الثمن بالأولى) (1) .   (1) رد المحتار:4/54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وقال ابن نجيم في الأشباه والنظائر: (ومنها لو أخذ من الأرز والعدس وما أشبهه، وقد كان دفع إليه ديناراً مثلاً لينفق عليه، ثم اختصما بعد ذلك في قيمته هل تعتبر قيمته يوم الأخذ أو يوم الخصومة؟ قال في التتمة: تعتبر يوم الأخذ) (1) . وقد أسلفنا قول الإمام مالك رحمه الله في الموطأ: (ولا بأس بأن يضع الرجل عند الرجل درههماً، ثم يأخذ منه بثلث أو بربع أو بكسر منه معلوم سلعة معلومة) (2) . وتبين بهذا أن الاستجرار بمبلغ مقدم جائز مثل الاستجرار بثمن مؤخر، ويكون المبلغ قرضاً عند البائع إلى أن يقع البيع عند الأخذ، فتجري مقاصّة القرض بثمن المبيع. والمبلغ مضمون على البائع، إن هلك, هلك من ماله، إلا إذا وضع المبلغ عنده كما هو كأمانة، ولم يتصرف فيه بشيء، فحينئذ يكون قبضه أمانة، فلا يضمنه عند الهلاك. ويخرّج على هذا اشتراك المجلات الدوريّة. فإن العادة في عصرنا أن الناس يدفعون بدل الاشتراك السنويّ في بدانة كل سنة إلى أصحاب هذه الدوريّات، وأنهم يبعثون إليهم نشرة من المجلة في كل شهر. فبدل الاشتراك قرض مضمون عندهم، ويقع بيع كل عدد من المجلة عندما تصل المجلّة إلى المشتري. فلو انقطعت المجلّة في أثناء السنة لزم على أصحابها ردّ ما بقي من بدل الاشتراك.   (1) حكاه ابن عابدين أيضا:4/54. (2) موطأ الإمام مالك جامع بيع الطعام: ص590. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 استخدام الاستجرار في المعاملات المصرفيّة: أما استخدام الاستجرار في المعاملات المصرفيّة، فإن المعاملات الجارية اليوم في البنوك الإسلامية تشتمل على مرابحة، وإجارة، ومضاربة، وشركة، وفي الثلاثة الأخيرة من هذه المعاملات لا يمكن استخدام هذا الطريق مع عملاء البنك الذين يطلبون منه التمويل. ولكن يمكن في عمليات المرابحة أن يتعامل المصرف مع الموردين على أساس الاستجرار. فيقع من البنك تفاهم مع عدّة مؤسسا تجاريّة أنه سوف يشتري البضائع، أو الآلات، أو المعدّات على أساس سعر السّوق، أو بخصم معلوم على سعر السّوق. ثم كلما يتقدم عميل من العملاء يطلب منه المرابحة الشرعيّة، اشترى البنك من تلك المؤسسات ما يطلبه العميل ويقع هذا الشراء على أساس الاستجرار، ثم يبيعها إلى العميل عن طريق المرابحة. وأما عملاء البنك في المرابحة، فلا يجري معهم الاستجرار المشتمل على التعاطي، ولكن يمكن أن يدخل البنك معهم في معاملة شبيهة بالاستجرار. وذلك بأن يتفق البنك معهم على أعلى حدّ للتسهيلات التي يقدمها إليهم عن طريق المرابحة في سنة واحدة. ثم إن العميل لا يستفيد بجميع هذه التسهيلات مرة واحدة، وإنّما يستفيد منها في مرّات متعددة. فالبنك اتفق معه مثلاً أنه سوف يبيع إليه بضاعات قيمتها عشرة ملايين. ولكن العميل لا يشتري من البنك جميع هذه البضائع مائة واحدة، بل يشتري منه بضاعات مليون في البداية مثلاً، ثم كلما يحتاج إلى مزيد من البضاعات، يأتي إليه، فيشتريها منه مرابحة إلى أن ينتهي الحد الأعلى المتفق عليه في الاتفاقية، وهو عشرة ملايين في مثالنا السابق وعند ذلك تنتهي الاتفاقية. وإن هذه المعاملة موافقة للحالة الأولى من الاستجرار بثمن مؤخر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 لأنّ العميل يستجرّ من البنك البضاعات مرّة بعد أخرى، ولكن الثمن معلوم عند كلّ أخذ. ولا خلاف في هذه الصورة بين القائلين بجواز التعاطي. وقدّمنا في مبحث التعاطي أن استخدام التعاطي في عمليات المرابحة يجعل هذه العمليات مشابهة بالربا، فينبغي الاحتراز عنها. فيجب في عمليات المرابحة أن يعقد عقد البيع بالإيجاب والقبول بين البنك وعميله بعد ما يتملك البنك البضاعات المطلوبة، ليكون هناك وقت تكون البضاعة في ملك البنك وضمانه، ويجوز له الاسترباح عليها. فبمراعاة هذا الشرط يجوز أن يستخدم الطريق المذكور الذي يشابه الاستجرار في عمليات المرابحة. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 (3) بيع الحقوق المجردة بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من: (1) إلى (6) جمادى الأولى (1409 هـ) الموافق من: (10) إلى (15) كانون الأول (1998) م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بسم الله الرحمن الرحيم بيع الحقوق المجردة المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين ورحمة العالمين، وعلى آله وأصحابه الذين رفعوا معالم الدين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فقد ظهرت اليوم أنواع من الحقوق الشخصية التي ليست أعيانا في نفسها، ولكن شاع تداولها في الأسواق عن طريق البيع، وقد أقرت القوانين الوضعية بجواز بعضها، ومنعت من تداول بعضها، ولكن الأسواق مكتثة بمثل هذه المعاملات. وهي على سبيل المثال: خلو الدور والحوانيت، وحق استعمال اسم تجاري مخصوص أو علامة تجارية خاصة (Trade Mark) أو الترخيص التجاري (License) وما يسمى في اللغة المعاصرة: حقوق الملكية الذهنية، أو الأدبية والفنية (Intellectual Property) مثل حق التأليف والنشر، وحق الابتكار، وحق الرسام في لوحاته المبتكرة. وجميع هذه الحقوق تعتبر في العرف التجاري المعاصر مملوكة تجري عليها أحكام الأموال والأملاك الشخصية، فإنها تباع وتشترى، وتؤجر وتوهب وتورث، شأن الأعيان والأموال المادية سواء بسواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فالمسألة المطروحة أمامنا: هل يجوز في الشريعة الإسلامية أن تعتبر هذه الحقوق أموالا يصح بيعها وشراؤها، أو الاعتياض عنها بصورة من الصور المشروعة، أم لا يجوز ذلك؟ ولم تكن المسألة في عهد الفقهاء القدامى بهذا الشكل الواسع، فمن الطبيعي أن لا يوجد في كتبهم جواب خاص عن جزئياتها الموجودة في عصرنا، غير أنهم تحدثوا عن كثير من الحقوق ومسألة الاعتياض عنها حسب ما كان موجودا أو متصورا في عصرهم، فمنهم من منع الاعتياض عن الحقوق المجردة، ومنهم من أجاز بعض الأنواع منها. ولو استقصينا ما كتبه الفقهاء في هذا الباب لوجدنا أن أنواع الحقوق كثيرة، وعبارات الفقهاء فيها مختلفة، ولم أظفر بعد بكلمة جامعة تشمل جميع أنواع الحقوق، ويوضح الضابط الذي يمكن أن تبنى عليه المسائل في الموضوع، فنحتاج أن نستخرج الضوابط في هذا الباب من دلائل القرآن والسنة، والجزئيات المبعثرة في كتب الفقه التي يمكن أن تصير نظائر لما نحن بصدده، ونسأل الله تعالى أن يسدد خطانا ويشرح صدورنا بما فيه حق وصواب حسب ما يرضاه سبحانه وتعالى، وهو الموفق والمعين. والذي يتحصل من استقراء الحقوق التي تحدث الفقهاء عن الاعتياض عنها، أنها تنقسم إلى نوعين: 1- الحقوق الشرعية، وهي التي ثبتت من قبل الشارع، ولا مدخل في ثبوتها للقياس. 2- الحقوق العرفية، وهي التي ثبتت بحكم العرف، وأقره الشرع. ثم كل واحد من هذين النوعين ينقسم إلى قسمين: الأول: الحقوق التي شرعت لدفع الضرر عن أصحابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الثاني: الحقوق التي شرعت أصالة. والحقوق الثابتة أصالة تنقسم إلى أقسام: 1- الحقوق التي هي عبارة عن منافع مؤبدة في ذوات الأشياء، مثل حق المرور وحق الشرب، وحق التسييل وغيره. 2- الحقوق التي تثبت بسبق يد الرجل إلى شيء مباح، وتسمى حق الأسبقية أو حق الاختصاص. 3- الحقوق التي هي عبارة عن حق إحداث عقد مع آخر أو إبقائه، مثل حق استئجار الأرض، أو الدار، أو الحانوت، أو حق البقاء في وظيفة من وظائف الوقف. ثم إن الاعتياض عن الحقوق يمكن بطريقين: الأول: الاعتياض عن طريق البيع، وحقيقته نقل ما كان يملكه البائع إلى المشتري بجميع مقتضيات النقل. الثاني: الاعتياض عن طريق الصلح والتنازل، وحقيقته أن التنازل يسقط حقه، ولكن لا ينتقل الحق إلى المنزول له بمجرد نزوله، ولكن يزول مزاحمة النازل بمقابلة المنزول له. وقد ذكر الإمام القرافي رحمه الله الفرق بين الطريقين، حيث قال: " اعلم أن الحقوق والأملاك ينقسم التصرف فيها إلى نقل وإسقاط، فالنقل ينقسم إلى ما هو بعوض في الأعيان، كالبيع والقرض ... وإلى ما هو بغير عوض كالهدايا والوصايا ... فإن ذلك كله نقل ملك في أعيان بغير عوض. وأما الإسقاط فهو إما بعوض كالخلع، والعفو على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 مال فجميع هذه الصور يسقط فيها الثابت، ولا ينتقل إلى الباذل ما كان يملكه المبذول له من العصمة وبيع العبد ونحوهما) (1) . فنريد أولا أن مذكر هذه الأنواع من الحقوق التي ذكرها الفقهاء في كتبهم، ونتكلم على كل منها على حدة، بذكر ما قال فيه الفقهاء رحمهم الله تعالى، فنستخلص من كلامهم ما يدلنا على الحكم الشرعي في هذه الحقوق التي شاع تداولها بين الناس، والتي نريد أن نعرف حكم الاعتياض عنها والله سبحانه وتعالى هو الموفق والمعين. الحقوق الشرعية: والذي نقصد باصطلاح (الحقوق الشرعية) أنها حقوق ثبتت من قبل الشارع، ولا مدخل فيها للقياس، بمعنى أنها لم تثبت لأصحابها إلا بنص جلي أو خفي من قبل الشارع، ولولا ذلك النص ما ثبتت. مثل حق الشفعة، وحق الولاء، وحق الوراثة، وحق النسب، وحق القصاص، وحق التمتع بالزوجة، وحق الطلاق، وحق الحضانة والولاية، وحق المرأة في قسم زوجها لها. وإن هذه الحقوق على قسمين: الأول: حقوق ليست ثابتة أصالة، وإنما أثبتها الشارع لدفع الضرر عن أصحابها ونستطيع أن نسميها " الحقوق الضرورية ". الثاني: حقوق ثبتت لأصحابها أصالة، لا على وجه دفع الضرر، ونستطيع أن نسميها: (الحقوق الأصلية) .   (1) . الفروق للقرافي: 2/110، - الفرق التاسع والسبعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الحقوق الضرورية: فأما القسم الأول من هذه الحقوق وهي الحقوق الضرورية، فمثاله حق الشفعة، فإنه ليس حقا ثابتا بالأصالة، لأن الأصل أن المتبايعين إذا عقدا بيعا عن تراض منهما، فلا حق للثالث أن يتدخل بينهما، ولكن الشريعة إنما أثبتت حق الشفعة للشريك والخليط والجار لدفع الضرر عنهم. وكذلك حق المرأة في قسم زوجها لها، إنما شرع لدفع الضرر عنها، وإلا فالزوج له الخيار في أن يتمتع بزوجته ويبيت عندها متى شاء. ويدخل فيه حق الحضانة، وولاية اليتيم، وخيار المخيرة وحكم هذا النوع من الحقوق أنه لا يجوز الاعتياض عنها، لا عن طريق البيع، ولا عن طريق الصلح والتنازل بمال. والدليل عليه عقلا: أن الحق لم يكن ثابتا لصاحبه أصالة، وإنما ثبت له لدفع الضرر عنه، فإن رضي بإعطائه لغيره، أو تنازل عنه لآخر، ظهر أنه لا ضرر له عند عدمه، فيرجع الأمر إلى الأصل، وهو عدم ثبوت الحق له، فلا يجوز له أن يطالب على ذلك بعوض، كالشفعة إذا تنازل عنها الشفيع، ظهر أنه لا ضرر له في البيع الذي كان سببا لثبوت حقه فانتفى حقه في نقض ذلك البيع، ولا يجوز إذن أن يأخذ على ذلك مالا. وكذلك حق القسم للمرأة كان لدفع الضرر عنها، فلما تنازلت عنه ظهر أنها لا تتضرر بترك القسم، فلا يجوز لها أخذ العوض على هذا التنازل. ومثله المرأة المخيرة من قبل زوجها بقوله " اختاري " لها الخيار في فسخ نكاحها منه دفعا للضرر عنها، فلو قالت: أختار زوجي وأبطل هذا الخيار بمال يعطيني، ظهر أنه لا ضرر لها في بقائها مع زوجها، فلا تستحق أخذ العوض على ذلك. وكذلك زوجة العنين لها أن تفسخ نكاحها من زوجها العنين لدفع الضررعن نفسها فإن رضيت البقاء معه بمال، ظهر أنها لا تتضرر ببقاء النكاح، فلا يجوز لها أخذ العوض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الحقوق الأصلية: وأما النوع الثاني من الحقوق الشرعية، فهي الحقوق التي ثبتت لأصحابها أصالة، لا على وجه دفع الضرر فقط، ومثل حق القصاص، وحق تمتع الزوج بزوجته بقاء نكاحها معه، وحق الإرث، وما إلى ذلك. وحكم هذا النوع من الحقوق أنه لا يجوز الاعتياض عنها بطريق البيع، بأن ينتقل به الحق إلى المشتري، فيستحق به ما كان يستحقه البائع، فلا يجوز لولي قتيل أن يبيع حق الاقتصاص إلى رجل آخر، بأن يستحق ذلك الرجل استيفاء القصاص بدله، وكذلك لا يجوز لرجل أن يبيع حق تمتعه بالزوجة إلى غيره ليتمتع هو بها، ولا يجوز لوارث أن يبيع حق إرثه إلى رجل آخر، بحيث يرث هو عوضا عن الوارث الحقيقي. لأن هذه لحقوق إنما أثبتها الشارع لرجل مخصوص بصفة مخصوصة، مهما تنتف هذه الصفة تنعدم الحقوق، فحق القصاص إنما أثبته الشارع لولي المقتول بصفة كونه وليا له، فإذا انتفت الولاية انتفى الحق. وبعبارة أخرى، إن هذه الحقوق لا تقبل الانتقال من واحد إلى آخر شرعا، فلا تباع ولا توهب، ولا تورث، ووراثة حق القصاص ليس وراثة حقيقة، وإنما هو حق يثبت للوارث أصالة عند عدم الولي الأقرب، لا من حيث إنه ينتقل من الولي الأقرب إلى وارثه. فبما أن الشريعة لا تأذن بنقل هذه الحقوق من واحد إلى آخر، فلا يجوز الاعتياض عنها بطريق البيع والمبادلة، ومأخذ هذا الحكم حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته)) (1) . ولكن هذه الحقوق يجوز الاعتياض عنها بطريق الصلح والتنازل   (1) أخرجه البخاري في العتق، باب بيع الولاء وهبته، وفي الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه، وأخرجه مسلم في العتق، باب بيع الولاء وهبته. وهذا لفظ مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 بمال، بمعنى أن المستحق في هذه الحقوق يمسك عن استعمال حقه بمال يطالب به من يتضرر باستعمال ذلك الحق. مثل ولي القتيل إذا استحق القصاص، فإنه يباح له أن يصالح القاتل على مال، وإن هذا المال بدل لإمساك صاحب الحق عن استيفاء حقه، وإنما يبذله القاتل دفعا لضرر الموت عن نفسه، وهذا جائز بنص القرآن والسنة وبإجماع أهل العلم. وكذلك الزوج له الحق في أن يتمتع بزوجته ببقاء نكاحها معه، ولكنه يمسك عن استعمال هذا الحق بمال تفتدي به المرأة، وهو الخلع والطلاق على مال، وذلك جائز بنص القرآن، وعلى ذلك انعقد الإجماع. وإن هذا الفرق بين الحقوق الضرورية والحقوق الأصلية قد ذكره البيري من الفقهاء الحنفية في شرحه على الأشباه والنظائر (1) وحكاه ابن عابدين رحمه الله ولخصه بقوله: (وحاصله أن ثبوت حق الشفعة للشفيع، وحق القسم للزوجة، وكذلك حق الخيار في النكاح للمخيرة إنما هو لدفع الضرر عن الشفيع والمرأة، وما ثبت لذلك لا يصح الصلح عنه، لأن صاحب الحق لما رضي علم أنه لا يتضرر بذلك، فلا يستحق شيئا. أما حق الموصى له بالخدمة، فليس كذلك، بل ثبت له على وجه البر والصلة، فيكون ثابتا له أصالة، فيصح الصلح عنه إذا نزل عنه لغيره، ومثله ما مر عن الأشباه من حق القصاص والنكاح والرق، حيث صح الاعتياض عنه، لأنه ثابت لصاحبه أصالة، لا على وجه دفع الضرر عن صاحبه) (2) . ولكن جواز هذا الاعتياض على وجه الصلح إنما يجوز إذا كان هناك حق ثابت قائم كما في حق القصاص وحق بقاء النكاح والرق. أما إذا   (1) شرح الأشباه والنظائر، للبيري (مخطوط) : ص 62، و63. (2) رد المحتار، لابن عابدين: 4/530. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 كان حقا متوقعا في المستقبل، غير ثابت في الحال، فإن ذلك لا يجوز الاعتياض عنه، لا عن طريق البيع، ولا عن طريق الصلح. وذلك مثل حق الوراثة في حياة المورث، لا يجوز التنازل عنه بمال، لأن حق الوراثة في حياة المورث ليس حقا ثابتا، بل هو حق متوقع يحتمل الثبوت وعدمه، وإنما يتقرر بموت المورث، وكذلك حق الولاء في حياة المولي حق غير متقرر، وإنما يتأكد بموته فلا يصح التنازل عنه. وأما بعد موت المورث أو الولي، فإن ذلك الحق ينتقل إلى ملك مادي في تركته، فيصح بيعه أو التنازل عنه بطريق التخارج بشروطه المعروفة. الحقوق العرفية: والنوع الثاني من الحقوق نستطيع أن نسميها بالحقوق العرفية. ونقصد بذلك الحقوق المشروعة التي ثبتت لأصحابها بحكم العرف والعادة، وإنها حقوق مشروعة من حيث إن الشريعة الإسلامية أقرتها عن طريق إقرارها للعرف والتعامل، ولكن مأخذها الأصيل هو العرف دون الشرع، وذلك مثل حق المرور في الطريق وحق الشرب، وحق التسييل وما إلى ذلك. وإن هذه الحقوق العرفية تنقسم إلى أقسام: حق الانتفاع بذوات الأشياء: وإن هذا القسم من الحقوق عبارة عن الاستفادة بالمنافع المتعلقة بذوات الأعيان المادية، فإن كان هذا الانتفاع لمدة معلومة فإن الاعتياض عنه مشروع بطريق الإجارة، وتجري عليها أحكامها، مثل الانتفاع بسكنى الدار لمدة معينة، يجوز للمالك الاعتياض عنه بأن يؤجرها لشخص لمدة معلومة بأجرة معلومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وأما إذا كان المالك ينقل هذه المنفعة إلى آخر على سبيل التأبيد، فإنه بيع لتلك المنفعة، وذكره الفقهاء الحنفية باسم بيع الحقوق المجردة أيضا. وقد اختلفت أنظار الفقهاء في جواز هذا البيع، فمنهم من أجازه مطلقا، ومنهم من منعه مطلقا، ومنهم من أجازه في بعض الحقوق، ومنعه فبعضها، ونريد أولا أن نذكر الصور التي ذكرها الفقهاء لهذا القسم من الحقوق، واحدة بعد أخرى، مع ما قال فيها الفقهاء، ثم نصل إلى القول الفصل في الباب إن شاء الله تعالى، والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب. والصور التي ذكرها الفقهاء من هذا القسم هي: حق المرور، حق التعلي، حق التسييل، حق الشرب، حق وضع الخشب على الجدار، وحق فتح الباب. فالمشهور عند الحنفية أن هذه الحقوق حقوق مجردة لا يجوز بيعها، والمعروف في كتب الأئمة الثلاثة جواز الاعتياض عن أكثر هذه الحقوق. وعمدة الخلاف في هذا الباب تعريف البيع، فمن عرف البيع بمبادلة المال بالمال وخص المال بالأعيان، منع بيع الحقوق المجردة، لأنها ليست أعيانا، ومن عمم تعريف البيع بما يشمل المنافع أجاز بيعها. فأما الشافعية فتعريف البيع عندهم شامل لبيع المنفعة على سبيل التأبيد، فقد عرفه ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى بقوله: عقد يتضمن مقابلة مال بمال بشرطه الآتي لاستفادة ملك عين أو منفعة مؤبدة"وقال الشرواني تحته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 " قوله (مؤبدة) كحق الممر إذا عقد عليه بلفظ البيع " (1) . وقال الشربيني الخطيب رحمه الله: " وحده بعضهم بأنه عقد معاوضة مالية يفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد، فدخل بيع حق الممر ونحوه، وخرجت الإجارة بقيد التأقيت فإنها ليست بيعا " (2) . وقال ابن القاسم الغزي في شرحه على متن أبي شجاع: (فأحسن ما قيل في تعريفه أنه تمليك عين مالية بمعاوضة بإذن شرعي، أو تمليك منفعة مباحة على التأبيد بثمن مالي ... ودخل في منفعة تمليك حق البناء) . وقال الباجوري تحته: (قوله ودخل في منفعة إلخ، إنما قال: دخل إلخ، لأن المنفعة تشتمل حق الممر، ووضع الأخشاب على الجدار ... ولابد من تقدير مضاف في كلامه بأن يقال: ودخل في تمليك منفعة، ليناسب قوله (تمليك حق البناء) . وصورة ذلك أن يقول له: بعتك حق البناء على هذا السطح مثلا بكذا، والمراد بالحق الاستحقاق " (3) . ولخصه الشاطري في الياقوت بقوله: " البيع لغة: مقابلة شيء بشيء، وشرعا: عقد معاوضة مالية تفيد ملك عين، أو منفعة على التأبيد، كما في بيع حق   (1) . حواشي الشرواني على تحفة المحتاج: 4/215، وبمثله عرف الرملي في نهاية المحتاج: 3/361. (2) . مغني المحتاج، للشربيني: 2/3. (3) . حاشية الباجوري على شرح الغزي: 1/340. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الممر، ووضع الأخشاب على الجدار، وحق البناء على السطح" (1) . فظهر بهذه النصوص الفقهية أن المنفعة المباحة المؤبدة مال عند الشافعية يجوز بيعه وشراؤه، وكذلك الأمر عند الحنابلة فتعريف البيع عندهم على ما ذكره البهوتي، أنه: " مبادلة عين مالية ... أو منفعة مباحة مطلقا، بأن لا تختص إباحتها بحال دون آخر كممر دار أو بقعة تحفر بئرا، بأحدهما، أي عين مالية أو منفعة مباحة مطلقا ... فيشمل نحو بيع كتاب بكتاب أو بممر دار، أو بيع نحو ممر في دار بكتاب، أو ممر في دار أخرى " (2) . وقال المرداوي رحمه الله في الإنصاف بعد ما ذكر عدة تعريفات للبيع، واعترض على أكثرها: " وقال في الوجيز: هو عبارة عن تمليك عين مالية، أو منفعة مباحة على التأبيد بعوض مالي ". ويرد عليه أيضا: الربا والقرض، وبالجملة: قل أن يسلم حد. قلت: لو قيل: " هو مبادلة عين أو منفعة مباحة مطلقا، بأحدهما كذلك على التأبيد فيهما، بغير ربا ولا قرض "، لسلم (3) . وجاء في كشاف القناع للبهوتي: (ويصح أن يشتري ممرا في ملك غيره دارا كان أو غيرها (و)   (1) الياقوت النفيس في مذهب ابن إدريس: ص74، وراجع أيضا الغاية القصوى للبيضاوي:1/455، وفتح الجواد على متن الإرشاد لابن حجر: 1/373. (2) شرح منتهى الإرادات: 2/140، ومثله في كشاف القناع: 3/135. (3) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي: 4/260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 أن يشتري موضعا في حائط يفتحه بابا وأن يشتري بقعة في أرض يحفرها بئرا، بشرط كون ذلك معلوما، لأن ذلك نفع مقصود، فجاز بيعه كالدور ويصح أيضا أن يشتري علو بيت يبني عليه بنيانا موصوفا، أو ليضع عليه خشبا موصوفا، لأنه ملك البائع، فجاز بيعه كالأرض، معنى " موصوفا " أي معلوما وكذا لو كان البيت الذي اشترى علوه غير مبني إذا وصف العلو والسفل ليكون معلوما، وإنما صح لأنه ملك للبائع، فكان له الاعتياض عنه ويصح فعل ذلك أي ما ذكر من اتخاذ ممر في ملك غيره، أو موضوع في حائطه يفتحه بابا، أو بقعة في أرضه يحفرها بئرا، أو علو بيت يبني عليه بنيانا، أو يضع عليه خشبا معلومين صلحا أبدا أي مؤبدا، وهو في معنى البيع ... ومتى زال البنيان أو الخشب (فله إعادته) لأنه استحق إبقاءه بعوض (سواء زال لسقوطه) أي سقوط البنيان أو الخشب (أو) زال (لسقوط الحائط) الذي استأجره لذلك أو زال لغير ذلك كهدمه إياه ... وله أي لرب البيت الصلح على زواله أي إزالة العلو عن بيته أو الصلح بعد انهدامه على عدم عوده سواء كان ما صالحه به مثل العوض الذي صولح به على وضعه أو أقل أو أكثر، لأن هذا عوض عن المنفعة المستحقة له، فيصح بما اتفقا عليه) (1) . وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: " ولا يجوز أن يبني دكانا، ولا يخرج روشنا ولا ساباطا على درب غير نافذ إلا بإذن أهله ... وإن صالح أهل الدرب من   (1) كشاف القناع للبهوتي: 3/391، و 392، طبع مكة المكرمة 1394هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ذلك على عوض معلوم جاز. وقال القاضي وأصحاب الشافعي: لا يجوز، لأنه بيع للهواء دون القرار، ولنا أنه يبني فيه بإذنهم، فجاز، كما لو أذنوا له بغير عوض، ولأنه ملك لهم، فجاز لهم أخذ عوضه كالقرار. إذا ثبت هذا، فإنما يجوز بشرط كون ما يخرجه معلوم المقدار في الخروج والعلو. وهكذا الحكم فيما إذا أخرجه إلى ملك إنسان معين لا يجوز بغير إذنه، ويجوز بإذنه بعوض وبغيره إذا كان معلوم المقدار " (1) . وقال أيضا: " ولا يجوز أن يفتح في حائط المشترك طاقا ولا بابا إلا بإذن شريكه، لأن ذلك انتفاع بملك غيره، وتصرف فيه بما يضر به، ولا يجوز أن يغرز فيه وتدا، ولا يحدث عليه حائطا، ولا يستره، ولا يتصرف فيه نوع تصرف، لأنه تصرف في الحائط بما يضر به، فلم يجز كنقضه، ولا يجوز له فعل شيء من ذلك في حائط جاره بطريق الأولى، لأنه إذا لم يجز فيما فيه حق، ففيما لا حق له فيه أولى، وإن صالحه عن ذلك بعوض جاز" (2) . وقال أيضا: " ولا يجوز أن يحفر في الطريق النافذة بئرا لنفسه، سواء جعلها لماء المطر أو ليستخرج منها ما ينتفع به ولا غير ذلك ... ولو صالح أهل الدرب عن ذلك بعوض جاز. (3) .   (1) المغني مع الشرح الكبير، لابن قدامة: 5/34و35. (2) المغني، لابن قدامة: 5/36. (3) المغنى، لابن قدامة: 5/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وأما المالكية، فالتعريف المشهور للبيع عندهم، ماينسب إلى ابن عرفة، وهو ما يلي: " عقد معاوضة على غير منافع، ولا متعة لذة) (1) . فتخرج الإجارة والكراء لكونهما عقدا على منافع، ويخرج النكاح لأنه عقد على متعة لذة، وظاهر هذا التعريف أن البيع يقتصر عندهم على الأعيان المادية، ولا يقع على المنافع والحقوق. ولكن يوجد عندهم - على الرغم من ذلك - جواز بعض البيوع التي ترجع إلى بيع الحقوق والمنافع، فيجوز عندهم بيع حق التعلي، وحق غرز الخشب على الجدار. يقول الدردير رحمه الله في شرحه الكبير. " (وجاز) بيع (هواء) بالمد، أي فضاء، (فوق هواء) بأن يقول شخص لصاحب أرض: بعني عشرة أذرع مثلا ما تبينه بأرضك (إن وصف البناء) الأسفل والأعلى لفظا أو عادة، لخروج من الجهالة والغرر، ويملك الأعلى جميع الهواء الذي فوق بناء الأسفل، ولكن ليس له أن يبني ما دخل عليه إلا برضا الأسفل ... (و) جاز عقد على (غرز جذع) أي جنسيه فيشمل المتعدد (في حائط) لآخر بيعا أو إجارة. وخرق موضوع الجذع على المشتري أو المكتري " (2) . وقال الحطاب بعد ذكر هذه المسألة: (ولا يجوز لمبتاع الهواء بيع ما على سقفه إلا بإذن البائع لأن الثقل على حائطه ويفهم منه أنه ملك ما فوق بنائه   (1) الدسوقي على الشرح الكبير، للدردير:3/2؛والزرقاني على مختصر خليل:3:3؛والخرشي على مختصر خليل:5/4؛ومواهب الجليل، للحطاب:4/225؛ومنح الجليل، للشيخ محمد عليش:2/460. (2) الدسوقي على الشرح الكبير: 3/14؛ والمسألة في شروح خليل وحواشيه وفي المدونة: 10/51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 من الهواء، إلا أنه لا يتصرف فيه لحق البائع في الثقل " (1) . وزاد المواق رحمه الله: " يجوز في قول مالك شراء طريق في دار رجل، وموضع جذوع من حائط يحملها عليه إذا وصفها " (2) . ويظهر من مدونة الإمام مالك أنه يجوز عندهم بيع الشرب أيضا، وجاء في المدونة الكبرى: " قلت: فإن بعت حظي. بعت شرب يوم، أيجوز هذا أم لا؟ قال مالك: هو جائز. قلت: فإن بعت حظي بعت أصله من الشرب، وإنما لي فيه يوم من اثني عشر يوما، أيجوز في قول مالك؟ قال: نعم، قلت: فإن لم أبع أصله، ولكن جعلت أبيع منه السقي، إذا جاء يومي بعت ما صار لي من الماء ممن يسقى به، أيجوز هذا في قول مالك، قال: نعم " (3) . فالظاهر من هذه النصوص أن المالكية يجوز عندهم بيع هذه الحقوق، ولا يمكن أن تحمل هذه النصوص على بيع الأعيان التي تتعلق بها هذه الحقوق، لأن بيع الحظ من الشرب قد أفرد في هذه المسألة عن بيع الماء، وحكم بجواز كل منهما على حدة، وبيع الحظ من الشرب ليس إلا حقا مجردا. ولأن بيع الهواء بمجرده لا يجوز عندهم، إلا إذا كان لغرض البناء، لما جاء في المدونة الكبرى: " قلت: أرأيت إن باع عشرة أذرع من فوق عشرة أذرع من هواء هو له، أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: لا يجوز هذا عندي،   (1) مواهب الجليل: 4/276. (2) . التاج والإكليل للمواق، بهامش الحطاب: 4/275، وراجع المدونة: 10/50. (3) . المدونة الكبرى: 10/121 و 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ولم أسمع من مالك فيه شيئا، إلا أن يشترط له بناء يبنيه؛ لأن يبني هذا فوقه، فلا بأس بذلك " (1) . ثم إن الزرقاني رحمه الله ذكر بيع المنفعة من جملة أقسام البيوع، حيث قال: (البيوع جمع بيع، وجمع لاختلاف أنواعه، كبيع العين، وبيع الدين، وبيع المنفعة) (2) . فالذي يظهر من مجموع هذه النصوص أن المنافع التي أخرجها ابن عرفة من تعريف البيع، هي المنافع المؤقتة التي يقع عليها عقد الإجارة أو الكراء. أما المنافع المؤبدة فيجوز بيعها عند المالكية أيضا، والله سبحانه أعلم. مذهب الحنفية: وأما الحنفية، فتعريف البيع المشهور عندهم: " مبادلة المال بالمال " (3) . وعرفه بعض العلماء بقولهم: " مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب " (4) ، ولكن المراد من الشيء المرغوب عندهم هو المال، فإن الكاساني الذي عرف البيع بهذا، ذكر في موضع آخر أن البيع مبادلة المال بالمال (5) . وكذلك صاحب الدر المختار قد صرح في شرح ملتقى الأبحر أن المراد من الشيء المرغوب هو المال.   (1) المدونة الكبرى: 10/15. (2) . شرح الزرقاني على الموطأ: 3/250. (3) . البحر الرائق:5/256؛وفتح القدير:5/455؛ومجمع الأنهر:2/3؛ وشرح المجلة، لخالد الأتاسي: 2/5، رقم المادة: 105. (4) . بدائع الصنائع: 5/133؛ والدر المختار: 4/503. (5) . بدائع الصنائع: 5/140، شرائط صحة البيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وأما تعريف المال، فقد اضطربت فيه عبارات القوم، فقال ابن عابدين: (المراد بالمال ما يميل إليه الطبع، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، والمالية تثبت بتمول الناس كافة أو بعضهم، والتقوم يثبت بها، وبإباحة الانتفاع به شرعا) (1) . وحكى بعد ذلك عن الحاوي القدسي: " المال اسم لغير الآدمي خلق لمصالح الآدمي، وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار) (2) . وليس في أحد من هذين التعريفيين ما يقصر المال على الأعيان، ويخرج الحقوق أو المنافع المؤبدة من تعريفه صراحة ولكن عرفه علاء الدين الحصكفي رحمه الله، صاحب الدر المختار، في شرحه على ملتقى الأبحر بما يقصره على الأعيان، فقال: " والمراد بالمال عين يجري فيه التنافس والابتذال " (3) . وإن هذا التصريح في تعريف المال بكونه من الأعيان، وإن كان لا يوجد عند غيره بهذا الوضوح، ولكن الذي يستنبط من كلام الفقهاء المتأخرين من الحنفية وتعريفاتهم أنه ملحوظ عندهم في تعريف المال. ولذا فإن الأستاذ مصطفى الزرقاء انتقد هذه التعريفات، واستبدل بها تعريفا آخر، وهو: (المال: هو كل عين ذات قيمة مادية بين الناس " (4) . ومقتضى هذين التعريفين أن المال مقصور على الأعيان المادية،   (1) رد المحتار: 4/501. (2) المرجع السابق؛ والبحر الرائق: 5/257. (3) الدر المنتقى، بهامش مجمع الأنهر: 2/3. (4) حكاه عنه أخونا الدكتور وهبه الزحيلي في (الفقه الإسلامي وأدلته) : 4/345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فلا يشمل المنافع والحقوق المجردة، ولذلك صرح الفقهاء الحنفية بعدم جواز بيع المنافع والحقوق المجردة، وقد صرحوا بأن بيع حق التعلي لا يجوز. قال الكاساني: (سفل وعلو بين رجلين انهدما، فباع صاحب العلو علوه لم يجز، لأن الهواء ليس بمال) (1) . وقال صاحب الهداية: "لأن حق التعلي ليس بمال، لأن المال ما يمكن إحرازه" (2) . وكذلك حق التسييل، قد صرح فقهاء الحنفية بعدم جوازه، ولم أر أحدا منهم حكم بجواز حق التعلي، وحق التسييل (3) . ولكن أجاز بعضهم بيع حق المرور وحق الشرب، ولنبين ما ذكره الحنفية في هذا الصدد. بيع حق المرور عند الحنفية: للحنفية في بيع حق المرور روايتان: إحداهما رواية الزيادات، وهي عدم جواز، والأخرى رواية كتاب القسمة، وهي الجواز. قال صاحب الهداية: " (وبيع الطريق وهبته جائز، وبيع مسيل الماء وهبته باطل) والمسألة تحتمل وجهتين: بيع رقبة الطريق والمسيل، وبيع حق المرور والتسييل، فإن كان الأول فوجه الفرق بين المسألتين أن الطريق معلوم، لأن له طولا وعرضا معلوما.   (1) بدائع الصنائع: 5/145. (2) فتح القدير:5/34 (3) راجع رد المحتار:5/80؛ وشرح المجلة للأتاسي: 1/117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وأما المسيل فمجهول، لأنه لا يدرى قدر ما يشغله من الماء. وإن كان الثاني، ففي بيع حق المرور روايتان، ووجه الفرق على إحداهما بينه وبين حق المسيل أن حق المرور معلوم، لتعلقه بمحل معلوم، وهو الطريق. أما المسيل على السطح فهو نظير حق التعلي، وعلى الأرض مجهولة لجهالة محله، ووجه الفرق بين حق المرور وحق التعلي على إحدى الروايتين أن حق التعلي يتعلق بعين، وهو البناء، فأشبه المنافع. أما حق المرور يتعلق بعين تبقى، وهو الأرض، فأشبه الأعيان " (1) . واعترض ابن همام على هذا الفرق بأن البيع كما يرد على عين تبقى، ربما يرد على عين لا تبقى، فلا يظهر الفرق بين الأعيان الباقية وغير الباقية. وبين وجها آخر للفرق، وهو: " أن حق المرور حق يتعلق برقبة الأرض، وهي مال هو عين، فما يتعلق به يكون له حكم العين. أما حق التعلي فحق يتعلق بالهواء، وهو ليس بعين مال " (2) . ثم ذكر أن الفقيه أبا الليث صحح رواية الزيادات، وهي عدم الجواز لأن بيع الحقوق المجردة لا يجوز. لكن ذكر في الدر المختار أن رواية الجواز أخذ بها عامة المشايخ. وقال ابن عابدين تحته: " قوله: وبه أخذ عامة المشايخ "، قال السائحاني: " وهو الصحيح وعليه الفتوى، (مضمرات) . والفرق بينه وبين حق التعلي حيث لا يجوز، هو أن حق المرور حق يتعلق   (1) فتح القدير: 2/65 و 66 (2) المرجع السابق: 2/22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 برقبة الأرض، وهي مال هو عين، فما يتعلق به له حكم العين، أما حق التعلي فمتعلق بالهواء، وهو ليس بعين مال " (1) . وبه يظهر أن المختار عند المتأخرين من الحنفية جواز بيع حق المرور، لكونه حقا يتعلق بالعين فأخذ حكم العين في جواز البيع. وكان ينبغي على هذا الأصل أن يجوز بيع حق التسييل على الأرض أيضا، لكونه حقا يتعلق بعين، وهي الأرض، غير أنهم منعوه لجهالة محل التسييل، لا لكونه حقا مجردا، كما يظهر من تعليل صاحب الهداية، ومقتضى هذا التعليل أن يجوز هذا البيع أيضا إذا ارتفعت الجهالة بتعيين محل التسييل بأن لا يتجاوز الماء ذلك المحل. بيع حق الشرب: واختلفت أقوال الفقهاء في بيع حق الشرب أيضا، فظاهر الرواية في مذهب الأحناف أنه لا يجوز بيع الشرب، ثم جوزه كثير من المشايخ بناء على العرف والمذكور في رد المحتار وغيره أن الفتوى على عدم الجواز، ولكن الذي يظهر بالنظر الدقيق أن الذين منعوا من جواز هذا البيع، مع جريان العرف بذلك، إنما منعوه للغرر والجهالة، لا لكونه ليس مالا يقول الإمام السرخسي رحمه الله تعالى: (بيع الشرب فاسد، فإنه من حقوق المبيع بمنزلة الأوصاف، فلا يفرد بالبيع ثم هو مجهول في نفسه غير مقدور التسليم، لأن البائع لا يدري أيجري الماء أم لا؟ وليس في وسعه إجراؤه. قال " وكان شيخنا الإمام يحكي عن أستاذه أنه كان يفتي بجواز بيع الشرب بدون الأرض، ويقول: فيه عرف   (1) رد المحتار:4/132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ظاهر في ديارنا بنسف، فإنهم يبيعون الماء " فللعرف الظاهر كان يفتي بجوازه، ولكن العرف إنما يعتبر فيما لا نص بخلافه، والنهي عن بيع الغرر نص بخلاف هذا العرف، فلا يعتبر) (1) . فعلل السرخسي رحمه الله عدم الجواز بأمرين: أنه من حقوق المبيع، فلا يفرد بالبيع، والثاني: أن فيه غررا وجهالة. ولما استدل المجوزون بالعرف الظاهر عارضه بالأمر الثاني فحسب، وذكر أن العرف لا يصلح أن يجوز به الغرر المنهي عنه بالنص، ولم يقل إن العرف لا يصلح أن يجوز به بيع الحقوق. وقد صرح بذلك ابن همام رحمه الله حيث قال: " ثم بتقدير أنه حظ من الماء فهو مجهول المقدار، فلا يجوز بيعه، وهذا وجه منع مشايخ بخارى بيعه مفردا " (2) . وعبارة البابرتي أصرح، حيث يقول: (وإنما لم يجز بيع الشرب وحده في ظاهر الرواية للجهالة، لا باعتبار أنه ليس بمال) (3) . ثم إن السرخسي رحمه الله ذكر هذه المسألة مرة أخرى في كتاب المزارعة بأبسط مما ههنا، وذكر في الأخير قول المشايخ المتأخرين الذين أجازوا بيع الشرب للعرف، ولم ينتقد قولهم بشيء، فقال: " وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله أفتى أن يبيع الشرب وإن لم يكن معه أرض للعادة الظاهرة فيه في بعض البلدان، وهذه عادة معروفة بنسف، قالوا: المأجور   (1) مبسوط السرخسي:14/135، و136. (2) فتح القدير: 5/205. (3) العناية بهامش الفتح: 5/204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الاستصناع للتعامل وإن كان القياس يأباه، فكذلك بيع الشرب بدون الأرض) (1) . وما قاله الحنفية في بيع الشرب يتحصل منه في مسألة بيع الحقوق عين ما تحصل من مسألة بيع حق المرور وحق التسييل، وذلك أن الحق إن كان متعلقا بعين من الأعيان يجوز بيعه إذا لم يكن هناك مانع آخر كالجهالة والغرر وغيرهما. ثم ذكر بعض المتأخرين من الحنفية أن الحقوق التي لا يجوز بيعها، مثل حق التعلي وحق التسييل، وحق الشرب، إنما لا يجوز الاعتياض عنها بطريق البيع، ولكن يجوز الاعتياض عنها بطريق الصلح، يقول العلامة خالد الأتاسي رحمه الله بعد ذكر مسألة النزول عن الوظائف بمال: " أقول: وعلى ما ذكروه من جواز الاعتياض عن الحقوق المجردة بمال ينبغي أن يجوز الاعتياض عن حق التعلي، وعن حق الشرب، وعن حق المسيل بمال، لأن هذه الحقوق لم تثبت لأصحابها لأجل دفع الضرر عنهم، بل ثبتت لهم ابتداء بحق شرعي. فصاحب حق العلو إذا انهدم علوه، قالوا: إن له حق إعادته كما كان جبرا عن صاحب السفل. فإذا نزل عنه لغيره بمال معلوم ينبغي أن يجوز ذلك على وجه الفراغ والصلح، لا على وجه البيع، كما جاز النزول عن الوظائف ونحوها، لا سيما إذا كان صاحب حق العلو فقيرا قد عجز عن إعادة علوه، فلو لم يجز ذلك له على الوجه الذي ذكرناه، يتضرر. فليتأمل وليحمد، والله سبحانه أعلم) (2) .   (1) مبسوط السرخسي: 23/171. (2) شرح المجلة للأتاسي: 2/121، قبيل المادة 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فهذا محصل ما وجدته من كلام الحنفية في مسألة بيع المنافع والحقوق المتعلقة بالأعيان. خلاصة حكم هذا النوع من الحقوق: ومن المناسب قبل أن نتقدم أن نحرر ما تحصل مما سبق من النصوص الفقهية، وهي أمور: 1- إن تعريف البيع أمر اختلف فه الفقهاء، فالشافعية والحنابلة لا يشترطون في المبيع أن يكون عينا، بل يجوزون بيع المنافع المؤبدة. وكذلك يظهر من بعض فروع المالكية. 2- إن الحنفية وإن اشترطوا في البيع أن يكون المبيع عينا، ولكنهم أجازوا بيع حق المرور، وعللوا ذلك بأنه حق يتعلق بعين، فأخذ حكمه في جواز البيع. 3- ويظهر من ذلك أن الحقوق المتعلقة بالأعيان حكمها عند الحنفية حكم الأعيان، فيجوز بيعها ما لم يكن هناك مانع آخر من البيع، مثل الغرر أو الجهالة. 4- إن الحقوق التي لا تتعلق بالأعيان، مثل حق التعلي، لا يجوز بيعها عند الحنفية، ولكن يجوز الاعتياض عنها بطريق الصلح على ما ذكره بعضهم. وفي ضوء هذه النقاط الأربعة نستطيع أن نقول: إن بيع هذا النوع من الحقوق العرفية، وهو حق الانتفاع بالأعيان جائز عند الأئمة الثلاثة الحجازيين، وإنما منه الحنفية، فقالوا: لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة، ولكن هذا الحكم عندهم ليس بهذا العموم الذي يتوهم من لفظه، بل استثنى منه الفقهاء بعض الحقوق التي تتعلق بالأعيان. وإن للعرف مجالا في إدراج بعض الأشياء في الأموال، فإن المالية كما يقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ابن عابدين رحمه الله، تثبت بتمول الناس. فلو كانت بعض الحقوق تعتبر في العرف أموالا متقومة، وتعامل بها الناس تعامل الأموال، ينبغي أن يجوز بيعها عندهم أيضا بشروط آتية: 1- أن يكون الحق ثابتا في الحال، لا متوقعا في المستقبل. 2- أن يكون الحق ثابتا لصاحبه أصالة، لا لدفع الضرر عنه فقط. 3- أن يكون الحق قابلا للانتقال من واحد إلى آخر. 4- أن يكون الحق منضبطا بالضبط، ولا يستلزم غررا أو جهالة. 5- أن يكون في عرف التجار يسلك به مسلك الأعيان والأموال في تداولها. حق الأسبقية: والنوع الثاني من الحقوق العرفية نستطيع أن نلقبه بحق الأسبقية، وهو عبارة عن حق التملك أو الاختصاص الذي يحصل للإنسان بسبب سبق يده إلى شيء مباح، مثل حق التملك بإحياء الأرض. وقد ذكر بعض الفقهاء الشافعية والحنابلة مسألة بيع هذا الحق. وقد أجمع الفقهاء على أن الأرض الموات لا يملكها الإنسان إلا بإحيائها. وأما التحجير، فلا يثبت به حق التملك بالإحياء، فمن حجر أرضا فإنه أحق بإحيائها، وقد اختلف الفقهاء الشافعية في أنه يجوز له بيع هذا الحق، أو لا يجوز. وجاء في نهاية المحتاج للرملي: " ومن شرع في عمل إحياء ولم يتمه، كحفر الأساس أو علم على بقعة بنصب أحجار، أو غرز خشبا، أو جمع ترابا، أو خط خطوطا، فمتحجر عليه، أي مانع لغيره منه بما فعله، بشرط كونه بقدر كفايته وقادرا على عمارته حالا، وحينئذ هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 أحق به من غيره اختصاصا لا ملكا ... لكن الأصح أنه لا يصح بيعه ولا هبته، كما قاله الماوردي، خلافا للدارمي، لما مر من أنه غير مالك، وحق التملك لا يباع كحق الشفعة. والثاني: يصح بيعه، وكأنه باع حق الاختصاص" (1) . وجاء في المجموع شرح المهذب: " وإن تحجر رجل مواتا، وهو أن يشرع في إحيائه ولم يتمم، صار أحق به من غيره ... وإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به ... وإن مات انتقل ذلك إلى وارثه، لأنه حق تملك ثبت له، فانتقل إلى وارثه كالشفعة. وإن باعه ففيه وجهان: أحدهما، وهو قول أبي إسحاق، أنه يصح، لأنه صار أحق به فملك بيعه، والثاني: أنه لا يصح، وهو المذهب، لأنه لم يملك بعد، فلم يملك بيعه كالشفيع قبل الأخذ" (2) . وقد ذكر الخطيب الشربيني رحمه الله أن أبا إسحاق حينما أجاز بيع هذا الحق علله بكونه بيع حق الاختصاص، كبيع علو البيت للبناء والسكنى دون أسفله (3) . قولين: أحدهما الجواز، والثاني عدمه. يقول الموفق ابن قدامة رحمه الله: ومن تحجر مواتا وشرع في إحيائه ولم يتم، فهو أحق به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به)) ، رواه أبو داود. فإن نقله إلى غيره صار الثاني أحق به،   (1) نهاية المحتاج، للرملي: 5/336؛ ومثله في زاد المحتاج، للكوهجي: 2/404؛ وتحفة المحتاج مع الشرواني: 6/213. (2) تكملة المجموع شرح المهذب، للمطيعي: 14/471. (3) راجع مغني المحتاج: 2/367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 لأن صاحب الحق آثره به، فإن مات انتقل إلى وارثه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ترك حقا أو مالا فهو لورثته)) ، وإن باعه لم يصح، لأنه لم يملكه، فلم يصح بيعه كحق الشفعة، ويحتمل جواز بيعه، لأنه صار أحق به " (1) . وقال المرداوي: "ومن تحجر مواتا لم يملكه ... وهو أحق به، ووارثه بعده ومن ينقله إليه بلا نزاع، وليس له بيعه. هو المذهب، وعليه الأصحاب، وجزم به في الوجيز وغيره، وقدمه في المغني، والشرح، وشرح الحارثي، وابن منجا، والفروع، والفائق وغيرهم ". وقيل يجوز له بيعه، وهو احتمال لأبي الخطاب، وأطلقهما في المحرر، والرعايتين، والحاوي الصغير " (2) . والراجح في كلا المذهبين أنه لا يجوز بيع هذا الحق، ولكن ذكر البهوتي رحمه الله من الحنابلة أن عدم الجواز إنما هو في البيع، ولكن يجوز الاعتياض عنه بطريق التنازل والصلح. يقول البهوتي رحمه الله: "وليس له أي لمن قلنا إنه أحق بشيء من ذلك السابق (بيعه) لأنه لم يملكه كحق الشفعة قبل الأخذ، وكمن سبق إلى مباح. لكن النزول عنه بعوض لا على وجه البيع جائز، كما ذكره ابن نصر الله قياسا على الخلع " (3) . ومن حق الأسبقية ما ذكره الفقهاء من أن من سبق إلى مكان في   (1) الكافي، لابن قدامة: 2/439. (2) الإنصاف، للمرداوي: 6/373، و374. (3) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي: 2/464. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المسجد فهو أحق بذلك المكان، وله أن يؤثر به غيره، ولكن لايجوز أن يبيع هذا الحق، نعم: ذكر البهوتي أنه يجوز له التنازل عنه بعوض (1) . ولم أر في كتب الحنفية والمالكية من تعرض لمسألة بيع حق الأسبقية، وقد ذكروا أن التحجير يثبت به الأحقية في إحياء الأرض وتملكها، ولكن لم أجد بيع هذا الحق عندهم، وقياس قولهم إنه لا يجوز عندهم أيضا إلا أن يكون بطريق التنازل. فخلاصة الحكم في بيع حق الأسبقية أنه وإن كان بعض الفقهاء يجوزون هذا البيع، ولكن معظمهم على عدم جوازه، ولكن يجوز عندهم النزول عنه بمال على وجه الصلح والله سبحانه أعلم. حق العقد: والنوع الثالث من هذه الحقوق ما نستطيع أن نسميه " بحق العقد " ونقصد بذلك حق إنشاء عقد مع آخر أو إبقائه، مثل خلو الدور والحوانيت، فإنه حق لإنشاء عقد الإجارة مع صاحب الدار أو الحانوت أو إبقائه، ومثل حق الوظائف السلطانية أو الوقفية، فإنه حق لإبقاء عقد الإجارة مع الحكومة أو ناظر الوقف. وقد تحدث الفقهاء عن مسألة الاعتياض عن هذين الحقين، ونذكر فيما يلي خلاصة ما قاله الفقهاء في هذا الباب، والله سبحانه هو الموفق. مسألة النزول عن الوظائف بمال: إذا كانت لرجل وظيفة قائمة في الوقف يحصل منها على راتب، كإمام المسجد أو المؤذن أو موظف آخر، وكانت هذه الوظيفة دائمة بحكم شرائط الوقف مثلا، فإن الموظف يملك حق البقاء على هذه والوظيفة وإبقاء عقد إجارته طول حياته، وقد تحدث الفقهاء عن الاعتياض عن هذا   (1) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي: 2/464. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الحق. فأما الاعتياض عنه بطريق البيع فلم يجوزه أحد. وأما الاعتياض عنه بطريق التنازل والصلح، فقد اختلفت فيه أقوال الفقهاء. فمنهم من منعه بحجة أنه حق مجرد لا يجوز الاعتياض عنه، ومنهم من أجازه. أما الحنفية، فقد صرحت جماعة من متأخريهم بجواز النزول عن الوظائف بمال. جاء في الدر المحتار: وفي الأشباه: " لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة كحق الشفعة، على هذا لا يجوز الاعتياض عن الوظائف بالأوقاف ". وفيها في آخر بحث تعارض العرف مع اللغة: " المذهب عدم اعتبار العرف الخاص. لكن أفتى كثير باعتباره، وعليه فيفتي بجواز النزول عن الوظائف بمال) . وأطال ابن عابدين تحته في تحقيق المسألة، وحقق أن جوازه ليس مبنيا على العرف الخاص، وإنما هو مبني على نظائر فقهية. أما قياسه على حق الشفعة فقياس مع الفارق، وهو ما قدمنا في أوائل البحث عن البيري وغيره من أن حق الشفعة إنما شرع لدفع الضرر، والحقوق المشروعة لدفع الضرر لا يجوز الاعتياض عنها. أما حق الوظيفة فحق ثبت لصاحبه أصالة، فلا يحرم الاعتياض عنه، كما في حق القصاص وغيره. وعلى هذا الأساس ذكر ابن عابدين رحمه الله أن عدم جواز الاعتياض عن الحق ليس على إطلاقه، ثم ختم كلامه بقوله: (ورأيت بخط بعض العلماء عن المفتي أبي السعود أنه أفتى بجواز أخذ العوض في حق القرار والتصرف وعدم الرجوع. وبالجملة فالمسألة ظنية، والنظائر المتشابهة للبحث فيها مجال، وإن كان الأظهر فيه ما قلنا، فالأولى ما قاله في البحر من أنه ينبغي الإبراء العام بعده " (1) .   (1) رد المحتار: 4/520. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وكذلك الشافعية، أفتى المتأخرون منهم بجواز النزول عن الوظائف بمال، يقول العلامة الرملي رحمه الله تعالى: " وأفتى الوالد رحمه الله تعالى بحل النزول عن الوظائف بالمال، أي لأنه من أقسام الجعالة فيستحقه النازل ويسقط حقه " (1) . وأقره الشبراملسي في حاشيته، بل فرع عليه جواز النزول عن الجوامك بمال أيضا (2) ، ولكنه ذكر أن هذا الحكم إنما يجري في وظائف الأوقاف الدائمة. وأما الوظائف الحكومية التي لا دوام فيها، فلا يجوز الاعتياض عنها، يقول الشبراملسي: " وأما المناصب الديوانية، كالكتبة الذين يقررون من جهة الباشا فيها، فالظاهر أنهم إنما يتصرفون فيها بالنيابة عن صاحب الدولة، في ضبط ما يتعلق به من المصالح فهو مخير بين إبقائهم وعزلهم ولو بلا حجة فليس لهم يد حقيقة على شيء ينزلون عنه، بل متى عزلوا أنفسهم انعزلوا، وإذا أسقطوا حقهم عن شيء لغيرهم، فليس لهم العود إلا بتولية جديدة ممن له الولاية، ولا يجوز لهم أخذ عوض على نزولهم" (1) . وكذلك يبدو الحكم في مذهب الحنابلة، فإنهم ذكروا أن من حاز وظيفة في الوقف صار أحق بها، ويجوز له أن ينزل عنها لغيره، ولا يجوز له بيع هذا الحق (2) ولكن ذكر البهوتي أنه يجوز النزول عنها بعوض   (1) نهاية المحتاج: 5/478. (2) جمع الجامكية، وهي مبلغ معلوم يقرر لرجل كعطاء من بيت المال، ولا يجوز بيعه عند الحنفية لكونه بيع الدين من غير من عليه الدين، وراجع له رد المحتار. (3) حاشية الشبراملسي على نهاية المحتاج: 6/478. (4) الإنصاف للمرداوي: 6/376؛ وكشاف القناع: 4/216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 لا على وجه البيع، يقول البهوتي بعد ذكر عدة مسائل من هذا القبيل. " (وليس له) ، أي لمن قلنا إنه أحق بشيء من ذلك السابق (بيعه) ، لأنه لم يملكه كحق الشفعة قبل الأخذ، وكمن سبق إلى مباح، لكن النزول عنه بعوض على وجه البيع جائزة، كما ذكره ابن نصر الله قياسا على الخلع " (1) . أما المالكية، فلم أجد عندهم في تتبعى القاصر شيئا صريحا في باب النزول عن الوظائف، ولكنهم يجيزون بيع الجامكية) (2) ، فربما يقاس عليه النزول عن الوظائف، والله سبحانه أعلم. وربما يستدل على جواز النزول عن الوظائف بمال بنزول سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه، فإنه صالحه على مال. ويقول العلامة بدر الدين العيني رحمه الله تحت هذا الحديث: " وفيه جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحا للمسلمين، جواز أخذ المال على ذلك وإعطائه بعد استيفاء شرائطه بأن يكون المنزول له أولى من النازل، وأن يكون المبذول من مال الباذل " (3) والذى يتلخص من كلام الفقهاء في هذا الباب أن بيع حق الوظيفة لا يجوز عندهم، ولكنه يجوز عند جمهور الفقهاء المتأخرين أن يتنازل صاحب الوظيفة عن حقه، ويأخذ على ذلك مالا من الذي تنازل في حقه. ثم اختلف الفقهاء: هل يتعين المنزول له للوظيفة بعد ما تنازل عنها   (1) شرح منتهى الإرادات: 2/464. (2) مواهب الجليل للحطاب: 4/224 (3) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، أبواب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن ابني هذا السيد: 24/208، من طبع المنيرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الأول، فقالت جماعة: لا يتعين المنزول له، بل للناظر الخيار في تعيينه أو تعيين غيره، ولو لم يعينه الناظر، فإن المنزول له لا يسترد من النازل ما أعطاه، لأن النازل فعل ما في استطاعته، وهو النزول، فاستحق المال. وهذا ما صرح به الرملي والشبراملسي من الشافعية (1) ، والحموي وأبو السعود من الحنفية (2) . ولكن قال ابن عابدين رحمه الله: " ثم إذا فرغ عنه لغيره، ولم يوجهه السلطان للمفروغ له، بل أبقاه على الفارغ أو وجهه لغيرهما، فينبغي أن يثبت الرجوع للمفروغ له على الفارغ ببذل الفراغ، لأنه لم يرض بدفعه إلا بمقابلة ثبوت ذلك الحق له، لا بمجرد الفراغ وإن حصل لغيره. وبهذا أفتى في الإسماعيلية والحامدية وغيرهما، خلافا لما أفتى به بعضهم من عدم الرجوع، لأن الفارغ فعل ما في وسعة وقدرته، إذا لا يخفى أنه غير مقصود من الطرفين، ولا سيما إذا أبقى السلطان والقاضي التيمار أو الوظيفة على الفارغ، فإنه يلزم اجتماع العوضين في تصرفه، وهو خلاف قواعد الشرع فافهم " (3) . والذي يظهر لهذا العبد الضعيف - عفا الله عنه - أن جواز الرجوع ظاهر فيما إذا أبقى السلطان والقاضي التيمار أو الوظيفة على الفارغ، لما ذكر ابن عابدين رحمه الله من أن ذلك يستلزم اجتماع العوضين في تصرفه، لأنه إنما استحق المال عوضا عن النزول والفراغ، ولا يتأتى ذلك إلا بأن يحصل الفراغ فعلا، ولم يحصل، فلم يستحق المال، ووجب عليه أن يرد ما أخذ.   (1) راجع نهاية المحتاج وحاشيته: 6/478. (2) شرح الأشباه والنظائر، للحموي: 1/139. (3) رد المحتار، لابن عابدين: 4/520و521. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 أما إذا أمضى القاضي أو الناظر نزوله، وفرغ عن وظيفته فعلا، ولكن القاضي أو الناظر لم يقرر المنزول في مكانه، بل قرر رجلا ثالثا، فالقواعد تقتضي أن لا يستحق المنزول له الرجوع على النازل. وذلك لأن الفقهاء لم يجوزوا الاعتياض عن حق الوظيفة عن طريق البيع، وإنما جوزوه عن طريق الصلح والتنازل. ولا فرق بين بيع الحق والتنازل عنه بمال، إلا أن البيع ينقل إلى المشتري ما كان يملكه البائع، والتنازل لا ينقل الملك إلى المنزول له، وإنما يسقط النازل حقه، وليست فائدته في حق المنزول له إلا لزوال المزاحمة من قبل النازل. وقد تحدث الإمام القرافي عن الفرق بين قاعدة النقل وقاعدة الإسقاط بوضوح، قال رحمه الله تعالى: (اعلم أن الحقوق والأملاك ينقسم التصرف فيها إلى نقل وإسقاط، فالنقل ينقسم إلى ما هو بعوض في الأعيان، كالبيع والقرض؛ وإلى ما هو المنافع، كالإجارة والمساقاة والمزارعة والقراض والجعالة؛ وإلى ما هو بغير عوض، كالهدايا والوصايا والعمري والوقف والهبات والصدقات والكفارات والزكاة والمسروق من أموال الكفار والغنيمة في الجهاد، فإن ذلك كله نقل ملك في أعيان بغير عوض. وأما الإسقاط فهو إما بعوض كالخلع، والعفو على مال والكتابة وبيع العبد من نفسه والصلح على الدين والتعزيز، فجميع هذه الصور يسقط فيها الثابت، ولا ينتقل إلى الباذل ما كان يملكه المبذول له من العصمة وبيع العبد ونحوهما) (1) .   (1) الفروق للقرافي: 2/110، الفرق التاسع والسبعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ولما ثبت عن الفقهاء أنهم إنما جوزوا الاعتياض عن حق الوظيفة على وجه النزول والإسقاط، لا على وجه البيع والنقل، وكما تقدم عن شرح منتهى الإرادات للبهوتي، فلابد أن يلاحظ الفرق بين البيع والإسقاط، وذلك بما قلنا من أن النازل يستحق العوض بمجرد نزوله، ولا ينتقل به الحق إلى المنزول له والله سبحانه أعلم. ومن هذا النوع ما راج في كثير من البلدان من بيع خلو الدور والحوانيت. والخلو (1) عبارة عن حق القرار في دار أو حانوت، فربما يؤجر صاحب البناء بناءه لمدة طويلة، فيأخذ من المستأجر مبلغا مقطوعا عند عقد الإجارة زيادة على أجرته الشهرية أو السنوية، وبدفع هذا المبلغ يستحق المستأجر أن يبقى على إجارته مدة طويلة. ثم ربما ينقل المستأجر حقه هذا إلى غيره، فيأخذ منه مبلغا يستحق به عقد الإجارة مع صاحب البناء، وإذا أراد المالك استرداد بنائه من المستأجر لزمه أن يؤدي إليه مبلغا يتراضى عليه الطرفان. وإن هذه المبالغ كلها تسمى "خلو" أو "جلسة" في شتى البلاد العربية، و"بكرى" و"سلامي" في ديارنا. وأصل الحكم في هذا الخلو عدم الجواز، لكونه رشوة أو عوضا عن حق مجرد. ولكن أفتى بعض الفقهاء بجوازه. وأول من عرف بتجويز الخلو العلامة ناصر الدين اللقاني رحمه الله تعالى، من علماء المالكية في القرن العاشر، ثم تبعه جماعة. قال ابن عابدين رحمه الله:   (1) خلو الدور والحوانيت: الخلو كلمة مولدة لم أجدها بهذا المعنى في المعاجم المعروفة، حتى في المعاجم الحديثة التي تعنى ببيان الاستعمالات الجديدة للكلمات القديمة، ولم أطلع على ضبطها الدقيق، ولكن المعروف (الخلو) بضم الخاء واللام وتشديد الواو، ويحتمل أن يكون "الخلو" بكسر الخاء وإسكان اللام وتخفيف الواو، بمعنى المكان الخالي، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 " وقد اشتهر نسبه مسألة الخلو إلى مذهب الإمام مالك، والحال أنه ليس فيه نص عنه، ولا عن أحد من أصحابه، حتى قال البدر القرافي من المالكية: إنه لم يقع في كلام الفقهاء التعرض لهذه المسألة، وإنما فيها فتيا للعلامة ناصر الدين اللقاني المالكي، بناها على العرف وخرجها عليه، وهو من أهل الترجيح، فيعتبر تخريجه وإن نوزع فيه، وقد انتشر فتياه في المشارق والمغارب وتلقاها علماء عصره بالقبول " (1) . وأما الحنفية، فقد استدل بعضهم على جواز الخلو بمسألة في الفتاوى الخانية، وهي: " رجل باع سكنى له في حانوت لغيره، فأخبر المشتري أن أجرة الحانوت كذا، فظهر أنها أكثر من ذلك، قالوا: ليس له أن يرد السكنى بهذا العيب ". فزعم المستدلون أن المراد بالسكنى في هذه المسألة هو عين الخلو، ولكن حقق الشرنبلالي أن المراد بالسكنى عين مركبة في الحانوت، وهى غير الخلو، فلا يصحح أن يستدل به على جواز الخلو عند الحنفية، فشراء السكنى شراء للعين لا للخلو. ثم ذكر ابن عابدين رحمه الله عن الفتاوى الخيرية أنه قضى مالكي بلزوم الخلو صح ولزم. وقال في نهاية البحث: (وممن أفتى بلزوم الخلو الذي يكون بمقابلة دراهم يدفعها للمتولي أو المالك العلامة المحقق عبد الرحمن أفندي العمادي صاحب هدية ابن العماد، وقال: فلا يملك صاحب   (1) رد المحتار: 4/521، كتاب البيوع، مطلب في خلو الحوانيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الحانوت إخراجه وإجارتها لغيره، ما لم يدفع له المبلغ المرقوم، فيفتى بجواز ذلك للضرورة) . وقد يفهم من كلام ابن عابدين رحمه الله أنه مائل إلى جواز هذا الخلو المتعارف في عصرنا، ولكن الذي ظهر لي بعد مراجعة كتب المالكية الذين ينسب إليهم جواز الخلو، أن ما أفتوا بجوازه ليس هو الخلو المتعارف في عصرنا، والذي هو عبارة عن حق الاستئجار المجرد، بدون أن يكون للمستأجر في الدار أو الحانوت عين قائمة. ولم أر عندهم جواز ذلك، بل وجدت خلافه. وإنما الخلو الذي أجاز المالكية أخذ العوض عنه له صور أخرى، للمستأجر في جميعها أعيان قائمة مستقلة في الدار أو الحانوت. وأنقل ههنا نصين من فقهاء المالكية، يتضح بهما الموضوع كل الوضوح. قال العدوي في شرحه على الخرشي: (اعلم أن الخلو يصور بصور: منها أن يكون الوقف آيلا للخراب، فيكريه ناظر الوقف لمن يعمره، بحيث يصير الحانوت مثلا يكرى بثلاثين نصف فضة، ويجعل عليه لجهة الوقف خمسة عشر، فصارت المنفعة مشتركة بينهما، فما قابل الدراهم المصروفة من المنفعة هو الخلو، فيتعلق به البيع والوقف والإرث والهبة وغير ذلك ويقضي منه الدين وغير ذلك، ولا يسوغ للناظر إخراجه من الحانوت ولو وقع عقد الإيجار على سنين معينة كتسعين سنة، ولكن شرط ذلك أن لا يكون ريع يعمر به. الثانية: أن يكون لمسجد مثلا حوانيت موقوفة عليه، واحتاج المسجد للتكميل أو العمارة، ويكون الدكان يكرى مثلا الشهر بثلاثين صفا، ولا يكون هناك ريع يكمل به المسجد أو يعمره به، فيعمد الناظر إلى الساكن في الحوانيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فيأخذ منه قدرا من المال يعمر به المسجد، ويجعل عليه خمسة عشر مثلا في كل شهر. والحاصل أن منفعة الحانوت المذكورة شركة بين صاحب الخلو والوقف بحسب ما يتفق عليه صاحب الخلو والناظر على وجه المصلحة، كما يؤخذ مما أفتى به الناصر كما أفاده (عج) . الثالثة: أن تكون أرض مجلسة، فيستأجرها من الناظر ويبني فيها دارا مثلا، على أن عليه في كل شهر لجهة الوقف ثلاثين نصف فضة، ولكن الدار تكرى بستين نصف فضة مثلا، فالمنفعة التي تقابل الثلاثين الأخرى، يقال لها (خلو) (1) . وكذلك الشيخ محمد أحمد عليش رحمه الله، نقل فتوى العلامة ناصر اللقاني، ثم ذكر صور الخلو المختلفة، وهى عين ما حكيناه عن العدوي، ثم ذكر فصلا في شروط صحة الخلو، وقال فيه: فصل في شروط صحة الخلو. منها أن تكون الدراهم المرفوعة عائدة على جهة الوقف يصرفها في مصالحه، فما يفعل الآن من صرف الناظر الدراهم في مصالح نفسه بحيث لا يعود على الوقف منها شيء فهو غير صحيح، ويرجع دافع الدراهم بها على الناظر.   (1) حاشية العدوي على الخرشي: 7/79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ومنها أن لا يكون للوقف ريع يعمر به، فإن كان له ريع يفي بعمارته مثل أوقاف الملوك، فلا يصح فيه خلو، ويرجع دافع الدراهم بها على الناظر. منها ثبوت الصرف في منافع الوقف بالوجه الشرعي ... وفائدة الخلو أنه يصير كالملك ويجري عليه البيع والإجارة والهبة والرهن ووفاء الدين والإرث كما يؤخذ من فتوى الناصر اللقاني " (1) . فاتضح بهذه النصوص الفقهية أن الخلو الذي أفتى به العلامة اللقاني، وأقره كثير من علماء المالكية، بمعزل بعيد عن هذا الخلو المتعارف في عصرنا، فإن الخلو الذي أجازه يحدث بعمارة يحدثها المستأجر في الوقف، ويصير به شريكا في منفعة الحانوت بقدر ما صرفه فيه، فينتقص له إكراء الحانوت بقدرها، ويصير له حق القرار فيه، فإذا باعه من آخر فإنه ليس بيعا لحق مجرد، وإنما هو بيع لمنفعة متعلقة بأعيان في الحانوت، وهذه المنفعة مملوكة له، وإنما أجازه المالكية لضرورة عمارة الوقف، ولذلك اشترطوا أن لا يكون للوقف ريع يعمر به، فإن كان له ريع لم يجز هذا العقد. ولا شك أن بعض المالكية حكموا بجواز مثل هذا الخلو في أراض مملوكة غير موقوفة أيضا، ولكن بشرط أن يكون المستأجر بنى فيها بناء، أو أحدث أعيانا مستقلة أخرى، وهي التي تسمى "الجدك". يقول الشيخ محمد عليش رحمه الله: (ثم إن الخلو ربما يقاس عليه الجدك المتعارف في حوانيت مصر، فإن قال قائل: الخلو إنما هو في الوقف لمصلحة، وهكذا يكون في الملك، قيل له: إذا صح في وقف فالملك أولى، لأن المالك يفعل في ملكه ما يشاء. نعم: بعض   (1) فتح العلي المالك، للشيخ محمد عليش: 2/251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الجدكات بناء أو إصلاح أخشاب في الحانوت مثلا بإذن، وهذا قياسه على الخلو ظاهر ... وبعض الجدكات وضع أمور مستقلة في المكان غير مستمرة فيه، كما يقع في الحمامات وحوانيت القهوة بمصر، فهذه بعيدة عن الخلوات، فالظاهر أن للمالك إخراجها) (1) . فتبين بهذا أن المالكية لا يقولون بجواز هذا الخلو المتعارف في عصرنا، الذي لا يكون معه شيء من البناء أو الأعيان الثابتة في الدار أو الحانوت، ويئول الأمر إلى ما حكيناه في أول البحث عن الشرنبلالي أن بيع مجرد الخلو لا يجوز، وإنما يجوز إذا كان معه عين مركبة في الحانوت، الذي يعبر عنه بالسكنى تارة، وبالجدك أخرى. والحاصل ما ذكره العلامة ابن عابدين رحمه الله في تنقيح الحامدية حيث قال بعد ذكر السكنى. (وهو غير الخلو الذي هو عبارة عن القدمية ووضع اليد، خلافا لمن زعم أنه هو، واستدل بذلك على جواز بيع الخلو، فإنه استدلال فاسد، لما علمت من أن السكنى أعيان قائمة مملوكة، كما أوضحه العلامة الشرنبلالي في رسالة خاصة، لكن إذا كان هذا الجدك المسمى بالسكنى قائما في أرض وقف فهو من قبيل مسألة البناء أو الغرس في الأرض المحتكرة، لصاحبه الاستبقاء بأجرة مثل الأرض، حيث لا ضرر على الوقف، وإن أبى الناظر، نظرا للجانبين على ما مشى عليه في متن التنوير ... ولا ينافيه ما في التجنيس من أن لصاحب الحانوت أن يكلفه رفعه، لأن ذلك في الحانوت الملك، بقرينة ما في الفصولين: والفرق أن الملك   (1) المرجع السابق: 2/252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 قد يمتنع صاحبه عن إيجاره، ويريد أن يسكنه بنفسه، أو بيعه، أو يعطله، بخلاف الموقوف المعد للإيجار، فإنه ليس للناظر إلا أن يؤجره، فإيجاره من ذي اليد بأجرة مثله أولى من إيجاره من أجنبي لما فيه من النظر للوقف ولذي اليد) (1) . بديل الخلو المتعارف: تحقق مما ذكرنا أن بدل الخلو المتعارف الذي يأخذه المؤجر من مستأجره لا يجوز، ولا ينطبق هذا المبلغ المأخوذ على قاعدة من القواعد الشرعية، وليس ذلك إلا رشوة حراما. نعم: يمكن تعديل النظام الرائج للخلو إلى ما يلي: 1- يجوز للمؤجر أن يأخذ من المستأجر مقدارا مقطوعا من المال، يعتبر كأجرة مقدمة لسنين معلومة، وهذا بالإضافة إلى الأجرة السنوية أو الشهرية. وتجري على هذا المبلغ المأخوذ أحكام الأجرة بأسرها، فلو انفسخت الإجارة قبل أمدها المتفق عليه لسبب من الأسباب، وجب على المالك أن يرد على المستأجر مبلغا يقع مقابل المدة الباقية من الإجارة. 2- إذا كانت الإجارة لمدة معلومة استحق المستأجر البقاء عليها إلى تلك المدة، فلو أراد رجل آخر أن يتنازل المستأجر عن حقه، ويصير هو المستأجر بدله، يجوز للمستأجر الأول أن يطالب بعوض، ويكون ذلك نزولا عن حق الاستئجار بعوض، ويجوز ذلك قياسا على النزول عن الوظائف بمال. ولكن يشترط لذلك أن تكون الإجارة الأصلية إلى مدة معلومة كعشر سنين مثلا، ويتنازل المستأجر في أثنائها.   (1) تنقيح الفتاوى الحامدية، لابن عابدين: 2/200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 3- إذا كانت الإجارة لمدة معلومة، لا يجوز للمؤجر أن يفسخها إلا بمبرر شرعي، فإن أراد أن يفسخها دون مبرر شرعي، جاز للمستأجر أن يطالبه بعوض، ويكون ذلك نزولا عن حقه بعوض، وهذا بالإضافة إلى ما يستحقه من استرداد جزء باق من المبلغ المقطوع الذي دفعه المستأجر كأجرة مقدمة في بداية العقد. وهذا هو الذي قرره مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته الرابعة المنعقدة في سنة 1408هـ. خلاصة الحكم في الاعتياض عن الحقوق: إلى هنا قد ذكرت ما ظفرت به من الأنواع المختلفة للحقوق التي تحدث الفقهاء عنها وعن عقد المعاوضة عليها. ويتحصل من مجموع ما سبق من أبحاث الفقهاء القواعد التالية: 1- إن الحقوق التي شرعت لدفع الضرر، لا على وجه الأصالة، لا يجوز الاعتياض عنها بصورة من الصور، لا عن طريق البيع ولا عن طريق الصلح والتنازل، مثل حق الشفعة، وحق القسم للمرأة، وخيار المخيرة. 2- إن الحقوق التي ليست ثابتة الآن، وإنما هي متوقعة في المستقبل، لا يجوز الاعتياض عنها بصورة من الصور، كحق الوراثة في حياة المورث، وحق الولاء في حياة المولي. 3- إن الحقوق الشرعية التي ثبتت لأصحابها أصالة، ولكنها لا تقبل الانتقال من واحد إلى آخر، لا يجوز الاعتياض عنها عن طريق البيع، ولكن يجوز عن طريق الصلح والتنازل بمال، مثل حق القصاص، وحق الزوج في بقاء نكاحه مع زوجته، (يجوز الصلح عنه بالخلع والطلاق على مال) . 4- وإن الحقوق العرفية التي هي عبارة عن منافع دائمة من مرافق الأعيان، مثل حق المرور في الطريق، وحق الشرب والتسييل وغيره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 يجوز بيعها عند الشافعية والحنابلة مطلقا، وكذلك يبدو من بعض فروع المالكية. والقول المختار عند المتأخرين من الحنفية أن ما كان من هذه الحقوق متعلقا بالأعيان الثابتة، فهو مال حكما، يجوز بيعه وشراؤه، مثل حق المرور، وحق الشرب، وحق التسييل، بشرط أن لا يكون هناك مانع آخر من جواز البيع، كالغرر والجهالة. ولا يجوز بيع حق التعلي عندهم، لأنه ليس متعلقا بعين ثابتة. ولكنه يجوز التنازل عنه بمال عن طريق الصلح، كما صرح به الأتاسي. 5- إن للعرف مجالا في إدراج بعض الحقوق في الأموال، فإن المالية تثبت بتمول الناس، كما يقول ابن عابدين رحمه الله. 6- إن حق الأسبقية، مثل حق الإحياء بعد التحجير، لا يجوز بيعه في القول المختار عند الشافعية والحنابلة، ولكنه يجوز عندهم النزول عنه بمال. 7- المختار عند الحنفية أن حق الوظيفة، وإن كان لا يجوز بيعه، ولكن يجوز النزول عنه بمال، وكذلك حق استئجار الدار أو الحانوت، لا يجوز بيعه، ولكن يجوز التنازل عنه بعوض مالي. وبعد هذا التنقيح نرجع إلى الحقوق المعاصرة التي شاع تداولها اليوم، والتي نقصد بهذا البحث تحقيق حكمها، والله سبحانه هو الموفق للصواب. بيع الاسم التجاري والعلامة التجارية: نشأت مسألة الاسم التجاري والعلامة التجارية منذ أن ازدادت التجارات حجما وضخامة، وصار التاجر الواحد أو الشركة الواحدة ينتج ويصدر أمواله الضخمة إلى عدد كبير من الناس والبلاد، وتنوعت المنتجات من جنس واحد باختلاف أوصافها، وصارت هذه الأوصاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 تعرف باسم المنتج. فكلما رأى المستهلك أن البضاعة أنتجتها الشركة الفلانية التي عرفت بسمعتها الحسنة في السوق، اشتراها بمجرد سماع الشركة، أو وجود علامتها التجارية على وجه البضاعة. وهكذا صار الاسم التجاري أو العلامة التجارية سببا لكثرة إقبال المشترين على المنتجات وقلته، فصار الاسم التجاري أو العلامة التجارية لهما قيمة في أنظار التجار، فكل اسم حاز سمعة بين الناس يمثل كثرة رغبة المشترين بضاعة واردة في السوق بذلك الاسم، ويسبب كثرة الأرباح لتاجر يرد السوق بذلك الاسم. ولما ظهر أن بعض الناس شرعوا يستعملون أسماء المنتجين الذين لهم شهرة حسنة فيما بين المستهلكين لتروج بضاعتهم بهذا الاسم، وخيف التباس الأمر على عامة الناس، ظهرت قوانين من قبل الحكومات لتسجيل الأسماء التجارية والعلامات التجارية عند الحكومة، ومنع التجار من استعمال الأسماء والعلامات التي سجلها غيرهم. فصارت هذه الأسماء والعلامات بعد التسجيل لها قيمة مادية في عرف التجار. وشرع التجار يبيعون هذه الأسماء ويشترونها بأثمان غالية وأموال طائلة، لما يرجون من شهرتها كثرة إقبال الناس ورغبتهم في شراء ما ينتجونه. فالسؤال الآن: هل يجوز بيع الاسم التجاري؟ أو العلامة التجارية؟ وظاهر أن الاسم أو العلامة ليس عينا ماديا، وإنما هو عبارة عن حق استعمال هذا الاسم أو العلامة، وهذا الحق ثبت لصاحبه أصالة بحكم الأسبقية والتسجيل الحكومي، وهو حق ثابت في الحال، وليس متوقعا في المستقبل، وهو حق يقبل الانتقال إلى آخر، ولكنه ليس حقا ثابتا في عين قائمة فعلى ضوء القواعد التي استخلصناها من كلام الفقهاء، ينبغي أن يجوز الاعتياض عنه على طريق التنازل، دون البيع لأنه ليس حقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ثابتا، أو منفعة مستقرة في عين قائمة. وبهذا أفتى شيخ مشايخنا العلامة أشرف علي التهاوني رحمه الله، وقاسه على مسألة النزول عن الوظائف بمال، وحكى فيه عبارة ابن عابدين رحمه الله التي نقلناها في مسألة النزول عن الوظائف، ثم قال: "اور نام كار خانه بهي مشابه حق وظائف كه ھے كه ثابت على وجه الأصالة ھے نه كه دفع ضرر كيلئى، اور دونوں بالفعل أمور إضافية سي هيـں، اور مستقبل ميـں دونوں ذريعة هيـں تحصيل مال كي، إس بنا ير إس كي عوض دينى ميـں گنجائش معلوم هوتي هي، كولينى والى كيلئى خلاف تقوى ھے، مگر ضرورت ميـں إس كو بهى اجازت هو جائيگى " (1) . " وإن اسم المصنع مشابه لحق الوظائف في أنه ثابت على وجه الأصالة، دون دفع الضرر، وكلاهما أمور إضافية بالفعل، وكلاهما ذريعة لتحصيل المال في المستقبل، فيبدو أن في تعويضه سعة، وإن كان ذلك خلاف التقوى للآخذ، ولكن يؤذن له أيضا عند الضرورة ". ويبدو لهذا العبد الضعيف، عفا الله عنه أن حق الاسم التجاري والعلامات التجارية وإن كان في الأصل حقا مجردا غير ثابت في عين قائمة، ولكنه بعد التسجيل الحكومي الذي يتطلب جهدا كبيرا، وبذل أمور جمة، والذي تحصل له بعد ذلك صفة قانونية تمثلها شهادات مكتوبة بيد الحامل، وفي دفاتر الحكومة، أشبه الحق المستقر في العين، والتحق في عرف التجار بالأعيان، فينبغي أن يجوز الاعتياض عنه على وجه البيع   (1) حوادث الفتاوى، للشيخ أشرف علي التهانوي: 4/71، إمداد الفتاوى:3/119و120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 أيضا، ولا شك أن للعرف مجالا في إدراج بعض الأشياء في الأعيان، لأن المالية، كما يقول ابن عابدين رحمه الله، تثبت بتمول الناس. وهذا مثل القوة الكهربائية أو الغاز التي لم تكن في الأزمان السالفة تعد من الأموال والأعيان المتقومة، لأنها ليست عينا قائمة بذاته، ولم يكن إحرازها في الوسعة البشرية، ولكنها صارت الآن من أعز الأموال المتقومة التي لا شبهة في جواز بيعها وشرائها، وذلك لنفعها البالغ، ولإمكان إحرازها، ولتعارف الناس بماليتها وتقومها. فكذلك الاسم التجاري أو العلامة التجارية أصبحت بعد التسجيل الحكومي ذات قيمة بالغة في عرف التجار، ويصدق عليها أنها تحرز بإحراز شهادتها المكتوبة من قبل الحكومة، وإحراز كل شيء بما يلائمه، ويصدق عليها أيضا أنها تدخر لوقت الحاجة، فالعناصر اللازمة التي تمنح الشيء صفة المالية متوفرة فيها، سوى أنها ليست عينا قائمة بنفسها، فيبدو أنه لا مانع شرعا من أن يسلك بها مسلك الأموال في جواز بيعها وشرائها. وذلك بشرطين: الأول: أن يكون الاسم أو العلامة مسجلة عند الحكومة بصفة قانونية، لأن ما ليس بمسجل لا يعد مالا في عرف التجار. والثانى: أن لا يستلزم هذا البيع الالتباس أو الخديعة في حق المستهلكين، وذلك بأن يقع الإعلان من قبل المشتري أن منتج هذه البضاعة غير المنتج السابق، وإنما يستعمل هذا الاسم أو العلامة بعد شرائهما بنية أنه سيحاول بقدر الإمكان أن يكون إنتاجه بمستوى الإنتاج السابق أو أحسن منه. وأما بغير هذا الإعلان، فإن انتقال الاسم أو العلامة التجارية إلى منتج آخر سبب اللبس والخديعة للمستهلكين، واللبس والخديعة حرام لا يجوز بحال. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ويبدو لهذا العبد الضعيف، عفا الله عنه أن حق الاسم التجاري والعلامات التجارية وإن كان في الأصل حقا مجردا غير ثابت في عين قائمة، ولكنه بعد التسجيل الحكومي الذي يتطلب جهدا كبيرا، وبذل أمور جمة، والذي تحصل له بعد ذلك صفة قانونية تمثلها شهادات مكتوبة بيد الحامل، وفي دفاتر الحكومة، أشبه الحق المستقر في العين، والتحق في عرف التجار بالأعيان، فينبغي أن يجوز الاعتياض عنه على وجه البيع أيضا، ولا شك أن للعرف مجالا في إدراج بعض الأشياء في الأعيان، لأن المالية، كما يقول ابن عابدين رحمه الله، تثبت بتمول الناس. وهذا مثل القوة الكهربائية أو الغاز التي لم تكن في الأزمان السالفة تعد من الأموال والأعيان المتقومة، لأنها ليست عينا قائمة بذاته، ولم يكن إحرازها في الوسعة البشرية، ولكنها صارت الآن من أعز الأموال المتقومة التي لا شبهة في جواز بيعها وشرائها، وذلك لنفعها البالغ، ولإمكان إحرازها، ولتعارف الناس بماليتها وتقومها. فكذلك الاسم التجاري أو العلامة التجارية أصبحت بعد التسجيل الحكومي ذات قيمة بالغة في عرف التجار، ويصدق عليها أنها تحرز بإحراز شهادتها المكتوبة من قبل الحكومة، وإحراز كل شيء بما يلائمه، ويصدق عليها أيضا أنها تدخر لوقت الحاجة، فالعناصر اللازمة التي تمنح الشيء صفة المالية متوفرة فيها، سوى أنها ليست عينا قائمة بنفسها، فيبدو أنه لا مانع شرعا من أن يسلك بها مسلك الأموال في جواز بيعها وشرائها. وذلك بشرطين: الأول: أن يكون الاسم أو العلامة مسجلة عند الحكومة بصفة قانونية، لأن ما ليس بمسجل لا يعد مالا في عرف التجار. والثانى: أن لا يستلزم هذا البيع الالتباس أو الخديعة في حق المستهلكين، وذلك بأن يقع الإعلان من قبل المشتري أن منتج هذه البضاعة غير المنتج السابق، وإنما يستعمل هذا الاسم أو العلامة بعد شرائهما بنية أنه سيحاول بقدر الإمكان أن يكون إنتاجه بمستوى الإنتاج السابق أو أحسن منه. وأما بغير هذا الإعلان، فإن انتقال الاسم أو العلامة التجارية إلى منتج آخر سبب اللبس والخديعة للمستهلكين، واللبس والخديعة حرام لا يجوز بحال. والله سبحانه وتعالى أعلم. حق الابتكار وحق الطباعة: إن حق الابتكار حق يحصل بحكم العرف والقانون لمن ابتكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 مخترعا جديدا أو شكلا جديدا لشيء. والمراد من حق الابتكار أن هذا الرجل ينفرد بحق إنتاج ما ابتكره وعرضه للتجارة. ثم ربما يبيع هذا الحق إلى غيره، فيتصرف فيه تصرف المبتكر الأول من إنتاجه للتجارة. وكذلك من صنف كتابا أو ألفه فله حق طباعة ذلك الكتاب ونشره والحصول على أرباح التجارة. وربما يبيع هذا الحق إلى غيره، فيستحق بذلك ما كان يستحقه المؤلف من طباعته ونشره. فالسؤال: هل يجوز بيع حق الابتكار أو حق الطباعة والتأليف أم لا يجوز؟ وقد اختلفت في هذه المسألة آراء الفقهاء والمعاصرين، فمنهم من جوز ذلك، ومنهم من منع. والمسألة. الأساسية في هذا الصدد: هل حق الابتكار أو حق الطباعة حق معترف به شرعا؟ والجواب على هذا السؤال أن من سبق إلى ابتكار شيء جديد سواء كان ماديا أو معنويا، فلا شك أنه أحق من غيره بإنتاجه لانتفاعه بنفسه، وإخراجه إلى السوق من أجل اكتساب الأرباح، وذلك لما روى أبو داود عن أسمر بن مضرس رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فقال: ((من سبق إلى ما لم يسبقه مسلم فهو له)) (1) . وإن كان العلامة المناوي رحمه الله رجح أن هذا الحديث وارد في سياق إحياء الموات، ولكنه نقل عن بعض العلماء أنه يشمل كل عين وبئر ومعدن، ومن سبق لشيء منها فهي له (2) ، ولا شك أن العبرة لعموم اللفظ لا الخصوص السبب. ولما ثبت أن حق الابتكار حق تقره الشريعة الإسلامية بفضل أسبقية إلى ابتكار ذلك الشيء، فينطبق عليه ما ذكرنا في حق الأسبقية من أحكام، وحققنا هنا أن بعض الشافعية والحنابلة أجازوا بيع هذا الحق، ولكن المختار عندهم عدم جواز البيع، ولكن يجوز عندهم النزول عنه بمال،   (1) أخرجه أبو داود في الخراج قبيل إحياء الموات. وسكت عليه هو والمنذري:4/264، رقم 2947. (2) فيض القدير: 6/148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ونقلنا نص البهوتي عن " شرح منتهى الإرادات " في جواز النزول عن حق التحجير وحق الجلوس في المسجد، وما إلى ذلك من حقوق الأسبقية والاختصاص، ومقتضى ذلك أن يجوز النزول عن حق الابتكار أو حق الطباعة لرجل آخر بعوض يأخذه النازل، ولكن هذا إنما يأتي في أصل حق الابتكار وحق الطباعة، أما إذا قرن هذا الحق بالتسجيل الحكومي الذي يبذل المبتكر من أجله جهده وماله ووقته والذي يعطي هذا الحق مكانة قانونية تمثلها شهادة مكتوبة بيد المبتكر وفي دفاتر الحكومة، وصارت تعتبر في عرف التجار مالا متقوما فلا يبعد أن يصير هذا الحق المسجل ملحقا بالأعيان والأموال بحكم هذا العرف السائر، وقد أسلفنا أن للعرف مجالا في إدراج بعض الأشياء في حكم الأموال والأعيان، لأن المالية كما حكينا عن ابن عابدين رحمه الله تثبت بتمول الناس، وإن هذا الحق بعد التسجيل يحرز إحراز الأعيان، ويدخر لوقت الحاجة ادخار الأموال، وليس في اعتبار هذا العرف مخالفة لأي نص شرعي من الكتاب أو السنة، وغايته أن يكون مخالفا للقياس، والقياس يترك للعرف، كما تقرر في موضعه. ونظرا إلى هذه النواحي أفتى جمع العلماء المعاصرين بجواز بيع حق، أذكر منهم من علماء القارة الهندية: مولانا الشيخ فتح محمد اللكنوي رحمه الله (تلميذ الإمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله) (1) والعلامة الشيخ المفتي محمد كفاية الله والعلامة الشيخ نظام الدين، مفتي دار العلوم بديوبند (2) وفضيلة الشيخ المفتي عبد الرحيم اللاجبوري (3) . وأما المانعون فتمسكوا أولا بأن حق الابتكار حق، وليس عينا ولا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة، ولكن يتضح مما سبق من   (1) عطر الهداية: ص 192 إلى 194. (2) نظام الفتاوى: ص 128 إلى 133. (3) فتاوى رحيمية: 3/244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 كلام الفقهاء أن عدم جواز الاعتياض عن الحقوق ليس على إطلاقه. بل فيه تفصيل بسطناه عند الكلام على شتى أنواع الحقوق وتمسكوا ثانيا بأن من باع كتابا إلى آخر، فقد ملك المشتري ذلك الكتاب بجميع أجزائه، ويجوز للمشتري أن يتصرف فيه كيف شاء، فيجوز له أن يقوم بطباعته، وليس للبائع أن يحجر عليه في هذا الصدد. ولكن ممكن الجواب عنه بأن التصرف في الشيء شيء، وإنتاج مثله شيء آخر، وإن الذي يملكه المشتري بشراء الكتاب هو الأول، فيجوز له أن يتصرف في الكتاب بما شاء قراءة وانتفاعا، وبيعا، وإعارة، وهبة وما إلى ذلك من التصرفات الأخرى، وأما طباعة مثل هذا الكتاب، فليس من منافع المبيع، يستلزم ملكه ملكا لحق الطباعة، وهذا مثل الفلوس المسكوكة من قبل الحكومة، إذا اشتراها رجل جاز له أن يتصرف فيها ما شاء من بيع وهبة وعارية واستبدال، وما إلى ذلك من التصرفات الفردية، ولكن لا يجوز له بحكم هذا الشراء أن يسك فلوسا أخرى على منواله، فظهر بهذا أن ملك الشيء لا يستلزم حق المالك في إنتاج مثله. وتمسكوا ثالثا بأن الذي ينتج هذا الشيء المبتكر أو يطبع ذلك الكتاب المؤلف، فإنه لا يسبب خسارة للمنتج أو المؤلف، وغاية ما في الباب أنه يقلل من ربح المنتج أو المؤلف، وقلة الربح شيء، والخسارة شيء آخر. ويمكن الجواب هذا بأن قلة الربح وإن لم يكن خسارة، ولكنه ضرر، وبين الخسارة والضرر فرق واضح، ولا شك أن الذي تحمل المتاعب والمشاق الجسيمة والفكرية وبذل الأموال الجمة والأوقاف الغالية في إيجاد شيء أو تأليف كتاب، وسهر من أجل ذلك ليالي، وتنازل عن الراحة، أحق بالاسترباح بما ابتكره من الرجل الذي اشتراه بمال بسيط في لحظة واحدة، ثم جعل يسد السوق أمام المبتكر الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وربما يقال: إن الاعتراف بحق الطباعة لفرد واحد يسبب كتمانا للعلم، ولكن كتمان العلم إنما يكون إذا منع المؤلف الناس من الاستفادة بما ألفه قراءة وتبليغا، ولكن الذي يحتفظ بحق الطباعة لا يمنع أحدا من قراءة الكتاب ولا دراسته ولا تعليمه ولا تبليغ ما فيه، حتى إنه لا يمنع من بيعه والتجارة فيه، ولكنه يمنع من أن يطبعه الآخر بغير إذن منه، ليكسب بذلك الأرباح، فليس ذلك من كتمان العلم في شيء. والدليل الأخير للمانعين هو: أن الاحتفاظ بحقوق الطباعة يضيق دائرة انتشار الكتاب، ولو كان لكل أحد حق في طبع الكتاب ونشره، لكان انتشاره أوسع، وإفادته أعم وأشمل. وهذا أمر واقع لا مجال لإنكاره، ولكن الدليل ينقلب إذا نظرنا من ناحية أخرى، وهي أن المبتكرين لو منعوا حق أسبقيتهم بالاسترباح مما ابتكروه لفشلت هممهم عن اقتحام المشاريع الكبيرة من أجل الاختراعات الجديدة حينما يرون أن ذلك لا يدر إلا ربحا بسيطا، وإن مثل هذه الأمور التي تحتمل وجهين لا تفصل القضايا الفقهية ما دام الشيء ليس فيه محظور شرعي، فإن جميع المباحات فيها ما يضر وينفع. خاتمة البحث: ومن الجدير بالذكر هنا أن والدي العلامة المفتي محمد شفيع - رحمه الله تعالى - كان يفتي بعدم جواز بيع حقوق النشر, وله في ذلك رسالة وجيزة مطبوعة في كتابه ((جواهر الفقه)) ولكنه بعد هذا التأليف كان يريد أن يدرس هذه المسألة من جديد ببحث وتحقيق مستفيض بما ينقح مسألة الحقوق والإعتياض عنها وكان منفتحا لكل رأي جديد ينسح له بعد هذا البحث ولكنه لم يجد لذلك فرصة ففوض إلي هذا الأمر مرتين وشرعت في جمع مادته, ولكنه لم يتح إلي إكماله في حياته رحمه الله تعالى وإنما وفقت لإكمال هذا البحث بعد انتقاله إلى رحمة الله بزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فبحثي هذا إمتثال لأمره رحمه الله تعالى وإن كان يبدو في الظاهر أن الرأي الذي انتهيت إليه مخالف لرأيه المطبوع ولكن بما أنه كان يريد إعادة النظر في الموضوع فلا سبيل اليوم إلى الجزم بأن ما كتبته مخالف لرأيه أو يوافقه والله سبحانه وتعالى أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 (4) عقود المستقبليات في السلع في ضَوْءِ الشَّرِيْعَةِ الإِسْلاَمِيَّةْ بحث عرض في ندوة أقيمت بالبحرين من قبل بنك البحرين الإسلامي حول الأسواق المالية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 عقود المستقبليات في السلع فِيْ ضَوْءِ الشَّرِيْعَةِ الإِسْلاَمِيَّةْ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فمن أهم ما يتعامل به في الأسواق المالية اليوم نوع من المتاجرة يقال له المستقبليات (Futures,الأسهم المستقبلية) ، تباع فيه سلع مخصوصة لتاريخ مستقبل معين. وقد أصبح هذا النوع من التعامل من أبرز أنواع المعاملات الجارية في الأسواق المالية العالمية، ولا سيما في البلاد الغربية، وتكونت له بورصات مستقلة يتعامل فيها بالملايين في كل يوم ويقال: أن أول بورصة قامت لتنظيم هذا التعامل هي (بورصة التجارة في شيكاغو) (Chicago Board Of Trade) التي أنشئت في سنة 1848م، غير أن أهل اليابان يدعون أنهم ابتكروا هذا النوع من التجارة قبل نحو من قرن واحد من هذه السنة (1) . أما حقيقة هذه المعاملة، فقد عرفتها دائرة المعارف البريطانية بما يلي:   (1) Gerald Gold: Modern Commodity Futures Trading. Seventh ed. 1975p. 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 (Commercial contracts calling for the purchase or sale of specified quantities of commodities at specified future dates) . "هي عقود تجارية تقتضي الشراء أو البيع للكميات المعينة من السلع لتواريخ مستقبلة معينة" (1) . وحاصل هذا التعريف أن العقد يشتمل على بيع بعض السلع التي يؤجل تسليمها إلى تاريخ مستقبل، ولكن هذا التعريف يشمل " البيوع المقدمة " (Forward sales) أيضا، فإن تسليم المبيع في " البيوع المقدمة " يقع في تاريخ لاحق، ولكن المستقبليات تختلف عن البيوع المقدمة البسيطة (Simple forward sales) في أن " البيوع المقدمة " إنما تعقد للحصول على السلع في تاريخ مستقبل، والبائع يقصد تسليم البيع، والمشتري يريد تسلمها في ذلك التاريخ، ويقع التسليم والتسلم فعلا عند حلوله. أما المستقبليات، فإن السلع إنما تستخدم فيها كأساس للتعامل، ولكنه لا يقصد بها في معظم حالات التسليم والتسلم، بل يقصد بها إما المخاطرة في الأرباح، أو تأمين الربح في أحد " البيوع المقدمة " (Forward sales) المتوازية، فلا يقع فيها تسليم السلع وتسلمها إلا في حالات نادرة، كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى، وإن هذا الفرق بين البيوع المقدمة والمستقبليات مذكور في دائرة المعارف البريطانية عقب تعريف المستقبليات، ونصه: (And the term commodity is used to define theundengingasset, even though the contract is frequently divorced from the product. It therefore differs from a simple forward puronase in the cash market, which involves actuel delivery of the commodity at the agreed time in the future) .   (1) Britannica, Micropeadia, 1988, v. 5 p. 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 " إن اصطلاح (السلع) (في المستقبليات) إنما يستعمل لبيان الأساس الذي يقوم عليه التعامل، وإن كانت المعاملة في أكثر الأحوال خالية من المنتجات، فالمستقبليات تختلف عن البيوع المقدمة المتعامل بها في السوق الحالية التي تتضمن التسليم الفعلي للسلع في الوقت المتفق عليه في المستقبل " (1) . كيفية التعامل بهذه العقود وأما كيفية التعامل بهذه العقود المستقبلية، فهي كما يلي: إن المستقبليات إنما تعقد في سوق منظمة أنشئت لهذا الغرض، وتسمى " سوق تبادل السلع " (Commodity Exchange) التي تجري على أساس العضوية فيها، فمن يحب أن يتعامل في المستقبليات يجب له أن يكون عضوا لهذه السوق، وإن العضوية تتكون من منتجي عدة سلع وتاجر بها، ومن مؤسسات السماسرة. ومن أراد أن يتعامل في هذه السوق دون أن يكون عضوا فيها، فإنما يستطيع ذلك عن طريق السماسرة الأعضاء، ويجب للتعامل في المستقبليات أن يفتح المتعامل حسابا عند إدارة السوق يتضمن مبلغا معينا يبقى عند إدارة السوق كضمان لتصفية التعامل حسب قواعد السوق، ولا يزيد هذا المبلغ عادة على10 % من قيمة العقد عند التوقيع، و7 % في اليوم اللاحق، والمقصود بهذا المبلغ تغطية الخسارة المحتملة في حال تخلف أحد الفريقين عن الوفاء بما التزمه. وبعد فتح الحساب يجوز للعضو أن يبيع أو يشتري كمية معينة من السلع لتاريخ مستقبل، وإن كميات السلع المتعامل بها مقسمة على وحدات تجارية (Trading units) كل وحدة منها تنبئ عن كمية معروفة من   (1) الموسوعة البريطانية (المرجع السابق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 تلك السلعة المخصوصة، فالوحدة المعتبرة في القمح مثلا، هي خمسة آلاف كيس، فلا يقع التعامل بكمية أدنى من هذه الكمية، وللمتعامل أن يتعامل في وحدة واحدة من القمح، أو في وحدتين، أو في ثلاث، وهكذا. وكذلك أنواع السلعة محددة بدقة من حيث جودتها ورداءتها، ويشار إلى هذه الأنواع بأرقام الدرجات، فهناك قمح الدرجة الأولى، وقمح الدرجة الثانية، وقمح الدرجة الثالثة، وهكذا. وإن مواصفات كل من هذه الدرجات معروفة لدى جميع المتعاملين. فمن أراد بيع وحدة من قمح الدرجة الأولى مثلا في شهر يناير لتسليم شهر أكتوبر، فإنه يعرض على السوق ما ينبئ عن رغبته لبيع وحدة من قمح الدرجة الأولى، لشهر أكتوبر بثمن يتوقع أن يكون رابحا عند التسليم، فمن رغب شراء هذه الوحدة بهذه الشروط قبل ذلك العرض، ولا يحتاج أي منهما إلى الالتقاء بالآخر في أسواق البورصة. ولكن إدارة السوق ضامنة لوفاء التزامات الفريقين. فالبائع يقدم عرضه إلى السوق بواسطة الإدارة، والمشتري يقبل هذا العرض عن طريق الإدارة، والإدارة تتكفل له بتسليم السلعة من قبل البائع، وبتسليم السلع من قبل المشتري عند حلول تاريخ التسليم. وليس الأمر حقيقة بهذه البساطة التي تبدو مما ذكرنا من طريق هذا التعامل، ولا يقع أبدا أن ينتظر المشتري تاريخ التسليم ويتسلم السلعة المبيعة عندئذ، وإنما يظل هذا العقد فيما بين شهر يناير وشهر أكتوبر محل بيع وشراء في كل يوم، وربما يقع على العقد الواحد عشرات البياعات يوميا، إلى أن يأتي الأجل، فلو باع زيد مثلا إلى عمرو وحدة من القمح لتسليم شهر أكتوبر، فإن عمرا يبيعه بعد ذلك إلى خالد، وخالد إلى حامد، كل واحد منهم بثمن ربما يختلف عن الثمن الأول، والفارق بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 سعري البيع والشراء هو الربح الذي يخاطر فيه المتعاملون في أثناء هذه المدة وكل من اشترى عقدا بسعر أقل وباعه بسعر أكثر، فإنه يستحق أن يطالب بفرق السعرين كربح له، دون أن يدفع الثمن كمشتر، أو يسلم المبيع كبائع، ففي المثال المذكور لو اشترى عمرو من زيد وحدة من القمح لتسليم شهر أكتوبر بعشرة آلاف دولار مثلا، وباعه من خالد بأحد عشر ألف دولار، فإنه لا يدفع الثمن إلى زيد، ولا يسلم المبيع إلى خالد، وإنما يستحق ألف دولار كالربح الحاصل على تعامله. ولإنجاز هذه العمليات تكون إدارة السوق غرفة تسمى (غرفة المقاصة) (learinghouse) وإن جميع هذه العمليات تسجل في غرفة المقاصة، وهي التي تتولى تصفية جميع الالتزامات في آخر النهار كل يوم. فإن عمرا في المثال المذكور يأخذ ربحه، وهو ألف دولار، ويستلمه من غرفة للمقاصة، ويخرج من العملية بتاتا. وهكذا يستمر التعامل في هذا العقد الواحد إلى أن يأتي شهر التسليم، وفي هذا الشهر يصدر من قبل إدارة السوق إخطار للمشتري الأخير بحلول تاريخ التسليم، وباستفساره: هل يرغب في استلام المبيع في التاريخ المتفق عليه؟ أو يريد بيع هذا العقد؟ فإن رغب في استلام المبيع، فإن البائع يسلم السلعة المبيعة إلى المستودعات المعينة، ويسلم وثيقة الإدخال إلى المستودع، ويحصل مقابلها على الثمن، وإن لم يرغب المشتري الأخير في استلام السلعة، ورغب في بيع العقد، فإنه يبيعه من البائع الأول مرة أخرى، حينئذ فإن المعاملة تصفى على أساس دفع فوارق السعر كما يقع في العمليات التي تم إنجازها قبل حلول التاريخ، وحينئذ لا يقع التسليم والتسلم، حتى في المعاملة الأخيرة. وإن ما يقع فعلا في أسواق السلع في معظم المعاملات هو هذا الشق الثاني، ولا يقع التسليم والتسلم إلا في أحوال نادرة، لعلها لا تبلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 نسبتها إلا إلى الواحد في المائة. والذين يتعاملون في المستقبليات هم نوعان، لكل واحد منهما غرض مستقل عن غرض الآخر للدخول في سوق المستقبليات. أما النوع الأول، فهم المخاطرون (Speculators) الذين لا يقصدون شراء السلع وبيعها للحصول على المبيع أو الثمن، وإنما يقصدون الحصول على الأرباح التي تتكون من فروق أسعار البيع والشراء، كما تقدم ذكر ذلك، وإنهم على ثقة من خبرتهم بتقلبات الأسعار، يشترون المستقبليات على أمل أنهم سوف يبيعونها بسعر أكثر، ويتخلص لهم ربح من وراء هذه العملية، بدون أن يخوضوا في استلام المبيع وتسليمه. فربما تنجح آمالهم في عقد، وتفشل في أخرى. والنوع الثاني، هم الذين يقصدون تأمين ربحهم على بيوع حقيقية عقدوها في الأسواق الحالة، وإن هذه العملية تسمى في الاصطلاح (Hedging) ، ويمكن لنا أن نترجمه إلى العربية بتأمين الربح. ومن المناسب أن نشرح هذه العملية بمثال: إن زيدا اشترى من السوق الحالة عشرة آلاف كيس من القمح بسعر خمسة دولارات لكل كيس مثلا، وإن البيع حقيقي يقع في التسليم، ولكن نظرا إلى ظروف السوق، يريد زيد أن يبيع هذه الكمية بعد ثلاثة أشهر مثلا، ولكنه يخاف أنه إن انخفض سعر القمح بعد ثلاثة أشهر، فإنه سوف يخسر خسارة كبيرة. هب أن السعر انخفض بعد ثلاثة أشهر بمقدار نصف دولار لكل كيس، فإنه يخسر خمسة آلاف دولار في هذه العملية الواحدة. ولتجنب هذه الخسارة، يدخل زيد في سوق المستقبليات، ويبيع مثل هذه الكمية لتسليم ثلاثة أشهر بالسعر الموجود في السوق الحالة يوم العقد، فتكون له عملية شراء في السوق الحالة، وعملية بيع في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 سوق المستقبليات بكميتين متوازيتين من القمح. وإن الربح في إحداهما يجبر الخسران في الأخرى، فلو انخفض سعر القمح بعد ثلاثة أشهر بمقدار نصف دولار للكيس الواحد مثلا، فإنه سوف يخسر في صفقته الحالة بمقدار خمسة آلاف دولار، ولكنه في الوقت نفسه يربح في سوق المستقبليات بما يقارب هذا المقدار، لأن سعر المستقبليات سوف ينخفض أيضا بما يقارب نصف دولار لكيس واحد، فما باعه بسعر أعلى قبل ثلاثة أشهر في سوق المستقبليات يشتريه الآن بسعر أدنى، ويستحق الفرق بين السعرين، وهو خمسة آلاف دولار. وإن هذا الربح الذي حصل له في المستقبليات يجبر ما أصابه من الخسران في الصفقة الحالة، وإن النتيجة الصافية تظهر من الجدول الآتي: السوق الحالة سوق المستقبليات سبتمبر: يشتري 10000 كيس يبيع 10000 كيس من القمح بسعر 5 دولارات من القمح بسعر 5 دولارات ديسمبر: يبيع 10000 كيس يشتري 10000 كيس من القمح بسعر 4.50 دولارات من القمح بسعر 4.50 دولارات خسارة: 0.5 دولار ربح + 0.5 دولار وبالعكس من ذلك، لو ارتفع سعر القمح في شهر ديسمبر بمقدار نصف دولار لكل كيس، يقع العكس، يعني أنه يخسر في سوق المستقبليات، ويربح في السوق الحالة. وفي كل من الحالين تجبر خسارته في إحدى العمليتين بالربح في العملية الأخرى، وهذا هو المراد من (تأمين الربح) (Hedging) . هذه خلاصة وجيزة لكيفية التعامل في المستقبليات، وإن هذه العقود قد أصبحت اليوم معقدة للغاية، وقد تجاوزت دائرتها من السلع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 إلى النقود وإلى الخيارات (Option) وغيرها، ولكننا لخصنا من العملية ما يمكن به فهم حقيقتها وتفاصيلها التي لابد من معرفتها لبيان حكمها في الشريعة الإسلامية (1) . وأما حكمها الشرعي، فكل من له إلمام بقواعد الشريعة ومصالحها، لا يشك بعد النظر في تفاصيل هذه العملية أنها عملية محرمة شرعا، ومصادمة لعدة أحكام الشريعة الغراء. أما أولا، فلأنه بيع لما لا يملكه الإنسان، وقد روى حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول الله: إن الرجل ليأتيني فيريد مني البيع، وليس عندي ما يطلب، أفأبيع منه ثم أبتاعه من السوق؟ قال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (2) . أما البيوع اللاحقة التي تتم خلال مدة التسليم، فإنها بيوع تتم قبل قبض السلعة المبيعة، وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من اشترى طعاما، فلا يبعه حتى يستوفيه)) (3) . وقد حاول بعض الناس تخريج جواز هذه العملية على أساس بيع السلم، ولكن ذلك لا يصح إطلاقا، لأسباب آتية: 1- يجب في السلم شرعا أن يعجل الثمن بكامله، وهو الذي يسمى " رأس مال السلم "   (1) إن هذه الخلاصة مأخوذة من كتاب: (Gerald Gold: Modern Commodity Futures Trading) (2) أخرجه النسائي والترمذي وأبو داود. (3) أخرجه البخاري ومسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 قال ابن قدامة رحمه الله في بيان شرائط صحة السلم: "ويقبض الثمن كاملا وقت السلم قبل التفرق، هذا الشرط السادس، وهو أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد، فإن تفرقا قبل ذلك بطل العقد، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك يجوز أن يتأخر قبضه يومين وثلاثة وأكثر ما لم يكن ذلك شرطا، لأنه معاوضة لا يخرج بتأخير قبضه من أن يكون سلما، فأشبه ما لو تأخر إلى آخر المجلس. ولنا أنه عقد معاوضة لا يجوز فيه شرط تأخير العوض المطلق، فلا يجوز التفرق فيه قبل القبض كالصرف" (1) . فتبين أن قبض رأس مال السلم في مجلس العقد شرط لصحة السلم عند الجمهور، وإنما أجاز مالك تأخير القبض إلى يوم أو يومين أو أكثر إن لم يكن التأخير شرطا في صلب العقد، فتأخير قبض الثمن إن كان مشروطا في العقد، فإنه لا يجوز عند أحد من الفقهاء. أما في المستقبليات، فإن تأخير قبض الثمن مشروط في العقد، فلا يصح سلما عند أحد من الأئمة الأربعة. وقد يقال: إن حصة من الثمن مدفوعة إلى البائع عند العقد، ولكن ذلك لا يجدي نفعا في تصحيح هذا التعامل، أما أولا، فلأن دفع بعض الثمن لا يكفي لصحة السلم، بل يجب دفع الثمن بكامله كما ذكرنا، وثانيا: إن ما يوضع لدى إدارة السوق ليس جزءا من الثمن، ولا يدفع إلى البائع، وإنما هو مبلغ مودع لدى طرف ثالث ليكون ضمانا على الوفاء بالتزام المشتري. 2- وبما أن الثمن لا يدفع إلى البائع عند العقد، فالثمن دين على   (1) المغني، لابن قدامة: 4/334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 المشتري كما أن المبيع دين على البائع، فصار هذا بيع الكالئ بالكالئ، وهو ممنوع بنص الحديث فيما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ)) (1) . وقد يقال: إن إدارة السوق تضمن أداء الثمن، فبفضل هذا الضمان أصبح الثمن كأنه مدفوع إلى البائع. ولكن هذا التوجيه ليس بصحيح، لأن ما يشترط لصحة السلم هو أن يقع دفع الثمن فعلا، لا أن يكون مضمونا أو موثقا من قبل إحدى الجهات، لأن ضمان الطرف الثالث لا يخرج الثمن من كونه دينا، فلا يكون هذا البيع إلا بيع دين بدين، وهو لا يجوز. 3- إن من الشرائط التي اتفق عليها جميع الفقهاء لصحة السلم أن تكون السلعة المسلم فيها موصوفة بصفات دقيقة، فلو كانت المواصفات مجهولة أو مترددة مفضية إلى النزاع، فإنه لا يصح السلم عند أحد من الفقهاء. وإن عقود المستقبليات، وإن كانت مشتملة على المواصفات الدقيقة ببيان الدرجات، ولكن الذي يقع فعلا، أن البائع ربما يبين درجات مختلفة في العقد الواحد، ويكون الخيار بيد البائع في تسليم ما شاء من هذه الدرجات. جاء في دائرة المعارف البريطانية: ) utures Market, on the other, hand, generally permits trading in a number of grades of the commodity to protect hedger seellers from being (cornered) by speculators buyers who might otherwise insist on delivery of a particular grade whose stocks are smalle. since a number of alternative grades can be tendered, the futures market is not suitable for the acquisition of   (1) السراج المنير، للعزيزي: 4/372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 the physical commodity. For this reason physical delivery of the commodities in fulfillment of the futures contract generally does not take place, and the contract is usually settled between buyers and sellers by paying the difference between the buying and selling price. ( إن سوق المستقبليات في جانب آخر، تسمح بالتجارة في عدة درجات من السلع لوقاية البائع الذي يريد تأمين ربحه من أن يتغلب عليه المشترون المخاطرون في مطالبته بتسليم درجة مخصوصة من السلعة توجد ذخائرها بقلة. وبما أنه يجوز أن البائع في السوق عدة درجات متبادلة، فإن سوق المستقبليات لا تناسب للحصول على السلع الحقيقية. وبهذا السبب، فإن الوفاء بالتزام العقود المستقبلية لا يقع بالتسليم الفعلي للسلع عموما، بل إن العقد يصفى فيما بين البائع والمشتري في النهاية على أساس دفع الفرق بين سعر البيع وسعر الشراء (1) . فتبين بهذا أن البائع يكون له الخيار في تسليم إحدى الدرجات التي عرضها عند العقد على سبيل التبادل، وإن هذه جهالة للوصف يضطر بها المشتري في نهاية العقد إلى أن يقبل التسليم، وإن مثل هذه الجهالة تفسد كذلك عقد البيع، فضلا عن السلم. 4- إن المقرر في عقود المستقبليات أن تسليم السلعة إلى المشتري لا يقع عموما، بل يكون الخيار بيد المشتري الأخير إن شاء طالب بتسليم السلعة وإن شاء باعها على البائع مرة أخرى، ويقبل   (1) Britannica, Macropaedia, 1988, v. 23 p. 555. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 التصفية على أساس دفع الفرق بين سعري البيع والشراء، وإن هذا الأمر مشروط في العقد منذ أول الأمر، ولاشك أن مثل هذا الشرط مفسد لعقد السلم، بل بيع المسلم فيه إلى البائع لا يجوز، ولو لم يكن مشروطا في عقد السلم، جاء في المغني لابن قدامة: (وبيع المسلم فيه من بائعه أو من غيره قبل قبضه فاسد) (1) . 5- ولو فرضنا أن العقد الأول قد انعقد سلما بعد استيفاء شروط، فإنه لا يجوز لرب السلم، وهو المشتري، أن يبيع المسلم فيه إلى غيره قبل أن يقبضه، قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "أما بيع المسلم فيه قبل قبضه، فلا نعلم في تحريمه خلافا، وقد ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح ما لم يضمن)) ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه" (2) . وقد مر في كيفية التعامل بهذه العقود المستقبلية، أن العقد الواحد تجري عليه البياعات الكثيرة قبل أن يجيئ وقت التسليم، فلا سبيل إلى القول بجوازه. فهذه وجوه خمسة، كل واحد منها يمنع من تخريج جواز هذه العقود بجعلها سلما. وإذا لم يكن جعل هذا العقد سلما، فإنه بيع مضاف إلى تاريخ مستقبل، وقد أجمع الفقهاء على أن البيع لا يقبل التعليق أو الإضافة إلى تاريخ مستقبل.   (1) المغني، لابن قدامة: 4/341. (2) المرجع السابق نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فلا يصح البيع الأول، فكيف بالبيوع التي تتابعت على أساس هذا البيع الأول؟ وهنك احتمال آخر في التكييف الفقهي لهذا العقد، وهو أن هذا العقد ليس بيعا، وإنما هو وعد لبيع سلعة مخصوصة في تاريخ معين بسعر معين، والموعود له قد استحق شراء تلك السلعة بسعر متفق عليه في الوعد، ثم إنه يبيع هذا الحق إلى رجل ثالث، وثالث إلى رابع إلى أن يأتي يوم التسليم، ولكن هذا التكييف لا يصلح أن يكون مبررا شرعيا لهذه العملية فيما أرى، وذلك لوجوه: أما أولا، فلأن الواقع لا يوافق هذا التكييف، فإن المتعاملين في سوق المستقبليات لا يدخلون في هذه العقود كوعد محض، وإنما يدخلون فيها لإبرام عقد البيع بنفسه، فلا يصح أن يسمى وعدا. وأما ثانيا، فلأن الوعد المحض ليس ملزما في القضاء عند جمهور الفقهاء، ومن جعله ملزما في القضاء في بعض العقود، فإنه فعل ذلك لضرورة ملحة، ولا ضرورة ها هنا. وأما ثالثا، فلأن هذا الحق الذي حصل للموعود له ليس مما يجوز بيعه أو الاعتياض عنه، لأنه ليس واجبا حقا في القضاء، لأنه حق مجرد، وبيع الحق المجرد مما ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم جوازه إلا بشروط، وهي منتفية في هذا العقد. وقد يقال: إذا كانت العقود المستقبليات لا تجوز شرعا، فهل هناك من بديل لهذه المعاملة يتفق وأحكام الشريعة الإسلامية؟ وجوابي عن هذا السؤال، أن البديل إنما يبحث عنه فيما إذا كان الغرض المنشود صحيحا، فيبحث عن البديل للحصول على ذلك الغرض بطريق مشروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 أما عقود المستقبليات، فلم يظهر لها غرض مشروع يحتاج إلى طريق شرعي لإنجازه، والواقع إن ما يقع في سوق المستقبليات لا يقصد به تجارة حقيقية، وإنما المقصود هو المخاطرة في الأرباح التي هي بالقمار أشبه منها بالبيع. وقد ذكرنا أن المتعاملين في سوق المستقبليات نوعان: الأول هم المخاطرون (Speculators) الذين لا يقصدون شراء السلع أو بيعها، أو تسليمها وتسلمها، وإنما يقصدون الحصول على فرق سعري البيع والشراء فحسب، وظاهر أنه غرض غير مشروع، لأنه استرباح بدون التجارة الحقيقية، وربح لما لم يضمنه الإنسان، وهو حرام بالنص الصريح. والنوع الثاني: هم الذين يريدون تأمين ربحهم (Hedging) على ما اشتروه في السوق الحقيقية، فيدخلون في سعر المستقبليات تجنبا عن الخسائر المحتملة بتقلبات الأسعار، كما وصفنا من قبل. ولكن مثل هذا التأمين إنما يحتاج إليه فيما يريدون احتكاره لمدة طويلة. فإنهم لو باعوا سلعهم بعد ما اشتروها ببضعة أيام، فإنه لا حاجة إلى تأمين الربح (Hedging) حينئذ، ولكنهم إنما يلجأون إلى دخول المستقبليات حينما يريدون احتكار السلع إلى مدة ليزيد ربحهم، ولكنهم في الوقت نفسه يخافون من التقلب المعاكس للأسعار، فيريدون أن يعقدوا المستقبليات للوقاية عن الخسائر المحتملة بسبب هذا التقلب المعاكس. يقول جيرالد كولد: "إن اشترى تاجر عشرة آلاف كيس من الذرة من أحد الفلاحين، واستطاع أن يبيعها فورا بسعر معين، مثل أن يشحن في مدة أسبوع مثلا، فمثل هذا التاجر لا يحتاج إلى تأمين الربح (بدخول المستقبليات) ، لأنه قد نقل خطر انخفاض السعر إلى مشتريه فور ما باع السلعة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ولكن التاجر ربما لا يستطيع أن يبيع الذرة فور ما استلمه بل يريد أن يمسكها معه إلى مدة يعتد بها ... وإن هذه الكمية التي أمسكها معه تحتمل خطر الخسران بسبب انخفاض السعر في وقت البيع، وتجنبا عن هذا الاحتمال، يدخل هذا التاجر في عقد المستقبليات حفاظا على الربح الذي يريد أن يحصل عليه" (1) . فظهر بهذا أن عقود المستقبليات إنما يحتاج إليها التجار لإمساك المنتجات عندهم لمدة يعتد بها، وذلك إنما يكون في غالب الأحيان لغرض الاحتكار، وهذا غرض غير مشروع، فلما لم يكن للدخول في المستقبليات غرض مشروع يعتد به، فلا حاجة بنا إلى البحث عن البدائل المشروعة للمستقبليات، ولئن قامت هناك حاجة حقيقية للدخول في عقد يتأخر فيه تسليم المبيع، فالطريق المشرع له هو السلم، ويمكن أن يعقد بشروطه المعروفة في كتب الفقه. والله سبحانه وتعالى أعلم. * * *   (1) Gerald Gold: Modern Commodity Futures Trading. P. . 165,166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 (5) أحكام الأوراق النقدية وتغير قيمة العملة وربطها بقائمة الأسعار بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من: (1) إلى (6) جمادى الأولى (1409 هـ) الموافق من: (10) إلى (15) كانون الأول (ديسمبر) (1998) م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 أحكام الأوراق النقدية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فقد شاعت الأوراق النقدية اليوم كآلة للتداول في جميع المعاملات التجارية وأريد في هذا البحث دراسة حقيقتها وتاريخها والأحكام الشرعية المتعلقة بها وأسأل الله سبحانه أن يوفقني للسداد والصواب حسب ما يحبه ويرضاه وهو الموفق والمعين. وقد قسمت هذا البحث إلى بابين: الأول: أحكام أوراق النقود والمعاملات الثاني: مسألة تغير قيمة العملة وربطها بقائمة الأسعار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الباب الأول أحكام أوراق النقود والمعاملات التخريج الفقهي للأوراق النقدية: قبل أن نخوض في أحكام الأوراق النقدية (البنكنوت) بجزئياتها وتفاصيلها يجب أن نعرف حقيقة هذه الأوراق، هل هي وثائق مالية؟ أو أثمان عرفية؟ فمن جعلها وثائق مالية اعتبرها سندات دين في ذمة مصدرها، فليست هذه الأوراق - حسب هذا الرأي - أثمانا ولا أموالا، وإنما هي عبارة عن وثيقة كتبها المديون، ليتسنى للدائن القبض على دينه إذا أراد، فكل من يدفع إلى غيره ورقا من هذه الأوراق، فإنه لا يدفع إليه مالا، وإنما يحيله على مديونه الذي أصدر ذلك الورق كوثيقة، فتجري عليه أحكام الحوالة الفقهية، فيجوز دفع هذه الأوراق قضاء لحق الآخر، حيث تجوز الحوالة فقط، فإن غطاء هذه الأوراق ذهب أو فضة، فلا يجوز أن يشتري بها الذهب أو الفضة أصلا؛ لأن مبادلة الذهب أو الفضة بأحدهما صرف، والصرف يشترط فيه التقابض، والقبض على هذه الأوراق ليس قبضا على غطائها من ذهب أو فضة، فانعدم التقابض الذي هو شرط في جواز الصرف، فبطلت هذه المعاملة شرعا. وكذلك لو دفع غني هذه الأوراق إلى فقير لأداء الزكاة الواجبة عليه، فإن الزكاة لا تتأدى حتى يقبض الفقير على غطائه أو يشتري بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 عروضا، ولو ضاعت هذه الأوراق عند الفقير قبل أن يستمتع بها، لم تفرغ ذمة الغني الذي دفها من الزكاة الواجبة عليه. ولكن هناك رأي آخر، وذلك أن هذه الأوراق قد أصبحت اليوم أثمانا عرفية بنفسها، فدفعها دفع للمال أو للثمن، وليس حوالة للدين، فتتأدى بأدائها الزكاة، ويجوز شراء الذهب والفضة بها. فيجب قبل الدخول في أحكام الأوراق النقدية والعملات المختلفة، أن نبت في أحد الرأيين في التخريج الفقهي لهذه الأوراق. وإني بعد دراسة هذا الموضوع في كتب الفقه والاقتصاد، ممن يميل إلى الرأي الثاني، وهو أن هذه الأوراق أثمان عرفية، وليست حوالة. وبما أن معرفة حقيقة هذه الأوراق تحتاج إلى معرفة تطور النظام النقدي في العالم، نريد أن نلم في البداية بشيء من خلاصة هذا التطور. تطور النظام النقدي في العالم: من المعروف أن الناس في بداية الحياة البشرية كانوا يتبادلون الأشياء عن طريق المقايضة Barter، ولكن هذا الطريق كان فيه من المشقة ما تمنع من استعمالها كطريق عام يصلح في كل زمان ومكان. فراج بعد ذلك نظام آخر يسمى "نظام النقود السلعية" (Commodity money System) ، وذلك أن الناس قد اختاروا بعض السلع لتستعمل استعمال الأثمان في معظم عقود المبادلة، وانتقيت من أجل ذلك سلع يكثر استعمالها، وتشتد الحاجة إليها في بيئة خاصة، كالحبوب الغذائية والملح والجلود وما إلى ذلك. ولكن استعمال هذه السلع في التبادل كان فيه من مشاكل الحمل والنقل ما لا يخفى، فلما كثر العمران وازدادت الحاجات وكثرت المبادلات، شعر الناس بحاجة إلى اختيار نقد يخف حمله، وتتوفر ثقة الناس به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ففي المرحلة الثالثة بدأ الناس في استعمال الذهب والفضة كأثمان في المبادلات؛ لقيمتها الذاتية في صنع الحلي والأواني، ولسهولة حملها وادخارها، حتى أصبح هذان المعدنان عيارا للقيمة يعتمد عليها الناس في جميع البلاد والأقطار. وإن هذا النظام النقدي يسمى "نظام النقود المعدنية (Metalic Money System) ، وقد مرت عليه تطورات كثيرة نستطيع أن نلخصها كما يلي: 1- ففي البداية استعمل الناس الذهب والفضة كسلع نقدية في صورة قطع متباينة الحجم والوزن والنقاء، سواء كانت تبرا أو مصوغة في صورة الحلي أو الأواني وغيرها، وكان التعامل بهما يتم بالوزن. 2- ثم شرع الناس في سبك النقود من الذهب في بعض البلاد، ومن الفضة في بلاد أخرى، كوحدات متساوية في الحجم والوزن والنقاء، مختومة بختم رسمي يشهد بسلامتها وقابليتها للتداول. وكانت قيمة القطع الاسمية (Face Value) مساوية لقيمة ما تحتويه من ذهب أو فضة (Gold or Silver Content) ، وإن قيمة الذهب المسبوك بهذا الشكل كانت مساوية لقيمة التبر إذا كان وزنها واحدا، وإن هذا النظام يسمى "نظام قاعدة التبر" أو "نظام قاعدة الورق (Gold Specie Standard) . ويقال: إن أول من روج هذا النظام هم الصينيون في القرن السابع قبل ميلاد المسيح عليه السلام. وكان المتعاملون في هذا النظام أحرارا في التعامل بالذهب تبرا أو مسبوكا أو مسكوكا، وفي استيراده وإصداره خارج البلاد. وكانت الدولة تلزم بسك كل ما يرغب سكه من قبل المواطنين، فيأتي إليها الناس بتبر أو ذهب مصوغ، فتتولى الدولة ضربهما سكة، وردهما إلى مالكهما، وكذلك يأتي بعضهم بذهب مسكوك ويريدون تذويبه، فتتولى الدولة ذلك أيضا، وترد إليهم الذهب بعد تذويبه تبرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 3- قد اختارت بعض الدول كلا المعدنين وليس معدنا واحدا فحسب كقاعدة نقدية في وقت واحد. وقررت قيمتهما كعيار لمبادلة أحدهما بالآخر، ويستعمل الذهب لقطع النقود الكبيرة، والفضة لقطع النقود الصغيرة، وإن هذا النظام يسمى "نظام المعدن الثنائي" (Bi metalism) . ولكن هذا النظام أحدث مشاكل أخرى؛ وذلك لأن نسبة القيمة بين قطع الذهب والفضة كانت تختلف بين بلد وآخر، فتحث الناس على المتاجرة بالعملة، فإن كانت القطعة الواحدة من الذهب تقوم بخمس عشرة قطعة من الفضة في أمريكا مثلا، فإنها في نفس الوقت تقوم في أوروبا بخمس عشرة ونصف. وهذا يجعل تجار أمريكا يقتنون الذهب ويصدرونها إلى أوروبا؛ ليكسبوا بذلك كمية أكثر من الفضة، ويستوردونها إلى أمريكا؛ ليحولوها إلى الذهب، ثم يصدرون الذهب مرة أخرى، وهكذا. وصارت نتيجة هذه المتاجرة أن ذهب أمريكا مازال ينتقل إلى أوروبا، وأن القطع الفضية أخرجت القطع الذهبية من البلاد، ولما غيرت أمريكا النسبة في عام 1834 م فقومت قطعة الذهب بست عشرة قطعة من الفضة، حدث العكس وأقصت القطع الذهبية قطع الفضة. 4- ثم إن القطع النقدية، سواء كانت من الذهب أو من الفضة، وإن كان يخف حملها بالنسبة إلى السلع النقدية، ولكنها في جانب آخر يسهل سرقتها في نفس الوقت، وكان من الصعب على الأثرياء أن يخزنوا كميات كبيرة من هذه القطع في بيوتهم، فجعلوا يودعون هذه الكميات الكبيرة عند بعض الصاغة والصيارفة، وكان هؤلاء الصاغة والصيارفة عندما يقبلون هذه الودائع يسلمون إلى المودعين أوراقا كوثائق أو إيصالات (Receipts) لتلك الودائع، ولما ازدادت ثقة الناس بهؤلاء الصاغة صارت هذه الإيصالات تستعمل في دفع الثمن عند البياعات، فكان المشتري بدل أن يدفع القيمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 نقدا، يسلم إلى البائع ورقا من هذه الإيصالات. وكان البائع يقبلها ثقة بالصاغة الذين أصدروها. فهذه هي بداية الأوراق النقدية، ولكنها في بداية أمرها لم تكن لها صورة رسمية، ولا سلطة تلزم الناس قبولها، وإنما كان المرجع في قبولها وردها إلى ثقة البائع أو الدائن بمن أصدرها. 5- لما كثر تداول الإيصالات في السوق في مطلع القرن السابع عشر الميلادي تطورت هذه الأوراق إلى صورة رسمية تسمى " البنكنوت " ويقال: إن بنك إستاك هوم بالسويد أول من أصدرها كأوراق نقدية. وكانت هذه الأوراق النقدية آنذاك مغطاة بغطاء كامل عند البنك الذي أصدرها، ومدعومة بالذهب بنسبة مائة في المائة، وكان البنك يلتزم بأن لا يصدر هذه الأوراق إلا بقدر ما عنده من ذهب. وكان لكل من يحمل هذه الأوراق أن يذهب بها متى شاء إلى البنك، ويحول ما شاء منها إلى سبائك الذهب، ومن هنا يسمى هذا النظام "قاعدة سبيكة الذهب" (Gold bullion Standard) . 6- لما ازداد شيوع "البنكنوت" جعلتها الدول ثمنا قانونيا (Legal Tender) في سنة 1833م، وألزمت كل دائن أن يقبلها في اقتضاء دينه، كما يلزمه قبول النقود المعدنية، ثم منعت البنوك التجارية أيضا من إصدارها، واقتصر إصدارها على البنوك الرئيسة الحكومية فقط. 7- ثم واجهت الحكومات مشاكل تمويل مشاريعها في السلع والحرب مع قلة ريعها، فلجأت إلى طبع كميات كبيرة من النقود الورقية، تزيد عن كمية الذهب الموجودة عندهم؛ لتستعملها في سد حاجاتها، فصار غطاء الأوراق النقدية يتناقص شيئا فشيئا، وهبطت نسبة دعمها بالذهب الحقيقي عن المائة في المائة إلى نسبة أدنى بكثير؛ وذلك لأن البنوك التي تصدر الأوراق النقدية كانت تستيقن بأن جميع هذه الأوراق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 لا يطلب تحويلها إلى الذهب في وقت واحد، وبعبارة أخرى قد راجعت في السوق أوراق نقدية لم تكن مدعومة بالذهب ولكن التجار قبلوها، لثقتهم بأن مصدرها يقدر على تحويلها إلى الذهب كلما طلب منه ذلك، بفضل الذهب الموجود عنده، وإن كانت كمية الذهب أقل من كمية الأوراق الصادرة من عنده. وإن هذه الأوراق النقدية تسمى "نقود الثقة" (Fiduciary Money) . ومن جهة أخرى، اضطرت الدول التي لم تزل تتعامل بالنقود المعدنية إلى تقليل كمية المعدن، أو تنقيص جودته في كل قطعة، بحيث أصبحت قيمتها الاسمية (Face Value) أعلى بكثير من قيمة ما تحتويه من ذهب أو فضة، (Intrinsic Value) ، وإن مثل هذه النقود تسمى "نقودا رمزية" (Token Money) بحيث يرمز أصلها المعدني إلى قيمتها الاسمية التي تمثل قيمتها الحقيقية السابقة. 8- وإن تزايد "نقود الثقة" قد تدرج إلى حد أن الأوراق بلغت إلى مقدار ما يساوي أضعاف مقدار الذهب الموجود في البلاد، حتى خشيت الحكومات أن مقدار الذهب الموجود لا يفي بطلبات تحويل الأوراق إلى الذهب، ووقع ذلك فعلا في بعض البلاد، حيث إن بعض البنوك لم تستطع تلبية بعض الطلبات في بعض الأحيان. وحينئذ شرعت الدول تنفذ شروطا قاسية على الذين يريدون تحويل أوراقهم إلى الذهب، وقد عطلت إنكلترا هذا التحويل بتاتا بعد حرب 1914م، ثم عادت إلى جواز التحويل في سنة 1925م، ولكن بشرط أن ما يطلب من البنك تحويله، لا يكون أقل من ألف وسبعمائة جنيه، بما جعل عامة الناس لا يقدرون على تحويل أوراقهم إلى الذهب، ولكنهم لم يحتفلوا بذلك لشيوع الأوراق كنقد قانوني تنفعهم في متاجراتهم الأهلية ما تنفع النقود المعدنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 9- ثم في سنة 1931م منعت حكومة بريطانيا من تحويل الأوراق إلى الذهب إطلاقا، حتى لمن يطلب أكثر من ألف وسبعمائة جنيه، وألزمت على الناس أن يقتنعوا بهذه الأوراق كبديل للذهب، ويتعاملوا بها في سائر مداولاتهم. ولكن الحكومات استمرت في احترام حق بعضها لبعض، فإن تحويل الأوراق وإن كان ممنوعا داخل البلاد، ولكن كانت كل دولة ملتزمة بتحويل عملتها إلى الذهب لدولة أخرى إن تقدمت إليها بعملة الدولة الأولى، فلو شاءت أمريكا مثلا أن تتقدم بأوراق جنيهات استرلينية إلى انكلترا، فإن إنكلترا كانت ملتزمة بتحويل تلك الأوراق إلى الذهب. وإن هذا النظام يسمى "قاعدة التعامل بالذهب" (Gold Exchange Standard) . 10- وقد ظل العمل بهذه القاعدة مستمرا إلى أن واجهت الولايات المتحدة أزمة شديدة في سعر دولارها، وتدفق الذهب منها في سنة 1971م فاضطرت إلى إيقاف تحويل الدولار إلى الذهب للدول الأخرى أيضا، وذلك للخامس عشر من شهر أغسطس سنة 1971م وبهذا قد قضي على آخر شكل من دعم الأوراق بالذهب. وفي سنة 1974 م اختار "الصندوق المالي العالمي " (International Monetary Fund) فكرة " حقوق السحب الخاصة " (Special Drawing Rights) كبديل لاحتياطي الذهب. وحاصل ذلك أن أعضاء هذا الصندوق يستحقون سحب كمية معينة من عملات شتى الدول لأداء ديونهم إلى الدول الأجنبية الأخرى، واعتبر 888676 جراما من الذهب كعيار لتعيين هذه الكمية، وإن حقهم لسحب هذه الكمية اعتبر بديلا لاحتياطي الذهب. وهكذا أصبحت الذهب خارجا عن نطاق النقود بتاتا، وأصبحت الأوراق النقدية الرمزية تحتل مكانه من كل ناحية. وأن الأوراق النقدية لا تمثل اليوم ذهبا ولا فضة، وإنما تمثل قوة شراء فرضية. وبما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 أن هذا النظام لم ترس قواعده بعد، كنظام أبدي خالد، وهنالك أصوات في كل بلد، للعودة إلى جعل الذهب كأساس للنظام المالي، حتى وللعودة إلى "قاعدة سبائك الذهب" فإن الدول لا تزعم أنفسها مستغنية عن الذهب إطلاقا، بل تجتهد للإكثار من رصائدها الذهبية كأوثق احتياطي يفيدها في انقلابات الظروف المتغيرة، ولكن هذا الرصيد الذهبي، مهما عظم مقداره، احتياطي مجرد، ليس له علاقة رسمية بالنقود الرائجة في شكل الأوراق، أو في شكل العملة المعدنية الرمزية. فهذه هي خلاصة تطورات النظام النقدي في العالم (1) وإن هذه الدراسة تدل على أن الأوراق النقدية لم تكن قائمة على طور واحد في حقيقتها ومكانتها القانونية، وإنما مرت عليها أدوار وأطوار شتى. فلا شك أنها كانت وثائق للديون في مبدأ أمرها، ولذلك أفتى كثير من العلماء بأنها سندات ديون وليست أموالا ولا أثمانا، يقول العلامة السيد أحمد بك الحسيني رحمه الله في كتاب "بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة الأوراق": " ولذلك لو بحثنا عن ماهية كلمة " بنك نوت " لوجدناها من الاصطلاح الفرنسي، وقد نص لاروس، وهو أكبر وأشهر قاموس للغة الفرنساوية الآن، في تعريف أوراق البنك، حيث قال: ورقة البنك هي ورقة عملة قابلة لدفع قيمتها عينا   (1) . إن هذه الخلاصة لتاريخ النقود وتطوراتها مستمدة من الكتب الآتية: (أ) An outline of Money, by Geoffrey Growther. Money And Man, by Elgin Groseclose, Ivth. Ed. University of Okiahoma Press, Norman 197.2 (ب) Modern Economic Theory, by K.K. Dewett New Delhi, (ج) Encyclopaedia Britannica Banking and Credit Money Currency. (د) (هـ) حكم التعامل في الذهب والفضة، للدكتور محمد هاشم عوض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 لدى الاطلاع لحاملها، وهي يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية نفسها، غير أنه ينبغي أن تكون مضمونة ليثق الناس بالتعامل بها". اهـ. (فقوله: (قابلة لدفع قيمتها عينا لدى الاطلاع لحاملها) لم يجعل شكا في أنها سندات ديون"، ولا عبرة بما توهمه عبارته "التعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية"؛ لأن معنى تلك العبارة أن الناس يأخذونها بدل العملة، ولكن مع ملاحظة أن قيمتها تدفع لحاملها، وأنها مضمونة بدفع قيمتها، وهذا صريح في أن تلك الأوراق هي سندات ديون" (1) . وكذلك أفتى كثير من علماء الهند في القرن السابق بكون هذه الأوراق وثائق دين، فلا تتأدى بأدائها الزكاة، حتى يصرفها الفقير، ولا يجوز شراء الذهب والفضة بها (2) . ولكن كان هناك في الوقت نفسه ثلة من العلماء والفقهاء، يعتبرون هذه الأوراق أموالا، كأثمان عرفية. وقد أشبع الكلام على هذه المسألة العلامة أحمد الساعاتي رحمه الله، صاحب ترتيب مسند أحمد وشرحه، فقال في كتاب الزكاة من كتابه المذكور: "فالذي أراه حقا، وأدين الله عليه: أن حكم الورق المالي كحكم النقدين في الزكاة سواء بسواء؛ لأنه يتعامل به كالنقدين تماما؛ لأن مالكه يمكن صرفه وقضاء مصالحه به في أي وقت شاء. فمن ملك النصاب من الورق المالي، ومكث عنده حولا كاملا وجبت عليه زكاته ... " إلخ (3) .   (1) هذه العبارة مأخوذة من "بلوغ الأماني، شرح الفتح الرباني، للساعاتي رحمه الله: 8/248. (2) راجع إمداد الفتاوى، للشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله: 2/5 والمجلد الثالث. (3) شرح الفتح الرباني، آخر باب زكاة الذهب والفضة: 8/251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وبعين هذا الرأي كان يرى بعض علماء الهند، مثل مولانا الشيخ فتح محمد اللكنوي رحمه الله، صاحب "عطر الهداية" و "خلاصة التفاسير" وتلميذ الإمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله، صاحب المؤلفات المعروفة في العلوم الإسلامية. وقد شرح ابنه المفتي سعيد أحمد اللكنوي رحمه الله رأيه في آخر كتابه"عطر الهداية"، وذكر أن الإمام عبد الحي اللكنوي رحمه الله كان يوافقه في هذه المسألة. وخلاصة قوله: أن أوراق العملة لها جهتان: الأولى: أنها يتعامل بها في البيوع والإجارات، وسائر العقود المالية كالسكك والأثمان سواء بسواء، بل وقد ألزمت الدول جميع الناس لقبولها في اقتضاء الديون والحقوق، فلا يسع لدائن في القانون اليوم أن يمتنع من قبولها في اقتضاء دينه. ومن هذه الجهة صارت هذه الأوراق أثمانا عرفية. والجهة الثانية: أنها وثيقة من قبل الحكومة، والتزمت الحكومة بأداء بدلها عند هلاكها، فمن هذه الجهة أنها تخالف الأثمان العرفية المسكوكة، فإن الحكومة لا تؤدي بدلها عند هلاكها، ومن هذه الجهة ينبغي أن تعتبر كسندات لديون، أو كوثائق مالية أخرى. ولكننا إذا أمعنا النظر في الجهة الثانية، رأينا أنها لا تبطل ثمنية هذه الأوراق، فإن الأصل أن الحكومة كانت تريد أن تصدر هذه الأوراق كأثمان عرفية، ولهذا ألزمت الناس قبولها في اقتضاء ديونهم، ولكن الأثمان المسكوكة سابقا، حتى النقود الرمزية منها، كانت في أنفسها أموالا لها قيمة يعتد بها، ولم يكن تقومها موقوفا على إعلان الحكومة، ولا بجعلها أثمانا رمزية، فإنها كانت تصنع تارة من الذهب والفضة، ومرة من الصفر، وأخرى من النحاس أو الحديد، مما هي أموال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 في أنفسها، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بقي تقومها من حيث موادها. وأما هذه الأوراق فليست أموالا في أنفسها، وإنما جاء فيها التقوم من قبل الحكومة، ولو أبطلت الحكومة ثمنيتها بطل تقومها، فلم تكن هذه الأوراق لتحوز من ثقة الناس ما تحوزه الأثمان المعدنية، ولهذا التزمت الحكومة بأداء بدلها عند هلاكها أو ضياعها، لا لأنها لم تكن أثمانا عرفية في نظر الحكومة، بل لتحوز هذه الأثمان ثقة العامة، ويتعامل بها الناس دون أيما خطر. فليست جهة كونها وثيقة مما يبطل ثمنيتها، فإنها تنبئى عن وعد الحكومة بأداء بدلها، وليس لهذا الوعد أي أثر في تعامل الناس فيما بينهم، ولو كانت الحكومة لا تريد أن تجعلها أثمانا عرفية، لما جبرت الناس على قبولها، بل إن هذه الجهة قد منحت هذه الأوراق من الثقة ما هو فوق ثقة الأثمان الأخرى، فإنها تهلك وتضيع بلا بدل، وهذه يمكن إبدالها من الحكومة (1) رأينا في المسألة: ولو أردنا أن نحاكم بين هذين الرأيين، فإني أرى أن كلا الرأيين مصيب بالنسبة إلى أزمنة مختلفة، فقد شرحنا عند بيان تاريخ النقود ما مر على هذه الأوراق من تطورات. فلا شك أنها كانت في بداية أمرها سندات لديوان، فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية: "أن البنكنوت ظهر في العالم قبل الشيكات المصرفية، ويمكن اعتباره كسند عند الدائن لدين له على البنك، وإن   (1) راجع "عطر الهداية" للشيخ اللكنوي 218إلى227 طبع ديوبند الهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 حقوق هذا الورق تنتقل إلى رجل آخر بتسليمه إليه، فيصير حامله دائنا للبنك بطريقة تلقائية، لهذا صار أداء الحقوق المالية بهذه الأوراق كأداءها بالنقود، وإن أداء المبالغ الكثيرة بالنقود المسكوكة عسيرة جدا، فإنها تحتاج إلى عد ونقد، وربما يحتاج نقلها وحملها إلى تكاليف معتدة بها، باستعمال هذه الأوراق قد قلل من مشقة العد، وأذهب المشاق الأخرى رأسا" (1) . ولكننا رأينا في تطورات هذه النقود أنها لم تبق على هذه الحالة في الأزمان الآتية، إنها كانت في بداية أمرها إيصالات مكتوبة شخصيا من قبل بعض الصاغة والصيارفة، دون أن تكون لها صورة رسمية، ولا جهة واحدة تصدرها، ولم يكن أحد يجبر على قبولها عند اقتضاء حقه. ثم لما ازداد شيوعها جعلتها الحكومات عملة قانونية Legal Tender ومنعت البنوك الشخصية في إصدارها. وحينئذ اختلفت حقيقتها عن الوثائق المالية الأخرى في جهات تالية: 1- أنها صارت عملة قانونية، وجبر الناس بقبولها كالأثمان العرفية الأخرى، في حين أن الوثائق المالية الأخرى لا يجبر أحد على قبولها في اقتضاء دينه، كالشيكات المصرفية مع أنها قد عم التعامل بها أيضا. 2- أنها صارت عملية قانونية غير محدودة (Unlimited Legal Tender) في حين أن النقود المعدنية الرمزية عملة قانونية محدودة (Limited Legal Tender) . فيمكن قضاء الدين بالأوراق النقدية، مهما عظم مقدار الدين، ولا يستطيع الدائن أن يرفض قبول شيء منها، بخلاف   (1) Encyclopadia Britannica 1950, V. 3p. 44 Banking And Credit. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 النقود المعدنية الرمزية، فإن الدائن يستطيع أن يرفضها في اقتضاء مبلغ كبير، فهذا يدل على أن أوراق العملة هذه قد فاقت العملة المعدنية الرمزية بكثير، في شيوع التعامل بها، واعتماد الناس عليها، وصفتها القانونية. 3- أن سند الدين يستطيع أن يصدره كل أحد، وليس هناك أي مانع قانوني ولا شرعي، أن يكتب مديون وثيقة لدائنه، ولا مانع من أن يستعملها ذلك الدائن في أداء دينه إلى دائن آخر، وهكذا، ولكن الأوراق النقدية لا تصدر إلا من جهة واحدة فقط، وهي الجهة الرسمية، كما هو شأن النقود المعدنية. 4- أن هذه الأوراق يطلق عليها كلمة "النقود"، "والأثمان"، "والعملة" في كل من العرف والقانون في جميع البلاد والأقطار، في حين أن هذه الكلمات لا تطلق على شيء من الوثائق الأخرى. 5- أنها يتعامل بها الناس بنفس الاعتماد الذي يتعاملون به في النقود المعدنية الرمزية، ولا يخطر ببال أحد عند التعامل بها أنه يتعامل بدين، ولا يوجد اليوم أحد يطمع فيما وراءها من ذهب أو فضة أو عملة مسكوكة أخرى. 6- قد سبق في بيان تطورات هذه الأوراق أنها لم يبق اليوم وراءها شيء من الذهب والفضة فعلا، ولا يمكن تحويلها إلى الذهب، حتى في المداولات الدولية. يقول جيوفر كراؤتهر: (The Promise to Pay Which appears on their face is now utterly meaningless. Not even in amounts of 1.700 can notes now be converted into gold. The note is no more than a piece of paper, of no intrinisie value whatever and if it were presented for redemption, the Bank of England could honour its Promise to pay one الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 Pound only by giving Silver coins or another note but it is money throughtout the British Isles (1)) . " إن وعد الأداء الذي يرى مكتوبا على وجه الأوراق النقدية صار الآن لا معنى له إطلاقا. لا ورق يمكن تحويله إلى الذهب الآن، حتى بمقدار ألف وسبعمائة جنيه. الورق النقدي الآن ليست إلا قطعة من الكاغد، ليس لها قيمة ذاتية، وأنها لو قدمت إلى البنك الرئيسي البريطاني لافتكاكها، فإن البنك لا يستطيع الوفاء بوعده إلا بإعطاء عملة رمزية، أو ورق نقدي آخر. ولكنه يعتبر في سائر الجزر البريطانية. وحاصل ذلك أن هذا الوعد المكتوب لا يعبر اليوم إلا عن ضمان الحكومة لحامله بالحفاظ على قيمة الورق الاسمية (Face Value) وإن قيمته الاسمية عبارة عن عيار مخصوص لقوة الشراء، ولذلك لا يلتزم البنك بأداء الذهب أو الفضة أو العملة المعدنية الأخرى، بل ربما يفي بوعده بإبدال ذلك الورق بورق آخر يساويه في قيمته الاسمية، فليس ذلك أداء الدين، وإنما هو إبدال الثمن بثمن آخر، قد التزم به البنك الرئيسي، لا لأن الورق ليس ثمنا رمزيا، بل للحفاظ على ثقة الناس بهذا الثمن الرمزي. فاتضح بما ذكرنا أن النقود الورقية لم تبق الآن سندات لديون في تخريجها الفقهي، وإنما صارت أثمانا رمزية يعبر عنها الفقهاء بكلمة " الفلوس النافقة " فإن الفلوس النافقة تكون قيمتها الاسمية أكثر بكثير من قيمتها الذاتية، فكذلك الأوراق النقدية تكون قيمتها الاسمية أضعاف   (1) Geoffrey Grpwther: An Outline of money p16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 قيمتها الذاتية، وجرى بها التعامل العام فيما بين الناس، دون أيما فرق بينهما وبين الفلوس النافقة، حتى لا توجد العملة المعدنية اليوم - ولو رمزية - إلا نزرا قليلا، فالحكم بعدم أداء الزكاة بهذه الأوراق، ومنع مبادلة بعضها ببعض على أساس كونه بيع بالكالئ، ومنع شراء الذهب والفضة بها لفقدان التقابض، فيه حرج عظيم لا يتحمل، والمعهود من الشريعة السمحة في مثله السعة والسهولة، والعمل بالعرف العام المتفاهم بين الناس، دون التدقيق في أبحاث قد أصبحت اليوم فلسفة نظرية ليس لها في الحياة لعملية أثر، ولا يسمع لها خبر، والله سبحانه وتعالى أعلم, وعدما ثبت كون هذه الأوراق في حكم الفلوس، ننتقل إلى الأحكام المتعلقة بها، والله سبحانه المستعان. 1- الزكاة والأوراق المالية: تجب الزكاة على الأوراق النقدية بالإجماع، وليس على قول من يقول بوجوب الزكاة على الدين فقط؛ لأنها ليست سندات دين، وإنما هي في حكم الفلوس النافقة، والفلوس النافقة في حق الزكاة كعروض التجارة، تجب عليها الزكاة إذا بلغت قيمتها نصاب الفضة. وكذلك يجوز أداء الأوراق النقدية إلى الفقير زكاة، وتتأدي بها الزكاة فور ما يستلمها الفقر، دون انتظار أن يصرفها، أو يحولها إلى عملة معدنية، كما تتأدي الزكاة بأداء الفلوس إلى الفقير، ولا يشترط لأداء الزكاة بها أن يصرفها الفقير، أو يأخذ بدلها شيئا من الذهب أو الفضة. 2- أحكام مبادلة الأوراق بالأوراق. إن مبادلة الأوراق بالأوراق تمكن على وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الأول: المبادلة بين الأوراق الأهلية، وذلك أن تكون الأوراق في كلا الجانبين أوراق دولة واحدة. والثاني: المبادلة بين الأوراق الأجنبية، وذلك أن يكون التبادل بين عملات دول مختلفة. فلنتكلم على كلتا الجهتين على حدة. المبادلة بين الأوراق الأهلية: قدمنا أن النقود الورقية في حكم الفلوس سواء بسواء، فتجري على مبادلتها أحكام بيع الفلوس بعضها ببعض. فلو بيعت هذه الأوراق على التساوي، بأن تكون قيمة البدلين متساوية، فهذا جائز بالإجماع، بشرط أن يتحقق قبض أحد البدلين في المجلس قبل أن يتفرق المتبايعان، فإن تفرقا ولم يقبض أحد شيئا، فسد العقد عند الحنفية وبعض المالكية؛ لأن الفلوس لا تتعين بالتعيين عندهم، وإنما تتعين بالقبض، فصارت دينا على كل أحد، والافتراق عن دين بدين لا يجوز (1) . وأما بيعها على التفاضل بأن تكون قيمة أحد البدلين أكثر من الآخر، كبيع الربية بالربيتين، والريال بالريالين، والدولار بالدولارين، فتجري فيه أحكام الفلوس بالتفاضل، وفيه خلاف مشهور للفقهاء. وذلك أن بيع الفلس بالفلسين حرام مطلقا، وهو من الربا المحرم شرعا عند الإمام مالك بن أنس، ومحمد بن الحسن الشيباني من الحنفية، وهو أشهر الوجهين عند الحنابلة، وبه يقول الإمام أبو حنيفة وأبو يوسف، إذا كان البدلان غير متعينين. فأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فلأنه يعتبر الثمنية علة لتحريم التفاضل والنسيئة، سواء كانت الثمنية جوهرية، كما في الذهب   (1) راجع له الدر المختار، وحاشيته لابن عابدين رحمه الله: 5/179و180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 والفضة، أو عرفية مصطلحة، كما في الفلوس، فلا يجوز التفاضل والنسيئة في مبادلتها بجنسها. وجاء في المدونة الكبرى للإمام مالك: "ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود، حتى يكون لها سكة وعين، لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة؛ لأن مالكا قال: لا يجوز فلس بفلسين، ولا تجوز الفلوس بالذهب والفضة ولا بالدنانير نظرة" (1) . وأما الحنفية فإن العلة عندهم، وإن كانت الوزن، ولا يوجد ذلك في الفلوس ولكنهم يقولون: إنها أمثال متساوية قطعا، لاصطلاح الناس بإهدار الجودة منها، فلو بيع فلس واحد بفلسين كان أحد الفلسين خاليا عن العوض مشروطا في العقد، وهو الربا، وهذا مادامت ثمنيتها باقية بأن لا تتعين بالتعيين، ثم يقول محمد بن الحسن رحمه الله: إنه لا سبيل إلى إسقاط ثمنيتها ما دامت رائجة؛ لأنها صارت ثمنا بالاصطلاح، فلا تبطل إلا باصطلاح الجميع، فليس للمتعاقدين إبطالها وتعيينها، فلا يجوز الفلس بالفلسين بحال. ويقول أبو حنيفة وأبو يوسف: إن للمتعاقدين إبطال ثمنيتها بتعينها، وحينئذ تصير عروضا متعينة، ويجوز فيها التفاضل (2) . وأما الإمام أحمد، فعنه في هذه المسألة روايتان: الأولى: أنه يجوز الفلس بالفلسين؛ لأن علة الربا عنده الوزن، ولا يوجد في الفلوس لكونها عددية. والثانية: لا يجوز، ويجري فيها الربا؛ لأن أصله الوزن، فلا يخرج بالصناعة عنه كالخبز، وذكر ابن قدامة أن اختيار القاضي أن ما كان يقصد وزنه بعد عمله كالإسطال ففيه الربا، وما لا فلا (3) .   (1) المدونة الكبرى، للإمام مالك: 7/104. (2) راجع لتفصيله العناية على هامش فتح القدير: 5/162. (3) المغني لابن قدامة، مع الشرح الكبير: 4/128و 129، وفتاوى ابن تيمية: 29/460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وقياس هذا التعليل أن يجوز عنده بيع الأوراق النقدية متفاضلة؛ لأن الورق ليس موزونا من أصله، بخلاف الفلوس المعدنية، والله سبحانه أعلم. والمذهب الثاني للفقهاء في هذا الباب: أنه يجوز بيع الفلس بالفلسين، ويجوز التفاضل في مبادلة الفلوس بالغا ما بلغ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله؛ وذلك لأن علة الربا عنده جوهرية الثمن، فتختص بالذهب والفضة، وليست الفلوس في حكمها، فلا ربا عنده في الفلوس وإن راجت، فيجوز عنده بيع بعضها ببعض متفاضلا (1) . وكذلك أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجوزان الفلس بالفلسين، إذا كانا بأعيانهما، وعينهما العاقدان، لفوات ثمنيتهما حينئذ، وكونهما عروضا محضة، كما قدمنا. الرأي الراجح في هذا الباب: كان اختلاف الفقهاء هذا في زمن يسود فيه الذهب والفضة كعيار للأثمان، وتتداول فيه النقود الذهبية والفضية بكل حرية، ولا تستعمل الفلوس إلا في مبادلات بسيطة. وأما الآن فقد فقدت النقود المعدنية من الذهب والفضة، ولا يوجد اليوم منها شيء في العالم كله، واحتلت النقود الرمزية محلها في سائر المعاملات كما بينا في بداية هذه المقالة. فيجب الآن - فيما أرى - أن يختار قول الإمام مالك أو الإمام محمد رحمهما الله تعالى في مسألة بيع النقود الرمزية بعضها ببعض؛ وذلك لأنه لو وقع الحكم اليوم بمذهب الإمام الشافعي، أو الإمام أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله، لانفتح باب الربا على مصراعيه، وصارت كل معاملة ربوية   (1) راجع نهاية المحتاج، للرملي:3/418، وتحفة المحتاج، لابن حجر، مع حاشية الشرواني: 4/279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 حلالا تحت هذا الستار، فإن المقرض أن أراد الربا باع نقوده الرمزية من الآخر بنقود رمزية أكثر من قيمة ما دفعه. والذي يغلب على الظن أن هؤلاء الفقهاء لو كانوا أحياء في هذا الزمان، وشاهدوا من تغير أحوال النقود ما نشاهده، لأفتوا بحرمة الفلس بالفلسين، وقد رأينا ذلك فعلا من بعض الفقهاء المتقدمين، إذ حرم مشايخ ما وراء النهر التفاضل في العدالي والغطارفة، وهي النقود التي كان يغلب عليها الغش، ولم تكن فيها الفضة إلا بنسبة ضئيلة، وكان أصل مذهب الحنفية في مثل هذه النقود جواز التفاضل، صرفا للجنس إلى خلاف الجنس، ولكن مشايخ ما وراء النهر أفتوا بحرمة التفاضل فيها، وعللوا ذلك بقولهم: أنها أعز الأموال في ديارنا، فلو أبيح التفاضل فيها ينفتح باب الربا (1) . ثم إن قول الإمام محمد رحمة الله تعالى يبدو راجحا من حيث الدليل أيضا، إذا قورن بمذهب شيخيه الإمامين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى؛ لأن إبطال ثمنية الفلوس لا يتصور صحيح، فقلما يوجد من يطمع في خصوص مادة الفلوس من حيث كونها قطعات صفرا أو حديدا، وإنما يرغب فيها من حيث ثمنيتها، فلو تصالحها على إبطال ثمنيتها، لا يكون ذلك إلا حيلة مصطنعة لتحليل التفاضل، ومثل ذلك لا يقبله الشرع، ولا سيما في زماننا، حيث لا يتصور الربا إلا في النقود الرمزية، لنفاد النقود الخلقية وفقدانها من العالم كله. نعم، يمكن أن يتصور قول الشيخين في الفلوس التي يقصد اقتناؤها من حيث موادها وصنعتها، ولا يقصد التبادل بها، كما هو معتاد عند بعض الناس في عصرنا من اقتناء عملات شتى البلاد وشتى الأنواع؛ لتكون ذكرى تاريخية. ففي مثل هذه الفلوس يمكن أن يتصور ما قاله   (1) راجع الهداية مع فتح القدير باب الصرف: 6/325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الشيخان رحمهما الله، ويبدو أن في التفاضل في مثل هذه الفلوس سعة على قولهما، وأما الفلوس التي يقصد بها التبادل دون خصوص المادة، فلا ينبغي المساهلة في أمرها، فإنها من أقوى الذرائع إلى الربا، والله سبحانه وتعالى أعلم. الصحيح الراجح في زماننا أن مبادلة الأوراق النقدية إنما تجوز بشرط تماثلها، ولا يجوز التفاضل فيها. ثم التماثل ههنا لا يكون بعدد الأوراق، وإنما يكون بقيمة الأوراق الاسمية، فيجوز بيع ورق واحد قيمته الاسمية خمسون ربية بخمسة أوراق قيمة كل واحد منها عشر ربيات؛ لأن مجموع قيمة هذه الخمسة تساوي خمسين ربية، وذلك لأن المقصود من بيع هذه الأوراق ليس ذات الورق ولا وزنه أو عدده، وإنما المقصود هو القيمة التي يمثلها، فيجب التساوي في تلك القيمة، وهذا كما جعل الفقهاء الفلوس عددية، مع أن أصلها من معدن موزون، وما ذلك إلا لأن المقصود منها ليس ذواتها، وإنما المقصود هو القيمة التي تمثلها هذه الفلوس، فلو كانت قطعة منها تساوى عشرة فلوس، فإنه يباح بيعها بعشر قطعات قيمة كل منها فلس واحد، حتى عند من يحرم بيع الفلس بالفلسين؛ لأنها مساوية في القيمة، أو لأن قطعة العشرة وإن كانت واحدة في العدد، ولكنها في حكم عشر قطع، فتساوي عشر قطعات، فكذلك الأوراق النقدية لا يعتبر فيها عددها الظاهر، بل عددها الحكمي الذي يظهر من قيمتها الاسمية. والله سبحانه أعلم. مبادلة عملات الدول المختلفة: ثم الذي يظهر أن عملة الدولة الواحدة الرمزية كلها جنس واحد، وعملات الدول المختلفة أجناس مختلفة؛ وذلك لأن العملة اليوم لا يقصد بها مادتها، وإنما هي عبارة عن عيار مخصوص لقوة الشراء، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ذلك العيار يختلف باختلاف البلاد، كالربية في باكستان والريال في المملكة السعودية والدولار في أمريكا، وما إلى ذلك، وأن عيار كل دولة ينبني على قائمة أسعارها، وقدر إيرادها وإصدارها، وليس هناك شيء مادي ينبئ عن نسبة ثابتة بين هذه العيارات، وإنما تختلف هذه النسبة كل يوم، بل كل ساعة، بناء على تغير الظروف الاقتصادية في شتى البلاد، ولذلك لا يوجد بين عملات البلاد المختلفة علاقة ثابتة تجعل هذه العملات جنسا واحدا، بخلاف عملة الدولة الواحدة، فإن أنواعها المختلفة مرتبطة بينها بنسبة ثابتة لا تتغير، كالربية والبيسة في باكستان، بينهما نسبة الواحد والمائة، وأنها نسبة ثابتة لا تتأثر بتغير أسعار الربية. وأما الربية الباكستانية والريال السعودي، فليس بينهما نسبة ثابتة، بل إنها تتغير كل حين بتغير أسعار هذا أو ذاك. فتبين أن عملات الدول المختلفة أجناس مختلفة، ولذلك تختلف أسماؤها وموازينها ووحداتها المنشعبة منها. ولما كانت عملات الدول أجناسا مختلفة جاز بيعها بالتفاضل بالإجماع، أما عند الشافعي رحمه الله فلأنه يجوز بيع الفلس بالفلسين في عملة واحدة، ففي العملات المختلفة أولى، وهو رأي في مذهب الحنابلة كما قدمنا، وأما عند مالك رحمه الله فلأنه يجعل هذه العملات من الأموال الربوية فإذا اختلفت أجناسها جاز التفاضل، وأما عند أبي حنيفة وأصحابه فلأن تحريم بيع الفلس بالفلسين مبني عندهم على كون الفلوس أمثالا متساوية قطعا، فيبقى عند التفاضل فضل خال عن العوض، ولكن عملات البلاد المختلفة لما كانت أجناسا مختلفة، لم تكن أمثالا متساوية، فلا يتصور الفضل الخالي عن العوض. فيجوز إذن أن يباع الريال السعودي مثلا بعدد أكثر من الربيات الباكستانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 ثم إن أسعار هذه العملات بالنسبة إلى العملات الأخرى، ربما تعين من قبل الحكومات، فهل يجوز بيعها بأقل أو أكثر من ذلك السعر المحدد؟ والجواب عندي أن البيع بخلاف هذا السعر الرسمي لا يعتبر ربا؛ لما قدمنا من أنها أجناس مختلفة، ولكن تجري عليه أحكام التسعير، فمن جوز التسعير في العروض، جاز عنده هذا التعسير أيضا، ولا ينبغي مخالفة هذا السعر، إما لأن طاعة الإمام فيما ليس بمعصية واجب (1) ، وإما لأن كل من يسكن دولة فإنه يلتزم قولا أو عملا بأنه يتبع قوانينها، وحينئذ يجب عليه اتباع أحكامها، مادامت تلك القوانين لا تجبر على معصبة دينية (2) . بيع العملات بدون التقابض: ثم إن هذه الأوراق النقدية، وإن كان لا يجوز فيها التفاضل، ولكن بيعها ليس بصرف، فلا يشترط فيه التقابض في مجلس العقد، نعم يشترط قبض أحد البدلين عند الإمام أبي حنيفة وأصحابه؛ لأن الفلوس عندهم لا تتعين بالتعيين، فلو افترقا دون أن يقبض أحد البدلين، لزم الافتراق عن دين بدين (3) . وأما عند الأئمة الثلاثة فينبغي أن لا يشترط ذلك إن كان أحد   (1) هذه القاعدة صرح بها الفقهاء، راجع مثلا "شرح السير الكبير للسرخسي1/168ورد المحتار، باب العيدين3/183وباب الاستسقاء1/185، وكتاب الحظر والإباحة:5/407. (2) راجع أحكام القرآن للشيخ المفتي محمد شفيع رحمة الله:5/43. (3) راجع الدر المختار مع رد المحتار: 4/129 و180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 البدلين متعينا؛ لأن الأثمان تتعين بالتعيين عندهم (1) . وهل يجوز هذا البيع نسيئة؟ كما هو معمول به اليوم عند كثير من التجار وعامة الناس، أنهم يعطون عملة بلدهم، بشرط أن يؤدي الآخذ بدلها في شكل عملة بلد آخر بعد مدة، مثل أن يعطي زيد عمرا ألف ريال سعودي في المملكة السعودية، بشرط أن يؤدي عمرو بدلها أربعة آلاف ربية باكستانية في باكستان. فأما عند الحنفية فيجوز هذا البيع؛ لأن الأثمان لا يشترط فيها كونها مملوكة للعاقد عند البيع عندهم، فيصح فيها التأجيل عند اختلاف الجنس، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وإذا اشترى الرجل فلوسا بدراهم ونقد الثمن، ولم تكن الفلوس عند البائع، فالبيع جائز؛ لأن الفلوس الرائجة ثمن كالنقود. وقد بينا أن حكم العقد في الثمن وجوبها ووجودها معا، ولا يشترط قيامها في ملك بائعها لصحة العقد، كما لا يشترط ذلك في الدراهم والدنانير) (2) فصار البيع حينئذ بيعا بثمن مؤجل، وذلك جائز في الأجناس المختلفة، ثم يمكن تخريجه على قاعدة السلم أيضا؛ لأن السلم في الفلوس جائز عند أكثر الفقهاء؛ لأنها عددية غير متفاوتة تنضبط بالضبط، حتى عند محمد رحمه الله أيضا، الذي يقول بحرمة الفلس بالفلسين (3) . وكذلك يجوز السلم في كل ما لا يتفاوت من العدديات عند أحمد رحمه الله (4) .   (1) راجع المغني لابن قدامة، باب الصرف: 4/169. (2) مبسوط السرخسي: 14/24. (3) راجع فتح القدير: 6/209. (4) المغني لابن قدامة: 4/327. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وحينئذ يجب أن تراعي في هذا العقد شرائط السلم، على اختلاف أقوال الفقهاء فيها، وهي معروفة. والله سبحانه وتعالى أعلم. ولكن جواز النسيئة في تبادل العملات المختلفة يمكن أن يتخذ حيلة لأكل الربا فمثلا إذا أراد المقرض أن يطالب بعشر ربيات على المائة المقرضة فإنه يبيع مئة ربية نسيئة بمقدار من الدولارات التي تساوي مئة وعشر ربيات وسدا لهذا الباب فإنه ينبغي أن يقيد جواز النسيئة في بيع العملات أن يقع ذلك على سعر سوق السائد عند العقد. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الباب الثاني مسألة تغير قيمة العملة وربطها بقائمة الأسعار بسم الله الرحمن الرحيم عرض المسألة: إن مسألة تغير قيمة العملة، وربطها بقائمة الأسعار إنما نشأت نتيجة للنظام النقدي المعاصر. كانت العملة فيما سبق مرتبطة بعيار مخصوص من الأثمان، كالنقود الذهبية أو الفضية ترتفع قيمتها وتنخفض بالنسبة إلى ذلك العيار المخصوص. ولكن النقود الورقية اليوم ليست مرتبطة بثمن خلقي، وإنما هي تمثل قوة شراء مخصوصة باصطلاح من جهتها المصدرة. فلا تتفاوت قيمتها بالنسبة إلى عيار مخصوص من الأثمان، وإنما تتفاوت بغلاء الأشياء ورخصها. فكلما غلت البضائع في السوق انتقصت قوة شرائها، فكأنما انتقصت قيمتها، وكلما رخصت البضائع زادت قوة شرائها، فكأنما ارتفعت قيمتها. وبعبارة علم الاقتصاد المعاصر: إن قيمة النقود إنما تنبني اليوم على مقدار التضخم أو الانكماش الموجودين في البلاد، فكلما ازداد التضخم انتقصت قيمة النقود، وكلما ازداد الانكماش ارتفعت قيمتها. ودعوني، قبل أن أتقدم في الموضوع، أن أفسر التضخم والانكماش باختصار، ليسهل فهم الموضوع قبل الدخول فيه. إن التضخم (Inflation) في اصطلاح الاقتصاد المعاصر عبارة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 حالة اقتصادية في بلد مخصوص، يزداد فيها مقدار النقود السائلة على مقدار البضائع والخدمات التي يمكن شراؤها بالنقود. ومن النتائج اللازمة لهذه الحالة أن ترتفع أسعار البضائع والخدمات فيحدث الغلاء العام، لأن النقود السائلة في البلاد تمثل طلب المجتمع للبضائع والخدمات، والبضائع والخدمات الموجودة في البلاد تمثل عرضها للمجتمع، وحيثما ازداد الطلب على العرض، ازدادت الأسعار، كما هو معلوم من قواعد الاقتصاد الأساسية. أما الانكماش (Deflatiom) فهو عبارة عن حالة اقتصادية ينتقص فيها مقدار النقود السائلة عن مقدار البضائع والخدمات المتوفرة في بلد مخصوص. ونتيجة هذه الحالة أن ينخفض مستوى أسعار البضائع والخدمات، فيحدث رخص عام. لأن العرض قد ازداد على الطلب، فانخفضت الأسعار. وإن النقود في حالة الانكماش تستطيع أن تشتري كمية كبيرة من البضائع، فنستطيع في هذه الحالة مثلا، أن نشتري بمائة ربية البضائع الآتية: الحنطة 20 كيلو الملح 20 كيلو الثوب 10 متر ولكن لا تستطيع النقود في حالة التضخم أن تشتري إلا كمية أقل مما كانت تشتري في حالة الانكماش، فإنما يمكن لنا في حالة التضخم مثلا، أن نشتري بمائة ربية: الحنطة 10 كيلو الملح 10 كيلو الثوب 5 أمتار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 فالمائة ربية في الحالتين، هي المائة روبية، لكن كانت قوة شرائها في الحالة الأولى ضعف قوة شرائها في الحالة الثانية. وبما أن النقود الورقية اليوم لا تمثل إلا قوة شراء، وهي التي تعتبر قيمتها الحقيقية، فإن الاقتصاديين يعبرون عن هذا التفاوت بتفاوت قيمة النقود، وقد رأينا أن قوة شراء المائة ربية في المثال المذكور قد انتقصت في حالة التضخم بقدر الخمسين في المائة، لأنها إنما تستطيع أن تشتري بها في حال التضخم نصف ما كانت تشتري في حالة الانكماش، أو نقول: إن المائة روبية في حالة التضخم صارت مساوية للخمسين ربية في حالة الانكماش نظرا إلى قوة شرائها. فالسؤال المطروح اليوم: هل تعتبر المائة ربية في حالة التضخم مثل المائة ربية في حالة الانكماش في أداء الحقوق والالتزامات؟ أو تعتبر أنها صارت خمسين؟ فمن استقرض من رجل مائة ربية في حالة الانكماش، هل يؤدي مائة ربية بالعدد في حالة التضخم؟ أو يؤدي مائتي ربية نظرا إلى انخفاض قيمتها، وانتقاص قوة شرائها بقدر الخمسين في المائة؟ وقد يرى بعض الاقتصاديين أن أداء مائة ربية بالعدد في هذه الحالة ظلم على المقرض، لأن المستقرض إنما يرد عليه نصف القوة الشرائية التي دفعها إليه المقرض. وقد اقترح بعض الاقتصاديين لحل هذه المشكلة أن تستخدم قائمة الأسعار كمعيار لتقييم النقود، ويكون أداء الحقوق والالتزامات على أساس قيمة النقود المرتبطة بقائمة الأسعار. وإن قائمة الأسعار (Price index) قائمة تدرج فيها معظم البضائع والخدمات المتداولة في البلاد، ويذكر فيها سعرها الرائج في ابتداء السنة المالية مثلا، ثم يذكر سعرها الرائج عند انتهاء السنة، والفرق ما بين هذين السعرين يمثل نسبة تفاوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الأسعار بطريق حسابي مخصوص. وتعتبر هذه النسبة نسبة تغير قيمة النقود. فإذا كانت هذه النسبة زيادة عشرة في المائة مثلا، فإن الحقوق الملتزم بها في ابتداء السنة تؤدي في نهايتها بزيادة عشرة في المائة، فمن استقرض مائة ربية في ابتداء العام يؤديها عند انتهاء العام مائة وعشر ربيات, وإن هذا الطريق يستخدم في بعض البلاد في أداء الأجور، وقضاء الديون، فنريد أن نبحث عن مدى جواز استخدام هذا الطريق من الناحية الشرعية، والله سبحانه هو الموفق. ربط القروض والديون بقائمة الأسعار: ما ربط القروض وسائر الديون بقائمة الأسعار، فالمقصود منه أن لا يرد المستقرض إلى المقرض مبلغ قرضه فحسب، بل يضيف إليه قدرا زائدا بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار. فإن اقترض مثلا ألف ربية، وازدادت قائمة الأسعار بنسبة العشرة في المائة عند الأداء، فإنه يرد إلى المقرض ألفا ومائة ربية. ويحتج بعض الاقتصاديين على جواز هذا الربط بأن هذه الزيادة ليست زيادة حقيقية، وإنما هو رد لنفس المالية التي اقترضها المقترض، لأن مالية الألف ربية من حيث شرائها كانت أكثر عند الاقتراض، وانتقصت عند الأداء بنسبة 10 %، فلو رد المقترض ألف ربية كان ذلك ظلما على المقرض لأنه لم تعد إليه المالية الكاملة التي أقرضها. وإنما عادت إليه ناقصة , فلو ألزمنا المقترض أن يدفع إليه ألفا ومائة، لم يكن ذلك إلا إكمال المالية المقترضة، لأن مالية الألف ومائة اليوم عين مالية الألف عند الاقتراض، فزيادة المائة جبر لنقصان قيمة النقد، وليس زيادة على المالية المقترضة، فينبغي أن لا تعتبر هذه الزيادة من الربا الحرام شرعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ولكن الحق أن هذا الدليل لا ينطبق على القواعد الشرعية بحال من الأحوال، لأن القروض يجب في الشريعة أن تقضى بأمثالها، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان، حتى القائلين بجواز ربط القروض بالأسعار، فبقي الآن تعيين معنى المثلية. فالسؤال الأساسي هنا: هل يجب أن تتحقق هذه المثلية في القدر (أي الكيل، والوزن، والعدد) أو في القيمة والمالية؟ والذي يتحقق من النظر في دلائل القرآن والسنة ومشاهدة معاملات الناس، أن المثلية المطلوبة في القرض هي المثلية في القدر والكمية، دون المثلية في القيمة والمالية. ويدل على ذلك دلائل: 1- لو اقترض الرجل صاعا من الحنطة، قيمتها يومئذ خمس روبيات مثلا، فلم يؤدها إلى المقرض إلا بعد ما صارت قيمتها ربيتين فحسب، فإنه لا يرد إلى المقرض إلا صاعا واحدا، رغم أن مالية الصاع الواحد قد انتقصت من خمس ربيات إلى ربيتين، وهذا بإجماع الفقهاء قديما وحديثا، ولا يقول في ذلك أحد: إن رد الصاع الواحد فقط بعد انتقاص ماليته ظلم على المقرض، فينبغي أن تضاف إلى الصاع زيادة بنسبة نقصان قيمته، وهذا من أوضح الدلائل على أن المثلية المعتبرة في القرض إنما هي المثلية في المقدار، لا في القيمة والمالية. وربما يقال جوابا عن هذا: إن الحنطة بضاعة لها مالية في حد ذاتها، فلا تقاس عليها النقود الورقية التي ليست لها قيمة أو مالية ذاتية، ولكن هذا الجواب خلط للبحث، لأن السؤال هنا عن تعيين معنى المثلية المطلوبة في القرض، فما دامت المثلية المطلوبة هي المثلية في المقدار دون القيمة والمالية، فليس هناك فرق جوهري بين الحنطة والنقود في هذا المجال، لأن لكل منهما مقدارا، وقيمة، فإن كانت المثلية المقلوبة في الحنطة هي المثلية في المقدار، فلتن المثلية المطلوبة في النقود مثلية المقدار كذلك. ولو اعتبر تفاوت القيمة والمالية هدرا في الخطة فليكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ذلك هدرا في النقود سواء بسواء. 2- من المسلم لدى الجميع أن التماثل مطلوب في القروض للاحتراز عن الربا، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا التماثل المطلوب في أحاديث ربا الفضل بكل صراحة ووضوح. أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كنا نرزق تمر الجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الخلط من التمر، فكنا نبيع صاعين بصاع، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا صاعين تمرا بصاع، ولا صاعين حنطة بصاع، ولا درهما بدرهمين) (1) . ومعلوم أن ما يباع بصاعين كان أكثر قيمة ما يباع بصاع، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرض إلا بالتماثل في القدر والكيل، وجعل التفاوت في القيمة هدرا. وكذلك أخرج الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما ((: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال: أكل خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاث)) ، قال: ((لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) (2) . وهذه الرواية من أصرح الأدلة على التماثل المطلوب في الأموال الربوية هو التماثل في القدر، دون التماثل في القيمة، لأن الجنيب كان أغلى من الجمع بكثير، وأكثر قيمة، وأجود نوعا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر الجودة والرداءة في مبادلة بعضها ببعض، وأوجب التماثل في الكيل.   (1) جامع الأصول، لابن الأثير:1/546 (2) جامع الأصول: 1/550. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الذهب بالذهب وزنا بوزن، مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا)) وأخرجه مالك بلفظ ((الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) (1) . وأخرج مسلم وغيره من عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد)) . وأخرج أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مدين بمدين، والشعير بالشعير مدين بمدين، والتمر بالتمر مدين بمدين، والملح بالملح مدين بمدين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى)) (2) . وأخرج مسلم عن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((الذهب بالذهب وزنا بوزن)) وفي رواية أخرى: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن)) (3) . فهذه الأحاديث كلها ناطقة بأن التماثل المعتبر في الشريعة إنما هو التماثل في القدر، ولا عبرة بالتفاوت في القيمة، ما دامت الأموال ربوية.   (1) جامع الأصول: 1/552. (2) المرجع السابق: 1/554. (3) المرجع السابق: 1/556. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وهذا في المبايعة نقدا، فما بالك في القروض التي يجري فيها أصل الربا، والتي يحترز فيها عن كل زيادة وشبهتها. 3- وهناك حديث أخر يوضح معنى المثلية في الديون خاصة، وهو ما أخرجه أبو داود وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله: رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) . (1) ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح لابن عمر رضي الله عنهما إذا وقع البيع على الدنانير أن تأخذ بدلها الدراهم بقيمة الدنانير يوم الأداء لا يوم ثبوتها في الذمة. يعني إذا وقع البيع على دينار مثلا، وقيمته وقت البيع عشرة دراهم، ثم لما أراد المشتري الأداء لم يكن عنده إلا دراهم، وقيمة الدينار الواحد يوم الأداء أحد عشر درهما، فإنه يؤدي إليه أحد عشر درهما. ولذلك لما سأل بكر بن عبد الله المزني ومسروق العجلي عبد الله بن عمر عن كري لهما، له عليهما دراهم، وليس معهما إلا دنانير، أجاب ابن عمر: (أعطوه بسعر السوق) . فتبين أن القيمة إنما تعتبر يوم الأداء، لا يوم الثبوت في الذمة. ولئن كانت المثلية المعتبرة في الديون المثلية قي القيمة، لوجب قيمة الدنانير يوم الثبوت في الذمة. وهذا واضح جدا.   (1) سنن أبي داود، كتاب البيوع، رقم 3354، 3/ 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 4- من المسلم لدى جميع الفقهاء في ضوء القرآن والسنة أن الواجب في عقد القرض اشتراط أداء المثل الحقيقي في القدر، دون المثل المقدر بالجزاف والتخمين. حتى لو أقرض الرجل صاعا من الحنطة، واشترط أن يرد إليه المستقرض صاعا منها بالجزاف لا على أساس الكيل / لم يجز هذا العقد، لأن المجازفة في الأموال الربوية لا تجوز. وهنا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيع المزابنة وهو بيع التمر على رؤوس النخل بتمر مجذوذ. وليس وجه الحرمة في هذا البيع إلا أن التمر المجذوذ يمكن معرفة قدره بالكيل، وأما التمر القائم على رؤوس النخل فلا يمكن معرفة قدره إلا بالمجازفة والتخمين. فحرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاقا، مهما كانت المجازفة دقيقة أو قريبة من الصواب. فالسبيل الوحيد في مبادلة الأموال الربوية بعضها ببعض، أن يقع التبادل على أساس التماثل الحقيقي، دون التماثل المقدر بالمجازفة. إذا ثبت هذا، فإن التماثل المقترح في ربط الديون بقائمة الأسعار، ليس تماثلا فعليا، وإنما هو تماثل مقدار على أساس المجازفة والتخمين. لأن نسبة الزيادة والنقصان في الأسعار ليست إلا نسبة تقريبية إنما تقدر على أساس حساب مخصوص لا يرجع إلا إلى المجازفة والتخمين. ويجب لمعرفة هذه النقطة أن نعلم كيفية وضع قائمة الأسعار، وطريق استخدامها لتعين قيمة النقود. كيفية وضع قائمة الأسعار واستخدامها في تقويم النقود: ومن أجل الوقوف على الحكم الشرعي في هذا المجال، يجب أن نعرف كيفية وضع هذه القائمة وطريق استخدامها في تعيين قيمة النقود. فإليكم خلاصة ما يقصده الاقتصاديون من ربط الديون بقائمة الأسعار: من المعلوم أن النقود، سواء كانت نقودا معدنية أو ورقية، لا يقصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 بها ذاتها، فإنها بذاتها لا تسد جوعا، ولا تستر جسما، ولا تدفع شهوة، ولا ترد ضررا. وإنما المقصود من هذه النقود أن يشتري بها المرء ما يحتاج إليه في حياته من بضائع وخدمات. فمن هذه الجهة كل نقد له قيمتان: الأولى قيمتها الاسمية (Price Value) ، وهي المكتوبة عليها، والثانية: قيمتها الحقيقية (Real Value) ، وهي الفائدة العملية الحقيقية التي يحصل عليها المرء بصرفها في حاجاته، وبعبارة أخرى: هي مجموعة من البضائع والخدمات التي يمكن للمرء أن يشتريها بتلك النقود. وإن هذه المجموعة من البضائع يسميها الاقتصاديون اليوم " سلة البضائع " (basket of goods) ، فالقيمة الحقيقية للنقود هي سلة البضائع الممكن شراؤها بها. فإذا كان زيد راتبه كل شهر عشرة آلاف ربية مثلا، فإن عشرة آلاف ربية هي القيمة الاسمية لدخله الشهري. ثم إنه يصرف هذه العشرة آلاف ربية في شراء ما يأتي مثلا: الحنطة 40 كيلو الثوب 20 مترا اللحم 20 كيلو الشاي 5 كيلو استئجار بيت للسكن يحتوى على غرفتين. تعليم ابنين في مدرسة. استئجار خدمات الدكتور مرة في الشهر. وإن مجموعة هذه البضائع والخدمات تسمى " سلة البضائع " (Basket of goods) وإذا كان راتب زيد يصرف في شراء هذه السلة كل شهر، فإن هذه السلة المخصوصة (بمقاديرها المذكورة في المثال) هي القيمة الحقيقية لراتبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وإن هذه القيمة لعشرة آلاف ربية عرضة للتغير بتغير أسعار البضائع والخدمات المندرجة في السلة. وإن أسعار كل واحدة من هذه البضائع تختلف من حين لآخر بنسب مختلفة، ولكن الاقتصاديين إنما يقدرون نسبة التغير في أسعار السلة على أساس معدل وسط (Average) . ثم إن البضائع والخدمات المندرجة في السلة ليست على مستوى واحد من الأهمية، فبعضها أهم من بعض، فالحنطة مثلا أهم من الثوب، والثوب أهم من الشاي، ولا شك أن تغير السعر في ما هو أهم أكثر تأثيرا على حياة المرء من تغيره فيما هو أقل أهمية، فلو ارتفعت قيمة الحنطة فأنه يحدث مشاكل أكثر مما يحدثه ارتفاع قيمة الشاي فلأجل الوقوف على التغير في قيمة النقود الحقيقية، يأخذ الاقتصاديون أهمية كل بضاعة موضوع اعتبار عند استخراج المعدل الوسط لتغير الأسعار، فيعطون كل بضاعة من هذه البضائع رقما على أساس أهميته، وإن هذا الرقم يسمى"وزن البضاعة " (Weight of comnodity) ، وإن هذا الوزن ربما يحسب على أساس نسبة الراتب المصروفة في شراء تلك البضاعة كل شهر، فإذا كان زيد يصرف الخمسين في المائة من راتبه في شراء الطعام لأسرته، فإن الطعام يكون له وزن صفر فاصل خمسين (0.50) وإن كان يصرف العشرين في المائة من راتبه في الثياب، فالثياب لها وزن صفر فاصل عشرين وهكذا. فمعدل تغير قيمة السعر في كل بضاعة يضرب في وزنها، والحاصل هو المعدل الموزون (Weighted Average) لكل بضاعة. ويتضح هذا بالجدول الآتي الذي فرضنا فيه أن سلة البضائع مشتملة على ثلاثة أشياء فقط، وهي الطعام، والثياب، والسكن: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 عمود 6 ... عمود 5 ... عمود 4 ... عمود 3 ... عمود 2 ... عمود 1 العمود الخامس مضروبا في وزنه البضاعة ... معدل تغير القيمة فيما بين ... قيمة البضاعة في سنة ... قيمة البضاعة في سنة ... وزن ... البضاعة 1980و1987م ... 1987م ... 1980م ... البضاعة 0‚1 ... ‚2 ... /100 ... -/50ربية ... ‚0 ... الطعام ربية لثلاثين كيلو ... لثلاثين 6‚0 ... 0‚3 ... كيلو ... 20‚0 ... الثياب -/30ربية 9‚0 ... 0‚3 ... لكل متر ... -/10 ربية ... 30‚0 ... السكن لكل متر -/1500 لكل شهر -/500 ربية لكل شهر 5‚2 فتقرر بهذا المثال أن سلة البضائع قد ارتفعت قيمتها فيما بين سنة 1980 م - و 1987 م بنسبة اثنين فاصل خمسة في المائة حسب المعدل الموزون الذي أخذ أهمية كل بضاعة بعين الاعتبار. وبما أن سلة البضائع هي القيمة الحقيقية للنقود، فإن قيمتها الحقيقية قد انتقصت بقدر 2.5 % ومعنى ذلك أن السلعة التي يشتريها الرجل في سنة 1980 م بمائة ربية، صارت تشترى في سنة 1987 م بمائتين وخمسين ربية. فلو فرضنا أن الرجل كان يأخذ خمسة آلاف ربية كراتب في سنة 1980 م وازداد رتبة في سنة 1987 م، حتى صار يأخذ عشرة آلاف ربية شهريا، فإن قيمة رواتبه الشهرية تحسب كالآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 السنة ... القيمة الإسمية ... نسبة الزيادة في ... القيمة الحقيقية قائمة الأسعار 1980م ... =/5000ربية ... ‚1 ربية ... =/5000 ربية 1987م ... =/000‚10ربية ... 5‚2 ... =/4000 ربية ونرى بهذا المثال أن راتب الرجل وإن ازدادت قيمته الإسمية إلى عشرة آلاف ربية, ولكن قيمته الحقيقية صارت أربعة آلاف ربية نظرا إلى مستوى أسعار سنة 1980 م، لأن عشرة آلاف ربية في سنة 1987 م صارت تساوي أربعة آلاف ربية في سنة 1980م نظرا إلى قيمتها الحقيقية. فلو ربطنا الديون بقائمة الأسعار، وقررنا أن الديون تقضى على أساس القيمة الحقيقية، دون القيمة الاسمية، فإن ذلك يقتضي أن من اقترض أربعة آلاف ربية في سنة 1980 م فإنه يؤدي عشرة آلاف ربية في سنة 1987 م، لأن القيمة الحقيقية لكل واحدة. فلو نظرنا في هذا الطريق الحسابي الذي تعين به القيمة الحقيقية للنقود، اتضح لنا أن هذا الطريق مبني على الخرص والمجازفة في جميع مراحله، ويتبين بتجزئة هذا الطريق أنه يشتمل على الخرص والتخمين في الأمور الآتية: 1- تعيين البضائع التي تدرج في القائمة: من المعروف أن كل رجل له حاجات تخصه، فالبضائع المحتاج إليها تختلف باختلاف الرجل، فسلة البضائع لكل أحد تختلف عن سلة الآخر، ولكن السلة المندرجة في قائمة الأسعار واحدة، وإنما تدرج فيها البضائع على أساس كثرة من يستعملها، فربما تدرج فيها بضائع لا يحتاج إليها بعض الناس أبدا، فالقائمة غير حقيقية بالنسبة إلى أولئك البعض. فإدراج بعض البضائع في القائمة ليس إلا مجازفة وخرصا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 2- تعيين وزن البضائع: ثم المجازفة الثانية تأتي في تعيين وزن البضائع، وأهميتها بالنسبة للمستهلكين، ولا شك أن أهمية البضائع أمر إضافي يختلف باختلاف الأشخاص، فبينما البضاعة الواحدة مهمة جدا لشخص واحد، فإنها لا أهمية لها إطلاقا لشخص آخر. ولكن القائمة تفرض أن أهمية كل بضاعة واحدة بالنسبة إلى كل مستهلك، وذلك على أساس المعدل الوسط، وليس ذلك إلا خرصا ومجازفة. 3- تعيين قيمة البضائع: والمجازفة الثالثة في تعيين قيمة البضائع في سنوات مختلفة، لأن من المعلوم أن البضاعة الواحدة تختلف قيمتها باختلاف الأمكنة أيضا، ولا يمكن في القائمة إلا إدراج قيمة موضع واحد، ولو وضعت القائمة لدولة واحدة فلا يمكن ذلك إلا عن طريق معدل وسط، وهو مجازفة أيضا. فتقرر بهذا أن قائمة الأسعار مبنية على الخرص والمجازفة في جميع مراحلها. ولو كان الحساب من الدقة بمكان، فإن غاية ما يصل إليه في ذلك هو التقريب دون التحقيق. وبما أن اشتراط أداء القروض والديون بالخرص والمجازفة لا يجوز شرعا، فلا يجوز ربط الديون بهذه القائمة بحال. مذهب الأمام أبي يوسف في أداء قيمة الفلوس: قد استدل بعض الاقتصاديين على ربط الديون بقائمة الأسعار بما روي من مذهب أبي يوسف رحمه الله تعالى في أداء قيمة الفلوس إذا تغيرت قيمتها عند أداء الديون يقول العلامة ابن عابدين رحمه الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 (في المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت، قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء وليس له غيرها، ثم رجع أبو يوسف، وقال: عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض) ثم نقل عن التمرتاشي قوله: (وفي البزازية معزيا إلى المنتقي، غلت الفلوس أو رخصت، فعند الإمام الأول (أي أبي حنيفة) والثاني (أي أبي يوسف) أولا: ليس عليه غيرها، وقال الثاني (أي أبو يوسف) ثانيا: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض، وعليه الفتوى) . ثم قال ابن عابدين: " هكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقى، وقد نقله شيخنا في بحره وأقره. فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء " (1) . فاستدل به بعض الاقتصاديين على أنه إذا وجب الدين في صورة الفلوس، فالواجب أداء قيمتها إذا طرأ عليها الغلاء والرخص، وهذا المذهب قريب جدا من فكرة ربط الديون بقائمة الأسعار. ولكن هذا الاستدلال غير صحيح، والحقيقة أن مذهب أبي يوسف رحمه الله تعالى لا علاقة له بفكرة ربط الديون بقائمة الأسعار، لأن من المعلوم بالبداهة، أن التضخم والانكماش ووضع قائمة الأسعار، وتقويم النقود على أساس تلك القائمة، كل هذه الأمور أمور حادثة لم تكن   (1) رسائل ابن عابدين: 2/60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 متصورة في زمن الإمام أبي يوسف - رحمة الله تعالى - فحينما يقول أبو يوسف بأداء قيمة الفلوس، فإنه لا يمكن أن يريد به قيمتها المقدرة على أساس قائمة الأسعار، أو القيمة الحقيقية (Real Value) بالاصطلاح الاقتصادي المعاصر. والواقع أن الفلوس في الأزمنة المتقدمة كانت مرتبطة بنقود الذهب والفضة تقوم على أساسها (1) وتعتبر كالفكة للنقود الذهبية والفضية وكانت عشرة فلوس تعادل درهما واحدا من الفضة، فكان الفلس الواحد يعتبر عشر الدرهم الفضي، ولكن قيمة الفلس هذه لم تكن مقدرة على أساس قيمتها الذاتية، وإنما كانت قيمة رمزية اصطلح عليها الناس، فكان من الممكن أن يتغير هذا الاصطلاح، بأن يصطلح الناس على أن الفلس الواحد الآن يعتبر نصف عشر الدرهم بعد ما كان يعتبر عشرة، فهذا هو المراد برخص الفلوس، كما يمكن أن يصطلح الناس على أن الفلس الواحد الآن يعتبر خمس الدرهم، وهذا هو المراد بغلائها. فإذا وقع غلاء الفلوس أو رخصها بهذه الصورة، فهل يؤدي المديون نفس عدد الفلوس الذي وجب في ذمته يوم العقد؟ أو يؤدي قيمة ذلك العدد يوم الأداء؟ قد وقع فيه خلاف العلماء. فقال أبو حنيفة: يؤدي نفس العدد الذي وجب في ذمته يوم العقد، ولا عبرة بالقيمة، وهو المشهور. من مذهب المالكية والشافعية والحنابلة (2) فلو اقترض أحد مائة فلس في وقت يعتبر فيه الفلس الواحد عشر درهم واحد فاقترض فلوسا تساوي عشرة دراهم في القيمة، ثم تغير الاصطلاح، حتى صار الفلس الواحد يعتبر نصف عشر درهم واحد.   (1) يقول ابن عابدين في مسألة أخرى: " ويدل عليه أيضا تعبيرهم بالغلاء والرخص فإنه إنما يظهر إذا كانت غالبة الغش تقوم بغيرها ". رسائل ابن عابدين: 2/62. (2) راجع تنبيه الرقود:2/60، الزرقاني على خليل: 5/60، والحاوي للفتاوى للسيوطي: 1/97 - 99، والشرح الكبير على المقنع: 4 /358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فذهب جمهور الفقهاء إلى أن المقترض لا يؤدي إلا مائة فلس، وإن كانت هذه المائة لا تساوي اليوم إلا خمسة دراهم. لكن خالفهم أبو يوسف رحمه الله، فقال: إنما يجب أداء قيمة الفلوس المقترضة على أساس الدرهم، فمن اقترض مائة فلس في المثال المذكور، إنما يؤدي الآن مائتي فلس، لأن الفلوس فكة للدراهم، فمن اقترض مائة فلس، فكأنه اقترض فكة عشرة دراهم، وإن فكة عشرة دراهم يوم الأداء هي مائتا فلس، فالواجب عليه أداء مائتي فلس. والذي يظهر لي - والله أعلم - أن أساس الخلاف بين أبي يوسف والجمهور مبني على اختلافهم في تكييف هذه الفلوس، فيبدو أن جمهور الفقهاء اعتبروا الفلوس أثمانا اصطلاحية مستقلة غير مرتبطة بالدراهم والدنانير ارتباطا دائما، فمن اقترض عددا من الفلوس، فإنه يؤدي نفس العدد دون نظر إلى قيمتها بالنسبة للدرهم، وأما أبو يوسف رحمه الله فاعتبر الفلوس أجزاء اصطلاحية كالفكة للدرهم، فالمقصود بالاقتراض عنده ليس عدد الفلوس، وإنما المقصود اقتراض أجزاء للدرهم يمثلها ذلك العدد من الفلوس، فلذلك أوجب رد تلك الأجزاء للدراهم في صورة الفلوس، وإن اختلف عددها من العدد المقترض. ونظير الرخص والغلاء الذي يأتي فيه قول أبي يوسف هذا، أن الربية الباكستانية إلى أوائل الخمسينات كانت مقسمة على أربع وستين بيسة، (والبيسة نوع من الفلس) ثم اختارت الدولة النظام الأعشاري، فأعلنت أن الربية تكون مقسمة على مائة بيسة. فكانت البيسة قبل هذا الإعلان ثمن يساوي ثمن الربية، وصارت بعد هذا الإعلان عشر عشرها، فطرأ عليها الرخص بهذا القدر. فمن اقترض أربعا وستين بيسة قبل الإعلان هل يؤدي بعد الإعلان نفس الأربع والستين بيسة؟ أو يؤدي مائة؟ (1) الظاهر   (1) الواقع أن الدولة عند الإعلان صاغت " بيسات جديدة "، والبيسات الجديدة " هي التي كانت المائة منها تعادل ربية، وبقيت البيسات القديمة رائجة بقيمتها القديمة، فلا ينطبق واقع هذا المثال على ما نحن فيه، ولكن لنفرض أن الدولة لم تروج البيسات الجديدة، وإنما أعلنت بالتغير في قيمة البيسات القديمة نفسها، فحينئذ ينطبق هذا المثال على المسألة محل البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 أنه يؤدي مائة، لأنه اقترض فكة ربية واحدة، فليرد فكة ربية واحدة، وهي الآن مائة بيسة. فالحاصل أن قول الإمام أبي يوسف رحمه الله إنما يتأتي في فلوس مرتبطة بثمن آخر ارتباطا دائما يجعلها كالأجزاء والفكة لذلك الثمن. أما النقود الورقية اليوم، ليست مرتبطة بثمن آخر، ولا معتبرة كالأجزاء والفكة له، وإنما هي أثمان اصطلاحية مستقلة. وبالتالي، إن الوقوف على قيمة الفلوس حسبما يراه الإمام أبو يوسف يمكن تحقيقها، لأنها مرتبطة بعيار مضبوط من الثمن، وهو الدرهم، بخلاف النقود الورقية، فإن الوقوف على قيمتها الحقيقية حسب الاصطلاح الاقتصادي المعاصر، لا يمكن تحقيقا، وإنما تكون هذه القيمة مقدرة على أساس الخرص والمجازفة، كما أوضحنا فيما سبق، فلا يقاس هذا على ذاك. اعتبار العرف في مثلية النقود: قد يستدل بعض الاقتصاديين على جواز ربط الدين بقائمة الأسعار، بأن الواجب في القروض أداء المثل، ولكن يجب أن يرجع في تعيين معنى المثلية إلى العرف، فما اعتبره العرف مثلا، ينبغي أن يعتبره الشرع أيضا كذلك. وبما أن قيمة النقد والمقدرة على أساس قائمة الأسعار تعتبر مثلا للمبلغ المقترض في العرف الاقتصادي اليوم، فينبغي أن تعتبرها الشريعة مثلا في أداء القروض. ولكن هذا الاستدلال باطل أيضا. أما أولا: فلأن العرف إنما يصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 إليه عند عدم النص، وقد بينا فيما سبق أن النصوص التي حرمت الربا قد عينت معنى المثلية بكل صراحة ووضوح، وأن المعتبر هو التماثل في القدر، فلا مجال بعد ذلك للعرف في تعيين معنى المثل. وأما ثانيا: فإن كون القيمة الحقيقية (باصطلاح الإقتصاد) مثلا لم يصره عرفا معتبرا إلى الآن، حتى عند الاقتصاديين. فمن المعلوم بالبداهة أن معظم بلاد العالم لم توافق بعد على فكرة ربط الديون بقائمة الأسعار، وإنما طبقت هذه الفكرة في دول معدودة (مثل البرازيل، وأستراليا، وإسرائيل, وما إليها) فنسبتها ضئيلة جدا بالنظر إلى سائر دول العالم. ثم إن القلة من الدول لم تأخذ بهذه الفكرة بجميع نواحيها، ولا في سائر المداولات المالية، وإنما أخذت بها في شعب مخصوصة من شعبها الاقتصادية، لأن تطبيقها كأصل عام شامل لا يعتبر ممكنا، حتى عند الاقتصاديين، يقول بين هورم، وإيجل ليوى: " إن استخدام قائمة الأسعار في جميع المعاملات المالية على وجه الشمول أمر لا يمكن حصوله فعلا (1) ومن الأمور الواضحة جدا، أنه لا تعرف على وجه الأرض دولة ربطت الحسابات الجارية في البنوك بقائمة الأسعار مهما كانت نسبة التضخم مرتفعة. وإن البرازيل أبرز دولة استخدمت قائمة الأسعار في كثير من معاملاتها المالية. ولعلها أكثر دول العالم استخداما لهذه القائمة، ولكنها لم تستخدمها في الحسابات الجارية في البنوك، فمن أودع في هذه الحسابات مبلغا لا يستلم إلا ذلك المبلغ بنفس العدد المودع، كانت قائمة الأسعار قد ازدادت للضعف أو أكثر.   (1) Ben Horim and H. Levy , Financial Management in an inflationary Evironment, p. 37 - 40 , as quoted by Umar Chaper, in his paper , " Indexation theory , experience and issues from Islamic perspective" , p. 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وإن هذا واضح الدلائل على أن اعتبار التماثل بالقيمة الحقيقية ليس عرفا سائدا، حتى في الدول التي تمسك بالقيمة الحقيقية كسلاح لمدافعة أضرار التضخم. وقد رأينا أكثر الاقتصاديين الذي يؤيدون فكرة الأخذ بالقيمة الحقيقية في أداء الديون، يصرخون بأنهم لا يريدون الأخذ بهذه الفكرة في القروض الاستهلاكية، يعني: إن اقترض رجل ألف ربية لدفع حاجاته الشخصية من الطعام والشراب والسكن، فإن هذا القرض لا ينبغي أن يربط بقائمة الأسعار عندهم أيضا، وإنما يقصدون أن يطبقوا فكرة القيمة الحقيقية في القروض الإنتاجية فحسب. أليس هذا اعتراف من أنفسهم بأن القيمة الحقيقية ليست مثلا في القروض الاستهلاكية؟ فإن لم تكن مثلا في القروض الاستهلاكية، فكيف تكون مثلا في القروض الإنتاجية؟ فإن المثلية حقيقة واحدة لا تختلف باختلاف أقسام القروض؟ وكذلك نرى الاقتصاديين إنما يؤيدون فكرة القيمة الحقيقية في حالة التضخم، ولا يوجد أحد يأخذ بهذه الفكرة في حالة الانكماش. ومعنى ذلك أن القيمة الحقيقية المزعومة إنما تعتبر في حالة ارتفاع الأسعار، أما إذا انخفضت الأسعار بعد القرض، فلا يؤدي إلا المبلغ المقترض يوم العقد لأنه لا يرضي من أقرض ألف ربية أن يقبل بدلها ثمانمائة ربية نظرا إلى انخفاض الأسعار، ولو طبقت فكرة القيمة الحقيقية في حالة انخفاض الأسعار، فإنه لا يوجد من يودع ماله في البنوك خشية النقصان العارض بسبب الانكماش. وهذا أيضا دليل على أن فكرة القيمة الحقيقية ليست فكرة علمية قائمة على أسس متينة وإنما هي فكرة إنما ظهرت لمواجهة أضرار التضخم كعلاج وقتي دون نظر إلى لوازمها المنطقية وعواقبها الأخرى. وإن مثل هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الفكرة لها مجال في النظام المالي الذي يقوم على أساس الربا، وأما في النظام الذي يريد الاحتزار عن الربا، فإن فكرة ربط الديون بالأسعار فكرة زائفة لا تقوم أمام الدلائل الشرعية والعقلية. وإن هذه المسألة قد عرضت أمام مجلس الفكر الإسلامي في باكستان، فاتفق أعضاء المجلس من العلماء والاقتصاديين جميعا على أن ربط الديون بالأسعار لا مبرر له في الشرعية الإسلامية. وكذلك نوقش هذا الموضوع في ندوة مختصة لمداولته أقامها البنك الإسلامي للتنمية بجدة باشتراك المعهد العالمي للاقتصاد الإسلامي بإسلام آباد وذلك في شعبان سنة 1407 هـ، وقد حضر هذه الندوة جماعة من العلماء والاقتصاديين من بلاد مختلفة، والقرار الذي اتفق عليه مشاركو هذه الندوة كما يلي. توصيات: 1- إن النقود الورقية تقوم مقام النقدين (الدنانير والدراهم) في جريان الربا ووجوب الزكاة فيها وكونها رأس مال سلم ومضاربة وحصة في شركة، وإن قول أبي يوسف بوجوب رد قيمة الفلوس في حالة الغلاء والرخص بالنسبة للنقدين لا يجري في الأوراق النقدية لأن هذه الأوراق النقدية تقوم مقام النقدين المتفق على عدم اعتبار الرخص والغلاء فيهما. 2- يؤكد العلماء الحاضرون في الندوة على أن المقصود بالمثل في أحاديث الربا والقروض، المثل في الجنس والقدر الشرعيين، أي الوزن والكيل والعدد، لا القيمة. وذلك تباعا لما دلت عليه السنة من إلغاء اعتبار الجودة في تبادل الأصناف الربوية، وما انعقد عليه إجماع الأمة وجرى عليه عملها. 3- لا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أيا كان مصدرها بمستوى الأسعار، بأن يشترط العاقدان في العقد المنشئ للدين، كالبيع والقرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وغيرهما، ربط العملة التي وقع بها البيع أو القرض، بسلعة (أو مجموعة من السلع) أو العملة وقت حلول الأجل بالعملة التي وقع بها البيع والقرض. 4- الأصل في النفقات أن تقدر عينا، ويحكم القضاء بقيمة الأعيان عند التنازع تأسيسا على مستوى الأسعار، ومن ثم فلا حاجة لربطها بمستوى الأسعار على النحو السابق شرحه. ثم كل ما ذكرناه في هذا البحث الموجز كان يتجه نحو الناحية الشرعية لهذه المسألة، أما الناحية الاقتصادية، فلم أتعرض لها في هذا البحث، لكونها خارجة عن اختصاصي، غير أنه يجدر بالذكر هنا أن فكرة ربط الديون بالأسعار قد واجهت - ولا تزال تواجه - نقدا عنيفا من قبل الاقتصاديين أنفسهم، وإن معظم الاقتصاديين اليوم لا يعتبرونها علاجا للتضخم، وما يعتبرونها إلا كدواء مخدر يستر المرض ولا يزيله، والحق أنها لا تداوي علة التضخم، وإنما تقرها وتسايرها. ولهذا الدواء المخدر أضرار مستقبلية على الحياة الاقتصادية، ومن أجل هذه الأضرار فقد تركته بعض الدول رأسا كفرنسا. وبما أن هذه الناحية خارجة عن نطاق موضوعنا، فإني أضرب عنها صفحا، ومن شاء راجع الكتب الاقتصادية المؤلفة في هذا الموضوع خاصة. النقاط التي تحتاج إلى مزيد من البحث: قد ثبت بما ذكرنا أن ربط الديون بقائمة الأسعار لا مبرر له شرعا. ولكن قد يبدو أصل المسألة يحتاج إلى حل آخر ولا سيما بالنظر إلى الظروف الإقتصادية في بعض الدول التي واجهت إنهيارا ذريعا في قيمة عملتها مثل الليرة اللبنانية التي كانت ثلاثة منها دولارا أميركيا, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فانهار سعرها إلى أنه مئات منها لا تعادل دولارا واحدا وقد حدث مثل ذلك في الليرة التركية والروبيل الروسي وبعض العملات الأخرى, حتى حكى لي بعض الإخوة اللبنانيين أن إمرأة قضي لها بالمهر على زوجها فلما قبضت المرأة المهر صار لا يساوي إلا بمقدار ما تستأجر به سيارة تذهب بها إلى بيتها. ولمواجهة هذه المشاكل أطرح بعض النقاط التي خطرت بقلبي وليست هذه النقاط للإفتاء وإنما مطروحة لنظر الفقهاء والمعاصرين ولم أبت فيها بشيء بعد: 1 - إن الإنهيار في قيمة العملة إذا وقع بشكل غير عادي , فيمكن أن يكون لها وضع خاص. ويلحق هذا الوضع بكساد الفلوس , والمرجع عند كساد الفلوس القيمة عند كثير من الفقهاء. 2 - يمكن أن يفرق بين حالتين من انخفاض سعر العملة: الحالة الأولى: أن يقع الإنخفاض في السوق مبنيا على العرض والطلب وفي مثل هذا الإنخفاض لا يقع أداء الدين إلا بالمقدار الأصلي الذي ترتب به الدين كما أسلفنا في هذا البحث. والحالة الثانية: أن يقع التخفيض في سعر العملة (devaluation) من قبل الحكومة وفي مثل هذه الحالة يعتبر التخفيض كأن الحكومة قد أصدرت بذلك عملة جديدة يختلف سعرها عن العملة السابقة. فيقع أداء الدين بقيمة العملة القديمة بإزاء هذه العملة الجديدة. ولنفرض أن زيدا اقترض مئة ربية في حين أن سعرها الرسمي ثلاثة دولارات ثم خفضت الحكومة ربيتها حتى صارت مئة ربية تعادل دولارين فتعتبر هذا التخفيض إصدارا لعملة جديدة قيمتها ناقصة عن العملة القديمة بقدر ثلث فإذا وقع أداء الدين بهذه العملة الجديدة , الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فينبغي أن يزداد فيه الثلث ليساوي قيمة العملة القديمة التي وقعت الإستدانة فيها لأن الحكومة إن منعت العملة القديمة بتاتا وأصدرت عملة جديدة تنقص قيمتها بقدر الثلث كان المرجع قيمة العملة القديمة من العملة الجديدة قطعا فإن اعتبرنا تخفيض قيمة العملة رسميا في حكم إصدار العملة الجديدة فهناك احتمال لقياس هذه الحالة على إصدار العملة الجديدة. 3 - إن الديون وإن كان لا يمكن ربطها بقائمة الأسعار كما حققناه ولكن قد يخطر بالبال أنه يمكن ربطها بالذهب وذلك لأن الأوراق النقدية وإن لم تبق الآن مدعومة بالذهب كما مر ولكن الأصل فيها أن مصدر الورق كان ملتزما بأداء مقدار الذهب فمن رفض إعطاء الذهب لحامله لأول مرة فإنه قد تخلف عن أداء ما كان واجبا عليه وبمجرد رفضه لم يسقط ما كان في ذمته من الذهب بل بقي واجبا عليه من الناحية الشرعية ولم يزل هذا الواجب ينتقل إلى كل من تناوله بعد ذلك وإلى كل من أصدر أوراق جديدة على ذلك الأساس فإن كون الأوراق النقدية مدعومة بالذهب وأن لم يكن معترفا به في الجهات القانونية ولكن يمكن أن يكون معتبرا من الناحية الشرعية من جهتين: الأولى: أن الأوراق النقدية لم ترج في السوق في بداية الأمر إلا على بداية كونها مدعومة بالذهب ومجرد رفض بعض الجهات إعطاء الذهب لحاملها لا ينبغي أن يعتبر مبررا شرعا لفك صلتها بالذهب. والثانية: أن الشرع قد اعتبر الذهب ثمنا خلقيا فينبغي أن ترجع جميع العملات إلى هذا العيار. وإن هذه النقاط لا أجزم بكونها مقبولة ولذلك لا أفتي بها حتى الآن ولكن أحببت أن أطرحها أمام الفقهاء المعاصرين لينظروا فيها ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا. والله سبحانه وتعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ربط الأجور بقائمة الأسعار: أما ربط الأجور بقائمة الأسعار فيختلف حكمه عن ربط الديون ما لم تصر الأجرة دينا، فإن صارت دينا فحكمها ربط الديون، وتفصيل ذلك أن ربط الأجور بقائمة الأسعار يمكن بثلاثة طرق: 1- أن يقع تعيين الأجور والمرتبات بالنقود عددا، ويتعاهد العاقدان، أن هذه الأجور تتزايد كل سنة بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار. مثاله: أن الحكومة عينت موظفا على راتب ثلاثة آلاف ربية شهريا، وتعاهدت أن هذا المرتب يزداد عند ابتداء السنة الآتية بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار، فإن هذا الموظف لا يزال يستلم ثلاثة آلاف ربية كل شهر، إلى أن تنتهي السنة، ولا ينظر إلى قائمة الأسعار أثناء السنة. فإذا جاءت السنة الجديدة وكانت نسبة الزيادة في قائمة الأسعار خمسا في المائة، فإن مرتب الموظف سيزداد بهذه النسبة، فيصير راتبه ثلاثة آلاف ومائة وخمسين. إن هذا الطريق يعمل به في كثير من البلاد، ومنها باكستان. وإن مثل هذا الربط لا مانع منه شرعا، لأن حاصله اتفاق الفريقين على تزايد الأجور والمرتبات كل سنة أو كل ستة أشهر بنسبة معينة وإن هذه النسبة، وإن لم تكن معلومة عند العقد، غير أن عيارها الذي تتعين النسبة على أساسه معلوم، فانتفت شبهة الجهالة في قدر الزيادة أو يقال: إن عقد الإجارة يتجدد كل سنة بأجرة متزايدة بنسبة الزيادة في الأسعار. وليس في ذلك أي مانع شرعي. 2- والطريق الثاني لربط الأجور بالأسعار: أن يقع تعيين الأجر على أساس مبلغ معلوم من النقود، ولكن يشترط في العقد أن هذا المبلغ المعلوم ليس هو المرتب الواجب في الذمة، وإنما الواجب في الذمة ما يساوي هذا المبلغ عند انتهاء كل شهر حسب قائمة الأسعار. ومثاله: أن زيدا استأجر عمرا لشهر، وقرر أنه سيؤديه ما يساوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 قيمة ألف ربية موجودة عند نهاية الشهر نظرا إلى قائمة الأسعار، وقد ازدادت قائمة الأسعار خلال هذا الشهر بقدر اثنين في المائة مثلا، فيؤديه في آخر الشهر ألفا وعشرين ربية، لأنها تعادل قيمة ألف ربية في بداية الشهر، ولكن إذا تقرر في نهاية الشهر أن الراتب ألف وعشرون ربية مثلا، فإنها تبقى ألفا وعشرين إلى الأبد. فلو لم يستطيع المؤجر أداءها عند نهاية الشهر، حتى مضى على ذلك شهر آخر، أو سنة أخرى، فإن الواجب في الذمة ألف وعشرون لا غير، ولا يتغير قدرها بتغير قائمة الأسعار بعد ذلك، فلو ازدادت القائمة في هذه المدة بقدر العشرة في المائة مثلا، فلا يستطيع الأجير أن يطالب المؤجر بزيادة العشرة في المائة على الألف والعشرين. لأن الراتب المتفق عليه عند بداية العقد هو ما يعادل الألف عند نهاية الشهر الأول، وكان الرجوع إلى قائمة الأسعار لمجرد تعيين ذلك، فإذا تعينت الأجرة على أساسها مرة، انتهت وظيفة قائمة الأسعار، وصارت الأجرة المعينة دينا على المؤجر، فلا يزيد هذا الدين ولا ينقص، مهما وقعت التغيرات في القائمة. وحكمه الشرعي، فيما أرى، أنه يجوز أيضا، بشرط أن تكون قائمة الأسعار وطريق حسابها معلوما لدى الفريقين علما لا يفضي إلى النزاع. لأن الفريقين قد اتفقا منذ بداية العقد على أن الأجرة ليست ألف ربية، وإنما الواجب ما يعادلها من الروبيات عند انتهاء الشهر حسب قائمة الأسعار، وهي معلومة منضبطة بطريق حسابي معلوم لدى الفريقين، فلا تفضي جهالة قدر الأجرة إلى المنازعة، فصارت كما إذا استأجر رجل أجيرا على ربيات تعادل عشرة جرامات من الذهب في اليوم الأخير من الشهر، فإذا تقرر في اليوم الأخير من الشهر أن ألفي ربية تعادل عشرة جرامات من الذهب اليوم ظهر أن الأجرة ألفا ربية، ولا تزيد بعد ذلك ولا تنقص، سواء انتقصت قيمة الذهب بعد ذلك أو ازدادت. 4 - والطريق الثالث لربط الأجور بالأسعار أن يقع تعيين الأجرة بمبلغ معلوم من النقود، ويشترط العاقدان أن هذا المبلغ هو الواجب في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الذمة، وعليه انعقد الإجارة، ولكن يجب على المؤجر عند أداء الأجرة أن يزيد في هذا المبلغ بنسبة الزيادة في قائمة الأسعار يوم الأداء. ومثاله: رجل استأجر أجيرا على ألف ربية، وتقرر بينهما أن الأجرة ألف ربية، ولكن يجب على المؤجر كلما أدى هذه الألف ربية أن يضيف إليها نسبة الزيادة في قائمة الأسعار يوم الأداء، فإن أدى آخر الشهر ونسبة الزيادة يومئذ اثنان في مائة، فإنه يضيف إلى الآلف عشرين، وإن أداها بعد سنة ونسبة الزيادة يومئذ عشرة في المائة، فإنه يضيف إلى الألف مائة، وهكذا. وحكمة الشرعي، فيما أرى، حكم ربط الديون بالأسعار وهو أنه لا يجوز شرعا كما مر تفصيلا ولله الحمد. والفرق بين هذه الصورة والصورة الثانية أن قائمة الأسعار إنما استخدمت في الصورة الثانية لتعيين الأجرة المتفق عليها، فإذا تعينت الأجرة على أساسها، انتهت وظيفة القائمة، وصارت الأجرة المعينة هي الواجبة في الذمة إلى الأبد. وأما في هذه الصورة الثالثة، فالأجرة المقررة هي الألف ربية، فصارت الألف ربية دينا على المؤجر، وإن هذا الدين قد ارتبط بقائمة الأسعار، فحكمه حكم ربط الدين بالأسعار. ولا نستطيع هنا أن نقول: إن قائمة الأسعار، تؤدي دورها في تعيين الأجرة، لأن الأجرة يجب أن تكون معلومة عند العقد، أو في ثاني الحال، بحيث لا تقبل الزيادة والنقصان بعد ذلك. فإذا تعلقت الأجرة بشيء آخر إلى الأبد، بحيث تزيد بزيادته وتنقص بنقصانه، فإن ذلك أجرة مجهولة متراوحة لا تستقر على قدر معلوم، وإن هذه الجهالة تفسد عقد الإجارة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 (6) أجوبة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بجدة بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الثاني بجدة في المملكة العربية السعودية من (10) إلى (16) ربيع الثاني (1406) الموافق من (22) إلى (28) ديسمبر عام (1985) م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 أجوبة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بجدة بسم الله الرحمن الرحيم يسر البنك الإسلامي للتنمية أن يضع أمام المجمع الفقهي الإسلامي الموقر بعض الاستفسارات برجاء أن تكون موضع عناية أصحاب السماحة والفضيلة أعضاء المجمع، وهي تتعلق بما يلي: أولا: عمليات القروض التي يقدمها البنك الإسلامي للتنمية لمشروعات البنية الأساسية في الدول الأعضاء بالبنك وبدون فوائد، والمبلغ المقطوع الذي يتقاضاه البنك مقابل خدماته لتغطية مصاريفه الإدارية. والقروض التي يقدمها البنك الإسلامي للتنمية للدول الأعضاء لتمويل مشروعات البنية الأساسية هي قروض طويلة الأجل إذ تتراوح مدة الوفاء بين خمسة عشر وثلاثين عاما. والتزاما بأحكام الشريعة الإسلامية فإن البنك لا يتقاضي فوائد على تلك القروض، غير أنه بناء على ما نصت عليه اتفاقية تأسيسه يتقاضى البنك رسم خدمة لتغطية نفقاته الإدارية. وقد رأى البنك أن يتم تحديد رسم الخدمة في ضوء التكلفة الإدارية الفعلية التي سوف يتحملها البنك في تقويم المشروعات التي يمولها، وأيضا تكلفة متابعة تنفيذها، ولما كان من الصعوبة بمكان تحديد وضبط التكلفة الإدارية الفعلية التي يتحملها البنك في كل مشروع من المشروعات التي يمولها على حدة لذا فإن البنك لحد الآن وإلى أن يصبح من الممكن عمليا تحديد التكلفة الإدارية التي يتحملها كل مشروع على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 حدة على وجه الدقة يكتفي بإجراء تقدير تقريبي لتكاليف الخدمة الإدارية والتي رأي أنها تتراوح بين 2.5 و3 في المائة حسب حالة المشروع وظروفه، وبناء على ذلك فإن البنك - في حدود النسبة التقريبية المذكورة - يتقاضى مبلغا مقطوعا يلتزم المقترض بالوفاء به لتغطية هذه التكاليف الإدارية. ثانيا: عمليات الإيجار التي يقوم بها البنك الإسلامي للتنمية لتمويل شراء ثم إيجار وسائط النقل مثل ناقلات البترول، والبواخر، أو لتمويل شراء ثم إيجار معدات وأجهزة لمشروعات صناعية لصالح الدول الأعضاء. وطبقا للأسلوب المعمول به في البنك يتم الإيجار على الأسس التالية: (أ) بعد التحقق من الجدوى الفنية والمالية للمشروع الذي ينظر البنك في المساهمة في تمويله عن طريق الإيجار يبرم البنك اتفاقية مع الجهة القائمة على المشروع (المستأجر) ويفوض البنك بموجبها إلى تلك الجهة التعاقد باسمه مع الموردين على شراء المعدات المطلوبة (والتي يتم تعيينها وتحديد تكلفتها التقديرية في الاتفاقية) ويقوم البنك وفقا لما يتم إبرامه من عقود مع الموردين بدفع قيمة المعدات مباشرة للموردين في الآجال التي تحددها تلك العقود. (ب) تقوم الجهة المستفيدة (المستأجر) نيابة عن البنك باستلام المعدات وفحصها للتأكد من سلامتها ومطابقتها للمواصفات المتعاقد عليها ثم تقوم بالإشراف على تركيبها - متى كان التركيب لازما-للتأكد من أن ذلك يتم بطريقة سليمة حسبما تم التعاقد عليه مع الموردين. (ج) بناء على المعلومات المتوافرة لدى الجهة القائمة على المشروع وتقديرات الفنيين بها وبالبنك تحدد الاتفاقية الفترة الزمنية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 اللازمة لتنفيذ عملية شراء المعدات وتركيبها حتى تصبح صالحة لاستيفاء المنفعة المقصودة منها. وبناء على ذلك تنص الاتفاقية على موعد بدء الإجارة بحيث يقع ذلك بعد انتهاء الفترة المقدرة لكي تصبح المعدات محل الإيجار صالحة لاستيفاء المنفعة المقصودة منها. (د) أثناء مدة الإجارة يقوم المستأجر بدفع الأقساط المحددة في عقد الإجارة (أي الاتفاقية الخاصة بالإيجار) كما يلتزم بصيانة المعدات والحفاظ عليها والتأمين عليها لصالح البنك. (هـ) يلتزم البنك بموجب هذه الاتفاقية بأن يبيع المعدات للمستأجر بثمن رمزي متى انتهت المدة ودفع المستأجر كل الأقساط المتفق عليها وتم وفاؤه بجميع التزاماته الأخرى بموجب الاتفاقية. ثالثا: عمليات البيع لأجل التي يقوم بها البنك لشراء وبيع معدات وأجهزة لمشروعات صناعية لصالح الدول الأعضاء بالإضافة إلى عمليات الإيجار بدأ البنك مؤخرا في استعمال أسلوب البيع لأجل كوسيلة إضافية لتمويل شراء ثم بيع المعدات والأجهزة التي تحتاجها المشروعات الصناعية في الدول الأعضاء حيث يقوم البنك بتوكيل الجهة الراغبة في هذه المعدات والأجهزة بالتعاقد بشرائها باسمه ونيابة عنه ويقوم البنك بدفع ثمنها مباشرة للمورد، ويتم الاتفاق مع المورد بأن يتم شحنها مباشرة للجهة الراغبة في شرائها في الدولة العضو المعنية، وبعد أن تقوم تلك الجهة باستلامها بصفتها وكيلا عن البنك، يقوم البنك ببيع المعدات لها بثمن يزيد عن ثمن شرائها، على أن يتم دفع هذا الثمن على أقساط في مدة تتراوح بين ثلاث وعشر سنوات. رابعا: عمليات تمويل التجارة الخارجية بين الدول الأعضاء التي يقوم بها البنك الإسلامي للتنمية مستخدما أسلوب بيع المرابحة - مع الأجل والتقسيط - وذلك لتوفير المواد الوسيطة لاحتياجات الدول الأعضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 والأصل في عمليات التجارة الخارجية أن تطلب إحدى الدول الأعضاء بالبنك شراء سلعة ذات صبغة تنموية فيقوم البنك الإسلامي للتنمية بشرائها بعد دراسة الطلب والموافقة عليه ثم يبيعها لها، ويقوم البنك لتحقيق ذلك بإبرام اتفاقية يكون أطرافها بالإضافة إلى البنك الجهة المستفيدة في الدولة المعنية وجهة أخرى في تلك الدولة يعينها البنك بموجب الاتفاقية وكيلا عنه في شراء السلعة المطلوبة ثم بيعها بعد استلامها للجهة المستفيدة بالثمن الذي حدده البنك وهو ثمن الشراء الذي دفعه البنك للموردين وفقا للعقود التي أبرمها الوكيل نيابة عنه مع زيادة ربح يقرره البنك، ويغلب في اتفاقيات التجارة الخارجية أن يكون الوكيل الذي يعينه البنك كفيلا أيضا بأداء ثمن إعادة البيع المستحق على المستفيد. خامسا: النظر في تقرير اجتماع بعض علماء الشريعة والخبراء في المصارف، هذا الاجتماع الذي انعقد في مقر البنك الإسلامي للتنمية بجدة وبدعوة منه في العاشر من ربيع الأول عام 1399 هـ، وكان الغرض من الاجتماع النظر في حكم الشرعية في الفوائد المتجمعة من إيداع البنك الإسلامي للتنمية أمواله في المصارف العالمية بالدول الأجنبية (مرفق صورة من التقرير) . وفي ضوء التوصيات الواردة في تقرير العلماء الأفاضل قرر مجلس محافظي البنك تخصيص خمسين في المائة50 % للاحتياطي الخاص وذلك من مجموع المبالغ المتحصلة من ودائع البنك لدى المصارف العاملة في الأسواق الدولية والاحتياطي الخاص المشار إليه مخصص لمواجهة ما قد يطرأ على انخفاض قيمة أرصدة البنك نتيجة لتذبذب العملات المودعة بها تلك الأرصدة من العملات، كما قرر المجلس أن تخصص الخمسون في المئة الأخرى لأغراض المعونة الخاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وبناء على قرار مجلس المحافظين صارت هذه المعونة تقدم لأغراض هي: (أ) التدريب والبحوث التي تهدف إلى مساعدة وإرشاد الدول الأعضاء في تعديل مسار نشاطها الاقتصادي والمالي والمصرفي بما يتواءم وأحكام الشريعة الإسلامية، ولتحقيق ذلك تم إنشاء المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بجدة منذ عام 1401 هـ (1981 م) وهو الآن يقوم بأداء رسالته في مجالي البحوث والتدريب. (ب) توفير وسائل الإغاثة في شكل السلع والخدمات المناسبة لتقدم للدول الأعضاء والمجتمعات الإسلامية في حالة التعرض للكوارث الطبيعية أو المحن. (ج) توفير المساعدات المالية للدول الأعضاء من أجل دعم وتأييد القضايا الإسلامية. (د) تقديم المساعدة الفنية للدول الأعضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الأجوبَة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى. وبعد: فهذه أجوبة عن استفسارات فقهية قدمها البنك الإسلامي للتنمية بجدة, إلى مجمع الفقه الإسلامي. 1- تكليف المستقرضين بأداء رسم الخدمة: لا مانع من أن يطالب البنك مستقرضية بأداء مبلغ مقابل التكلفات الإدارية التي تحملها في تقويم المشروعات, ومتابعة تنفيذها, ما دام ذاك المبلغ لا يجاوز التكلفات الفعلية الواقعة في ذلك المشروع خاصة. فإن كان من الممكن تحديد هذه التكلفات بدقة, فهو الأنسب والأوفق بأحكام الشريعة فإنه لا غبار على جوازه. وإن لم يكن تحديد التكلفات الفعلية بالنسبة إلى كل مشروع خاصة, فمن الجائز أيضا أن يطالبهم البنك لا بالتكاليف الواقعية فحسب، بل بعمولة الإجراءات الإدارية التي يقوم بها البنك قبل دفع القرض أو بعده, ما دامت هذه العمولة لا تجاوز أجر المثل على مثل هذه الأعمال, فإن الذي لا يجوز مطالبة الربح أو الأجر عليه، هو عمل القرض بنفسه, أما الأعمال الإدارية بالنسبة لذلك القرض, فلا يجب شرعا أن تكون مجانية. وحينئذ يسع للبنك أن يطالب المستقرضين بنسبة مئوية من قيمة القرض تغطي التكاليف وعمولة الإجراءات الإدارية, ما دامت هذه النسبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 المئوية تمثل أجرة المثل على تلك الأعمال الإدارية حقيقة, ولا تتخذ حيلة لكسب الفوائد على القروض نفسها. ونظير ذلك ما ذكره الفقهاء أن القاضي والمفتي لا يسع لهما مطالبة الأجر من الخصم, أو المستفتي, ولكن يجوز لهما أن يطالباه بأجرة كتابة الفتوى, أوكتابة الوثائق, والمحاضر والسجلات, مادامت هذه الأجرة لا تجاوز أجر المثل على مثل هذه الأعمال, ولا تتخذ حيلة لإكتساب الأجرة على الإفتاء والقضاء نفسهما. وربما يستشكل تقدير العمولة بالنسبة المئوية, بأن الأعمال الإدارية لا تزيد ولا تنقص بزيادة مبالغ القروض ونقصانها, فينبغي أن تكون عمولتها مساوية لكل مستقرض, سواء كان مبلغ قرضه قليلا, أو كثيرا. ولكن الجواب عن هذا الإشكال أن أجر المثل لا يبتنى دائما على قدر المشقة التي يتحملها العامل, أو الأجير, بل ربما يلاحظ فيه قيمة العمل المعنوية, والنفع الذي يرجع إلى المستأجر وحينئذ تزداد الأجرة في عمل قليل المشقة, وتنقص في عمل كثير المؤنة. وجاء في الدر المختار للحصفكي: (يستحق القاضي الأجر على كتب الوثائق, والمحاضر, والسجلات قدر ما يجوز لغيره كالمفتي ,فإنه يستحق أجر المثل على كتابة الفتوى, لأن الواجب عليه الجواب باللسان دون الكتابة بالبنان, ومع هذا الكف أولى احترازا عن القيل والقال, وصيانة لماء الوجه عن الإبتذال) (1) . ويقول العلامة ابن عابدين تحته في كتاب جامع الفصولين: (للقاضي أن يأخذ ما يجوز لغيره، وما قيل في كل ألف خمسة دراهم, لا نقول به, ولا يليق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 ذلك بالفقه. وأي مشقة للكاتب في كثرة الثمن؟ وإنما أجر مثله بقدر مشقته أو بقدر عمله في صنعته أيضا ,كحكاك وثقاب يستأجر بأجر كثير في مشقة قليلة اهـ. قال بعض الفضلاء: أفهم ذلك جواز أخذ الأجرة الزائدة وإن كان العمل مشقته قليلة ونظرهم لمنفعة المكتوب له اهـ. قلت: ولا يخرج ذلك عن أجرة مثله، فإن من تفرغ لهذا العمل كثقاب اللآلئ مثلا لا يأخذ الأجر على قدر مشقته فإنه لا يقوم بمؤنته، ولو ألزمناه ذلك لزم ضياع هذه الصنعة فكان ذلك أجر مثله) (1) . ومن المعلوم أن كثيرا من الفقهاء أجازوا تحديد أجرة السمسار بالنسبة المئوية من ثمن المبيع يقول العلامة بدر الدين العيني رحمه الله في شرح صحيح البخاري: (وهذا الباب فيه اختلاف للعلماء, فقال مالك يجوز أن يستأجره على بيع سلعته, إذا بين لذلك أجلا قال وكذلك إذا قال له بع هذا الثوب ولك درهم أنه جائز وإن لم يوقت له ثمنا وكذلك إن جعل له في كل مائة دينار شيئا وهو جعل وقال أحمد لا بأس أن يعطيه من الألف شيئا معلوما وذكر ابن المنذر عن حماد والثوري أنهما كرها أجره وقال أبو حنيفة إن دفع له ألف درهم يشتري بها بزا بأجر عشر دراهم فهو فاسد وكذلك لو قال اشتر مائة ثوب فهو فاسد فإن اشترى فله أجر مثله ولا يجاوز ما مضى من الأجر) (2)   (1) رد المحتار 6/92كتاب الإجارة مسائل شتى. (2) عمدة القاري كتاب الإجارة، باب أجرة السمسرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ويقول العلامة ابن قدامة رحمه الله: (ويجوز أن يستأجر سمسارا يشتري له ثيابا ورخص في ابن سيرين وعطاء والنخعي وكرهه الثوري وحماد. ولنا أنها منفعة مباحة تجوز النيابة فيها فجاز الاستئجار عليها كالبناء ويجوز على مدة معلومة مثل أن يستأجره عشرة أيام يشتري له فيها لأن المدة معلومة والعمل معلوم أشبه الخياط والقصار فإن عين العمل دون الزمان فجعل له من كل ألف درهم شيئا معلوما صح أيضا) (1) فتبين أن الإمام مالكا وأحمدا رحمهما الله يجيزان تحديد أجرة السمسار بالنسبة المئوية والذي ذكره العيني رحمه الله من مذهب أبي حنيفة قد أفتى المتأخرون من الحنيفة بخلافه يقول ابن عابدين رحمه الله: (وفي الدلال والسمسار يجب أجر المثل، وما تواضعوا عليه أن في كل عشرة دنانير كذا فذاك حرام عليهم. وفي الحاوي: سئل محمد بن سلمة عن أجرة السمسار، فقال: أرجو أنه لا بأس به وإن كان في الأصل فاسدا لكثرة التعامل وكثير من هذا غير جائز، فجوزوه حاجة الناس إليه كدخول الحمام) (2) وبجواز تحديد أجرة السمسرة بالنسبة المئوية أفتى كثير من متأخري الحنفية مثل مولانا الفقيه الورع الشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله تعالى الذي كان يعتبر من مقدمة الفقهاء الحنيفة في الهند (3) ولا يخفى أن المؤونة والمشقة في السمسرة ربما لا تختلف   (1) المغني لابن قدامة:5/466,طبع الرياض ـ كتاب الإجارة. (2) رد المحتار:6/63ـ كتاب الإجارة قبيل باب ضمان الأجير (3) راجع إمداد الفتاوى:3/363إلى366 رقم السؤال333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 بإختلاف الأثمان ومع ذلك جاز بناء أجرة السمسرة على النسبة المئوية عند هؤلاء الفقهاء, فيقاس عليه أجرة الأعمال الإدارية في مسألتنا لعدم الفارق بينهما. ولكن هذه النسبة المئوية لا بد أن تكون ضئيلة لا يرتاب في كونها رسم الخدمة ولا يجوز أن تتعدى أجرة مثل هذه الأعمال في حال من الأحوال وإلا صارت منفعة مجلوبة بالقرض وحراما دون أي تردد. وبما أن تحديد هذه النسبة المئوية التي لا تجاوز أجر المثل يخاف فيه التعدي بما يمكن أن يتدرج إلى الاحتيال لأخذ الربا فالمناسب أن يحددها البنك في إطار مجموع التكاليف الفعلية الواقعة على مجموع القروض وذلك بأن تحدد مجموع التكاليف الفعلية التي تحملها البنك على مجموع القروض في سنة واحدة ثم توزعه على مجموع المبالغ التي أقرضها في تلك السنة وتحصل من ذلك نسبة التكاليف على كل مئة من مبالغ القرض وتجعل هذه النسبة المئوية مقابل الخدمات الإدارية يتقاضاها البنك من المستقرضين كرسم الخدمة دون أن تدخل في تفاصيل التكاليف الفعلية التي تحملها بالنسبة لكل مشروع على حده. والله سبحانه وتعالى أعلم. 2- عمليات الإيجار: يمكن إحداث عمليات الإيجار بطريقتين الطريقة الأولى: أن يشتري البنك المعدات والأجهزة بنفسه، ويقبضها كمالك لها ثم يؤجرها عملاءه لمدة معلومة بأجر معلوم وبعد انتهاء مدة الإجارة تعود المعدات والأجهزة إلى قبض البنك ويكون للفريقين الخيار سواء جددوا حينئذ عقد الإجارة مرة أخرى أو يعقدوا بينهما البيع بالثمن الذي سوف يحدد في ذلك الوقت أو يؤجرها البنك عميلا آخر أو يبيعها, إن هذه الطريقة جائزة في الشريعة الإسلامية لا غبار على جوازها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 والطريق الثاني: هو المذكور في السؤال وهو أن يؤجر البنك معدات ليست في ملكه وقت التعاقد فيشتريها العميل من الموردين باسم البنك ويجعله وكيلا له في قبضها واستلامها والقيام بالإشراف على تركيبها ثم يعتبرها مؤجرة للعميل منذ تاريخ معين يقدر البنك أن عملية التركيب والشراء تتم به ويتقاضى العميل بأجرة معينة منذ ذالك التاريخ إلى نهاية مدة الإجازة المنصوص في التعاقد حتى إذا انتهت مدة الإجارة واستوفى البنك واستوفى البنك كل ما يجب له على العميل (المستأجر) تعتبر المعدات مبيعة بيد نفس المستأجر منذ ذلك التاريخ بثمن رمزي. وإن هذا الطريق فيه عدة ملاحظات من الناحية الفقهية: أ- أن البنك يؤجر مالا يملكه وقت عقد الإجارة فضلا أن يكون مقبوضا له وإجارة مالا يملكه الإنسان باطلة وكذلك إجارة ما لم يقبضه (1) لأنه من قبيل ربح ما لم يضمن وهو منهى عنه بنص الحديث. وحل هذه المشكلة أن لا تعتبر إجارة منعقدة عند إبرام الإتفاقية وإنما تكون الإتفاقية وعدا محضا لعقد الإجارة ثم تعقد الإجارة عندما يستلم العميل المعدات المطلوبة من الموردين ويركبها فعلا كوكيل من قبل البنك فإذا تمت هذه العملية أنشأ عقد الإجارة مع البنك في ذلك التاريخ عن طريق المراسلة أو المشافهة وقبل أن يتم عقد الإجارة   (1) جاء في الشرح الكبير لابن قدامة: وكذلك لا يصح هبته ولا رهنه ولا دفعه أجرة وما أشبه ذلك ولا التصرفات المنعقدة إلى القبض لأنه غير مقبوض فلا سبيل إلى اقباضه (الشرح الكبير لابن قدامة4/119) وجاء في الفتاوى الهندية: ومنها أن يكون مقبوض المؤاجر إذا كان منقولا فإن لم يكن في قبضه فلا تصح إجارته (الفتاوى الهندية4/114) وبه يقول الشافعية في الأصح كما في مغني المحتاج:2/68و69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 تعتبر المعدات في ضمان البنك حيث إن هلكت فهلكت من ماله ويكون قبض العميل عليها قبض أمانة بحيث لا يضمنها إلا بالتعدي في حفظها وبالإشراف عليها. ب-إن الآفات الطارئة على الشيء المؤجر لست مضمونة بالنسبة للمستأجر ما لم يرتكب تعديا في حفظها وصيانتها فالظاهر أن تأمين المعدات ضد الحوادث الطارئة خلال مدة الإجارة لا يجب على المستأجر فالمناسب إذا كان التأمين لا بد منه أن يقوم البنك نفسه يفضل كونه مالكا للمعدات إذا كان التأمين تعاونيا أما إذا كان تأمينا يتضمن الغرر أو الربا أو القمار فإنه لا يجوز شرعا. ج _ إن العقد المذكور في السؤال يصرح بأن المعدات المؤجرة سوف تباع من المستأجر بعد انتهاء مدة الإجارة بثمن رمزي وإن التخريج الفقهي لهذا الوضع يمكن بطريقتين: 1. أنه بيع للمعدات معلق بانتهاء الإجارة فإن البيع مشروط بانتهاء مدة الإجارة وفراغ ذمة المستأجر من كل ما يجب عليه وإن هذا الوضع لا يصح شرعا لأن البيع من العقود التي لا تقابل التعليق ولا تصح إضافتها إلى زمان مستقبل (1) 2. أن يعتبر ذلك وعدا للبيع مشروطا في الإجارة وإنه شر ط لا يقتضيه العقد وإن مثل هذه الشروط تفسد الإجارة عند الحنفية والشافعية وأما المالكية والحنابلة فلا يفسد العقد عندهم بكثير من   (1) يقول خالد الأتاسي في شرح المجلة وأما التي لا تصح تعليقه بالشرط شرعا فضابطه كل ما كان من التمليكات ... كالبيع والإجارة. شرح المجلة العدلية 1/234 طبع كونه باكستان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الشروط التي لا يقتضيها العقد والظاهر أن شرط البيع في الإجارة يجوز عند هم في صفة واحدة, جاء في شرح الخرشي على مختصر خليل: (أن الإجارة إذا وقعت مع الجعل في صفقة واحدة فإنها تكون فاسدة لتنافر الأحكام بينهما؛ لأن الإجارة لا يجوز فيها الغرر وتلزم بالعقد ويجوز فيها الأجل ولا يجوز شيء من ذلك في الجعل؛ إذ لا يلزم بالعقد ولا يجوز فيه ضرب الأجل، وكذلك لا يجوز اجتماع بيع الأعيان مع الجعل في صفقة واحدة للعلة المذكورة بخلاف اجتماع الإجارة مع البيع في صفقة واحدة فيجوز سواء كانت الإجارة في نفس المبيع كما لو باع له جلودا على أن يخرزها البائع للمشتري نعالا أو كانت الإجارة في غير المبيع كما لو باع له ثوبا بدراهم معلومة على أن ينسج له ثوبا آخر) (1) ولكن هذا إذا كان البيع حالا واشترط معه الإجارة الحالة في نفس المبيع أو في غيره ومسألتنا على العكس من ذلك فإن الحالة فيه الإجارة واشترط معها المبيع الذي سوف ينعقد بعد انتهاء مدة الإجارة ولم أجد حكم ذلك صريحا في كتب المالكية غير أن المفهوم من كتبهم أن الأصل في الشرط عندهم الإباحة ولا يكون الشرط مفسدا إلا في إحدى الحالتين: إما أن يكون الشرط مناقضا للعقد مثل أن يبيع شيئا بشرط أن لا يتصرف فيه أو يؤجر شيئا بشرط أن لا ينتفع به وإما أن يكون الشرط يخل بالثمن بأن يزيده أو ينقصه إلى قدر غير معلوم (2) والظاهر أن اشتراط بيع المؤجر في الإجارة عند انتهاء مدتها لا يدخل في شيء من هاتين الحالتين فينبغي أن يكون جائزا عندهم والله سبحانه أعلم.   (1) الخرشي على مختصر خليل7/4 (2) راجع مواهب الجليل للحطاب 4/373و375 والخرشي 5/80و81 وبداية المجتهد2/132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 فعلى هذا التفصيل يسع لنا أخذا بقول المالكية أن نجعله وعدا للبيع مشروطا في الإجارة ولكن مقتضى ذلك أن لا ينعقد البيع إلا بعد انتهاء مدة الإجارة فإذا انتهت مدة الإجارة يجب على الفريقين أن يعقدا البيع بإيجاب وقبول مستأنف سواء كان ذلك مشافهة أو مراسلة. وهناك تخريج ثالث أقدر أن يكون صحيحا على مذاهب الأئمة الأربعة جميعا وذلك أن يعتبر الوعد بالبيع وعدا مستقبلا غير مشروط في الإجارة وتعتبر الإتفاقية المبرمة بين الفريقين مواعدة بينهما لإنشاء الإجارة أولا ولإنشاء البيع ثانيا ثم تعقد الإجارة في وقتها من غير أن يذكر فيه شرط البيع ويعقد البيع في وقته من غير أن يشترط فيه شيء آخر فيكون العقدان خالبين عن شرط وتكون الإتفاقية عبارة عن ثلاثة أشياء: 1. توكيل العميل بشراء المعدات. 2. وعد العميل باستئجارها بعد استلامها وتركيبها. 3. وعد البنك ببيعها من العميل بعد انتهاء مدة الإجارة. وبعد إبرام هذه الإتفاقية لا يكون العميل إلا وكيلا للبنك في شراء المعدات ثم تعقد الإجارة مستقلة في وقتها ويعقد البيع مستقلا في وقته إيفاء الوعد من كلا الجانبين. ثم إن هذا الوعد يجب إيفاؤه ديانة بالإجماع وأما قضاء فمذهب المالكية أن الواعد إذا أدخل الموعود له في سبب يلزم بوعده وجب عليه الإيفاء قضاء ولو أخلف الواعد بوعده وحصل الموعود له ضرر مالي بخلف وعده ضمن الواعد ذلك الضرر المالي جاء في الفروق للقرافي المالكي: (الذي يلزم من العدة اهدم دارك وأنا أسلفك أو اخرج إلى الحج أو اشتر سلعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أو تزوج امرأة وأنا أسلفك لأنك أدخلته بوعدك في ذلك أما مجردا لوعد فلا يلزم بل الوفاء به من مكارم الأخلاق) (1) وقال الشيخ محمد عليش المالكي رحمه الله في فتاواه بعد ما ذكر ثلاثة أقوال (والرابع يقضى بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور من الأقوال ... قال أصبغ سمعت أشهب , وسئل عن رجل اشترى من رجل كرما فخاف الوضيعة فأتى ليستوضعه فقال له بع وأنا أرضيك قال إن باع برأس ماله أو بربح فلا شيء عليه , وإن باع بالوضيعة كان عليه أن يرضيه ... وهذا القول الذي شهره ابن رشد في القضاء بالعدة إذا دخل بسببها في شيء , قال الشيخ أبو الحسن في أول كتاب الأول ... أنه مذهب المدونة لقولها في آخر كتاب الغرر , وإن قال اشتر عبد فلان وأنا أعينك بألف درهم فاشتراه لزمه ذلك الوعد اهـ. وهو قول ابن القاسم في سماعه من كتاب العارية وقول سحنون في كتاب العدة) (2) وأما في أصل مذهب الحنفية فإن الوعد وإن لم يكن ملزما في القضاء ولكن المتأخرين من فقهاء الحنفية قد جعلوا عدة مواعيد لازمة وجاء في شرح رد المحتار في مبحث الشرط الفاسد (لو ذكرا البيع بلا شرط   (1) كتاب الفروق للقرافي4/24و25 (2) فتح العلي المالك 1/255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ثم ذكرا الشرط على وجه الوعد جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد، إذ المواعيد قد تكون لازمة فيجعل لازما لحاجة الناس ـ ثم حكى عن الفتاوى الخيرية للرملي ((فقد صرح علماؤنا بأنهما لو ذكرا الشرط البيع بلا شرط ثم ذكرا على وجه العدة جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد)) ثم قال في آخر هذا المبحث (وقد سئل الخير الرملي عن رجلين تواضعا على بيع الوفاء قبل عقده وعقد البيع خاليا عن الشرط. فأجاب بأنه صرح في الخلاصة والفيض والتتارخانية وغيرها بأنه يكون على ما تواضعا) (1) فقد صرح علماء الحنفية في هذه العبارات الفقهية أن المواعيد ربما تجعل لازمة لحاجة الناس وكذلك ذكر العلامة خالد الأتاسي في مبحث بيع الوفاء عن الفتاوى الخانية: (وإن ذكرا البيع من غير الشرط ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة فالبيع جائز ويلزم الوفاء بالوعد لأن المواعيد قد تكون لازمة فتجعل لازمة لحالة الناس) (2) فبالنظر إلى أقوال هؤلاء الفقهاء يمكن أن تجعل مواعيد الإجارة والبيع المنصوصة في الإتفاقية لازمة في القضاء أيضا.   (1) رد المحتار باب البيع الفاسد, مطلب في البيع الفاسد إذا ذكر بعد العقد أو قبله 4/84 (2) شرح المجلة لخالد الأتاسي2/415. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 خلاصة الجواب: وخلاصة الجواب في ضوء ما قدمنا من البحث أن البنك ينبغي له أن يباشر عملية الإيجار بالطريق الأول الذي ذكرناه في أول جوابنا عن السؤال الثاني فإنه لا خلاف في جوازه ولا شبهة والخروج عن الخلاف والشبهات إلى أقصى حد ممكن, أولى. وأما إذا لم يمكن ذلك عمليا لسبب من الأسباب فلا بد لجواز هذه العملية شرعا أن يراعى في هذه العملية شروط آتية: 4- أن كون الإتفاقية لا يبت فيها إلا عقد توكيل العميل بشراء المعدات وإما إجارتها وبيعها فيذكران فيها على سبيل الوعد لا على سبيل العقد البات. 5- بعد ما يستلم العميل المعدات وينتهي من تركيبها بعقد الإجارة مشافهة أو مراسلة ولا يذكر البيع عند عقد الإجارة. 6- قبل الشروع في الإجارة تعتبر المعدات في ضمان البنك. 7- بعد إنتهاء مدة الإجارة يعقد البيع باتا. 8- إن الوعد بالإجارة والبيع المنصوص في الإتفاقية يكون لازم الإيفاء على الطرفين ديانة وقضاء. 9- إن أخلف أحد الطرفين بوعده بالإجارة أو البيع فإنه يغرم ما تحمله الطرف الآخر من الضرر المالي فعلا بسبب إخلافه في الوعد. والله سبحانه وتعالى أعلم. 3- البيع بالأجل إن الملاحظة الوحيدة في هذه العملية من الناحية الفقهية أن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 شرط صحة البيع أن يكون المبيع مقبوضا للبائع أو لوكيله ثم يخص الحنابلة هذا الشرط بالطعام فقط فيجوز عندهم بيع غيره من الأشياء قبل القبض ويخصه المالكية بالمكيل والموزون فيجوز عندهم في غيرهما ويعممه الشافعي ومحمد بن الحسن في سائر المبيعات وأبو حنيفة ويوسف رحمهما الله في غير العقار. (1) وإن الأحاديث في النهي عن البيع قبل القبض كثيرة فمنها ما أخرجه الشيخان: عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» . قال ابن عباس (وأحسب كل شيء مثله) . ومنها ما أخرجه أبو داوود (2) في قصة ابن عمر عن زيد ابن ثابت قال فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه والحاكم مستدركه 40:2وصححه وأقره عليه الذهبي. ومنها ما أخرجه البيهقي عن عبد الله بن عصمة عن حكيم بن حزام قال قلت: يا رسول الله إني أبتاع هذه البيوع فما يحل لي منها وما يحرم على؟ قال: «يا ابن أخي لا تبيعن شيئا حتى تقبضه» . هذا إسناد حسن متصل. (3) وقال ابن القيم: هذا إسناد على شرطهما (4) ومنها ما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن) قال الترمذي هذا حديث صحيح نهى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم   (1) راجع الغني لابن قدامة4/113وفتح القدير لابن الهمام6/137. (2) برقم:6533 (3) سنن البيهقي:313 (4) تهذيب السنن5/131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 يضمن والبيع قبل القبض بتضمنه لأن المبيع لا يأتي في ضمان المشتري حتى يقبضه فإن باعه قبل ذلك بالربح كان ذلك ربحا لما لم يضمنه. فلو لم تكن المعدات مكيلة أو موزونة فإن البيع وإن كان جائزا عند الحنابلة والمالكية غير أن الأحاديث المذكورة عامة في كل مبيع, فنظرا إلى هذه الأحاديث العامة والخروج عن الخلاف ينبغي للبنك أن يهتم بقبض المعدات مباشرة أو بواسطة وكيله قبل أن يعقد فيها البيع ويمكن أن يوكل البنك ممثلا له في بلد المشتري يقوم باستلام المعدات وبيعها من المشتري نيابة عن البنك ويمكن أن يوكل شركة الشحن باستلام المعدات من بائعها وحينئذ يجوز عقد البيع بعد الشحن متصلا قبل أن تصل المعدات إلى الميناء. ولئن جعل البنك نفس العميل الراغب في شرائه وكيلا بتسلمها من ميناء بلده فيجب أن يعقد البيع معه باستلام مشافهة بالهاتف مثلا أو مراسلة وتكون الإتفاقية قبل ذلك وعدا للبيع ويكون وفاءه لازما على العميل قضاء كما أسلفنا في المسألة السابقة وفي كلتا الصورتين-سواء كان الوكيل هو المشتري نفسه أو غيره-تعتبر المعدات قبل انعقاد البيع وبعد استلام الوكيل في ضمان البنك إن هلكت من ماله إذا لم يرتكب الوكيل الراغب في شرائها تعديا في حفظها وصيانتها. 4- بيع المرابحة بأجل وتقسيط: إن الطريق المذكور في السؤال لبيع المرابحة لا مانع منه شرعا لأنه يكون بيعا بعد القبض بواسطة الوكيل الذي جعله البنك وكيلا له في بلد الجهة المستفيدة ولا مانع عند بعض الفقهاء المعاصرين من كونه كفيلا أيضا بأداء الثمن المستحق على المشتري إن لم تكن الكفالة مشروطة في عقد الوكالة وأما الإتفاقية فتكون قبل انعقاد البيع وعدا للبيع ويكون لازم الإيفاء قضاء على كل واحد من أطراف الإتفاقية في ضوء ما ذكرنا في الجواب عن السؤال الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وأما زيادة ربح معين على الثمن الذي اشتراه به البنك المعدات وتأجيل الثمن إلى مدة معلومة فلا مانع منه أيضا فإن مثل هذا العقد جائز عند أكثر الفقهاء وقال الإمام أبو عيسى الترمذي رحمه الله: (وقد فسر بعض أهل العلم، قالوا: بيعتين في بيعة، أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما، فلا بأس إذا كانت العقدة على واحد منهما) (1) . أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الزهري وطاوس وسعيد بن المسيب رحمهم الله أنهم قالوا (لا بأس بأن يقول أبيعك هذا الثوب بعشرة إلى شهر أو بعشرين إلى شهرين فباعه على أحدهما قبل أن يفارقه فلا بأس به وهكذا عن قتادة) (2) وقال الإمام محمد بن حسن الشيباني رحمه الله: (قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الرجل يكون له على الرجل مائة دينار إلى اجل فإذا حلت قال له الذي عليه الدين بعنى سلعة يكون ثمنها مائة دينار نقدا بمائة وخمسين إلى اجل إن هذا جائز لأنهما لم يشترطا شيئا ولم يذكرا أمرا يفسد به الشراء) (3)   (1) جامع الترمذي 2/533 باب ما جاء في النهي عن بيعتين في بيعة حدبث1231 (2) مصنف عبد الرزاق 8/136 (3) الحجة على أهل المدينة 2/694 باب ما يجوز في الدين وما لا يجوز من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 5- الفوائد المجتمعة في البنوك الأجنبية نوافق في هذا الصدد توصيات علماء الشريعة التي قررها اجتماعهم في11-3-339هـ ونؤكد أن الفائدة هي عين الربا والقول الأصح المختار عند جمهور الفقهاء هو أن الربا حرام ولو أخذ من حربي فلا يجوز لمسلم أن يأخذه وينفقه في مصالح نفسه. ونرى أيضا أن ترك هذه الفوائد الضخمة في دول أجنبية غير مسلمة لا يناسب في الظروف الحاضرة فالمخلص ما ذكره اجتماع العلماء أن يسعى البنك في سبيل الخلاص من إيداع أمواله لدى البنوك الربوية في أقرب وق ممكن وإلى أن يم ذلك بتوفيق الله تعالى يحتفظ هذه الفوائد في حساب خاص منفصل عن موارد البنك وينفقها في إعانة هذه الفقراء. وأما تخصيص نصف هذه المبالغ للاحتياطي الخاص فلا نرى أن يجوز شرعا وذلك لأن الاحتياطي الخاص يعتبر من جملة مملوكات البنك وربما ينتفع به عند طوارئ انخفاض أسعار الأرصدة وقد ذكرنا أن الانتفاع بالفوائد المصرفية لا يجوز في الشريعة بحال. فينبغي أن يجعل البنك جميع المبالغ المتحصلة من فوائد البنوك الأجنبية لأغراض المعونة الخاصة وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعالَى أَعْلَمْ * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 (7) سندات المقارضة وسندات الإستثمار بحث عرض في ندوة فقهية اقتصادية أقيمت من قبل معهد البحوث والتدريب للبنك الإسلامي للتنمية بجدة من:18 إلى 23 جمادى الأخرى 1408هـ الموافق من 6 إلى 11 فبراير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 سندات المقارضة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فإن الموضوع المفوض إلي في هذه الندوة، وإن كان يختص بإطفاء سندات المقارضة فحسب، ولكنه يجب للدخول في هذا الموضوع أن نعرف حقيقة سندات المقارضة، وضرورتها، وتكييفها الفقهي، حتى يتضح لنا معنى إطفاء هذه السندات، وما يجب له من طريق مشروع وفق الشريعة الإسلامية. وإن فكرة سندات المقارضة إنما ظهرت لإيجاد بديل شرعي لسندات القرض الربوية التي تصدرها البنوك أو الشركات التجارية في الاقتصاد المعاصر اليوم، فلنبدأ بمعرفة حقيقتها: سندات القروض: إن سندات القروض صكوك تمثل قروضا تحصل عليها الشركة من عامة الناس على أساس الفائدة الربوية المحددة، وتكون هذه الصكوك في التعامل المعاصر قابلة للتداول، وغير قابلة للتجزئة. وإنما تضطر الشركات في بعض الأحيان إلى إصدار هذه السندات لأنها قد تحتاج في أثناء مزاولة أعمالها إلى مبالغ أكثر مما حصلت عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 من طريق إصدار الأسهم، لتزيد من قدراتها على إنجاز مشاريعها، والتوسع فيها، أو لتواجه أزمة مالية طرأت عليها. ولا ترغب الشركة في عرض اكتتاب بأسهم جديدة على الجمهور، لئلا تتضاءل أنصبة الشركاء، فتضطر إلى أن تقترض هذه المبالغ ممن يمكن الاقتراض منه. وفي جانب آخر، تكون عند كثير من الناس مبالغ أفرزوها من حاجاتهم اليومية، ورصدوها لحاجاتهم المتوقعة في المستقبل. وأن هذه المبالغ تكون مودعة في بيوت أصحابها، أو في حسابهم الجاري في البنوك، فلا يمكن أن تستغل هذه المبالغ لصالح الإنتاج الوطني، إلا بأن تدفع إلى المنتجين أو التجار قرضا، فيستعملونها في أعمالهم الإنتاجية أو التجارية. ولكن أصحاب الأموال ينفرون من إقراضها خشية أن لا يجدوها عندما تعرض لهم الحاجات التي رصدوا هذه المبالغ من أجلها. فجاءت فكرة إصدار سندات القروض تشجيعا لأصحاب الأموال في القرض، وإزالة لمخاوفهم، وذلك بطريقين: الأول: بإطماع أصحاب الأموال بتحديد فائدة ربوية على هذه القروض. والثاني: يجعل هذه السندات محلا للتداول، بأن حاملها كلما أراد أن يحصل على سيولة، جاز له أن يبيعها في السوق المفتوحة بقيمتها السوقية التي تزيد في الغالب عن قيمتها الاسمية. وبهذا استطاع النظام الاقتصادي المعاصر أن يستخدم أموال الناس المودعة في بيوتهم لعملية الإنتاج والاستثمار. ولكن هذا الطريق مبني على أساس القرض الربوي الذي لا تبيحه الشريعة الإسلامية في حال من الأحوال، وفيه من المفاسد الشرعية والاقتصادية ما ليس هذا محل بسطها. ومن هنا أراد بعض المسلمين في البلاد الإسلامية أن يأتوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ببديل لهذه السندات في شكل (سندات المقارضة) والمقارضة أو القراض عقد معروف في الفقه الإسلامي يسلم فيه رب المال أمواله إلى عامل يستثمرها بطريق التجارة، ويكون الربح الناتج من هذه التجارة بينهما بالنسبة المتفق عليها. وإن هذا العقد يسمى (مضاربة) أيضا. فالفكرة الأساسية وراء سندات المقارضة أن يحدث عقد المضاربة بين حامل هذه السندات ومصدرها، فلا يستحق صاحب السند فائدة محددة، وإنما يستحق نسبة معينة من الربح إن أثمرت التجارة ربحا. وقد أصدرت عدة بلاد إسلامية قوانين خاصة بالنسبة لهذه السندات، فنريد في هذا البحث أن ندرس هذه القوانين، وما شرعت لها من خطة عملية، ليمكن لنا البت في حكمها الشرعي. ثم نأتي باقتراح خطة عملية في ضوء الشريعة الإسلامية. وبين يدينا في هذا الوقت مشروع للقانون - وهو قانون سندات المقارضة رقم 10 لسنة 1981م الذي أصدرته المملكة الأردنية الهاشمية. القانون الأردني: القانون الأردني، فعلى ما شرحه الدكتور عبد السلام العبادي في دراسته المعروضة على مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة بعمان، يتلخص في نقاط تالية: 1- إن (سندات المقارضة) هي الوثائق المحدودة القيمة التي تصدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 بأسماء مالكيها مقابل الأموال التي قدموها لصاحب المشروع بعينه، بقصد تنفيذ المشروع واستغلاله وتحقيق الربح. 2- يحصل مالكو السندات على نسبة محدودة من أرباح المشروع، وتحدد هذه النسبة في نشرة إصدار السندات، ولا تنتج سندات المقارضة أي فوائد، كما لا تعطي مالكها الحق في المطالبة بفائدة سنوية محددة. 3- المعهود في المضاربة المعهودة في الفقه الإسلامي، أن المضاربة إذا أردت أرباحا فإنها توزع عند نهاية كل فترة على كل من رب المال والعامل حسب النسبة المتفق عليها في العقد، ولكن القانون الأردني لسندات المقارضة يصرح بأن عند كل فترة لا توزع إلا النسبة المختصة بصاحب السند، فيجوز له ترك حصته من الربح محفوظة في المشروع، ليمكن لها الإطفاء التدريجي للسندات. 4- يجب على كل صاحب سند أن يتقدم في المواعيد المحدودة في العقد، فيطالب الجهة المصدرة بإطفائه على أساس قيمته الاسمية، ويسترد ما دفعه من المال مقابل السند الذي تقدم به. وإن الجهة المصدرة ترد عليه قيمة السند من حصتها المحفوظة من الربح، كما مر في النقطة الثالثة. 5- وهكذا يسترد أصحاب السندات مقدار ما دفعوه أولا بأول، عن طريق الإطفاء التدريجي، إلى أن يتم الإطفاء لجميع السندات. وحينئذ تمتلك الجهة المصدرة المشروع كله بما فيه من أبنية، وآلات، وعروض وما إليها. فيصير المشروع كله ربح الجهة المصدرة الناتج من هذه المقارضة. 6- أما إذا أصيب المشروع بخسارة، فالأصل أن يتحملها أصحاب السندات لأنهم أرباب الأموال، ولكن صرح القانون الأردني بأن الحكومة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 كطرف ثالث تضمن لأصحاب السندات مبلغ قيمتها الاسمية، فإن أصيب المشروع بخسارة استغرقت الأموال كلها، فإن الحكومة تتدارك لأصحاب الأموال هذه الخسارة. 7- ما تدفعه الحكومة لأصحاب السندات من المال جبرا لخسائرهم، يعتبر قرضا في ذمة الجهة المصدرة، يجب عليها أداؤه إلى الحكومة عندما يتم الإطفاء الكامل لهذه السندات. هذه خلاصة الصيغة التي طرحها القانون الأردني لسندات المقارضة. ولو نظرنا فيها بإمعان. وجدنا أن فيها مؤاخذات من الناحية الشرعية. 1- إن طبيعة المضاربة أو المقارضة تقتضي أن لا يضمن لأحد من الفريقين برأس المال ولا بالربح، فإن ما يحصل لهما ليس فائدة ربوية، وإنما هو ربح تجاري، والربح التجاري إنما يستحق من جهة تحمل الأخطار، فإذا كان رأس المال مضمونا لرب المال، خرج العقد عن طبيعة المضاربة. وبما أن القيمة الاسمية للسندات في الصيغة الأردنية مضمونة لحامليها، فإن هذا الشرط لا يوافق المضاربة المعهودة في الشريعة الإسلامية. وربما يقال: إن الذي ضمن هذه القيمة ليس مصدر السندات أو العامل، وإنما ضمنته الحكومة كطرف ثالث، والممنوع في الشريعة أن يضمن أحد طرفي العقد بالمال للطرف الآخر. فأما إذا جاء شخص ثالث، وضمن لأحدهما ما يخسره في العقد فلا مانع منه شرعا. ولكن هذا العذر غير وارد في الصيغة الأردنية. لأن الحكومة لا تضمن ههنا بالقيمة الاسمية لحامل السند نيابة عن الجهة المصدرة، ولذلك يعتبر المال المدفوع قرضا للحكومة في ذمتها ويجب عليها أداؤه عندما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 يتم الإطفاء الكامل للسندات. وما دامت الجهة المصدرة تلتزم بأداء هذا المبلغ إلى الحكومة، أن الضامنة في الحقيقة هي الجهة المصدرة للسند، لا الحكومة. 2- ولئن تصورنا تعديل القانون بأن تكون الحكومة متبرعة محضة، ولا يعتبر المال المدفوع من قبلها قرضا في ذمة الجهة المصدرة، فحينئذ تدخل هذه الصيغة المعدلة في حكم (ضمان الطرف الثالث) وإن الضابط المعروف في الفقه الإسلامي أن الكفيل إنما تصح كفالته لما هو مضمون على الأصيل، كالقرض، وثمن البيع، وسائر الديون. أما ما لم يكن مضمونا على الأصيل، فلا تصح كفالته، مثل الوديعة ورأس مال الشركة والمضاربة، وما إلى ذلك، وهذا الضابط معروف في كتب الفقه ليس فيه خلاف لأحد من العلماء. وإليكم بعض النصوص الفقهية في هذا المجال, يقول المرغيناني الحنفي رحمه الله تعالى: (والكفالة بالأعيان المضمونة وإن كانت تصح عندنا، خلافا للشافعي، لكن بالأعيان المضمونة بنفسها، كالبيع بيعا فاسدا، والمقبوض على سوم الشراء، والمغصوب، لا بما كان مضمونا بغيره، كالمبيع، والمرهون، ولا بما كان أمانة، كالوديعة والمستعار والمستأجر، ومال المضاربة، والشركة) (1) . ويقول الشربيني الخطيب الشافعي رحمه الله تعالى: يصح ضمان رد كل عين ممن هي في يده مضمونة عليه، كمغصوبة، ومستعارة، ومستامة، ومبيع لم يقبض (إلى قوله) وأما إذا لم تكن العين   (1) الهداية 3: 120 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 مضمونة على من هي بيده، كالوديعة، والمال في يد الشريك، والوكيل، والوصي، فلا يصح ضمانها، لأن الواجب فيها التخلية دون الرد. (1) . ويقول ابن قدامة الحنبلي رحمه الله تعالى: ويصح ضمان الأعيان المضمونة كالمغصوب، والعارية، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد القولين (إلى قوله) فأما الأمانات، كالوديعة، والعين المؤجرة، والشركة، والمضاربة، والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط، فهذه إن ضمنها من غير تعد فيها لم يصح ضمانها، لأنها غير مضمونة على من هي في يده، فكذلك على ضامنها؛ وإن ضمنها إن تعدى فيها فظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى يدل على صحة الضمان) (2) . وجاء في كشاف القناع عن متن الإقناع في فقه الحنبلي وتصح الكفالة بالأعيان المضمونة، كالمغصوب، والعواري، لأنه يصح ضمانها، ولا تصح الكفالة بالأمانات، كالوديعة والشركة والمضاربة، إلا إن كفله بشرط التعدي (3) . ويقول ابن الهمام الحنفي رحمه الله تعالى: (وضمان الخسران باطل لأن الضمان لا يكون إلا بمضمون، والخسران غير مضمون على أحد، حتى لو قال بائع في السوق على أن كل خسران يلحقك فعلي، أو قال لمشتري العبد إن أبق العبد هذا فعلي لا يصح (4)) .   (1) . مغني المحتاج 2: 202. (2) . .المغني لابن قدامة 4: 595. (3) . كشاف القناع عن متن الإقناع 3: 364 (4) . فتح القدير 6: 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ولكن عند صحة الكفالة في هذه الأمور إنما يعني أن المبلغ المكفول به لا يلزم الكفيل قضاء، فلا يجوز للمكفول له أن يطالب به الكفيل في محكمة. ولكن التزام الطرف الثالث بأداء هذا المبلغ يمكن أن يعتبر كوعد محض يلزمه الوفاء به ديانة، لا قضاء. فلو وفى الطرف الثالث بوعده، وتبرع بالمبلغ، جاز لحامل السند أن يأخذه، ولكن لا ينفذ القاضي التزامه ككفالة. وهل نستطيع أن نجعله وعدا ملزما في القضاء أخذا بقول المالكية رحمهم الله تعالى؟ لي فيه تردد. فإننا لو جعلناه وعدا ملزما ضمانا لازما، فلا يبقى هناك معنى عدم صحة الكفالة برأس مال الشركة والمضاربة. 3- مسألة إطفاء السندات: والملاحظة الثالثة في الصيغة الأردنية: هي في إطفاء السندات بقيمتها الاسمية فإن إطفاءها بالقيمة الاسمية أخرجها عن طبيعة القراض، وجعلها قرضا. ويجب لإيضاح هذه النقطة أن نعرف التكييف الفقهي لهذا الإطفاء. فالواقع أن إطفاء هذه السندات استرداد لمال المضاربة من قبل رب المال. وإن هذا الاسترداد بسيط إذا كان مال المضاربة ناضا. أما إذا تحول مال المضاربة إلى عروض. فإن هذا الاسترداد عبارة عن بيع تلك العروض من المضارب. فالبضائع كلها مملوكة لأصحاب الأموال، ولا يستحق المضارب من عينها شيئا، وإنما يستحق نسبة من الربح إن أدرت ربحا. فمن يتقدم بالسند إلى الجهة المصدرة لإطفائها في حين أن جميع مال المضاربة أو أكثره تحول إلى مشروع صناعي أو تجاري فإنه إنما يريد أن يبيع من الجهة المصدرة حصته الشائعة في المشروع. فهذه الإطفاءات يجري عليها أحكام البيع بأجمعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فها هنا مسائل: الأولى: هل يجوز لرب المال أن يسترد مال المضاربة في حين أنه غير ناض؟ والثانية: هل يجوز اشتراط هذا الاسترداد في عقد المضاربة؟ والثالثة: إذا كان الاسترداد جائزا، فهل يكون ذلك بقيمتها الاسمية أو بقيمتها السوقية؟ أما المسألة الأولى: وهي استرداد مال المضاربة في حين أنه غير ناض، فهو بالتعبير الفقهي الدقيق فسخ للمضاربة، أو عزل للمضارب عنها (في حق ذلك السند بعينه) وقد ذكر الفقهاء أن المضارب في هذه الصورة يلزمه بيع العرض. جاء في الدر المختار: وينعزل (أي المضارب) بعزله (أي رب المال) ... فإن علم بالعزل، والمال عروض باعها (1) . وجاء في المغني لابن قدامة: (والمضاربة من العقود الجائزة، تنفسخ بفسخ أحدهما ... وإن انفسخت والمال عرض فاتفقا على بيعه أو قسمه جاز، لأن الحق لهما لا يعدوهما.. وإن طلب رب المال البيع وأبى العامل، ففيه وجهان: أحدهما: يجبر العامل على البيع وهو قول الشافعي لأن عليه رد المال ناضا كما   (1) رد المحتار: 5: 655، كتاب المضاربة، قبيل المتفرقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 أخذه، والثاني: إذا لم يكن في المال ربح أو أسقط حقه من الربح) . (1) فتبين بهذا أنه لا مانع شرعا من استرداد مال المضاربة. ويتحتم حينئذ بيع ما كان منه في شكل العروض. ومن الواضح جدا أن هذا البيع كما يمكن أن يعقد مع طرف ثالث، يجوز أن يعقد بين رب المال والمضارب، فيستطيع المضارب أن يشتري العروض لنفسه، ويؤدي قيمته المطلوبة إلى مال المضاربة، فيقبض منها رب المال رأس ماله مع حصته من الربح، والمضارب حصته من الربح فقط. وأما المسألة الثانية: وهي اشتراط هذا الاسترداد بطريق البيع في عقد المضاربة، فلا مانع منه أيضا، لكونه شرطا لا يخالف مقتضى عقد المضاربة، لأن رب المال يملك فسخ المضاربة متى شاء، وحينئذ يجب على المضارب أن يبيع العروض لينض لرب المال ماله، فشرط البيع في المضاربة شرط ملحوظ في طبيعة العقد، غير أن العروض لا تباع في المسألة المبحوث عنها إلا من المضارب، وهذا لا مانع منه شرعا، لأن رب المال والمضارب يجوز أن يجري بينهما البيع والشراء في مال المضاربة عند كثير من الفقهاء. يقول الكاساني رحمه الله تعالى: ويجوز شراء رب المال من المضارب وشراء المضارب من رب المال وإن لم يكن في المضاربة ربح في قول أصحابنا الثلاثة، وقال زفر رحمه الله تعالى: لا يجوز الشراء بينهما في مال المضاربة. وجه قول زفر رحمه الله تعالى: لا يجوز الشراء بينهما في مال المضاربة. وجه قول زفر أن هذا بيع ماله بماله، وشراء ماله بماله، إذ المالان جميعا لرب المال، وهذا لا يجوز،   (1) المغني لابن قدامة 5: 180 فروع في أحكام فسخ المضاربة، طبع بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 كالوكيل مع الموكل ولنا أن لرب المال في مال المضاربة رقبة، لا ملك تصرف، وملكه في حق التصرف كملك الأجنبي، وللمضارب فيه ملك التصرف لا الرقبة، فكان في حق ملك الرقبة كملك أجنبي، حتى لا يملك رب المال منعه من التصرف، فكان مال المضاربة في حق كل واحد منهما كمال الأجنبي، لذلك جاز الشراء بينهما) (1) . فاشتراط البيع من المضارب شرط لا ينافي مقتضى العقد، فلا بأس بذلك شرعا. المسألة الثالثة: وهي: هل يقع إطفاء السندات على قيمتها الاسمية، أو على قيمتها السوقية؟ والجواب عندي أنه يجب أن يقع على قيمتها السوقية، ثم إن كانت قيمتها السوقية أكثر من قيمتها الاسمية، فإن الفرق بين القيمتين يعتبر ربحا لمال المضاربة، فيوزع هذا الربح بين رب المال والمضارب بقدر النسبة المتفق عليها في العقد. ومثاله: لو فرضنا أن القيمة الاسمية للسند هي مائة ربية، صارت قيمته السوقية عند الإطفاء مائة وعشرين، فالواجب على المضارب إن أراد شراءه أن يدفع إلى مال المضاربة مائة وعشرين، ثم إن هذا العشرين زيادة ربحتها المضاربة، فإن كانت المضاربة على النصف مثلا، صارت العشرة منها حصة لرب المال، والعشرة الأخرى حصة للمضارب من الربح، فتوزع عليهما بهذا الطريق، وبهذا يقوم على المضارب ما اشتراه من الجزء المقابل لهذا السند من المشروع بمائة وعشرة. والدليل على أن الإطفاء يجب أن يكون على القيمة السوقية: أن مال   (1) بدائع الصنائع 6: 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 المضاربة كله مملوك لرب المال شرعا، وليس للمضارب منه إلا حصته من الربح، فلو ارتفعت قيمة السند في السوق، فليس ذلك إلا لأجل الزيادة في مال المضاربة. وإن مال المضاربة كله مملوك لرب المال بما فيه من الزيادة على رأس المال، سوى حصة المضارب من الربح، فلو شرطنا على رب المال أنه يجب عليه الإطفاء على قيمته الاسمية، فإن هذا الشرط لا يجوز شرعا، لكونه منافيا لمقتضى المضاربة. وقد صرح الفقهاء بهذا، فيقول الكاساني رحمه الله تعالى: (وإذا اشترى المضارب بمال المضاربة متاعا، وفيه فضل، أو لا فضل فيه فأراد رب المال بيع ذلك، فأبى المضارب وأراد إمساكه حتى يجد ربحا، فإن المضارب يجبر على بيعه، إلا أن يشاء أن يدفعه إلى رب المال، لأن منع المالك عن تنفيذ إرادته في ملكه لحق يحتمل الثبوت والعدم، وهو ربح لا سبيل إليه، ولكن يقال له: إن أردت الإمساك فرد عليه ماله، وإن كان فيه ربح، يقال له: ادفع إليه رأس المال وحصته من الربح، ويسلم المتاع إليك) (1) . فتبين بهذا أن صاحب السند لا يستحق القيمة الاسمية (وهي رأس المال) فحسب، وإنما يستحق معها حصته من الربح، فلا سبيل إلى إطفاء السند بقيمته الاسمية. وإنما يجب أن يقع البيع بقيمته السوقية، ثم يوزع الربح بين الفريقين بحسب النسبة المتفق عليها. وفي ضوء ما ذكرنا وفي ضوء ما ذكرنا يتحصل أن هناك أحوالا ثلاثة عند الإطفاء بالنظر إلى نسبة القيمة السوقية من القيمة الإسمية: (1) إذا كانت القيمة السوقية مساوية للقيمة الإسمية انتهى الأمر ويقع الإطفاء عليهما.   (1) بدائع الصنائع للكاساني/ 6: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 (2) إذا كانت القيمة السوقية أقل من القيمة الإسمية يقع الإطفاء على القيمة للسوقية وإن النقصان يعتبر خسارة لصاحب السند. (3) إذا كانت القيمة السوقية أكثر من القيمة الإسمية فإنه يجب أن يكون إطفاء السند على قيمة تنقص من قيمته السوقية بقدر النسبة المتفق عليها من ربح الجهة المصدرة للسند. فإن اتفقت الجهة المصدرة مع حاصل السند أن الربح يوزع بينهما أنصافا، وكان السند قيمته الاسمية مائة، فصارت قيمته السوقية عند الإطفاء يساوي مائة وعشرين، فإن الإطفاء يقع على مائة وعشرة، لأن العشرة ربح للجهة المصدرة. السؤال الأخير: والسؤال الأخير في هذه الندوة في هذا الصدد هو: (هل يتم إطفاء السندات باستبعاد عدد معين من الأسهم الكاملة، أم يكون ذلك باستبعاد جزء من كل سهم؟) . وعلى الوجه الأخير هل يعتبر ربح كل سهم متناقصا مع تناقص القيمة؟ أم يظل ربحه كاملا حتى نهاية الإطفاء؟ والجواب على هذا السؤال عندي هو أنه لا مانع شرعا من اختيار واحدة من الطريقتين المذكورتين للإطفاء، لأن الإطفاء كما أوضحنا فيما سبق بيع لمال المضاربة من المضارب، وإن هذا البيع كما يجوز في جميع مال المضاربة، يجوز في بعضه أيضا، غير أنه إذا باع رب المال نصف مال المضاربة من المضارب، وأبقى المضاربة في نصفه الآخر، وبقى هذا المجموع مصروفا في التجارة المشتركة مختلطا بعضه ببعض، فإن هذا البيع يتضمن إحداث شركة عنان في الحصة المبيعة بين المضارب ورب المال، فيكون المضارب شريكا في هذه التجارة بحصته التي اشتراها من رب المال، مع بقية مال المضاربة، فما حصل من الربح على مجموع هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 المال فإن المضارب يجوز له نصفه كشريك، ويقسم الثاني على رب المال والمضارب بالنسبة المتفق عليها بحكم المضاربة. مثال: لو أعطى زيد مائة ألف ربية إلى خالد مضاربة بالنصف، فاشترى خالد منه بضائع يتجر فيها، فإن جميع هذه البضائع مملوكة لزيد، ثم اشترى خالد النصف المشاع من هذه البضائع ولم يعزلها عن التجارة، بل استمر في استرباحها برضا زيد، فإن ذلك يقتضي أن كلا منهما قد عقد الشركة بهذا النصف المشترى، فصار نصف هذه البضائع مملوكا لخالد وبقي نصفها الآخر مملوكا لزيد، تستمر فيه المضاربة كما كانت وإن خالدا شريك لزيد بنصفها الذي يملكه، ومضاربا له في النصف المملوك لزيد. فلو حصل على هذا المجموع ربح خمسين ألفا مثلا، فإن 25 ألفا منها حصة خالد بفضل كونه شريكا و25 ألفا ربح المضاربة، فيقسم بينهما أنصافا، فيكون لزيد -/12500 بحكم كونه رب المال، ولخالد -/12500 بحكم كونه مضاربا، فيكون توزيع الأرباح بينهما كالآتي: حصة خالد بحكم الشركة -/25000 حصة خالد بحكم المضاربة -/ 12500 مجموع حصتي خالد -/37500 حصة زيد كرب المال في النصف -/12500 صافي الربح -/5000 واتضح بهذا أنه كلما يبيع رب المال جزءا من مال المضاربة إلى المضارب، فإن ربح ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الجزء ينتقل إلى المضارب بحكم كونه شريكا في التجارة بذلك الجزء، فيقل ربح رب المال، ويزداد المضارب في مجموع التجارة. وبما أن إطفاء جزء من السند بيع لما يقابله فإن ربح ذلك الجزء ينتقل إلى الجهة المصدرة، فيعتبر ربح ذلك الجزء متناقصا في حق صاحب السند فور إطفائه، ولا ينظر في ذلك إلى أن يتم إطفاء السند بكامله. ومثاله: لو كان السند قيمته الاسمية مائة ربية، فتقدم صاحب السند لإطفاء نصفه، واتفقت الجهة المصدرة على ذلك، فإن حق صاحب السند في الربح ينقص خمسين في المائة فور هذا الإطفاء، ولا يصح شرعا أن يظل ربحه كاملا حتى نهاية الإطفاء. هذا من الناحية الشرعية، ولكننا إذا نظرنا من الناحية العملية، فيبدو أن الاقتصار على الطريق الأول من الإطفاء أولى وأسهل. وذلك أن لا يقع الإطفاء إلا على عدد معين من الأسهم الكاملة، ليسهل حساب الربح عملا، ولعل ذلك يتطلب أن تكون القيمة الاسمية للسندات قصيرة لا تحتاج عند الإطفاء إلى التجزئ. والله سبحانه وتعالى أعلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 (8) الطرق المشروعة للتمويل العقاري بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من (17) إلى (23) شعبان (1410) الموافق (14) إلى (20) آذار مارس عام (1990) م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الطرق المشروعة للتمويل العقاري بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه الطاهرين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن السكن من الحاجات الأصلية التي لا يمكن المرء أن يعيش بدونها. قال الله سبحانه وتعالى: {وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} وروي عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ((ثلاث من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والمركب الهنيء)) (1) . وإن الحصول على المسكن الواسع المناسب أصبح اليوم في مقدمة المشاكل التي يجابها المرء في حياته، ولا سيما في المدن الكبيرة المزدحمة بالعمران، وذلك لتعقد الحياة وكثرة السكان، وغلاء الأسعار، والذين يستطيعون أن يشتروا أو يبنوا لأنفسهم مسكنا يفي بحاجاتهم قلة قليلة بالنسبة إلى الذين لا يستطيعون ذلك. ونظرا إلى هذا، ظهرت في معظم البلاد مؤسسات تقوم بتمويل الناس لشراء المساكن أو بنائها، ولكن أكثرها إنما تعمل في إطار النظام   (1) أخرجه أحمد والبزاز والطبراني في الكبير والأوسط. وقال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح راجع مجمع الزوائد: 4/272، وكشف الأسرار عن زوائد البزاز: 2/156، رقم (1412) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الربوي، فتقدم إلى عملائها قروضا، وتطالبهم على ذلك بالفائدة المعينة المتفق عليها في عقد التمويل، وبما أن هذا العقد يقوم على أساس الربا، وهو من أكبر المحرمات التي نهى عنها الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد، فأنه لا يجدر بأي مسلم أن يدخل في عقد يقوم على هذا الأساس الفاسد. وحينئذ، يجب على علماء المسلمين أن يقترحوا للناس طرقا للتمويل العقاري لا تعارض أحكام الشريعة الغراء، والتي يمكن أن تتخذ كبديل للتمويل الذي يقوم على أساس الربا المحرم شرعا. ونريد في هذه العجالة أن نذكر طرقا شرعية للتمويل العقاري، مع ذكر أدلة إباحتها، وبيان الثمرات الناتجة عنها، والله سبحانه هو الموفق للصواب. إن الأصل في الدولة الإسلامية أن تقوم بواجبها في توفير الحاجات الأساسية لشعبها، وتهيئ لهم هذه الحاجات، دون أن تطالبهم على ذلك بربح. وبما أن السكن من الحاجات الأساسية لكل إنسان، فمن حقه أن يحصل عليه في حدود إمكانياته المالية، ومن كانت إمكانياته ضيقة لا يستطيع بها أن يشتري مسكنا أو يبنيه من جيبه، فعلى الدولة أن تقوم بقضاء حاجته إما بأن تساعده من صندوق الزكاة، إن كان مستحقا لها، وإما بأن تبيع إليه المسكن على أساس التكلفة الفعلية، دون أن تطالبه على ذلك بربح، وإما بأن توفر له قرضا حسنا لا تتقاضى عليه أية فائدة. وإن هذه الطرق الثلاثة هي الأصل في التمويل العقاري، وهي التي توافق الروح الإسلامية، وطبيعة المجتمع الإسلامي الذي يقوم على أساس المواساة، والمساعدة على الخير، والتعاون على البر، والتألم بألم الآخرين، والارتياح براحتهم، والأخذ بأيدي الضعفاء ليرتفعوا إلى مستوى معيشة مقتصدة هنيئة. ولكن العمل بهذه الطرق الثلاثة، أو بواحدة منها، إنما يمكن لدولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 تكون لديها موارد ضخمة ووسائل جمة، فإن كلا من هذه الطرق يتطلب أموالا غزيرة، ولاسيما في عصرنا هذا الذي تضاعف فيه عدد السكان، وغلت فيه الأسعار، ولا شك أن إمكانيات الدولة يمكن-وينبغي -أن تزداد بالتقليل في مصاريف غير منتجة، والتحرز عن النفقات الباهظة التي لا يقصد منها إلا الرياء أو الترف، ولكن معظم الدول اليوم لا تستطيع أن توفر السكن لجميع سكانها بهذه الطرق، ولو بتخفيف مثل هذه النفقات. فحينئذ، لا بد من اختيار بعض الطرق التي لا تكلف الدول بالتبرع المحض لتوفير المساكن، ولا بتحمل النفقات التي لا تطاق، وتكون في الوقت نفسه سالمة من الربا، أو المحظورات الشرعية الأخرى، وهي كالتالي: 1- البيع المؤجل: فالطريق الأول هو أن يتملك الممول (1) بيتا، ثم يبيعه إلى العميل بربح بيعا مؤجلا ويستلم منه الثمن بأقساط معلومة في عقد البيع، يمكن أن يعفيه هذا البيع المؤجل مطلقا إننا في هذه عن بيان نسبة الربح، وحينئذ يكون تعيين تلك النسبة بيد الممول. ويمكن أيضا أن يعقد البيع عن طريق المرابحة، وذلك بأن يصرح في العقد بنسبة الربح الذي يتقاضاه الممول زائدا على تكاليفه الفعلية. فإن كان البيت موجودا عند التمويل، ولا يحتاج إلى بناء، فللممول أن يشتريه، ويبيعه إلى العميل بالطريق المذكور، وإن لم يكن هناك بيت مبني، ويريد العميل أن يبنيه، فحينئذ يستطيع الممول أن يوكل العميل ببناء البيت، ويكون بناؤه على ملك الممول، وإنما يشرف عليه العميل كوكيل له، وحينما يتم البناء يبيعه الممول إلى العميل بيعا مؤجلا.   (1) إننا في هذه المقالة نستعمل لفظ (الممول) لمن يريد أن يقدم التمويل العقاري ولفظ (العميل) لمن يريد أن يستفيد بذلك التمويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 هذا إذا كان العميل لا يمكن له أن يستخدم شيئا من ماله نقدا في شراء البيت أو بنائه. أما إذا كان العميل يستطيع أن يقدم حصة من تكاليف البيت نقدا، غير أن السيولة الموجودة عنده لا تفي بجميع النفقات اللازمة للشراء أو البناء، فيريد أن يطلب من الممول الحصة الباقية فقط، كما هو الحال في أكثر التمويلات العقارية اليوم، فيمكن له أن يتملك جزءا من البيت بمال نفسه، بأن يقع شراء البيت مشتركا من الممول والعميل، فيقدم الممول نصف ثمن البيت مثلا، ويقدم العميل نصفا أخر، ويكون البيت بينهما مشاعا بالنصف، ثم يبيع الممول نصفه إلى العميل بيعا مؤجلا بثمن أكثر من الثمن الذي دفعه إلى بائع البيت. أما إذا كان المقصود بناء البيت على أرض خالية، فيمكن استخدام نفس الطريق في شراء الأرض, بأن يقع شراؤها على سبيل الاشتراك من الممول والعميل، ثم يبيع الممول حصته في الأرض إلى العميل مؤجلا بثمن أكثر. فإن كانت الأرض مملوكة للعميل، أو صارت ملكا له بهذا الطريق وأراد العميل التمويل للبناء عليها، فإنه يمكن للممول والعميل أن يبنيا البيت على أساس المشاركة، فيدفع هذا نصف نفقة البناء، ويدفع ذلك النصف الآخر، فيقع البناء مشاعا بينهما بالنصف، وحينما يتم البناء يمكن للممول أن يبيع حصته من البناء إلى شريكة العميل مؤجلا بربح، وبيع الرجل حصته من البناء إلى شريكه مما لا نزاع في جوازه، وإن كان هناك خلاف في بيعها إلى الأجنبي، يقول ابن عابدين في رد المحتار: (ولو باع أحد الشريكين في البناء حصته لأجنبي، لا يجوز، ولشريكه جاز) (1) .   (1) . رد المحتار: 4/300- كتاب الشركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ولضمان أداء الثمن المؤجل يجوز أن يطلب الممول رهنا من العميل، وبالإمكان أن يمسك مستندات ملك البيت كرهن عنده، وإن هذا الطريق لا غبار عليه شرعا، غير أن الممول لا يستطيع أن يقدم مثل هذه التمويلات إلا إذا كان على ثقة كاملة بأن العميل سوف يشتري منه ما سيتملكه الممول من البيت أو البناء، لأنه إن امتنع العميل من الشراء بعدما أنفق عليه الممول نفقات باهظة، فإن ذلك لا يحدث ضررا بالممول فحسب، بل سوف يخيب هذا النظام بأسره، وبما أن البيع لا يجوز أن يضاف إلى زمن مستقبل، فلا بد لنجاح هذا الطريق أن يتعهد العميل مسبقا، بأنه يلتزم بشراء حصة الممول بعدما يمتلكها, وإن هذا التعهد من العميل، وإن كان وعدا محضا، والوعد عند أكثر الفقهاء لا يكون ملزما في القضاء، ولكن هناك عددا من الفقهاء جعلوا الوعد ملزما في الديانة والقضاء جميعا، وهو المذهب المشهور عند مالك رحمه الله، فإنه يجعل الوعد ملزما، لاسيما إذا دخل الموعود له بسببه في مؤنة، يقول الشيخ محمد عليش المالكي رحمه الله تعالى: (فالوفاء بالعدة مطلوب بلا خلاف. واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع، وفي كتاب العارية، وفي كتاب العدة، ونقلها عنه غير واحد. فقيل: يقضى بها مطلقا، وقيل: لا يقضى بها مطلقا، وقيل: يقضى بها إن كانت على سبب، وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء كقولك أريد أن أتزوج ... فأسلفني كذا ... والرابع: يقضى بها إن كانت على سبب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور من الأقوال) (1) . وقال القرافي رحمه الله تعالى: (قال سحنون: الذي يلزم من الوعد: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، لأنك أدخلته بوعدك في ذلك. أما مجرد الوعد، فلا يلزم الوفاء به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق (2) . وقال ابن الشاط في حاشيته: " الصحيح عندي القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقا، فيتعين تأويل ما يناقض ذلك. . . إلخ " (3) . وكذلك اختار المتأخرون من الحنفية لزوم الوعد قضاء في عدة من المسائل، كما في مسألة البيع بالوفاء، قال قاضي خان رحمه الله في البيع بالوفاء: " وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة جاز البيع ويلزمه الوفاء بالوعد لأن المواعدة قد تكون لازمة فتجعل لازمة لحاجة الناس " (4) وقال ابن عابدين رحمه الله: "وفي جامع الفصولين أيضا: لو ذكرا البيع بلا شرط، ثم   (1) فتح العلي المالك، للشيخ محمد عليش: 1/254و355، مسائل الالتزام. (2) الفروق، للقرافي 4: 25، الفرق الرابع عشر بعد المائتين. (3) حاشية الفروق لابن الشاط: 4/24 و25 (4) الفتاوى الخانية: 2/165، فصل في الشروط المفسدة في البيع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ذكر الشرط على وجه العقد جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد إذا المواعيد قد تكون لازمة، فيجعل لازما لحاجة الناس (1) . فبناء على هذه النصوص الفقهية، يجوز أن تجعل مثل هذه المواعيد لازمة في القضاء، فإذا تعهد العميل في الاتفاقية الموقع عليها من قبل الفريقين أنه سوف يشتري حصة الممول من البناء أو العقار، فإنه يكون ملزما بوفاء هذا الوعد قضاء وديانة. ولكن يجب أن لا يقع البيع إلا بعدما يمتلك الممول حصته 'فإن البيع لا يضاف إلى المستقبل، وعلى هذا يجب أن يقع عند ذلك عقد البيع بالإيجاب والقبول. 2- الشركة المتناقصة: والطريق الثاني للتمويل العقاري يبتنى على أساس الشركة المتناقصة. وإن هذا الطريق يتلخص في نقاط تالية: إن الممول والعميل يشتريان البيت على أساس شركة الملك، فيكون البيت مشاعا بينهما بنسبة حصة الثمن التي دفعها كل واحد منهما، فإن دفع كل منهما نصف الثمن، يكون البيت مشاعا بينهما بالنصف، وإن دفع أحدهما الثلث والآخر الثلثين، كان البيت بينهما أثلاثا، وهكذا. ثم يؤجر الممول حصته من البيت إلى العميل بأجرة شهرية أو سنوية معلومة بينهما. ج- وتقسم حصة الممول على سهام متعددة معلومة، كالعشرة مثلا. د- وبعد كل فترة دورية متفق عليها بين الفريقين (كستة أشهر مثلا) يشتري العميل سهما من هذه السهام بحصة من الثمن، فإن كانت حصة الممول مثلا تساوي ستة أشهر يشتري العميل سهما بعشرين ألف ربية.   (1) رد المحتار: 5/84 - باب البيع الفاسد، مطلب في الشرط الفاسد إذا ذكر بعد العقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 هـ - وبعد شراء سهم من حصة الممول تنتقص ملكيته في البيت، وتزداد ملكية العميل. ووبعد شراء كل سهم من حصة الممول تنتقص الأجرة بحساب ذلك السهم، فإن كانت أجرة حصة الممول بكاملها ألف ربية مثلا، فإنها تنتقص بعد شراء كل سهم بقدر مائة ربية, فتصير الأجرة بعد شراء السهم الأول تسعمائة ربية، وبعد شراء السهم الثاني ثمانمائة ربية، وهكذا. ز- حتى إذا اشترى العميل سهام الممول كلها صار البيت كله مملوكا للعميل، وانتهت الشركة والإجارة معا. وإن هذا الطريق من التمويل العقاري، يشتمل على عقود ثلاثة: العقد الأول: لإحداث شركة الملك. والثاني: إجارة حصة الممول. والثالث: بيع السهام المتعددة من حصة الممول إلى العميل. فلنتكلم أولا على كل عقد على حدة، ثم لنبحث عن مدى شرعية هذا الطريق بمجموعه. أما شراء البيت بمالهما المشترك، فلا مانع منه شرعا، ويحدث بذلك شركة الملك بينهما، فإن شركة الملك عرفها الفقهاء كالتالي: " شركة الملك هي أن يملك متعدد عينا أو دينا بإرث أو بيع أو غيرهما " (1) . فهذه الشركة في البيت قد حدثت بالشراء بمالهما المشترك. وأما إجارة حصة الممول من العميل، فهذه إجارة جائزة أيضا. لأن إجارة المشاع من غير الشريك وإن كان في جوازه خلاف بين الفقهاء، فلا خلاف في   (1) تنوير الأبصار، مع رد المحتار: 4/399 و300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 جواز إجارة المشاع من الشريك. قال ابن قدامة رحمه الله: " ولا تجوز إجارة المشاع لغير الشريك، إلا أن يؤجر الشريكان معا وهذا قول أبي حنيفة وزفر، لأنه لا يقدر على تسليمه فلم تصح إجارته. . . واختار أبو حفص العكبري جواز ذلك، وقد أومأ إليه أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد، لأنه معلوم يجوز بيعه، فجازت إجارته كالمفروز، ولأنه عقد في ملكه يجوز مع شريكه، فجاز مع غيره " (1) وجاء في الدر المختار للحصكفي: (وتفسد-أي الإجارة-أيضا بالشيوع ... إلا إذا آجر كل نصيبه أو بعضه من شريكه، فيجوز، وجوازه بكل حال " (2) وبما أن إجارة الحصة المشاعة تقع في الطريق المذكور من الشريك، فإنها جائزة بإجماع الفقهاء. أما بيع الحصة الشائعة من الدار، فإنه يجوز أيضا، فإن كان المبيع حصة في العرضة والبناء كليهما، فلا خلاف في جواز البيع، وأما إذا كان المبيع الحصة الشائعة في البناء فقط، فيجوز البيع مع شريكه بالإجماع، وفي جواز البيع من الأجنبي خلاف، وقدمنا ما ذكره ابن عابدين في رد المحتار من قوله " ولو باع أحد الشريكين في البناء حصته لأجنبي لا يجوز، ولشريكه جاز " (3) وبما أن البيع ههنا لا يقع إلا من الشريك، فلا خلاف في جوازه.   (1) المغني، لابن قدامة رحمه الله: 6/137. (2) الدر المختار، مع رد المحتار: 6/47 و48. (3) رد المحتار: 4/300، كتاب الشركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فظهر بهذا أن هذه العقود الثلاثة من المشاركة في الملك، والإجارة، والبيع، كل واحد منها صحيح في حد ذاته، فإن وقعت هذه العقود من غير أن يشترط أحدها في الآخر، بل يعقد كل منها مستقلا، فلا غبار على جوازها. وأما إذا وقعت هذه العقود باتفاق سابق بين الفريقين، فربما يبدو أن ذلك لا يجوز، لكونه صفقة في صفقة، أو لكون العقد الواحد شرطا زائدا في العقد الآخر، وإن الصفقة في الصفقة لا تجوز، حتى عند من يجوز بعض الشروط في البيع، كالحنابلة، قال ابن قدامة رحمه الله: " الثاني - أي النوع الثاني من الشرط - فاسد، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: أن يشترط على صاحبه عقدا آخر، كسلف أو قرض، أو بيع أو إجارة، أو صرف الثمن أو غيره، فهذا يبطل البيع، ويحتمل أن يبطل الشرط وحده، المشهور في المذهب أن هذا الشرط فاسد يبطل به البيع، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل بيع وسلف، ولا شرطان في بيع)) . قال الترمذي: هذا حديث صحيح، ((ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة)) حديث صحيح وهذا منه، قال أحمد: " وكذلك كل ما في معنى ذلك، مثل أن يقول: على أن تزوجني بابنتك، أو على أن أزوجك ابنتي. فهذا كله لا يصح، قال ابن مسعود صفقتان في صفقة ربا، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء، وجوزه مالك وجعل العوض المذكور في الشرط فاسدا " (1) . ولكن هذا المحظور إنما يلزم إذا كان العقد الواحد مشروطا بالعقد   (1) الشرح الكبير على المقنع لشمس الدين ابن قدامة: 4/53، وبمثله ذكر الموفق بن قدامة في المغني: 4/290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الآخر في صلب العقد، أما إذا وقعت هناك مواعدة بين الفريقين، بأنهما يعقدان الإجارة في الوقت الفلاني، والبيع في الوقت الفلاني، وانعقد كل عقد في وقته مطلقا عن أي شرط، فالظاهر أنه لا يلزم منه الصفقة في الصفقة وقد صرح به الفقهاء في عدة مسائل ولا سيما في مسألة البيع بالوفاء وقدمنا عن الفتاوى الخانية: (وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكر الشرط على وجه المواعدة جاز البيع، ويلزمه الوفاء بالوعد، لأن المواعدة قد تكون فتجعل لازمة لحاجة الناس) . وبمثله صرح علماء المالكية في مسألة البيع بالوفاء الذي يسمى عندهم " بيع الثنايا "، فإنه لا يجوز عندهم في الأصل. قال الحطاب: " لا يجوز بيع الثنايا، وهو أن يقول: أبيعك هذا الملك، أو هذه السلعة على أن آتيك بالثمن إلى مدة كذا، أو متى آتيك به فالبيع مصروف عنى " (1) ولكن إذا وقع البيع مطلقا عن هذا الشرط، ثم وعد المشتري البائع بأنه سوف يبيعه إن جاءه بالثمن، فإن هذا الوعد صحيح لازم على البائع، قال الحطاب رحمه الله: (قال في معين الحكام: ويجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد العقد بأنه إن جاء بالثمن إلى أجل كذا، فالمبيع له ويلزم المشتري متى جاءه بالثمن في خلال الأجل أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه، ولا يكون للمشتري تفويت في خلال الأجل، فإن فعل ببيع أو هبة أو شبه ذلك نقض إن أراده البائع، ورد إليه) (2)   (1) . تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب: ص 233. (2) . المصدر السابق: ص 239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 هذا إذا انعقد البيع مطلقا من غير شرط ووقعت المواعدة بعد انعقاد البيع، وقد صرح عدة من الفقهاء بأن الحكم كذلك لو وقعت المواعدة قبل انعقاد البيع، ثم انعقد البيع مطلقا من غير شرط. قال القاضي ابن سماوة الحنفي رحمه الله: " لو شرطا فاسدا قبل العقد، ثم عقدا، لم يبطل العقد، ويبطل لو تقارنا) (1) . وقال في مسألة البيع بالوفاء: " وكذا لو تواضعا الوفاء قبل البيع، ثم عقدا بلا شرط الوفاء فالعقد جائز، ولا عبرة بالمواضعة السابقة " (2) . وحكاه ابن عابدين في رد المحتار، واعترض عليه، قال: " في جامع الفصولين أيضا: لو شرطا فاسدا قبل العقد ثم عقدا، لم يبطل العقد. اهـ. قلت: وينبغي الفساد لو اتفقا على بناء العقد عليه كما صرحوا به في بيع الهزل كما سيأتي آخر البيوع " (3) . ولكن تعقبه العلامة محمد خالد الأتاسي رحمه الله تعالى بقوله: " أقول: هذا بحث مصادم للمنقول (أي ما هو منقول في جامع الفصولين) كما علمت، وقياسه على بيع الهزل قياس مع الفراق، فإن الهزل، كما في المنار، هو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له ولا ما يصلح له اللفظ استعارة، ونظره بيع التلجئة، وهو كما في الدر المختار، أن يظهرا عقدا وهما   (1) . جامع الفصولين: 1/237 (2) . المرجع السابق. (3) . رد المحتار: 5/84 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 لا يريدانه. وهو ليس ببيع في الحقيقة، فإذا اتفقا على بناء العقد عليه فقد اعترفا بأنهما لم يريدا إنشاء بيع أصلا، وأين هذا من مسألتنا؟ ... وعلى كل حال، فاتباع المنقول أولى (1) . ولهذا أفتى جماعة من متأخري الحنفية بأن المواعدة المنفصلة عن عقد البيع، سواء كانت قبل العقد أو بعده، لا يلتحق بأصل العقد، ولا يلزم عليه البيع بشرط، أو صفقة في صفقة، فلا مانع حينئذ من جواز العقد (2) وربما يقع هاهنا إشكال، وربما يقع هاهنا إشكال، وهو أن المواعدة إذا وقعت قبل العقد ، فالظاهر أنها ملحوظة عند العقد لدى الفريقين ولو لم يتلفظا بها صراحة عند الإيجاب والقبول، وأنهما لا يبنيان العقد المطلق إلا على أساس ذلك الوعد السابق، فلم يبق هناك فرق بين هذا العقد المطلق الذي سبقه مواعدة من الفريقين، وبين العقد الذي شرط فيه العقد الآخر صراحة، وينبغي أن يكون الحكم دائرا على حقيقة المعاملة دون صورته، وأن تكون المواعدة السابقة في حكم الشرط في البيع في عدم الجواز. والجواب عن هذا الإشكال على ما ظهر لي - والله سبحانه أعلم - أن الفرق بين المسألتين ليس في الصورة فحسب، بل هناك فرق دقيق في الحقيقة أيضا وذلك أن العقد الواحد إن كان مشروطا بالعقد الآخر، والذي يعبر عنه بالصفقة في الصفقة، لا يكون عقدا باتا، وإنما يتوقف على عقد آخر بحيث لا يتم العقد الأول إلا به، فكان في معنى العقد المعلق أو العقد   (1) . شرح المجلة للأتاسي: 2/61. (2) . راجع عطر الهداية ص:109، للعلامة فتح محمد اللكنوي، رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 المضاف إلى زمن مستقبل، فإذا قال البائع للمشتري بعتك هذه الدار على أن تؤجر الدار الفلانية لي بأجرة كذا، فمعناه: أن البيع موقوف على الإجارة اللاحقة، ومتى توقف العقد على واقع لاحق، خرج من حيز كونه باتا، وصار عقدا معلقا، والتعليق في عقود المعاوضة لا يجوز، ولو حكمنا بمقتضى هذا العقد، وامتنع المشتري من الإجارة، فإن ذلك يستلزم أن يرتفع البيع تلقائيا، لأنه كان مشروطا بالإجارة، وعند فوات الشرط يفوت المشروط. فالعقد إذا شرط معه عقد آخر، كان ذلك في معنى تعليق العقد الأول على العقد الثاني، وصار كأنه قال: (إن اجرتني الدار الفلانية بكذا فداري بيع عليك بكذا) . وهذا مما لا يجيزه أحد، لأن البيع لا يقبل التعليق. وهذا بخلاف ما لو ذكرا ذلك على سبيل المواعدة في أول الأمر، ثم عقدا البيع مطلقا عن شرط، فإن البيع ينعقد من غير تعليق بيعا باتا ولا يتوقف تمامه على عقد الإجارة، فلو امتنع المشتري من الإيجارة بعد ذلك، فإنه لا يؤثر على هذا البيع البات شيئا، فيبقى البيع تاما على حاله. وغاية الأمر أن يجبر المشتري على الوفاء بوعده على القول بلزوم الوعد. لأنه أدخل البائع في البيع بوعده، فلزم عليه أن يفي بذلك الوعد قضاء عند المالكية. وهذا شيء لا أثر له على البيع البات الذي حصل بدون أي شرط، فإنه يبقى تاما، ولو لم يف المشتري بوعده. وبهذا تبين أن البيع إذا اشترط فيه العقد الآخر مترددا بين التمام والفسخ، وإن هذا التردد يورث فيه الفساد، بخلاف البيع المطلق الذي سبقه الوعد بالشيء، فإنه لا تردد في تمام البيع، فإنه يتم في كل حال، وغاية الأمر أن يكون الوعد السابق لازما على المشتري على قول من يقول بلزوم الوعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فالطريق المشروع للشركة المتناقصة الذي لا غبار عليه أن تقع هذه العقود الثلاثية في أوقاتها مستقلة بحيث يكون كل عقد منفصلا عن الآخر، ولا يشترط عقد في عقد، نعم، يجوز أن تحدث بينهما اتفاقية يتواعدان فيها بالدخول في هذه العقود، فيتفقان على أنهما يشتريان الدار الفلانية بمالهما المشترك، ثم يؤجر الممول حصته إلى العميل بأجرة معلومة، ثم يشتري العميل حصة الممول بأقساط متعددة إلى أن يتملك الدار كلها. ولكن هذه الاتفاقية لا تكون إلا وعدا من الفريقين بإنشاء هذه العقود، ولا ينشأ أحد من هذه العقود إلا في وقته الموعود بإيجاب وقبول، ويقع العقد حينئذ مطلقا من أي شرط فلا يشترط الإجارة في البيع، ولا البيع في الإجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 (9) زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من (17) إلى (23) شعبان (1410) الموافق (14) إلى (20) آذار مارس عام (1990) م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا ومولانا محمد النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد: 1 - فموضوع هذا البحث معرفة الحكم الشرعي في مسألة زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص، وإعادته إلى محله بعملية من عمليات الطب الحديث، هل يجوز ذلك شرعا؟. وما حكم من فعل ذلك؟ 2 - وبما أن المسألة أخذت اليوم مكانها من الأهمية بفضل ما وصل إليه التقدم الطبي في مجال زرع الأعضاء الذي لم يكن متصورا في الأزمنة الماضية، فقد يزعم الزاعمون أنها مسألة مستجدة لا يمكن أن يوجد لها ذكر صريح في كتب الفقهاء السالفين، ولكن هذا الزعم غير صحيح. والواقع أن الفقهاء المتقدمين ذكروا هذه المسألة ودرسوها من النواحي المختلفة بما يدل في جانب على مدى توسعهم في تصوير المسائل ودقة أنظارهم في بيان الأحكام، وفي جانب آخر، على أن إعادة العضو إلى محله لم يكن أمرا غير متصور في عهدهم، بل كان أمرا عرفه وجربه المتقدمون، حتى في القرن الثاني من الهجرة، إذ يتحدث عنه الإمام مالك رحمه الله تعالى بكل بصيرة طبية لا تزال صادقة حتى اليوم. 3 - وقبل أن آتي بنصوص الفقهاء في المسألة أريد أن أحدد مجال البحث في نقاط آتية: نقاط البحث: وقبل أن آتي بنصوص الفقهاء في المسألة أريد أن أحدد مجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 البحث في نقاط آتية: (1) إذا جنى رجل على آخر، فقطع عضوا من أعضائه، ثم أعاده المجني عليه إلى محله قبل استيفاء القصاص أو الأرش، هل يؤثر ذك في سقوط القصاص أو الأرش؟ ولو أعاده بعد استيفاء القصاص، هل يؤثر ذلك فيما استوفاه من القصاص أو الأرش؟ (2) إذا قطع عضو الجاني قصاصا، فهل يجوز له أن يعيده إلى محله بطريق الزراعة؟ أو يعتبر ذلك إبطالا لحكم القصاص؟ وإن أعاد الجاني عضوه المقتص منه هل يجوز للمجني عليه أن يطالبه بالقصاص مرة ثانية؟ (3) إن زرع أحد عضوه المنفصل عنه (سواء كان في حد أو قصاص أو لسبب آخر فأعاده إلى محله، هل يعتبر ذلك العضو طاهرا؟ أو يعتبر نجسا، بحيث لا تجوز معه الصلاة، فيؤمر بقلعه مرة أخرى؟ (4) هل يجوز للسارق المقطوعة يده أو رجله أن يعيدهما إلى محلهما؟ أو يعتبر ذلك اعتداء على الحكم الشرعي في قطع يد السارق، ولئن فعل ذلك أحد، هل تقطع يده مرة ثانية؟ وأريد أن أتكلم عن كل واحدة من هذه المسائل في فصل مستقل وبالله التوفيق. المسألة الأولى: زرع المجني عليه عضوه أما المسألة الأولى، وهي أن يعيد المجني عليه عضوه المقطوع إلى محله، فأول من سئل عنها وأفتى فيها فيما أعلم: إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى. فقد جاء في المدونة الكبرى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 "قلت: (القائل سحنون) أرأيت الأذنين إذا قطعهما رجل عمدا، فردهما صاحبهما فثبتتا، أو السن إذا أسقطها الرجل عمدا، فردها صاحبها فبرئت وثبتت، أيكون القود على قاطع الأذن أو قالع السن؟ (قال: أي ابن القاسم) سمعتهم يسألون عنها مالكا، فلم يرد عليهم فيها شيئا (قال) وقد بلغني عن مالك أنه قال: في السن القود وإن ثبتت، وهو رأيي، والأذن عندي مثله أن يقتص منه. والذي بلغني عن مالك في السن لا أدري أهو في العمد يقتص منه، أو في الخطأ أن فيه العقل، إلا أن ذلك كله عندي سواء في العمد وفي الخطأ (1) ثم تتابعت فيه الروايات عن الإمام مالك وتلامذته رحمهم لله، واتفقت الروايات جميعا على أن المجني عليه في العمد إن أعاد عضوه إلى محله، فلا يسقط به القصاص عن الجاني، سواء كان العضو قد عاد إلى هيئته السابقة أو بقي فيه عيب، أما إذا كانت الجناية خطا فإن قضي على الجاني بالدية، ثم أعاد المجني عليه عضوه بعد القضاء، فالروايات متفقة أيضا على أن الأرش لا يرد. وأما إذا أعاد عضوه قبل القضاء على الجاني بالدية، ففيه ثلاث روايات. وقد فصل ابن رشد الجد هذه المسألة في كتابه "البيان والتحصيل" فقال: "وأما الكبير تصاب سنه فيقف له بعقلها، ثم يردها صاحبها فثبتت، فلا اختلاف بينهم في أنه لا يرد العقل إذ لا ترجع على قوتها. هذا مذهب ابن القاسم، وقول أشهب في كتاب ابن المواز، وروايته عن مالك.   (1) . المدونة الكبرى، باب ما جاء في دية العقل والسمع والأذنين: 16/113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 5- والأذن بمنزلة السن في ذلك، لا يرد العقل إذا ردها بعد الحكم فثبتت واستمسكت. وإنما اختلف فيهما إذا ردهما، فثبتتا، واستمسكتا، وعادتا لهيئتهما قبل الحكم على ثلاثة أقوال: أحدهما قوله في المدونة إنه يقضى له بالعقل فيهما جميعا، إذ لا يمكن أن يعودا لهيئتهما أبدا. وقال أشهب إنه لا يقضي له فيهما بشيء إذا عادا لهيئتهما قبل الحكم. والثالث: الفرق بين السن والأذن، فيقضى بعقل السن وان ثبتت، ولا يقضى له في الأذن بعقل إذا استمسكت وعادت لهيئتها، وان لم تعد لهيئتها عقل له بقدر ما نقصت ... ولا اختلاف بينهم في أنه يتم له بالقصاص فيهما، وان عادا لهيئتهما (1) فالحاصل أن القصاص لا يسقط بالإعالة في حال من الأحوال، وأما الأرش ففيه ثلاث روايات: (1) لا يسقط الأرش بإعادة عضو المجني عليه. (2) يسقط الأرش بذلك. (3) يسقط الأرش في الأذن ولا يسقط في السن. 7 - ووجه الفرق بين السن والأذن على هذه الرواية الثالثة ما حكاه العتبي في المستخرجة عن ابن القاسم برواية يحيى، قال: "وسئل (يعني ابن القاسم) عن الرجل يقطع أذن الرجل فيردها وقد كانت اصطلمت فثبتت، أيكون له عقلها تاما؟ فقال: إذا ثبتت وعادت لهيئتها فلا عقل فيها، فإن كان في   (1) . البيان والتحصيل: 16/ 66 و67، كتاب الديات الثالث، وراجع أيضا الحطاب: 6/262، والمواق: 6/ 264. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ثبوتها ضعف، فله بحساب ما يرى من نقص قوتها. قبل له: فالسن تطرح، ثم يردها صاحبها فتثبت، فقال: يغرم عقلها تاما، قيل له: فما فرق بين هذين عندك؟ قال: لأن الأذن إنما هي بضعة، إذا قطعت ثم ردت، استمسكت، وعادت لهيئتها، وجرى الدم والروح فيها. وإن السن إذا بانت من موضعها ثم ردت لم يجر فيها دمها كما كان أبدا، ولا ترجع فيها قوتها أبدا. وإنما ردها عندي بمنزلة شيء يوضع مكان التي طرحت للجمال، وأما المنفعة فلا تعود إلى هيئتها أبدا. وشرحه ابن رشد ببيان الروايات الثلاثة المذكورة (1) ولكن لم يذكر أحد منهم وجه الفرق بين القصاص والأرش، على الروايات التي تقول بسقوط الأرش دون القصاص عن الجاني بعد إعادة المجني عليه عضوه المقطوع. والذي يظهر لي - والله أعلم - أن القصاص إنما يجب في العمد جزاء للاعتداء القصدي من الجاني، عملا بقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} ، وبقوله تعالى: {والجروح قصاص} ، وإن هذا الاعتداء واقع لا يزول بإعادة المجني عليه عضوه إلى محله، فلا يسقط القصاص في حال من الأحوال. أما الأرش، فإنما يجب في الخطأ الذي لا يتعمد فيه الجاني اعتداء على أحد، فليس الأرش إلا مكافأة للضرر الحاصل من فعله، واستدراكا لما فات المجني عليه من العضو أو المنفعة، فإن عاد العضو بمنفعته الفطرية وجماله السابق، إنعدم ضرر المستوجب للأرش، فسقط الأرش. ولكن الذي يظهر أن المختار عند المالكية عدم الفرق بين القصاص   (1) . البيان والتحصيل لابن رشد: 16 /158و 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 والأرش، حيث لا يسقط واحد منهما، هكذا ذكره خليل في مختصره، واختاره الدردير والدسوقي وغيرهما، وعلله الدردير بأن الموضحة إذا برئت من غير شين، فإنه لا يسقط الأرش، فكذلك الطرف إذا أعيد، فإنه لا يسقط أرشه مع كون كل منهما خطا (1) مذهب الحنفية في المسألة: ثم الذي ذكر هذه المسألة بعد الإمام مالك، هو الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله، فقال في كتابه "الأصل": "وإذا قلع الرجل سن الرجل، فأخذ المقلوعة سنه فأثبتها في مكانها، فثبتت، وقد كان القلع خطا، فعلى القالع أرش السن كاملا، وكذلك الأذن) (2) فاختار محمد رحمه الله أن إعادة العضو لا يسقط الأرش عن الجاني. ثم أخذ عنه الفقهاء الحنفية فقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: (واذا قلع الرجل سن رجل خطأ، فأخذ المقلوع سنه، فأثبتها في مكانها فثبتت، فعلى القالع أرشها، لأنها وان ثبتت لا تصير كما كانت، ألا ترى أنها لا تتصل بعروقها؟ ... وكذلك الأذن إذا أعادها إلى مكانها، لأنها لا تعود إلى ما كانت عليه في الأصل، وإن التصقت) (3) وهنا علل السرخسي عدم سقوط الأرش بكون العضو لا يعود إلى حالته السابقة بعد الالتصاق، وفرع عليه المتأخرون أن "هذا إذا لم يعد إلى حالته الأولى بعد الثبات في المنفعة والجمال، والغالب أن لا يعود إلى   (1) . الدسوقي على الدر ير: 4/256 و 278. (2) . كتاب الأصل لمحمد بن الحسن الثيباني: 4/467، كتاب الديات. (3) . المبسوط للسرخسي:26/98، والمسألة مذكورة أيضا في الهداية وشروحها، راجع فتح القدير:9/227، وبدائع الصنائع: 7/315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 تلك الحالة. وإذا تصور عود الجمال والمنفعة بالإثبات لم يكن على القالع شيء، كما لو نبتت السن المقلوع، كما ذكره الزيلعي وغيره عن شيخ الإسلام) . (1) ولكن المسألة عند الحنفية مفروضة في جناية الخطأ، كما رأيت في عبارة الإمام محمد والإمام السرخسي، ولهذا اكتفوا بذكر سقوط الأرش، ولم أجد في كتب الحنفية حكم العمد، وأنه هل يسقط القصاص عندهم فيه بإعادة العضو أولا؟ والظاهر أنه لا يسقط وإن أعاده المجني عليه إلى هيئته، وذلك لما ذكرنا في الحديث عن مذهب المالكية (فقرة 8) من أن القصاص جزاء للاعتداء القصدي من الجاني، وهو واقع لا يزول بهذه الإعادة، فلما ذهب الحنفية إلى أن الأرش لا يسقط بها، فلأن لا يسقط بها القصاص أولى (2) نعم، ذكر الحنفية أن القصاص يسقط فيما إذا ثبتت سن المجني عليه بنفسها، ولكن لا يقاس عليه مسألة زرع العضو وإعادته، وذلك لأمرين: الأول أن العضو المزروع لا يكون في قوة النابت بنفسه، والثاني: أن نبت السن بنفسها ربما يدل على أن السن الأولى لم يقلعها الجاني من أصلها، فتصير شبهة في وجوب القصاص، بخلاف ما أعيد بعملية، فإنه ليس في تلك القوة، ولا يدل على أن الجاني لم يستأصله. فالظاهر أن إعادة العضو من قبل المجني عليه لا يسقط القصاص عند الحنفية أيضا كما لا يسقط عند المالكية.   (1) تبيين الحقائق للزيلعي: 6/137، والبحر الرائق: 8/305، ورد المحتار لأبن عابدين: 6/585. (2) رد المحتار: 6 /585و 586. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 مذهب الشافعية: ثم تكلم في المسألة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقال في كتاب الأم: " وإذا قطع الرجل أنف رجل أو أذنه أو قلع سنه فأبانه، ثم إن المقطوع ذلك منه ألصقه بدمه، أو خاط الأنف أو الأذن، أو ربط السن بذهب أو غيره، فثبت وسأل القود فله ذلك، لأنه وجب له القصاص بإبانته، (1) وذكر النووي رحمه الله هذه المسألة في الروضة، فألحق بها مسألة الدية، فقال: "قطع أذن شخص، فألصقها المجني عليه في حرارة الدم، فالتصقت، لم يسقط القصاص ولا الدية عن الجاني، لأن الحكم يتعلق بإبانة، وقد وجدت) (2) فاتضح بهذه النصوص أن مذهب الشافعي في هذا مثل المختار من مذهب المالكية أن إعادة العضو المجني عليه لا يسقط القصاص ولا الأرش. مذهب الحنابلة: وأما الحنابلة، فلهم في هذه المسألة وجهان. وقد ذكرهما القاضي أبو يعلى، فقال: "إذا قطع أذن رجل فأبانها، ثم ألصقها المجني عليه في   (1) . كتاب الأم للشافعي: 6 /52 تفريع القصاص فيما دون النفس من الأطراف. (2) . روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي: 9/197، وراجع أيضا المجموع شرح المهذب: 17/252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 الحال فالتصقت، فهل على الجاني القصاص أم لا؟ قال أبو بكر في كتاب الخلاف: لا قصاص على الجاني، وعليه حكومة الجراحة، فإن سقطت بعد ذلك بقرب الوقت أو بعده كان القصاص واجبا، لأن سقوطها من غير جناية عليها من جناية الأول، وعليه أن يعيد الصلاة. واحتج بأنها لو بانت لم تلتحم، فلما ردها والتحمت كانت الحياة فيها موجودة، فلهذا سقط القصاص. وعندي أن على الجاني القصاص، لأن القصاص يجب بالإبانة، وقد أبانها. ولأن هذا الإلصاق مختلف في إقراره عليه، فلا فائدة له فيه، (1) وكذلك ذكر ابن قدامة القولين، ولم يرجح واحدا منهما، وكذلك فعل أبو إسحاق ابن مفلح (2) وذكر المرداوي وشمس الدين ابن مفلح القولين، واختار قول القاضي انه لا يسق القصاص (3) واختار البهوتي قول أبي بكر في أنه يسقط القصاص والأرش كلاهما (4) القول الراجح في المسألة: والقول الراجح عندنا ما ذهب إليه الجمهور من المالكية والحنفية والشافعية، وجماعة من الحنابلة أن زرع المجني عليه عضوه لا يسقط القصاص أو الأرش من الجاني، لأن القصاص جزاء للاعتداء الصادر منه، وقد حصل هذا الاعتداء بإبانة العضو، فاستحق المجني عليه القصاص في   (1) . المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين، لأبي يعلى: 2 /267و 268. (2) . المغني لابن قدامة: 9/422، والشرح الكبير: 9/431. والمبدع لابن مفلح:8/309 (3) . الإنصاف للمرداوي: 10/ 100، والفروع لابن مفلح: 5/655. (4) . كشاف القناع للبهوتي: 5/641، وشرح منتهى الإرادات: 3/296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 العمد، والأرش في الخطأ، فلا يسقط هذا الحق بإعادة عضوه إلى محله، وذلك لأمور: (1) إن إعادة العضو من قبل المجني عليه علاج طبي للضرر الذي لحقه بسبب الجناية، وان البرء الحاصل بالعلاج لا يمنع القصاص والأرش، كما في الموضحة، إن عالجها المجني عليه فبرء، فإنه لا يمنع حقه في استيفاء القصاص أو الأرش. فكذلك العضو إذا أعيد بعد الإبانة من الجاني، فإنه لا يؤثر فيما ثبت له على الجاني من قصاص أو أرش. (2) إن إعادة العضو من قبل المجني عليه، وإن كان يستدرك له بعض الضرر، فإن العضو لا يعود عادة إلى ما كان عليه من المنفعة والجمال، فإسقاط القصاص أو الأرش فيه تفويت لحق المجني عليه بعد ثبوته شرعا. إن القصاص أو الأرش قد ثبت بالقلع يقينا، وذلك بالنصوص القطعية، فلا يزول هذا اليقين إلا بيقين مثله، وليس هناك نص من القرآن والسنة يفيد سقوط القصاص بإعادة العضو. 16 - ولما ثبت أن إعادة المجني عليه عضوه لا يسقط القصاص عن الجاني، فلو قطع رجل عضوه المزروع مرة ثانية، هل يجب فيه القصاص مرة أخرى؟ قد صرح أكثر الفقهاء بأنه لا يجب، وعلل بعضهم بأن العضو المزروع لا يعود إلى هيئته الأصلية في المنفعة والجمال، فهذا الإلصاق لا يعتد به، قال الموصلي الحنفي رحمه الله تعالى: "والمقلوع لا ينبت ثانيا، لأنه لا يلتزق بالعروق والعصب، فكان وجود هذا النبات وعدمه سواء، حتى لو قلعه إنسان لا شيء عليه (1)   (1) . الاختيار لتعليل المختار، للموصلي: 5/ 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 أمكن في كثير من الأعضاء المقلوعة أن تعاد فتلزق بالعروق والعصب، فلا يتأتى فيها التعليل الذي ذكره الموصلي، فالظاهر في حكم أمثالها أنه لا يوجب القصاص، لأن العضو المزروع، وإن التلزق بالعروق والعصب، فإنه عضو معيب لا يكون بمثابة العضو الأصلي، فلا يقطع به العضو الصحيح في أصل خلقته. ولكن يجب أن يلزم به الأرش على الجاني الثاني. وهو قول الحنابلة. قال البهوتي رحمه الله: " (وإن قلعه) أي ما قطع ثم رد فالتحم (قالع بعد ذلك فعليه ديته) ولا قصاص فيه، لأنه لا يقاد به الصحيح بأصل الخلقة لنقصه بالقلع الأول" (1) المسألة الثانية إعادة الجاني عضوه المقطوع بالقصاص: أما المسألة الثانية، فهي أن الجاني إذا قطع عضوه في القصاص، فأعاده إلى محله بعد استيفاء القصاص، هل يعتبر ذلك مخالفة لأمر القصاص، فيقتص منه مرة أخرى؟ أو لا يعتبر؟ فجزم الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بأن القصاص قد حصل بإبانة عضو الجاني مرة، فلو أعاده إلى محله فإنه لا يلغى استيفاء القصاص السابق، فلا يقتص منه مرة ثانية، وان ترك العضو المزروع في محله لا يعتبر مخالفة لأمر القصاص. قال رحمه الله تعالى بعد بيان المسألة الأولى (وهي إعادة المجني عليه عضوه إلى محله) : "وإن لم يثبته المجني عليه، أو أراد إثباته فلم يثبت (1) وأقص من   (1) شرح منتهى الإرادات للبهوتي: 3/ 296. (2) . إن هذا ليس قيدا احترازيا للحكم، وإنما صور المسألة فيما يمكن فيه القول بالاقتصاص مرة ثانية على أساس أن المجني عليه لم يعد عضوه إلى محله، فكيف يعيده الجاني؟ فذكر أن هذا النظر غير صحيح، لأن الواجب على الجاني هو الإبانة مرة واحده، وقد حصل. ويؤخذ منه بالبداهة أن الحكم كذلك بالأولى إذا أثبت المجني عليه عضوه، فإن حال الجاني والمجني عليه يصير سواء في تلك الصورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الجاني عليه، فأثبته، فثبت، لم يكن على الجاني أكثر من أن يبان منه مرة، وان سأل المجني عليه الوالي أن يقطعه من الجاني ثانية لم يقطعه الوالي للقود، لأنه قد أتى بالقود مرة إلى أن يقطعه لأنه ألصق به ميتة " (1) فظهر أن الجاني لم يمنعه من ذلك، ولا يقطع عضوه مرة ثانية، لمخالفته لموجب القصاص. وأما ما ذكره الشافعي رحمه الله من الأمر بقطعه بسبب إلصاق الميتة فسيجيء الكلام على ذلك تحت المسألة الثالثة إن شاء الله تعالى. وأما الحنابلة، فعندهم في هذه المسألة قولان، أحدهما موافق للشافعية، وجزم به ابن قدامة في المغني، فقال: "وإن قطع أذن إنسان، فاستوفي منه، فألصق الجاني أذنه، فالتصقت، وطلب المجني عليه إبانتها، لم يكن له ذلك، لأن الإبانة قد حصلت، والقصاص قد استوفي، فلم يبق له قبله حق ... والحكم في السن كالحكم في الأذن" (2) وكذلك جزم القاضي أبو يعلى بأنه لا يقتص منه ثانيا. فقال رحمه الله: "فإذا قطعنا بها أذن الجاني، ثم ألصقها الجاني، فإن قال المجني عليه: ألصق أذنه بعد أن أثبتها، أزيلوها عنه، قلنا: بقولك لا نزيلها، لأن القصاص وجب بالإبانة وقد وجد ذلك " (3)   (1) . كتاب الأم للشافعي: 6 /25، وبمثله صرح النووي في روضة الطالبين: 9 /197و198. (2) . المغني لابن قدامة: 9/423، ومثله في الشرح الكبير: 9/431. (3) . كتاب الروايتين والوجهين:2/268، ثم تكلم هل يأمره الإمام بإزالتها لكونها نجسة؟ وسيأتي الكلام على ذلك في مسألة النجاسة إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ولكن جزم ابن مفلح في الفروع بأنه يقتص من الجاني مرة ثانية، فقال: "ولو رد الملتحم الجاني أقيد ثانية في المنصوص" (1) واختاره المرداوي والبهوتي أيضا. قال البهوتي: "ومن قطعت أذنه ونحوها كما أنه قصاصا، فألصقها فالتصقت، فطلب المجني عليه إبانتها، لم يكن له ذلك، لأنه استوفى القصاص. قطع به في المغني والشرح. والمنصوص أنه يقاد ثانيا، اقتصر عليه في الفروع، وقدمه في المحرر وغيره. قال في الإنصاف " (2) في ديات الأعضاء ومنافعها: أقيد ثانية على الصحيح من المذهب. وقطع به في التنقيح هناك وتبعه في المنتهى. قال في شرحه: للمجني عليه إبانته، ثانيا، نص عليه، لأنه أبان عضوا من غيره دواما، فوجبت إبانته منه دواما لتحقيق المقاصة " (3) 20 - وأما المالكية، فقد ذكروا إعادة المجني عليه عضوه، كما نقلنا عنهم في المسألة الأولى، ولم يذكروا إعادة الجاني عضوه بعد القصاص بهذه الصراحة التي وجدناها في كتب الشافعية والحنابلة. ولكن وجدت للمسألة ذكرا مختصرا في كلام ابن رشد رحمه الله، حيث يقول: "فإن اقتص بعد أن عادا لهيئتها، فعادت أذن المقتص منه أو عينه فذلك، وإن لم يعودا، وقد كانت عادت سن الأول أو   (1) . الفروع لابن مفلح: 5/655. (2) . الإنصاف للمرداوي: 10/ 100. (3) . كشاف القناع للبهوتي: 5/ 641. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 أذنه فلا شيء له، وإن عادت سن المستقاد منه أو أذنه، ولم تكن عادت سن الأول ولا أذنه كرم العقل. قاله أشهب في كتاب ابن المواز " (1) وحاصله أن إعادة الجاني عضوه إنما لا يؤثر في القصاص، إذا كان المجني عليه أعاد عضوه أيضا، أما إذا لم يعد المجني عليه وأعاده الجاني، فإن الجاني يغرم العقل. وأما الحنفية، فلم أجد عندهم مسألة إعادة الجاني عضوه، ولكن ذكر في الفتاوى الهندية عن المحيط مسألة تشابه ما نحن فيه، وهي ما يلي: "إذا قلع الرجل ثنية رجل عمدا، فاقتص له من ثنية القالع، ثم نبتت ثنية المقتص منه، لم يكن للمقتص له أن يقلع تلك الثنية التي نبتت ثانيا" (2) وهذا يدل على أن الأصل عند الحنفية أن المجني عليه إنما يستحق إبانة عضو الجاني مرة واحدة، وليس من حقه أن يبقي العضو فائتا على الدوام، فالظاهر أن مذهبهم مثل مذهب الشافعية في هذه المسألة، وذلك لأمور: (1) إنهم أجازوا بقاء الثنية النابتة بنفسها، ولم يروها معارضة لمقتضى القصاص، مع أنها أحكم وأثبت من السن الملصقة، وأكثر منها نفعا، فالظاهر أن السن المزروعة أولى أن لا تكون معارضة لمقتضى القصاص. (2) قد ذكرنا في المسألة الأولى أن المجني عليه إذا أعاد عضوه إلى   (1) . البيان والتحصيل لابن رشد: 16/67. (2) . الفتاوى الهندية: 6/11 - الباب الرابع من الجنايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 محله، فإن ذلك لا يؤثر في ما ثبت على الجاني من القصاص والأرش، بل يجب القصاص كما كان يجب عند عدم الزرع. فيقاس على ذلك زرع الجاني عضوه، وأنه لا يؤثر في ما استوفي من قصاص. وإلا فليس من الإنصاف أن يزرع المجني عليه عضوه، ويمنع الجاني من ذلك بتاتا. فالراجح عندي مذهب الشافعية وجماعة من الحنابلة، وهو مقتضى مذهب الحنفية، أن القصاص يحصل بإبانة العضو مرة واحدة، ولكل واحد من الفريقين الحرية في إعادة عضوه بعملية طبية إذا شاء. فلو فعل ذلك الجاني، ولم يفعله المجني عليه، فإن ذلك مبني على أن كل واحد يتصرف في جسمه بما يشاء، ولا يقال إن عمل الجاني مخالف لمقتضى القصاص، كما إذا أعاده المجني عليه، ولم يعده الجاني، فإن ذلك لا يؤثر في أمر القصاص، وكل واحد يختار في معالجة ضرر جسمه ما يتيسر له، ولا سبيل إلى إحداث المساواة بين الناس في علاج أجسامهم. والله سبحانه أعلم. المسألة الثالثة: هل العضو المزروع في المسألتين نجس؟ كل ما قدمنا كان يتعلق بمسألة القصاص، وإنما نظرنا إلى الآن في مسألة زراعة العضو المقطوع من حيث إنه يعارض مقتضى الحكم بالقصاص أو لا؟ وقد رجحنا مذهب جمهور الفقهاء أن الزراعة لا تؤثر في أمر القصاص شيئا، فما كان ثابتا قبل الزراعة، يبقى ثابتا بعدها، وما استوفي قبلها، لا يحكم بإعادته بعدها. وننتقل الآن إلى مسألة أخرى، وهي: هل يجوز للمجني عليه أو الجاني ديانة أن يعيد عضوه المبان إلى محله؟ وهل يعتبر ذلك العضو طاهرا أم نجسأ؟ وهل تجوز الصلاة معه أو لا تجوز؟ وإنما نشأت هذه المسألة، لأن الفقهاء قد اختلفوا في العضو المبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 من الحي، هل هو طاهر أم نجس؟ فذهبت جماعة إلى أن كل ما أبين من الحي فهو نجس على الإطلاق، استدلالا بقوله عليه السلام: ((ما قطع من حي فهو ميت)) (1) وبما رواه أبو واقد الليثي رضي الله عنه، قال: ((قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وهم يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون آليات الغنم، فقال: ما يقطع من البهيمة وهي حية، فهو ميتة)) (1) فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن هذا الحكم عام لكل حي، فقال في كتاب الأم: (وإذا كسر للمرأة عظم، فطار، فلا يجوز أن ترقعه إلا بعظم ما يؤكل لحمه ذكيا. وكذلك إن سقطت سنه صارت ميتة، فلا يجوز له أن يعيدها بعد ما بانت ... وإن رقع عظمه بعظم ميتة أو ذكي لا يؤكل لحمه، أو عظم إنسان فهو كالميتة، فعليه قلعه، وإعادة كل صلاة صلاها وهو عليه. فإن لم يقلعه جبره السلطان على قلعه (3) وما نقلنا عنه في المسألة الثانية من قوله: "وإن سأل المجني عليه الوالي أن يقطعه من الجاني ثانية، لم يقطعه الوالي للقود، لأنه قد أتى بالقود مرة، إلا أن يقطعه، لأنه ألصق به ميتة" (4) فهو في هذا السياق. فكأن الإمام الشافعي رحمه الله،   (1) . أخرج الحديث بهذا اللفظ الحاكم في المستدرك:4/239، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وصححه وأقره الذهبي. (2) . أخرجه الترمذي في الصيد، باب ما جاء ما قطع من الحي فهو ميت، رقم: (1508) و (1509) (3) . كتاب الأم للشافعي: 1/ 54 - باب ما يوصل بالرجل والمرأة. (4) . كتاب الأم: 6/ 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 حسب ما يبدو من كتاب الأم، لا يرى في إعادة الجاني عضوه مانعا من حيث مخالفته لمقتضى القصاص، ولكنه لا يراه جائزا من حيث أن العضو المبان نجس، فلا يجوز إلحاقه بالجسم، ولو ألحقه أمره السلطان بالقلع، لكونه مانعا من صحة الصلاة. ولكننا إذ نراجع كتب الشافعية المعتبرة، نجد أن معظمهم اختاروا طهارة جزء الآدمي، وإن بان منه حال حياته، فيقول النووي رحمه الله: (الأصل أن ما انفصل من حي فهو نجس، ويستثنى الشعر المجزور من مأكول اللحم في الحياة ويستثنى أيضا شعر، الآدمي والعضو المبان منه فهذه كلها طاهرة في المذهب، (1) وقال الشربيني الخطيب رحمه الله: (والجزء المنفصل من الحيوان الحي ومشيمته كميتته، أي ذلك الحي، إن طاهرا فطاهر، وإن نجسا فنجس ... فالمنفصل من الآدمي أو السمك أو الجراد طاهر، ومن غيرها نجس) (2) ويقول الرملي، رحمه الله: والجزء المنفصل بنفسه أو بفعل فاعل من الحيوان الحي كميتته طهارة وضدها ... فاليد من الآدمي طاهرة، ولو مقطوعة في سرقة) (3) ويذكر الشبراملسي تحته:   (1) . روضة الطالبين: 1/ 15. (2) . مغني المحتاج: 1/80. (3) . نهاية المحتاج: 1/228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 "انظر لو اتصل الجزء المذكور بأصله وحلته الحياة، هل يطهر ويؤكل بعد التذكية أولا؟ ونظيره ما لو أحيا الله الميتة ثم ذكيت، ولا يظهر في هذه إلا الحل، فكذا الأولى (1) وهذا يدل على أن العضو المبان من الآدمي الحي طاهر مطلقا. وأما العضو المنفصل من غيره، فإنما يحكم بنجاسته إذا لم يتصل بعد الإبانة بمحله الأصلي، فلو اتصل وحلته الحياة، عاد طاهرا. 27 - وإن هذه النصوص بظاهرها معارضة لما نقلنا عن كتاب الأم. فلعل ما في كتاب الأم رجع عنه الشافعي بعد ذلك، أو اختار الفقهاء الشافعية قولا يخالف رأيه، وعلى كل، فالمذهب عند الشافعية الآن طهارة العضو المبان من الآدمي. وعليه فلا يؤمر بقلعه إذا أعاده إلى محله، ولا يحكم بنجاسته وفساد صلاته. 28 - أما الحنفية، فالأصل عندهم أن الأعضاء التي لا تحفها الحياة، كالظفر، والسن، والشعر، لا تنجس بإبانتها من الآدمي الحي. ولكن الأعضاء التي تحفها الحياة، مثل الأذن، والأنف وغيرهما، فإنا تنجس بعد إبانتها من الحي. ولكن قرر المتأخرون منهم أنها ليست نجسة في حق صاحبها، فلو أعادها صاحبها إلى أصلها، لا يحكم بنجاستها، وإنما هي نجسة في حق غيره. فلو زرعها غير المقطوع منه في جسمه كانت نجسة. وهذا أيضا إذا لم تحفها الحياة. أما إذا حفتها الحياة بعد الزرع، فلا نجاسة في حق الغير أيضا. 29 - أما الأصل المذكور فقد بينه ابن نجيم بقوله: "إن أجزاء الميتة لا تخلو: إما أن يكون فيها دم أو لا، فالأولى كاللحم نجسة، والثانية ففي غير الخنزير والآدمي   (1) . حاشية نهاية المحتاج: 1/228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ليست بنجسة إن كانت صلبة، كالشعر والعظم بلا خلاف ... وأما الآدمي ففيه روايتان: في رواية نجسة ... وفي رواية طاهرة لعدم الدم، وعدم جواز البيع للكرامة " (1) ولكن جاء في الفتاوى الخانية: (قلع سن إنسان، أو قطع أذنه، ثم أعادهما إلى مكانه وصلى، أو صلى وفي كفه سنه أو أذنه، تجوز صلاته في ظاهر الرواية) (2) والمسألة مذكورة في التجنيس، والخلاصة، والسراج الوهاج أيضا، كما في البحر ورد المحتار. واستشكلها بعض العلماء بالأصل المذكور، فإن الأذن تحفها الحياة، فينبغي أن تصير نجسة بالإبانة على ما ذكرنا من أصل الحنفية. وأجاب عنه المقدسي، كما نقل عنه ابن عابدين بقوله: "والجواب عن الإشكال أن إعادة الأذن وثباتها إنما يكون غالبا بعود الحياة إليها، فلا يصدق أنها مما أبين من الحي، لأنها بعود الحياة إليها صارت كأنها لم تبن، ولو فرضنا شخصا مات، ثم أعيدت حياته معجزة، أو كرامة، لعاد طاهرا" (3) وعلق عليه ابن عابدين بقوله: (أقول: إن عادت إليها الحياة فمسلم، لكن يبقى الإشكال لو صلى وهي في كمه مثلا، والأحسن ما أشار إليه الشارح   (1) . البحر الرائق: 1/ 107. (2) . فتاوى قاضي خان: 1 /30- فصل في النجاسة تصيب الثوب. (3) . وهذا عين الدليل الذي استدل به الشبراملسي من الشافعية في حاشية نهاية المحتاج، وقد مر قريبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 (أي صاحب الدر المختار) من الجواب بقوله وفي الأشباه ... إلخ، وبه صرح في السراج (أي حيث قال: والأذن المقطوعة والسن المقطوعة طاهرتان في حق صاحبهما، وإن كانتا أكثر من قدر الدرهم) فما في الخانية من جواز صلاته ولو الأذن في كمه، لطهارتها في حقه، لأنها أذنه) (1) وعبارة الأشباه التي أشار إليها ابن عابدين نصها ما يلي: (الجزء المنفصل من الحي كميته، كالأذن المقطوعة والسن الساقطة إلا في حق صاحبه فطاهر وإن كثر) (2) وتبين بهذه النصوص الفقهية أن العضو المبان من الآدمي ليس نجسا في حق صاحبه عند الحنفية، وكذلك إذا حفته الحياة بعد الإعادة، فإنه ليس نجسا في حق أحد. وإنما النجس عند الحنفية في حق الغير ما أبين من الآدمي فلم تحفه الحياة بالإعادة. فثبت أن الحكم عند الحنفية في مسألتنا مثل المختار من مذهب الشافعية، أن إعادة عضو المبان إلى محله ليس نجسا، فلا يمنع منه، ولا تفسد به الصلاة. فأما المالكية، فإن المعتمد عندهم أن ما أبين من الآدمي ليس نجسا. قال الدردير في الشرح الكبير: (فالمنفصل من الآدمي مطلقا طاهر على المعتمد) . وقال الدسوقي تحته: (أي بناء على المعتمد من طهارة ميته، وأما على الضعيف   (1) . رد المحتار: 1/207، ومنحة الخالق: 1/107. (2) . الأشباه والنظائر مع الحموي، الفن الثاني - كتاب الطهارة: 1/203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فما أبين منه نجس مطلقا ... على المعتمد من طهارة ما أبين من الآدمي مطلقا، يجوز رد سن قلعت لمحلها لا على مقابله) (1) (ثم ذكر الحطاب أن القول بالنجاسة، على كونه مرجوحا، إنما يؤثر في ابتداء الإعادة فيمنع منه الرجل ابتداء، ولكن إذا رد الإنسان السن إلى موضعه، فثبت والتحم جازت صلاته على هذا القول أيضا. "وفي البرزلي: إذا قلع الضرس وربط لا تجوز الصلاة به، فإن رده والتحم، جازت الصلاة للضرورة " (2) وذكر الزرقاني عن المدونة أن القول بالنجاسة، (وإن كان ضعيفا كما أسلفنا) يستثنى منه مواضع الضرورة. قال رحمه الله: "وعلى عدم طهارة ميته لا ترد سن سقطت، وعلى طهارته ترد. وظاهره وإن لم يضطر لردها على هذا، بخلافه على الأول، فيجوز للضرورة كما في شرح المدونة، وروى عن السلف عبد الملك وغيره أنهم كانوا يردونها ويربطونها بالذهب" (3) فظهر أن الراجح في مذهب المالكية طهارة العضو المبان، فيجوز إعادته إلى محله، ولو عاد وثبت والتحم، حكم بطهارته وجواز الصلاة فيه على القولين جميعا. والحنابلة عندهم في ذلك روايتان. قال ابن مفلح:   (1) . الدسوقي على شرح خليل: 1/54. (2) . مواهب الجليل للحطاب: 1/121. (3) . الزرقاني على مختصر خليل: 1/29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 "وإن أعاد سنه بجرارتها، فعادت فطاهرة، وعنه نجسة" (1) ولكن رجح المرداوي الطهارة، وذكر أن عليه الأكثرين، قال رحمه الله: (فإن سقطت سنه فأعادها بجرارتها، فثبتت، فهي طاهرة. هذا المذهب وعليه الجمهور، وقطع به أكثرهم، وعنه أنها نجسة ... وكذا الحكم لو قطع أذنه فأعادها في الحال. قاله في القواعد) (2) وبهذا القول جزم البهوتي أيضا (3) وهو مؤيد بما رواه أبو يعلى عن الإمام أحمد رحمه الله برواية الأثر في مسألة القصاص نفسها. قال: "ونقل الأثر عنه في الرجل يقتص منه من أذن أو أنف، فيأخذ المقتص منه فيعيد، بجرارته، فيثبت، هل تكون ميتة؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، فقيل له: يعيد سنه؟ قال: أما سن نفسه فلا بأس، وهذا يدل على الطهارة، لأنه بعض من الجملة، فلما كانت الجملة طاهرة كان أبعاضها طاهرة) (4) فثبت بما أسلفنا - والحمد لله - أن الراجح في المذاهب الأربعة جميعا: أن الرجل إذا أعاد عضوه المبان إلى محله، فإنه يبقى طاهرا، ولا يحكم بنجاسته، ولا بفساد صلاته، ولا يؤمر بقلعه من هذه الجهة. فلما ثبت أن إعادة العضو لا يخالف مقتضى القصاص، ولا يستلزم النجاسة، ظهر أنه مباح لا بأس به. والله سبحانه وتعالى أعلم.   (1) . الفروع لابن مفلح: 1/ 370. (2) . الإنصاف للمرداوي: 1/ 489. (3) . شرح منتهى الإرادات: 1/ 155. (4) . كتاب الروايتين والوجهين: 1/ 202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 المسألة الرابعة: إعادة العضو المبان في حد والمسألة الرابعة: إذا أبين عضو رجل في حد شرعي، كالسرقة والحرابة، هل يجوز للمحدود أن يعيده إلى محله بعد استيفاء الحد؟ وهل يعتبر ذلك افتياتا على الحد الشرعي؟ وإن هذه المسألة لم أجدها في كلام الفقهاء، ولعل وجه ذلك أن إبانة العضو في الحد إنما يتصور في اليد أو الرجل، لأن الحد الذي يبان فيه عضو من الأعضاء ينحصر في سرقة أو حرابة. والعضو المبان في كل واحد منهما يد أو رجل. ولعل الفقهاء لم يتصوروا إعادتهما إلى محلهما بعد الإبانة. والوضع لا يزال حتى الآن، كما كان في عهد الفقهاء، فإن تجارب الطب الجديد، وإن فتحت آفاقا جديدة في مجال الجراحة وزرع الأعضاء، ولكنها لم تنجح إلى اليوم في إعادة هذه الجوارح إلى محلها نجاحا كاملا. وإن الأيدي والأرجل المزروعة، على ما تكلف من النفقات الباهظة، وتتطلب الجهد الشاق، لا تعمل عملها السابق، حتى أن الأعضاء المصنوعة من الخشب أو الحديد تفيد المريض أكثر بالنسبة إلى الأعضاء الأصلية المزروعة وجاء في دائرة المعارف البريطانية: sheaths constining the nerves are cut, however, as must happen if a nerve is partially or completely severd, regeneration may not be possible. Even if regeneration occures, it is unlikely to be complete ... Defective regeneration is the main reason why limb grafts usually are unsafisfactory. A mechanical artificial limb is likely to be of more value to the patient" (1)) .   (1) . Encyclopaedia Britannica V. 28 P. 747 ed 1988. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 "إن قطع الخلاف النحيف الذي يحوي الأعصاب، كما يقع لزاما حينما يبان عصب من الأعصاب كلا أو جزءا، فإن نشأتها الثانية غير ممكنة. ولو نشأت من جديد، فإن كون النشأة كاملة متعذرة ... وان هذا النقص في نشأتها الثانية هو السبب الأكبر في كون زراعة الجوارح غير ناجحة. والظاهر أن عضوا مكانيكيا مصنوعا أكثر إفادة للمريض". وذكر في محل آخر: "Replacement of servered hands and arms has been tried in a few patients, and some of the results appear to have been worth-while: replacement of lower limbs seem much less justifiable, because the patient is likely to be better off with an artifical leg" (1)) "إن إعادة اليدين والعضدين المقطوعتين قد حولت في بعض المرضى، وان بعض النتائج تبدو معتدة بها. ولكن يبدو أن المبرر لإعادة الجوارح السفلية (كالأرجل) أقل بكثير، لأن المريض يكون أحسن حالة باستعمال رجل مصنوعة". وقد راجعت بعض الأطباء الموثوق بهم فأيدوا هذا المعنى، وأكدوا أن إعادة اليد أو الرجل لا تكون ناجحة، ولما كانت إعادة اليد أو الرجل أمرا لا يقع، حتى في زماننا، فالبحث عن حكمه الشرعي بحث نظري بحت لا علاقة له بالواقع العملي، بخلاف مسألة القصاص، فإنه يمكن أن يبان فيه أي عضو من أعضاء البدن بما فيها الأعضاء الممكن زرعها وإعادتها، فلا يخلو البحث فيها عن فائدة عملية، ولذلك ذكرتها بشيء من البسط والتفصيل.   (1) . Micropaedia, Britannica V. 11 P. 899 ed 1988. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 أما البحث عن مسألة العضو المقطوع في السرقة أو الحرابة، فلا يتعلق بالواقع العملي، فالمناسب أن لا نخوض فيها قبل وقوعها، وكان السلف يكرهون الخوض في مسائل لم تقع بعد، ويقولون: (لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله) . ولذلك، فلا أرى البحث في هذه المسألة حتى نشاهدها تقع عيانا، ولكني أريد أن أذكر الأصل الذي تبتنى عليه المسألة لو فرضنا أنها وقعت، ليكون مساعدا في استخراج الحكم حينئذ وذلك أن المسألة لها منزعان: المنزع الأول: أن نقيس الحد على القصاص، فنقول: قد ثبت بما أسلفنا في مبحث القصاص أن المختار عند جمهور الفقهاء أن القصاص ينتهي حكمه بإبانة العضو، وليس من جملة القصاص أن يبقى العضو فائتا إلى الأبد، فكذلك الحد، إذا أقيم مرة بإبانة اليد أو الرجل، انتهت وظيفة الحد، وليس المقصود تفويت اليد أو منفعتها على سبيل الدوام، ولذلك يجوز للسارق والمحارب أن يستعمل يدا أو رجلا مصنوعة. فلا مانع من أن يزرع يده المقطوعة. والمنزع الثاني: أن بين الحد والقصاص فرقا، وهو أن المقصود من القصاص أن يصيب الجاني ضرر مماثل لضرر المجني عليه، وذلك يحصل بإبانة عضوه، فإن الجناية الصادرة من الجاني لم تتجاوز أن تقطع عضوا، ولم تكن مانعة من إعادته إلى محله إذا اختار المجني عليه ذلك. فكذلك استيفاء القصاص يحصل بمجرد الإبانة، ولا يمنع ذلك أن يعيد الجاني عضوه إلى محله. بخلاف إبانة العضو في الحد، فإنه ليس مقابلا لضرر مماثل، وإنما هو مقدر من الله تعالى عقوبة ابتدائية، وحيث قد فرض الله سبحانه وتعالى قطع اليد أو الرجل فليس المقصود منه فعل الإبانة، وإنما المقصود إبانته لتفويت منفعته على الجاني، ولو أجزنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 للجاني أن يعيده مرة أخرى، فإن ذلك تفويت لمقصود الحد. فالنظر في المسألة موقوف على أن المقصود من الحد هل هو إيلام الجاني بفعل الإبانة فقط، أو المقصود تفويت عضوه بالكلية؟ وعلى الأول تجوز الإعادة، وعلى الثاني لا تجوز. ولكل من الاحتمالين دلائل. ولا يجب علينا القطع بأحدهما الآن، لكون المسألة غير متصورة الوقوع حتى اليوم. ولئن وقعت فسيشرح الله تعالى صدر الفقهاء حينذاك بما فيه رضاه إن شاء الله تعالى. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 (10) قواعد ومسائل في حوادث المرور بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس ببرونائي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 بسم الله الرحمن الرحيم قواعد ومسائل في حوادث المرور الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فإن موضوع "حوادث السير" من الموضوعات الفقهية التي تحتاج إلى دراسة متقنة ودقيقة، بالنظر إلى الظروف المعاصرة التي تنوعت فيها صور الحوادث وجزيئاتها، وكثرت واقعاتها للتوسع في استخدام الوسائل الجديدة السريعة السير، وبالرغم من قواعد المرور المنضبطة والمطبقة في أكثر البلاد. وإن الشريعة الإسلامية التي تضمن العدل والسلامة في أحكامها لم تغفل هذا الجانب المهم، بل وضعت لها أصولا وقواعد نستطيع أن نعرف في ضوئها أحكام هذه الحوادث الجديدة. وإن فقهاءنا المتقدمين قد تحدثوا عن أحكام هذه الحوادث في ضوء القرآن والسنة في باب الديات، وذكروا فيه أصولا وفروعا تدل على مدى توسعهم في تصوير الحوادث وتعمقهم في الفرق بين حادثة وأخرى. والذي يبدو من دراسة المذاهب الفقهية المختلفة أن هذا الباب من الأحكام الفقهية من أقل ما وقع فيها الاختلاف بين الفقهاء. ويشاهد الباحث خلال دراسته لمختلف جزئياته في كتب المذاهب المختلفة أن جميعها قد خرجت من مشكاة واحدة، ونسجت على منوال واحد، والخلاف بينها في ذلك قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ولكن من الطبيعي أن العصر الذي دون فيه الفقهاء هذه المسائل لم يكن يعرف هذه المراكب السريعة من السيارات والقطر والطائرات وهذا النظام الجديد للمرور. ولذا فإنهم إنما تكلموا عن المراكب المعروفة في عهدهم من الدواب والعجلات والسفن ووسائل السير التي كانت تستخدم في البيئة التي يعيشون فيها. ولكن كلامهم المبني على مآخذ الشريعة الأصلية من القرآن والسنة والإجماع والقياس قد أوضح لنا أصولا عامة يمكن تطبيقها على كل ما وجد، أو سيوجد، من الوسائل الجديدة للسير. فمهمة الفقيه المعاصر اليوم هي أن يعرف هذه الأصول العامة ويطبقها على الحياة المعاصرة، مع الاعتناء بالفوارق في نظام السير الجديد التي تميزه عن النظام القديم، ويشرح جزيئاته على ذلك الأساس شرحا واضحا، ليتبين حكم كل جزئية من حوادث السير على حدة من غيرها. وبما أن الموضوع لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث في كتابات العلماء المعاصرين، فإنه جدير بالاهتمام، وإن بحثي هذا يهدف إلى مساهمة متواضعة في الجهود التي يقوم بها مجمع الفقه الإسلامي لسد هذا الفراغ، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقني للحق والصواب، ويبعدني عن الزلل والخطل، وهو المستعان وعليه التكلان. الضرر وضمانه في الشريعة الإسلامية: الأصل في الشريعة الإسلامية أنه لا يجوز لأحد أن يفعل فعلا يضر بآخر، فإن أضر بفعله أحدا، فالأصل أنه ضامن، إلا في حالات سيجيء تفصيلها وإن هذا الأصل ثابت بنصوص القرآن والسنة. فأما القرآن الكريم، فأوضح ما يستدل به على ذلك قوله تعالى: {وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء: 78 - 79] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 النفش: هو الرعي بالليل. وروى ابن جرير في تفسيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن الحرث المذكور كان كرما قد أنبت عناقيده، فأفسدته الغنم. فقضى داود عليه السلام بالغنم لصاحب الكرم، يعني قضى بتمليكه الغنم تعويضا عما أتلفه له، ونقل القرطبي في تفسيره أن سيدنا داود عليه السلام رأى قيمة الغنم تقارب قيمة الغلة التي أفسدت، وذهب سليمان عليه السلام إلى رأي آخر، فقال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها. وقد أشارت الآية الكريمة إلى أنه قد اختلف نظر كل من داود وسليمان عليهما السلام في وجه الحكم في هذه القضية، دون أن يذكر القرآن الكريم تفصيل حكمهما، وقد صرح باستحسان رأي سليمان عليه السلام. ويستفاد من التفاسير أن المقصود في رأي كل من داود وسليمان عليهما السلام هو تضمين الذي أضر بالكرم بما يقع به التعادل بين الضرر والعوض، ثم اختلفت أنظارهما في صورة هذا التعادل، ومع قطع النظر عن خصوص صورة التعادل، فإن القصة التي ذكرتها الآية الكريمة تنبئ عن مبدأ عام، وهو أن الذي يحدث ضررا بنفس الآخر أو بماله، فإنه يضمن له ذلك الضرر. وأما السنة النبوية، على صاحبها السلام، فإن أصرح ما ورد في هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1)   (1) . أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام (رقم 2340) ؛وأحمد في مسنده:5/327؛وأخرجه مالك في موطئه مرسلا في الأقضية باب القضاء في المرفق:2/112,مع تنوير الحوالك وقال البوصيري في الزوائد:3 /48,إسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع لأن إسحاق بن الوليد قال الترمذي وابن عدي: لم يدرك عبادة بن الصامت-اهـ، ونحوه في مجمع الزوائد4/205، ولكن للحديث طرقا أخرى سوى ما تقدم كما في المقاصد الحسنة للسخاوي: 468 (رقم:1310) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 (1) وإن هذا الحديث الشريف قد قرر مبدأ هاما من مبادئ الشريعة الإسلامية من نفي الضرر وحرمة ما يسببه. وإن الحديث إذا تأملنا فيه، لا يكتفي بتحريم إضرار الغير فقط، بل يشير إلى وجوب الضمان على من سببه، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هذا الأصل بصيغة النهي الذي يدل على التحريم فقط، بل إنه صلى الله عليه وسلم ذكره بصيغة نفي الجنس، وفيه إشارة لطيفة إلى أنه كما يجب على الإنسان أن يجتنب من إضرار غيره، كذلك يجب عليه، إن صدر منه شيء من ذلك، أن ينفي عن المضرور الضرر الذي أصابه، إما برده إلى الحالة الأصلية إن أمكن، وإما بتعويضه عن الضرر وأداء الضمان إليه، ليكون عوضا عما فاته. ومما يدل على وجوب تعويض المصاب أحكام الديات المبسوطة في الكتاب والسنة، ومن جملتها فيما يخص موضوعنا: ما أخرجه مالك في الأقضية من موطئه عن حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها. وإن هذا الحديث من أصرح الأدلة على أن من سبب ضررا لآخر، فإنه ضامن لما أصابه، وكذلك أخرج الدارقطني في سننه عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أوقف دابة في سبيل من سبل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم، فأوطأت بيد أو رجل، فهو ضامن)) (1) . وهذا الحديث، وإن كان في إسناده كلام، لضعف سري بين إسماعيل الهمذاني الكوفي (2) ولكن مضمونه مما اتفق عليه جمهور الفقهاء قديما وحديثا.   (1) سنن الدارقطني، كتاب الحدود والديات: 3 / 179، حديث (285) (2) راجع التهذيب 3 / 459. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وعلى أساس هذه المبادئ حكم فقهاء الصحابة والتابعين وقضاتهم بالضمان على من أضر الآخر بفعله، وإن أقضيتهم وفتاواهم في هذا الباب كثيرة يمكن مراجعتها في كتب الحديث. وفي ضوء هذه المبادئ والأقضية والفتاوى، استخلص الفقهاء المتأخرون قواعد فقهية في هذا الباب، وأرى من المناسب أن أذكر هذه القواعد بشيء من شرحها، وكيفية تطبيقها على حوادث المرور. قواعد فقهية تتعلق بالضرر والضمان: القاعدة الأولى: المرور في طريق العامة مباح بشرط السلامة: هذه القاعدة ذكرها غير واحد من الفقهاء. وحاصلها أن السير في طريق العامة حق لكل إنسان ولكن استعمال هذا الحق مقيد بأن لا يحدث ضررا بغيره فيما يمكن التحرز عنه. وقال العلامة خالد الأتاسي رحمه الله: "والأصل أن المرور في طريق المسلمين مباح بشرط السلامة، بمنزلة المشي؛ لأن الحق في الطريق مشترك بين الناس، فهو يتصرف في حقه من وجه، وفي حق غيره من وجه، فالإباحة مقيدة بالسلامة. وإنما تقيدت بها فيما يمكن التحرز عنه، دون ما لا يمكن التحرز عنه، لأنا لو شرطنا عليه السلام عما لا يمكن التحرز عنه، يتعذر عليه استيفاء حقه، لأنه يمتنع عن المشي والسير مخافة أن يبتلى بما لا يمكن التحرز عنه. والتحرز عن الوطء والإصابة باليد أو الرجل، والكدم، وهو العض بمقدم الأسنان، والخبط: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وهو الضرب باليد، والصدم، وهو الضرب بنفس الدابة وما أشبه ذلك في وسع الراكب إذا أمعن النظر في ذلك، وأما ما لا يمكن التحرز عنه كما إذا نفحت برجلها، يعني ضربت بحافرها أو ذنبها، فلا تضمن" (1) . القاعد الثانية: المباشر ضامن، وإن لم يكن متعديا: وحاصل هذه القاعدة أن من باشر الإضرار بالغير، فهو ضامن للضرر الذي أصابه بالمضرور بفعله، وإن لم يكن المباشر متعديا، بمعني أنه لم يكن فعله محظورا في نفسه، وهذا كالنائم الذي انقلب على آخر فقتله، فإنه قد باشر القتل، مع أن نومه لم يكن محظورا في نفسه، ولذلك يضمن دية المقتول. وإن هذه القاعدة قد ذكرها الفقهاء بعبارات متقاربة، واتفقوا على مضمونها، وهي من أهم القواعد المتبعة في مسألة ضمان الضرر، ولكن ربما وقع هناك اشتباه في فهمها وخطأ في تطبيقها على بعض الجزئيات، فيجب أن تدرس القاعدة بدقة في مفهومها الصحيح. 1- فالاشتباه الأول إنما وقع من جهة أن بعض الفقهاء ذكروا القاعدة بلفظ " المباشر ضامن، وإن لم يتعمد " وقد وقعت القاعدة بهذه اللفظ في "مجلة الأحكام العدلية" (مادة 92) وشرحها بعض العلماء بأنه لا يشترط لتضمين المباشر أن يكون متعمدا، ولكن بشرط أن يكون متعديا، فقال الشيخ أحمد الزرقاء (2) : "المباشر للفعل ... ضامن لما تلف بفعله، إذا كان متعديا فيه"   (1) . شرح مجلة الأحكام العدلية للأتاسي: 3 / 494، مادة (932) (2) "شرح القواعد الفقهية" للزرقا: ص (385) ، قاعدة (92) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وهذا ظاهر في أنه يشترط لتضمين المباشر أن يكون متعديا، مع أن معظم الفقهاء ذكروا أنه لا يشترط التعدي لتضمين المباشر، فمثلا قال الزيلعي (1) ((في تبيين الحقائق)) : "وغيره تسبيب، وفيه يشترط التعدي، فصار كحفر البئر في ملكه وفي المباشرة لا يشترط". وقال ابن غانم البغدادي رحمه الله (2) : " المباشر ضامن، وإن لم يتعمد، ولم يتعد، والمتسبب لا يضمن إلا أن يتعدي ". وقد رفع فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء حفظه الله تعالى هذا التعارض (3) بما حاصله أن التعدي يستعمل في معنيين يجب التمييز بينهما: فالمعني الأول للتعدي: هو المجاوزة الفعلية إلى حق الغير أو ملكه المعصوم. والمعني الثاني: هو العمل المحظور في ذاته شرعا، بقطع النظر عن كونه متجاوزا على حدود الغير أو لا. فالتعدي بالمعني الأول يشترط لتضمين المباشر أيضا. أما التعدي بالمعني الثاني، فلا يشترط في تضمين المباشر. فمن أكل طعام غيره في حالة المخمصة بدون إذنه لدفع الهلاك عن نفسه فإن فعله جائز، بل واجب، فلم يصدر منه التعدي بالمعني الثاني، ولكن حصل التعدي من   (1) تبيين الحقائق للزيلعي: 6 / 149 (2) مجمع الضمانات، ص (165) ، باب (12) ، فصل (1) (3) في كتابه القيم "الفعل الضار والضمان فيه" ص (78 و79) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 حيث أنه تصرف في ملك الغير، فوجب عليه الضمان، وكذلك لو زلق إنسان أو أغمي عليه، فوقع على مال غيره فأتلفه، فإنه ضامن، وإن لم يأت عملا محظورا. وإن هذا التمييز الذي ذكره الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله تعالى جيد وواضح. وبه يرتفع التعارض بين من اشترط التعدي لضمان المباشر ومن لم يشترطه. والحاصل إذن: أن المباشر كلما أحدث ضررا في نفس معصوم، أو في بدنه أو في ماله فإنه ضامن، ولو صدر ذلك منه عند مباشرة فعل مباح في نفسه بدون تعمد. 2- والاشتباه الآخر الذي ربما يقع في فهم هذه القاعدة، هو أن بعض الفقهاء ذكروا قاعدة أخرى ربما تبدو معارضة لقاعدة " المباشر ضامن وإن لم يكن متعديا " وهي قاعدة " الجواز الشرعي ينافي الضمان " وهي مذكورة في المادة 91 من قواعد المجلة. وظاهر هذه القاعدة معارض لتضمين المباشر إذا أضر أحدا بفعل مباح، ولكن هذه القاعدة إنما تعمل في ممارسة حق من الحقوق المطلقة التي لا تتقيد بوصف السلامة. أما الحقوق التي تتقيد بوصف السلامة، كحق المرور في الطريق، فمجرد كون الفعل جائزا في نفسه لا ينفي الضمان، وقد ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى هذا الفرق في مسألة من قعد في المسجد فحدث به ضرر لآخر، قال رحمه الله: "وإذا قعد الرجل في مسجد لحديث، أو نام فيه في غير صلاة، أو مر فيه فهو ضامن لما أصاب، كما يضمن في الطريق الأعظم في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا ضمان عليه، لأنه لو كان مصليا في هذه البقعة لم يضمن ما يعطب به، فكذلك إذا كان جالسا فيه لغير الصلاة، بمنزلة الجالس في ملكه ... فيكون ذلك مباحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 مطلقا، والمباح المطلق لا يكون سببا لوجوب الضمان على الحر. وأبو حنيفة يقول: المسجد معد للصلاة، والقعود والنوم فيه لغير الصلاة مقيد بشرط السلامة ... .. وإن كان ذلك مباحا أو مندوبا إليه" (1) . ما هي المباشرة؟ وبعد إيضاح هاتين النقطتين، لا يشترط لتضمين المباشر إلا أن تتحقق منه مباشرة الإضرار في محل معصوم، سواء كان بفعل مباح في نفسه، أو بفعل محظور, ولكن لا بد ههنا من التنبه لنقطة مهمة أخرى، وهي أنه يجب لتطبيق هذه القاعدة أن تتحقق المباشرة بمفهومها الصحيح، فيجب أن نفهم معني المباشرة، وقد عرفها الفقهاء بما يلي (2) : "حد المباشر أن يحصل التلف بفعله من غير أن يتخلل بين فعله والتلف فعل مختار". فلا يضمن المرء إذا صح نسبة الضرر أو التلف إلى فعله، دون أن يتخلل بينه وبين التلف فعل مختار. فإن تخلل، لم تتحقق المباشرة فلا يضمن، وإن ذلك يتضح بعدة فروع ذكرها الفقهاء في باب الجنايات: 1- قال العلامة خالد الأتاسي رحمه الله في شرح المجلة: "إن الدابة إذا وطئت بيدها أو رجلها، وهو راكبها يضمن ولو في ملكه؛ لأن هذا مباشرة يضاف التلف إلى تسييره وعدم ضبطه، إلا إذا جمحت بحيث ليس في إمكانه ردها" (3) .   (1) مبسوط السرخسي: 27 / 25، باب ما يحدث في المسجد والسوق. (2) شرح الأشباه والنظائر للحموي: 1 / 196 عزوا إلى الولوالجية (3) شرح المجلة للأتاسي: 1 / 260، مادة (94) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وأصل هذه المسائلة ذكرها البغدادي في مجمع الضمانات، قال: "سئل الإمام أبو الفضل الكرماني: سكران جمح فرسه فاصطدم إنسانا فمات، أجاب: إن كان لا يقدر على منعه فليس بمسير له، فلا يضاف سيره إليه، فلا يضمن. قال: وكذا غير السكران إذا لم يقدر على المنع (1)) ,وذكر ابن مفلح من الحنابلة: "إن غلبت الدابة راكبها بلا تفريط لم يضمن (2) ". وذكره المرداوي فقال: "جزم به في الترغيب، والوجيز، والحاوي الصغير". وقال الكاساني من الحنفية: "ولو نفرت الدابة من الرجل أو انفلتت منه، فما أصابت في فورها ذلك فلا ضمان عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((العجماء جبار)) ، أي البهيمة جرحها جبار، لأنه لا صنع له في نفارها أو انفلاتها، ولا يمكنه الاحتراز عن فعلها، فالمتولد منه لا يكون مضمونا (3) ". وفي مذهب الشافعية في هذه المسألة قولان، ذكرهما النووي رحمه الله تعالى، قال: "ولو غلبتهما الدابتان، فجرى الاصطدام والراكبان مغلوبان، فالمذهب أن المغلوب كغير المغلوب كما سبق. وفي قول أنكره جماعة أن هلاكهما وهلاك الدابتين هدر، إذ لا صنع لهما ولا اختيار، فصار كالهلاك بآفة سماوية، ويجري   (1) . مجمع الضمانات للبغدادي، ص (189) ، باب (2) ، فصل (5) (2) . الفروع لابن مفلح: 6 / 6 (3) . بدائع الصنائع للكاساني: 7 / 273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الخلاف فيما لو غلبت الدابة راكبها أو سائقها (1) ". ونرى في هذه الجزئية أن راكب الدابة لا يضمن بما وطئته دابته، لأنها بعد الجموح والانفلات صارت مستقلة في سيرها، فلا يمكن أن تنسب المباشرة إلى الراكب. 2- وكذلك ذكر الفقهاء أنه إذا نخس الدابة رجل غير الراكب، فالضمان على الناخس، دون الراكب، قال صاحب الهداية (2) : (ومن سار على دابة في الطريق، فضربها رجل أو نخسها، فنفحت رجلا، أو ضربته بيدها، أو نفرت فصدمته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب) وهو المروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ولان الراكب والمركب مدفوعان بدفع الناخس، فأضيف فعل الدابة إليه، كأنه فعله بيده، ولأن الناخس متعد في تسبيبه، والراكب في فعله غير متعد، فيترجح جانبه في التغريم للتعدي حتى لو كان واقفا دابته على الطريق يكون الضمان على الراكب والناخس نصفين لأنه متعد في الإيقاف أيضا (وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا) لأنه بمنزلة الجاني على نفسه ... (ولو وثبت بنخسة على رجل أو وطئته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب) لما بيناه. وقد ورد فيه أثر لابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، قال: (أقبل رجل بجارية من القادسية، فمر على رجل واقف على دابة، فنخس الرجل الدابة، فرفعت رجلها، فلم تخطئ عين الجارية، فرفع إلى   (1) . روضة الطالبين للنووي رحمه الله: 9 / 331 (2) . الهداية مع فتح القدير: 9 / 267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 سلمان بن ربيعة الباهلي، فضمن الراكب، فبلغ ذلك ابن مسعود، فقال: على الرجل، إنما يضمن الناخس (1) " وأخرجه أيضا عبد الرزاق في مصنفه، وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه نحوه عن شريح والشعبي، وراجع نصب الراية للزيلعي والمسألة هي عند الشافعية أيضا كما في مغني المحتاج (1) . ففي هذه المسألة أيضا لم يضمن الراكب؛ لأن ما فعلته دابته لا ينسب إليه فلم تتحقق منه مباشرة الإتلاف. 3- وكذلك قال البغدادي رحمه الله في مجمع الضمانات (2) : "جاء راعي أحمر ليعبرها (أي النهر) وجاء من جانب آخر صبي غير بالغ مع العجلة، فقال له الراعي: أمسك الثور مع العجلة حتى تمر الأحمرة، فلم يمكنه إمساكه، فمضي ووقع الحمار في النهر لم يضمن، وكذا الراعي إذا لم يمكنه إمساكه الحمار، وإلا يضمن) (3) وهنا أيضا لم يضمن الصبي ما حصل من عجلته من وقوع الحمار في النهر لأنه بالرغم من كونه راكبا، لا تصح نسبة رمي الحمار إليه، فلم تتحقق المباشرة". 4- وكذلك ذكر الفقهاء أنه إذا سقطت الدابة المركوبة ميتة فتلف بسقوطها شخص أو شيء، فلا ضمان على الراكب، قال الشربيني الخطيب رحمه الله: "لو سقطت الدابة ميتة، فتلف بها شيء لم يضمنه، وكذا لو سقط هو ميتا على شيء وأتلفه، لا ضمان عليه. فقال   (1) مصنف عبد الرزاق:9/423. (2) نصب الراية:4/ 388 - 389 ومغني المحتاج 4 /204. (3) مجمع الضمانات للبغدادي، ص (148) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الزركشي: وينبغي أن يلحق بسقوطها ميتة سقوطها بمرض أو عارض شديد ونحوه) (1) . وهنا لم يضمن الراكب لأن موت الدابة أو موت نفسه ليس فيه صنع لفعله، ولا اختيار، فلم تتحقق منه مباشرة الإتلاف. وكذلك إذا حصل السقوط بآفة سماوية كالمرض أو الريح الشديدة كما قال الزركشي. 5 - وكذلك ذكر الفقهاء مسألة اصطدام السفينتين، وأنه كاصطدام الراكبين في أن على كل واحد منهما ضمان الآخر، لكن قال الشربيني الخطيب رحمه الله (2) : (محل هذا التفصيل إذا كان الاصطدام بفعلهما، أو لم يكن وقصرا في الضبط، أو سيرا في ريح شديد، فإن حصل الاصطدام لغلبة الريح فلا ضمان على الأظهر، بخلاف غلبة الدابة (أي على أحد قولي الشافعية) فإن الضبط ثم ممكن باللجام ونحوه وإن تعمد أحدهما أو فرط دون الآخر، فلكل حكمه) . والمسالة المذكورة أيضا في كتاب الأم، وروضة الطالبين، وتحفة المحتاج، وجاء في الإنصاف للمرداوي: (إن اصطدمت سفينتان فغرقتا، ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر وما فيها، هكذا أطلق كثير من الأصحاب قال المصنف وغيره: محله إذا فرط. قال الحارثي: إن فرط ضمن كل واحد سفينة الآخر وما فيها، وإن لم يفرط فلا ضمان على واحد منهما ... وإن كانت إحداهما   (1) . مغني المحتاج للشربيني: 4 / 204 و405 (2) . مغني المحتاج 4 / 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 منحدرة، فعلى صاحبها ضمان المصعدة إلا أن يكون غلبه ريح، فلم يقدر على ضبطها ... وقال في المغني: إن فرط المصعد، بأن أمكنه العدول بسفينته، والمنحدر غير قادر ولا مفرط، فالضمان على المصعد؛ لأنه المفرط) (1) . ومحصل المسألة عند المالكية ما ذكره الحطاب رحمه الله تعالى قال: (قال أبو الحسن: مسألة السفينة والفرس على ثلاثة أوجه: إن علم أن ذلك من الريح في السفينة، وفي الفرس من غير راكبه، فهذا لا ضمان عليهم، أو يعلم أن ذلك من سبب النواتية في السفينة، ومن سبب الراكب في الفرس، فلا إشكال أنهم ضامنون، وإن أشكل الأمر حمل في السفينة على أن ذلك من الريح، وفي الفرس أنه من سبب راكبه) (2) . فاتفق هؤلاء الفقهاء على أن ملاح السفينة لا يضمن ما تلف بسفينته إذا لم يفرط في ضبطها؛ لأن السفينة الشراعية لا تتمحض مقدورة بيد الملاح، بل للرياح دور كبير في تسييرها، فلو غلبتها الرياح، فإن الإتلاف لا ينسب إلى الملاح، فلا تتحقق منه المباشرة. وإن هذه النصوص الفقهية تدل على مدى تعمق الفقهاء في التثبت من تحقق المباشرة، وإن هذه النقطة مهمة جدا، وسوف تفيد في عدة مسائل من حوادث السيارات وغيرها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.   (1) الإنصاف للمرداوي:6/244,كتاب الغضب, وراجع أيضا الشرح الكبير لابن قدامة مع المغني:5/456,وكتاب الأم:6/86, وروضة الطالبين:9/336,وتحفة المحتاج. (2) . مواهب الجليل للحطاب: 6 / 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 القاعدة الثالثة: المسبب ضامن إن كان متعديا: وإن هذه القاعدة ذكرها البغدادي في مجمع الضمانات (1) بقوله "المتسبب لا يضمن إلا أن يتعدى" وقد ذكرنا عبارة الزيلعي في تبيين الحقائق عند الكلام على القاعدة الثانية. وتعريف المسبب ما ذكره الحموي رحمه الله: "حد المسبب هو الذي حصل التلف بفعله، وتخلل بين فعله والتلف فعل مختار" (2) . ومثاله: من حفر بئرا، فسقط فيها رجل، فالحافر مسبب لسقوطه، فيضمن أن كان متعديا في الحفر، وإن لم يكن متعديا، فلا ضمان عليه. وقد وقع ههنا تسامح في التعبير في مجلة الأحكام العدلية، حيث ذكرت هذه القاعدة في المادة 93 بلفظ: (المتسبب لا يضمن إلا بالتعمد) وهذا خلاف ما ذكره جمهور الفقهاء، فإن تعمد الإضرار ليس بشرط لتضمين المسبب، ولذلك من حفر بئرا في غير ملكه، وسقط فيها رجل، فإن الحافر ضامن، ولو لم يحفرها بنية أن يتردى فيها رجل. فالصحيح من عبارة هذه القاعدة ما ذكرنا من أن المسبب لا يضمن إلا بالتعدي، ولو لم يكن متعمدا بالضرر أو بالتعدي. وقد نبه على هذا الخطأ في تعبير المجلة فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء (3) ، رحمه الله، وذكر أن التعبير الصحيح هو أن المسبب لا يضمن إلا بالتعدي، وهو موافق لسائر الكتب الفقهية، وقد   (1) . مجمع الضمانات، ص (165) (2) . شرح الأشباه والنظائر 1 / 196 (3) . راجع المدخل الفقهي العام: ف/658؛والفعل الضار والضمان فيه , ص77و78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ذكرت عند الكلام على القاعدة الثانية أنه، حفظه الله، قد فرق بين معنيين للتعدي بتمييز دقيق، وأن كلامه في موضوع المباشرة موفق قد أزاح كثيرا من الإشكالات، فجزاه الله تعالى خيرا، ولكن لي مآخذ جوهرية على ما ذكره في موضوع التسبيب، فإنه حفظه الله تعالى ذكر أن التعدي الذي يشترط لتضمين المسبب هو عين التعدي الذي يشترط لتضمين المباشر، وهو التعدي بمعنى المجاوزة إلى ملك الغير أو حقه، سواء كان بفعل مباح في نفسه. والواقع أنه على ما ذكره الشيخ الزرقاء، حفظه الله تعالى، لا يبقى هناك أي فرق بين المباشر والمسبب، مع أن الفقهاء قاطبة، فرقوا بينهما بأن المباشر يضمن وإن لم يتعد، والمسبب لا يضمن إلا بالتعدي، فالصحيح الذي يتبلور من كلام الفقهاء أن التعدي الذي يشترط لتضمين المسبب هو التعدي بالمعنى الثاني، وهو أن يكون فعله المسبب للضرر محظورا في نفسه، وإن التعدي بهذا المعنى لا يشترط في تضمين المباشر. القاعدة الرابعة: إذا اجتمع المباشر والمسبب، أضيف الحكم إلى المباشر: هذه القاعدة ذكرها ابن نجيم (1) بهذا اللفظ وقد أخذت في مجلة الأحكام العدلية (مادة90) من الأشباه وشرحها ابن نجيم بقوله: (فلا ضمان على حافر البئر تعديا بما أتلف بإلقاء غيره) . فهنا حافر البئر مسبب، والذي ألقى الشيء فيها مباشر، فيقدم المباشر على المسبب ويضاف الإتلاف إليه، فيصير ضامنا.   (1) الأِِشباه والنظائر لابن نجيم:1/196,قاعدة 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ولكن هذه القاعدة لها مستثنيات كثيرة، وتتلخص في نقطتين فيما يتعلق بموضوعنا: النقطة الأولى: إذا كان تأثير المسبب أقوى من تأثير المباشر أضيف الحكم إلى المسبب، وهذه القاعدة ليست مذكورة بهذا اللفظ في كتب القواعد الفقهية، ولكنها تستخلص من عدة جزئيات ذكرها الفقهاء في مستثنيات القاعدة الرابعة. فيقول العلامة علي حيدر رحمه الله في شرحه للمجلة (1) : "أما إذا كان السبب مما يفضي مباشرة إلى التلف، فيترتب الحكم على المتسبب، مثال ذلك لو تماسك شخصان، فأمسك أحدهما بلباس الآخر، فسقط منه شيء، كساعة مثلا، فكسرت، فيترتب الضمان على الشخص الذي أمسك بلباس الرجل رغما من كونه متسببا، والرجل الذي سقطت منه الساعة مباشر. لأن المسبب هنا قد أفضى إلى التلف مباشرة، دون أن يتوسط بينهما فعل فاعل آخر". والمثال الأوضح لذلك ما ذكره الفقهاء الحنفية من أن من أكره إنسانا على قتل الآخر إكراها ملجأ، فالقصاص على المكره (بكسر الراء) دون المكره (بفتح الراء) ، قال الكاساني (2) رحمه الله: (فأما المكره على القتل فإن كان الإكراه تاما، فلا قصاص عليه عند أبي حنيفة ومحمد، ولكن يعزر، ويجب على المكره) . وظاهر أن المكره (بالفتح) هو المباشر للقتل، والمكره لا يعدو   (1) . درر الحكام لعلي حيدر: 1 / 81 (2) . بدائع الصنائع 7 / 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 من أن يكون مسببا، ولكن الضمان هنا على المسبب دون المباشر، وذلك لأن تأثير فعل المسبب أقوى من تأثير المباشر، لكونه أصبح آلة في يد المكره. وكذلك قدمنا أن من نخس دابة مركوبة فوطئت رجلا، فإن الضمان على الناخس، دون الراكب، مع أن الناخس مسبب، والراكب مباشر في الظاهر، ولكن تأثير الناخس أقوى من تأثير الراكب في القتل، ولذلك قدم المسبب على المباشر. إن هذه الجزئيات تبدو خارجة عن القاعدة الرابعة، ولكننا إذا تأملناها في ضوء ما قدمنا في القاعدة الثانية من تفسير المباشرة، وأن تحقق المباشرة بمفهومها الصحيح شرط للتضمين بدون التعدي، ربما يتبين أن الذي أطلق عليه لفظ " المباشر" في الأمثلة الثلاثة المذكورة، ليس مباشرا في الحقيقة، بحيث تصح نسبة الإتلاف إليه بوجه معقول، وإنه لم يضمن الإتلاف من هذه الجهة، لا من حيث أن المسبب مقدم على المباشر. فإن من سقطت ساعته بإمساك الآخر ثوبه، لا يصح أن يسمى مباشرا لإسقاط الساعة؛ لأن المباشرة تقتضي عملا، وهذا الرجل لم يعمل شيئا، فيبقى الممسك سببا للإسقاط بدون مزاحم، وربما أنه متعد في الإمساك، فلا يبرأ من الضمان. وكذلك المكره (بفتح الراء) وإن كان مباشرا للقتل، ولكنه بحكم كونه ملجئا من قبل المكره (بالكسر) وآلة محضة في يد المكره، لم تعتبر مباشرته في إيجاب الضمان، وإن كان مباشرا لغويا. ومثل ذلك يقال في الناخس، فإنه هو الذي سبب ركض الدابة التي خرجت عن قدرة الراكب، وصار الراكب لا فعل له ولا اختيار، فلا يصح أن يسمى مباشرا، فبقي المسبب بدون مزاحم، فنسب التلف إليه، وصار ضامنا. ثم رأيت للعلامة خالد الأتاسي رحمه الله تعالى بحثا نفيسا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 الموضوع يؤيد ما قلنا، فنورده بلفظه: "المباشر: هو الذي حصل التلف مثلا بفعله بلا واسطة، فكان هو صاحب العلة يضاف إليه التلف - والمتسبب: ما حصل التلف لا بمباشرته وفعله، بل بواسطة هي العلة، لحصول المعلول، وهو فعل فاعل مختار، وأما فعله فلا تأثير له سوى أنه مفض إليه. فإن اجتمعا فكما صرحت المادة يضاف الحكم إلى المباشر، لأنه صاحب العلة، وهي أقوى ... واعلم أنه متى كان المتوسط بين السبب والمعلول صالحا لإضافة المعلول إليه، يكون السبب حينئذ سببا حقيقيا، أي سببا محضا، بمعنى أنه لا مزية له سوى الإفضاء إلى حصوله-وعرفوه بأنه ما توسط بينه وبين الحكم علة، وذلك المتوسط هو العلة، وهذا هو المبحوث عنه في القاعدة. ومتى كان المتوسط غير صالح لذلك، فالحكم يضاف إلى السبب، ويكون حينئذ في معنى العلة، ومعرفة هذا الضابط ينفعك في كثير من الوقائع, وصورة اجتماعهما ما ذكر في المادة: فإن ملقي الحيوان مباشر تلفه بالذات، وحافر البئر متسبب؛ لأن حفره أفضى إلى التلف، فالضمان على المباشر ... وإذا انفرد السبب - وذلك فيما لو كان الحائل المتوسط بينه وبين الحكم، أعني المعلول، غير صالح لإضافة الحكم إليه - يكون في معنى العلة المؤثرة، فيضاف الحكم إليه، ويكون المتسبب ضامنا-كسوق الدابة، فإنه غير موضوع للتلف، ولا هو مؤثر فيه، بل طريق للوصول إليه، والعلة للتلف التوسط بينه وبين السوق، وهو وطء الدابة إنسانا أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 مالا بقوائمها وثقلها، ولكن لما لم يكن هذا المتوسط فعل فاعل مختار أضيف الحكم إلى السبب، وهو السوق الواقع من السائق، فكأنه دافع للدابة على ما وطئت عليه، فيضمن، لأنه سبب فيه معنى العلة". (1) النقطة الثانية: إذا كان المسبب متعديا، والمباشر غير متعد: والنقطة الثانية في مستثنيات القاعدة الرابعة التي ذكرها بعض الفقهاء هي أنه إذا كان المسبب متعديا، والمباشر غير متعد في فعله، فالحكم يضاف إلى المسبب المتعدي، وإن هذه القاعدة ذكرها صاحب الهداية في مسألة من نخس دابة فقتلت رجلا، فإن الضمان على الناخس دون الراكب، وقد ذكرنا عبارته في القاعدة الثانية بتمامها، وفيها: (ولأن الناخس متعد في تسبيبه، والراكب في فعله غير متعد، فيترجح جانبه في التغريم للتعدي) (1) . وقد اعترض عليه صاحب العناية بأن كون المباشر غير متعد لا يبرئه من الضمان، فهذا التعليل الذي ذكره صاحب الهداية غير صحيح فيما إذا وطئت الدابة أحدا، ولكن يمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن المباشر يضمن، وإن لم يكن متعديا فيما إذا كانت مباشرته هي السبب الوحيد في التلف. أما إذا كان هناك مسبب آخر، وهو متعد في تسبيبه، والمباشر غير متعد في فعله، فحينئذ يقدم المسبب على المباشر. نعم، إن كان كل من المباشر والمسبب متعديا، فالمباشر مقدم على المسبب. وربما يتأيد هذا بمسألة أخرى ذكرها البغدادي في مجمع الضمانات، قال:   (1) شرح المجلة:1/249, 250 رقم المادة: 90 (2) . الهداية مع فتح القدير 9 / 267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 (قصار أوقف دابة في الطريق، وعليها ثياب، فصدمها راكب ومزق بعض الثياب التي كانت على الدابة، قال الشيخ أبو بكر البلخي: إن رأى الراكب الدابة الواقفة ضمن، وإن لم يبصر لم يضمن. ولو مر رجل على ثوب موضوع في الطريق وهو لا يبصره فتخرق، لا يضمن) (1) . فالقصار الذي أوقف دابته في الطريق مسبب لتخرق الثياب، وهو متعد، لأنه أوقف دابته في الطريق، وراكب الدابة الأخرى مباشر، فلو لم يبصر الدابة الواقفة لم يكن متعديا، فلا ضمان عليه، وينسب التمزيق إلى المسبب وهو القصار، فكأنه مزق ثيابه بنفسه، فلا يضمنه أحد. أما إذا أبصر الراكب الدابة الواقفة، ومع ذلك صدمها فإنه متعد، ومتى اجتمع تعدي المسبب وتعدي المباشر، فالمباشر أولى بالضمان، ولذلك ضمن الثياب للقصار، وكذلك من وضع ثوبا في الطريق، فإنه مسبب لتخرقه، وهو متعد من حيث إن الطريق غير موضوع لوضع الثياب، والرجل المار مباشر لتمزيق الثياب، فإن كان قد أبصر الثياب، فإنه متعد، فيضمن، وإن لم يكن أبصرها، فليس متعديا فلا يضمن. وكذلك ذكر البغدادي مسألة أخرى، قال: (مر بحمار عليه حطب، وهو يقول: إليك إليك، إلا أن المخاطب لم يسمع ذلك حتى أصاب ثوبه وتخرق يضمن، وإن سمع إلا أنه لم يتهيأ له التنحي بطول المدة فكذلك. وأما إذا أمكنه ولم يتنح لا يضمن) (2) . فصاحب الحمار هنا مباشر على قول من يعد السائق والقائد   (1) مجمع الضمانات: ص/147,باب11,فصل 1 (2) مجمع الضمانات: ص 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 مباشرا، وهو غير متعد، إذ نادى " إليك " فصار ضامنا عند عدم سماع المخاطب، وكذلك إذا لم يجد المخاطب فرصة للتنحي، أما إذا لم ينتح وقد أمكنه ذلك، فهو المسبب المتعدي فأضيف التلف إليه. فبناء على قول صاحب الهداية، ونظرا إلى هذه الجزيئات، تتحصل صور آتية: 1- إذا كان المباشر هو السبب الوحيد في الإتلاف، فهو ضامن، سواء كان متعديا، أو غير متعد، بمعنى أنه لم يفعل فعلا محظورا في نفسه. 2- إذا اجتمع المباشر والمسبب، وليس أحد منهما متعديا (بالمعنى المذكور) فالضمان على المباشر. 3- إذا اجتمع المباشر والمسبب، والمباشر متعد والمسبب غير متعد، فالضمان على المباشر. 4- إذا اجتمع المباشر والمسبب، وكل واحد منهما متعد، فالضمان على المباشر أيضا. 5- إذا اجتمع المباشر والمسبب، والمسبب متعد، والمباشر غير متعد، فالضمان على المسبب. هذا ما تنقح لي من ضوابط الضمان المتعلقة بحوادث السير مستخلصة من كتب الفقهاء، والله سبحانه وتعالى أعلم. حوادث السيارات وبعد تمهيد هذه القواعد وشرحها، نرجع إلى أحكام حوادث السيارات، ونذكرها في ضوء ما شرحنا من القواعد والجزئيات الفقهية المتعلقة بها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 مدى مسؤولية السائق بسيارته: الأصل: أن سائق السيارة مسؤول عن كل ما يحدث بسيارته خلال تسييره إياها، وذلك لأن السيارة آلة في يده، وهو يقدر على ضبطها، فكل ما ينشأ عن السيارة، فإنه مسؤول عنه. والذي يظهر لي أن هناك فرقا كبيرا بين الدابة والسيارة من حيث إن الدابة متحركة بنفسها بخلاف السيارة، فإنها لا تتحرك إلا بفعل من السائق. ومن هذه الجهة أرى أن ما ذكره الفقهاء من الفرق بين ما أصابته الدابة بفمها أو يدها وبين ما نفحته برجلها أو بذنبها، لا يتأتى في السيارة، فإنهم ضمنوا الراكب في الحالة الأولى، ولم يضمنوه في الحالة الثانية؛ لأن راكب الدابة لا يمكنه التحرز عما تفعله الدابة برجلها أو بذنبها. أما السيارة، فلا تتحرك بنفسها، فجميع السيارة آلة للراكب، وهو يقدر على ضبط جميع أجزائها؛ لأن أجزاءها متماسكة بعضها مع بعض، ليس لجزء منها حركة مستقلة عن حركة الآخر، ولذا فيجب أن يضمن سائق السيارة لكل ضرر ينشأ عنها، سواء نشأ ذلك الضرر من أجزاء السيارة المتقدمة، أو من أجزائها المؤخرة، أو من أحد جانبيها. لأن كل ذلك تحت تصرف السائق، وليس شيء منها يتحرك بنفسه. إذن، فالأصل أن سائق السيارة ضامن لكل ضرر ينشأ من عجلاتها، أو من مقدمها، أو من خلفها، أو من أحد جانبيها؛ لأن السيارة آلة محضة في يد السائق، فتنسب مباشرة الإضرار إليه. فإن كان سائق السيارة متعديا في سيره بمخالفة قواعد المرور، مثل أن يسوق السيارة بسرعة غير معتادة في مثل ذلك المكان، أو لم يلتزم بخطه في الشارع، وما إلى ذلك من قواعد المرور الأخرى، فلا خفاء في كونه ضامنا؛ لأن الضرر إنما نشأ بتعديه، والمتعدي ضامن في كل حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 أما إذا لم يكن متعديا في السير، بأن ساق سيارته ملتزما بجميع قواعد المرور، فهل يضمن الضرر الذي أصاب رجلا آخر بسيارته في هذه الحالة؟ قد اختلف فيها أنظار العلماء في عصرنا، فمنهم من يقول: إنه يضمن لكونه مباشرا، والمباشر يضمن ولو لم يكن متعديا. ومنهم من يقول: لا يضمن لأن ما يحدث بعد الالتزام بقواعد المرور حادثة سماوية لا يمكن الاحتراز عنها، والمباشر إنما يضمن فيما يمكن الاحتراز منه، لا فيما لا يمكن الاحتراز منه. والذي يظهر لي في ضوء القواعد والجزئيات الفقهية التي ذكرتها فيما قبل - والله سبحانه وتعالى أعلم - أن السائق يضمن الضرر الذي باشره، وإن لم يكن متعديا لأنه قد تقرر بإجماع الفقهاء أن المباشر لا يشترط لتضمينه أن يكون متعديا، ولكن يجب أن تتحقق منه مباشرة الضمان على الوجه الذي ذكرناه في تفسير القاعدة الثانية، فيجب لتضمينه أن تصح نسبة المباشرة إليه بدون مزاحم على وجه معقول. وعلى هذا الأساس لا يضمن في الصور الآتية: 1- إذا كان السائق يسوق سيارته ملتزما بجميع قواعد المرور، ولكن دفع شخص رجلا آخر أمام سيارته فجأة بحيث لم يمكن له أن يوقف السيارة قبل أن تدهسه، فدهسته السيارة. فهنا لا يضمن السائق، وإنما يضمنه الدافع، وهذا كما نخس أحد دابة فقتلت رجلا، فالضمان على الناخس دون الراكب؛ لأن نسبة المباشرة لا تصح إلى سائق السيارة في هذه الصورة؛ لأن تأثير الدافع ههنا أقوى من تأثير الراكب، أو كما قال صاحب الهداية: الدافع متعد، والسائق غير متعد. 2- إذا أوقف السائق سيارته أمام إشارة المرور منتظرا إشارة فتح الطريق فصدمته سيارة من خلفه ودفعتها إلى الإمام فصدمت سيارته أحدا، فليس الضمان على سائق السيارة الأمامية، بل الضمان على سائق السيارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 التي صدمتها من خلفها؛ لأنه لا تصح نسبة المباشرة إلى السيارة الأمامية، فإنها مدفوعة بمنزلة الآلة للسيارة الخلفية. وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية في قراراتها المنشورة في مجلة البحوث الإسلامية (1) . وإن هذه الصورة منطبقة تماما على ما ذكره الفقهاء فيما إذا نخس أحد دابة فأصابت أحدا، فإن الضمان على الناخس دون الراكب. ومما يؤيده أيضا ما ذكره البغدادي رحمه الله في مجمع الضمانات، قال (1) : "فإن عثر بما أحدثه في الطريق رجل فوقع على آخر فمات، كان الضمان على الذي أحدثه في الطريق، وصار كأنه دفع الذي عثر به، لأنه مدفوع في هذه الحالة، والمدفوع كالآلة". فالظاهر في هذا المثال أن الرجل الذي وقع على آخر، هو المباشر للإهلاك، ولكن وقع الضمان على المسبب لكونه متعديا ولكون تأثيره أقوى بحيث لم يبق للرجل الواقع صنع ولا اختيار، فلم تنسب المباشرة إليه. فكذا في مسألتنا. 3- إذا كانت السيارة سليمة قبل السير بها، وكان السائق يتعهدها تعهدا معروفا، ثم طرأ عليها خلل مفاجئ في جهاز من أجهزتها، حتى خرجت السيارة من قدرة السائق ومكنته من ضبطها، فصدمت إنسانا فقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في المملكة العربية السعودية، بأنه لا ضمان على السائق، وكذلك لو انقلبت بسبب ذلك على أحد أو شيء فمات أو تلف، فلا ضمان عليه (2) .   (1) مجمع الضمانات: ص176 باب12 فصل2. (2) مجلة البحوث الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 ويمكن أن تخرج هذه الفتوى على ما قدمنا في القاعدة الثانية من نص الفقهاء على أن الدابة إن جمحت وخرجت من قدرة الراكب، فلا ضمان عليه. وذلك لأن ما حصل بالسيارة بعد خروجها من ضبط السائق بحادثة حدثت بجهاز من أجهزتها لا تصح نسبتها إلى السائق، ولا يقال: إن السائق مباشر للإتلاف، وغاية ما يقال فيه: إنه مسبب للهلاك، فإنه هو الذي سير السيارة في مبدأ الأمر، وبما أنه مسبب، فيشترط لتضمينه التعدي. فإن كان يتعهد السيارة تعهدا معروفا، ويسيرها ملتزما بقواعد المرور سيرا عاديا، فلا ضمان عليه لعدم التعدي، نعم! إن أخل بشرط من هذه الشروط، مثل عدم تعهده للسيارة أو تسييرها مع خلل ظاهر في جهاز من أجهزتها، أو سوقها سوقا عنيفا، فإنه يضمن في كل ذلك، وإن خرجت السيارة من ضبطه، لأنه مسبب لانفلات السيارة بتعديه. وربما تشهد لهذه الفتوى جزئية ذكرها الكاساني رحمه الله في البدائع، قال: "وكذلك (يضمن) إذا كان مشى في الطريق حاملا سيفا، أو حجرا، أو لبنة، أو خشبة، فسقط من يده فقتله، لوجود معنى الخطأ فيه، وحصوله على سبيل المباشرة، لوصول الآلة لبشرة المقتول، ولو كان لابسا سيفا، فسقط على غيره فقتله، أو سقط عنه ثوبه، أو رداؤه، أو طيلسانه، أو عمامته وهو لابسه، على إنسان فتعقل به فتلف، فلا ضمان عليه أصلا؛ لأن في اللبس ضرورة، إذ الناس يحتاجون إلى لبس هذه، والتحرز عن السقوط ليس في وسعهم، فكانت البلية فيه عامة، فتعذر التضمين، ولا ضرورة في الحمل، والاحتراز عن سقوط المحمول ممكن أيضا. وإن كان الذي لبسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 مما لا يلبس عادة فهو ضامن" (1) . ويؤيده أيضا ما ذكرنا في القاعدة الثانية أنه لو سقطت الدابة ميتة أو بمرض أو عارض ريح شديد ونحوه، وتلف بسقوطها شيء لم يضمنه الراكب (2) . 4- إذا ساق إنسان سيارة في شارع عام ملتزما السرعة المقررة، ومتبعا خط السير حسب النظام، ومتبصرا في سوقه حسب قواعد المرور، فقفز رجل أمامه فجأة، فصدمته السيارة رغم قيام السائق بما وجب عليه من الفرملة ونحوها، فإن اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في المملكة العربية السعودية أبدت في هذه الصورة احتمالات مختلفة ولم تبت فيها بشيء، ونص قرارها في هذه الصورة كما يلي: "أمكن أن يقال بتضمين السائق من مات بالصدم أو كسر مثلا بناء على ما تقدم من تضمين الراكب أو القائد أو السائق ما وطئت الدابة بيديها. وقد يناقش بأن كبح الدابة وضبطها أيسر من ضبط السيارة، ويمكن أن يقال بضمان كل منهما ما تلف عند الآخر من نفس ومال بناء على ما تقدم من الحنفية والمالكية والحنابلة ومن وافقهم في تضمين المتصادمين. ويمكن أن يقال بضمان السائق ما تلف من نصف الدية أو نصف الكسور، لتفريطه بعدم احتياطه بالنظر لما أمامه من بعيد، وبضمان المصدوم نصف ذلك باعتدائه بالمرور فجأة أمام السيارة دون الاحتياط لنفسه، بناء على ما ذكره الشافعي وزفر وعثمان البتي ومن وافقهم في تضمين المتصادمين، ويحتمل أن يقال: إنه هدر، لانفراده بالتعدي" (3) .   (1) بدائع الصنائع للكاساني:7/271. (2) مغني المحتاج للشربيني:4/204و205. (3) مجلة البحوث الإسلامية: عدد26_ 1409هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 والذي يظهر لي في هذه الصورة - والله سبحانه أعلم - أن الرجل الذي قفز أمام السيارة إن قفز بقرب منها بحيث لا يمكن للسيارة في سيرها المعتاد في مثل ذلك المكان أن تتوقف بالفرملة، وكان قفزه فجأة لا يتوقع مسبقا لدى سائق متبصر محتاط، فإن هلاكه أو ضرره في مثل هذه الصورة لا ينسب إلى سائق السيارة، ولا يقال: إنه باشر الإتلاف، فلا يضمن السائق، ويصير القافز مسببا لهلاك نفسه، وذلك لوجوه: أولا: لو قلنا بضمان السائق في هذه الصورة، لزم منه أنه لو عزم رجل على قتل نفسه، فقفز أمام سيارة أو قطار بقصد إهلاك نفسه، فإن السائق يضمنه، وهذا مخالف للبداهة. ثانيا: قد قررنا في القاعدة الثانية أنه يجب لتضمين المباشر أن تتحقق منه مباشرة الإتلاف بدون شك. وحيث كان تأثير المسبب أقوى من تأثير المباشر، أو انعدم اختيار المباشر بفعل رجل آخر، كما في مسألة نخس الدابة، فإنه لا يعد مباشرا للإتلاف، فلا يجب عليه الضمان. ثالثا: إذا كان المباشر ملجأ من قبل الآخر، كما في صورة الإكراه، فإنه لا يعد مباشرا حقيقيا للقتل والإتلاف، وإنما ينسب الإتلاف إلى من أكرهه على ذلك، فصار كما إذا أكره رجل آخر على قتل نفسه، فقتله المكره في حالة الإكراه الملجئ، فلا ضمان على القاتل المكره، لأنه لا ينسب مباشرة القتل إلى المكره (بالفتح) بل لا تنسب مباشرة الإتلاف إلى السائق في مسألتنا بالطريق الأولى؛ لأن الإكراه لا يعدم القدرة على التحرز من الفعل الذي وقع الإكراه عليه، فيمكن للمكره أن يتحرز عن القتل على قيمة نفسه، ولذلك يستحق التعزير على قتله. بخلاف السائق في صورتنا، فإنه لم يبق له اختيار ولا قدرة على صيانة القافز من صدم السيارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 رابعا: قدمنا عن صاحب الهداية أنه لو كان المسبب متعديا والمباشر غير متعد، فالمسبب أولى بالضمان من المباشر، ولا شك في تعدي القافز في مسألتنا، وعدم تعدي السائق، فليكن القافز هو المسئول عن فعل نفسه. خامسا: لا أقل من أنه قد وقع الشك في كون السائق مباشرا للإتلاف وفي كونه ضامنا، ومن أكبر الشواهد على ذلك أن اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء السابق ذكرها قد ترددت في ضمان السائق، وفي صورة الشك لا يجب الضمان، قال البغدادي في مجمع الضمانات: (رجل حفر بئرا في الطريق، فسقط فيها إنسان ومات، فقال الحافر: إنه ألقى نفسه فيها، وكذبته الورثة في ذلك، كان القول قول الحافر في قول أبي يوسف الآخر، وهو قول محمد؛ لأن الظاهر أن البصير يرى موضع قدمه، وإن كان الظاهر أن الإنسان لا يوقع نفسه، وإذا وقع الشك، لا يجب الضمان بالشك) (1) . وربما يستدل على تضمين السائق في هذه الصورة بما يأتي: أ- اتفق الفقهاء على تضمين راكب الدابة ما وطئته خلال سيرها، ولم يستثنوا من ذلك صورة قفز الرجل أمام الدابة، فهذا يدل على أنهم يقولون بتضمينه في هذه الصورة أيضا. وهذا الدليل ليس بصحيح؛ لأن الفقهاء لم يذكروا هذه الصورة لا نفيا للتضمين فيها ولا إثباتا لها، ومجرد سكوتهم عن ذلك لا يدل على   (1) مجمع الضمانات للبغدادي: ص180,باب12 فصل 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 التضمين، لأنه لا ينسب لساكت قول، وخاصة حينما ذكروا أصولا في ضمن جزئيات أخرى تدل على عدم التضمين في هذه الصورة، ولعلهم لم يذكروها من جهة أن ذلك كان نادرا في عهدهم؛ لأن ضبط الدابة أيسر من ضبط السيارة، ولأن الدابة متحركة بنفسها، فربما تتنحى في سيرها بنفسها برؤية من يعرض لها في الطريق، بخلاف السيارة، ولأن الطرق المدنية في ذلك الزمان كانت موضوعة في الأصل للمشاة، فلم تكن الدواب تسرع فيها المشي، بخلاف السيارات فإنها تسير على طرق معبدة وضعت في الأصل للمراكب السريعة. ب- وقد يقال: إن النائم الذي ينقلب على الرجل الآخر يضمن ما أصابه من ضرر، وبالرغم من أن النائم لا تكليف عليه فإنه حكم عليه الفقهاء بالضمان إجماعا، فتبين أن المباشر يضمن، ولو صدر منه الفعل بغير اختياره، فينبغي أن يضمن السائق أيضا، ولو صدر منه الإهلاك بدون اختياره. والجواب عن ذلك: أن المباشر لو كان هو السبب الوحيد في هلاك شخص، فإنه يضمن الهلاك، ولو صدر منه ذلك بدون اختيار (ويستثنى منه ما لا يمكن الاحتراز منه، وما عمت به البلوى، كما قدمنا عن البدائع أنه لو سقط السيف عن لابسه، فإنه لا يضمن) ولكن إذا كان هناك شخص آخر مختار يزاحمه في نسبة الإهلاك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 إليه، وتأثير فعله أقوى من تأثير المباشر، فإن الهلاك يضاف إلى ذلك الشخص الآخر، كما قدمنا في غير واحد من الأمثلة، ولا سيما في مسألة الناخس، وفي مسألة من وقع على غيره بعثرة حصلت له بوضع حجر في الطريق، فإنه لا يضمن، بل يضمن واضع الحجر. ففي مسألة النائم، ليس هناك من يزاحمه في نسبة الإهلاك إليه، بخلاف مسألتنا في السيارة، فإن القافز هنا يزاحم السائق في نسبة الإهلاك إليه، وهو أولى بهذه النسبة لتعديه من السائق الملتزم الذي لا اختيار له. ولذلك لو رأى زيد مثلا أن عمرا نائم، هو على وشك أن ينقلب فوضع صبيا تحته حتى انقلب النائم عليه فأهلكه، فلا شك أن الضمان في هذه الصورة ليس على النائم، بل على الرجل الذي وضع الصبي تحته، مع أن النائم هو المباشر في الظاهر، وذلك لأن واضع الصبي يزاحمه في نسبة الإهلاك إليه، وتأثير فعله أقوى من تأثير فعل النائم، لأنه مختار ومعتد، بخلاف النائم، فكذا في مسألتنا. وإلى هنا قد ذكرت بتوفيق الله سبحانه وتعالى المسائل المهمة التي قد يقع فيها الاشتباه في عصرنا في حوادث المرور، والقواعد التي تنبني عليها مثل هذه المسائل، ويمكن على هذا الأساس أن تستخرج المسائل الأخرى في هذا الباب، وما تمكنت في هذه العجالة من استقصاء الجزئيات التي تتصور في عهدنا من حوادث المرور على الرغم من رغبتي لذلك، وذلك لضيق الوقت وارتباطي بالمهام الأخرى، ولكن أرجو أن ما ذكر في هذه العجالة سيكون عونا بإذن الله تعالى لاستخراج أحكام الصور الأخرى والله سبحانه أعلم وعلمه أتم وأحكم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 (11) أجوبة عن استفتاء المركز الإسلامي بواشنطن بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من:8 إلى 13 صفر 1407هـ, الموافق من 11_16 أكتوبر 1986م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 المسائل التي يكثر تساؤل المسلمين عنها في أمريكا الشمالية والجنوبية وأوروبا بسم الله الرحمن الرحيم 1- ما حكم التجنس بالجنسية الأجنبية أمريكية كانت أو أوروبية. علما بأن معظم الذين قبلوا التجنس بهذه الجنسيات أو يعتزمون الحصول عليها يؤكدون أنهم ما فعلوا ذلك إلا لأنهم قد أوذوا واضطهدوا في بلادهم الأصلية بالسجن أو التهديد ومصادرة الأموال وغيرها. وبعضهم يرى أنه ما دامت الأحكام الشرعية والحدود معطلة في بلاده الأصلية فأي فرق بين أن يحمل جنسية ذلك البلد الذي اضطهده والبلد الذي اختار أن يستوطن فيه وفي كليهما لا تطبق الأحكام الشرعية، ولا تقام الحدود وهو في بلد مهجره مصانة حقوقه الشخصية دمه وماله وعرضه ولا يمكن سجنه أو تهديده إلا إذا فعل ما يستوجب ذلك؟ 2- لولادة الأبناء وتنشئتهم في أمريكا وأوروبا ونحوها من بلاد غير المسلمين مساوئ ومخاطر، وبعض المحاسن، واحتمال اكتسابهم من عادات أبناء النصارى واليهود الكثير احتمال قائم -خاصة- في حالة انشغال الوالدين أو وفاة أحدهما أو كليهما. مع ملاحظة أن كثيرا من الناس هنا على الدوام يذكرون بأن أبنائهم في بعض البلدان الإسلامية التي كانوا يقيمون فيها يتعرضون لاحتمالات الردة باعتناق الشيوعية واللادينية أو نحوها من الأفكار الإلحادية التي تروج لها حكومات بعض البلدان الإسلامية وتدخلها في برامج التعليم والتوجيه العام، وتضطهد من يرفضها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 ويؤكد المستوطنون -هنا- من المسلمين أنه لم يطلب من أحدهم أن يغير دينه، أو أنه وجه نحو دين آخر، وذلك لضعف الاهتمام بالناحية الدينية هنا. 3- ما حكم زواج المسلمة بغير المسلم خاصة إذا طمعت في إسلامه بعد الزواج حيث تدعي مسلمات كثيرات أنه لا يتوفر لهن الأكفاء من المسلمين في غالب الأحيان، وأنهن مهددات بالانحراف، أو يعشن في وضع شديد الحرج؟ 4- ما حكم استمرار الزوجية والمعاشرة بين زوجة دخلت الإسلام وبقي زوجها على الكفر ولها منه أولاد تخشى عليهم الضياع والانحراف، ولها طمع في أن يهتدي زوجها إلى الإسلام فيما إذا لم يكن هناك طمع في إسلامه، ولكنه يحسن معاشرتها وتخشى لو تركته ألا تعثر على زوج مسلم؟ 5- ما حكم دفن المسلم في مقابر غير المسلمين، حيث لا يسمح بالدفن خارج المقابر المعدة لذلك، ولا توجد مقابر خاصة بالمسلمين في معظم الولايات الأمريكية والأقطار الأوربية؟ 6- ما حكم بيع المسجد (إذا انتقل المسلمون عن المنطقة التي هو فيها وخيف تلفه أو الاستيلاء عليه) فكثيرا ما يشتري المسلمون منزلا ويحولونه مسجدا فإذا انتقلت غالبية المسلمين من المنطقة لظروف العمل هجر المسجد أو أهمل، وقد يستولي عليه آخرون، ومن الممكن بيعه واستبداله بمسجد يؤسس في مكان فيه مسلمون، فما حكم هذا البيع أو الاستبدال؟ وإذا لم تتيسر فرصة استبداله بمسجد آخر فما أقرب الوجوه التي يجوز صرف ثمن المسجد فيها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 7- كثيرات من بنات المسلمين ونسائهم تدعوهن ظروف العمل أو الدراسة إلى السفر إلى ولايات أخرى (أبعد من مسافة القصر) بالطائرة أو غيرها من وسائل السفر، بدون محرم، ومن غير رفقة من نسوة تعرفهن أو يعرفنها غير رفقة المسافرين والمسافرات عادة فما حكم هذا السفر؟ 8- بعض النساء أو الفتيات تضطرهن ظروف العمل او الدراسة إلى الإقامة بمفردهن، أو مع نسوة غير مسلمات، فما حكم هذه الإقامة؟ 9- كثيرات من النساء -هنا- يذكرن أن أقصى ما بإمكانهن ستره من أجسادهن هو ما عدا الوجه والكفين بعضهن تمنعهن جهات العمل أو الدراسة من ستر رؤوسهن وأعناقهن، فما أقصى ما يمكن السماح بكشفه من أجزاء جسم المرأة بين الأجانب في محلات العمل أو الدراسة؟ 10- يضطر كثير من الطلاب المسلمين إلى العمل في هذه البلاد لتغطية نفقات الدراسة والمعيشة لأن كثيرا منهم لا يكفيه ما يرده من ذويه مما يجعل العمل ضرورة له لا يمكن أن يعيش بدونه. وكثير منهم لا يجد عملا إلا في مطاعم تبيع الخمور أو تقدم وجبات فيها لحم الخنزير من المحرمات فما حكم عمله في هذه المحلات؟ 11- ما حكم بيع المسلم للخمور والخنازير، أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين؟ علما بأن بعض المسلمين في هذه البلدان قد اتخذوا من ذلك حرفة لهم. 12- هناك كثير من الأدوية تحوي كميات مختلفة من الكحول تتراوح بين 1 % و25 % ومعظم هذه الأدوية من أدوية الزكام واحتقان الأنف والحنجرة والسعال وغيرها من الأمراض السائدة. وتمثل هذه الأدوية الحاوية للكحول ما يقارب 95 % من الأدوية في هذا المجال مما يجعل الحصول على الأدوية الخالية من الكحول عملية صعبة أو متعذرة، فما حكم تناول هذه الأدوية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 13- هناك الخمائر والجلاتين توجد فيها عناصر مستخلصة من الخنزير بنسب ضئيلة جدا فهل يجوز استعمال هذه الخمائر والجلاتين؟ 14- يضطر معظم المسلمين إلى إقامة حفلات الزفاف لبناتهم في مساجدهم وكثيرا ما يتخلل هذه الحفلات رقص وإنشاد أو غناء، ولا تتوفر لهم أماكن تتسع لمثل هذه الحفلات فما حكم إقامة مثل هذه الحفلات في المساجد؟ 15- بعض الحكومات النصرانية (خاصة في أمريكا الجنوبية) تفرض على رعاياها التسمي بالأسماء النصرانية، وتضع قوائم بأسماء اختارتها للأطفال ذكورا وإناثا ولا تسمح بتسجيل المواليد بأسماء تختار من غير هذه القوائم، فما حكم تسمي المسلمين بهذه الأسماء، وما الحلول التي تقترحونها في هذه الأحوال؟ 16- ما حكم زواج الطالب أو الطالبة المسلمة زواجا لا ينوى استدامته بل النية منعقدة عنده على إنهائه بمجرد انتهاء الدراسة والعزم على العودة إلى مكان الإقامة الدائم، ولكن العقد يكون -عادة- عقدا عاديا وبنفس الصيغة التي يعقد بها الزواج المؤبد، فما حكم هذا الزواج؟ 17- ما حكم ظهور المرأة في محلات العمل أو الدراسة بعد أن تأخذ من شعر حاجبيها وتكتحل؟ 18- بعض المسلمات يجدن حرجا في عدم مصافحتهن للأجانب الذين يرتادون الأماكن التي يعملن أو يدرسن فيها، فيصافحن الأجانب دفعا للحرج. فما حكم هذه المصافحة؟ وكذلك الحال بالنسبة لكثير من المسلمين الذين تتقدم إليهم نساء أجنبيات مصافحات، وامتناعهم عن مصافحتهن يوقعهم في شيء من الحرج على حد ما يذكرون ويذكرون؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 19- ما حكم استئجار الكنائس أماكن لإقامة الصلوات الخمس أو صلاة الجمعة والعيدين، مع وجود التماثيل وما تحتويه الكنائس عادة. علما بأن الكنائس-في الغالب-أرخص الأماكن التي يمكن استئجارها من النصارى دون مقابل؟ 20- ما حكم ذبائح أهل الكتاب من اليهود والنصارى وما يقدمونه من طعام في مطاعمهم مع عدم العلم بالتسمية عليها؟ 21- كثير من المناسبات العامة التي يدعى المسلمون لحضورها تقدم فيها الخمور ويختلط فيها النساء والرجال، واعتزال المسلمين لبعض هذه المناسبات قد يؤدي إلى عزلهم عن بقية أبناء المجتمع، وفقدانهم لبعض الفوائد، فما حكم حضور هذه الحفلات من غير مشاركة لهم في شرب الخمر أو الرقص أو تناول الخنزير؟ 22- بعض الأقطار في شمال أوروبا يقصر فيها الليل كثيرا ويطول فيها النهار كثيرا، حيث تصل ساعات الصيام في بعض هذه البلدان إلى عشرين ساعة أو تزيد، وكثير من المسلمين يجدون مشقة زائدة في الصيام. فهل يجوز اللجوء -في هذه البلدان- إلى التقدير، وما نوع التقدير الذي يمكن اعتماده إذا كان جائزا، وهل يكون التقدير بساعات الصيام في مكة أو بساعات النهار في أقرب البلدان اعتدالا، أو بماذا؟ وإذا لم يكن ذلك جائز فهل يعتبر هذا النوع من المشقة من المشاق التي يجب على المسلم احتمالها والصبر عليها مع احتمال الضرر، وهل يجب عليه أن يترك عمله في شهر الصيام إذا لم يكن بمقدوره الصيام إلا بترك العمل من قبيل ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب. 23- في كثير من الولايات الأمريكية وكذلك الأقطار الأوربية تصعب أو تتعذر رؤية هلال رمضان أو شوال، والتقدم العلمي الموجود في كثير من هذه البلدان يمكن من معرفة ولادة الهلال بشكل دقيق بطريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الحساب، فهل يجوز اعتماد الحساب في هذه البلدان؟ وهل تجوز الاستعانة بالمراصد وقبول قول الكفار المشرفين عليها علما أن الغالب على الظن صدق قولهم في هذه الأمور؟ ومما يجدر بالملاحظة أن اتباع المسلمين في أمريكا وأوروبا لبعض البلدان الإسلامية المشرقية في صيامها أو إفطارها قد أثار بينهم اختلافات كثيرة، غالبا ما تذهب بأهم فوائد الأعياد، وتثير مشكلات شبه دائمة، وفي الأخذ بالحساب ما قد يقضي على هذا في نظر البعض أو يكاد؟ 24- ما حكم عمل المسلم في دوائر وزارات الحكومة الأمريكية أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، خاصة في مجالات هامة كالصناعات الذرية أو الدراسات الاستراتيجية ونحوها؟ 25- ما حكم تصميم المهندس المسلم لمباني النصارى كالكنائس وغيرها علما بأن هذا هو جزء من عمله في الشركة الموظفة له، وفي حالة امتناعه قد يتعرض للفصل من العمل؟ 26- كثير من العائلات المسلمة يعمل رجالها في بيع الخمور والخنزير وما شابه ذلك، وزوجاتهم وأولادهم كارهون لذلك علما بأنهم يعيشون بمال الرجل، فهل عليهم من حرج في ذلك؟ 27- ما حكم تبرع المسلم فردا كان أو هيئة لمؤسسات تعليمية أو تنصيرية أو كنيسة؟ 28- ما حكم شراء منزل السكنى، وسيارة الاستعمال الشخصي، وأثاث المنزل بواسطة البنوك والمؤسسات التي تقرض ربحا محددا على تلك القروض لقاء رهن تلك الأصول، علما بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عموما، يعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسط شهري يزيد في الغالب عن قسط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 أجوبة التجنس بالجنسيات الأجنبية: 1- إن التجنس بجنسيات البلاد غير المسلمة يختلف حكمه حسب الظروف، والأحوال، وأغراض هذا التجنس، على الشكل التالي: إن اضطر إليه مسلم بسبب أنه أوذي في وطنه، أو اضطهد بالسجن، أو مصادرة أمواله لغير ما ذنب أو جريمة، ولم يجد لنفسه مأمنا إلا في مثل هذه البلاد، فإنه يجوز له التجنس بهذه الجنسيات دون أي كراهة، بشرط أن يعزم على نفسه المحافظة على دينه في حياته العملية، والابتعاد عن المنكرات الشائعة هناك. والدليل على ذلك: أن الصحابة رضي الله عنهم هاجروا إلى الحبشة بعد ما اضطهدوا من قبل أهل مكة، والحبشة يومئذ يسودها الكفار، وأقاموا بها حتى إن بعض الصحابة لم يزالوا مقيمين بها بعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فإنما رجع أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عند غزوة خيبر، يعني في السنة السابعة من الهجرة. ثم من حقوق النفس أن يصونها المرء من كل نوع من أنواع الظلم، فإذا لم يجد الإنسان مأمنا لنفسه إلا في بلاد الكفار، فلا مانع من هجرته إليها، ما دام يحتفظ بفرائضه الدينية، والابتعاد عن المنكرات المحرمة. وكذلك إن اضطر إليه مسلم بسب أنه لم تتيسر له في بلده وسائل المعاش الضرورية التي لا بد له منها، ولم يجدها إلا في مثل هذه البلاد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فإنه يجوز له ذلك أيضا بالشرط المذكور، وذلك أن كسب المعاش فريضة بعد الفريضة، ولم يقيده الشرع بمكان دون مكان، فقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِيْ مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُوْرِ} . ولو تجنس مسلم بهذه الجنسية لدعوة أهلها إلى الإسلام، أو لتبليغ الأحكام الشرعية إلى المسلمين المقيمين بها، فإنه يثاب على ذلك، فضلا عن كونه جائزا، فكم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم توطنوا بلاد الكفار لهذا الغرض المحمود وعد ذلك من مناقبهم وفضائلهم. أما إذا كان الرجل تتيسر له وسائل المعاش في بلده المسلم على مستوى أهل بلده، ولكنه هاجر إلى بلاد الكفار للاستزادة منها، والحصول على محض الترفه والتنعم، فإن ذلك لا يخلو من كراهة، لما فيه من عرض النفس على المنكرات الشائعة هناك، وتحمل خطر الانهيار الخلقي والديني من غير ضرورة داعية لذلك، والتجربة شاهدة على أن الذين يتجنسون بهذه الجنسيات الأجنبية لمجرد الترفه، ينتقص فيه من الوازع الديني، فيذوبون أمام الإغراءات الكافرة ذوبانا ذريعا، ومن هنا ورد في الحديث النهي عن مساكنة المشركين بدون حاجة ملحة. أخرج أبو داود عن سمرة بن جندب، قال: أما بعد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من جامع المشرك، وسكن معه فإنه مثله)) أخرجه أبو داود قبيل كتاب الضحايا، وعلقه الترمذي في السير. أخرج أبو داود، والترمذي عن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: لا تراءى ناراهما)) . قال الخطابي في شرحه: "فيه وجوه: أحدها معناه، لا يستوي حكماهما، قاله بعض أهل العلم، وقال بعضهم: معناه أن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 قد فرق بين داري الإسلام والكفر، فلا يجوز لمسلم أن يساكن الكفار في بلادهم، حتى إذا أوقدوا نارا كان منهم بحيث يراها، وفيه دلالة على كراهة دخول المسلم دار الحرب للتجارة والمقام فيها أكثر من مدة أربعة أيام" (1) وأخرج أبو داود في المراسيل عن مكحول، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تتركوا الذرية إزاء العدو)) (2) ومن هنا ذكر بعض الفقهاء أن سكنى دار الحرب وتكثير سوادهم لأجل المال مما يسقط العدالة (3) أما إذا كان التجنس بالجنسيات الأجنبية اعتزازا بها، وافتخارا، أو لتفضيلها على الجنسيات المسلمة، أو للتشبه بأهلها في الحياة العملية، فإن ذلك حرام مطلقا، ولا حاجة إلى التدليل على ذلك. 2- أما خطورة تنشئة الأبناء المسلمين في البلاد الأجنبية: فخطورة واقعة فيجتنب عنها في الظروف التي يكره أو يحرم فيها التجنس حسب ما ذكرنا في الجواب عن السؤال الأول. وأما في الظروف التي يجوز فيها التجنس بدون كراهة، فإنها مواضع ضرورة، أو حاجة، فيجب على المبتلي به في مثل هذه المواضع، أن يعنى بتربية أولاده عناية خاصة، ويجب على المسلمين المقيمين في تلك البلاد أن يحدثوا من أجل ذلك جوا تربويا فيه الناشئة المسلمة محافظة على عقائدها، وأعمالها، وأخلاقها الدينية.   (1) معالم السنن للخطابي, كتاب الجهاد باب علام يقاتل المشركون:3/437. (2) ذكره ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن:3/437 في سياق كراهة مساكنة المشركين. (3) راجع تكملة رد المحتار:1/85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 3 و 4 - زواج المسلمة بغير المسلم: لا يجوز لمسلمة أن تنكح غير مسلم في حال من الأحوال، قال الله تعالى {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكِيْنَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} وقال تعالى {لاَ هُنَّ حِلُّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّوْنَ لَهُنَّ} . وإن الطمع في الإسلام أحد لا يبرر لمسلمة أن تعقد معه الزواج، فإن مثل هذا الطمع الموهوم لا يحل حراما. وكذلك لو أسلمت المرأة وزوجها كافر، فإن النكاح ينقطع بينها وبينه بمجرد إسلامها عند الجمهور، وبإنكار الزوج عن الإسلام بعد العرض عليه عند الحنفية، فلو أسلم الزوج وهي في عدته، رجع النكاح الأول، ولو لم يسلم إلا بعد العدة، لا ترجع إليه الزوجة المسلمة إلا بنكاح جديد بينهما، وهذا أمر فقد اتفق عليه الفقهاء قديما وحديثا، وإن الطمع الموهوم في إسلام الزوج لا يغير حكم الشرع. 5- الدفن في مقابر غير المسلمين: لا يجوز دفن موتى المسلمين في مقابر غير المسلمين إلا إذا لم يكن من ذلك بد، وذلك بأن لا يكون للمسلمين مقبرة، ولا يسمح لهم بالدفن خارج مقبرة الكفار، كما هو مذكور في السؤال، فحينئذ يجوز ذلك للضرورة. 6- حكم بيع المساجد: إن المواضع التي يصلي فيها المسلمون في البلاد الغربية على قسمين: الأول: ما يتخذونه موضع صلاة للمسلمين، ومحل اجتماعاتهم الدينية، دون أن يجعلوه مسجدا فقهيا، بأن يقفوا ذلك المحل والبناء كمسجد، ولذلك ربما يسمونها (المركز الإسلامي) أو (دار صلاة) أو (دار جماعة) ولا يسمونه مسجدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وأن الأمر في مثل هذه المواضع سهل ميسور، لأنها وإن كانت تستعمل للصلاة فيها، ليست مساجد شرعية، لأن أهلها لم يجعلوها مسجدا، فكلما أراد أهلها أن يبيعوا هذه المواضع لصالح المسلمين جاز لهم ذلك بالإجماع. والثاني: ما اتخذوه مسجدا شرعيا، وجعلوا أرضه وقفا كمسجد، فالحكم في مثل ذلك عند جمهور الفقهاء أن هذا المكان يبقى مسجدا إلى قيام الساعة، ولا يجوز بيعه في حال من الأحوال، ولا يرجع إلى ملك واقفه أبدا، وهذا مذهب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهم الله تعالى. يقول الخطيب الشربيني الشافعي رحمه الله: "ولو انهدم مسجد، وتعذرت إعادته أو تعطل بخراب البلد مثلا، لم يعد ملكا، ولم يبع بحال، كالعبد إذا عتق، ثم زمن، ولم ينقض إن لم يخف عليه لإمكان الصلاة فيه، ولإمكان عوده كما كان.. فإن خيف عليه نقض، وبنى الحاكم بنقضه مسجدا آخر إن رأى ذلك وإلا حفظه، وبناؤه بقربه أولى، ولا يبنى به بئرا" (1) . ويقول المواق من فقهاء المالكية: "ابن عرفة من المدونة وغيرها: يمنع ما خرب من ربع الحبس مطلقا،..وعبارة الرسالة: ولا يباع الحبس وإن خرب..وفي الطرر عن ابن عبد الغفور: لا يجوز بيع مواضع المسجد الخربة، لأنها وقف، ولا بأس ببيع نقضها". (2) .   (1) مغني المحتاج للشربيني:2/392. (2) التاج والإكليل للمواق بهامش الحطاب:6/42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وجاء في الهداية من كتب الفقه الحنفي: "ومن اتخذ أرضه مسجدا لم يكن له أني رجع فيه، ولا يبيعه ولا يورث عنه، لأنه تجرد عن حق العباد، وصار خالصا لله، وهذا لأن الأشياء كلها لله تعالى، وإذا أسقط العقد ما ثبت له من الحق رجع إلى أصله، فانقطع تصرفه عنه، كما في الإعتاق، ولو خرب ما حول المسجد واستغنى عنه يبقى مسجدا عند أبي يوسف لأنه إسقاط منه، فلا يعود إلى ملكه" (1) . إلا أن مذهب الإمام أحمد رحمه الله في مثل هذا أن المسجد يجوز بيعه عندما وقع الاستغناء عنه بالكلية فقد جاء في المغني لابن قدامة: "أن الوقف إذا خرب، وتعطلت منافعه، كدار انهدمت أو أرض خربت، وعادت مواتا، ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله، ولم يمكن توسيعه في وضعه، أو تشعب جميعه، فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه، (2) وهناك قول آخر: وهو قول الإمام محمد بن الحسن الشيباني، أن الوقت إذا استغني عنه تماما، فإنه يعود إلى ملك الواقف، أو إلى وراثه بعد موته، يقول صاحب الهداية: "وعند محمد يعود إلى ملك الباني، أو إلى وراثه بعد موته،   (1) الهداية مع فتح القدير: 5/ 446. (2) المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير: 6/ 225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 لأنه عينه لنوع قربة، وقد انقطعت، فصار كحصير المسجد وحشيشه إذا استغني عنه" (1) فإذا عاد إلى ملك الواقف جاز له بيعه بعد ذلك. وأن الجمهور استدلوا على قولهم بعدم جواز البيع، وعدم انتقاله إلى ملك الواقف، بقصة عمر رضي الله عنه بخيبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من شرائط الوقف: ((أنه لا يباع أصلها، ولا تابع، ولا تورث ولا توهب)) أخرجه الشيخان وهذا لفظ مسلم في باب الوقف. واستدل الإمام أبو يوسف للجمهور بالكعبة أيضا، فإن في زمن الفترة قد كان حول الكعبة عبدة أصنام، وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية، ثم لم يخرج موضع الكعبة به من أن يكون موضع طاعة وقربة خالصة لله تعالى فكذلك سائر المساجد، واعترض عليه ابن الهمام في فتح القدير، بأن الطواف لم يزل باقيا على عهد الفترة أيضا، فلم تترك العبادة المقصودة بالكعبة رأسا، وأجاب عنه الشيخ العثماني التهانوي رحمه الله بأن القربة التي عينت لها لكعبة هي الصلاة إليها، دون الطواف وحده، لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام بعد ذكر إسكانه ذريته عند البيت الحرام {رَبَّنَا لِيُقِيْمُواْ الْصَّلاَةَ} ولم يذكر الطواف، وقوله {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلْطَّائِفِيْنِ وَالْقَاِئمِيْنَ} مفسر بالمسافرين والمقيمين كقوله {سَوَاءاً الْعَاكِفُ فِيْهِ وَالْبَادِ} (2) ، وإن من أقوى أدلة الجمهور في هذا الباب قوله الله تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللهِ أَحَداً} . قال ابن العربي:   (1) الهداية مع فتح القدير: 5/ 446. (2) راجع إعلاء السنن: 13/ 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 إذا تعينت لله أصلا، وعينت له عقدا، صارت عتيقة عن التملك، مشتركة بين الخليفة في العبادة (1) وأخرج ابن جرير في تفسيره (2) عن عكرمة {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ} قال: المساجد كلها. وأما الإمام أحمد فاستدل له ابن قدامة، بما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما بلغ أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة: انقل المسجد الذي التمارين، واجعل بيت المال قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل. (3) وأجاب عنه ابن الهمام بأن يمكن أنه أمره باتخاذ بيت المال في المسجد. (4) . ويبدو أن المذهب الراجح في هذا مذهب الجمهور، فلا ينبغي أن يباع مسجد بعد ما تقرر كونه مسجدا، وإلا لصارت المساجد مثل كنائس النصارى، يبيعونها كلما شاءوا، ولكن المسألة لما كانت مجتهدا فيها، وفي كلا الجانبين دلائل من الكتاب والسنة، فلو خيف الاستيلاء من قبل الكفار على مسجد ارتحل عن جواره أهله، ولم يرج عود المسلمين إلى ذلك المكان، ففي مثل هذه الضرورة الشديدة، يبدو أنه لا بأس بالأخذ بقول الإمام أحمد أو محمد بن الحسن رحمهما الله تعالى، ويباع بناء المسجد ويصرف ثمنه إلى بناء مسجد آخر، لا إلى مصرف سوى المسجد، قد نص عليه فقهاء الحنابلة حيث قالوا: "ولو جاز جعل أسفل المسجد سقاية وحوانيت لهذه الحاجة، لجاز تخريب المسجد، وجعله   (1) أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1869. (2) تفسير الطبري: 29/ 117. (3) المغني: 6/ 226 (4) فتح القدير:5/446. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 سقاية وحوانيت، ويجعل بدله مسجدا في موضع آخر" (1) . ثم إن جواز هذا البيع إنما يصار إليه أن تحقق انتقال جميع السكان هما حول المسجد، ولم يرجع عودهم إليه، فإن انتقل أكثر السكان، وبقي منهم بعض، فلا سبيل إليه، قد نص عليه الفقهاء الحنابلة أيضا حيث قالوا: "وإن لم تتعطل مصلحة الوقف بالكلية لكن قلت: وكان غيره أنفع منه، وأكثر ردا على أهل الوقف لم يجز بيعه، لأن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع إمكان تحصيله، ومع الانتفاع وإن قل ما يضيع المقصود (2) 7- سفر المرأة بغير محرم: أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسافر المرأة فوق ثلاث إلا ومعها زوج أو ذو رحم محرم منها)) هذا الحكم الصريح قد أخذ به جمهور الفقهاء، حتى إنهم لم يجوزوا لها أن تسافر بدون محرم لضرورة الحج، وأن الدراسة والعمل في البلاد الأجنبية ليس من ضرورة النساء المسلمات في شيء، إن الشريعة لم تأذن للمرأة بالخروج من دارها إلا لحاجة ملحة، وقد ألزم أباها وزوجها بأن يكفل لها بجميع حاجاتها المالية، فليس لها أن تسافر بغير محرم لمثل هذه الحوائج. أما إذا كانت المرأة ليس لها زوج أو أب، أو غيرهما من أقاربها   (1) راجع المغني لابن قدامة: 6/ 228. (2) المغني لابن قدامة: 6/ 227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الذين يتكفلون لها بالمعيشة، وليس عندها من المال ما يسد حاجتها، فحينئذ يجوز لها أن تخرج للاكتساب بقدر الضرورة، ملتزمة بأحكام الحجاب، فيكفي لها في مثل هذه الحال أن تكتسب في وطنها، ولا حاجة لها إلى السفر إلى البلاد الأجنبية، ولو لم تجد بدا من السفر في وطنها من بلد إلى آخر، ولم تجد أحدا من محارمها، ففي مثل هذه الحالة فقط يسع لها أن تأخذ بمذهب مالك، والشافعي، حيث جوزوا لها السفر مع النساء المسلمات الثقات (1) . 8 - إقامة النساء بمفردهن: قد ذكرنا في الجواب عن السؤال السابع أن النسوة المسلمات لا ينبغي لهن السفر إلى بلاد غير المسلمين للدراسة أو الاكتساب، وأما إذا كانت المرأة قد توطنت إحدى هذه البلاد مع محارمها، ثم بقيت مفردة لموت محارمها، أو انتقالهم من ذلك المكان لسبب ما، فإنه لا مانع لها من الإقامة بمفردها، ما دامت ملتزمة بأحكام الشرع في الحجاب. 9- حجاب الوجه والكفين: إن جواب هذا السؤال موقوف على مسألة مستقلة وهي: هل الوجه داخل في أحكام الحجاب أو لا؟ وإن هذه المسألة تحتاج أن تكون موضوعا مستقلا من موضوعات الدراسة التي في المجمع، فإن البحث فيه يطول، فالمناسب أن تجعل هذه المسألة في جدول أعمال المجمع لدورة من الدورات القادمة. 10 و 11 - العمل في المطاعم التي تبيع الخمور والخنازير: العمل في مطاعم الكفار إنما يجوز بشرط أن لا يباشر المسلم سقي   (1) راجع له المغني لابن قدامة:3/190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 الخمر أو تقديم الخنزير، أو المحرمات الأخرى، فإن سقي الخمر أو تقديمها إلى من يشربها حرام بنص صريح، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه)) (1) . وأخرج الترمذي عن أنس بن مالك، قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له)) ، قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أنس، وقد روى نحو هذا عن ابن عباس، وابن مسعود, وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (2) . وأخرج ابن ماجه حديث أنس بلفظ: ((عاصرها، ومعتصرها، والمعصورة له، وحاملها، والمحمولة له، وبائعها، والمبيوعة له، وساقيها، والمستقاة له)) (3) . وقد أخرج الشيخان عن عائشة قالت: ((لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقترأهن على الناس، ثم نهى عن التجارة في الخمر)) (4) وأخرج مسلم عن ابن عباس مرفوعا ((أن الذي حرم شربها حرم بيعها)) عن عبد الرحمن بن وعلة أنه سأل ابن عباس، قال: إنا بأرض لنا بها الكروم، وإن أكثر غلاتها الخمر (5) ,فذكر   (1) أخرجه أبو داود في الأشربة، باب العنب يعصر للخمر: 3/ 326 رقم الحديث: 3674. (2) جامع الترمذي: 2/ 380 كتاب البيوع باب ما جاء في بيع الخمر: رقم: 1313. (3) سنن ابن ماجه: 6/ 1122، كتاب الأشربة، رقم: 3381. (4) أخرجه البخاري في المساجد، وفي البيوع، وفي تفسير سورة البقرة، ومسلم في البيوع، باب تحريم بيع الخمر. (5) مسند أحمد:1/244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ابن عباس أن رجلا أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم رواية خمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن الذي حرم شربها حرم بيعها)) فتبين من هذه الأحاديث أن التجارة في الخمر أو حملها، أو سقيها بالأجرة حرام، وظهر من فتوى ابن عباس رضي الله عنه أن ذلك لا يحل لمسلم، ولو للاكتساب في أرض شاع فيها عصر الخمر من الكروم. ولا أعلم أحدا من الفقهاء أباح مثل هذا العمل. 12- حكم الأدوية المركبة من الكحول: هذه المسألة لا تختص بالبلاد الأجنبية، وإنما عمت بها البلوى في سائر البلدان، بما فيه البلاد الإسلامية، والحكم فيها على طريق الحنفية سهل، لأن الأشربة المتخذة من غير العنب والتمر تحل عند أبي حنيفة وأبي يوسف بقصد التقوي أو التداوي، ما لم تبلغ حد الإسكار (1) وإن معظم الكحول المستعملة في الأدوية اليوم لا تصنع من عنب ولا تمر، وإنما تصنع من السلفات والكبريتات، والعسل، والدبس، والحب، والشعير، والجودار، وغيرها (2) . فإن كانت الكحول المستعملة في الأدوية متخذة من غير العنب والتمر فإن تناولها جائز في مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، ما لم تبلغ حد الإسكار، ويمكن أن يؤخذ بقولهما لحاجة التداوي، وأما إذا كانت الكحول متخذة من العنب أو التمر، فلا يجوز استعمالها إلا إذا أخبر طبيب عدل أنه ليس له دواء آخر، لأن التداوي بالمحرم يجوز عند الحنفية في هذه الحالة (3) .   (1) كما في فتح القدير: 8/ 160. (2) راجع دائرة المعارف البريطانية: 6/ 544، المطبوعة 1950 م. (3) كما في البحر الرائق 1/ 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وأما الشافعية فلا يجوز عندهم استعمال الأشربة المحرمة للدواء صرفا، ولكن إذا كانت مستهلكة مع دواء آخر، فيجوز التداوي بها عندهم إن عرف بنفعها وتعيينها، بأن لا يغني عنها طاهر، كما صرح به الرملي في نهاية المحتاج حيث قال: "أما مستهلكة مع دواء آخر، فيجوز التداوي بها، كصرف بقية النجاسات إن عرف، أو أخبره طبيب عدل بنفعها بأن لا يغني عنها طاهر" (1) . والكحول لا تستعمل للدواء صرفا، وإنما تكون مستهلكة في دواء آخر، فتناولها لحاجة الدواء جائز عند الشافعية أيضا. وأما المالكية والحنابلة فلا يجوز عندهم فيما أعلم التداوي بالمحرم في حال من الأحوال إلا عند الاضطرار. وحيث عمت البلوى في هذه الأدوية، فينبغي أن يؤخذ في هذا الباب بمذهب الحنفية، أو الشافعية، والله أعلم. ثم هناك جهة أخرى، ينبغي أن يسأل عنها خبراء الكيمياء وهو: أن هذه الكحول بعد تركيبها بأدوية أخرى، هل تبقى على حقيقتها أو تستحيل حقيقتها وماهيتها بعمليات كيمياوية؟ فإن كانت ماهيتها تستحيل بهذه العمليات بحيث لا تبقى "كحول" وإنما تصير شيئا آخر، فيظهر أن عند ذلك يجوز تناولها باتفاق الأئمة، لأن الخمر إذا صارت خلا جاز تناولها في قولهم جميعا لاستحالة الحقيقة. 13- الخمائر والجلاتين المتخذة عن الخنزير: إن كان العنصر المستخلص من الخنزير تستحيل ماهيته بعملية   (1) نهاية المحتاج للرملي: 8/ 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 كيمياوية، بحيث تنقلب حقيقته تماما، زالت حرمته ونجاسته، وإن لم تنقلب حقيقته بقي على حرمته ونجاسته، لأن انقلاب الحقيقة مؤثر في زوال الطهارة والحرمة عند الحنفية. 14- حفلات الزواج في المساجد: أما عقد النكاح في المسجد فشيء مندوب، نطقت باستحبابه الأحاديث ولكن ما يصحبه من الرقص، والغناء فلا يجوز أصلا، فإن كانت حفلات الزواج لا تخلو من هذه المنكرات، فلتجنب المساجد منها. 15- التسمي بالأسماء النصرانية: إذ كان التسمي بالأسماء النصرانية لازما من قبل الحكومة، فيجوز أن يختار من الأسماء ما هو مشترك بين المسلمين، والنصارى، كإسحاق، وداود، وسليمان، ومريم، ولبنى، وراحيل، وصفوراء، وما إلى ذلك، ويمكن أيضا أن يسجل المولود باسم من أسماء القائمة اللازمة في دوائر الحكومة، ويدعى في البيت باسم آخر إسلامي. 16- النكاح بإضمار نية الفرقة: ما دامت صيغة النكاح لا تتقيد بوقت ولا زمان، وتستوفي الشروط انعقاد النكاح، فإن النكاح منعقد، والتمتع به جائز، وأما ما يضمره المتعاقدان أو أحدهما من نية الفرقة بعد اكتمال مدة ما، فلا أثر له في صحة النكاح غير أنه لما كان النكاح في الشريعة عقدا مؤبدا، فالمطلوب فيه أن يستدام من قبل الزوجين، ولا ينقص إلا عند حاجة شديدة تقتضي ذلك، وإن إضمار نية الفرقة منذ أول الأمر ينافي هذا المقصود، فلا يخلو من كراهية ديانة، فلا يصار إليه لا عند الضرورة من شدة الشبق فرارا من الزنا الحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 17- التزين في محلات العمل: قد أسلفنا في الجواب عن السؤال السابع حكم خروج المرأة للاكتساب، وبناء على ذلك، لو كان هنالك ما يبرر خروجها شرعا، فمن اللازم عليها ألا تخرج متبرجة بزينة. 18- مصافحة المرأة للأجانب: إن مصافحة المرأة للأجانب لا تجوز بحال، قد نطقت بذلك الأحاديث، واتفق عليها الفقهاء. 19- استئجار الكنائس لإقامة الصلاة: لا بأس باستئجار الكنائس لتتخذ أماكن لإقامة الصلاة، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((جعلت لي الأرض كلها مسجدا)) ولكن ينبغي أن تزاح منها التماثيل والأصنام، فإن الصلاة في بيت فيه تماثيل مكروهة، وقد امتنع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من دخول الكنائس من أجل التماثيل، فيما علقه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة، وأسنده عبد الرزاق، وذكر البخاري أيضا أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل وأسنده البغوي في الجعديات، وزاد فيه: "فإن كان فيها تماثيل خرج، فصلى في المطر" (1) 20- حكم ذبائح أهل الكتاب: الذي أعتقده وأدين الله تعالى عليه أن مجرد كون الذابح من أهل الكتاب لا يجعل الذبيحة حلالا، حتى يسمى الله تعالى عليه، ويفري الأوداج بطريق شرعي، كما أن مجرد كون الذابح مسلما، لا يذكي   (1) راجع فتح الباري: 1/ 532 رقم 435. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الذبيحة، حتى يستوفي جميع شرائط الزكاة الشرعية، وإنما أحل الإسلام ذبائح أهل الكتاب دون من سواهم من المشركين؛ لأن أهل الكتاب كانوا ملتزمين بشروط الزكاة الإسلامية. وعلى هذا الأساس، لا تحل ذبائح أهل الكتاب إلا بهذه الشروط، وبما أن معظم النصارى قد تركوا اليوم الالتزام بشروط الزكاة التي هي واجبة في أصل دينهم فإن ذبائحهم لا تحل للمسلمين إلا إذا تحقق أنهم قد استوفوا هذه الشروط. وهذا بخلاف ما يزعمه كثير من الناس اليوم أن ذبائحهم حلال، وإن لم يذكروا اسم الله عليها، وعندي في ذلك دلائل قوية من الكتاب والسنة، وأقوال الفقهاء، وعبارات كتب أهل الكتاب، ولكن هذا الموضوع يحتاج إلى تفصيل لا يسعه هذه الفتوى فالأحسن أن يدرج هذا الموضوع في قائمة أعمال المجمع، ويطلب من الأعضاء الكتابة عليه كموضوع مستقل، وحينئذ تعرض الدلائل ببسط وتفصيل إن شاء الله تعالى (1) . 21- حضور المناسبات التي فيها منكرات شرعية: لا يجوز للمسلمين أن يحضروا مثل هذه المناسبات التي تتعاطى فيها الخمور والخنازير، وتراقص فيها النساء الرجال، ولا ضرورة داعية لذلك، إلا الحصول على الجاه والسمعة، ولا ينبغي لمسلم أن يخضع لكل ما يعتريه من أسباب الفسق، وخوارم الديانة، وإنما ييجب عليه في مثل هذه المواضع أن يصمد على دينه ولو أجمع المسلمون- وعددهم في البلاد الأجنبية غير قليل- على تجنب مثل هذه المناسبات، للجأ الأجانب عند دعوتهم إلى إخلائها من هذه المنكرات.   (1) وقد أدرج هذا الموضوع في قائمة أعمال المجمع ولنا فيه بحث مستقل موجود في آخر الكتاب هذا الذي بين يديك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 22 و 23 - إن هذين السؤالين يجب أن يكونا موضوعين مستقلين في قائمة أعمال الدراسات في المجمع، لأن الجواب عنهما يحتاج إلى دراسة أوسع وأعمق. 24- عمل المسلم في دوائر الحكومة: لا باس بأن يتوظف الرجل عملا في دوائر وزارات الحكومة الأمريكية، أو غيرها من حكومات البلاد الكافرة، وكذلك لا بأس بقبول مثل هذه الأعمال في مجالات الصناعة الذرية، أو الدراسات الاستراتيجية، ولكن إن فرض إليه عمل يضر بعامة المسلمين في بلد من البلاد، فمن الواجب عليه أن يتجنبه، ولا يعنيهم لفي ذلك ولو على قيمة استقالته من ذلك العمل. 25- تصميم المهندس كنائس النصارى: لا يجوز لمهندس مسلم أن يصمم معابد الكفار لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} . 26- عمل الأزواج والآباء في بيع الخمور: يجب على الزوجات في مثل هذه الحال أن يبذلوا أقصى ما في وسعهم في تحذير أزواجهن عن العمل في بيع الخمور والخنازير ولكنهم إن أبوا إلا العمل فيه، فإن تيسر لهن تحمل نفقات أنفسهن بطرق مباحة، فلا يجوز لهن الأكل من أموال أزواجهن، وإن لم يتيسر لهن ذلك، فيسع لهم الأكل، والإثم على الأزواج والآباء، للأطفال الصغار حكم الزوجات، أما الأولاد الكبار فعليهم أن يكتسبوا لأنفسهم، ولا يأكلوا من هذا المال. وجواز الأكل للزوجة في مثل هذه الحالة قد صرح به بعض الفقهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 قال ابن عابدين رحمه الله: "امرأة زوجها في أرض الجور، إذا أكلت من طعامه ولم يكن عينه غصبا أو اشترى طعاما أو كسوة مال أصله ليس بطيب فهي في سعة من ذلك، والإثم على الزوج (1) " 27- التبرع للكنيسة: لا يجوز لمسلم سواء كان فردا أو هيئة، أن يتبرع لمؤسسات تنصيرية، أو كنيسة أما المؤسسات التعليمية الخالصة، فلا بأس بالتبرع لها. 28 - شراء المنزل بواسطة البنوك: إن المعاملة المذكورة غير جائزة لاشتمالها على الربا الحرام شرعا، وينبغي للمسلمين وعددهم غير قليل أن يجتهدوا لإيجاد بدائل هذه المعاملة الموافقة للشرعية الإسلامية، بأن يكون البنك نفسه هوا لبائع بتقسيط، ويزيد في ثمن البيوت وغيرها من الثمن المعروف، فيشتريها من الباعة، ويبيعها إلى زبائنها بربح مناسب، وينبغي أن تطرح هذه المسألة على لجنة مستقلة تكون لتخطيط نظام البنوك اللاربوي، لتنظر في تفاصيلها. هذا ما تبين لي، الله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. * * *   (1) رد المحتار، كتاب الحظر والإباحة، فصل في البيع: 5/ 247 وكتاب البيوع، باب البيع الفاسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 (12) أحكام الودائع المصرفية بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره التاسع بمدينة أبو ظبي من الإمارات العربية المتحدة, المنعقد في ذي القعدة سنة 1416هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 أحكام الودائع المصرفية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن الودائع المصرفية أصبحت اليوم من أعظم ما يحتاج إليه الإنسان في تصرفاته المالية في كل بلد وقطر، ويتعلق بها كثير من الأحكام الشرعية التي لا بد من دراستها والبت فيها. وإنها وإن كانت ظاهرة جديدة من الظواهر التي أحدثها العالم المعاصر، ولكن الأحكام الشرعية المتعلقة بها يمكن استخراجها في ضوء المبادئ التي قررها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، والتي فصلها فقهاء الأمة في كتبهم الفقهية. فنريد في هذا البحث أن نوضح الأحكام الشرعية المتعلقة بالودائع المصرفية، والله سبحانه هو الموفق والمعين. معنى الوديعة المصرفية: إن كلمة (الوديعة المصرفية) مترجمة من الكلمة الإنكليزية:Deposite Bank والمقصود منها (المال الذي أودعه صاحبه في مصرف من المصارف المالية، إما لمدة محددة، أو بتعاهد من الفريقين بأن للمالك أن يستعيده كله أو جزءا منه متى شاء) . والمعمول به في المصارف المعاصرة أن هذه الودائع لا تبقى عند المصرف كما هي، وإنما يختلط بعضها ببعض، ويستثمرها المصرف في تمويلات يقدمها إلى عملائه، ويطالبهم على ذلك بفائدة أو ربح، وإنها تكون مضمونة على المصرف، يلتزم المصرف بإعادتها إلى المالك في كل حال حسب الشروط المتفق عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وبهذا يتضح أن كلمة (الوديعة) المستعملة لهذا النوع من الأموال ليست في معناها الفقهي المصطلح، فإن الوديعة تبقى عند المودع كما هي، ولا تكون مضمونة عليه إلا عند التعدي. ولكن هذه الكلمة إنما استعملت لها في معناها اللغوي، فإنها فعلية من (ودع يدع) بمعنى أنها متروكة عند المودع, (1) وهو المصرف ههنا بغض النظر عن كونها أمانة أو مضمونة. أنواع الودائع المصرفية: وإن هذه الودائع المصرفية تنقسم -في عرف البنوك اليوم- إلى أنواع أربعة: 1- ودائع الحساب الجاري (Current Account) : وهي المبالغ التي يودعها أصحابها في البنوك بشرط أن يردها عليهم البنك كلما أرادوا. فيسحب أصحاب هذه الودائع ما شاؤوا من كمية النقود متى شاؤوا، ويلتزم البنك بأدائها إليهم فور الطلب، ولا يتوقف الأداء على إخطار سابق من قبل صاحب الوديعة. وإن هذا النوع من الودائع لا يدفع البنك إلى أصحابها شيئا من الفوائد. بل المعمول به في بعض البلاد أن البنك يطالب صاحب الوديعة برسوم على القيام بخدمة الإبقاء عليها. ولكن هذه الودائع تبقى عند البنك مختلطة لا تتميز وديعة شخص من وديعة الآخر وكذلك يحق للبنك أن يستخدمها لصالحه، وإن كان المعمول به في البنوك أنهم يحتفظون بنسبة منها احتفاظا بالسيولة الكافية لمجاوبة طلبات السحب. 2- الودائع الثابتة (fixed Deposite) : وهي الودائع المؤجلة إلى أجل معلوم. ولا يحق لصاحب الوديعة في هذا النوع أن يسحب شيئا منها إلا بعد فترة متفق عليها. وتتراوح هذه الفترة بين خمسة عشر يوما وسنة   (1) راجع المغني لابن قدامة 7/280 دار الكتاب العربي، بيروت 1392هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 كاملة في عامة الأحوال. وإن البنك يستثمر هذه الودائع، ويدفع على ذلك فوائد إلى أصحابها بنسبة تختلف من حين إلى آخر حسب ظروف السوق. 3- ودائع التوفير (Saving Account) : وهي الودائع التي ليست مؤجلة إلى أجل معلوم، ولكن حقوق السحب منها تخضع منها لضوابط لا يمكن معها لصاحب الوديعة أن يسحب كامل رصيده دفعة واحدة، وإنما يفرض البنك حدودا للسحب اليومي، أو شرط الإخطار السابق في بعض الأحيان. وإن هذا النوع من الودائع يشبه الحساب الجاري من حيث إنه يمكن لصاحب الوديعة أن يسحب قدرا منها متى شاء دون انتظار أجل معلوم. ويشبه الودائع الثابتة من حيث إنه لا يمكن سحب كاملها دفعة واحدة. وإن البنك يدفع على هذا النوع فوائد، ولكن نسبتها أقل من نسبة الفوائد في الودائع الثابتة. 4- الخزانات المقفولة (lockers) : وهي الودائع التي تودع في مخازن معينة يستأجرها المودع من البنك، ويودع فيها أمواله بنفسه، ولا علاقة للبنك بهذه الأموال، بل ولا يعرف موظفو (البنك) ما أودع فيها، وأكثر ما يودع فيها المودعون حلي الذهب والفضة والأحجار الثمينة والمستندات ذات القيمة الكبرى، وقد توضع فيها النقود أيضا. التكييف الفقهي للودائع المصرفية في البنوك التقليدية: ولنتكلم على التكييف الفقهي لكل نوع من هذه الأنواع الأربعة قبل أن نتقدم إلى بيان أحكامها؛ لأن الأحكام كلها تنبني على هذا التكييف. فأما النوع الرابع من هذه الودائع، وهي الخزانات المقفولة، فإن تكييفه لا خفاء فيه، فإنه استئجار من البنك لمخزن معلوم، وإن هذا المخزن يبقى بعد الاستئجار بيد المصرف، وتجري عليه أحكام الأمانة. أما الأنواع الثلاثة الأخرى، فيختلف تكييفها في البنوك التقليدية عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 تكييفها في المصارف الإسلامية، فلنتكلم عن كل منها على حدتها. ودائع البنوك التقليدية: أما ودائع البنوك التقليدية، فقد خرجها معظم فقهاء عصرنا على أنها قروض يقدمها البنك، سواء كانت باسم الوديعة؛ لأن العبرة في العقود للمعاني، لا للألفاظ. وإن هذا التكييف يشمل عندهم كل واحد من الأنواع الثلاثة المذكورة؛ لأن المال المودع في كل نوع من هذه الأنواع مضمون على البنك، سواء كان مودعا في الودائع الثابتة، أو في الحساب الجاري، أو في صندوق التوفير، وكونه مضمونا على البنك يخرجه عن طبيعة عقد الوديعة الاصطلاحية في الفقه الإسلامي، لكونها أمانة في يد المودع، غير مضمونة عليها. ولكن ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى التفريق بين الودائع الثابتة، وبين الحساب الجاري، فقالوا: إن الودائع الثابتة قروض في التكييف الفقهي؛ لأن صاحبها لا يملك سحب رصيده متى شاء، وهذا يخرجها عن طبيعة الوديعة ويجعلها قرضا، وكذلك المال المودع في حساب التوفير ليس وديعة، وإنما هو قرض؛ لأن صاحبه لا يتمكن من سحب كامل الرصيد في وقت واحد. ولكن المال المودع في الحساب الجاري عندهم يختلف عن هذين النوعين، ويزعمون أنه داخل في الوديعة رغم كونه مضمونا. وذلك لأن صاحب هذه الوديعة يملك سحب كامل رصيده متى شاء، دون أن يتوقف ذلك على شيء من الشروط؛ ولأن المودع في هذا النوع من الحساب لا يقصد أبدا أن يقرض ماله للبنك، ولا أن يشاركه في الربح أو الفائدة الحاصلة للبنك بعد استثماره، وإنما يريد إيداعه عند البنك لحفظه. وحيث لم يقصد المودع الإقراض، فلا يمكن أن نسمي فعله إقراضا، ونفسر القول بما يرضى به القائل. أما تصرف البنك في هذا المال بخلطه مع الأموال الأخرى أو استخدامه لصالحه، فإن ذلك لا يخرجه عن كونه وديعة؛ لأنه تصرف بإذن المالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 عرفا، فلا يخرج من كونه وديعة. ولكن هذا التكييف غير صحيح عندنا. وذلك لأن عامة المودعين لا يعرفون الفرق بين مصطلحات الوديعة والقرض والدين، ولا تهمهم المصطلحات، وإنما تهمهم النتائج العملية، فالمودع-في عامة الأحوال-لا يرضى بإيداع نقوده في البنك إلا إذا ضمن البنك بردها إليه. ولو علم المودع أن هذا المال يبقى أمانة بيد أصحاب البنك بحيث إذا سرقت منه أو ضاعت بدون تعد منه فإن البنك لا يردها إليه، فإنه لا يرضى بإيداعه في البنك، ولولا أن البنك قد أعلم صراحة، أو بحكم العرف السائد في البنوك، أنه يضمن للمودعين ما أودعوا عنده من أموال، لما تقدم معظم المودعين إليه لإيداع أموالهم عنده. وهذا دليل على أن المودعين يقصدون أن تبقى أموالهم عند البنك بصفة مضمونة، وأن يكون للبنك عليها يد ضمان، دون يد أمانة. ويد الضمان لا تثبت بالوديعة، وإنما تثبت بالقرض، فثبت أنهم يقصدون الإقراض دون الإيداع بمعناه الفقهي الدقيق، غير أن مقصودهم الأساسي من وراء هذا الإقراض حفظ أموالهم بطريق مضمون، لا التبرع على البنك لمساعدته في مهماته، وإن هذا القصد لا يخرج العقد من كونه قرضا؛ لأن عقد القرض يعتمد على أمرين: الأمر الأول: أن يعطي المال إلى أحد ويؤذن له بصرفه لصالحه، بشرط أن يرد مثله إلى المقرض متى طلب منه ذلك. والأمر الثاني: أن يكون المال المدفوع مضمونا على المستقرض. وهذان العنصران متوفران في الودائع المصرفية. أما أن يقصد المقرض التبرع على المستقرض لمساعدته في مهمته، فليس داخلا في صلب معنى القرض، فقد يتوفر هذا المعنى في بعض القروض، وقد لا يتوفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فهذا الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه، كان يأتي إليه الناس ليودعوا أموالهم عنده، ولا يقصدون بذلك مساعدة الزبير رضي الله عنه وإنما يقصدون كانوا حفظ أموالهم، ولكن لم يرض الزبير رضي الله عنه بقبول هذه الودائع إلا إذا أذنوا له بالتصرف في هذه الأموال على أن تكون مضمونة عنده، فكان يقول لهم: (لا، لكن هو سلف) (1) . فسمى العقد سلفا، وهو القرض، بالرغم من أن دائنيه لم يقصدوا إقراضه لمساعدته، وإنما قصدوا أموالهم لا غير. فظهر بهذا أن قصد حفظ المال لا ينافي كون العقد قرضا. والحق أن عقد القرض وإن كان عقد تبرع من حيث إن المقرض لا يستحق شيئا فوق مقدار ما أقرضه، ولكنه عقد مالي يعتمد على مصلحة الجانبين، فقد تكون مصلحة المقرض أن يؤجر على قرضه في الآخرة فقط (وذلك في القروض التي تقدم إلى المحتاجين بقصد مساعدتهم) وقد تكون مصلحته أن يصير ماله دينا مضمونا على المستقرض، وهذه هي المصلحة التي تدعو الناس إلى إيداع أموالهم في البنوك، ولولا هذه المصلحة لما رجعوا إلى البنوك لحفظ أموالهم. فتبين أنهم يقصدون الإقراض، غير أنهم في عامة الأحوال لا يعرفون أن ما يقصدونه يسمى إقراضا في الاصطلاح الفقهي، فلا يطلقون عليه كلمة الإقراض. وقد يقال: إن الودائع المصرفية من الحساب الجاري ليست قروضا، وإنما هي وديعة فقهية، غير أن أصحابها قد أذنوا للبنك بخلطها بالأموال الأخرى، واستخدامها لصالحهم، وإن مجرد هذا الإذن لا يخرجها من كونها وديعة، ولكن هذا التكييف لا يصح فقها. وذلك لأن صاحب المال إذا أذن للمودع بخلط الوديعة بماله، فإن العقد ينقلب إلى   (1) صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب بركة الغازي في ماله، مع فتح الباري 6/175؛ وطبقات ابن سعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 شركة الملك، ويصير المال المخلوط مشتركا بينهما، ما صرح به الفقهاء. (1) ومعلوم أن يد الشريك على مال شريكه يد أمانة، فينبغي أن لا يكون ضامنا لما هلك بغير تعد منه. ولكن أصحاب الأموال الذين يودعون أموالهم في البنك لا يرضون أبدا بأن تكون يد البنك على أموالهم يد أمانة، وإنما يقصدون أن تكون هذه الأموال مضمونة عليه. فتبين أنهم لا يقصدون عقد الوديعة إطلاقا، وإنما يقصدون الإقراض. فثبت بهذا أن الودائع المصرفية في البنوك التقليدية، بأنواعها الثلاثة، كلها قروض يقدمها أصحاب الأموال إلى البنك، فتجري عليها جميع أحكام القرض. هل يجوز إيداع الأموال في البنوك التقليدية؟ وبعد وضوح حقيقة هذه الودائع، وثبوت كونها قروضا، ننتقل إلى السؤال الثاني، وهو هل يجوز للمسلمين أن يودعوا أموالهم في البنوك التقليدية التي تعمل في إطار ربوي؟ أما الودائع الثابتة، وودائع التوفير، فإن البنك يدفع فائدة مضمونة لأصحابها. وبما أن هذه الودائع قروض بلا خلاف، فما تدفعه البنوك زيادة على رأس المال، فإنه ربا صراح لا سبيل إلى جوازه. وقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي في ذلك قرارا في دورته الثانية، فمن يتقدم إلى البنك لإيداع أمواله في هذين النوعين فإنه يعقد معه عقد قرض ربوي، وذلك حرام، فلا يجوز لمسلم أن يودع ماله في أحد من هذين النوعين. وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى أنه يجوز للمسلم أن يودع أمواله في هذين النوعين، ولكن لا يجوز له أن يستعمل الفوائد الحاصلة منها لصالحه بل يتصدق بها على الفقراء، أو يصرفها في وجوه الخير.   (1) راجع الدر المختار مع رد المحتار لابن عابدين 6/669 طبع كراتشي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ولسنا نؤيد هذا الرأي، وذلك لأن الإيداع في البنوك من أجل الحصول على الفوائد، ولو كان بنية صرفها في وجوه البر، دخول في معاملة ربوية، وهو حرام بالنص. وإن الصرف في وجوه البر طريق يلجأ إليه التائب من الذنب لاستخلاص رقبته من الكسب الخبيث الذي اكتسبه بطريق غير مشروع، إما لكونه جاهلا عن كونه غير مشروع، أو لكونه لا يهتم بالتزام الشريعة في معاملاته التجارية أو المالية. إما أن يختار رجل ملتزم بالشريعة هذا الطريق المحظور لصرف كسبه الخبيث إلى وجوه البر، فإنه مثل أن يقترف الإنسان إثما بنية أن يتوب منه، وإن المفروض من المسلم أن لا يقارف ذنبا حتى يحتاج كفارته. هذا بالنسبة للبنوك التقليدية الموجودة في البلاد المسلمة. أما البنوك التي يملكها غير المسلمين في البلاد غير المسلمة فقد ذهب العلماء المعاصرين إلى جواز الإيداع فيها والانتفاع بالفوائد الحاصلة منها على أساس قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله من أنه يجوز أخذ مال الحربي برضاه وأنه لا ربا بين المسلم والحربي. وإن هذا القول لم يقبله جمهور الفقهاء حتى إنه لم يفت به الفقهاء المتأخرون منهم الحنفية. وبما أن حرمة الربا منصوص عليها بنص قطعي يؤذن بحرب من الله ورسوله لمن لا يتركه، فلا ينبغي في عموم الأحوال أن يدخل المسلم في معاملة الربا، وإن كانت مع الحربيين. ولكن هناك نقطة جديرة بالتأمل. وهي أن البلاد الغربية قد سيطرت اليوم على عامة بلاد المسلمين، وإن من أهم عوامل غلبتهم ما غصبوا من الأموال الجمة من بلاد المسلمين، أو أخذوها عن طريق الربا على القروض التي استقرضها منهم تلك البلاد. وفي جانب آخر، إن هذه البلاد تحوز كميات هائلة من أموال المسلمين التي أودعها المسلمين في بنوكهم، ينتفعون بها لصالحهم، بل يستخدمونها لإنجاز خططهم السياسية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 والحربية ضد المسلمين، فلو ترك المسلمون فوائد أموالهم في تلك البنوك، فإن ذلك تقوية لهم. وإن هذه الظروف قد تجعلني أميل إلى القول بأن المسلمين يجوز لهم أن يأخذوا فوائد ودائعهم، ولكن لا ينبغي أن يصرفوا مبالغ الفائدة في حاجاتهم، بل ينبغي أن يصرفوها في وجوه البر، فإن ذلك يقلل من الأضرار التي يعانيها المسلمون بإيداع أموالهم عندهم. والمسألة مطروحة لدى العلماء للبت فيها. الإيداع في الحساب الجاري من البنوك الربوية: أما الإيداع في الحساب الجاري من البنوك الربوية، فقد أسلفنا أن البنوك لا تدفع للمودعين في هذا الحساب أية فائدة، فالإيداع فيه لا يستلزم الدخول في عقد قرض ربوي. فينبغي أن يجوز من هذه الجهة، ولكن قد يستشكله بعض العلماء المعاصرين بأنه وإن لم يكن قرضا ربويا، ولكن فيه إعانة للبنك في المعاملات الربوية؛ لأن من المعلوم أن البنك الربوي لا يمسك هذه الودائع جامدة، وإنما يستثمرها في القروض الربوية، فيصير المودع للبنك في ممارسته الربوية. ولكن هذا الإشكال يمكن أن يزال بوجوه: 1- إن المعمول به في جميع المصارف أن البنك لا يصرف جميع ودائع الحساب الجاري في إنجاز أعماله، وإنما يمسك منها نسبة كبيرة ليمكن له تجاوب متطلبات المودعين كل يوم، وبما أن الودائع كلها مختلطة بعضها ببعض، فلا يمكن الجزم لمودع واحد أن ودائعه مصروفة في معاملة ربوية. 2- إن للبنك مصاريف كثيرة، وليست جميع هذه المصاريف محظورة شرعا، فمنها ما لا حرمة فيها، ولا يمكن الجزم لمودع ما أن وديعته تستخدم لمصروف لا يحل. 3- إن القرض اللاربوي عقد جائز شرعا، وإن النقود لا تتعين بالتعيين في العقود الصحيحة، كما تقرر في محله، وإن النقود التي أودعها أحد في الحساب الجاري للبنك لم تعد ملكا له، وإنما صارت ملكا للبنك بحكم الإقراض، فتصرف البنك في تلك النقود ليس تصرفا في ملك المودع، وإنما هو تصرف في ملكه، فلا ينسب هذا التصرف إلى المودع. 4- إن الإعانة على المعصية، وإن كانت حراما، ولكن لها ضوابط ذكرها الفقهاء، وليس هذا موضع بسطها (1) ، ولوالدي العلامة المفتي محمد شفيع رحمه الله تعالى في ذلك رسالة مستقلة جمع فيها النصوص الفقهية الواردة في مسألة الإعانة، ثم توصل إلى تنقيح الضابط فيها بما يلي: (إن الإعانة على المعصية حرام مطلقا بنص القرآن، أعني قوله تعالى: {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2] . وقوله تعالى: {فلن أكون ظهيرا للمجرمين} [القصص:17] . ولكن الإعانة حقيقة هي ما قامت المعصية بعين فعل المعين، ولا يتحقق إلا بنية الإعانة أو التصريح بها، أو تعينها في استعمال هذا الشيء، بحيث لا يحتمل غير المعصية، وما لم تقم المعصية بعينه لم يكن من الإعانة حقيقة، بل من التسبب. ومن أطلق عليه لفظ الإعانة فقد تجوز، لكونه صورة إعانة، كما مر من السير الكبير. ثم السبب إن كان سببا محركا وداعيا إلى المعصية، فالتسبب فيه حرام، كالإعانة على المعصية بنص القرآن كقوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله} [الأنعام: 108] وقوله تعالى: {فلا تخضعن بالقول} [الأحزاب: 32] وقوله تعالى: {ولا تبرجن} [الأحزاب:33] . وإن لم يكن محركا وداعيا، بل موصلا محضا،   (1) يراجع عند الحاجة الدر المختار مع رد المحتار5/272وما بعدها؛ وتكملة فتح القدير8/127للحنفية؛ وراجع شرح المهذب9/391ونهاية المحتاج3/454وما بعده، وحواشي الشرواني على تحفة المحتاج4/317لمذهب الشافعية؛ والمبدع لابن مفلح4/42لمذهب الحنابلة؛ والفرق للقرافي2/33لمذهب المالكية وراجع أيضا نيل الأوطار لشوكاني5/154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وهو مع ذلك سبب قريب بحيث لا يحتاج في إقامة المعصية به إلى إحداث صنعة من الفاعل، كبيع السلاح من أهل الفتنة، وبيع العصير ممن يتخذه خمرا، وبيع الأمرد ممن يعصي به، وإجارة البيت ممن يبيع فيه الخمر، أو يتخذها كنيسة أو بيت نار وأمثالها، فكله مكروه تحريما، بشرط أن يعلم به البائع والآجر من دون تصريح به باللسان، فإنه إن لم يعلم كان معذورا، وإن علم وصرح كان داخلا في الإعانة المحرمة. وإن كان سببا بعيدا، بحيث لا يفضي إلى المعصية على حالته الموجودة، بل يحتاج إلى إحداث صنعة فيه، كبيع الحديد من أهل الفتنة وأمثالها، فتكره تنزيها) . (1) وقد تحدث رحمه الله تعالى عن هذه المسألة في مقالة أردية له بأوضح مما ههنا، وإليكم ترجمته مع تلخيص من عندي: (إن أخذنا التسبب بمعناه العام، فلن يبقى عمل مباح على وجه الأرض. فإن زراعة الحبوب الغذائية والثمار يسبب النفع لأعداء الله، وكذلك من ينسج الثياب، فإنه يهيئ لباسا للبر والفاجر، وربما يستعمله الفاجر في فجوره ... فلا بد إذن من الفرق بين السبب القريب والبعيد. فالسبب البعيد لا حرمة فيه. أما السبب القريب، فهو أيضا على قسمين: القسم الأول ما كان باعثا للإثم بمعنى كونه محركا له، بحيث لولا هذا السبب، لما صدرت المعصية. وإن إحداث مثل هذا السبب حرام كارتكاب المعصية سواء بسواء، وإن هذا القسم من السبب قال فيه الشاطبي في الموافقات: إن إيقاع السبب إيقاع للمسبب ... وبما أن إحداث مثل هذا السبب في حكم ارتكاب المعصية بالذات، فتنسب المعصية إلى المسبب، ولا تنقطع هذه النسبة عنه بتخلل فعل فاعل مختار.   (1) أحكام القرآن، للشيخ المفتي محمد شفيع رحمه الله 3:74؛ وجواهر الفقه 2:453. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 والقسم الثاني من السبب القريب، ما ليس بمحرك للمعصية في نفسه، بل تصدر المعصية بفعل فاعل مختار، مثل بيع ممن يتخذه خمرا، أو إجارة الدار لمن يتعبد فيها للأصنام، فإن هذا البيع أو الإجارة وإن كان سببا قريبا للمعصية، ولكنه ليس جالبا أو محركا للمعصية في نفسه ... وحكم هذا النوع من السبب القريب أن البائع أو المؤجر إن قصد بذلك إعانة المشتري أو المستأجر على معصيته، فهو حرام قطعا. أما إذا لم ينو بذلك المعصية، فله حالتان: الحالة الأولى أنه لا يعلم أن المشتري يتخذ من العصير خمرا. وفي هذه الحالة يجوز البيع بلا كراهة. أما إذا علم أنه يتخذه خمرا، فإن البيع مكروه ... فإن كان المبيع يستعمل للمعصية بعينه، من غير احتياج إلى تغيره، فالكراهة تحريمية، وإلا فهي تنزيهية) . (1) وإذا نظرنا في الودائع المصرفية على هذا الأساس وجدنا أن إيداع رجل أمواله في الحساب الجاري ليس سببا محركا أو داعيا للمعاملات الربوية، بحيث لو لم يودع هذا الرجل ماله، لم يقع البنك في معصية، فدخل في القسم الثاني، ولا يقصد المودع في عامة الأحوال أن يعين البنك في ممارساته الربوية، وإنما يقصد به حفظ ماله. ثم إن المودع لا يعلم بيقين أن ماله سوف يستخدم في معاملة ربوية، بل يحتمل أن يبقى عند البنك، أو يستخدم في معاملة مشروعة، ولو استخدمه البنك في معاملة ربوية، فإن النقود لا تتعين بالتعيين في عقود المعاوضة المشروعة، فلا تنسب هذه المعاملة إلى النقود التي أودعها، وإنما تنسب إلى النقود التي صارت ملكا للبنك. وغاية ما في الباب أن يكون هذا الإيداع مكروها كراهة تنزيه، ولا شك أن كثيرا من المعاملات المشروعة اليوم أصبحت مرتبطة بالبنوك، ويحتاج الإنسان لإنجازها أن يكون له حساب مفتوح في   (1) جواهر الفقه 2/460-462. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 إحدى البنوك، فالحاجة ظاهرة مشاهدة، وترتفع مثل هذه الكراهة التنزيهية بمثل هذه الحاجة إن شاء الله تعالى. تكييف الودائع في المصارف الإسلامية: أما الأموال المودعة في المصارف الإسلامية، فإن ما أودع في حساباتها الجارية، فإنه ينطبق عليه ما ذكرنا في الحسابات الجارية للبنوك التقليدية سواء بسواء، فهي قروض قدمها أصحابها إلى البنك، وهي مضمونة عليه، وتجري عليها جميع أحكام القرض: ولكن يختلف تكييف الودائع الثابتة وحسابات التوفير في البنوك الإسلامية من تكييفها في البنوك التقليدية، فإن هذه الودائع قروض أيضا في البنوك التقليدية قدمت إليها على أساس الفائدة الربوية، ولكن البنوك الإسلامية لا تعمل على أساس الفائدة الربوية، بل إنما تقبل هذه الودائع على أن يشاركها أصحابها في ربحها إن كان هناك ربح، فليست هذه الودائع في البنوك الإسلامية قروضا، وإنما هي رأس مال في المضاربة، وإنها تستحق حصة مشاعة من ربح البنك، وتحتمل حصة مشاعة من الخسران إن كان هناك خسران، وليست مضمونة على البنك، فلا يضمن البنك أصلها ولا ربحها، إلا إذا حصل هناك تعد من قبل البنك، فإنه يضمن بقدر التعدي. والفرق بين ودائع المودعين وأسهم المساهمين -على ما يظهر لي- أن العقد بين المودعين والبنك عقد مضاربة، وإنه فيما بين المساهمين أنفسهم عقد شركة. وذلك لأن المساهمين لهم حق التصويت في المجلس العام للبنك، فكأنهم قدموا المال والعمل جميعا إلى البنك، وهذا شأن الشركاء. وأما المودعون فليس لهم حق التصويت في المجلس العام، فليس لهم أي تصرف في تخطيط أعمال البنك وتسييرها، وإنما يقدمون الأموال إلى البنك فحسب، شأن رب المال في المضاربة، ثم إن المساهمين بمجموعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 مضاربون للمودعين بالنسبة إلى رصيد الودائع، فعلاقتهم فيما بينهم علاقة الشركاء، وعلاقتهم مع المودعين علاقة المضاربة، وإن مثل هذه العلاقات المزدوجة غير أجنبية للفقه الإسلامي. فقد ذكر الفقهاء أن المضارب لو خلط مال المضاربة بمال نفسه فإنه يجوز، فيكون مضاربا في النصف مالكا للنصف. (1) ضمان الودائع المصرفية: تبين مما سبق أن الودائع المصرفية في البنوك التقليدية قروض قدمها أصحابها إلى البنك، سواء أكانت ودائع ثابتة، أو ودائع الحساب الجاري، أو ودائع التوفير. فجميع هذه الودائع مضمونة على البنك، بحيث يجب عليه ردها إلى المودعين، سواء ربح البنك في عملياتها أو خسر؛ لأن القرض مضمون على المستأجر في كل حال. وكذلك الحسابات الجارية في البنوك الإسلامية قروض مضمونة على البنك. ومن هنا ينشأ السؤال: هل ضمان هذه القروض على المساهمين والمودعين جميعا، أم على المساهمين وحدهم؟ وهو السؤال الخامس من الأسئلة المطروحة من قبل أمانة مجمع الفقه الإسلامي. والجواب عن هذا السؤال: أن هذا الضمان إنما هو على المساهمين فقط، ولا يلزم المودعين. وذلك لأن المستقرض هو البنك الذي يملكه المساهمون. أما المودعون في الحساب الجاري، فإنهم مقرضون للبنك، ولا يضمن مقرض واحد لمقرض آخر. وكذلك المودعين في الودائع الثابتة وفي حسابات التوفير للبنوك التقليدية فإنهم كلهم مقرضون. وأما المودعون في حسابات الاستثمار للبنوك الإسلامية، فقدمنا أنهم أرباب أموال في المضاربة، وأن المساهمين مضاربون لهم في حصة   (1) راجع مبسوط السرخسي 22/133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ودائعهم، ومشاركون بالنسبة إلى مبالغ سهامهم، فصارت أصول البنك مشتركة مخلوطة بين المساهمين والمودعين، ترجع غنمها وغرمها إلى كل منهما حسب حصته في الأصول، ولما كانت الحسابات الجارية قروضا يستفيد منها البنك في سائر عملياته، ويرجع نفعها إلى المساهمين والمودعين جميعا، فكل واحد من هذين القسمين ضامن للقروض التي يستفيد بها. (1) ، وذلك على أساس القاعدة المعروفة أن الخراج بالضمان، وأن الغنم بالغرم. وبعبارة أخرى، فإن المستقرض بالنسبة للحسابات الجارية هو البنك، والبنك يتألف من المساهمين والمودعين في الودائع الثابتة وودائع التوفير؛ لأن كل واحد من القسمين مشارك في عمليات البنك، ولا تؤخذ قروض الحسابات الجارية إلا لإنجاز هذه العمليات التي يشاركها فيها المساهمون والمودعون، فتكون هذه القروض مضمونة عليهما جميعا، فلا يوزع الربح فيما بين المساهمين والمودعين في حساب الاستثمار إلا بعد تلبية طلبات المودعين في الحساب الجاري لاسترداد مبالغهم، وعند تحليل لبنك يقدم أصحاب الحساب الجاري بصفة كونهم مقرضين في قضاء ديونهم، وإنما يستحق المساهمون وأصحاب حساب الاستثمار أصولهم أو أرباحهم بعد قضاء ديون الحساب الجاري، بصفة كونهم مستقرضين. وقد يستشكل هذا بأن هناك ودائع كثيرة في الحساب الجاري قد أودعها أصحابها في البنك قبل أن يدخل شخص في حساب الاستثمار، فكيف يضمن هذا الشخص الجديد القروض التي استقرضها البنك قبل أن يكون شريكا فيه؟   (1) قال العلامة الكاساني رحمه الله: ولو استقرض (أي الشريك) مالا لزمهما جميعا؛ لأنه تملك مال بالعقد، فكان كالصرف، فيثبت في حقه وحق شريكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 والجواب عن هذا الإشكال أن من يدخل في تجارة جارية كشريك، فإنه يشارك تلك التجارة في جميع ديونها وأرباحها، سواء كانت تلك الديون قد تحملتها التجارة قبل دخوله فيها، فكذلك هؤلاء المودعين، يدخلون في البنك كشركاء، فيتحملون ضمان هذه القروض. استخدام الحساب الجاري كرهن أو ضمان وقد طرحت من قبل الأمانة العامة للجميع مسألة استخدام الحساب الجاري كرهن، والمراد منها: هل يجوز لصاحب الحساب الجاري أن يرهن المبلغ المودع في هذا الحساب توثيقا لدين قد يجب عليه لسبب أو آخر؟ والجواب عن هذا السؤال أن المرهون يجب عند الجمهور أن يكون عينا متقوما يجوز بيعه (1) ، فلا يصلح الدين أن يكون رهنا، وقدمنا أن الحساب الجاري دين صاحبه ذمة البنك، فلا يصح رهنه على قول جمهور الفقهاء، وقد ذهب المالكية إلى جواز رهن الدين عند المدين وغيره، ولكن اشترطوا لصحة رهنه عند المدين أن يكون أجل الدين المرهون مثل أجل الدين المرهون به أو أبعد منه. قال العدوي رحمه الله: (ويشترط في صحة رهنه من المدين أن يكون أجل الرهن مثل أجل الدين الذي رهن به أو أبعد، لا أقرب؛ لأن بقاءه بعد محله كالسلف، فصار في البيع بيعا وسلفا، إلا أن يجعل بيد أمين إلى محل أجل الدين الذي رهن به) . (2) وفي ضوء هذه النصوص، يحتمل أن يكون لرهن الحساب الجاري صور مختلفة:   (1) انظر المغني لابن قدامة 4/375 طبع بيروت مع الشرح الكبير. (2) حاشية العدوي بهامش الخرشي على مختصر خليل 5/236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 1- أن يكون للبنك نفسه دين على صاحب الحساب الجاري، فيرهن حسابه للبنك توثيقا لدينه. وذلك يجوز عند المالكية بشرط أن يؤجل الحساب الجاري إلى أجل دينه، بحيث لا يملك صاحبه سحب ما يزيد على دين البنك قبل حلول أجله. أما على قول الجمهور، فمقتضى قولهم أنه لا يصح الحساب الجاري رهنا لكونه دينا، والدين ليس عينا يصح بيعه. 2- أن يكون الدائن غير البنك، فيرهن المدين حسابه الجاري عنده بحيث يملك الدائن السحب من ذلك الحساب متى شاء. ومقتضى ما ذكرنا من قول المالكية أن يجوز هذا الرهن مطلقا. أما على قول الجمهور فلا يصح ذلك رهنا؛ لأن الدين لا يرهن عندهم. ولكن يمكن أن يصح ذلك على أساس الحوالة، فكأن صاحب الحساب أحال دائنه على البنك بحيث يستطيع أن يستوفي دينه من البنك متى شاء. 3- أن يكون الدائن غير البنك، فيطالب المدين أن يجمد حسابه الجاري في البنك إلى أن يحل أجل الدين. ويحتمل تخريجه على أنه رهن وضع على يد فريق ثالث يسمى في الفقه (عدلا) ولكن الرهن الموضوع على يد العدل يكون أمانة في يده، ولا يجوز للعدل أن يتصرف فيه أو ينفقه لصالحه، وظاهر أن البنك يتصرف في جميع الحسابات الجارية، فلا يكون أمينا للمبالغ المودعة فيها، فلا ينطبق عليه مبدأ وضع الرهن على يد العدل، إلا أن يقال: إن العدل قد أذن له الدائن والمدين كلاهما أن يتصرف في المبلغ المرهون بشرط الضمان، ولم أر حكمه في كتب الفقه صراحة، غير أنه يظهر أنه لا مانع من ذلك، والله سبحانه أعلم. هذا إذا كان الدين المرهون به مؤجلا، أما إذا كان حالا، كالقرض الذي لا يتأجل بالتأجيل عند الحنفية وغيرهم، فيمكن تخريج تجميد الحساب على أساس الحوالة، كما قدمنا في الصورة الثانية. 365 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 رهن الوديعة الاستثمارية: أما الودائع الاستثمارية في البنوك التقليدية، فلا يختلف حكمها عن الحسابات الجارية؛ لأنها قروض كما أسلفنا، فينطبق عليها جميع ما قلنا في رهن الحسابات الجارية. أما في البنوك الإسلامية، فليست الودائع الاستثمارية دينا على البنك، وإنما هي حصة مشاعة للمستثمر في موجودات البنك، فلا يجوز رهنها على قول من يمنع رهن المشاع، وهم الحنفية. فإن الأصح عندهم أنه لا يجوز رهن المشاع، ولو كان من شريكه (1) ، وأما الشافعية والمالكية والحنابلة، فإنهم لا بأس عندهم برهن المشاع (2) ، فيجوز عندهم رهن الودائع الاستثمارية في البنوك الإسلامية. تجميد البنك أموال صاحب الحساب: طرحت الأمانة العامة للمجمع سؤالا آخر، وهو: هل يجوز للبنك أن يحجز أموال العميل المودع في حساب جار لتصفية حقوق عليه ناشئة من عمليات أخرى وبعبارة أخرى: هل يجوز للبنك أن يجمد الحساب الجاري لعميله، وأن يستوفي منه حقوقه المالية التي وجبت عليه من خلال عمليات التمويل؟ والجواب عن هذا السؤال: أن هذا التجميد إن كان برضا من صاحب الحساب، فتجري عليه أحكام الرهن حسبما فصلنا في الجواب عن السؤال السابق. وكذلك استيفاء البنك ديونه على العميل من حسابه الجاري، إن كان برضا منه، فتجري عليه أحكام المقاصة. أما إذا كان بدون إذن من صاحب الحساب، بأن كانت عليه ديون للبنك، ولم يوفها في موعدها، فأراد البنك أن يستوفيها من حسابه الجاري المفتوح عنده،   (1) رد المحتار، لابن عابدين 5/348. (2) المغني لابن قدامة 4/375. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فتنطبق عليه المسألة المعروفة عند الفقهاء والمحدثين باسم (مسألة الظفر) . وحاصل المسألة أن الدائن إذا ظفر بمال المدين هل يجوز له أن يستوفي حقه من ماله الذي ظفر به؟ وقد ذكر الفقهاء أن المدين إن كان مانعا للدين لأمر يبيح المنع، كالتأجيل والإعسار، لم يجز أخذ شيء من ماله، وكذلك إن كان المدين مانعا بغير حق، لكن يقدر الدائن على استخلاص حقه بالحاكم، لم يجز له الأخذ أيضا، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، إلا أن هناك وجها عند الشافعي رحمه الله يجيز له الأخذ. وأما إذا لم يقدر الدائن على استخلاص حقه بحكم الحاكم فهذا موضع خلاف بين الأئمة على الشكل التالي. (1) 1- قال الشافعي رحمه الله تعالى: جاز له أخذ حقه مما ظفر به، سواء كان المال الذي يجده من جنس حقه، أو من خلاف جنسه، وهو رواية عن مالك رحمه الله. 2- قال أحمد رحمه الله تعالى في المشهور عنه: ليس له الأخذ من ذلك المال، بل يرده، ثم يطالبه بدينه، وهو رواية عن مالك رحمه الله. 3- وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز له الأخذ إن كان ما وجده من جنس حقه، مثل أن تكون له على المدين دراهم، فوجد دراهم مملوكة له. يجوز له أخذها بقدر حقه، ولا يجوز له إن كان من غير جنسه، مثل أن تكون له على المدين دراهم، فوجد دنانير، لا يجوز له الأخذ. هذا أصل مذهب الحنفية، لكن المتأخرون من فقهاء الحنفية أفتوا في هذه المسألة بقول الشافعي، رحمه الله، فأجازوا للظافر أن يستوفي حقه مما ظفر به من مال المدين مطلقا، سواء كان المال الذي ظفر به من جنس حقه، أو لم يكن. يقول ابن عابدين ناقلا عن شرح القدوري للأخضب:   (1) انظر لهذا التفصيل: المغني لابن قدامة 12/229و230، كتاب الدعاوي والبينات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 (إن عدم جواز الأخذ من خلاف الجنس كان في زمانهم، لمطاوعتهم في الحقوق. والفتوى اليوم على جواز الأخذ عند القدرة من أي مال كان، لا سيما في ديارنا، لمداومتهم العقوق) . (1) وقد وردت عن المالكية في ذلك روايات ثلاثة، كالمذاهب الثلاثة المتقدمة. والمشهور من مذهبهم أنه إن لم يكن للمدين دائن آخر، سوى الظافر، فله أن يأخذ بقدر حقه، وإن كان له دائن آخر لم يجز؛ لأنهما يتحاصان في ماله إذا أفلس. وقد استدل المجوزون للأخذ, وهم الجمهور, بحديث هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان رضي الله عنهما أنها قالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح, لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني, إلا ما أخذت من ماله بغير علمه, فهل على في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك)) (1) وعلى أساس هذا الحديث, الراجح من مذهب الشافعية والحنفية, يجوز للبنك أن يستوفي حقه, كله أو بعضه, من الأموال المودعة عنده في الحساب الجاري المدين. ومن المناسب, رفعا للخلاف الفقهي المذكور, أي يضيف في اتفاقيته مع عملائه بندا يصرح بأنه يحق للبنك, إذا قصر العميل في أداء   (1) رد المحتار، لابن عابدين5/105، كتاب الحجر، وقد ذكر مثل ذلك في كتاب الحدود3/219 و220؛ وفي الحظر والإباحة 5/300. (2) الحديث أخرجه البخاري في عدة مواضع من صحيحه, منها كتاب البيوع, باب من أجرى الأنصار على ما يتعارفون بينهم, رقم2211,وفي المظالم, باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه رقم2460 وفي النفقات, رقم 5359 و5364 وغيرها, واللفظ المذكور لمسلم في صحيحه, كتاب الأقضية, باب قضية هند. وقد بسطت الكلام على مذاهب الفقهاء وأدلتهم في هذه المسألة في كتابي (تكملة فتح الملهم بشرح صحيح مسلم) 2/578. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ما يجب عليه في موعده, أن يستوفي حقه من حسابه المودع لدى البنك. وإذا وقع العميل على هذا البند من الاتفاقية, فإنه يرضى بمقاصة ما يجب عليه من حسابه الجاري أو من حساب الاستثمار , وحينئذ, تخرج المسألة من مسألة الظفر, وتجري عليها أحكام المقاصة بالتراضي, ويجوز ذلك عند جميع الفقهاء بدون أي خلاف. طريق محاسبة الودائع المصرفية: المعروف في البنوك التقليدية اليوم أنها تعد لائحة الموجودات والمطلوبات (Balance Sheet) للبنك. فالموجودات: هي الأموال التي هي موجودة بيد البنك, أو يتوقع الحصول عليها في المستقبل, مثل التمويلات المقدمة إلى العملاء, التي يرجو البنك استرداها مع الفوائد. والمطلوبات: هي الأموال التي لها مطالب خارج البنك, ويجب على البنك أن يؤديها إلى مطالبيها. ومن عادة البنوك التقليدية أنها تدرج جميع الودائع المصرفية في المطلوبات؛ لأنها تلتزم بردها إلى أصحابها, إما عند طلبهم في الحسابات الجارية وحسابات التغير, وإما عند حلول أجلها في الحسابات الثابتة. أما التمويلات التي يقدمها البنك إلى عملائه, فإنها تدرج في بند الموجودات, لأن البنك يتوقع استردادها منهم مع الفوائد. أما البنوك الإسلامية, فلا يستقيم فيها هذا الوضع. أما حساباتها الجارية, فإنها تدرج في المطلوبات كما أنها تدرج في البنوك التقليدية, وذلك لما أسلفنا من أن الحسابات الجارية ديون على البنك يستحقها أصحابها, أما حسابات الاستثمار , فليست ديونا على البنك, وإنما هي أموال شركة أو مضاربة اختلطت مع أموال البنك الأخرى, وليست هذه الأموال مضمونة على البنك, فلا يستقيم إدراجها في قائمة المطلوبات بالمعنى الدقيق. وكذلك التمويلات التي يقدمها البنك إلى عملائه لا يمكن إدراج جميعها في الموجودات؛ لأن التمويلات المقدمة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 أساس المشاركة والمضاربة غير مضمونة, فإن العميل لا يستطيع أن يضمن أصلها فضلا عن ربحها. نعم يمكن إدراج أثمان المرابحات وأجرة المؤجرات في مطلوبات البنك. وعلى هذا الأساس, لا يمكن أن تكون لائحة البنك الإسلامي مماثلة للائحة بنك تقليدي من كل الوجوه, بحيث تساوي مبالغ موجوداته مبالغ المطلوبات مائة في مائة. بل ينبغي أن تكون لائحة البنك الإسلامي مثل لائحة شركة تجارية أخرى. وهذا يوافق طبيعة البنك الإسلامي؛ لأنه ليس مؤسسة للإقراض والاقتراض فقط, وإنما هي مؤسسة تجارية تساهم التجارة الوطنية في أربحها وأخطارها. ولئن وضع بنك إسلامي لائحته على طراز بنك تقليدي بإدراج حسابات الاستثمار في المطلوبات وبإدارج التمويلات كلها في الموجودات, فإن ذلك إنما يكون على سبيل التقريب والاحتمال, لا على أساس القطع واليقين. والله سبحانه أعلم. طريق محاسبة الربح للمودعين في حساب الاستثمار: وإن من أهم مسائل الودائع المصرفية طريق محاسبة الربح الحاصل على كل وديعة. والمشكلة إنما نشأت من جهة أن الشركة والمضاربة في أصلهما إنما تتصوران تجارة يحدثها رجلان أو رجال معدودون، والشركاء كلهم يعقدون الشركة فيما بينهم منذ أول نشأة عملية تجارية، ويبقون بهذه الصفة إلى أن تنض الأموال ويوزع الربح بينهم على أساس التنضيض الحقيقي، وحينئذ لا غموض في محاسبة الربح أو الخسارة. ولكن الشركات المساهمة الكبيرة اليوم يساهم فيها مئون من الرجال، ويخرج من عقد الشركة عدد كبير من الناس كل يوم، ويدخل فيها آخرون. ومما يزيد الأمر تعقيدا هو تعامل البنوك المعاصرة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 كون ودائع كل رجل تزيد وتنقص كل يوم، فإن من يفتح حسابا في البنك، فإنه قد لا يحتاج إلى سحب بعض المبالغ منه في يوم، ثم إلى إيداع بعضها مرة أخرى في يوم آخر، وإن هذه العملية لا تختص بالحسابات الجارية فقط، بل يجري مثل ذلك في حسابات التوفير، حتى في الودائع الثابتة، فإن الودائع الثابتة وإن كان المفروض فيها أن تكون مؤجلة إلى أجل معلوم، ولا يملك صاحبها أن يسحب منها شيئا قبل أن يحل ذلك الأجل، ولكن المعمول به في أكثر البنوك أنها تسمح لصاحبها أن يسحب هذه الودائع أيضا عندما يحتاج إليها، وينقص البنك من فائدته بحساب ما بقي من أيام الأجل. ثم إن حسابات الودائع الثابتة كلها لا تفتح في تاريخ واحد، بل تختلف تواريخ هذه الودائع من شخص إلى آخر، كما تختلف آجالها من حساب إلى حساب، فلا تكون فترات الإيداع واحدة لجميع الأشخاص، بل يكون بينها تباين لا يحتمل التوفيق، فإذا حولت هذه العمليات إلى عقود الشركة أو المضاربة، فإن من الصعب جدا أن تحدد الأرباح والخسائر المتأتية على كل وديعة على الأساس المعروف لتحديدها. وقد يقترح بعض الناس أن تغير البنوك الإسلامية طريق قبول الودائع مما هو معمول به في البنوك التقليدية، فلا تقبل ودائع التوفير والودائع الثابتة إلا في تواريخ محددة ولآجال موحدة، لتبتدئ فترة جميع الودائع في وقت واحد وتنتهي في وقت واحد، وليتمكن البنك من تحديد الأرباح الحاصلة عليها على أساس المعروف. ولكن هذا الاقتراح يصعب العمل به في البنوك، لأن طبيعة الأعمال المصرفية تقتضي أن تظل عمليات السحب والإيداع مفتوحة لكل أحد كل يوم، وإن تقييد هذه العمليات بيوم موحد مخصوص تسبب مشاكل كثيرة للتجارة السريعة المعاصرة، ويجعل كميات كبيرة من الأموال معطلة ومنعزلة عن النشاط التجاري. وبما أن توجيه الأموال الفائضة إلى النشاط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 التجاري والصناعي مطلب صحيح يوافق الشريعة الإسلامية، فإن ضرر المجتمع ببقاء هذه الأموال فاترة ضرر ينبغي أن يزال. وهناك اقتراح آخر، تقدم به بعض الناس، وهو أن الودائع المصرفية ينبغي أن تقسم إلى وحدات صغيرة كالسهام، وكل من يتقدم إلى المصرف لتوديع أمواله، يحصل على عدد من هذه الوحدات، ثم إن هذه الوحدات تقوم كل يوم بقيمة يعلنها البنك على أساس تقويم أصوله وموجوداته. فمن أراد أن يسحب مبلغا من البنك، فإنه يبيع هذه الوحدات إلى البنك، ويلتزم البنك شراءه على أساس القيمة المعلنة كل يوم. وإن هذه القيمة المعلنة كل يوم ينعكس فيها الربح الحاصل على كل وحدة إن ازدادت قيمة موجودات البنك، وتنعكس فيها الخسارة إن انتقصت قيمة الموجودات. وإن هذا الاقتراح يمكن العمل به في شركات الاستثمار غير المصرفية، ولكنه يصعب تطبيقه في البنوك، وذلك لوجوه: أما أولا، فلأن هذا الاقتراح لا يساير طبيعة الأعمال المصرفية المعاصرة التي تقتضي السرعة في إنجاز العمليات، وإن تقييد السحب والإيداع بالوحدات المخصوصة، مهما كانت الوحدات صغيرة، مما يعقد هذه العمليات وإن كثيرا من السحوب المصرفية إنما تكون عن طريق الشيكات المصرفية التي يصدرها أصحابها قضاء لواجباتهم المالية، ومن الصعب جدا أن تقسم هذه الواجبات إلى وحدات مطلوبة، فإن الواجبات تختلف من شخص إلى آخر، ولا يمكن أن تكون موافقة لوحدات الودائع. وأما ثانيا، فلأن هذا الاقتراح يوجب التقويم اليومي لجميع موجودات البنك على أساس سعر السوق، وذلك صعب أيضا. وأما ثالثا، فلأن الكثير من موجودات البنك لا تكون إلا في صورة نقود أو ديون، وإن جماعة من العلماء المعاصرين لا تجوز بيع أسهم الشركات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 إلا إذا كانت أصولها الثابتة أكثر من النقود والديون. وعلى رأيهم لا يجوز بيع وحدات البنك فيما إذا كانت معظم موجوداته نقودا أو ديونا. (1) . ومن أجل هذه الأسباب، لا يحل هذا الاقتراح مشكلة تحديد الأرباح في الودائع المصرفية. وطالما بحثت في كلام الفقهاء عن طريق محاسبة الأرباح فيما إذا استرد الشريك أو رب المال بعض ماله، فلم أفز إلا بمسألة في كلام العلامة النووي رحمه الله في المنهاج، حيث قال في أواخر كتاب القراض: (ولو استرد المالك بعضه قبل ظهور ربح وخسران رجع رأس المال إلى الباقي، وإن استرد بعد الربح، فالمسترد شائع ربحا ورأس مال. مثاله: رأس المال مائة، والربح عشرون، واسترد عشرين، فالربح سدس المال، فيكون المسترد سدسه من الربح، فيستقر للعامل المشروط منه، وباقيه من رأس المال وإن استرد بعد الخسران فالخسران موزع على المسترد والباقي، فلا يلزم جبر حصة المسترد لو ربح بعد ذلك. مثاله: المال مائة، والخسران عشرون، ثم استرد عشرين، فربع العشرين حصة المسترد، ويعود رأس المال إلى خمسة وسبعين) . (2) وإن هذا الطريق إنما يعالج مشكلة واحدة، وهي سحب رب المال بعض ماله من مال المضاربة، ولكن لا ينظر إلى رد بعض المسترد أو كله مرة أخرى إلى مال المضاربة، وكذلك رب المال في هذا المثال واحد،   (1) أما على قول الحنفية، فمقتضى قولهم في مسألة (مد عجوة) أن يجوز بيع الأسهم فيما كان بعض أصول الشركة عروضا، سواء كان أكثر موجوداتها نقودا وديونا، بشرط أن تكون القيمة زائدة على حصة السهم من النقود والديون، صرفا للزائد إلى العروض. (2) مغني المحتاج، للشربيني الخطيب:2/320و321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وظهور الربح أو الخسران واضح، فلو أضفنا إلى هذا المثال أن أرباب الأموال ألوف، وكل واحد منهم يسحب بعض مبالغة تارة، ويرد بعضها أخرى، لتعقد الحساب بما يجعل ضبطه الدقيق كالمستحيل. حساب الإنتاج اليومي ومدى جواز استخدامه في محاسبة الأرباح, وقد يوجد حل هذه المشكلة فيما يسمى في عرف المحاسبة المعاصر (حساب الإنتاج اليومي) (Daily Products) وقد يعبر عنه بحساب النمر، ومعنى استخدام هذا الطريق في الشركة أو المضاربة أن عند نهاية كل فترة يحدد إجمالي مبالغ الربح الحاصلة على جميع الأصول المستثمرة، ثم تقسم هذه المبالغ على الأموال المستثمرة، وعلى مجموع أيام الفترة الحسابية بحيث يعرف قدر ما ربحته وحدة نقدية كالربية الواحدة كل يوم، وإن كل واحد من الشركاء يعطى على كل واحدة من ربيته ربح الأيام التي ظلت فيها الربية مصروفة في حساب الاستثمار، فإذا كانت الربية الواحدة مصروفة في حساب الاستثمار لمدة أكثر، يوزع عليها ربح أكثر، وإن كانت الربية الواحدة مصروفة لمدة أقل، فإنها تحصل على ربح أقل. مثاله: لو دل حساب الإنتاج اليومي أن ربية واحدة قد ربحت فلسا واحدا كل يوم، فالربح الحاصل على الربية المستثمرة لمائة يوم مائة فلس، سواء كانت هذه المائة يوم متوالية أو متفرقة؛ فمن بقيت ربيته الواحدة مصروفة في الاستثمار بمقدار مائة يوم متوالية أو متفرقة من الفترة المحاسبية، فإنه يستحق مائة فلس من الربح، ومن كانت ربيته الواحدة مصروفة بمقدار يوم، أو كانت ربيتها مصروفتين بمقدار مائة يوم، فإن كل واحد منهما يستحق مائتي فلس. وهكذا يظل المستثمرون يسحبون ما شاؤوا من المبالغ في أثناء الفترة ويودعون ما شاؤوا مرة أخرى، وإن حقهم في الربح إنما يتعين على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 أساس مجموع الأيام التي بقيت فيها أموالهم مصروفة في الاستثمار. (1) . هذا هو الحل الوحيد الذي يبدو عمليا في طريق محاسبة الأرباح على الودائع الاستثمارية في المصارف الإسلامية، ولكنه يحتاج إلى تكييف شرعي تقبله طبيعة الفقه الإسلامي، ونظرا إلى التصور المعروف للشركة أو المضاربة في الفقه، فإن هناك عدة عوائق في سبيل تطبيقه في الشركة والمضاربة: 1- معرفة الربح الحقيقي تتوقف -حسبما ذكره الفقهاء- على تنضيض جميع موجودات الشركة، حتى إن اقتسام الربح قبل التنضيض يعتبر كالمدفوع تحت الحساب، ويبقى تابعا للتصفية النهائية بعد التنضيض, أما في العمليات المصرفية، فلا يتصور التنضيض الكلي حتى في نهاية السنة؛ لأن عمليات التمويل لا تزال فيها جارية بصفة مستمرة كل يوم. وحل هذه المشكلة فيما يظهر لي -والله أعلم- أن يصفى حساب الشركة في نهاية كل سنة على أساس التنضيض التقديري، وهو التقويم، وحاصل ذلك أن جميع الأعيان التي يملكها البنك في نهاية السنة من خلال عمليات التمويل يشتريها مساهمو البنك من سلة الودائع الاستثمارية، ويضاف قيمتها إلى الأموال الناضة، ويوزع الربح على ذلك الأساس، وتنتهي عقود المضاربة والشركة لتلك السنة. وفي بداية السنة الجديدة تعقد الشركة بين المودعين والمساهمين من جديد، وتعتبر قيمة الأعيان المذكورة حصة من رأس مال المساهمين لهذه الشركة الجديدة؛ لأنهم يشغلونها لصالح السلة الاستثمارية مرة أخرى بعد أن دفعوا قيمتها إلى السلة الاستثمارية وملكوها. وغاية الأمر أن تلتزم منه الشركة بالعروض،   (1) راجع لطريق هذه المحاسبة وأمثلته (محاسبة الشركات والمصارف في النظام الإسلامي) ص: 179-181. طبع القاهرة سنة 1404هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ولكن ذلك جائز عند المالكية وبعض الحنابلة على أساس القيمة مطلقا، وعند الشافعي رحمه الله إن كانت العروض من ذوات الأمثال (1) ، وعند الحنفية إن اختلطت العروض بعضها ببعض (2) ، ولا بأس بالأخذ بقول المالكية في هذه المسألة للتيسير على الناس. (3) 2- إن طبيعة المضاربة والشركة التقليدية تقتضي أن تكون جميع الأموال مدفوعة في وقت واحد إلى التجارة المشتركة، حتى ذكر الفقهاء أنه لو دفع رب المال مالا آخر بعد تشغيل الأول لم تجز المضاربة في المال الثاني. قال النووي رحمه الله: (لو دفع إليه ألفا قراضا، ثم ألفا، وقال: ضمه إلى الأول، لم يجز القراض في الثاني ولا الخلط؛ لأن الأول استقر حكمه بالتصرف ربحا وخسرانا، وربح كل مال وخسرانه يختص به) (4) . وهذا إذا كان المالان جميعا لرجل واحد، أما إذا كان المالان لرجلين مختلفين كذلك بالطريق الأولى، لأن المنافع متفاوتة. أما الودائع المصرفية، فلا تدفع إلى البنك في وقت واحد، ولا تشغل في الأعمال الاستثمارية إلا في أوقات مختلفة، فلا يمكن تطبيقها على الأساس المعروف للشركة أو المضاربة التقليدية. 3- ثم إن سحب بعض الأموال قبل نهاية الفترة إنما يستلزم فسخ الشركة في ذلك الجزء المسحوب، ويمكن أن يكون الجزء المسحوب لم يربح شيئا إلى وقت السحب، أو يكون قد ربح أكثر مما يقدر بحساب الإنتاج اليومي، وفي الصورة الأولى يحوز هذا الجزء حصة من ربح مودع   (1) المغني لابن قدامة:5/124و125. (2) بدائع الصنائع، للكاساني 6/59. (3) راجع إمداد الفتاوى، للشيخ أشرف على التهانوي رحمه الله:3/495. (4) روضة الطالبين للنووي 5/148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 آخر، وفي الصورة الثانية تنتقل حصته إلى مودع آخر. ولا سبيل إلى إبعاد هذه العوائق إلا أن نقول: إن (الشركة الجماعية المستمرة) نوع جديد مستقل من أنواع الشركات، ولا يجب لجوازه أن يتوفر فيه جميع عناصر شركة العنان أو المفاوضة. لكونه نوعا مستقلا، ولا يحكم بعدم جوازه إلا إذا تضمن ذلك إخلالا بأحد الشروط المنصوصة لجواز الشركة. ولا شك أنه ليس هناك نص في القرآن والسنة يحصر الشركة المشروعة في الأنواع التي ذكرها الفقهاء في كتبهم، وإنما بنى الفقهاء هذا التقسيم على استقراء ما كان معمولا به في بيئتهم. ولم تكن بعض هذه الأنواع إلا وليدة حاجات الناس في التجارة، مثل شركة التقبل، أو شركة الوجوه، فإنه لا يوجد لهما ذكر في نصوص القرآن والسنة، ولكنهم جوزوهما لمكان الحاجة، فلو حدث هناك قسم آخر للشركة فإنه لا يحكم ببطلانها بمجرد كونها لا تدخل في أحد الأقسام المذكورة في كتب الفقه، ما لم يعارض المبادئ الأساسية المنصوصة في القرآن أو السنة. وعلى هذا، فنستطيع أن نقول: إن (الشركة الجماعية المستمرة) نوع جديد للشركة أحدثتها حاجة الناس في مداولاتهم المعاصرة، وما دامت المبادئ الأساسية للشركة متوفرة فيها، فإنها لا تفسد بمجرد أنها لا تنطبق عليها بعض الفروع الجزئية التي ذكرها الفقهاء, ويلاحظ أن أموال جميع الشركاء مخلوطة في هذه الشركة، وكل منها معرض للربح والخسارة، ولا ينفرد فيها أحد الشركاء بتخصيص مبلغ معلوم من الربح، بل يشارك كل واحد منهم في الربح والخسارة على حد سواء لا فضل لأحدهم على الآخر، فإن المبدأ الأساسي للشركة موجودة في هذا النوع من الشركة. أما توزيع الربح على أساس الإنتاج اليومي، فإنه وإن لم يكن توزيعا للربح الذي نتج فعلا على كل مال على حدة، ولكنه توزيع للربح التقديري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 الذي حصل على مجموع الأموال في فترة واحدة، وذلك على أساس التراضي بين الشركاء منذ أول نشأة الشركة في حين أنه لا يوجد للتوزيع أساس عادل سواه في مثل هذه العمليات. ويوجد لمثل هذا الأساس نظيران في الأنواع القديمة للشركة أيضا: أما النظير الأول، فهو شركة الأعمال، ويسمى شركة الأبدان وشركة التقبل أيضا. وهو أن يشترك رجلان في تقبل الأعمال لغيرهما على أن ما يحصلان عليه من الأجرة يكون بينهما على ما شرطا. وقد صرح الفقهاء بأن ذلك جائز، وإن كانت أعمالهما متفاوتة في الكمية والكيفية. فلو اشترط المشاركان أن الأجرة الحاصلة تنقسم عليهما نصفين، فإن كل واحد منهما يستحق النصف، وإن كان عمله أقل من النصف؛ لأن الشركة إنما وقعت على ضمان العمل، وهو مضمون عليهما نصفين. (1) والنظير الثاني: ما ذهب إليه من أن خلط مال الشركاء ليس بشرط لصحة الشركة. ومقتضى ذلك أنه لو كان لأحد الشريكين دراهم وللآخر دنانير، فعقدا الشركة بدون أن يخلطا أموالهما، فاشترى كل واحد منهما بمال نفسه على حدة، فإنهما يشتركان في الربح. قال الكاساني: (واختلاط الربح يوجد، وإن اشترى كل واحد منهما بمال نفسه على حدة؛ لأن الزيادة وهي الربح، تحدث على الشركة) . (2) . ومقتضى هذين النظيرين أنه لا يجب شرعا أن يكون ربح كل واحد من الشركاء مبنيا على ما حصل على مساهمته (المالية أو العملية) فعلا، بل يجوز أن يتفقا على أساس آخر لتوزيع الربح بينهما. وعلى هذا، فلو اتفق الشركاء على أساس الإنتاج اليومي لتوزيع   (1) راجع بدائع الصنائع/ الكاساني 6/65. (2) بدائع الصنائع 6/60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 الربح بينهم، فإن ذلك لا يبدو مصادما لنص من نصوص الشريعة الإسلامية، وإنما هو طريق حسابي مخصوص لجأ إليه الشركاء لفقدان أساس عملي آخر في شركة جماعية مستمرة، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا. والله سبحانه أعلم وعلمه أتم وأحكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 (13) أَحْكَامُ الْذَّبَاْئِحْ وَالْلَّحُوْمُ الْمُسْتَوْرِدَةْ بحث عرض على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره العاشر بمدينة جدة من المملكة العربية السعودية المنعقدة في شهر صفر 1418هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 أَحْكَامُ الْذَّبَاْئِحْ وَالْلَّحُوْمُ الْمُسْتَوْرِدَةْ مُقَدَّمَةُ الْبَحْثْ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى أحل للمسلمين أن يأكلوا من لحوم الحيوانات الطيبة، وينتفعوا بأجزائها الأخرى، ولكن جعل هذا الحل خاضعا لأحكام شرعها في الكتاب والسنة، وإن هذه الأحكام ترجع إلى التنويه بأن الحيوان في أصله مثل الإنسان من حيث يوجد فيه الروح والإدراك، والحواس التي تبعث فيه الراحة والألم. ومن هذه الجهة، كان الأصل أن لا يباح للإنسان ذبحه وأكل لحمه، والانتفاع بأجزائه, ولكن الله سبحانه جعل الإنسان أشرف المخلوقات ومخدوما للكون، وخلق لصالحه جميع ما خلق، قال تعالى: {هُوَ الَّذِيْ خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيْعًا} [البقرة: 29] . وبما أن أكل الحيوانات إنما أبيح على خلاف الأصل بمحض فضل من الله سبحانه وتعالى، فقد جعله الله تعالى خاضعا لبعض الأحكام التعبدية، ينبئ الامتثال بها عن اعتراف العبد بأن حل الحيوان له نعمة من الله سبحانه وتعالى وفضل منه، وأنه لا يستحق الاستمتاع بمثله من الحيوان، والالتذاذ بأكله إلا بعد الاعتراف بهذه النعمة والشكر عليها، والالتزام بالطرق التي شرعها الله لإزهاق روح الحيوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 ومن هنا، امتازت الشريعة الإسلامية عن الشرائع الأخرى في تحديد طرق الذبح، ووضع مبادئها وشرع أحكامها. فليست قضية ذبح الحيوان من الأمور العادية التي يتصرف فيها الإنسان كيفما يشاء حسب حاجته، أو مصلحته، أو حسبما يتيسر له دون أن يتقيد في ذلك بأصول وأحكام، وإنما هي من الأمور التعبدية التي يجب على المسلم الالتزام بأحكامها المبينة في الكتاب والسنة. فما ذهب إليه المفتي محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا من كون ذبح الحيوان من الأمور العادية التي يجوز أن يتصرف فيها الإنسان بكل حرية (1) ، خطأ صريح، وقول مصادم للنصوص الصريحة، ولقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله)) . وأصرح من ذلك رواية أخرى، ولفظها: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها, وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها)) (2) . وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح الذبيحة في هذا الحديث بالصلاة واستقبال القبلة، وجعله من ميزات الشريعة الإسلامية التي يمتاز بها المسلم عن غيره، ومن العلامات والشعائر التي تنبئ عن كون الرجل مسلما، والتي يعصم بها دمه وماله. وأية شهادة أكبر من شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ذبح الحيوان بالطريق المشروع من الأمور التعبدية،   (1) راجع تفسير المنار (2) أخرجه البخاري في صحيحه، باب فضل استقبال القبلة، رقم: 391 و 392، عن أنس بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ومن شعائر الدين التي تدل على إسلام من يمارسه؟ ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: (وفيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك) (1) . ولولا أن ذبح الحيوان خاضع لأحكام خاصة، لجاز كل حيوان قتله وثني أو مجوسي أو دهري، ولما اقتصر الحل على ذبيحة مسلم أو كتابي. ومن الواضح أن الأغذية غير الحيوانية المصنوعة من النباتات وغيرها لا يشترط فيها أن يكون صانعها مسلما أو كتابيا، بل يجوز تناول هذه الأغذية بقطع النظر عن ديانة صانعها، فلو كان الذبح من الأمور العادية التي لا تتقيد بأحكام تعبدية، لجاز أكل لحم الحيوان بقطع النظر عن ديانة الذابح, وهذا دليل على أن الأغذية الحيوانية لها وضع خاص في الشريعة الإسلامية، ولا بد لحلة تناولها أن تكون موافقة لأحكام الذبح المشروعة في الكتاب والسنة. ومن هنا أصبحت أحكام الصيد والذبائح من أهم أبواب الفقه الإسلامي، وقد بسط الفقهاء هذه الأحكام مستمدة من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وآثار الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، بحيث لا يخلو كتاب من كتب الفقه، إلا وهو مشتمل على "كتاب الصيد والذبائح". ولا نريد في هذا البحث استقصاء هذه الأحكام، ولكن الغرض بيان مبادئها الأساسية، وتطبيقها على الأوضاع المعاصرة. وقد قسمنا هذا الموضوع على فصول آتية: 1- التذكية الشرعية وشروطها: أ- طريق إزهاق الروح ب- ذكر اسم الله تعالى عند الذبح.   (1) فتح الباري:1/497. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 ج- كون الذابح مسلما أو كتابيا. 2- طرق الذبح المستخدمة في المسالخ الحديثة. 3- حكم ما جهل ذابحه. 4- حكم اللحوم المستوردة. التذكية الشرعية وشروطها: التذكية والذكاة في أصل اللغة بمعنى الإتمام، ومن ذلك الذكاء في السن والفهم وهو التمام (1) . وسمي الطريق المشروع للذبح ذكاة، لأنه يتم الشروط التي يباح بها أكل الحيوان. وفسر القرطبي رحمه الله، قول الله سبحانه في سورة المائدة: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} بقوله: (أي أدركتم ذكاته على التمام) (2) . وذهب بعض العلماء إلى أن التذكية الشرعية مأخوذة من التذكية بمعنى التطييب، وهو من قولهم: (رائحة ذكية) ، والحيوان إذا أسيل دمه فقد طابت رائحته. هذا بالنسبة لمعناها اللغوي, أما معناها الاصطلاحي، فقد ذكره القرطبي: أنه عبارة عن إنهار الدم وفري الأوداج في المذبوح، والنحر في المنحور، والعقر في غير المقدور عليه؛ مقرونا بنية القصد لله تعالى وذكره عليه (3) . وبما أن بعض الشروط التي ذكرها القرطبي في هذا التعريف مختلف فيها، فالأحسن في تعريف الذكاة أن يقال: (إزهاق روح الحيوان   (1) راجع لسان العرب، لابن منظور: 14/ 288 تحت مادة ذكا. (2) تفسير القرطبي: 6/ 51. (3) تفسير القرطبي: 6/ 52 و 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 بالطريق المشروع الذي يجعل لحمه حلالا للمسلم) . أما الشروط التي ذكرها الفقهاء للذكاة الشرعية، فإنها ترجع إلى ثلاثة عناصر، الأول: طريق إزهاق الروح، والثاني: ذكر اسم الله، والثالث: أهلية الذابح. فلنتكلم على هذه العناصر الثلاثة بشيء من التفصيل، والله المستعان. أ- طريقة إزهاق الروح: إن طريق إزهاق الروح الذي اعتبرته الشريعة الإسلامية كافيا لحصول الذكاة الشرعية يختلف باختلاف أنواع الحيوان، فالحيوان الذي هو غير مقدور عليه, إما لكونه وحشيا، وإما لكونه شاردا من الحيوانات الأليفة, يكفي فيه أن يجرح بأية آلة جارحة تنهر الدم حتى يموت، ولا يشترط له أن يذبح أو ينحر. وهذا النوع من الذكاة يسمى: ذكاة اضطرارية، وهي مشروعة في حالة الصيد، ولسنا بصدد بيان أحكامها في هذا البحث. أما الحيوانات المقدور عليها، إما لكونها أليفة، أو لكونها سيطر عليها الإنسان من الحيوانات الوحشية، فالواجب فيها إنهار الدم عن طريق فري الأوداج, والعمدة في ذلك النصوص الآتية: (1) - عن رافع بن خديج، رضي الله عنه، في حديث طويل، أن جده ((سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفنذبح بالقصب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل)) (1) . وكان السؤال عن الذبح، والذبح قطع الأوداج كما فسره عطاء فيما علق عنه البخاري (2) ، فدل مجموع السؤال والجواب على أن الذكاة الشرعية تحصل بقطع الأوداج بما يسبب إنهار الدم.   (1) أخرجه البخاري في الذبائح والصيد، باب التسمية على الذبيحة، رقم 5498. (2) باب النحر والذبح (رقم الباب: 24) من الذبائح والصيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 (2) - عن ابن عباس وأبي هريرة، رضي الله عنهما، قالا: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان، وهي التي تذبح، فيقطع الجلد ولا تفرى الأوداج، تترك حتى تموت)) (1) . وقال ابن الأثير رحمه الله: "الشريطة: الناقة ونحوها التي شرطت، أي أثر في حلقها أثر يسير كشرطة الحجام، من غير قطع الأوداج، ولا إجراء الدم، وكان هذا من فعل الجاهلية، يقطعون شيئا يسيرا من حلقها، فيكون ذلك تذكيتها عندهم. وإنما أضافها إلى الشيطان، كأن الشيطان حملهم على ذلك". (2) (3) - عن عدي بن حاتم الطائي رضي عنه قال: ((قلت: يا رسول الله، إن أحدنا أصاب صيدا، وليس معه سكين، أيذبح بالمروة وشقة العصا؟ فقال: "أمرر الدم بما شئت، واذكر اسم الله عز وجل)) (1) ، وأخرجه النسائي، ولفظه: إني أرسل كلبي فآخذ الصيد، فلا أجد ما أذكيه به، فأذبحه بالمروة والعصا، قال: "أنهر الدم بما شئت، واذكر اسم الله عز وجل " (2) (4) - عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "ما فرى الأوداج فكله" (3)   (1) أخرجه أبو داود في الأضاحي، باب المبالغة في الذبح، وسكت عليه. وفي إسناده عمرو بن عبد الله الأسوار، يقال له: عمرو بن برق؛ وذكر الحافظ في التقريب أنه صدوق فيه لين. (2) جامع الأصول، لابن الأثير: 4/ 482، رقم: 2574. (3) أخرجه أبو داود، باب الذبيحة بالمروة، وسكت عليه هو والمنذري (4) سنن النسائي، الأضاحي، باب إباحة الذبح بالعود: 7/ 225، رقم 4401، وفي إسناده مرى بن قطري الكوفي؟ ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي: لا يعرف (تهذيب التهذيب: 10/ 99) . (5) أخرجه مالك بلاغا في الموطأ: 2/ 489، في الذبائح، باب ما يجوز من الذكاة في حال الضرورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وعلى أساس هذه الأحاديث وأمثالها اشترط الفقهاء لشرعية الذبح أن تقطع الأوداج. والأوداج جمع الودج- بفتحتين- وهو عرق في العنق، وهما في الأصل ودجان، قال ابن منظور ناقلا عن ابن سيده: (الودجان: عرقان متصلان من الرأس إلى السحر، والجمع أوداج) (1) ولكن توسع بعض الفقهاء في استعمال هذه الكلمة بما يشمل الحلقوم والمريء. قال الكاساني: (ثم الأوداج أربعة؛ الحلقوم والمريء، والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء) (2) والحلقوم مجرى النفس، والمريء مجرى الطعام. ولا خلاف في أن الأكمل قطع هذه الأربعة جميعا؟ الحلقوم، والمريء، والودجين (3) ولكن اختلف الفقهاء فيما إذا قطع بعضها دون بعض على أقوال: فقال الشافعي رحمه الله: يجب قطع الحلقوم والمريء، وإن ذلك يكفي للذكاة ولو لم يقطع من الودجين شيئا (4) . واختلفت الروايات عن مالك، والراجح عندهم فيما هو مذكور في كتبهم أنه يجب قطع الحلقوم والودجين، ولا يجب قطع المريء (5) واختلفت الروايات كذلك عن أحمد بن حنبل، رحمه الله، فعنه رواية موافقة لقول الشافعي، ورواية أخرى أنه يجب قطع الودجين مع الحلقوم والمريء، فكأنه اشترط قطع الأربعة جميعا (6) وقال الإمام أبو حنيفة، رحمه الله: إذا قطع الثلاثة- أية ثلاثة كانت-وترك واحدا يحل الحيوان. وقال أبو يوسف: لا يحل حتى يقطع الحلقوم   (1) لسان العرب: 2/ 397 تحت المادة. (2) بدائع الصنائع: 5/ 41. (3) المغني لابن قدامة: 11/ 45، دار الكتب العلمية، بيروت. (4) فتح الباري: 9/ 641, والأم: 2/ 259. (5) الذخيرة للقرافي: 4/ 133. (6) المغني لابن قدامة: 11/ 44 و45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 والمريء وأحد العرقين. وقال محمد: لا يحل حتى يقطع من كل واحد من الأربعة أكثره (1) وبالرغم من اختلاف الفقهاء في هذه التفاصيل الجزئية، فإنهم اتفقوا على أن محل الذكاة الاختيارية هو الحلق واللبة، ولا بد من قطع أكثر من واحد من هذه الأربعة. والظاهر أن من اشترط قطع أحد الودجين على الأقل، فإن قوله هو الراجح، لأن إنهار الدم بكامله إنما يتحقق بقطع الودج الذي هو مجرى الدم. قال القرافي رحمه الله تعالى: "ويؤكده قوله عليه السلام: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل)) . وإنهار الدم إنما يكون من الأوداج، وأصل الإنهار: السعة، ومنه النهر، لاتساعه للماء، والنهار، لاتساع الضوء فيه" (2) . ووجه قول الإمام أبي حنيفة أن قطع الثلاثة من العروق الأربعة يقوم مقام الكل، على أن للأكثر حكم الكل فيما بني على التوسعة في أصول الشرع، والذكاة بنيت على التوسعة، حيث يكتفي فيها بالبعض بلا خلاف بين الفقهاء، وإنما اختلفوا في الكيفية، فيقام الأكثر فيها مقام الجميع (3) آلة الذبح: واتفق الفقهاء على أنه يجب للذكاة الشرعية أن تكون آلة الذبح محددة, تقطع أو تخرق بحدها لا بثقلها، ولا يجب أن تكون سكينا، بل يجوز الذبح بكل ما له حد، سواء كان من الحديد أم من الحجر أم الخشب. والدليل على ذلك ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه: ((قلت: يا رسول الله! إنا ملاقو العدو غدا وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه   (1) بدائع الصنائع: 5/ 41. (2) الذخيرة للقرافي: 4/ 133. (3) بدائع الصنائع: 5/ 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 فكلوه، ليس السن والظفر)) (1) وقد مر حديث عدي بن حاتم، رضي الله عنه، حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذبح بالمروة وشقة العصا، فقال: ((أمرر الدم بما شئت)) . ولكن الأحاديث كلها متفقة على أنه يجب إنهار الدم بما يقطع ويخرق. ووجوب كون الآلة محددة كلمة إجماع فيما بين الفقهاء المتبوعين، غير أنهم اختلفوا في السن والظفر، فذهب الأئمة الحجازيون إلى عدم جواز الذبح بهما، سواء كانا متصلين بالجسم أو منفصلين، وذلك لعموم حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه- الذي مر آنفا، وقد استثنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم السن والظفر. أما أبو حنيفة، رحمه الله: فحمل الحديث على السن والظفر إذا كانا قائمين في الجسم، لأن الموت حينئذ يحصل بالخنق. أما إذا كانا مقلوعين، فتحصل منهما الذكاة مع الكراهة (2) إزهاق الروح بغير قطع الأوداج: أما إزهاق الروح بغير فري الأوداج، فلا تحصل به الذكاة الشرعية في الحيوان المقدور عليه، واتفق على ذلك الفقهاء. وقال الله سبحانه وتعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} [المائدة: 3] . وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "والمنخنقة، وهي التي تموت بالخنق، إما قصدا، وإما اتفاقا، بأن تتخبل في وثاقتها فتموت به، فهي حرام. وأما الموقوذة، فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت، كما قال ابن عباس وغير واحد: هي التي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت. قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي، حتى إذا ماتت أكلوها. وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله! إني   (1) أخرجه الجماعة، راجع جامع الأصول، لابن الأثير: 4/ 489. (2) راجع رد المحتار: 5/ 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أرمي بالمعراض (1) الصيد، فأصيب، قال: ((إذا رميت بالمعراض فخزق (2) فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ، فلا تأكله)) (3) ففرق بين ما أصابه بالسهم أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله، وما أصاب بعرضه فجعله وقيذا لم يحله، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء ... وأما المتردية فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك فلا تحل. قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: المتردية: التي تسقط من جبل. وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر، وقال السدي: هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر. وأما النطيحة، فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها فهي حرام، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم، ولو من مذبحها ... {وما أكل السبع} أي ما عدا عليها أسد أو فهد أو نمر أو ذئب أو كلب فأكل بعضها فماتت بذلك، فهي حرام، وإن كان قد سأل منها الدم ولو من مذبحها، فلا تحل بالإجماع، وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذلك، فحرم الله ذلك على المؤمنين. وقوله: {إلا ما ذكيتم} عائد على ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته، فأمكن تداركه بذكاة، وفيه حياة مستقرة، وذلك إنما يعود على قوله: {والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: إلا ما ذكيتم، يقول: إلا ما ذبحتم من هؤلاء، وفيه روح فكلوه، فهو ذكي. وكذا روي عن سعيد بن جبير، والحسن البصري والسدي".   (1) المعراض-بكسر الميم-سهم يرمى به بلا ريش، ولا نصل، يمضي عرضا فيصيب بعرض العود، لا بحده. لسان العرب لابن منظور: 9/ 42؛وجاء في تاج العروس:5/50، هو من العيدان دقيق الطرفين غليظ الوسط، كهيئة العود الذي يحلج به القطن، فإذا رمى به الرامي ذهب مستويا، ويصيب بعرضه دون حده ... وإن قرب منه الصيد أصابه بموضع النصل منه فجرحه، ومنه حديث عدي بن حاتم. (2) الخزق: الطعن، وخزق السهم: إذا أصاب الرمية ونفذ فيها وأسال الدم، راجع اللسان وتاج العروس. (3) هذا الحديث أخرجه الجماعة في أبواب مختلفة من طرق شتى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وتبين بهذه الآية الكريمة أن الحيوان إنما يحل إذا وقع إزهاق روحه بالذكاة الشرعية، ولا يحل بالخنق أو الوقذ ولا بأن يسيل دمه بأي طريق كان، لأن النطيحة ربما يسيل الدم من مذابحها، وكذلك ما قتله السبع، ولكن صرح القران الكريم بحرمتهما، فظهر بذلك أن الحيوان لا يحل بمجرد سيلان الدم، ولو من مذابحه، وإنما يجب أن يسيل الدم بطريق شرعه الله للتذكية. ب- التسمية عند الذبح: ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجب للذكاة الشرعية أن يذكر الذابح اسم الله تعالى عند الذبح، فإن ترك التسمية عمدا فلا تحل ذبيحته عند أبي حنيفة ومالك وأحمد وجمهور الفقهاء، وأما إذا نسيها فالذكاة معتبرة عند الحنفية والمالكية، ولا فرق عندهم في هذا بين الذبيحة والصيد. أما عند الحنابلة، فالنسيان معفو عنه في الذكاة الاختيارية فقط. أما في الصيد فلا تعتبر الذكاة إذا لم يذكر الصائد اسم الله عند إرسال السهم أو الكلب، سواء أتركها عمدا أم نسيان (1) أما الإمام الشافعي رحمه الله فالمشهور عنه أن التسمية ليست واجبة عنده، وإنما هي سنة (2) فتحل الذبيحة وإن تركها الذابح عمدا, ولكن الذي يظهر من مراجعة كتاب الأم للشافعي أنه لم يصرح بحل متروك التسمية عمدا، وإنما صرح يحل ما نسي الذابح ذكر الله عليه, وعبارته ما يلي: (وإذا أرسل الرجل المسلم كلبه وطائره المعلمين أحببت له أن يسمي، فإن لم يسم ناسيا فقتل أكل، لأنهما إذا كان قتلهما كالذكاة، فهو   (1) راجع بدائع الصنائع:5/46لمذهب الحنفية، والذخيرة للقرافي:4/134والصاوي على الدردير:2/171لمذهب المالكية، والمغني لابن قدامة:11/4لمذهب الحنابلة. (2) قليوبي وعميرة: 4/ 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 لو نسي التسمية في الذبيحة أكل، لأن المسلم يذبح على اسم الله عز وجل وإن نسي) (1) ثم إن الإمام الشافعي رحمه الله صرح فيما بعد بأن من يترك التسمية عند الذبح استخفافا لا يحل أكل ذبيحته، فقد ذكر رحمه الله في معرض ما هو مسلم عنده: "أن المسلم إن نسي اسم الله تعالى أكلت ذبيحته، وإن تركه استخفافا لم تؤكل ذبيحته" (2) وقد صرح بعض العلماء بأن الفقهاء أجمعوا على ذلك. فقد جاء في التفسير المظهري نقلا عن شرح المقدمة المالكية: "وكل هذا في غير المتهاون، وأما المتهاون فلا خلاف أنها لا تؤكل ذبيحته تحريما، قاله ابن الحارث والبشير؛ والمتهاون هو الذي يتكرر منه ذلك كثيرا، والله أعلم" (3) . وهذه العبارات تدل على أن مذهب الإمام الشافعي رحمه الله ليس على إطلاق الحل فيما تعتمد ترك التسمية عليه، وإنما تحرم الذبيحة عنده إذا ترك عليها التسمية تهاونا واستخفافا، وجعله الرجل عادة له. ومفاد ذلك أن حكم الحل مقتصر عنده على من ترك التسمية مرة أو مرتين اتفاقا، لا تهاونا واستخفافا، وفي تلك الصورة أيضا لا يخلو ذلك من كراهة، لأنه قال: "أحببت له أن يسمي". وقد صرح الفقهاء الشافعية بأن ترك التسمية عمدا مكروه، وأنه يأثم به التارك (4) .   (1) كتاب الأم، للشافعي: 2/ 227 كتاب الصيد والذبائح، باب تسمية الله عز وجل عند إرسال ما يصطاد. (2) كتاب الأم: 2/ 131 باب ذبائح أهل الكتاب (3) التفسير المظهري: 3/ 318، سورة الأنعام. (4) انظر روضة الطالبين: 3/ 205، ورحمة الأمة: ص 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وبهذا ظهر أن متروك التسمية عمدا حرام عند الحنفية والمالكية والحنابلة، وحرام عند الشافعي، رحمه الله، أيضا إذا كان ذلك استخفافا وتهاونا، وصار كالعادة للذبائح. وما وقع اتفاقا فإنه لا يحكم بحرمته عنده، ولكنه لا يخلو من كراهة. وهذه الرخصة أيضا لا تساندها نصوص القرآن والسنة، حيث تضافرت الآيات والأحاديث على اعتبار التسمية ركنا من أركان الذكاة الشرعية. قال الله سبحانه وتعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} . [الأنعام: 121] وأية عبارة أصرح على كون متروك التسمية حراما من هذه الآية الكريمة الواضحة التي ليس فيها إجمال ولا خفاء؟ فإن فيه نهيا صريحا، والنهي يقتضي التحريم، ولم يكتف القرآن بصيغة النهي، بل أتبعها بقوله {وإنه لفسق} [الأنعام: 121] بما يقطع كل شبهة في هذا الباب. وليست هذه الآية هي الآية الوحيدة في القرآن الكريم، التي تدل على كون التسمية ركنا من أركان الذكاة، وإنما جاءت في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك، فمنها الآيات الآتية: (1) {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب} [المائدة: 4] . (2) {ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين} [الحج: 34] . (3) {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون} [الحج: 36] . (4) {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون} [الأنعام: 138] . (5) {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين} [الأنعام: 119] . وهذه الآيات كلها تدل بأساليب مختلفة أن ذكر اسم الله تعالى من أهم العناصر التي تحل للمسلم أكل لحم الحيوان، ولم يكتف القرآن ببيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ذلك في آية أو آيتين، وإنما ذكر هذا الركن في كل من الذبيحة والصيد والأضحية بصفة مستقلة، وأنكر على من يتركه إنكارا بليغا، فجعله افتراء على الله، وأنكر أيضا على من لا يستحل الذبيحة التي ذكر اسم الله عليها، بما يدل على أنه من أعظم الشروط للذكاة الشرعية. وكذلك تكاثرت الأحاديث التي ذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم التسمية في معرض الأركان التي يجب توافرها لحلة الذبيحة والصيد، وانظر الأحاديث الآتية: (1) عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل)) (1) (2) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، وذاك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه (2) وهذا دليل على أن حرمة متروك التسمية كانت من جملة شريعة إبراهيم عليه السلام. (3) عن جندب بن سفيان البجلي، قال: ((ضحينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أضحاة ذات يوم، فإذا أناس قد ذبحوا ضحاياهم قبل الصلاة، فلما انصرف رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد ذبحوا قبل الصلاة, فقال: من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن كان لم يذبح حتى صلينا فليذبح على اسم الله.)) (3)   (1) صحيح البخاري، باب التسمية على الذبيحة، رقم: 5498، وأخرجه الجماعة. (2) صحيح البخاري، مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل، رقم: 3826، وأخرجه أيضا في الذبائح رقم: 5499. (3) صحيح البخاري، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: فليذبح على اسم الله، رقم: 5500. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 (4) عن عباية بن رفاعة، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل)) (1) (5) عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أسئلة، فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤاله في الصيد، فقال: ((فما صدت بقوسك فأذكر اسم الله وكل، وما صدت بكلابك المعلمة فاذكر اسم الله وكل)) (2) (6) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك)) (3) (7) عن عدي بن حاتم قال: ((قلت: يا رسول الله إني أرسل كلبي أجد معه كلبا آخر، لا أدري أيهما أخذه؟ فقال: لا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره)) (4) (8) وعنه رضي الله عنه مرفوعا: "وإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن فقتلن فلا تأكل " (5) (9) وعنه رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إن أحدنا أصاب صيدا وليس معه سكين، أيذبح بالمروة وشقة العصا؟ قال: "أمرر الدم بما شئت واذكر اسم الله عز وجل (6) ". (6) وإن هذه النصوص من الكتاب والسنة تدل على مدى التأكيد والتركيز على ذكر اسم الله تعالى عند الذبح, وإن النص الواحد من هذه   (1) صحيح البخاري، باب ما أنهر الدم من القصب ... الخ، رقم 5503. (2) صحيح البخاري، باب آنية المجوس، رقم: 5496. (3) صحيح البخاري، باب ما جاء في التصيد، رقم: 5487. (4) صحيح البخاري، باب إذا وجد مع الصيد كلبا آخر، رقم: 5486. (5) صحيح البخاري، باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة، رقم: 5484 (6) أخرجه أبو داود في باب الذبيحة بالمروة، رقم: 2824، والنسائي، باب إباحة الذبح بالعود، رقم 4401 وقد مر. النصوص كان كافيا لبيان أن التسمية ركن من أركان الذبح، ولكن الشارع لم يكتف ببيان هذا الحكم مرة واحدة، وإنما جاء به مرارا وتكرارا في عدة مناسبات وبأساليب مختلفة، وما ذلك إلا لأهميته البالغة، ولكونه شرطا قطعيا لحصول الذكاة الشرعية في الحيوان. وإن الحالة الوحيدة التي استثنيت من وجوب التسمية هي حالة النسيان. قال الجصاص رحمه الله تعالى: "إن ترك التسمية ناسيا لا يمنع صحة الذكاة، من قبل أن قوله تعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} خطاب للعامد دون الناسي، ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة: {وإنه لفسق} وليس ذلك صفة للناسي، ولأن الناسي في حال نسيانه غير مكلف بالتسمية، وروى الأوزاقي عن عطاء بن أبي رباح، عن عبيد بن عمير، عن عبد الله بن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) . وإذا لم يكن مكلفا للتسمية فقد أوقع الذكاة على الوجه المأمور به فلا يفسده ترك التسمية. وغير جائز إلزامه ذكاة أخرى لفوات ذلك منه، وليس ذلك مثل نسيان تكبيرة الصلاة، أو نسيان الطهارة ونحوها، لأن الذي يلزمه بعد الذكر هو فرض آخر، ولا يجوز أن يلزمه فرض آخر في الذكاة لفوات محلها" (1) ويدل على ذلك أيضا ما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمى حين يذبح فليسم، وليذكر اسم الله ثم ليأكل)) (2) ذكره الحافظ في التلخيص، ثم قال: وقد صححه ابن السكن (1) وقد أعله بعض   (1) أحكام القرآن، للجصاص: 3/ 7 و 8، طبع لاهور. (2) نصب الراية، للزيلعي: 2/ 261. (3) التلخيص الحبير. (4) ص: 398 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 المحدثين بمعقل بن عبد الله، ومحمد بن يزيد بن سنان. ولكن معقل بن عبد الله من رجال مسلم، ومحمد بن يزيد بن سنان وثقه ابن حبان والنفيلي ومسلمة, (1) وقد أخرج عبد بن حميد عن راشد بن سعد مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ذبيحة المسلم حلال سمي أو لم يسم، ما لم يتعمد، والصيد كذلك)) ذكره السيوطي في الدر المنثور. (2) وهذه الروايات المرفوعة مؤيدة بما علقه البخاري عن ابن عباس موقوفا قال: "من نسي فلا بأس ". (3) ووصله الدارقطني، وسعيد بن منصور وغيره، ثم قال الحافظ: "وسنده صحيح " (4) وبإزاء النصوص المتكاثرة التي تدل على وجوب التسمية عند الذبح، ما يستدل به الشافعية على عدم وجوبها لا يداني هذه النصوص في الثبوت والدلالة. فمثلا: استدل بعضهم بقول الله تعالى: {إلا ما ذكيتم} قائلين: إن الله سبحانه وتعالى أطلق التذكية ولم يقيده بالتسمية، فظهر أنها غير واجبة. والجواب عن هذا الاستدلال واضح، وهو أن التذكية لها مفهوم معين في الشريعة، وقد دلت النصوص التي أسلفناها على أنها لا تحصل إلا بالتسمية، فالتسمية داخلة في مفهوم التذكية الشرعي، كما أن فري الأوداج داخل فيه. فذكر الله سبحانه التذكية كمفهوم كلي يشمل جميع أركانه الشرعية الثابتة بغيرها من النصوص، ومن جملتها التسمية، فالتسمية ملحوظة في قول الله عز وجل: {إلا ما ذكيتم} . وكذلك استدل بعضهم بما أخرجه البخاري من حديث عائشة رضي   (1) وراجع للبحث على إسناده: إعلاء السنن للتهانوي: 17/ 68. (2) الدر المنثور، للسيوطي: 3/ 42. (3) صحيح البخاري، باب التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمدا، باب 15 من الذبائح. (4) فتح الباري: 9/ 624. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 الله عنها: ((أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: "سموا عليه أنتم وكلوه ". قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر)) (1) ولكن هذا الحديث لا يتم به الاستدلال على حلة ما علم فيه باليقين أن ذابحه ترك التسمية عمدا، لأن غاية هذا الحديث حمل فعل المسلم على الوجه الصحيح، ومفاده أن المسلم إن قدم لحما أو طعاما، فالظاهر أنه حلال مذبوح بطريقة مشروعة، فيحمل على الظاهر، ونحن مأمورون بإحسان الظن بكل مسلم، فلا يجب البحث عن طريقة ذبحه، ما لم يتبين أنه ذبحه بطريقة غير مشروعة. وإن هؤلاء القوم الذين وقع السؤال عنهم كانوا مسلمين، وإن كانوا حديثي عهد بالكفر، كما صرحت به عائشة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل فعلهم على الظاهر، وهو أنهم ذكروا اسم الله عليه، ولا يلزم منه حل الذبيحة إذا تيقن الرجل بأن ذابحها ترك التسمية متعمدا. ومن البديهي أن هذا الحديث صريح في أن السؤال إنما كان عن حالة لا نعلم فيها بيقين أن الذابح المسلم سمي على الذبيحة أو لم يسم؛ وهذا هو الواقع الذي يقع لمعظم المسلمين في اللحم الذي يوجد في أسواق المسلمين، فإننا لم نشاهد الذين ذبحوه هل سموا عند الذبح أم لا؟ فالحديث يبين حكم هذه الحالة، وأين ذلك من الحالة التي نعلم فيها بيقين أن الذابح ترك التسمية عن قصد وعمد؟ وكيف تقاس الحالة الثانية على الأولى؟ وقد يستدل بعضهم بما رواه أبو داود في مراسيله عن الصلت السدوسي مرسلا, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر، إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله)) (2) ، وهذا الحديث مروي عن   1. صحيح البخاري، باب ذبيحة الأعراب، رقم: 5507. 2. مراسيل أبي داود، ص 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الصلت السدوسي، وهو مجهول، كما قال ابن حزم وابن القطان: إنه لا يعرف بغير هذا الحديث، ولا روي عنه غير ثور بن (1) يزيد فإسناده لا يخلو من ضعف، ولئن ثبت بطريق صحيح، فيمكن حمله على ترك التسمية في حالة النسيان، وذلك لتطبيقه على النصوص المتظاهرة المتكاثرة التي تدل على وجوب التسمية، وعلى أن ما ترك عليه التسمية عمدا حرام. ومن أجل هذه الدلائل القوية، رجح بعض العلماء الشافعية قول الجمهور في هذا الباب. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وقواه الغزالي في الإحياء محتجا بأن ظاهر الآية الإيجاب مطلقا وكذلك الأخبار، وأن الأخبار الدالة على الرخصة تحتمل التعميم وتحتمل الاختصاص بالناسي فكان حمله عليه أولى، لتجري الأدلة كلها على ظاهرها، ويعذر الناسي دون العامد". ولم يعقبه الحافظ بشيء (2) وقد ذكر عبارة الغزالي رحمه الله في باب ذبيحة الأعراب، ويظهر من صنيعه أنه مائل أيضا إلى ترجيح قول الجمهور في وجوب اشتراط التسمية، حيث ذكر قول الغزالي رحمه الله في ختام البحث، وضعف الحديث الذي استدل به على جواز متروك التسمية (3) جـ- شروط في الذابح: ومن الشروط المهمة لحصول التذكية الشرعية أن يكون الذابح مسلما أو كتابيا، على كونه عاقلا مميزا، فلا تجوز ذبيحة غير أهل الكتاب من الكفار والمشركين، وهذا الشرط قد اتفق عليه الفقهاء، لا نعلم بينهم في ذلك خلافا، حتى حكى بعض العلماء الإجماع على   1. راجع نصب الراية للزيلعي. 2. فتح الباري: 9/ 624 3. فتح الباري: 9/ 634، رقم الباب21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ذلك (1) وإن معنى تحريم ذبيحتهم أن الكافر من غير أهل الكتاب -وإن ذبح المسلمين- فإنه لا تؤكل ذبيحته، قال الجصاص رحمه الله: "وقد علمنا أن المشركين وإن سموا على ذبائحهم لم تؤكل" (2) . ولقد شذ بعض المعاصرين، فقصر الحرمة على ذبيحة الوثنيين من أهل العرب، وأباح ذبيحة سائر الكفار غيرهم، سواء أكانوا وثنيين، أم ملحدين، أم دوريين، أم عبدة النار. وهذا قول خاطئ لا عهد به في الكتاب والسنة، ولا في أقوال السلف رحمهم الله تعالى، وإنما اشتبه الأمر عليهم بما زعموا أنه لا يوجد هناك نص صريح في الكتاب أو السنة يدل على أن ذبيحة غير أهل الكتاب من الكفار حرام، والأصل في الأشياء الإباحة، فلا يقال بحرمتها إلا بالنص. (3) والواقع أن الأصل في الحيوانات الحرمة، ولا تحل إلا بما جاءت الشريعة بحله , والدليل على ذلك ما مر من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه: " قلت: يا رسول الله، إني أرسل كلبي أجد معه كلبا آخر، لا أدري أيهما أخذه؟ فقال ((لا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره)) (4) فهذا الحديث يدل على أنه متى وقع الشك في حصول الذكاة الشرعية واستوى الاحتمالان، حرم أكل الحيوان، وهو دليل على أن الأصل في الحيوان الحرمة، فإنه لو كان الأصل الإباحة لما حرم الحيوان في حالة الشك. ثم إن قول الله سبحانه قد خص الحل بذبيحة أهل الكتاب حيث   (1) انظر موسوعة الإجماع، لسعدي أبو جيب: 2/ 912 و 948، وسيأتي الكلام على ذبيحة المجوس (2) أحكام القرآن للجصاص: 3/ 6 (3) فصل الخطاب في إباحة ذبائح أهل الكتاب، للشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، ص 19-22 (4) صحيح البخاري، باب إذا وجد مع الصيد كلبا آخر، رقم 5486. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 قال: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} [المائدة: 5] ، ولو كان طعام جميع الكفار حلالا لما خضهم بالذكر, وليس هذا استدلالا بمفهوم اللقب، كما زعمه بعض المعاصرين، وإنما هو رجوع في المسكوت عنه إلى الأصل، وهو الحرمة في الحيوان كما قدمنا. فالصحيح الذي أجمعت عليه الأمة طوال القرون أنه لا تحل الذبيحة للمسلمين إلا إذا كان الذابح مسلما أو من أهل الكتاب، والمراد بأهل الكتاب؛ اليهود والنصارى، وهناك بعض أقوال شاذة في اعتبار المجوس من أهل الكتاب استدلالا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب)) (1) ولكن الصحيح أن هذا الحديث إنما يتعلق بأخذ الجزية منهم، فإن الحديث ورد في هذا الموضوع, وإن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مترددا في أنه هل تؤخذ منهم الجزية، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بهذا الحديث، فأخذ الجزية من المجوس. روى مالك في الموطأ عن محمد بن علي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر المجوس فقال: ما لك كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب)) (2) واستدل الجمهور على اقتصار لقب أهل الكتاب على اليهود والنصارى بقول الله عز وجل: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين} [الأنعام: 156] . وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عد المجوس من جملة أهل الكتاب، وإنما قال: ((سنوا بهم سنة أهل الكتاب)) ، يعني في أخذ الجزية، فتبين أنهم ليسوا من أهل الكتاب، وإنما يعاملون معاملة أهل الكتاب في قبول الجزية منهم.   (1) راجع المحلى، لابن حزم: 7/ 456 (2) موطأ الإمام مالك، كتاب الزكاة، جزية أهل الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 مسألة ذبائح أهل الكتاب: أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقد أجمعت الأمة على أن ذبيحتهم حلال، وهم من أهل التذكية، والدليل عليه قول الله عز وجل: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} [المائدة: 5] ، والمراد من الطعام في هذه الآية الذبائح بإجماع أهل العلم. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن حيان: يعني ذبائحهم. وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تعالى وتقدس" (1) وهل يشترط في ذبح أهل الكتاب ما يشترط في ذبح المسلمين من فري الأوداج، ومن الآلة المحددة، ومن ذكر اسم الله؟ هذه المسألة تحتاج إلى دراسة بالنظر إلى ما ادعى بعض المعاصرين من حل ذبيحتهم، بقطع النظر عن الطريق الذي اختاروه لذلك. ونريد أن نتكلم على هذه المسألة في شقين: الشق الأول: هل يجب لحل ذبيحة أهل الكتاب أن يذبحوا الحيوان بطريقة مشروعة للذبح من فري الأوداج بآلة محددة؟ والشق الثاني: هل يجب أن يذكروا اسم الله تعالى عند الذبح؟ أما المسألة الأولى: فالجمهور من الفقهاء على أن ذبيحة الكتابي إنما تحل إذا ذكاها بقطع العروق اللازمة بآلة محددة، وهو الحق الثابت بالأدلة الناطقة التي سنذكرها إن شاء الله تعالى، لكن زعم بعض المعاصرين أن ذبيحة الكتابي حلال، بأي طريق قتلها، لأنه داخل في عموم قول الله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} وتمسكوا في ذلك   (1) تفسير ابن كثير: 19/2 طبع لاهور 1393 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 بقول القاضي ابن العربي رحمه الله حيث قال: "ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها: هل يؤكل معه أو تؤخذ طعاما منه؟ وهي المسألة الثامنة. فقلت: تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقا، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا، إلا ما كذبهم الله سبحانه فيه" (1) ولكن هذا القول الغريب من ابن العربي رحمه الله متعارض تمام التعارض مع الأصل الذي ذكره هو نفسه في نفس الكتاب قبل نحو صفحة من هذه العبارة، وعبارته هناك ما يلي: "فإن قيل: فما أكلوه- أي أهل الكتاب- على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس؟ فالجواب: أن هذه ميتة، وهي حرام بالنص، وإن أكلوها فلا نأكلها نحن، كالخنزير فإنه حلال لهم ومن طعامهم، وهو حرام علينا، فهذه مثله، والله أعلم" (2) . وهذا تعارض صريح في عبارتي ابن العربي، ومتى وقع التعارض بين عبارتيه، فالأجدر بالقبول ما هو ثابت بالنصوص، ومؤيد بتعامل الأمة، دون الفتوى الشاذة التي تنابذها الأدلة القوية الآتية: 1- إن الله سبحانه وتعالى قال: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم} [المائدة: 3] فحرم المنخنقة والموقوذة على الإطلاق. فيشمل كل ما مات بالخنق والوقذ، فمن يستدل بعموم قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} على كون مخنوقة الكتابي أو موقوذته حلالا، يلزمه أن يقول بحل الخنزير الذي ذبحه كتابي، لأنه من جملة   أحكام القرآن، لابن العربي: 2/ 556 طبع عيسى البابي الحلبي المرجع السابق: 2/ 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 "طعام أهل الكتاب "، فإن تمسك بالآية المذكورة في حرمة لحم الخنزير، فإن نفس الآية تحرم المنخنقة والموقوذة، ولا سبيل إلى التفريق بينهما, فإن خصت الآية المذكورة لحم الخنزير من عموم "طعام أهل الكتاب " فإنها خضت المنخنقة والموقوذة أيضا على قدم سواء، بل بالطريق الأولى، لأن الخنزير حلال في دينهم، والمنخنقة والموقوذة حرام في أصل دينهم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإن كان الطعام الذي هو حلال في دينهم- وهو الخنزير- مستثنى من طعام أهل الكتاب المباح للمسلمين، فالطعام الذي هو حرام في أصل دينهم - وهو لحم المنخنقة والموقوذة- يكون مستثنى بالطريق الأولى. 2- قد تقرر في أصول الفقه واللغة أنه متى ورد حكم على اسم مشتق، فمادة اشتقاقه هي العلة لذلك الحكم, مثلا إذا قلنا: أكرموا العلماء، فإن حكم الإكرام ورد على العلماء الذي هو اسم مشتق، فمادة اشتقاقه، وهي العلم، علة الإكرام، وهذا واضح مسلم. فإذا ورد حكم الحرمة في آية المائدة على المنخنقة والموقوذة فإن الخنق والوقذ علة لهذا الحكم, وإن ذلك يدل على أنه متى وجد الخنق أو الوقذ، ثبت حكم الحرمة، ولا تأثير في ذلك لديانة الخانق أو الواقذ، فيحرم الحيوان بالخنق والوقذ، سواء كان الفاعل مسلما أم كتابيا. 3- غاية ما يثبت من قول الله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} أنهم في أمر الذبائح في حكم المسلمين سواء بسواء، لا أنهم يفوقون المسلمين، حتى يحل منهم ما يحرم من المسلمين، ونتيجة قول ابن العربي أن تكون للكفار مزية على المسلمين من حيث إن ما يقتلونه بأي طريق حلال طيب، وما يقتله المسلم بنفس الطريقة حرام , وهذه النتيجة باطلة بالبداهة. 4- من المسلم في الأمة الإسلامية أن الكفار كلهم ملة واحدة، وكان هذا الأصل يقتضي أن يكون أهل الكتاب مثل الكفار الآخرين في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 تحريم ذبيحتهم، ولكن الشريعة الإسلامية ميزت أهل الكتاب من بين سائر الكفار في أمر الذبيحة والمناكحة، لأن أحكام الذبح والنكاح عندهم كانت مماثلة لأحكام الإسلام في كلا الأمرين, فكانوا يراعون في الذبح نفس الشروط التي فرضها الإسلام على المسلمين, وهذه الأحكام موجودة حتى الآن في كتبهم المقدسة، بالرغم من التحريفات الكثيرة التي وقعت فيها. وإليكم بعض النصوص من كتابهم المقدس: جاء في سفر اللاويين (الذي قد يسمى سفر الأحبار) : "وأما شحم الميتة وشحم المفترسة، فيستعمل لكل عمل لكن أكلا لا تأكلوه" (لاوليين 7: 24) . وجاء في سفر الاستثناء: "وأما ذبائحك فيسفك دمها على مذبح الرب إلهك، واللحم تأكله. احفظ واسمع جميع هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها لكي يكون لك ولأولادك من بعدك خير إلى الأبد إذا عملت الصالح والحق في عيني الرب إلهك". (الاستثناء:27:12و 28) وهذان الكتابان يعترف بهما كل من اليهود والنصارى. أما كتب النصارى فقط، فقد جاء في سفر أعمال الرسل- المنسوب إلى لوقا: "لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلا أكثر، غير هذه الأشياء الواجبة، أن تمتنعوا عما ذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق، والزنا". (أعمال:25:21) . وجاء في موضع آخر من نفس الكتاب: "وأما من جهة الذين آمنوا من الأمم، فأرسلنا نحن إليهم وحكمنا أن لا يحفظوا شيئا مثل ذلك سوى أن يحافظوا على أنفسهم مما ذبح للأصنام، ومن الدم، ومن المخنوق، والزنا". (أعمال 21: 25) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وإن بولوس (St'paul) الذي هو رسول في زعم النصارى، وهو المقتدى عندهم، يكتب في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: "بل إن ما يذبحه الأمم فإنما يذبحونه للشياطين لا لله، فلست أريد أن تكونوا أنتم شركاء الشياطين، لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس الشياطين، لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة شياطين" (1- كورنثوس 10: 20و21) . ويجدر بالذكر أن بولوس هو الشخص الذي حكم- بالرغم من نصوص سيدنا عيسى عليه السلام- بنسخ جميع أحكام التوراة في حق النصارى، ومع ذلك فإنه أبقى الأحكام المتعلقة بالذبح محكمة غير منسوخة، فحرم الحيوان المخنوق، وأوجب أن يكون الذبح لله تعالى. وبهذا يتبين أن أحكام الذبح في أصل دين النصارى كانت باقية على نحو ما كانت عند اليهود, وإن كتب اليهود مملوءة بالأحكام التفصيلية للذبح, وجاء في كتاب مشنا، وهو المرجع الأساسي للأحكام المشروعة عند اليهود: 'If he slaughtered with a hand- sickle or with a b lint or with a reed. what he slaugters is valid.All may slaughter and at any time and with any implement excepting a reaping sickle or a saw or teeth or the finger- nails , since these choke". "إن ذبح المرء بشفرة يدوية أو بزجاج حاد أو بقصب، فإن ما يذبحه حلال. كل أحد يستطيع أن يذبح، وفي أي وقت وبأية أداة، إلا بالمحصدة أو بالمنشار أو بالسن أو بظفر الأصابع، لأنها تخنق" (1) . وإن الدكتور هربرت دينبي يكتب تحت هذا النص من مشنا أن   (1) The mishnah , hullin. l. p. 513 , oxford 1987. أحكام الذبح التي اعتبرها اليهود جزء للشريعة التي أوتي موسى عليه السلام على الطور تتلخص في خمسة: (أ) يجب أن لا تقع هناك وقفة في إمرار السكين، بل يجب أن يستمر السكين في حركات قدامية وخلفية. (ب) يجب أن لا يضغط الحيوان بثقل. (ج) يجب أن لا يضغط بالسكين على الجلد أو على الحلقوم والمريء. (د) يجب أن لا يتجاوز السكين الموضع المعلوم من الحلق. (هـ) يجب أن لا يؤثر عمل الذبح في إزالة الحنجرة أو المريء من موضعهما (1) وإن هذه النصوص من الكتب التي يقدسها اليهود والنصارى، والتي هي المأخذ الأساسي لدينهم وشريعتهم تدل على الأمور الآتية: أولا: أن المنخنقة والموقوذة حرام في شريعتهم، كما هو حرام في شريعتنا. ثانيا: الظاهر أنهم يوجبون أن يكون الذبح لله، وبعبارة أخرى: بذكر اسم الله كما يظهر من رسالة بولوس إلى أهل كورنثيوس التي نقلنا عبارتها قريبا. ثالثا: إن ابن العربي رحمه الله، حينما أفتى بحل الدجاجة التي فتل نصراني عنقها في العبارة المنقولة من أحكام القرآن- إن صحت نسبتها إليه, فإنها متعارضة مع عبارته الأخرى في نفس الكتاب-فإنما أفتى على زعم منه أن المخنوقة حلال عند النصارى، لأنه علل هذه المسألة بقوله: (وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا في ديننا) وقد تبين من النصوص   1 - ibid , p. 513. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 النصرانية أن زعمه هذا خاطئ، فإن كتبهم المقدسة تصرح بكون المخنوق حراما، كما حكينا عن سفر أعمال الرسل 15: 28 وا2: 25، ولئن علم أن المخنوق حرام في دينهم لما أفتى بذلك. رابعا: يتبين منه صحة ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه" (1) . 5- نظرا إلى ما سردنا من النصوص النصرانية يتحصل من حلة المخنوقة أو الموقوذة بيد نصراني أنه لو كان الخانق أو الواقذ مسلما، فإن الحيوان حرام، ولو خنقه نصراني، فإن الحيوان حرام في دين النصارى أيضا ولكن نقول بأنه حلال للمسلمين، وإن كان حراما للنصارى! فكأن كون الخانق من الكفار مزية تبرر أفعاله التي هي محظورة في شريعتنا وفي شريعتهم جميعا. وإن هذه النتائج الباطلة بالبداهة إنما تحصل إذا قلنا: إن ما قتله أحد من أهل الكتاب حلال للمسلمين، ولو قتله بطريق غير مشروع. وما يؤدي إلى مثل هذه النتائج الباطلة باطل. 6- إن ما يتميز به اليهود والنصارى من بين سائر الكفار أمران: الأول: حل ذبيحتهم. والثاني: حل مناكحة نسائهما، ومن المسلم أن التزوج بامرأة من أهل الكتاب إنما يحل إذا روعيت فيه جميع الشروط الواجبة في شريعتنا. ولئن وقع النكاح بامرأة من أهل الكتاب على غير طريق المسلمين، مثل نكاح إحدى المحرمات، أو النكاح بغير شهود، أو بغير الإيجاب والقبول المشروعين؛ لا يقول بحله أحد. فتبين أن حلة نساء أهل الكتاب   1 - تفسير ابن كثير:2/19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 مشروطة بأن يقع العقد بطريق مشروع عند المسلمين، ولو وقع العقد بطريق غير مشروع فلا يصح الاستدلال على حلته بقول الله عز وجل: {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} [المائدة: 5] فكيف لا تكون حلة ذبائحهم مشروطة بأن يقع الذبح بطريق مشروع؟ ولئن وقع ذبحهم بطريق غير مشروع مثل الخنق والوقذ، فكيف يصح الاستدلال على حدته بقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} مع أن كلا الحكمين مقترنان في نسق واحد؟ 7- بما أن حرمة الميتة والمنخنقة والموقوذة ثابتة بالنص القطعي المطلق، فإن فقهاء الأمة أطبقوا على حرمتها، ولو كان الخانق أو الواقذ من أهل الكتاب. ولم يقل أحد بحل المخنوقة أو الموقوذة بيد كتابي فيما نعلم إلا ابن العربي في عبارته المذكورة، وهي متعارضة كما رأيت بعبارته الأخرى المذكورة في نفس الكتاب قبل نحو صفحة فقط. أفتترك نصوص الكتاب والسنة والأدلة القوية التي ذكرناها بمجرد فتوى شاذة لابن العربي في حين أنها متناقضة، وفي حين أنها مبنية على زعم أن المخنوقة حلال في دين النصارى، وقد تبين خطؤه بنصوص كتبهم المقدسة؟. ولو قطعنا النظر عن التناقض في عبارتي ابن العربي، وسلمنا أن ذلك مذهب له، فإن هذا مذهب شاذ ترده نصوص الكتاب والسنة والأدلة القوية التي أخذ بها جماهير علماء الأمة، فلا يجدر بأن يؤخذ بها في مثل هذه القضية الخطيرة التي متى وقع فيها الشك بين الحل والحرمة يرجح جانب الحرمة، فكيف إذا كان جانب الحرمة هو المتعين بالنظر إلى النصوص القطعية واتفاق أهل العلم؟ فالحق الصريح أنه لا تحل ذبيحة أهل الكتاب إلا إذا ذبحوا الحيوان بالطريق المشروع من قطع العروق وإسالة الدم، ولا يحل الحيوان إذا قتلوه بخنق أو وقذ، أو بأي طريق آخر غير مشروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 هل التسمية شرط في ذبيحة الكتابي؟ المسألة الثانية: هل يجب لحل ذبيحة أهل الكتاب أن يذكروا اسم الله عند الذبح؟ اختلف فيه الفقهاء على أقوال: القول الأول: إن التسمية شرط لذبيحة المسلم والكتابي سواء بسواء. وهو مذهب الحنفية والحنابلة. قال ابن قدامة رحمه الله: "فالتسمية مشترطة في كل ذابح مع العمد، سواء كان مسلما أو كتابيا, فإن ترك الكتابي التسمية عن عمد، أو ذكر اسم غير الله لم تحل ذبيحته. وروي ذلك عن علي، وبه قال النخعي والشافعي (1) وحماد وإسحاق وأصحاب الرأي. " (2) . وقال الكاساني في البدائع: "ثم إنما تؤكل ذبيحة الكتابي إذا لم يشهد ذبحه ولم يسمع منه شيء، أو سمع وشهد منه تسمية الله تعالى وحده، لأنه إذا لم يسمع منه شيء، يحمل على أنه قد سمى الله تبارك وتعالى وجرد التسمية، تحسينا للظن به كما بالمسلم (3) ولو سمع منه ذكر اسم الله تعالى، لكنه عنى بالله عز وجل المسيح عليه الصلاة والسلام، قالوا: تؤكل، لأنه أظهر تسمية هي تسمية المسلمين، إلا إذا نص فقال: بسم الله الذي هو ثالث ثلاثة، فلا تحل. وقد روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه سئل عن ذبائح أهل الكتاب وهم يقولون ما يقولون، فقال رضي الله عنه: قد أحل الله ذبائحهم وهو يعلم   (1) هكذا ذكر ابن قدامة مذهب الشافعي، والمشهور عنه أنه لا يوجب التسمية للمسلمين، فكيف بأهل الكتاب؟ إلا أن يقال: إنه لا يقول بحل الذبيحة إذا ترك عليها التسمية استخفافا وتهاونا، والظاهر من الكافر أنه يترك استخفافا، فلا تحل ذبيحته عنده من هذه الجهة إذا ترك التسمية، والله سبحانه أعلم. (2) المغني لابن قدامة: 11/ 56. (3) هذا إذا عرف من أهل الكتاب أنهم يسمون الله تعالى عند الذبح عموما. أما إذا عرف منهم ترك التسمية فلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 ما يقولون. فأما إذا سمع منه أنه سمي المسيح عليه الصلاة والسلام وحده، أو سمي الله سبحانه وتعالى وسمي المسيح، لا تؤكل ذبيحته. كذا روي عن سيدنا علي رضي الله عنه، ولم يرو عنه غيره خلافه" (1) . والقول الثاني: إنه لا يجب لحل ذبيحة الكتابي أن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح، فتحل الذبيحة إذا سكت عن التسمية, أما إذا ذكر غير الله تعالى مثل اسم المسيح وغيره فلا تحل ذبيحته، وهو قول المالكية. جاء في الشرح الصغير للدردير: "وجب عند التذكية ذكر اسم الله بأي صيغة من تسمية أو تهليل أو تسبيح أو تكبير، لكن لمسلم لا كتابي، فلا يجب عند ذبحه ذكر الله، بل الشرط أن لا يذكر اسم غيره مما يعتقد ألوهيته) (2) والقول الثالث: لا تجب التسمية لحل ذبيحة الكتابي، وتحل ذبيحته ولو سمي غير الله تعالى، وهو مروي عن عطاء ومجاهد، ومكحول، كما حكى عنهم ابن قدامة في المغني (3) وإذا تأملنا في النصوص، وجدنا أن القول الأول هو الراجح، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قال: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} وإن صيغة المجهول في {لم يذكر اسم الله} دليل واضح على أن ترك التسمية محرم للحيوان، سواء أكان الذابح مسلما أم كتابيا. وكذلك قول الله عز وجل في معرض بيان المحرمات: {وما أهل لغير الله به} ورد بصيغة المجهول، فشمل ما إذا كان الذابح مسلما أو كتابيا, وكذلك قوله تعالى: {وما ذبح على النصب} وقد سبق منا أن كلا من اليهود والنصارى كانوا يذبحون الحيوانات   (1) بدائع الصنائع: 5/ 46 (2) الشرح الصغير للدردير مع الصاوي: 2/ 170 و 171 (3) المغني لابن قدامة: 11/ 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 على اسم الله تعالى، وقد حرم بولس على النصارى ما تذبحه الأمم الأخرى، لكونها تذبح للشياطين لا لله، كما مر من نصه في رسالته الأولى إلى أهل كورنثيوس (10: 20و21) ومن أجل هذا أبيحت ذبائح أهل الكتاب للمسلمين، كما سبق عن الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى. فإذا تركوا التسمية أو سموا غير الله تعالى، فقدت العلة التي أحلت ذبائحهم بسببها، وعادت الحرمة. وإن معظم ما ذكرنا من الأدلة على حرمة المخنوقة أو الموقوذة بيد كتابي، ينطبق على موضوع ذكر اسم الله تعالى أيضا، غير أن قضية ترك التسمية أخف بالنسبة إلى مسألة الخنق والوقذ، من جهة أن حرمة متروك التسمية من ذبائح أهل الكتاب مسألة مجتهد فيها، كما ذكرنا. أما مسألة الخنق والوقذ فليست محل اختلاف فيما بين الأئمة المتبوعين، ولا عبرة بعبارة ابن العربي المتعارضة، حتى تجعل المسألة خلافية. فالصحيح الراجح المؤيد بالنصوص الظاهرة أن ذبائح أهل الكتاب إنما تحل إذا راعوا جميع شروط الذبح المنصوصة في القرآن والسنة، وكان ذلك هو المعهود منهم حين نزلت الرخصة في أكل ذبائحهم، والله سبحانه وتعالى أعلم. ذبائح الماديين والدهرين المتسمين باسم النصارى: ثم إن حلة ذبائح أهل الكتاب إنما يشترط لها أن يكون الذابح على دين النصارى واليهود، معتقدا مبادئ دينهم الأساسية، وإن كانت تلك المبادئ تخالف الإسلام، مثل عقيدة التثليث والكفارة، والإيمان بالتوراة والإنجيل المحرفتين، لأن الله سبحانه وتعالى سماهم أهل الكتاب بالرغم من كونهم يعتقدون هذه العقائد الباطلة عند نزول القرآن، وقد صرح بذلك القرآن الكريم حيث قال: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] وقال {وقالت اليهود عزير ابن الله} [التوبة: 30] ، وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 {يحرفون الكلم عن مواضعه} [المائدة: 13] ، وقال الجصاص رحمه الله تعالى: (وروى عبادة بن نسي، عن غضيف بن الحارث: أن عاملا لعمر بن الخطاب كتب إليه أن ناسا من السامرة يقرءون التوراة ويسبتون السبت ولا يؤمنون بالبعث، فما ترى؟ فكتب إليه عمر أنهم طائفة من أهل الكتاب) (1) فثبت بهذا أنه لا يشترط في كون الرجل من أهل الكتاب أن يؤمن بالتوحيد الخالص كما هو عقيدة المسلمين، ولا أن يؤمن بتحريف التوراة والإنجيل الموجودتين، ولا أن يؤمن بنسخ شريعة موسى وشريعة عيسى عليهما الصلاة والسلام, بل يكفي لذلك أن يؤمن بالعقائد الأساسية التي يؤمن بها اليهود والنصارى، والتي يتميزون بها عن الملل الأخرى. ولكن لا يكفي لاعتبار المرء من أهل الكتاب مجرد أن يكون اسمه كاسم النصارى، ولا أن يعد في عدادهم عند الإحصاءات الرسمية فحسب، بل يجب أن تكون عقائده كعقائدهم. وقد ظهر في زماننا- ولا سيما في البلاد الغربية- عدد لا يحصى من الناس، أسماؤهم كأسماء النصارى، وربما يسجلون في الإحصاءات كنصارى، ولكنهم في الواقع دهريون أو ماديون، لا يؤمنون بوجود خالق لهذا الكون، فضلا عن العقائد الأخرى، بل يستهزؤون بالأديان كلها، وإن مثل هؤلاء من الرجال ليسوا من النصارى، فلا يجوز اعتبارهم من أهل الكتاب، فلا تحل ذبيحتهم. والدليل على ذلك واضح، وهو أن أهل الكتاب إنما تميزوا عن سائر الكفار بفضل عقيدتهم بوجود الله جل ثناؤه، وبإيمانهم بالرسل وكتبهم السماوية، فمن لا يعتقد بوجود الله رأسا، ولا بإرسال الرسل وإنزال   (1) أحكام القرآن، للجصاص: 2/ 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 الكتب؛ لا يسوغ أن يعتبر من أهل الكتاب. وقد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- مثل هذا الحكم في نصارى بني تغلب. قال الجصاص رحمه الله تعالى: "وروى محمد بن سيرين عن عبيدة قال: سألت عليا عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا تحل ذبائحهم، فإنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيء إلا بشرب الخمر" (1) . معنى ذلك أن هؤلاء لا يؤمنون بالتوراة والإنجيل، ولا بعقائدهم الأساسية، فلذلك لا يمكن اعتدادهم من جملة أهل الكتاب لمجرد كونهم منسوبين إلى النصرانية. ولكن هذا الحكم إنما يتأتى في رجل تحقق فيه أنه لا يؤمن بالله ولا بالرسل ولا بالكتب السماوية. أما إذا كان الرجل باسمه ومظهره نصرانيا، يجوز أن نعتبره من النصارى، ما لم يتبين أن عقائده كعقائد الماديين. حكم ما جهل ذابحه: إذا جهل الذابح وطريق ذبحه، فإن ذلك لا يخلو من أحوال آتية: 1- إذا كان البلد مسلما، بمعنى أن أغلبية سكانها مسلمون، فما يوجد في أسواق ذلك البلد يحل أكله، ولو لم نعرف الذابح بعينه، أو لم نعرف هل سمي على الذبيحة أم لا؛ لأن ما وجد في بلاد الإسلام يحمل على كونه موافقا للأحكام الشرعية، ونحن مأمورون بإحسان الظن بالمسلمين, والأصل في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: ((أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتوننا بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا، فقال: سموا عليه أنتم وكلوه)) .   (1) أحكام القرآن، للجصاص: 2/ 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر (1) . وقال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: "قال ابن التين: وأما التسمية على ذبح تولاه غيرهم من غير علمهم فلا تكليف عليهم فيه، وإنما يحمل على غير الصحة إذا تبين خلافها، ويحتمل أن يريد أن تسميتكم الآن تستبيحون بها أكل ما لم تعلموا أذكر اسم الله عليه أم لا، إذا كان الذابح ممن تصح ذبيحته إذا سمي. ويستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين، لأن الغالب أنهم عرفوا التسمية، وبهذا الأخير جزم ابن عبد البر) (2) . ثم قول عائشة رضي الله عنها: "وكانوا حديثي عهد بالكفر"يدل على أنه كان يخشى منهم أن لا يعرفوا وجوب التسمية عند الذبح، ومع ذلك أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل اللحم، لأن أمر المسلم، وإن كان جاهلا، يحمل على الصحة ما لم يتيقن المرء أنه باشر عملا على غير وجهه الصحيح. وإلى هذا المعنى أشار البخاري رحمه الله حيث ترجم على هذا الحديث: (باب ذبيحة الأعراب ونحوهم) وقد وقع التصريح بكونهم من الأعراب في رواية النسائي، كما حكى عنه الحافظ في الفتح, والأعراب يقل علمهم عادة. 2- أما إذا كان غالب أهل البلد من الكفار غير أهل الكتاب، فاللحم المعروض للبيع في السوق لا يحل للمسلمين، حتى يتبين بيقين أو بالظن الغالب أن هذا اللحم بعينه ذبحه مسلم أو كتابي بالطريق المشروع. وهذا ظاهر جدا. 3- وكذلك الحكم إذا كان أهل البلد مختلطين ما بين مسلم ووثني   (1) صحيح البخاري، باب ذبيحة الأعراب ونحوهم، رقم الحديث: 5507 (2) فتح الباري: 9/ 635 و 636. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 أو مجوسي؛ لأن ما وقع فيه الشك لا يحل حتى يتبين كونه حلالا، والدليل على ذلك حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه الذي مر فيما قبل، حيث حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الصيد الذي شارك في اصطياده كلاب أخرى. 4- أما إذا كان غالب أهل البلد من أهل الكتاب، فالأصل فيه ما سبق من حكم بلاد المسلمين، فإن أهل الكتاب حكمهم في أمر الذبيحة حكم المسلمين, لكن إذا عرف باليقين أو بالظن الغالب أن أهل الكتاب في ذلك البلد لا يذبحون الحيوان بالطريق المشروع، فلا يحل أكل اللحم حتى يتبين أن هذا اللحم بعينه حصل بالذكاة المشروعة، وهذا هو الحال في معظم البلاد الغربية اليوم, كما سنذكره إن شاء الله تعالى. طرق الذبح الآلية الحديثة: قد سبب ازدياد العمران وكثرة متطلباتهم الغذائية أن تستخدم الأجهزة الآلية (الأوتوماتيكية) لذبح الحيوانات أيضا, وقد أنشئت لذلك مجازر ومسالخ ضخمة تبلغ منتجاتها آلاف الحيوانات كل يوم, فلا بد من معرفة حكمها الشرعي, وإن استخدام مثل هذه الأجهزة يختلف طريقه بالنسبة إلى نوع الحيوان, فطريق الذبح في الدجاج يختلف عن طريقه في البقر والغنم. ذبح الدجاج: أما الطريق الذي يستخدم في ذبح الدجاج- وقد شاهدته في كندا، وجنوب إفريقيا، وفي جزيرة ري يونين- أن الجهاز الواحد- وهو كبير جدا- يتكفل جميع مراحل الذبح والإنتاج، بحيث يدخل فيها الدجاج من طرف واحد، ويخرج لحمه الصافي معلبا من الطرف الآخر, وجميع المراحل ما بين ذلك؛ من ذبحه، ونتف ريشه، وإخراج أمعائه، وتنظيف لحمه، وتقطيعه وتعليبه، تتم بواسطة الجهاز الكهربائي, وإن هذا الجهاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 يحتوي على قضيب حديدي طويل ينصب في عرض القاعة ما بين الجدارين، وإن هذا القضيب في أسفله علاقات كثيرة تتجه عراها إلى الأرض. فيؤتى بمئات من الدجاج في شواحن كبيرة، ثم يعلق كل دجاج برجليه، بحيث تعلق رجلاه في عروة العلاقة، وسائر جسمه معلق معكوسا- بمعنى أن حلقومه ومنقاره متجه إلى الأرض- وإن هذه العلاقات تسير على القضيب مع الدجاج المعلقة، حتى تأتي إلى منطقة ينصب فيها الماء البارد من فوق في صورة شلالة صغيرة، فتمر بهذه الدجاج من خلال هذا الماء البارد, والمقصود بغمسها في الماء تنظيفها من الأدران، وفي بعض الحالات يحتوي هذا الماء على تيار كهربائي يخدر الدجاج, ثم تأتي هذه العلاقات إلى منطقة وضع في أسفلها سكين دوار يدور بسرعة شديدة، وإن هذا السكين الدوار منصوب في مكان تصل إليه أعناق الدجاج المعلقة معكوسة، فحينما تأتي العلاقة في هذه المنطقة فإنها تدور حول هذا السكين الدوار بشكل هلالي، فتصل أعناق عديد من الدجاج إلى طرف هذا السكين الدوار دفعة واحدة وتمر عليه، فيقطع السكين حلقوم كل واحد منها تلقائيا، ثم تتقدم العلاقات إلى الأمام وقد فرغ الجهاز من قطع حلقوم الدجاجات المعلقة فيها, وبعد قليل تمر على منطقة ينصب فيها الماء من فوق مرة أخرى، ولكن هذا الماء حار، ومقصود المرور عليه نتف ريش الدجاج, ثم هناك مراحل أخرى من إخراج أمعائه وتصفيته وتقطيعه في نفس الجهاز، ولكن نترك ذكرها لكونها خارجة عن عملية الذبح المقصودة بالبحث هنا, والجدير بالذكر أن هذا الجهاز الكهربائي لا يزال يسير طوال النهار، وأحيانا على مدار الساعة، لا يقف إلا في حالات استثنائية, وإن ما يحتاج إلى البحث في هذه الطريقة من الناحية الشرعية أمور أربعة: الأول: المرور على الماء البارد الذي فيه تيار من الكهرباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 الثاني: قطع الحلقوم بالسكين الدوار. الثالث: المرور على الماء الحار. الرابع: كيف يتأدى واجب التسمية في هذا الطريق الميكانيكي؟ أما المرور على الماء البارد قبل قطع حلقوم الدجاج، فلا يستخدم هذا الطريق في جميع المسالخ، بل يستغنى عنه في كثير منها, وإن كان الماء البارد بدون أثر كهربائي فهذا لا يؤثر في قضية الذبح، فإن كان في الماء أثر من الكهرباء، فإن ذلك لا يسبب موت الحيوان عادة، وإنما يخدر دماغه، والتخدير وإن كان يسبب انكماشا في القلب، فلا يخرج منه الدم عادة بذلك المقدار الذي يخرج من المذبوح بدون التخدير, ولكن مجرد ذلك لا يجعل الحيوان ميتة, ولكن إذا تحقق في حيوان بعينه أن هذه العملية سببت موته فلا يجوز أكله، وإن قطع حلقومه بعد ذلك بطريق مشروع, فلا بد من التأكد من أن برودة الماء أو تيار الكهرباء ليسر بتلك القوة التي تكون كافية لموت الحيوان، ثم لابد من مراقبة ذلك مراقبة دقيقة، حتى لا يخرج منه حيوان ميت، ومع ذلك فتركه أولى، للابتعاد عن أية شبهة. وأما الذبح بالسكين الدوار، فإن هذا السكين يشبه الرحى وأطرافه حادة، وإن هذا الرحى لا يزال يدور بسرعة، وتمر على أطرافه أعناق الدجاج من جانب الحلقوم فتقطع تلقائيا، والظاهر أنه يقطع عروق الدجاج، ولكن قد يحدث أن تتحرك الدجاجة في العلاقة لسبب من الأسباب، فلا ينطبق عنق الدجاج على طرف السكين الدوار، فإما أن لا يقطع عنقه بتاتا، أو يقطع جزء قليل منه بحيث يقع الشك في قطع العروق، وفي كل من الحالتين لا تحصل به الذكاة الشرعية. أما قضية التسمية، فإنها صعبة جدا في استخدام هذا الطريق، فالمشكلة الأولى في تعيين الذابح، لأن التسمية إنما تجب على الذابح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 حتى لو سمي رجل وذبح غيره لا يجوز, فالسؤال إذن، من هو الذابح في هذا الجهاز الميكانيكي؟ فيحتمل أن نقول: إن من شغل هذا الجهاز لأول مرة يعتبر ذابحا، لأن عمليات الأجهزة الكهربائية إنما تنسب إلى من شغلها؛ لأن الآلة ليست من ذوي العقول حتى ينسب إليها الفعل، فينسب الفعل إلى من استعملها، فيصير هو الفاعل بواسطة الآلة, ولكن المشكلة هنا: أن من يشغل هذا الجهاز في أول النهار مثلا، إنما يشغله مرة واحدة، ثم لا يزال يسير الجهاز طول أوقات العمل، وفي بعض الأحيان على مدار الساعة، فيقطع أعناق آلاف من الدجاج, فإذا سمي من شغله في أول النهار مرة واحدة، فهل تكفي هذه التسمية الواحدة للآلاف من الدجاج التي تذبح بهذا التشغيل في سائر النهار؟ والظاهر من النص القرآني: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} أن كل حيوان يحتاج إلى تسمية مستقلة يذبح بعدها على الفور، وعلى هذا الأساس استنبط الفقهاء الأحكام الآتية: "وأما الشرط الذي يرجع إلى محل الذكاة، فمنها تعيين المحل بالتسمية في الذكاة الاختيارية, وعلى هذا يخرج ما إذا ذبح وسمي، ثم ذبح أخرى، يظن أن التسمية الأولى تجزئ عنهما؛ لم تؤكل، فلا بد أن يجدد لكل ذبيحة تسمية على حدة" (1) "ولو أضجع شاة وأخذ السكين وسمى، ثم تركها وذبح شاة أخرى وترك التسمية عامدا عليها لا تحل". كذا في الخلاصة. "وإذا أضجع شاة ليذبحها وسمي عليها، ثم كلم إنسانا، أو شرب ماء، أو حدد سكينا، أو أكل لقمة أو ما أشبه ذلك من عمل لم يكثر، حلت بتلك التسمية، وإن طال الحديث وكثر العمل كره أكلها، وليس في ذلك   (1) الفتاوى الهندية، كتاب الذبائح، الباب الأول: 5/ 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 تقدير، بل ينظر فيه إلى العادة، إن استكثره الناس في العادة يكون كثيرا، وإن كان يعد قليلا فهو قليل" (1) . قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "والتسمية على الذبيحة معتبرة حال الذبح أو قريبا منه، كما تعتبر على الطهارة, وإن سمي على شاة ثم أخذ أخرى فذبحها بتلك التسمية لم يجز، سواء أرسل الأولى أو ذبحها، لأنه لم يقصد الثانية بهذه التسمية, وإن رأى قطيعا من الغنم فقال: بسم الله. ثم أخذ شاة فذبحها بغير تسمية لم يحل, وإن جهل كون ذلك لا يجزئ، لم يجر مجرى النسيان؛ لأن النسيان يسقط المؤاخذة، والجاهل مؤاخذ، ولذلك يفطر الجاهل بالأكل في الصوم دون الناسي؛ وإن أضجع شاة ليذبحها وسقى، ثم ألقى السكين وأخذ أخرى، أو رد سلاما، أو كلم إنسانا أو أستسقى ماء ونحو ذلك وذبح حل؛ لأنه سمي على تلك الشاة بعينها ولم يفصل بينهما إلا بفصل يسير، فأشبه ما لو لم يتكلم) . (2) وقال المواق المالكي رحمه الله تعالى: "قال مالك: لا بد من التسمية عند الرمي وعند إرسال الجوارح وعند الذبح لقوله {واذكروا اسم الله عليه} (3) وهذه العبارات الفقهية صريحة في أن الجمهور من الأئمة الذين يشترطون التسمية عند الذبح يشترطون أن تقع التسمية على حيوان بعينه، وأن تكون عند الذبح، وأن لا يفصل بين التسمية وبين الذبح فاصل يعتد به. وهذه الشروط مفقودة في الطريق المذكور من الجهاز الميكانيكي، فإنه لو سمي من شغله لأول مرة، لم يسم على حيوان بعينه، وقد وقع بين تسميته   (1) الفتاوى الهندية، كتاب الذبائح، الباب الأول: 5/ 288 (2) المغني لابن قدامة: 11 / 33 (3) التاج والإكليل بهامش مواهب الجليل: 3/ 219، كتاب الذكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وبين ذبح آلاف الدجاج فاصل كبير، ربما يمتد إلى نهار كامل، أو يوم أو يومين، فالظاهر أن هذه التسمية لا تكفي لذكاة هذه الحيوانات بأجمعها، وهذا قريب مما ذكره ابن قدامة أن من رأى قطيعا من الغنم فقال: بسم الله، ثم أخذ شاة فذبحها بغير تسمية، فإنه يحرم (1) وقد يستشكل هذا بما ذكره بعض الفقهاء: (ولو أضجع إحدى الشاتين على الأخرى تكفي تسمية واحدة إذا ذبحهما بإمرار واحد، ولو جمع العصافير في يده فذبح وسمي، وذبح آخر على أثره ولم يسم لم يحل الثاني، ولو أمر السكين على الكل جاز بتسمية واحدة) (2) وقد يتوهم منه أن مسألتنا مشابهة لمن أضجع شاتين، أو جمع العصافير في يده، حيث تكفي تسمية واحدة، ولكن الحق أن مسألتنا لا تنطبق على هاتين الصورتين، لأن ذبح الشاتين أو العصافير إنما وقع في فور واحد، دون أن يقع بين التسمية وبينه فصل يعتد به، ولذلك قد صرح في نفس الجزئية المذكورة، أن الذابح إن جمع العصافير في يده وذبح بعد التسمية، ثم ذبح عصفورا آخر على أثره لم يحل هذا العصفور الأخير، لأن ذبحه قد انفصل عن العصافير التي ذبحت في فور واحد. أما في مسألتنا فلا نستطيع أن نقول: إن جميع ما ذبح من الدجاج في مدة يوم أو يومين مذبوح في فور واحد، وإنما هي عمليات كثيرة من الذبح تقع واحدة تلو الأخرى، فالفرق واضح. فهذا يدل على أنه لا يكفي التسمية الواحدة من مشغل الجهاز لذبح سائر الدجاج، وإن أقيم رجل عند السكين الدوار ليسمي عندما تأتي الدجاجات إليه فيقطع حلقومها- وهذا شيء رأيته في مذبح من مذابح   (1) وهذه المسألة مذكورة أيضا في الفتاوى الهندية: 5/ 289 (2) الفتاوى الهندية: 5/ 289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 كندا - فإن في كون تسميته معتبرة شرعا إشكالات آتية: الأول: أن التسمية ينبغي أن تصدر من الذابح، وهذا الرجل الواقف أمام السكين الدوار لا علاقة له بعملية الذبح، فإنه لم يشغل الجهاز، ولا أدار السكين، ولا قرب الدجاجة إليه، وإنما هو رجل منفصل عن عملية الذبح تمام الانفصال، فتسميته ليست من الذابح. والثاني: أن السكين الدوار تأتي إليه عدة دجاجات بفصل ثوان، ولا يمكن لهذا الرجل الواقف أن يسمي على واحد من هذه الدجاجات من غير فصل. والثالث: أن هذا الرجل الواقف إنسان، وليس جهازا أوتوماتيكيا، فلا يستطيع أن لا ينشغل بأي عمل آخر دون التسمية، فربما تعرض له حاجات تشغله عن التسمية، وفي هذه الأثناء تمر عشرات من الدجاج على السكين الدوار، فتذبح بغير تسمية. وقد شاهدت بنفسي في المذبح المذكور من كندا أن هذا الرجل يغيب عن موضعه عند الجهاز لفترات ربما تستغرق نصف ساعة أو أكثر. وهناك ملحظ آخر في موضوع التسمية على هذا الجهاز الأوتوماتيكي، وهو أن نقيس تشغيل الجهاز على إرسال كلب الصيد، حيث لا تجب التسمية عند هلاك الصيد، وإنما تجب عند إرسال الكلب، وقد يكون بين الإرسال وبين هلاك الصيد فاصل كبير، وقد يهلك كلب الصيد عدة حيوانات في إرسال واحد، والظاهر أن التسمية الواحدة تكفي لحل جميعها. قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "وإن سمي الصائد على صيد فأصاب غيره حل، وإن سمي على سهم ثم ألقاه وأخذ غيره فرمى به لم يبح ما صاده به، لأنه لما لم يمكن اعتبار التسمية على صيد بعينه اعتبرت الآلة التي يصيد بها بخلاف الذبيحة". ويحتمل أن يباح قياسا على ما لو سمي على سكين ثم ألقاها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وأخذ غيرها. " وسقوط اعتبار تعيين الصيد لمشقته لا يقتضي اعتبار تعيين الآلة فلا يعتبر". (1) ,هذا، وإن كان متعلقا بالذكاة الاضطرارية، ومسألتنا تتعلق بالذكاة الاختيارية، ولا تقاس حالة الاختيار على حالة الاضطرار، ولكن إذا نظرنا إلى حاجة إكثار الإنتاج في أسرع وقت، وذلك لازدياد العمران، وتكاثر عدد المستهلكين، وقلة الذابحين، وإلى أن الشريعة إنما أسقطت اعتبار تعيين الصيد لمشقته، كما يقول ابن قدامة رحمه الله، والمعهود من الشريعة في مثله دفع الحرج، فإن ذلك ربما يبدو مبررا لقياس حالة الاختيار على حالة الاضطرار في موضوع التسمية فقط، دفعا للحرج وتيسيرا على الناس. ولست أجزم بمدى قوة هذا الملحظ، لكن أردت أن أطرحه للبحث أمام العلماء للبت في هذا الموضوع, ولم أفت بذلك حتى الآن، وخاصة في حين أن عندنا بديلا مناسبا للسكين الدوار، وهو يلبي حاجة الإنتاج في نفس الوقت، وذلك أن يزال السكين الدوار عن موضعه في الجهاز، ويقوم في محله أربعة أشخاص مسلمين يتناوبون في قطع حلقوم الدجاج مع ذكر اسم الله تعالى، كلما تمر عليهم العلاقات بالدجاج, وهذا أمر اقترحته على مذبح كبير في جزيرة ري يونين، فعملوا بذلك، وقد دلت التجربة على أن ذلك لم ينقص من كمية الإنتاج شيئا؛ وذلك لأن هؤلاء الأشخاص يقطعون حلقوم الدجاج في نفس الوقت الذي كان السكين الدوار يقطعه, وإن هذا الجهاز لا يغني عن استعمال الطاقة البشرية بالكلية، فقد شاهدنا أنهم اضطروا إلى تعيين رجال يقومون في بعض المناطق التي تمر عليها هذه العلاقات، وإنهم يستعملون أيديهم أو آلات يدوية لإخراج الأمعاء وغيرها من بطن الدجاج، ولم أعرف مذبحا يستغني عن مثل هذا العمل البشري بتاتا. فإن كانوا يقيمون أشخاصا لهذا الغرض،   (1) المغني لابن قدامة: 33/11 و 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 فإنهم يستطيعون أن يقيموا أربعة أشخاص عند مرحلة الذبح أيضا، فيقع الذبح بالطريقة المشروعة بأيدي ذابحين مسلمين، يسمون الله تعالى عند الذبح، والأمور الباقية يتكفلها الجهاز. وإضافة إلى جزيرة ري يونين، رأيت نفس الطريق معمولا به في مذبح أكبر منه بقرب من مدينة دربن في جنوب إفريقيا، وإنتاجهم اليومي يبلغ إلى ألوف من الدجاج كل يوم، وقد قبلوا هذا الاقتراح من المسلمين، ويعملون به دون أية صعوبة. وكذلك كلمت أصحاب المذبح الذي زرته في كندا، واقترحت عليهم هذا الاقتراح، فأبدوا صلاحيتهم للعمل بذلك إذا طلب منهم المسلمون، ولكن جمعية المسلمين التي تصدر شهادة بكون ذبائحهم حلالا، لم تقبل ذلك مع الأسف الشديد. وما دام هذا البديل متوفرا فلا تظهر هناك حاجة كبيرة لاستخدام السكين الدوار، ولقياس الذكاة الاختيارية على الاضطرارية، والله سبحانه أعلم. مرور الدجاج على الماء الحار: أما مرور الدجاج على الماء الحار وهي المسألة الأخيرة في موضوع هذا الجهاز هي أن الدجاج بعد المرور على السكين الدوار تمر على منطقة ينصب فيها ماء حار من الفوق وذلك لنتف ريشها وهذا الماء الحار يمكن أن يسبب إشكالين: الأول: أن الدجاج إذا لم يقطع حلقومه بالسكين الدوار بصورة مقبولة شرعا، فإنها تبقى حية إلى أن تمر على هذه المنطقة التي يغطس فيها الدجاج في ماء حار، فلا يبعد احتمال أن تموت تلك الدجاجة بحرارة الماء فتكون حراما. والثاني: قد يستشكل بعض الناس من هذا الطريق أن هذا الغطس في الماء الحار إنما يقع قبل أن تخرج النجاسات من بطن الدجاج، فربما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 تسري هذه النجاسات إلى لحم الحيوان بفضل الغليان، وقد ذكر الفقهاء أن مثل هذا الحيوان لا يحل أبدا. جاء في الدر المختار: "وكذا دجاجة ملقاة حالة غلي الماء للنتف قبل شقها". وقال ابن عابدين تحته: (قال في الفتح: إنها لا تطهر أبدا، لكن على قول أبي يوسف تطهر، والعلة-والله أعلم-تشربها النجاسة بواسطة الغليان) (1) . ولكن هذا الإشكال غير وارد في مسألتنا، لأن درجة الحرارة في هذا الماء لا تبلغ إلى نقطة الغليان، حيث تكون أقل بكثير من مئة درجة مئوية, ثم بقاء الدجاج في هذا الماء الحار لا يجاوز دقائق معدودة لا تكفي لتشرب اللحم النجاسة, والفقهاء الذين قالوا بنجاسة الدجاج إنما قالوا ذلك إذا كان الماء بلغ إلى درجة الغليان، ويبقى فيه الدجاج مدة تكفي لتشريب اللحم النجاسة. قال ابن عابدين رحمه الله بعد بيان المسألة المذكورة: "وعليه اشتهر أن اللحم السميط بمصر نجس، لكن العلة المذكورة لا تثبت ما لم يمكث اللحم بعد الغليان زمانا يقع في مثله التشرب والدخول في باطن اللحم، وكل منهما غير متحقق في السميط حيث لا يصل إلى حد الغليان، ولا يترك فيه إلا مقدار ما تصل الحرارة إلى ظاهر الجلد لتنحل مسام الصوف، بل لو ترك يمنع انقلاع الشعر" (2) ,هذا ينطبق تماما على هذا الماء الحار الذي تمر من خلاله الدجاج في هذا الجهاز, وقد أدخلت يدي في الماء فلم يكن محرقا، فضلا من كونه بلغ إلى حد الغليان.   1 - رد المحتار لابن عابدين: 1/ 334، قبيل فصل الاستنجاء. 2 - رد المحتار: 334/1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 نتائج البحث في الطريق الآلي لذبح الدجاج: ويتحصل مما ذكرنا من الطريق الآلي لذبح الدجاج أن هذا الطريق فيه خلل من الناحية الشرعية بوجوه: 1- في بعض المذابح يغطس الدجاج قبل ذبحه في ماء بارد فيه تيار كهربائي، ويخشى منه أن يسبب موت الدجاج قبل ذبحه، لأن بعض المتخصصين يرون أن هذا التيار الكهربائي يحدث توقف القلب في 90 % من الدجاج، والله أعلم. 2- السكين الدوار، وإن كان كافيا لقطع العروق، في معظم الأحيان، ولكن الدجاج في بعض الحالات لا يصل عنقه تماما إلى طرف السكين، فلا يقطع حلقومه أو يقطع جزء قليل منه، بحيث تبقى العروق غير مقطوعة. 3- لا يمكن مع وجود السكين الدوار أن تقع التسمية على كل دجاجة، والتسمية عند تشغيل الجهاز، أو من قبل شخص واقف عند السكين لا يفي بالمتطلبات الشرعية. 4- إن الماء الحار الذي تمر من خلاله الدجاج يخشى منه أن يسبب موت الدجاج التي لم يقطع عنقها بالسكين الدوار أو قطع ناقصا. وبعد النظر في الأسباب الأربعة للخلل، يتبين أن تدارك هذا الخلل ليس بعسير, ويمكن استخدام هذا الجهاز الآلي للذبح بعد إجراء بعض التعديلات في طريق استخدامه, وهي ما يلي: 1 عدم استخدام التيار الكهربائي في الماء البارد، أو التأكد من أن هذا التيار لا يسبب توقف قلبه. 2- عدم استخدام السكين الدوار، وإقامة أشخاص مسلمين أو من أهل الكتاب يتناوبون في ذبح الدجاجات التي تمر أمامهم، وذلك بأيديهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 ومع تسمية الله تعالى على كل دجاجة, وقد ذكرت طريقه التفصيلي، وأن ذلك معمول به في عدة مذابح كبيرة طلب من أصحابها المسلمون ذلك, ولا يقلل ذلك من كمية الإنتاج. 3- التأكد من أن الماء الحار الذي تمر منه الدجاجات المذبوحة لا يبلغ إلى حد الغليان. وبمراعاة هذه الأمور الثلاثة تكون الدجاجات المذبوحة بواسطة هذا الجهاز حلالا. الذبح الصناعي للأنعام: أما ذبح الأنعام من البقر والغنم من الحيوانات الكبيرة، فطريقه غير طريق الدجاج، فلا يقع إزهاق الروح فيها بالسكين الآلي، وإنما يقع بأعمال يباشرها إنسان، فمن هذه الأعمال الخنق، كما هو المتبع في الطريقة التي تسمى الطريقة الإنكليزية، ويخرق فيها الصدر بين الضلعين، وينفخ فيه حتى يختنق الحيوان بضغط هواء المنفاخ على رئتيه، ولا يخرج من الحيوان دم. ومن البديهي أن الحيوان في هذه الصورة داخل في المنخنقة التي نطق بحرمتها القرآن الكريم، وقد حققنا فيما سبق أن الخنق محرم للحم الحيوان، سواء أصدر الخنق من مسلم أم من كتابي, فلا سبيل إلى حلة الحيوان المخنوق بهذه الصفة. ولكن في معظم المذابح اليوم يتم الذبح بأنهار الدم بقطع جانب من العنق، أو بقطع الرقبة, وبما أن الطرق في جرح الحيوان متعددة، فلا نجزم هل هي تقطع الأوداج، أو تقطع الحيوان من محل آخر، ولا يحل الحيوان حتى يثبت أنه قطع من حلقه ما يجب أن يقطع شرعا. ولكن إذا كان الذابح مسلما فإنه يسع له أن يذبح الحيوان بطريقة مشروعة من فري الأوداج، ولكن محل البحث في ذبيحة هذه المجازر أنهم يصرون على تدويخ الحيوان أو تخديره قبل أن يشرع الإنسان في عملية الذبح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وإن هذا التدويخ في نظرهم واجب لإراحة الحيوان عند الذبح وتخفيف ألمه. ويستعملون عدة آلات لحصر الحيوان تضمن عدم انفلاته وتقديم عنقه إلى الذابح بسهولة. أما التدويخ، فيقع بطرق مختلفة, ولعل من أكثرها استعمالا، هو التدويخ بالمسدس، وهذا المسدس غير مسدس الرصاص، وإنما تخرج منه عند إطلاقه إبرة أو قضيب معدني, ويضعون المسدس في وسط جبهة الحيوان فيطلقونه، فتخرج هذه الإبرة أو القضيب, وتثقب دماغ الحيوان، فيفقد الحيوان الوعي فورا، وبعد ذلك يذبح. والطريق الثاني للتدويخ هو: استعمال مطرقة ضخمة يضرب بها الحيوان على جبهته وهي مؤلمة للحيوان، ولذلك تركوها في معظم المجازر، واستبدلوا بها طريق استعمال المسدس. والطريق الثالث: استعمال الغاز, ويحبس فيها الحيوان في هواء يحتوي على غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة معلومة، وإن هذا الغاز يؤثر على دماغه فيفقده الوعي، ثم يذبح الحيوان باليد. والطريق الرابع للتدويخ: استعمال الصدمة الكهربائية, وتوضع فيها آلة كالملقط على صدغي الحيوان، ويرسل من خلاله تيار كهربائي ينفذ إلى الدماغ، فيفقد الحيوان الوعي بسبب هذه الصدمة الكهربائية. والحكم الشرعي لهذا التدويخ يحتاج إلى البحث من ناحيتين: الأولى: هل استخدام هذا الطريق جائز شرعا؟ والثانية: هل تكون الذبيحة حلالا إن ذبحها مسلم أو كتابي بالطريق المشروع بعد هذا التدويخ؟ أما كون هذه الطرق جائزة شرعا، فيتوقف الحكم فيه على أن هذا الطريق يخفف من ألم الذبح على الحيوان أم لا؟ وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحسان ذبح الحيوان والرفق به في الحديث المعروف، حيث قال: ((إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)) (1) وكان من المسلم أن الطريق الذي شرعه الإسلام من قطع عروق حلق الحيوان أحسن الطرق لإزهاق روحه وأسهلها على الحيوان, أما التدويخ ففي بعض الحالات يضر بالحيوان ويؤلمه أكثر مما يؤلمه الذبح، كالضرب بالمطرقة على جبهته، فلا شك في كون هذا الطريق غير جائز في الشريعة, أما الطرق الأخرى، فلا نجزم بأنها تخفف من ألم الحيوان أو تزيد، لأن إطلاق المسدس على الجبهة إنما يحصل به وقذ عنيف، والصدمة الكهربائية لا تخلو من ألم، وحبس الحيوان في الغاز يؤدي إلى الضيق التنفسي، ولكن خبراء علم الحيوان يدعون أن ذلك يخفف من ألمه، فإذا تحقق ذلك قطعا وأنه لا يموت به الحيوان، جاز استعمالها، وألا فلا. أما حكم الحيوان الذي يذبح بعد هذا التدويخ، فيتوقف فيه الحكم على أن هذا التدويخ يسبب الموت أم لا؟ ويدعي الخبراء اليوم أنه لا يسبب موت الحيوان، بل يجعله فاقد الوعي ويعدم إحساسه بالألم, ولكن هذا الادعاء محل نظر: أما التدويخ بالمسدس، فإنه يحدث وقذا عنيفا في جبهة الحيوان ودماغه، ولا يبعد أن يموت به الحيوان، فيصير موقوذة، وقد شاهدت هذا الطريق للتدويخ في مدينة ديترويت من الولايات المتحدة, فرأيت أن القضيب الخارج من المسدس دخل في دماغ البقرة بقدر طول الإصبع تقريبا, وخرج من دماغه الدم وأنهار الحيوان على الأرض فورا، وانقطعت حركات أعضائه بالكلية كأنه ميت، ولكن قال لي صاحب المجزرة الأمريكي: إن الحيوان يبقى بعد إطلاق المسدس حيا   (1) أخرجه مسلم في الصيد، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل، رقم:1955,وأخرجه أيضا الترمذي في الديات؛ باب النهي عن المثلة, وأبو داود, والنسائي, كما في جامع الأصول: 481/4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 لبضع دقائق، ولو لم يذبح في خلال اثنتي عشرة دقيقة فإنه يموت, ولم أستطع أن أتأكد من مدى صحة ما أدعاه, ولكن ما رأيته جعلني أشك في ادعاء أن هذا التدويخ لا يسبب موت الحيوان، ولم يكن هناك ما يبعد احتمال أن يموت بعض الحيوانات على الأقل بهذه الصدمة العنيفة. وأما الصدمة الكهربائية، فقد اعترف بعض الخبراء بأنها توقف حركة القلب في بعض الحالات, وكذلك الغاز إذا تجاوز نسبة معلومة يمكن أن يسبب الموت. وإن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة فنية عميقة من المتخصصين المسلمين الغيورين على دينهم، وبما أن الموضوع خارج عن اختصاصي، فلا يسع لي أن أبت فيه بشيء، وأقترح على المجمع أن يكون لجنة من الخبراء المسلمين ليقدموا تقريرا بعد دراستهم للموضوع، ولا شك أن هذه الطرق للتدويخ لو كانت مسببة للموت، أو يخشى منها الموت فلا يجوز استعمالها، ولا القول بحلة الحيوان المذبوح بعد التدويخ, وما دامت هذه الطرق مشكوكة، فالأسلم أن يبتعد عنها، ومن المعروف أن اليهود لا يقبلون أي طريق للتدويخ، والمسلمون أولى منهم بالابتعاد عن الشبهات، والله سبحانه وتعالى أعلم. حكم اللحوم المستوردة: قد اكتظت الأسواق اليوم باللحوم المستوردة من البلاد الأجنبية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 من إنكلترا، ومن الولايات المتحدة، ومن هولندا، وأستراليا، والبرازيل. وقد ثبت بما سبق من الدلائل في هذا البحث أن ذبائح أهل الكتاب إنما تحل للمسلمين إذا كانوا يراعون الشروط اللازمة للذكاة الشرعية، وكان ذلك هو المعهود منهم حينما أباح القرآن الكريم ذبائحهم, فأما اليهود، فالمعروف عنهم حتى الآن أنهم يحتفظون بأحكام دينهم في اللحوم، وقد استطاعوا أن ينظموا لأنفسهم مجازر خاصة تحت رقابة علمائهم وأحبارهم، وقد تميز لحمهم باسم: (كوشر) وهو متوفر في كل مكان يوجد فيه اليهود. أما النصارى، فقد خلعوا ربقة التكليف في موضوع الذبائح إطلاقا، ولا يلتزمون اليوم بالأحكام التي هي مصرحة حتى اليوم في كتبهم المقدسة، والتي نقلنا بعض نصوصها فيما سبق, وحينئذ فلا تحل ذبيحتهم حتى يثبت أنه قد توفر فيها الشروط الشرعية. فاللحوم التي تباع في أسواق البلاد الغربية، والتي تستورد إلى البلاد الإسلامية، وجوه المنع فيها كثيرة: 1- لا سبيل إلى معرفة ديانة ذابحه، فإن تلك البلاد يوجد فيها وثنيون، ومجوسيون، ودهريون وماديون بكثرة، فلا يحصل اليقين بكون الذابح من أهل الكتاب. 2- ولو ثبت بالتحقيق، أو بحكم غلبة السكان أن ذابحه نصراني، فلا يعرف هل هو نصراني في الواقع، أو هو مادي في عقيدته، وقد سبق أن ذكرنا أن العدد الكثير منهم لا يعتقد بوجود خالق لهذا الكون، فليس هو نصرانيا في الواقع. 3- ولو ثبت بالتحقيق، أو على سبيل الحكم بالظاهر أنه نصراني، فإن المعروف من النصارى أنهم لا يلتزمون بالطرق المشروعة للذكاة، بل منهم من يهلك الدابة بالخنق، ومنهم من يقتله بغير فري الأوداج، ومنهم من يستعمل الطرق المشتبهة للتدويخ التي فصلناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 4- الثابت يقينا أن النصارى لا يذكرون اسم الله عند الذبح، والقول الراجح المنصور عند جمهور أهل العلم أن التسمية شرط لحل ذبائح أهل الكتاب أيضا. وعند وجود هذه الوجوه القوية للمنع، لا يجوز لمسلم أن يأكل هذه اللحوم التي تباع في أسواق البلاد الغربية، حتى يتيقن في لحم معين أنه حصل عن طريق الذكاة الشرعية, وقد ثبت بحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أن الأصل في لحوم الحيوان المنع حتى يثبت خلافه، ولذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصيد الذي خالط فيه كلاب غير كلاب الصائد، وكذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الصيد: ((إن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري؛ الماء قتله أو سهمك)) (1) وبهذا يثبت أنه إذا اجتمع في حيوان وجوه مبيحة ووجوه محرمة، فالترجيح للوجوه المحرمة, وهذا أيضا يدل على أن الأصل في اللحوم المنع، حتى يثبت يقينا أنه حلال , وهذا أصل ذكره غير واحد من الفقهاء. وكذلك الحكم في اللحوم المستوردة، فإنها تتأتى فيها جميع الوجوه الأربعة المذكورة, أما الشهادات المكتوبة على العلب أو على الكرتونات أنها مذبوحة على الطريقة الإسلامية، فقد ثبت بكثير من البيانات أنها شهادات لا يوثق بها, وقد قامت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية مشكورة ببعث مندوبيها إلى المجازر الأجنبية التي تصدر منها اللحوم إلى البلاد الإسلامية، وقد بعث هؤلاء المندوبون بتقاريرهم لما شاهدوه في تلك المجازر، وكلها تدل على أن هذه الشهادات لا يوثق بها إطلاقا وليراجع لهذه التقارير فتاوى هيئة كبار العلماء ونذكر فيما يلي قرار هيئة كبار العلماء بشأن اللحوم المستوردة.   (1) صحيح مسلم كتاب الصيد، رقم 943، وراجع تكملة فتح الملهم: 494/3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 قرار هيئة كبار العلماء بشأن اللحوم المستوردة : "رابعا: تطبيق القواعد الشرعية على الذبائح المستوردة على ضوء ما عرف عنها من المشاهدات ونحوها: إن مجرد البيان لطريقة الذبح الشرعية دون الحكم بها على واقع اللحوم المستوردة إلى المملكة العربية السعودية من دول أوروبا وأمريكا وغيرها؛ لا يفيد من يتحرى الحلال فيما يأكل، ويجتهد في اجتناب ما حرم الله عليه من ذلك، إلا إذا عرف أحوال التذكية وأحوال المذكين في تلك الشركات الغربية وغيرها التي تستورد منها اللحوم إلى المملكة، وأنى له ذلك، فإن السفر إلى تلك البلاد فيه كلفة، لبعد الشقة، فلا يتيسر إلا للنزر اليسير، وأكثر من يسافر إليها يكون سفره لضرورة من علاج ونحوه، أو لإشباع رغبة وحب استطلاع ولا يعنى بهذا الأمر، ولا يكلف نفسه البحث عنه والوقوف على حقيقته, ولذا كتبت الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى المسؤولين عن استيراد اللحوم وغيرها من المأكولات تستفسر منها عن الواقع، وتوصيها بالعناية بما تستورده من ذلك من الجهة الشرعية، محافظة على الدين، وعلى سلامة الرعية من تناول ما حرم الله عليهم من الأطعمة، وتوفير ما تحتاج إليه الأمة مما أحل الله. وجاء منهم إجابة مجملة لا تكفي لإزالة الشك وطمأنينة النفس، فكتبت إلى دعاتها في أوروبا وأمريكا ليطلعوا على كيفية الذبح وديانة الذابحين هناك، فأجاب منهم جماعة إجابة في بعضها إجمال، وكتب جماعة من أهل الغيرة في المجلات عن صفة الذبح والذابحين، جزى الله الجميع خيرا، ولكن كل ذلك لم يستوعب الشركات التي يستورد منها المسؤولون عن ذلك في المملكة، مع ما في بعضها من الإجمال، ومع ذلك فاللجنة تعرض خلاصة ما جاءها من التقارب، وما اطلعت عليه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 المجلات على ما تقدم؛ من طريقة الذبح الشرعية، وما صدر في الموضوع من فتاوى كلية، ليتبين الحكم على اللحوم المستوردة من تلك البلاد، وعلى هذا يمكن أن يقال: أولا: بناء على ما جاء في كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء من أنه قد وردت إلى معاليه تقارير تفيد أن بعض الشركات الأسترالية التي تصدر اللحوم للأقطار الإسلامية وخاصة شركة: (الحلال الصادق) ، والتي يملكها القادياني "حلال الصادق " لا تتبع الطريقة الإسلامية في ذبح الأبقار والأغنام والطيور، ويحرم الأكل من ذبائح هذه الشركات، وتجب مراعاة ما قررته الرابطة وأوصت به في كتابها (1) ثانيا: بناء على ما جاء في تقرير الأستاذ أحمد بن صالح محايري في طريقة الذبح في شركة (برنسيسا) من أن الذابح لا يدرى عنه هل هو مسلم أو كتابي أو وثني أو ملحد، ومن الشك في قطع الوريدين أو أحدهما، ومن أن شهادة المصدق على الشحنة لم تبن على معاينته بنفسه أو بنائبه للذبح ولا على معرفته بالذابح؛ لا يجوز الأكل من هذه الذبائح، ويؤكد كون التذكية غير شرعية موافقة مدير الشركة على تعديل طريقة الذبح لتكون شرعية بشرط بيان الكمية اللازمة للجهة المستوردة أولا (1) ثالثا: وبناء على ما جاء عنه أيضا في طريقة ذبح الدجاج والبقر في شركة (ساديا أويسته) من أن الذابح مشكوك في ديانته هل هو كتابي أو وثني، ومن أن الأبقار تصعق بكهرباء، فإذا سقطت رفعت من أرجلها بآلة ثم شق جلد رقبتها بسكين، ثم قطع الوريد بسكين آخر، فينزل الدم بغزارة،   1 - ص 45 من الأعداد 2 - ص 44 من الأعداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 لا يجوز الأكل من هذه الذبائح (1) رابعا: بناء على ما جاء في تقرير الشيخ عبد الله الغضية عن الذبح في لندن من أن الذابحين من الشباب المنحرف الوثني أو الدهري، ومن أن الدجاجة تخرج من الجهاز ميتة منتوفة، ورأسها لم يقطع بل لم يظهر في رقبتها أثر الذبح، وإقرار إنجليزي من أهل المذبح بذلك، ومن خداع القائمين على المذبح لمن أراد الاطلاع على طريقة الذبح في المذبح الأوتوماتيكي الذي يذبح فيه للتصدير، واطلاعهم على مذبح يذبح فيه قلة من المسلمين للمسلمين بالداخل، وذلك مما يبعث في النفس ريبة في كيفية الذبح وديانة الذابح، لذلك لا يجوز الأكل من هذه الذبائح (2) خامسا: بناء على ما جاء في تقرير الأستاذ حافظ عن طريقة الذبح في بعض الأمكنة المشهورة في اليونان من أن ذبح الحيوان الكبير يكون بعد سقوطه من ضرب رأسه بمسدس، ومن الشك في كون الذبح حصل بعد موته من المسدس أو قبل موته؛ لا يجوز الأكل منه، وهناك طريقة أخرى قال فيها صاحب التقرير: إن الذبح فيها على الطريقة الإسلامية، ولم يبين كيفية الذبح ولا ديانة الذابح, كما أنه لم يبين أماكن الذبح ولا شركاته في اليونان (3) . سادسا: بناء على ما جاء في تقرير الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عن طريقة الذبح في يوغوسلافيا من أن الذبح في القرى وفي (سيراجيفو) على الطريقة الشرعية، والذابح مسلم؛ يجوز الأكل مما ذبح فيها، وبناء على ما جاء فيه عن الذبح في غيرها من مدن يوغوسلافيا من أن الذابح قد يكون غير مسلم، كتابيا أو شيوعيا ظاهرا، لا في حقيقة الأمر، لا يجوز الأكل   (1) ص 50 من الأعداد (2) ص 51-56 من الأعداد (3) ص 54 من الأعداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 من ذبائح هذه المدن للشك في أهلية الذابح. سابعا: بناء على ما جاء في تقرير الدكتور الطباع عن طريقة الذبح في ألمانيا الغربية من أن الأبقار تضرب بمسدس في رؤوسها أولا، ثم لا تذبح إلا بعد أن تصير ميتة، لا تؤكل هذه الذبائح (1) . ثامنا: بناء على ما جاء في المقال الذي نشرته مجلة (المجتمع) (2) عن طريقة الذبح بالدانمارك من أن الذابح إلى الشيوعيين والوثنيين أقرب منه إلى النصارى، ومن أن الشركة هناك ليست عندها معلومات عن طريقة الذبح الإسلامي-إلا من جهة الإشاعات-حتى يتأتى لها أن تراعي في ذبحها الطريقة الإسلامية وأن تكتب على الطرود (ذبح على الطريقة الإسلامية) ، وإنما تكتب هذه الصيغة الجهة المستوردة ليصدق عليها هناك من لا يؤمن، مع امتناعهم من تمكين من يريد معرفة كيفية الذبح في الشركة المصدرة من الإطلاع على ذلك (3) وبناء على ما جاء أيضا عن الأستاذ أحمد صالح محايري عن محمد الأبيض المغربي الذي يعمل في تعليب اللحوم بالدانمارك من أنهم يكتبون عليه: (ذبحت على الطريقة الإسلامية) وهذا غير صحيح، لأن قتل الحيوان يتم كهربائيا على كل حال، وبناء على هذا وذاك لا يجوز الأكل من تلك الذبائح. تاسعا: ما ذكر عن ابن العربي من إباحة الأكل مما ذكاه أهل الكتاب من الأنعام والطيور ونحوها مطلقا، وإن لم توافق تذكيتهم التذكية عندنا، وأن كل ما يرونه حلالا في دينهم فإنه حلال لنا، إلا ما كذبهم الله فيه؛ مردود بما تقدم في بيان طريقة الذبح وفي الفتاوى.   1 - ص 63- 67 من الأعداد. 2 - عدد 414. 3 - ص 50 من الأعداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 عاشرا: مما تقدم في بيان كيفية الذبح وديانة الذابحين يتبين أن ما ذكر في كتب (1) وزارة التجارة والصناعة إلى الرئاسة، لا يقوى على بعث الاطمئنان في النفس إلى أن الذبائح المستوردة يحل الأكل منها، بل يبقى الشك على الأقل يساور النفوس في موافقة ذبحها للطريقة الإسلامية، والأصل المنع، وعلى هذا لابد من البحث عن طريق لحل المشكلة. خامسا: حل مشكلة اللحوم المستوردة": يتلخص ذلك فيما يأتي: ا- الإكثار من تربية الحيوانات، والعناية بتنميتها، واستيراد ما يحتاج إليه منها إلى المملكة حيا، وتيسير أنواع العلف لها، وتهيئة المكان المناسب لتربيتها وتذكيتها بالمملكة، وبذل المعونة لمن يعنى بذلك من الأهالي شركات أو أفرادا تشجيعا له، وتسهيل طرق توزيعها في المملكة. وكذا الحال بالنسبة لإنشاء مصانع الجبن وتعليب اللحوم والزيوت والسمن وسائر الأدهان. 2- إنشاء مجازر خاصة بالمسلمين في البلاد التي يراد استيراد اللحوم منها إلى البلاد الإسلامية أو المملكة العربية السعودية، ويراعى في تذكية الحيوانات بها الطريقة الشرعية. 3- اختيار عمال مسلمين أمناء عارفين بطريقة التذكية الشرعية ليقوموا بتذكية الحيوانات تذكية شرعية في تلك الشركات بقدر ما تحتاج المملكة إلى استيراده منها.   (1) ص42- 43 من الأعداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 4- اختيار من يحصل به الكفاية من المسلمين الأمناء الخبيرين بأحكام التذكية الشرعية وأنواع الأطعمة، ليشرف على تذكية الحيوانات وعلى مصانع الجبن وتعليب اللحوم ونحوها في الشركات التي تصدر ذلك إلى المملكة العربية السعودية. وإذا كان اليهود حريصين على أن يكون الذبح متفقا مع عقيدتهم ومبادئهم، فخصصوا لذلك مجازر لهم وعمالا يذبحون لهم كما يريدون، فالمسلمون أحق بذلك منهم وأولى أن يستجاب لهم، لكثرة ما يستهلكون من اللحوم ومنتجات المصانع الغربية، وشدة حاجة أولئك إلى تصريف ما لديهم من لحوم ومنتجات أخرى. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء العضو: عبد الله بن قعود العضو: عبد الله بن غديان النائب لرئيس اللجنة: عبد الرزاق عفيفي الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز وإن ما نقلناه من تقارير المندوبين لهيئة كبار العلماء وتوصيات اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء يكفي لإثبات أن معظم الشهادات المكتوبة على علب اللحوم المستوردة من كونها مذكاة بالطريقة الشرعية لا يوثق بها إطلاقا, وعلى هذا فلا يجوز أكلها ما لم يثبت بطريق موثوق أنه مذبوح بالطريقة الشرعية. وإليكم الآن خلاصة ما توصلنا إليه في هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 خلاصة البحث: 1- إن قضية الذبح ليست من القضايا العادية التي لا تتقيد بأحكام، مثل طرق الطبخ، وإنما هو من الأمور التعبدية التي تخضع لأحكام مشروعة في الكتاب والسنة، بل هو من شعائر الدين وعلاماته التي تميز المسلم من غيره، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله)) . 2- لا يحل حيوان، ولو كان مأكول اللحم، إلا بالتذكية الشرعية التي يشترط لها الأمور الآتية: (أ) أن يقع إزهاق الروح في الحيوانات المقدور عليها عن طريق قطع العروق في الحلق، على اختلاف الفقهاء في تعيين القدر الأقل منها. (ب) أن يكون الذابح، على كونه عاقلا مميزا من المسلمين أو من اليهود والنصارى. (ج) أن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح, فلو تركت التسمية عمدا فالذبيحة في حكم الميتة على قول جماهير الفقهاء، وهو القول المنصور بالنظر إلى النصوص القطعية ثبوتا والواضحة دلالة, وأما من ترك التسمية ناسيا، فإنه معذور تحل ذبيحته, وإن الإمام الشافعي الذي ينسب إليه القول بجواز متروك التسمية عامدا لا يوجد له نص صريح في ذلك، بل تدل عباراته في كتاب "الأم " على أنه إنما يقول بالجواز في حالة النسيان, وقد صرح بالحرمة عند ترك التسمية استخفافا. 3- ذبائح أهل الكتاب إنما أجيزت لأنهم كانوا يتقيدون بالقيود الشرعية عند ذبحهم، فكانوا يحرمون الميتة والمخنوقة والموقوذة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 والفريسة، كما هو مذكور في كتبهم المقدسة التي سردت نصوصها في متن البحث, وكانوا لا يذكرون عند الذبح إلا اسم الله تعالى، ومن هذه الجهة اعتبرت ذبائحهم بمثابة ذبائح أهل الإسلام، وأحلت لهم. 4- وكذلك أحلت للمسلمين نساء أهل الكتاب من جهة أنهم كانوا يلتزمون في أمر المناكحات أحكاما تشابه الأحكام المشروعة في الإسلام، ولذلك يجب لجواز هذا النكاح شرعا أن يقع النكاح حسب الأحكام الشرعية في الإسلام. فكما أن قوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} مقيد إجماعا بأن يلتزم الزوجان بالأحكام الشرعية, فكذلك قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} مقيد بأن يقع الذبح بالتزام الأحكام الشرعية، فإن كلا الحكمين مقرون في نسق واحد. 5- إن قول ابن العربي في حل ما خنقه أحد من أهل الكتاب قول يتعارض مع ما ذكره هو بنفسه من أن أهل الكتاب إنما تحل ذبائحهم إذا التزموا بالأحكام الشرعية, فيؤخذ من قوليه المتعارضين ما هو موافق للنصوص الصريحة ولإجماع أهل العلم. ثم إن القول بالحل مبني على كون المخنوقة حلالا في دين النصارى، والثابت من كتبهم خلافه، فلا يعتد بهذا القول الشاذ. 6- الراجح أن التسمية شرط في حل ذبائح أهل الكتاب، كما هو شرط في ذبائح المسلمين، فإن قول الله سبحانه وتعالى: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} ، يعم المسلمين وأهل الكتاب، وخاصة بالنظر إلى صيغة المجهول في قول الله تعالى: {لم يذكر} . 7- المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى الذين يؤمنون بعقائدهم الأساسية، وإن كانوا يؤمنون بالعقائد الباطلة من التثليث والكفارة وغيرهما, أما من لا يؤمن بالله ولا برسول ولا بالكتب السماوية فهو من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الماديين، وليس له حكم أهل الكتاب، وإن كان اسمه مسجلا كنصراني أو يهودي. 8- اللحم الذي جهل ذابحه في بلاد المسلمين، يحمل على كونه ذكي بالطريقة الشرعية، ويحل أكله، إلا إذا ثبت أن ذابحه لم يذبحه بالطريقة الشرعية, والدليل على ذلك حديث عائشة - رضي الله عنها- في ذبائح الأعراب. 9- وما يوجد في أسواق أهل الكتاب يعتبر من ذبائح أهل الكتاب، إلا إذا ثبت كون الذابح من غيرهم. 10- إن النصارى اليوم خلعوا ربقة التكليف في قضية الذبح، وتركوا أحكام دينهم، فلا يلتزمون بالطرق المشروعة، فلا تحل ذبائحهم اليوم إلا إذا ثبت في لحم بعينه أنه ذكاه نصراني بالطريق المشروع, فلا يحل اللحم الذي يباع في أسواقهم ولا يعرف ذابحه. 11- إن الطرق الآلية للذبح في الدجاج عليها عدة مأخذ من الناحية الشرعية: (أ) غمس الدجاج قبل ذبحه في الماء البارد الذي فيه تيار من الكهرباء، فإنه لا يؤمن منه أن يموت الدجاج بالكهرباء. (ب) تعذر التسمية على ما يذبح عن طريق السكين الدوار. (ج) الشبهة في قطع العروق في بعض الحالات. 12- يمكن أن نختار الطريق الآلي للذبح الشرعي بالطرق الآتية: (أ) أن يستغنى عن طريق استعمال التيار الكهربائي للتخدير، أو يقع التأكد من خفة قوته بحيث لا يسبب موته قبل الذبح. (ب) أن يستعاض السكين الدوار بأشخاص يقومون ويذبحون بالتسمية عند الذبح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 (جـ) أن يكون الماء الذي تمر منه الدجاج بعد الذبح لا يبلغ إلى حد الغليان. 13- الطريق الآلي لذبح البقر والغنم عليه مؤاخذتان: الأولى: أن الطرق التي تستخدم للتخدير من إطلاق المسدس، واستخدام الغاز من ثاني أكسيد الكربون، والصدمة الكهربائية لا يؤمن معها من موت الحيوان قبل الذبح، فيجب تعديل هذه الطرق إلى ما يقع التأكد من أنها ليست مؤلمة للحيوان، ومن أنها لا تسبب موته. والمؤاخذة الثانية أن الذبح قد لا يقع عن طريق قطع العروق. فإذا وجدت الطمأنينة بإبعاد هذين الاحتمالين جاز استخدام الطريق الآلي للذبح. 14- أن ما يستورد من اللحوم من البلاد غير المسلمة لا يجوز أكلها، وإن كان يوجد عليها التصريح بأنها مذبوحة على الطريقة الإسلامية، فإنه قد ثبت أن هذه الشهادات لا يوثق بها، والأصل في أمر اللحوم المنع. توصيات: 1- أن تعنى البلاد الإسلامية بالإكثار من إنتاج الثروة الحيوانية، بحيث لا تحتاج إلى استيراد اللحوم من البلاد غير المسلمة. 2- ولئن احتاجت دولة إلى استيراد اللحوم فلتحاول أن يقتصر الاستيراد من البلاد المسلمة. 3- وإلى أن تصل البلاد الإسلامية في إنتاجها إلى هذا المستوى، فلتفرض الحكومة على شركات الاستيراد أن تبعث وفودا من علماء الشريعة والخبراء إلى الشركات المصدرة، لتطلب منها التعديل في طريق الذبح بما يوافق أحكام الشريعة الإسلامية، تعين في بلدها رجالا من ذوي الغيرة من المسلمين يراقبون طريق ذبحهم بصفة دائمة بطريق يوثق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 به، ولا يصدرون شهادتهم على التذكية الشرعية إلا بعد الطمأنينة الكاملة على حصولها، ولا يصدرون شهادتهم بصفة إجمالية من أن هذا اللحم حلال، أو أنه مذبوح بالطريقة الإسلامية، بل تكون شهادتهم على التصريح بجميع العناصر اللازمة للتذكية الشرعية؛ من أن الحيوان ذبح بيد مسلم أو كتابي سمى عند الذبح، وقطع العروق اللازمة لحلة الحيوان. 4- أن تمنع الحكومات الإسلامية الشركات المستوردة من استيراد اللحوم من بلاد غير إسلامية، ومن استخدام العبارات المجملة من كون اللحم حلالا، إلا بعد إنجاز ما سبق في الفقرة السابقة من الشروط. 5- أن يعقد مجمع الفقه الإسلامي ندوة يدعى إليها المسؤولون من الشركات المستوردة للحوم وممثليهم من شتى مناطق الوطن الإسلامي بقدر الإمكان، لتشرح لهم أهمية القضية، وطريق التعامل المشروع، والتقييد بتوصيات المجمع في هذا الصدد. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 الفهرس الموضوع الصفحة كلمة المؤلف. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 5 (1) أحكام البيع بالتقسيط حقيقة البيع بالتقسيط. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .11 زيادة الثمن من أجل التأجيل. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 12 1- الجزم بأحد الثمنين شرط للجواز. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .13 2- الجائز زيادة الثمن, لا تقاضى الفائدة. . . . . . . . . . . . . . . . . . .14 توثيق الدين وأنواعه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 15 الرهن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 16 إمساك البائع المبيع لضمان التسديد. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 16 الرهن السائل. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .18 الكفالة من طرف ثالث. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .21 توثيق الدين بالكمبيالة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .24 إسقاط بعض الدين مقابل التعجيل. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .25 (ضع وتعجل) في الديون الحالة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 29 الوضع عند التعجيل من غير شرط. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 33 (ضع وتعجل) في المرابحة المؤجلة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .33 حلول الدين بالتقصير في أداء بعض الأقساط. . . . . . . . . . . . . . . . . . .35 مسألة التعويض عن ضرر المصطل. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 37 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 أثر موت المديون في حلول الدين. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 47 (2) أحكام البيع بالتعاطي والإستجرار البيع بالتعاطي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .53 مدى جواز التعاطي في عقود المرابحة الجارية في المصارف الإسلامية. . . . . . . . .56 بيع الإستجرار وأنواعه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .58 حالات الإستجرار بثمن مؤخر. . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . .62 الإستجرار بمبلغ مقدم. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .68 استخدام الإستجرار في المعاملات المصرفية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .72 (3) بيع الحقوق المجردة المقدمة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 77 الحقوق الشرعية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .80 الحقوق الضرورية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .81 الحقوق الأصلية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .82 الحقوق العرفية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .84 حق الإنتفاع بذوات الأشياء. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .84 الحقوق في مذهب الحنيفة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 92 بيع حق المرور. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .94 بيع حق الشرب. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .96 حق الأسبقية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .100 حق العقد. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 103 النزول عن الوظائف بمال. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .103 خلو الدور والحوانيت. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .109 بيع الخلو المتعارف عليه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .115 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 خلاصة الكلام في الإعتياض عن الحقوق. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .116 بيع الإسم التجاري والعلامة التجارية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 117 الترخيص التجاري. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .121 خاتمة البحث. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .121 (4) عقود المستقبليات في السلع تعريف العقود المستقبلية وكيفية التعامل بها. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .129 الحكم الشرعي لهذه العقود. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .136 (5) أحكام الأوراق النقدية الباب الأول: أحكام أوراق النقود والمعاملات التخريج الفقهي للأوراق النقدية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .147 تطور النظام النقدي في العالم. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .148 رأينا في المسألة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 157 الزكاة والأوراق النقدية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .161 أحكام مبادلة الأوراق بالأوراق. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .161 المبادلة بين الأوراق الأهلية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 162 الرأي الراجح في هذا الباب. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 164 مبادلة عملات الدول المختلفة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .166 بيع العملات بدون التقابض. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .168 الباب الثاني: في تغير قيمة العملة عرض المسألة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 171 ربط الديون والقروض بقائمة الأسعار. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 174 كيفية وضع قائمة الأسعار واستخدامها في تقويم النقود. . . . . . . . . . . .179 تعيين البضائع التي تدرج في القائمة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 183 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 تعيين وزن البضائع. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .184 تعيين قيمة البضائع. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .184 مذهب الإمام أبي يوسف في أداء قيمة الفلوس. . . . . . . . . . . . . . . . 184 اعتبار العرف في مثلية النقود. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .188 توصيات. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .191 النقاط التي تحتاج المزيد من البحث. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .192 ربط الأجور بقائمة الأسعار. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 195 (6) أجوبة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية بجدة استفسارات من البنك الإسلامي للتنمية بجدة. . . . . . . . . . . . . . . . . .201 أولاً: عمليات القروض. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .201 ثانيا: عمليات الإيجار. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .202 ثالثا: عمليات البيع لأجل. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .203 رابعا: عمليات التمويل التجارة الخارجية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 203 خامسا: النظر في تقرير العلماء حول الفوائد المجتمعة في المصارف العالمية. . . . .204 الأجوبة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .207 تكليف المستقرضين بأداء رسم الخدمة. . . . . . . . . . . . . . . . .207 1- عمليات الإيجار. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .211 2- البيع لأجل. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .218 3- بيع المرابحة بأجل وتقسيط. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 220 4- الفوائد المجتمعة في البنوك الأجنبية. . . . . . . . . . . . . . . . . . .222 (7) سندات المقارضة وسندات الإستثمار سندات القروض. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .225 القانون الأردني. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .227 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 إطفاء السندات. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .232 ... المسألة الأولى: استرداد مال المضاربة في حين أنه غير ناض. . . . . . .233 ... المسألة الثانية: استرداد المال بطريق البيع في عقد المضاربة. . . . . . . .234 ... المسألة الثالثة: إطفاء السندات على قيمتها الإسمية. . . . . . . . . . . .235 السؤال الأخير. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 237 (8) الطرق المشروعة للتمويل العقاري 1- البيع المؤجل. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .245 2- الشركة المتناقصة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 249 (9) زراعة عضو استؤصل في حد أو قصاص نقاط البحث. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 261 المسألة الأولى: زرع المجني عليه عضوه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .262 مذهب الحنفية في المسألة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .266 مذهب الشافعية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .268 مذهب الحنابلة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 268 القول الراجح في المسألة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .269 المسألة الثانية: إعادة الجاني عضوه المقطوع بالقصاص. . . . . . . . . . . . . . . 271 المسألة الثالثة: هل العضو المزروع في المسألتين نجس؟ . . . . . . . . . . . . . . . .275 المسألة الرابعة: إعادة العضو المبان في حد. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 283 (10) قواعد ومسائل في حوادث المرور الضرر وضمانه في الشريعة الإسلامية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .290 قواعد فقهية تتعلق بالضرر والضمان. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 293 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 1- المرور في طريق العامة مباح بشرط السلامة. . . . . . . . . . . . . . . .293 2- المباشر ضامن وإن لم يكن متعديا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .294 3- المسبب ضامن وإن كان متعديا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .303 4- إذا اجتمع المباشر والمتسبب. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .304 حوادث السيارات. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 310 ... ما مدى مسؤولية السائق بما حصل بسيارته. . . . . . . . . . . . . . . . . .311 ... ما يستدل به على تضمين السائق. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .317 (11) أجوبة عن استفتاء للمركز الإسلامي بواشنطن سرد المسائل التي يكثر تساؤل المسلمين عنها في الأمريكتين الشمالية والجنوبية وأوروبا أجوبة عن التساؤلات. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .329 1. التجنس بالجنسيات الأجنبية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .329 2. خطورة تنشئة الأبناء المسلمين في البلاد الأجنبية. . . . . . . . . . . . . . 331 3و4- زواج المسلمة بغير المسلمة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 332 5- الدفن في غير مقابر المسلمين. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .332 6- حكم بيع المساجد. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .332 7- سفر المرأة بغير محرم. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .337 8- أقامة النساء بمفردهن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 338 9- حجاب الوجه والكفين. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .338 10و11- العمل في المطاعم التي تبيع الخمور والخنازير. . . . . . . . . . . 338 12- حكم الأدوية المركبة من الكحول. . . . . . . . . . . . . . . . . . . 340 13- الخمائر والجلاتين المتخذة من الخنازير. . . . . . . . . . . . . . . . . .341 14- حفلات الزواج في المساجد. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .342 15- التسمي بالأسماء النصرانية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .342 16- النكاح بإضمار نية الفرقة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 342 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 17- التزين في محلات العمل. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .343 18- مصافحة المرأة للأجانب. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 343 19- استئجار الكنائس لإقامة الصلاة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 343 20- حكم ذبائح أهل الكتاب. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 343 21- حضور المناسبات التي فيها منكرات شرعية. . . . . . . . . . . . . . . .344 22و23- (لم يجب عنهما) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .345 24- عمل المسلم في دوائر الحكومات غير المسلمة. . . . . . . . . . . . . . . 345 25- بناء المسلم كنائس النصارى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .345 26- عمل الأزواج والآباء في بيع الخمور. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .345 27- التبرع للكنيسة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .346 28- شراء المنزل بواسطة البنوك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 346 (12) أحكام الودائع المصرفية معنى الوديعة المصرفية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .349 أنواع الودائع المصرفية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 350 التكييف الفقهي للودائع المصرفية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .351 ودائع البنوك التقليدية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .352 هل يجوز إيداع الأموال في البنوك التقليدية؟. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .355 الإيداع في الحساب الجاري من البنوك الربوية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . 357 تكييف الودائع في المصارف الإسلامية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .361 ضمان الودائع المصرفية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .362 استخدام الحساب الجاري كرهن أو ضمان. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .364 رهن الوديعة الاستثمارية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .366 طريق محاسبة الودائع المصرفية. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 366 طريق محاسبة الربح للمودعين في حساب الاستثمار. . . . . . . . . . . . . . . .370 حساب الإنتاج اليومي. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .374 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 (13) أحكام الذبائح واللحوم المستوردة مقدمة البحث. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 383 التذكية الشرعية وشروطها. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 386 ... أ-طريق إزهاق الروح. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 387 ... آلة الذبح. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .390 ... إزهاق الروح بغير قطع الأوداج. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .391 ... ب-التسمية عند الذبح. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .393 ... ج-شروط الذابح. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 401 مسألة ذبائح أهل الكتاب. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .404 ذبائح الماديين والدهرين المتسمين باسم النصارى. . . . . . . . . . . . . . . . . .414 حكم ما جهل ذابحه. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 416 طرق الذبح الآلية الحديثة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .417 ذبح الدجاج. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 417 نتائج البحث في الطريق الآلي لذبح الدجاج. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 428 الذبح الصناعي للأنعام. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 429 حكم اللحوم المستوردة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .432 قرار هيئة كبار العلماء بشأن اللحوم المستوردة. . . . . . . . . . . . . . . . . . .435 حل مشكلة اللحوم المستوردة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .439 خلاصة البحث. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .441 الفهرس. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .447 لمحة عن مؤلف هذا الكتاب. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . 445 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 لمحة عن مؤلف هذا الكتاب - رئيس القضاة في القسم الشرعي بالمحكمة العليا , لدولة باكستان. - نائب رئيس جامعة دار العلوم كراتشي. - عضو, ونائب رئيس مجمع الفقه الإسلامي - جدة, السعودية. - رئيس أو عضو عدة هيئات الرقابة الشرعية للمصارف الإسلامية. -كتب أكثر من تسعين مؤلفا في اللغات: العربية, الأردية, الإنكليزية. ومن أهمها تكملة (فتح الملهم بشرح صحيح الإمام مسلم) في ستة مجلدات. - له مساهمات فعالة في المؤتمرات والندوات الفقهية العالمية. وله نشاطات دعوية سافر من أجلها إلى معظم البلدان الإسلامية, وإلى أوروبا, وأمريكا, وأفريقيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456