الكتاب: ريحانة الألبّا وزهرة الحياة الدنيا المؤلف: شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي (المتوفى: 1069هـ) المحقق: عبد الفتاح محمد الحلو الناشر: مطبعة عيسى البابى الحلبى وشركاه الطبعة: الأولى، 1386 هـ - 1967 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا الشهاب الخفاجي الكتاب: ريحانة الألبّا وزهرة الحياة الدنيا المؤلف: شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي (المتوفى: 1069هـ) المحقق: عبد الفتاح محمد الحلو الناشر: مطبعة عيسى البابى الحلبى وشركاه الطبعة: الأولى، 1386 هـ - 1967 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم حَمداً لمن سرَّح عيونَ البصائر في رِياض النعِّم، رياض زهَت فيها رياحين العقول، وتفتَّحتْ بنسِيم اللطف أنوار الحِكَم، فاجْتنَت منها أيدي المُنَى فواكه الأرواح، واقتطفت شَقيق الشَّقيق من بين أقاحِي الصَّباح، والنَّدَى طرَّز برد النسيم ببَلالِه، لمَّا رأى مجامِرَ الزَّهْرِ تحت أذياله. مَن قبل أن ترشِف شمسُ الضحى ... ريقَ الغَوادي من ثُغُور الأقاحْ وأشكره شكراً يطوِّق جيدَ البلاغة نظِيمُ عقوده، وينسِج ببَنان البيان لي مِنوال البراعة رقيقُ بُروده، على نِعمٍ لا تفنَى من معان الوجود جواهرُها، ولا تذوِي من خمائل الفصاحة أزاهرُها. ونُهدِي صِلات الصَّلاة لناظم عقد الدين بعد نَثْره، المُؤيَّد بآياتٍ لا يزال يتلوها لِسانُ الدهر ولو طار نَسْر السماء من وَكره، وكَلَّت دونها ألسنةُ أَسِنّة الطَّاعنين، وحُمِيت حديقتُها بشوكة الإعجاز فلم تلمسْها يدُ أفكار المعارضين، فصار السابقون في حَوْمَة البلاغة، الماهرين في صناعة الصِّياغة، ما بين ساكتٍ أَلْفا، وناطقٍ خَلْفا، ومُشمِّرٍ ذيلَه، ومُدَّرِعٍ ليلَه تسرْبَل سابغةَ دُجى، قَتيِرُها نجومُ ليلٍ دجا، حتى اشتفَتْ نفسُ الإسلام من دائهم، وزال كلَب الكفر بما أُريق من دمائهم، فبيوتُهم خاوية، ونفوسُهم على أثر تلك البيوت قافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وعلى آلِه الذين تفتَّحت لهم كمائمُ المعاقل عن زهرة النَّصر، وتحلَّى بعقود عُهودهم جِيِدُ كلِّ عصر. فجَنوا لهم ثمرَ الوقائع يانعاً ... بالْغُرِّ من ورق الحديدِ الأخضرِ لا زالت سُحُب الرَّحمة المُطَنَّبة بالقطر مخيَّمةُ على مراقدهم، ولا برحْت تَحايا المُزْن مُهينِمة بلسان الرَّعد على معاهدهم، ما سقى غديرُ المجرَّة روضةَ السماء، وزَها نَرجِس النَّجم تحت بَنَفْسج الظَّلماء. هذا وإني كنت قبل أن تُشِيب منِّى الخطوبُ الذَوائبَ، وتصبحَ كبدي وأحشائي بلظَى النَّوائب ذوائبَ، والزمان ربيعٌ، ورَوْض الشباب مَرِيع، أعد الأدبَ عنوانَ صَحائفِ الشَّمائل، وبيْتَ القصيد في ديوان المآثر والفضائل، أُنْفِق نَقْد عمري في اقتنائِه واقتناصِ شوارده، وأملأُ صدَف المسامع مما يستخرج غوَّاصُ الأفكار من فرائدهِ، وأَشِيم بارقةَ السّحر من نفَثاتِه، وأشُمُّ عبِير السرور من أرْدَان نسماتِه، وأرتَشِف من طَبْعي ما يَنِمّ على سرِّ الزُّجاجة، وأشْتَفُّ منه ما أسْأرَتْه الجُدودُ من ذُؤابة خفاجة، صُبابةَ مجدٍ لم يكدِّرها في جامِ المشارب وِرْدُ الخطوب، واْزدِحامُ الشَّوائب. فإنِّي من العرب الأكرمين ... وفي أوَّل الدهرِ ضاع الكرمْ وما زلتُ على هذا الحال، منذ فارقني الحال، لا دأب لي إلا تلقى وفُودِه، لاسْتهداء تُحَفِ الأخبار التي هي ألطفُ من دمع الطَّلِّ في وجَنات الأزهار. ومَن يسألِ الرُّكبانَ مَن كان نائيا ... فلا بُدَّ أن يلْقَى بشيراً وناعِيِاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ومن أحاديث يُشفَى بها الغَليل، ويصِحُّ مِزاج النَّسيم العليل، تنْفتِح منها في رياض المُسَامَرة، مِن أجْفان الكمائِم عيونُ أنوارِها الزَّاهرة، ويحسُو فَم السَّمع منها ماءُ حياة يُطِيل عمرَ المسرَّة، وتكتحِلُ منها المآثرُ بما هو لعيونها قُرَّة، من كل من هو لتْشييد المجد أكرمُ بانِي، حتى تكفل الثَّناء له بعمر ثاني، يشِيب في وجه السماءِ حاجبُ القمرِ هلالا، ويشتعل رأسُ الشمس شيباً ولم يَرَ له مِثالاً. إذا ما روَى الإنسانُ أخبارَ مَن مضى ... فتحسَبُه قد عاش مِن أوَّلِ الدهرِ وتحسَبه قد عاش آخرَ دهرِه ... إلى الحشْر إنْ أبقْى الجميلَ مِن الذِّكرِ فقد عاش كلَّ الدهر مَن عاش عالماً ... كريماً حليماً فاغتنْمِ أطولَ العُمرِ وسواءٌ تلفُّتُ المريض للطبيب، وفَرحةُ الأديب بِلقَا الأديب، لا سيَّما أهل العَصر، الهاصِري أغصانَ المُنَى ألطفَ هصْر، القائلين في رياضِها، الواردين نَمِيرَ حياضِها، فقد سرَتْ كلماتُهم مَسْرَى الأرواحِ في الأجساد، وأُثْنَى عليها ثناءَ نسيم الرياض على العُهَّاد، وقد انتصر لكلِّ عصرٍ مَن أحْيَا مَيْتَه، وعَمَّر من دارس عهودِه بيْتَه، كصاحب) اليتيمة (و) قلائد العِقْيان (و) المية (و) الذخيرة (و) عقود الجُمَانَ (، وحَمِيَّة المرء لعصرِه، وقيامُه على منابر نصْرِه، من آياتِ الفُتوَّة، التي هي على لسان الحميَّة متلُوَّة، فليس منَّا مَن لم يَغْتَذِ بِدَرِّ المجد في مِهادِه، ولم يفتخِرْ في المحافل بأُستاذِه وإسنادِه، إلا أن الأدبَ في هذه الأعصار، قد هبَّتْ على أطلالِه ريحٌ ذاتُ إعْصار، حتى أَخْلَقتْ عُرَى المحامد، واسترْخَى في جرْيِه عِنانُ القصائد، وتقلصتْ أذيالُ الظِّلال، وخطب البلاءُ على منابر الأطْلال، وعفَا رَسْمُ الكرام، فعليه منِّى السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وممَّا أعان عليَّ الزمانَ ... عَفافُ يدِي وعُلُوُّ الهِمَمْ والرُّؤساء شعراء لا ينظِمون ولا ينثرون، وما فيهم مِن صفاتِ الشُّعراء إلا أنَّهم يقولون ما لا يفعلون، وإذا كذَب مادحٌ أحدَهم اهْتزَّ وطرِب، وجَازَى مِن سَراب وعدِه بكذِب على كذِب، وبالوعد القَطير لا يخَّمر الخَمِير. وبأحْسَنْتَ لا يُباع الشَّعيرُ وبرَعْد الوعد، لا يْسقَى غَرس الحمد فلا تلوموه في وَعدِ يُردِّدُه ... في وقتِ مدْحِي له علَّمْتُه الكذِباَ ومع هذا، فكم هبَّتْ لهم أنفاسٌ معطَّرةٌ بالنجاح، مُزْرِية في وقتها بأنفَاس الصَّبا في الصَّباح، يُهزّ السَّماحُ هِيف معاطِفِه، وينشرُ تحت أقدامِها الزمانُ بِساطَ عواطفِه، تتمسَّك كف الشَّمال بأذْيالها، وتتفيَّأ العشَّاقُ في هجير الأشواق ضَافِيَ ظلالها، وترِدُ صافيَ زُلالِها، مِن كلِّ حديثٍ تَلِيد وطارِف، له وَشْيٌ كوَشْيِ المطارِف، تزهُو به الطُّروس على صفحاتِ الخدود المُحَسَّنات بالسَّوالِف، في كل ورَقةٍ منها خمائل، تسوغُ مياهُ فصاحتِها في لَهَواتِ الجداول. تكادُ يدِي تنْدَى إذا ما لمستُها ... وينبُتُ في أطْرافِها الورقُ الخضْرُ مِن كل مَن ألحق المتأخِّر بالمتقدِّم في تطْبيق مفاصِل معانِيه، وإخراج مُخَبَّآتِ عِطْره من جُونَة مبانِيه، وإن تأخَّر عصرُه فلا بَاس، في تأخُّرِ النتيجة عن القِياس، والخدمُ تتقدَّم بين السَّادة، والسُّنَن أُمِر بتقيمها على الفروضِ في العبادة، وتقدُّم الآحاد، يرقي مرتبة الأَعداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 أو مَا ترى أن النبيَّ محمداً ... فاقَ البريَّة وهْو آخِرُ مُرسَلِ فيا أدِلاَّء الهُدَى إني آنستُ من جانب الطُّور ناراً بها تَهْتدون، أو آتيكم بِشهاب قبسٍ لعلكم تصْطَلون، فإن لم يترُك الأوَّل شيئاً للآخِر، فخيرٌ من الكثير الغائب القليلُ الحاضر، ويا مَن هم في مُحَّيا الأيام حسَنة، لقد كان لكم في رسول اللهِ أُسْوة حسَنة، فلا يُزْرِ النَّورْ تأخُّرُه عن غِراس أغْصانِه، ولا يُكِلّ مَضاءَ السِّنان كونُه في أطْراف مُرَّانِه، على انه قد تتساوى الآصالُ والبُكُر، وتتشابه طُرَرُ العشِيَّات والسَّحر، وليس إلا للحسد رغِبتْ الطَّبائع، عن محاسنَ للعصرِ هي مِلءُ الأفواهِ والمسامِع. وما شُكْرُهم للمَيْتِ إلاَّ لأنَّه ... بما حلَّ في أيديهِمُ غيرُ طامِعِ وللهِ دَرُّ ابن رَشِيق، في قوله: أُولِعَ الناسُ بامْتداح القديمِ ... وبذمِّ الجديدِ غير الذَّميمِ ليس إلاَّ لأنهمْ حسَدُوا الحيَّ ... فرقُوا على العظامِ الرَّميمِ والحُرُّ وإن حلَّ تيهاً وَبادِية، فستغدُو محاسنُه على رغم الخمول بادية، ولنا في ذِمَّة الدهر ديونٌ بأوقاتها مرهونَة، فإذا جاء إبِّانُهَا فكَّ الزمانُ رُهُونه. على أنِّي أستغفر اللهَ مِن دهرٍ كلَّت فيه مُرهَفاتُ الطِّباع، ونفَضت الآمالُ فيه يدها من غُبار الأطماع، وَافيْناه على الهِرَم، وقد قلع ضِرْسَ النَّدم، بعد ما أكل باكورةَ الكرماء، وشابتْ بالصباح لياليه الدَّهْماء، ودبَّ خَرِفاً على عصا الجوْزاء. وكنتُ لما ذُيل بالنَّوى عيْشِي النَّضِر، وَلَيْت سِياحةَ الآفاقِ فَصِرت خليفةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الخَضِر، تهادتْني التَّنائِف، وقذفَتْنِي الأمانيُّ في لَهَوات المخاوِف، كأنِّي قَذَاة بأجفانِ الدهر، أو سَفَاة بوجْه نهر، أو كُرَة لاعب، أو سهم محارب، طَوْراً أُشَقِّق قلب الشرق كأنِّي أُفتِّش على الفجْر، وتارةً أُمزِّق كِيس الغرب حتى كأنِّي أُريد أن أُخرِج منه دينار البدْر، أُفلِّي لُمّةَ دجَا، شاب فوقَها فِرْقُ ابنُ جَلا، يُخَّيل لي أن البلادَ مَسامع أنا فيها مَرُّ الْمَلام، أو فكْرَ بليدٍ أنا حَوْله معنًى دقَّ أن تتصوَّره الأوْهام، غريبٌ في عيون الظُّنون، كأنِّي بيت حسَّان بن ثابت في ديوان سَحْنون، أو مُصحَفٌ في بيت زِنْدِيق، أو عابد في صَوْمعةِ بِطْرِيق، أو بِكرُ معنًى سار في مثَل، أو غَضٌّ عمرٍ جرى خلفَه رائدُ أجَل، أو خَبَر لم يصِحَّ له سنَد، فلم يقبلْهُ من الثِّفات أحد، كأنَّ له دَيْناً على كلِّ مشرقٍ ... مِن الأرض أوثَاراً لَدَى كلِّ مغربِ أرِدُ مواردَ الحُوب، مُكدَّرة بغُصَص الخطُوب، فلم أُرِبّ ببَدْوٍ ولا حظَارة، كأنَّني من الشُّهب السَيَّارة، وقد قيل تنزِل الألقابُ من السَّما، فلكلٍّ من أسْمه نصيبٌ انْحطَّ أو سَمَا. وطني حيثُ حطَّتِ العِيسُ رَحْلِي ... وذراعِي الوِسادُ وهْيَ مِهادِي فكل جوْلي بين إبْراقٍ وإرْعاد، وأمانيّ في مَهامِهِ الحيرة بين إتْهامٍ وإنْجاد، والزمان يُضمِر سَلْبَ ما أوْلاه بُخْلاً إن جَاد، وألسنةُ أبنائِه عن الإجابة صُمْت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وآذانُهم عن صَرِيخ الاسْتغاثةِ صُمَّت، فقد خلاَ من المكارم مَغْناها، وأصبح لا يجاوِب البُومَ إلاَّ صَداها. لكنني مع أهواله، ودُروس رُسوم السرور في أطْلالِه، وإن توسَّدتُ ذراعَ الهمِّ في دياجيها، وقطعتُ ظُلمةَ الشَّدائد في سَنَا بدْرِ أمانيها، أتعلَّل بأن السيفَ لا يقطعُ في قِرابِه، والليثَ لا يصِل لغرض الفرائس في غابِه، ولولا مُفارقة القوس ما أصاب سهم، ولولا بُعْد الدُّرّ عن الصَّدف لم يَظفَرْ من الغِيد بأوْفَى سهم، فلذلك أُضَاحِك مباسِمَ الأمانِي، وأُغازِل عيونَ الآمال والتَّهاني، وأُنزِّه طَرْفي في رياض الدَّفاتر، ولم أَقِل مع السرور إلا في ظلِّ طائر، فزمان مسرَّاتي أقصرُ مِن عمر المكارم، وفؤادي لم يهْتَدِ إلى طُرْق سَلْوة المُدَام، في أُوَيْقات أثقل من السُّؤَّال، وأطول من عمر الآمال، أشْأمُ مِن وجه خَنَّاس، وأثقلُ من غريمٍ مُلِحٍّ على إفْلاس. ولم يكْفِ الدَّهرَ ما ورَّثنِيه من الحِرمان، حتى ابْتلاني بعد الإثْبات بالنَّفْي كأنِّي نِكْتُ أُمَّ الزَّمان، وأنا أستغفر الله جلَّ وعلا، ولا أرْتضى بمَعرَّة أبي العَلاَ، في قوله: إذا ما ذكرْناَ آدماً وفعِالَه ... وتزْويجَه لابْنَيِهِ بِنْتيْهِ في الْخَنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 علِمْناَ بأنَّ الخلقَ مِن نسلِ فاجرٍ ... وأن جميعَ النّاسِ مِن عُنْصُر الزِّناَ فإنه كفرٌ مِن وَسْوسة الشياطين، وغُلُوّ مِنْه في خَلْعِه رِبْقَهَ الدين، بل أقولُ ما قال ابن عُنَين: أنْفُوا الُمؤذِّنَ مِن بلادِكُمُ ... إن كان يُنْفَى كلُّ مَن صدَقاَ وللحسن بن أبي عُقامة في الردِّ عليه، أي على أبي العلاء: لَعَمْرِي أمَّا فيك فالقولُ صادقٌ ... وتكذِبُ في الباقِين مَن شَطَّ أو دَناَ كذلك إقرارُ الفتى لازمٌ له ... وفي غيرِه لَغْوٌ كذا جاء شرْعُناَ فلا سَمِير لي أجالسه، ولا نديمَ لي أؤانِسه، سوى أوراقٍ كنت خلعت عن مَنْكبِ الإقبال بُرْدَها الخلِيع، وجعلتُها كبَيْت العَرُوض ادِّخارُها للتّقطِيع، فوجدتُ فيها نُبذاً مِن المحاسن أسرَّها الدهرُ في خاطره، شاهدةً لقوْلِ مَعْدِن الحِكَم:) أمَّتِي كَالْمَطَر لا يُدْرَى الْخَيْرُ في أَوَّلِهِ أَمْ فِي آخِرِهِ، ممَّن جَرَّ عليه الزمنُ أذيالَ الفَنَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وأسكنه تحت أَطْباقِ الثَّرى، فحلَّ مُخَيَّمَ البِلَى، كأنه سِرٌ في صدرِه، ومِن باقٍ على هامةِ الليالي تعْبَق أنفاسُ الرُّواةِ بذكْرِه، ممَّن ركِبتُ لرُؤْياه مطايَا أُمِّ عمري، أو نابتْ عنِّي في مشاهدتِه أهلُ عصْرِي، فاجتلَوتُ مُحيَّاه، أو رأيتُ من رآه، حتى طرِبتُ على الاسْتماع، وعلمتُ أن الذِّكرَى طَيفُ الاجتماع، وإذا كان الحِبُّ مَنُوع، فالصَّبّ قَنُوع، يتعلَّل ببارق ثَنَّية، وتكْفِيه لمْحةُ إشارة لمحة إشارةٍ أو تحيَّة. فإن تمنُعوا ليلى وحُسنَ حديِثها ... فلن تمنُعوا مِنِّي البُكا والقوافِيِاَ فهلاَّ منعتُمْ إذ منعتم حديثَها ... خَيالاً يُوافِيِني على النَّأْيِ هاديَا فجمعتُ منها ما هو لطَرْف الدَّهر حَوَر، ولجِيد الأدب عِقْد يبْسَم منظومُه هُزْؤوا بعِقد الدُّرَر، ولكاس الأدب خِتام، ولعِقْد حُبَابه نِظام، تُذكِّر العهودَ والمودَّة وتطلع في وَجْنة الوفاة ورْدَة، وتندُب من ألْقى للبَلاء قِيادَه، وتُلبِس عليه وجْهَ الطِّرس حِدَادَه، وتسجُد الأقلام في محراب طِرسها الذي هو المحاسن جامِع، ويَودُّ كل عضو إذا تُلِيتْ أحاديثُها لو أنه مسامِع، وهي وإن كانت عِقْداً منتثراً دُرُّه، وأُفُقاً تبدَّد بيد الصباح زُهْرُه، ونَوْرّاً نشرتْه كفُّ الشَّمال، فانتظم على ترائِب الماءِ السَّلْسال، فلرُبَّما نُثِر العِقْد المُفصَّل، ليعود أحسنَ في النِّظام وأجْمل. فهذه ذخائرُ من) خبايا الزَّوايا، فيما في الرِّجال من البَقايا (تنفَّس الدهرُ بها عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 نفْحةٍ عنْبَريَّة، وهبَّتْ بها أنفاسُه النَّدِيةُ نَدِيَّة، تنفُّسَ الروض في الأسحار بأفواه العبير عن أفْواهِ النَّوْر والأزهار. يَسْرِي على رَيْحانِها نفَسُ الصَّبَا ... سحَراً فُيوهِم أنه ذِكْراهَا فلذا سمَّيْتُها:) ريحانة الألِبَّا، وزهرة الحياة الدنيا (فإني شمَمْت بها روائحَ الشَّباب، ونظرتُ في مِرآتها وُجوهَ الأحباب، وتذكَّرتُ غابِرَ الأيَّام، إذ العيش غضٌّ والزمان غُلام، مِن أعلام شم الأنُوف إن دعي بهم بوّ الصغار تشَّمخ، في غُرَر أيامٍ تُقام بها مواسمُ الدهرِ وتُؤرَّخ. وجعلتُ مِسْك الخِتام، ذكَر سادةٍ من العلماء الأعلام، فإنَّ بصَبا أنفاسهم ينْقشِع غَمامُ الغُمَّة، وبذِكْرِهم في نادِينا تنزِلُ الرَّحْمَة. فإن عَذُبت مواردُها، فَلْتُقرَن بالدعاء فرائدُها، فإن عُثِر منها على كَبْوة، فليَبذُل لها اللبيبُ عفوَة. على أنَّني راضٍ بأن أحملَ الهوَى ... وأخلُصَ منه لا عَلَيَّ ولا لِياَ وها أنا ذا أُمتِع الأسماع، بربيع أحْوَى الظِّلال الْمَى التِّلاع، فإذا رأيتَ كلاماً لأهل العصر لم تترنَّح أعطافُه لهذا النَّسيم، فتمتَّع من شَمِيم عَرارِ نجدٍ فما بعدَه من شَمِيم، فليس مِن ليْلِى ولا سَمَره، ولا مما يُهدَى لنا من الأدب باكورةُ ثَمرِه، فكم من أشعار، للبُخل فيها أعذار: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 تَا اللهِ ما بخِل الكرامُ وإنَّما ... لِبُرودةِ الأشعارِ قد جَمُد النَّدَى فما كل مُرتفِع نَجد، ولا كل وادٍ يُنبِت الشِّيحَ والرَّنْدِ، وما كل سَوْداء تَمْرة، ولا كل صَهْباء خمرَة ولا كل بيْضاء شَحْمة ولا كل حمراء لَحْمة ولا كل نبْتٍ يعلو بنَمَائِه، ولا كل بَرْقٍ يجود بمائِه. اللهم بحُرمةِ سيِّد الأنام، كما يسَّرتَ الابتداء يَسِّر الاختتام، صارفاً عنا سُوءَ القضا، ناظراً إلينا بعيْنِ الرِّضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 القسم الأول في محاسن أهل الشَّام ونواحِيها ومن برز مَن بَرَزَ سُرَّةِ رُبَاهَا وبطن وَادِيها، وتغذَّى بنسِيِمها، وتربَّى في حِجْرِ رياض نعيمها وقال في ظلالِ أغصانها، المُتعانِقَة هوًى وَوُدَّاً، وتعطَّرَ بأنفاس شَمَائلِها، التي صارت للنَّدِّ نِدَّاً، وطعِم من مائِها العذب وَرَوِى بِذَؤبِ لؤلؤها الرَّطْب، وهو ماءُ الحياة في سائرِ الصِّفات إلا أنه في نور التَّقديس وهو في الظُّلماتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 أحمد العِنَايَاتِيّ صديقُ الصِّدق، وخِدْن الصلاح، شقيق النَّدى، وتِرْب السَّماح، رَوض سجيَّته غضٌّ ناضر، لو رآه المُتَنِّبي لقال ما هذا إلا ساحر، خلَب الأسماع بنَفَّاثاتِه، ونسَج على مِنوال الرِّقَّة حُللَ عِناياتِه. ذو حسَب تَليِد، وبَاعٍ في المجد طويلٍ مَدِيد، لم يُسطَّر مثلُ محاسنِه في كتاب الزمان، ولم نُملأ بأنْفسَ من جواهره حِقاقُ الآذان، فيالَها جواهر إذا شاهدها مُفنقِر إلى البيان، أغْناه يا قوتُها وجوهرُها، وخَرائد جَمَعت له بين الحُسْن والإحسان منظرها طِّيب ومخبرها، تُغرِّد على قُضُب براعتهحمائمها، وتفرح أنوارُ بلاغتِه إذا فَضَّت الطُّروس عنها كمائِمها، طلعت شمسُ الأدب من أُفُق أشعارِه، وتفجَّرت ينابيعُها من خِلال آثارِه. وهو الآن في جبهةالشام غُرَّة، وفي حدائقها النَّضِرة زُهَرَة، وفي سماء كمالها الزَّاهية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 زُهَرَة، وقد حَلَّى بحُلَل الزهد كمالَه، ورأى برأْيِه الصَّائبِ أسْماَلَه أسْمَى لَه، لم يحتفِل بأمر غَد، قانعاً بظلِّ الخُمول نكَداً أم رَغَد، قائِلاً في خمائِله الرِّحاب، عفَّ السَّريرة طاهرَ الأثواب، لم يَشْرَق بسُؤال، ولم يَغَصّ بنَدامة الآمال، ولم يأْلَف سكَنا، ويتوطَّن مَسْكناً. كما قيل: ومِن عجيبً أن أكونَ شاعراَ ... وليس لي في النَّاسِ بيتٌ يُعرَفُ كما وصف زِيّه في قصيدته الزَّائيَّة بقوله: إذا لم أعِزَّ فمن ذا يعِزُّ ... وفَقْرِي وقَنعِي كنْزٌ وحرْزُ لِبستُ من اليأْس في الناسِ ثوباً ... عليه من العقْل والفضْلِ طَرْزُ ولستُ أدرى الذُّلَّ إلا إذا كا ... ن في الحُبِّ والذلُّ عِزُّ ومثْلِيَ حرُّ عَبَاةٌ غِنَاهُ ... إذا استعبدَ الناسَ خَزٌّ وبَزُّ وسِيَّان مَن حَبَّ أو مَن قَلَى ... ومَن راح يمدحُ أو راح يهْزُو ومن غرره قوله: قلبي على قَدِّك الممشوقِ بالهيَفِ ... طيرٌ على الغصن أم همْزٌ على الألفِ وهل سُوَيْداه أم خَالٌ بخدَّك أم ... خُويدِمٌ أسودٌ في الرَّوضةِ الأُنُفِ وهذه غُرَّوٌ في طُرَّةٍ طلعتْ ... أم بدرُ تِمٍّ بدََا في ظُلمةِ السُّدَفِ تخْفى النجومُ بنورِ البدر وهو بنُو ... ر الشمس وهْيَ بنُور منك غيرُ خَفِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 يا بدرُ وطرفي فيك مُنتصِفٌ ... بالوصْل منك وهذا غيرُ مُنتِصفِ القلبُ واصَلْتَ فيه وَصْلَ مُمتزِجٍ ... والطَّرفُ صَدَّيت عنه صَدَّ مُنحرِفِ ظَبْيٌ تألفَّتُ منه غيرَ مُلتَفتٍ ... غُصنٌ تعطَّفتُ منه غيرَ مُنعطِفِ شِفاءُ حَرِّ غليلي بَرْدُ رِيقَتِهِ ... والُبرْءُ مِن دَنَفي في لَحظِهِ الدَّنِفِ وَيْلاهُ من وردِ خدٍّ غيرِ مُقتَطفٍ ... مِنْهُ ومن خَمْرِ ريقٍ غير مُرتشَفِ عذلتُ عاشقَ عَذْلي في محبَّتِهِ ... فاعْجَب لذي شَغَفٍ يلْحِى على الشَّغِفِ يظُنُّ أن سِواه منهُ لي خَلَفٌ ... أساء في الظَّنِّ هل للروح من خَلَفِ عُذْريَّ عِشقي عُذْرِي فيه مُتِّضِحٌ ... كوجهِه وهو مثلُ الشمسِ في الشَّرَفِ فنِيتُ سُقماً بِخَصْرٍ منه مُخَتَصَرٌ ... فيه وطَرْفِي ونوْمي جِدُّ مُختِلفِ يطير قلبي إلى ألحاظِهِ شَغَفاً ... فاعْجَبْ له كيف يرْمى السَّهْمَ بالهدفِ يا أيها الرَّشَأُ الضَّارِي على مُهَجِ الْ ... آسادِ بالسَّيْف مِن جَفْنَيهَ لم يَخِفِ بما بحُسِنك مِن تِيهٍ ومن صَلَفٍ ... وما بعِشْقِيَ من ذُلٍّ ومن كَلفِ الله في كَبدٍ للوجدِ في كَمَدٍ ... إليك أسْرَف فيها الشوقُ في السَّرَفِ ومُغْرمٍ ماله مِن مُسعِفٍ لعبتْ ... به اللَّواعجُ لِعْب الرِّيح بالسَّعَفِ أشْفَى مِحَاق الضَّنَى لما هجرتَ به ... على التّلاف ولو واصلْتَه لشُفِي يا باخِلاً بلِقاهُِ باذلاً لدمى ... فالوعدَ يُخلِف منه والوَعيد يَفي حُزتَ الجمالَ ألا تُولىِ الجميلَ فقد ... يُصادَفُ الحُسن بالإحسان في الصَّدَفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ) تتمة (اعتُرض على هذا المطلع بأنه لا وجه لتشبيه القلب بالهَمْز. وأٌجيب بأن له وجهاً؛ لأنه وقع تشبيههُ بالطائر لخفقاته، وهم قد شبَّهوا الطيرَ على الغصن بالهمز، والغصنَ بالألف، ولما شاع هذا شبَّه به القلب، وقدَّ الحبيب، فهذا في باب التشبيه كالمجاز على المجاز، والنكاية على الكفاية، كما قيل في وصف قصيدة هَمْزيِّة: والقوافي إليك حَنَّتْ حنِيني ... فنأمَّلْ فهمْزُها ورْفاءُ وقوله:) والبُرْءُ مِن دَنَفيِ (إلخ، معنى مشهور، كقول أبن مَطْرُوح: أشتكى سِقَمِي إلى أجْفانِه ... ومتى يُشْفَى سِقامٌ بسِقَمْ وقوله: ورنا إليّ بطَرْفهِ فكأنما ... أهْدَى السِّقامَ لُمدنَفٍ من مُدْنَفِِ وقول ظافر الحدّاد: مريضُ لحاظِ الطَّرفِ لولا جُفُونُه ... كما كنتُ أدْرِي السُّقْمَ كيف يكونُ وأصله قول المتَنَبِّيّ: أعارني سُقْمَ عْينْيهِ وحَّملنِي ... مِن الهوَى ثِقْلَ ما تحْوِي مآزِرُهُ وقوله:) فاعجب له كيف يرمي السهم بالهدف (نوع من البديع يُسمَّى العكس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 بديعٌ في بابه، وهو كقول الذَّهبيّ: يطيرُ فؤادي لألْحاظِه ... غراماً وشوقاً وفيها التَّلَفْ فيا مَن رأى قبْلَها أسهُماً ... يطيرُ اشتياقاً إليها الهدَفْ ونحوه قوله ابن نُبَاتَة المِصْرِيّ: صيِّرتَ نومي مثلَ عِطْفك نافراً ... وتركتَ عزْمي مثل جَفْنِك فاتراَ وسكنْتَ قلباً طار فيك مسَرَّةً ... أرأيْتَ وكراً قطُّ أصبحَ طائراَ ومما أنشدته له قولَه أيضاً من قصيدة: يا أيُّها الملأُ المِلاحُ أفتُوني ... مَن ذا أباح لكم دمَ المفتُونِ مِن كل أسْمرَ سَنَّ قتلَ مُحبهِّ ... إِن المكان مُشرَّفٌ بمكِيِنِ روضٌ نضيرٌ لم يردْه ناظرٌ ... إلا ورَدَّ عيونَه بعُيونِ العيون: جمع عَيْن بمعنى الباصِرة، وبمعنى الجاسوس. يحمِى بنَرْجِسِه أقاحِيَ ثغرِهِ ... ويصونُ وَرْدَ الخدِّ بالمرسينِ وحياتهِ وهي اليمينُ وإنها ... وحياتِهِ عندي أبرُّ يمينِ ما خنتهُ إنِّي وشخصُ جمالهِ ... حيث اتّجهتُ عليَّ مِثلُ أمينِ قرَن الودادُ له فؤادي بالأسى ... أكذا يُجازَى وُدُّ كلِّ قَرينِ فاتُركْ حديثَ شجونِ من قتل الهوى ... قبْلي وخُذ منِّي حديثَ شجوني قسماً لو أن العامريَّ مُعَمَّرٌ ... ما جُنَّ إلا مُعجَباً بجنونِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 والعقلُ منِّي ضاع في ثغْرٍ له ... فيه الثَّنايا بين مِيمٍ سينِ يا ذا الْمَلاحةِ والذي بجَبينهِ ... في كل ليل مَلامة يهْديني لا يطرُقنَّ اللَّومُ باب مسامِعي ... وعليه مِن صُدْغَيْك كالزُّرْفِينِ يا لائمِي لك في الملامةِ دِينُكَ الْواهِ ... ي كما ليَ في الصَّبابة دِيِنِي لا يخطُرُ السُّلوانُ عنه بخاطرِي ... إلا ورُدَّ من الجوَى بكَمِينِ كم خُضْتُ بَحرَ الموتِ دون وصَالِه الْ ... غالي ولم أكُ قانّعاً بالدُّونِ وشَفَيْتُ حرَّ الوجد مِن برْدِ اللَّمىَ ... عِلْماً بأن الماءَ مَا يشْفينِي مُتعجِّباً من خدِّهِ بالماءِ يرْ ... وينِي أسْاً وبنارِهِ يُورينِي وبخطِّ عارِضِه أَساوِرُ أرْقماً ... منه فأقرأُ منه ما يَرْقِينِي ويظنُّني حاشاهُ أسلُو حبَّه ... واللهُ مِن ظنِّ الحبيب يقينِي وهي عِراض قصيدة الرئيس أبي منصور عليّ بن الفضل، الكاتب المعروف بصرَّدُرّ: أكذا يُجازَى وُدُّ كل قَرين ... أم هذه شِيَمُ الظِّباءِ العِينِ قُصُّوا علىَّ حديثَ مَن قتَل الهوى ... إن التَّأسِّي رَوْحُ كل حزينِ ولئن كتمتُمْ مُشفِقين فقد درَى ... بمصارعِ العُذرِىِّ والمجنونِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فوق الرِّكاب ولا أٌطيل مُشَبِّهاً ... بل ثَمَّ شهوةُ أنفُسٍ وعيونِ هُزِّت قدودُهم وقالت للصِّبَا ... هُزْؤا أعند البان مِثْلُ غُصونِي وكأنما نقَلتْ مآزِرهم إلى ال ... جَدَد الحمى الأنقْاءَ من يَبْرينِ ووراءَ ذيِّاك المُقبَّل مَوْرِدٌ ... حَصْباؤُه مِن لُؤْلُؤ مكنوُنِ إمَّا بيوتُ النَّحْل بين شفاهِهم ... منْضُودةً أو حانةُ الزَّرْجُونِ ترْمي بعينْك الفِجاجَ مْقلِّباً ... ذاتَ الشِّمال بها وذاتَ يمينِ لو كنتَ زَرْقاء اليمامة ما رأتَ ... من بارقٍ حَيَّا على جَيْرُونِ شكْوك مِن ليل التَّمام وإنَّما ... أرْقَى بليلِ ذوائبٍ وقرونِ ومعُنِّفٍ في الوجْدِ قلتُ له أنَّئِدْ ... فالدِّمعُ دمْعيِ والحَنين حَنيني ما نافِعي إنْ كان ليس بنافعي ... جاهُ الصَّبا وشفاعةُ العشْرينِ لا تُطرُقَنْ خجلاً للَوْمةِ لأئمٍ ... ما أنتَ أولُ حازم مَفْتُونِ أأسومُهمْ وهمُ الأجانبُ طاعة ... وهوايَ بين جوانحيِ يَعْصِينِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 دَيْنِي على ظَبْياتِهم مَا ينْقضِي ... فبأيِّ حُكمٍ يقبضون رُهونِي وخَشِيتُ مِن قلبي الفِرارَ إليهِمُ ... حتى لقد طالبْتُه بضمينِ كلَّ النَّكالِ أُطيقُ إلا ذِلَّةً ... إن العزيز عذابهُ بالهُونِ يا عينُ مثلُ قَذَاكِ رُؤيةُ مَعْشرٍ ... عارٍ على دُنياهُم والدِّينِ لم يُشبِهوا الإنسان إلا أنهمْ ... مُتكوِّنونَ من الحَمْاَ المسْنُونِ نجَسُ العيونِ فإن رأتْهُم مُقلتيِ ... طهَّرتها فنزحتُ ماءَ جُفونِي أنا إن هُم حسبُوا الذَّخائر دُونَهُمْ ... وهمُ إذا عدُّوا الفضائلَ دُونِي لا يُشمِتِ الحسَّادَ أنَّ مَطامِعي ... عادتْ إليَّ بصَفقْةِ المغبُونِ ما يستديرُ البدرُ إلا بعدما ... أبصرْتَه في الضّمْر كالعُرْجُونِ هذا الطريق اللَّحْب زاجرُ ناقتي ... واليمُّ قاذِفُ فُلكيَ الْمشحونِ فإذا عمِيدُ المُلْك حلَّ بربْعهِ ... ظَفرِا بفَأْلِ الطائر الميْمونِ قوله:) أأسومهم وهم الأجانب طاعة (، هو من قول البُحْتُرِيّ: ولستُ أعجبُ مِن عِصْيان قلبِك لي ... عْمداً إذا كان قَلبي فيكَ يعْصِيني وبعده: مَلِكٌ إذا ما العزمُ حثَّ جِيادَهُ ... مَرِحتْ بأزْهرَ شامخِ العِرْنِينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ومثله قول الشريف الرضي: أرومُ إنْصافي مِن رجالٍ أباعدٍ ... ونفسِيَ أعْدَى لي مِن النَّاس أجمعاَ إذا لم تكنْ نفسُ الفتَى من صديقِه ... فلا يُحْدِثَنْ مِن خِلُة الغيْرِ مَطمعَا وأصله مِن قول بَكْر بن حارثه: قلبي إلى ما ضرَّنِي داعي ... يُكثُر أسقامِي وأوجاعِي كيف احتراسي مِن عدوِّي إذا ... كان عدُوِّي بيْن أضْلاعِي وقوله:) يا عين مثل قذاك رؤية معشر (إلخ، هو معنى بديع، وقد سُبِق إليه، قال الثعالِبيّ: أتفق لي في زمن الصِّبا معنىً بديع، لم أُسْبق إليه، وهو: قلبيَ وجْداً مشتعلْ ... وبالهمُومِ مُشتِغلْ وقَد كستْنِي في الهوَى ... ملابسَ الصَّبِّ الغَزِلْ إنْسانةٌ فتَّانةٌ ... بدرُ الدُّجَى منها خَجِلْ إذا زنَتْ عيني بها ... فبالدُّموعِ تغْتَسِلْ وقد سبقه ابن هِنْدو، في قوله: يقولون لي ما بالُ عيْنِكَ مُذ رأَتْ ... محاسنَ هذا الظَّبيِ أدْمُعُها هُطْلُ فقلتُ زنَتْ عيني بطلْعةِ وجهِهِ ... فكان لها مِن صَوْبِ أدمُعِها غُسْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قال أبو عليّ الفارسيّ: لستُ أعجب من توارُدِه، وإنما أعجب من قولهِ لم أُسْبَق إليه وقد قال أبو الطَّيِّب في الُحمَّى: إذا ما فاَرَقْتنيِ غسَّلتْنيِ ... كأنَّا عاكِفان على حَرامِ وقد سلم من شَناعة ذكر الزِّنا، وما في قُبْح لفظِه من الْخَنَا، فمعناه أَصحّ؛ لأنه ذكر في هذا الشعر مِن نفسه وزائرته ذكراً وأنثى، جرى بينهما ما يقتضي الغسلَ. وإن قيل: إن قوله) عاكفان على حرام (مِن لَغْو الكلام، وهما ذكراً، زِناً بين اثنين، ولو قال زني ناظري، أو لحظي، كان أحسن. قلتُ: هذا كله كلام ناءِ عن حُسْن الأدب، وهو سُخْف، ولكن أيُّ الرِّجال المُهذَّب، ومع ذلك فقد وقع هذا في كلام من تقدَّمهم، ومعناه أصح ودِيباجتُه ألطف وأوضح، كقول يزيد بن معاوية: وكيف تَرَى بعينٍ ترى بها ... سِواهَا وما طهَّرْتَهَا بالمدامِعِ أجِلُّكِ يا ليلى عن العينِ إنَّما ... أراكِ بقلْبٍ خاشعٍ لك خاضعِ ثم مشى على أثرهم الناسُ، وولَّدوا معانيَ لا تُحصَر، كقول السِّراج الورَّاق: يا نازحَ الدَّارِ مُرْ نومي يُعاوِدْنِي ... فقد بكْيتُ لفَقْدِ الظَّاعنينَ دَمَا أوْجَبْتَ غُسْلاً على عيني بأدْمُعِها ... فكيف وهْيَ التي لم تبلُغِ الُحُلمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 محمد الصَّالِحِيّ الهِلاَليّ هُمام بعيد الْهِمَّة، قريب منال مياه الْجَمّة، له دَرارِيُّ شِيم، هي غُرَّة دُهْم اللَّيالي، وبَناتُ أَفكارٍ لم ترتضِعْ غير دَرِّ المعالي، فلا بربِّ المشرق والمغارب، إنها شموسٌ لم تزل طالعةً مِن سماء المناقب، وهي الآن شامَةٌ في وجَنات الشام، وروضة تفتَّحت أنوارُها بثغُورٍ ذاتِ ابْتِسام. ومن سُنَّتِه الاعْتزالُ عن الناس، وتقديمُ الوَحْشة على الاسْتِئْناس، مُنقطعاً لاقْتِطاف زهرات العلوم، يمدُّ لِقِرَى الأسماع موائدَ المنثور والمنظوم، في زهدٍ مُتحَلٍّ بخِلاله، تَدِقّ صفاتُ المدح عن معاني جَلاله، بعزمٍ هو أبو العجَب، لو قُدِح زَنْدُه لَهَبَّ له لَهَب، وخَطٍّ تُسَرّ به النُّفوس، وتُوَشَّى بدِيباجِه الطُّروس. خطٌّ زهَتْ أزهارُه ... والروض يُنْبِتُه السَّحابْ. وشعرُه شَقِيق الرياض، المُطَّرِدة الحِياض، تُسْتَخرج الجواهرُ من بحوره، وتُحَلَّى لَبَّات الطُّروس بقلائد سطورِه، لم يصْرِفه لمدح كريم، ولا تغزَّل بمليحٍ كريم، ولعَمْري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 إِنه قطَع منه مَيداناً لم يصِلْ إليه الكُمَيْت، ونَقَّي ألفاظَه وهذَّب معانيه فلم يقُل فيه) لو (ولا) ليت (. وبالجملة فهو في عصره إمام الدب المُقتدَى به، والبليغ الذي لا تُثْمِر أغصانُ الأقلام إلا في رياض آدابه. ولما قدِم القاهرة أفاض عليَّ لباسَ مودة لم تُبْلَ عهودُها، ألا حبَّذا إخْلاقُها وجديدُها، ووَرّقُ الدنيا خَضِر، وعُود الشباب غَضُّ نَضر، والأدب لم يَعْفُ منارُه، ولم تَخْبُ نارهُ وأنوارُه، لا كاليوم إذ حام قومٌ حول حِماه، فوقعوا في ظُلماتٍ ليس فيها عينُ الحياة، وهو إذ ذاك أستاذ ومَلاذ، تذوق أفهامُنا من موائد فوائده أنواعَ الملاَذّ، فأتْحَفي بطُرَف أشعاره، ونزَّه أحْدقَ فكري في حدائق آثارِه، فأسكر سمْعِي بسُلافةٍ أدارتْها كؤوسُ بيانهِ، وتقلَّدتُ بمذهب البُحْتُرِي في اجْتناءِ الورد من أغصانِه: واْسمَعْهُ ممَّن قاله تَزْدَدْ بهِ ... عجباً فحسْن الوْردِ في أغْصانِهِ طالعتُ له فصلا في ديوانه، الذي سماه) صدح الحمام، في مدح خير الأنام (ذكر فيه نُبذاً من صفاتِه، ومعاهِد أُنْسِه ولَذَّاتِه، ومسارحِ آرام تِربه ولِدَاتِه، وهو) إني لَّما نشأتُ بمكة المُشرّفة، والأماكن التي هي بالجَوْزاء مُمَنْطَقة، وبالثُّرَيَّا مُشَنَّفَة، وكساني الزمانُ قَشيِبَ برُودِه، وطفِقْت أرْفُل ما بين عَقِيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الحِمى وزَرُودِه، وغُصن الصَّبا بأيام السعادة مُورِق، وبدْر الشَّباب في سماء الكمال مُشْرِق، لا دَأَب لي ألاَّ توسُّم وفود في سوق عُكاظِها، ولا شُغْل لي إلا استكشاف وسائِم وجوهِ المعاني المُخبَّأة تحت براقع تحت براقع ألفاظِها، ثم لما بطلت حركة الدَّوْر، وتنقَّل الزمانُ من طَوْر إلى طَوْر، أْعمَلْنا حُروف النَّجائب تنُصُّ بنا البَيْداء في سُرَاها، ولطمْنا خَدَّ الأرض بأخْفافِها إلى أن بَرَاها السُّرَى في بُرَاها، فكم جاوَزْنا جبالاً شوامِخ زاحمتْ بمناكِبها أكتاف السَّحائب، وذَرْعنا بأذْرُع النَّاجِيات شُقَّة قّفْز لم تُطْوَ إلاَّ بأيْدِي الرّكائب، فكم مَن راسلْتُه وراسلنِي برائق شِعْره وسَجْعه، وأدار وأدرْتُ كؤوسَ قوافي شعره على أواه سمْعِه، وزفَفْتُ عليه عرائسَ أفكاري استجلاباً لِوِدَادِه، وتلوْتُ علي غرائبَ أسْماري استقْداحاً لِوَارِي زِنَادِه. وهُنَّ عَذارىَ مهرُها الوُدُّ لا النَّدَى ... وما كلُّ مَن يُعْزَى إلى الشِّعر يَسْتَجدِى انتهى. هذه نُبْذة من نِثاره نَثْره، وسأُفَرِّط سمْعَك بجواهِر شعره. وكنت كتبتُ له قصيدة تائيَّة، مُلغِزاً من شعر الصِّبا، الذي يحسُد مُهَلْهَلَ بُرْدِه في رِقّتِه نسيمُ الصَّبا، لا كما قال البَاخَرْزِيّ هو التَّمْر باللِّبا، فهو باكورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ثمرات الآداب، بل الرَّوْض الأرِيض، الذي سُقِيَ من ماء الشَّباب، فأجاب وأجاد، وصَفَّى من قَذَى الكَدَر مواردَ الوِدَاد، وهذه، كواكبُها المُشرِقة في دياجي نفسِه، وثمراتها الزَّاهية في رِياض طِرسِه: طالتْ وقد قصُرتْ عنها العباراتُ ... وحازتِ الحُسْنَ هاتِيكَ البَراعاتُ غرَّاءُ فائقةٌ باللُّطفِ رائقةٌ ... تحلُو الْخَلاعاتُ فيها والصَّباباتُ أختُ الغزالةِ إشْراقاً ومُلتَفَتاً ... لها لدَى السَّمعِ لذَّاتٌ ونَشْآتُ نسِيِبُها أطربَ الأسماعَ مَوقِعُهُ ... ومدحُها مالَه في الْحُسنِ غاياتُ كأنَّ حُرَّ معانيها ورِقَّتهَا ... في لفظِها الخمرُ تجلُوه الزُّجَاجاتُ يحلُو المُكرَّر من ألفاظِها ولَكمْ ... مُلَّ المُكرَّرُ طبْعا والمُعاداتُ أتتْ إليَّ وبدرُ الفكرِ مُنخسِفٌ ... ومالَه في سماَ الإدْراكِ هالاتُ وللهمومِ اطِّرادٌ في الفؤادِ كما ... ضَمَّتْ عِتاقَ الْمَذَاكي الجُرْدَ حَلْباتُ أسامِر النَّجمَ في الليلِ الطويلِ ولا ... أغفُو وكم لعُيونِ النَّجمٍ غَفواتُ فقمتُ في الحالِ إجلالاً لها وسَرتْ ... عنِّي الهمومُ وزارَتنيِ المسرَّاتُ وظَلْتُ مُنتصِباً لمَّا ارتفعت بها ... وكان عندي بذلِّ النَّفسِ كسراتُ قبَّلْتهُا ألفَ ألفٍ ثم زِدْتُ فلم ... أحسِبْ وكم للكثيرِ العدِّ غَلْطاتُ وكان أُفْقُ زماني مُظلِماً فبدَا ... فيه شِهابٌ لنا منهُ إناراتُ شهابُ علمٍ ولكن نوره أبداً ... بالذَّاتِ ما عرَضتْ فيه الإضاءاتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 غُذِّي بدَرِّ لِبانِ الفضلِ مُذ زَمنٍ ... فشَبَّ كالنَّارِ لا تعرُوه فَتْراتُ شيخُ العلومِ ومِفْتاحُ الفُهومِ وغَلاَّ ... بُ الخضومِ إذا عنَّتْ مُلاحاةُ باهَتْ به أرضُ مصرٍ وازدهَتْ فلِذاَ ... قد كاد أن تحسِدَ الأرضَ السَّمواتْ قد شاد بيْتَ العُلا فوق السُّهى وله ... مِن فوق ذاك مَقاماتٌ عَلِيّاتُ تسْتَنُّ أفلامُه في الطِّرسِ من ضرَرٍ ... كأنَّها عند نَفْثِ السُّمِّ حيَّاتُ فيها النَّقيضانِ مِن نَفْعٍ ومِن ضرَرٍ ... ذاك الأمانِيُّ إذ ذاك المَنِيَّاتُ مهْمَا اغتدَتْ طَوْعَ باريها مُلازِمةً ... للخَمْس تغدُو لها في الطِّرس سَجْداتُ أشعارُه الغُرُّ مثلُ الدُّرِّ قد نُظِمتْ ... منها عقودٌ ولكن لُؤلُؤيَّاتُ ما إن حسَا كاسُ سمْعي من سُلافتِها ... إلا اعْتَرتْنِي لفَرْطِ السٌّكْر نَشْواتُ لِلّهِ أحجِيةٌ منه أتت فسَرتْ ... منها إلى السَّمْعِ نَفْحاتٌ زَكِيَّاتُ وأَذْكَرتْني بأن القُدسَ مِن سكَنِي ... وبانَ بالْبَان من شَكْوايَ مَيْلاتُ والوُرْقُ رقَّتْ لِمَا ألقاه ساجعةً ... كأنها فوقَ غُصنِ الْبانِ قَيْناتُ وأنت يا أفضلَ العصرِ الذي اجْتمعَتْ ... فيه العلومُ وفي الدَّهْماءِ أشْتاتُ سامحْ إذا هفوةٌ للذهن قد عرَضتْ ... فكم لمِثلِيَ بالتَّقْصير هَفْواتُ فسيفُ فكريَ لا لافَيْتُ فيه صدَا ... وكم له عندما أرجوه نَبْواتُ والجسمُ في غُرْبةٍ والقلبُ في وطنٍ ... لم تُدْنهِ منه أيامٌ ولَيْلاتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 والبالُ في قلقٍ والنفسُ في شجَنٍ ... يعتادُها لفراقِ الإلْفِ زَفْراتُ فأيُّ شخصٍ بهذا الوصْفِ مُتَّصِفٍ ... تُطِيُعه مِن قوافي الشعر أبْياتُ بقيتَ مُفْرَدَ علمٍ للهُدى علماً ... يُجلَى به الجهلُ عنَّا والضَّلالاتُ ودُمْتَ طَوْدَ حِجّى في الجُود بَحْرَ ندًى ... تأْتى إليه المعالِي والْكَمالاتُ ما لاح نَجْمٌ على الْخَضْراءِ مُتَّقِدٌ ... ومارعَتْهُ الجِيادُ الأعْوجِيَّاتُ ) سانحة ( في قوله:) رعته (استخدام لعَوْدِه إلى النجم، بمعنى الكوكب، على ملاحظة معنى النَّبْت. وقد يتعدَّد ذلك، كما في قول ابن الْوَرْدِيّ ورُبَّ غزالةٍ طلَعتْ ... بقْلبِي وهْو مَرْعاهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقالتْ لي وقد صِرْنا ... إلى عيْنٍ قصدْناهَا بذلْتَ العيْنَ فاكْحُلْها ... بطَلْعتِها ومجْراهَا وقد يكون الاسْتِخدام بالضمير، من غير اشتراك أيضاً، كما في قوله تعالى:) وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ولاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ (. وقد يكون بالضمير المُستتِر في حالٍ ونحوها، كقولك: بذلْتَ العيْنَ جاريةً ... مُكحَّلةً وطالعةً وقد يكون بالتمييز من غير ضمير، كقوله في هذه القصيدة: أُخْتُ الغزالةِ إشراقاً ومُلتَفَتاً وقد يكون باسْم الإشارة، كقولي: رأَى العقيقَ فأجْرَى ذاكَ ناظِرُه وقد يكون بالاسْتِثْناءِ كقول الْبَهاَء زُهَيْر: أبداً حديثي ليس بالْ ... منسوخ إلاَّ في الدَّفاتِرْ فذكر النَّسْخ بمعنى الإبطال، واستثنى منه بمعنى الكتابة. وهو استثناء غريب، يحتاج إلى نظرٍ دقيق في إدخاله في أحد نوعيْه. وله من قصيدة: وتجرَّدَتْ بيضُ الصِّفاحِ وأُلْبِستْ ... عَلَقَ النَّجِيِعِ كَحُلةٍ حمْراءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 والسُّمّرُ مُذ سقَتِ الدِّماءُ زُجاَجَها ... أضْحتْ ثِماراً أرْؤُسُ الأعْداءِ وله من أخرى: كأنّما الخيلُ في الْمَيدانِ أرْجُلُها ... صَوالجٌ ورءُوسُ القوْم كالأُكَرِ من رسالة لابن عبد الظاهر: أصبح الأعداء كأنما جُزر أجسادِهم جزائر، يتخلّلُها من الدِّماء السَّيْلُ، ورءُوسُهم أُكَر تلعَب بها صَوالجةُ الأيْدِي وأرجلُ الخْيل. وله من أخرى: سقَى طَلَلاً حيثُ الأجارِعُ والسِّقْطُ ... وحيثُ الظباءُ العُفْرُ ما بينهما تَعْطُو هَزيٌم هَمُولُ الوَدْقِ مُرِْتجِسٌ له ... بِأفْنانهِ مِن كلِّ ناحيةٍ سَقْطُ ولو أنّ لي دمعاً يُرَوِّي رِحابَهُ ... لما كنتُ أرْضَى عارضاً جُودُه نَقْطُ ولكنّ دمْعِي صار أكثرُه دماً ... فأنَّى يُرَجَّى أن يُرَوِّى به قَحْطُ ومنها: كأنَّ أنسِيابَ الرُّمْحِ في الدِّرع سَالِخٌ ... من الرُّقْشِ في وَسْطِ الغَديرِ له غَطُّ والبيت الثالث كقول مِهْياَر: بكَيْتُ على الوادِي فحرَّمْتُ ماءَه ... وكيف يَحِلُّ الماء أكْثرُه دَمُ وقول الأبيوَرْدِيّ: سقَى الله لَيْلَ الخَيفِ دَمْعِيَ والْحَيَا ... أُرِيدُ الْحَيَا فالدَّمْعُ أكْثرُه دَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 والأخير كقول الْمَعَرِّيّ: توهَّمَ كلَّ سابغةٍ غديراً ... فرَنَّق يَشْرَب الحَلَق الدَّخاَلاَ وله من أخرى: ما لاَح في أُفَقِي المحاسن إذ سرَى ... إلاَّ حَمَدتُ بليل طُرَّته السُّرَى عقَد الإزارَ على كثيبٍ في نَقاً ... فغدا اصْطِباري وهْو محلولُ العُرَى لا تذكرِ الغزلانَ عند كِناسهِ ... معه فإن الصَّيدَ في جَوْفِ الفَرَا وله أيضاً: إلى كم أُمَنِّي القلبَ والقلبُ مُولَعٌ ... وأزجرُ طَرفَ العينِ والطرفُ يدمَعُ وحتَّى متى أشكُو فِراقَ أحبَّتي ... عفَا بالنَّوى منهم مَصِيفٌ ومَربَعُ وأستعرضُ الرُّكبانَ عنهم مُسائلً ... عسى خبرٌ عنهم به الركبُ يرجعُ تصبَّرتُ عنهم وأنثنيْتُ إليهمُ ... ولم يبْقَ في قوسِ التَّصبُّرِ مَنْزَعُ أُراعيِ نجومَ الليلِ أرقبُ طيْفَهم ... وكيف يزور الطَّيفُ مَن ليس يهجَعُ وما زالتُ أبكي لؤلؤاً بعد بَيْنهم ... إلى أن بدا مُرجانُ دمعِيَ يَهْمَعُ وما كان تبكي العينُ لولا فِراقُهم ... عقيقاً ولا يشْفِي الفؤادَ طُوَيْلٍعُ فلا حاجِرٌ بعد الأحبَّة حاجِزٌ ... ولا لَعْلَعٌ مذ فارق الحيُّ لَعْلَعُ غرَبْن شموساً في بدورِ أكِلَّةٍ ... فليس لها إلاَّ من الخِدْرِ مَطْلَعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وشابَهْن غِزْلان النَّقا في نِفارِها ... ولكنّها بين التَّرائبِ تَرْنَعُ لها من مَهاةِ الرملِ عينٌ مريضةٌ ... وجِيدٌ كجيدِ الظَّبْيِ أغْيَدُ أتْلَعُ ومن قُضُبِ البانِ الرطابِ معاطفٌ ... تكاد عليها الوُرْقُ تشدُو وتسجَعُ وتغدو سيوفُ الهندِ لما تشبهَّتْ ... بألْحاظها في الحربِ تَفْرِي وتقْطَعُ ذكرتُهمُ والقلبُ بالهم طافحٌ ... لبَيْنِهمُ والبحرُ كالليلِ أسْفَعُ وما تنفعُ الذكْرى لمن صَدُّهُمْ قِلَى ... ووصلُهُم قطعٌ ومنهم تمنُّعُ ولا عجبٌ فالبخلُ في الغِيِدِ والدُّمَى ... طبيعةُ نفسٍ ليس فيها تصبُّعُ كما لعلىٍّ كلُّ جودٍ وسُؤُدُدٍ ... سجيةُ ذاتٍ ليس فيهل تصنُّعُ وله من أخرى: ورَكْبٍ طِلاحِ صاحَبو النَّجمَ في السُّرَى ... تَرامَى بهم فِي السَّير بِيدٌ وتعنُفُ يخوضون بحرَ الآلِ يطفُو عُبابهُ ... طُفُو عُبابهُ طُفُوَّ دَياجي الليلِ والليلُ مُسْدِفُ كأن المطايا والأكِلَّةُ فوقها ... سَفِينٌ بأيدْي الأرْحَبِيَّاتِ تَجْدِفُ وكان له نَدِيم أحْدب، يسمى أبا الخير، يعدُّه عَيْبَةَ أسراره، وجُهَينةَ أخباره، وهو يُدير عليه شَمُول وِدادِه، ويجْني إليه من كل وادٍ ثمراتِ فؤادهِ، ويُنْشِده تَرجُمان لسانِه عن مُحجَّب جَنانِه: ولقد جُبلتُ على مَحبَّة وُدِّه ... ما الحبُّ إلا للإمام الصَّالحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 جميع إخوانه إليه يلجئون، ومن كل حَدَب إلى جُرْثُومَته يَنْسِلون، خفَّت روحُه فألقتْ بدَنَه خلفه ظِهرِيَّا، واتَّخذتْ ما سواه شيئاً فرِيَّا، كأنه خاف الخُطوبَ فهو مُتجمِّع حذَر الوُثوب. وما الدهرُ في حال السُّكون بساكنِ ... ولكنه مُستجْمِعٌ لوُثوبِ وله به عِزٌّ أقْعَس، في رَبْوة المعالي يُغرَس، وطَبُعه بالظَّرف ربيعٌ أخْصَب، وفي أمثالهم:) أظرفُ من أحْدَب (، فهو سَنام اللطفِ وغارِبُه، وبحرٌ أحدبُ الأمواج، بدائعُ بدائههِ عجائبُه، ولم يزل يَعْتام وِدادَه، حتى قَبضت جواهرَ عُمرِه يدُ الدهر النَّقَّادة. كل ابنِ أنثى وإن طالتْ سلامتُه ... يوماً على آلهٍ حَدْباءَ مَحمُولُ فصل ولم أسمع في وصف أحْدَب ألطفَ من قول ابن المُنجِّم في ابن حُصَينة المَعَرِّيّ: يا أخي كيفَ غيَّرتْنا الليالي ... وأطالتْ ما بينا بالمِحَالِ حاشَ للهِ أن أصافِيَ خِلاَّ ... فيَراني في وُدَّه ذا اخْتلالِ زعموا أنني نَظَمْتُ هجاءً ... مُعرِباً فيك عن شَنِيع المقالِ لا تظنَّنَّ حَدْبةَ الظهرِ عيْباً ... وهْيَ في الحسنِ من صفات الهلالِ وكذلك القِسِيُّ مُحْدَوْدِباتٌ ... وهْيَ أنْكى من الظُّباَ والعوالِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وإذا ما علا السَّنامُ ففيه ... لقُرُومِ الجمالِ أيُّ جَمال وأرَى الانْحناء في مَنْسرِ البا ... زِيّ لم يَعْدُ مِخْلَبَ الرِّئْبالِ كوَّن اللهُ حَدْبةً فيك إن شئ ... تَ من الفضلِ أو من الأفْضالِ فأتتْ رَبوةً على طَوْد علمٍ ... وأتتْ مَوجةً ببحرِ نَوالِ ما رأتْها النِّساءُ إلا تمنَّتْ ... لو غدَتْ حليةً لكل الرجالِ وأبو الغُصن أنتَ لا شكَّ فيه ... وهو ربُّ القَوامِ ذو الاعْتدالِ عُدْ إلى وُدِّنا القديمِ ولا تُصْ ... غِ لِقيلٍ من الوُشاة وقاَلِ وتذكَّر ليالياً حين ولَّتْ ... أودعتْ حسنَها عُقودَ الّلآلِي أتُرَى بالدُّعاء يُجمَع شَمْلي ... أم رجائِي مُخيَّبٌ وابْتهالِي وإذا لم يكن من الهَجْرِ بُدٌّ ... فعسى أن تزورَنا في الخيالِ وعلى هذا النمط نسج ابن دَانِيال قولَه في رجل أحدب، يسمى حسَّانا: قسماً بحُسن قَوامِكَ الفتَّانِ ... يا أوحد الأمراء في الحُدْبانِ أنت الحُسامُ زها بِرَوْنَقِ حَدْبهٍ ... فزها على الخَطِّيَّة الُمرَّانِ يا مُخجِلاَ شكلَ الهلالِ بقَدَّه ... حاشاك أن تُعْزَى إلى نُقصانِ ومُماثِلاً قَدَّ القضيبِ إذا مشى ... من حَدْبَتَيْه يَميس كالرَّيَّانِ ما عاب قامتَك الحسودُ جَهالةً ... إلا أجبْتُ مَقالَهُ ببَيانِ هل يُحسِن الجو كان إلا أن يُرَى ... مع أكْرَةٍ في حَلْبة الميدانِ أو هل يَزِينُ المَتْنَ إلا رِدْفُه ... حُسناً فكيف بمَن له رِدْفانِ والعُود أحْدَبُ وهو ألْهى مُطرِبٍ ... ولقد سمعتَ بنَغْمة العِيدانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وكذا سَفِين البحر لولا حَدْبَهٌ ... في ظهره لم يقْوَ للطّوفانِ وإذا اكْتَسى الإنسانُ قِيل تمثُّلاً ... في المدح قَامَتْ حَدْبَةُ الإنسانِ ومُدبَّر الإكْسِير يُدعَى أحْدباً ... في علمِه للقِسْط في الميزانِ يَفْدِيك في الحُدْبانِ كلُّ مكَرْبَحٍ ... يمشي الهُوَيْنى مِشْيَة السَّرَطانِ مُتجِّمع الكَتِفْين أقْبصُ قد بدَا ... في هيئةِ المتجمِّعِ الصّفْعانِ ومن بدائع ابن خَفَاجة الأنْدلُسِيّ، في ساقٍ أحْدَب أسود، قولُه وكأْسِ أُنسِ قد جلتْها المُنَى ... فباتتِ النفسُ بها مُعرِسَهْ طاف بها أسْوَدُ مُحْدَوْدِبٌ ... يُطرِب مَن يلهو به مجلسَهْ فخِلتهُ من سَبَجٍ رَبْوةً ... قد أنْبتَتْ من ذهبٍ نَرْجِسَه ولعبد الله بن النَّطَّاح، في أحْدَب: قصُرَتْ أخادِعُهُ ُوغاضَ قَذَالُه ... فكأنه مُتوقِّعٌ أن يُصْفَعاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وكأنَّه قد ذاقَ أوَّلَ صَفْعةِ ... وأحَسَّ ثانيةً لها فتجمَّعاَ وإذ جرَرْنا ذيلَ البيان، وسحبْنا بُرْد سَحْبان على الحُدْبان، فنقول: قوله) وأحسن ثانية (إلخ، كقول ابن دَانِيال:) متجمع الكتفين (إلخ، وهو معنًى بديع في بابه، لأن مُتوقِّع الضرب يتضائل من خوفه، ونظيرُه من يريد الوثُوب يتجمَّع ليَثِب، فهيئه كهيئة من يريد السكون. ولقد أجاد صالح الشَّنْتَرِينِيّمن شعراء المغاربة، وفي قوله: نُحاذِرُ أحداثَ الليالي وقلَّما ... خلا مِن توقَّيهنَّ قلبُ أديبِ ونَرتابُ بالأيَّام عند سكونِها ... وما ارْتاب بالأيّام غيُر أريبِ وما الدهرُ في حال السُّكونِ بساكنٍ ... ولكنَّه مُستجمِعٌ لوُثوبِ وهو مأخوذ من قوله الآخر: سكنْتُ سكوناً كان رهْناً لوَثْبةٍ ... تثُور كذاك اللَّيْثُ للوَثبِ يَلْبُدُ وقول الآخر: قد قلتُ يا قوم إن اللَّيثَ مُنقبِضٌ ... على بَراثِنِه للوَثْبة الضَّارِي وفي المثل:) الدَّهرُ أرْود ذو غِيَر (. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 قال الجَوْهَرِيّ أي يعمل عملَه في سكون، لا يُشْعَر به. ويقال:) تَلْبِيدٌ خيرٌ مِنَ التَّصيئِ (يقال لمن يتشاجَع، ويُضرَب مثلا للفِراركما قاله الأصْمَعِيّ. وفي معناه قولي: أقولُ لنائِمِ الغفلاتِ جهْلاً ... تنبَّهْ كم فسادٌ في صلاحِ وكم رجَعَ الزمانُ عن الرَّزايا ... رُجُوعَ التَّيْسِ أقْعَى للنَّطاحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 حسن بن محمد البورِينِي دِيباجةُ الدنا، ومَكرُمة الدهرِ، ونكتة عُطَارِد التي يفتخر بها الفخر، حسنة اعتذر بها الدهرُ عما جَنَى، ودَوْحةُ فضل غَضَّة الأنوار والجَنَى، وزهرة الدنيا التي انبتَها اللهُ تعالى برِياض الشام نباتاً حسناً، فجعل الأدبَ فضله سِياجاً، ونار بدرَه في سماء الكمال سراجاً وهَّاجاً، ولم تزل مُساءلةُ الرُّكبان تُتحِفنى بهدايا أخبارِه، ونسيمُ المسامرة يهُبُّ مُعطَّرا بنفحات آثارِه، وأنا أُؤَمِّل اجْتلاءَ بدرِه المنير، وهو على جمعِهم إذا يشاء قدير. فمن نفحاتِه، وغُرِّ لُمْعَاتِه قولُه: يقولون في الصُّبحِ الدعاءُ مُؤثِّرٌ ... فقلتُ نعم لو كان ليليِ له صُبْحُ فيا عجباً منِّي أرُومُ لقاءَه ... وفي جّفْنِه سيفٌ ومِن قَدهَّ رُمْحُ وإنسانُ عينيِ كيف ينجُو وقد غَداً ... يطول له في لُجِّ مَدْمَعِه سَبْحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وإن كان يوم البَيْن يسْوَدَّ فَحْمةً ... ففي نَفَسِي نارٌ وفي مُهجَتِي قَدْحُ وليس عجيباً أن دَمْعِي أحمرٌ ... وفي مُهْجَتِي قَرْحٌ وفي مُقلتِي رَشْح وفي البيت الأول معنًى حسن، قال: إنه ترجمة من الفارِسِيّ، مع أنه مشهور في كلام العرب قديماً وحديثاً، كقول ابن شَبِيب: هوى صاحِبي رِيحَ الشَّمَالِ إذا جرَتْ ... وأهْوَى لنفسِي أن تهُبَّ جَنوبُ يقولون لو عزَّيْتَ قلبَك لارْعَوى ... فقلتُ وهل للعاشقين قُلُوبُ ومثله قول ابن أُذَيْنَه: قالتْ وأبْثَثْتُها سِرِّى فبُحْتُ بِهِ ... قد كنتَ عندِي تُحِبُّ السِّرِّ فاسْتَتِرِ ألسْتَ تُبصِر مَن حولي فقلتُ لها ... غَطَّي هَواكِ وما أَلْقَى على بَصَرِي وتابعه البَاخَرْزِيّ، فقال مِن قصيدة: قالتْ وقد فتَّشْتُ عنها كلَّ مَن ... لاقيتهُ مِن حاضرٍ أو باَدِي أنا في فُؤادِك فارْمِ طَرْفَك نحْوَه ... تَرَنِي فقلتُ لها وأين فُؤادِي وللْبَهاء زُهَير: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 جعلَ الرُّقاد لكَيْ يُواصِلَ مَوعِداً ... مِن أين لي في حُبِّه أن أرْقُدَا وللعَرِْجيّ: وزعمْتَ أن الدَّهْرَ يُعْقُبِنِي ... صَبْراً عليكَ وأين لي صَبْرُ وفي معناه قولي: يقولون لي لم تُبْقِ للصُّلحِ موضِعاً ... وقد هجرُوا مِن غير ذَنْبٍ فمَن يُلْحَى صدقتُمْ وأنتم للفُؤاد سَلبتُمُ ... ومالِيَ قلبٌ غيرهُ يطلبُ الصُّلْحَا وقلتُ أيضاً: مذُ أودعُوا قلبيَ سَّر الهوى ... خافوا مِن الواشِي على حُبيَّ فانْتهبُوا لُبَّي ولم يقْنَعوا ... باللُّب حتى أخذُوا قلْبي عوداً على بَدْءِ. وله أيضاً: وكُنَّا كغُصْنَي بَانَةٍ قد تألَّفا ... على دَوْحةٍ حتّى استطالا وأيْنَعَا يَغنِّيهما صَدْحُ الحمامِ مُرجَّعاً ... ويَسْقِيهما كأسُ السَّحائب مُتْرَعاَ سَليميْن من خَطْب الزمان إذا سطاَ ... خَلِيَّيْن من قول الحسود إذا سعَى ففارقني مِن غير ذنبٍ جنَيتْهُ ... وأَبْقَى بقلبي حُرْقَةً وتوجُّعَا عفا اللهُ عنه جَناهَ فإنني ... حفظتُ له العهدَ القديمَ وضيَّعاً وله أيضاً: أحوِّلُ وجْهِي حين يُقبِل ... مخافَةَ واشٍ بيننا ورقيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وفي باطني واللهُ يعلمُ أعينٌ ... تلاحظُه في أضْلُعٍ وقلوبِ وهذا مما تداولوه كثيراً. كقول أبي عُبَادة: أحْنُوا عليك وفي فؤادِي لوعةٌ ... وأصُدَّ عنك ووجهُ وُدِّي مُقْبِلُ وقوله أيضاً: حبيبي حبيبٌ يكتُم النَّاسَ حُبَّه ... لنا حين تلْقانا العيونُ قلوبُ يُباعِدني في المُلْتَقى وفؤادُه ... وإن هو أبْدَى لي البِعادَ قريبُ ويُعرِض عنِّي والهوى منه مُقْبِلٌ ... إذا خاف عَيْناً أو أشار رقيبُ فتنطِقُ منَّا أعينٌ حين نلْتَقي ... وتخرسُ منا ألسنٌ وقلوبُ ولأبي تمام: ولذاك قيل من الظنونِ جَلِيَّة ... عِلْمٌ وفي بعض القلوبِ عُيونُ وأحسن منه قولي: تنازع فيه الشَّوْقَ قلبي وناظري ... فأثَّر فيه الطَّرفُ والقلبُ واجبُ وتنظَرُه مِن قلبيَ الصَّبِّ أَعينٌ ... عليها لِمَحْنِيِّ الضُّلوعِ حواجبُ وله في ترجمة من الفارسّية: وَرَقُ الغُصونِ دفاترٌ مشحونَة ... مملوءةٌ بأدلَّةِ التَّوحيدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وله أيضاً قوله: النَّاسُ نحوَ معادِهمْ ومعاشِهم ... يسْعَون في الإصْباح والإمْساءِ وأنا الذي أسْعى لِلَذَّةِ نَظْرةٍ ... مِن وجْهك المُزْرِي ببَدْر سماءِ والناسُ يخْشَوْن الصُّدودَ وإنما ... أخْشى سَلِمْتَ شَماَتةَ الأعدادِ وأحسن من هذا قولي في رباعيَّة: ما بي مهما رضِيتَ عنِّي بَاسُ ... والصبرُ بمرْهَمٍ لِجُرْحِي آسُ لكنني أخْشَى إذا طال نوىً ... أن يشمَتَ في الرَّجا مني الناسُ وله أيضاً: أما ينقصني هذا الغرامُ من القلبِ ... أما ينْطوي هذا المَلامُ عن الصَّبِّ ألا حاكمٌ بيني وبين عواذِلي ... فيسألهم ماذا يريدون من عَتْبي ألا راحمٌ في الحبِّ أشكو ظُلاَمتِي ... إليه فقد زادت يدُ البَيْن في حَرْبي إلا ساعةٌ أخلو بهِ فأبُثُّه ... لواعِجَ نِيرانٍ أقامتْ على قلبي أما في الورى مَن فيهِ رِقّةُ رحمةٍ ... فُيُبْدِي له حالي ويُوصِلُه كُتْبي لقد ضاقتِ الدنيا علىَّ لبُعْدِه ... على رَحْبِها من غاية الشرقِ للغربِ إذا لاح تبدوُ وقفةٌ في تلفُّظِي ... وأغدُو لما ألقاه أحْيَرَ من ضَبِّ فما فيَّ فْصاحٌ ولا فيه رَحمةٌ ... فيسألَ عن حالي ويُفْرِجَ عن كَرْبي ولا أنا ذو فِكْرٍ صحيح يدلُّني ... على سببِ التَّأْنيسِ أو سببِ القُرْبِ وإني إلى مولايَ أنْهيتُ حالتي ... فغاية شكوىِ العاجزِين إلى الرَّبِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وله أيضاً: إلهي أدِمْ حاكمَ الحبِّ فِيناَ ... مُطاعاً وكلَّ البرَاياَ أُسارَى إلهي وزِدْ ذلك القَدَّ لِيناً ... وأشْرِب سَقِيمَ الجفونِ العُقَارا إلهي على ضَعْفِ أهل الهوى ... أتِلْ لحظَهُ في القلوبِ اقْتِدارا إلهي جُنودَ الهوى أعْطِها ... على قُوَّةِ الصَّابرين انْتِصارا إلهي على الحبِّ ألقيتُ صبْراً ... وعن حُسنِه ما أطقْتُ اصْطِبارا إلهي أجَبْتُ رسولَ الهوى ... ولم أَلْقَ منذ دعاني اخْتِيارا إلهي رضيتُ بما تَرْتضي ... بسِرِّي وسلَّمتُ أمري جِهَارا إلهي لِيَ الجَبْرُ فيما تَرَى ... وإن ظنَّه العاذلون انْكِسارا إلهي أعِدْ ليلَ هِجْرانِه ... بصُبْحِ الوفا والتلاقيِ نَهَارا أقول: هذا أسلوبٌ من أساليب الفصاحة لطيف، كما بيناه في كتابنا المسمى ب) حديقة السحر (، وهو نقْل الكلام من طريق إلى آخر، كاستعمال ما عُهِد استعمالُه في الدعاء والمناجاة في التغزُّل، كما هنا. ومثله قول ابن الوَكيل: يا ربَّ جَفْنِي قد جفاه هُجُوعُه ... والوجدُ يَعْصِي مُهجَتي ويُطيعهُ يا ربِّ قلبي قد تصدَّع بالنَّوى ... فإلي متى هذا البِعادُ يَرُوعُه يا ربِّ في الأظعان سار فؤادُه ... يا ليته لو كان سار جَميعهُ ولم يزل يكرِّر) يا رب (إلى آخر القصيدة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ومنه استعمال ما ورد في الرَّسائل والمكاتَبات في غيره، كقول الشَّاب الظريف ابن العَفيف: أعزَّ اللهُ أنصارَ العيونِ ... وخلَّد مُلكَ هاتيك الجُفونِ وأسبغ ظلَّ ذاك الشَّعرِ دَوْماً ... على قَدٍّ به هَيَفُ الغصونِ ومن شعر صاحب الترجمة قوله: لها في رُبَى قلبِ المحبِّ مَقِيلُ ... وظلٌّ بأحْناءِ الضُّلوعِ ظَليلُ وإن ظمِئتْ فالوِرْدُ من ماء دمعهِ ... يُبلُّ به عند الهَجِير غَليلُ فكم أَلفِتْ هذا النَّقار كأنما ... فؤادُ المُعَّنى بالسِّقامِ مُحيلُ أجَل إن عفاَ مِن بعدهم فكأنما ... يُحَرُّ عليه للجَنُوب ذُيولُ منازلُ هذا القلبِ كُنَّ أواهِلاً ... وها هيَ من بعد الفرِاقِ طلُوعُ لك اللهُ يا ابن الأكرمين أيَشتْفى ... فؤادٌ لبَيْن الظَّاعنين عَليلُ ويا ظبيُ هل بعد النَّقارِ تَأنسٌ ... ويا بدرُ هل بعد الأُفولِ قُفولُ ويا منزلَ الأحبابِ أين تَرحَّلُوا ... وهم في فؤادي ما حييتُ نُزولُ يميلون عنَّي للوُشاةِ وإنني ... إليهم وإن طال الصُّدودُ أَمِيلُ أيَجُمل من أحبابِ قلبيَ غدرُهم ... بغَدْرِي وما غدرُ المُحِبِّ جَميل علىَّ لهم حِفظُ الودادِ وإن جنَوْا ... وليس إلى نقْضِ العهودِ سَبيلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وظبيٍ أراد العاذلون سُلُوَّهُ ... وأبْعدُ شيءٍ ما أرد عَذُولُ وقد ضاع قلبي مُذ رأيتُ جماله ... فهل لي عليهِ في الأنامِ دليلُ وما هاجنَي إلا ابنُ وَرْقاءَ سُحْرَةً ... له فوق أفنانِ الرِّياض هَدِيلُ يُردِّد في صُحْفِ الرِّياض قصائداً ... من الشَّوق يُمليها لنا ويَميلُ يُخِّيل أن البينَ آذى فؤادَه ... وكيف ولمَّا يَنْأَ عنه خليلُ ولم تحْتكم فيه اللَّيالي ولم يَبِنْ ... عليه لبَيْنٍ رِقَّةٌ ونُحولُ أمَا والهوى لو ذُقتَ ما ذقتُ في الهوى ... لما ازْدان بالأطواقِ منك تَلِيلُ على أنه ما فارق الإلْفَ دهرَه ... ومالي إلى وَصْل الحبيب وُصولُ تسنَّمَ غُصْناً في رياضٍ أريضَةٍ تهُبُّ عليها شَمْأَلٌ وقَبُولُ يُصفِّق جَذْلانَ الفؤادِ كأنما ... تُدارُ عليهِ في الكُئوس شَمُولُ وأنشدني له بعض الأدباء رُباعيَّة، هي: يا قلبُ إلى متى عَدَاك النُّصْحُ ... كم تمزحُ كم جنى عليك المَزحُ كم جارحةٍ عدا عليها الْجَرْحُ ... ما تشعرُ بالخُمارِ حتى تصْحُو قلتُ: ليست هذه له؛ فإنها في) ديوان محمد بن علي (، كما ذكرناه في) ديوان الأدب (. ومن شعره، أعنىصاحب التَّرجمة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ألا سامحْ أخاكَ إذا تعدَّى ... وألْقِ إليه في الحربِ السِّلاحَا فمن يعْتِبْ على الخِلاَّن يتْعَبْ ... ومن لزم المُسامحةَ اسْتراحَا وله أيضاً: صاحبي مَن يَودُّني بالفؤادِ ... لا قريبي في حِلَّتي وبلادِي ليت شعرِي إذا تناءَتْ قلوبٌ ... أيُّ نفعٍ لصُحبةِ الأجْسادِ وله أيضاً: خَبأْتُك في عيني لتخفَي عن الورَى ... لذلك قالوا إن في العينِ إنْسانَا وأحسن من هذا قولي: خَبأْتُك في العين خوفَ الوُشاةِ ... وكم شرَّفَ الدارَ سُكَّانُها ومن غيرةٍ خِفْتُ أن يفطِنُوا ... إذا قيل في العين إنْسانُها ومن فوائد: أنه سئل عن قول احب الهمزيَّة: شمسُ فضلٍ تحقَّق الظنُّ فيه ... أنه الشمسُ رِفعةً والضَّياءُ فإذا ما ضحَى محا نورُه الظِّ ... لَّ وقد أثْبتَ الظَّلالَ الضُّحاءُ فكأن الغمامةَ اسْتودعته ... مَن أظلَّت من ظله الدفَّاءُ فذكر ما للشَّارحين فيه من الكلام لا مُحصِّل له، فخالفهم فيما قالوا من أن) الدففا (بفاءين،) وأظلت (فيه بالظاء المشالة، وذكر كلاما لا طائل تحته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 بناء على أن) أظلت (بالضاد، من الضلال بمعنى الإضاعة) والدففا (بمعنى جماعة مُسرِين من الجيش أو الملائكة، وفيه خَبْط وخَلْط، والذي عندي فيه أنه تحرَّف عليهم أجمعين، وإنما هو هكذا: فكأنَّ الغَّمامة اسْتُودعتْهُ ... مُذْ أُظِلَّتْ مِن ظِلَّه الدَّقْعاءُ ) فاستُودِعْته (و) أُظِلَّت (مبنيّان للمفعول بصيغة المجهول،) ومذ (بميم مضمومة وذال معجمة) والدَّقْعاء (بدال مفتوحة مهملة وقاف) ثم مذ (بمعنى الأرض وترابها، كما هو مُصرَّح به في كتب اللغة، والمعنى أن الغمام إنما أظلَّه لئلا يمسَّ الأرض؛ فلذا أخذه وديعة عنده، ليصونه عن مسِّ التراب، وهذا معنًى بديع، يعرفه مَن ذاق حلاوةَ الشِّعر، وعرف مغزاه. وفي قوله) مذ اظلت (الخ، معنيان: إحداهما، مذمس ظله التراب. والآخر: مذ صارت الارض كلها في حمايته، لأنه ظل الله. وفي معناه رباعيَّة لي: ما جُرَّ لظلِّ أحمدَ أذيالُ ... في الأرضِ كرامةً كما قد قالُوا هذا عجيبٌ وكم له من عَجَب ... والناسُ بظلَّه جميعاً قَالُوا وفي التائية المنسوبة للسُّبْكِيُّ التي نظم فيها معزاتِ النبي صلى الله عليهم وسلم، وشرحها بعض المتأخِّرين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 لقد نزَّهَ الرحمنُ ظِلَّك أن يُرَى ... على الأرضِ مُلقْىً فانْطَوى لِمَزَّيةِ وأثَّر في الأحجارِ مَشْيُك ثم لم ... يُؤثِّرْ برمْلٍ حلَّ بطْحاءَ مَكَّةِ قال شارحها: قيل: إنه عليه الصلاة والسلام كان لا يقع ظِلّه على الأرض؛ لأنه نور رُوحَانِيّ. ما لطه رأى البريَّةُ ظِلاَّ ... هو رُوحٌ وليس للرُّوحِ ظِلُّ والنور لا ظلَّ له، وكذا الرُّوحانِيّات كالملائكة؛ لأنها أنوار مُجرَّدة. قيل: ولهذا أظْهرَ الأُمِّيَّة؛ لئلا يقع ظلُّ يدِه على اسم الله لو كتَبه، ولا يخفى ما فيه. وقيل: لم يُرَ ظِلُّه؛ لأن الغمام يُظِلهُّ. وقيل: هو تكريمٌ له، لئلا يقع ظِلهُّ على الأرض، فيوُطَأ مَحلُّه. ونُقِل أن بعضَ اليهود كان يطأُ ظلَّ المسلمين إهانةً لهم، فصِين لئلا يُمْتَهن. وقيل غير ذلك. وأما كون قدمِه صلى الله عليه وسلم يُؤثِّر في الحجر دون الرمل، فكان في ذهابه لغار ثَوْر مع أبي بكر، كان يقول له:) ضَعْ قَدَمَك موضع قدمي فإنَّ الرَّمْل لا يَنمُّ عَلَيْهِ (لإرادة الله تعالى إخفاء أثره عمَّن يطلبه من المشركين؛ ولأن له الحجرُ إظهاراً لأنه لا يستعصِي عليه، ولتكون فيه سِمَة ينجو بها من النار، التي وَقُودُها الناسُ والحجارة، ودلالة على شِدَّة قسوة قلوب الكَفَرةإلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أبو المعالي دَرْويش محمد الطَّالُوِيّ وحيدٌ له الحزم تِرْب واللطف قَرين، وماجدٌ ماله في قَصَب السَّبْق رَهين، وَرِيق قُضب المُرُوَّة، فاتح حصون المُلِمَّات عُنْوَة، سليل المعالي والكرم، رقيق حواشي الطبع والشِّيَم، فكم في عُلاه مسرح للمَقال، ومجال لمُضْمَرات الأماني والآمال. إذا أعجبْتك خِصالُ امْرئٍ ... فكُنْه تَكُن مثلَ ما يُعْجِبُكْ فليس على المجدِ من حاجبٍ ... إذا جِئتَه زائراً يَحجُبُكْ حسَّان عصره، وأبو عُيَادة دَهْره، له في المجد زَنْد ورِىّ، وللأسماع من مَورِده العذب شِرْب ورِىّ، نور مُحيَّاه في ظلمة الخطوب هادٍ، وصِيتُ كَرَمه لركائب الآمال حادٍ، وبحر فكره المديد سريع، ونسجُ طبعه أبْهى وأبْهج من وَشْي الربيع، إذا حَلَّى أجيادَ الغصون بعقود در الغمائِم، وألبس هاماتِ الرُّبَى من النَّبْت مُخضَرّ العمائم، فكأنه بسحر البيان، أعْدَى عيون الغِيد الحسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 نَجْمٌ تُجْلَى عليه المعاني صورةً فصُورة، وتُتْلَى عليه آياتُ الفضل سُورة بعد سُورة. وإذا كاتب بألفاظه الرقيقة، وَدَّ السِّحْرُ لو كان قِنه ورقيقَة، فكم سرَّح طِرْفَ طَرْفي في رياض المنثور، فجَنى من حدائِقه بَيد الفكر غضَّ الزهور، ففاح نَشْرُ بلاغتِه في ليل حِبْره، ولا بدع للمنثور إذا عَبَق في عَنْبَر الظلماء عبيرُ نَشْرِه، فحلَّيْتُ لساني بعقود إِنشائِه الدُّرِّيّة، وأشرق عليَّ من فلك المُسامرةِ كواكبُها الدٌّرِّيّة، ورأيت سَبْح سطورها في يد المجد، وخِيلانُ نَقطها تَزين من وجه الطِّرس صفحة الخدّ، فسبَّحت عجباً من دُرٍ لونُه السَّواد، ومن رياضِ كافورٍ تُنبت مِسكَ المِداد. فكأنَّ أسطُرَه غصونُ حديقةٍ ... ومن القوافي فوقَهُنَّ حَمامُ وهو فرعٌ من شجرة آل طَالُو، الذين فاقوا في رتب العُلى وطَالُوا. إن حاربُوا ملأُوا البلادَ مَصارِعاً ... أو سالُموا عمرُوا والدِّيارَ مساجِدا طلَعُوا في رُبَى الجياد غصوناً مُورِقة بالسلاح، وبَسَقتْ فروعُها من بيض الصِّفاح وسُمْر الرِّماح، صيَّروا أكفّهم للمكارم مَعْدَنا، وأبوابَهم لوفُود السَّعادة مَوْطنَاً، فكم من راكب عَجِل استوقفتُه فوقَف، وأهدى إليَّ مِن آثاره تحفاً بكل طرْفَةٍ تُحَفّ، حتى ورد عليّ بالروم فقَرَّ بهِ نظري، ولم تسمع أُذني بأحسن مما قد رأى بصري فطار غُرابُ البَيْن من وَكْرِ العَنا، ونثرت عليَّ قوادمُ يُمْنِه، نِثار الثَّنا، وأنا ثَمَّت غريبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الوجه واليد واللسان، وليست الفُرقة فقدُ الأهل بل فقد الأحبَّة والإخوان، فدار بيني وبينه كئوس مُحاورات تُسكر الأذهان، ويحْتَسِي حُميَّاها فكرُ كل لبيب بأفواه الآذان، ويُوسَم بها عقلُ الدهر، وتُغْضِي حياءً منها عيون الزَّهر. فممَّا كتبتهُ إليه: لأسْتمطر سحائبَ طبْعِه الغُرّ، وأستجْدي كرماً من رَقِيق خُلِقه الحُرّ، وأستَمْرِي منها ماء الحياة على غُلَّة، قطراتٍ لو وقعت في بحور الأشْعار لم يكن بها عِلَّة، قولِي: قبَّلتُ مُصطبِحاً شِفاهَ الأكْؤُسِ ... والصبحُ يَبْسَمُ لي بثَغْرٍ ألْعَسِ حتى غدتْ منه الغزالةُ واخْتفَى ... مِسْكُ الدُّجَى عند الجوارِي الكُنَّسِ والنهرُ سيفٌ والنسيمُ فِرِنْدُه ... وله حمائلُ من خمائلِ سُنْدُسِ أو صدرُ خُودٍ فتَّحتْ أطواقَها ... أو شقَّقتْ للوجدِ حُلةَ أطلَسِ والطَّيرُ تشدُو والغصونُ رَواقِصٌ ... في وَشْيِ ديباجِ الرَّبيعِ السُّنْدُسِي وعلى الخلاعة ليس جيدِي عاطلاً ... من حِلْيِة المجد العزيزِ الأنْفَسِ ولواحِظ مرْضَى بها اعتلَّ الصَّبَا ... والصَّبُّ بالسُّقْم المُبرَّح مُكْتَسِ فتَنتْ بأنفسها ففيها عِلَّةٌ ... من وجدِها وفتورُ مهجورٍ نُسِي فلكم قطفْتُ ثمارَ لهوٍ أيْنَعتْ ... وغفِلتُ عما قد جنًى الدهرُ المُسِي وطردتُ آماليِ براحةِ عِفَّتِي ... إن التِّمنِّي رأسُ مالِ المُفْلِسِ رامَ التَّلَمُّسُ بذْلَ شعرِي بُرهةً ... فطرحُته كصحيفةِ المُتَلَّمسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وكَحَلْتُ طَرْفيِ بالسُّهاد صبابةً ... ووهبتُ نومي للعيون النُّعَّسِ ونظرتُ خدَّ الورد لما احمرَّ من ... خجلٍ وقد بُهِتَتْ عيون النَّرجِسِ وأظنُّ خَجْلَته لخدِّ الطِّرس إذ ... أمسى بوَشْيِ عِذارِ شَعرك مُكْتَسيِ يا عِقدَ جِيد الدَّهر غُرَّةَ فجره ... وطِرازَ ما حاك العُلا من مَلْبَسِ بل كعبةً حجَّتْ لها آمالُناَ ... فدنَتْ إلى حَرَر الكمال الأقْدَسِ مِن آل طالُو فتية طالُوا الورَى ... بذُرَى أشَمَّ من المعالي أقْعْسِ بمناقبٍ تُلِيتْ لنا آياتُها ... عنها يكاد يُبين نُطْقُ الأخْرَسِ ورياض فِكرٍ بالفضائل أثمرتْ ... فغدَتْ تُحَدِّثُنا بِطيب المَغْرِسِ أسكَرْتنا بسْلافِ شِعرٍ لفظُه ... كأسٌ له فِكري بسمعي مُحْتَسِ وسرَتْ نُسَيماتٌ سُحَيْرا أرقصَتْ ... طرباً بها عقلَ اللبيب الأكْيَسِ فاعجَبْ لها من أكؤُسٍ ما برِزتْ ... ألا رآها الذَّوقُ نَقْلَ المجْلِسِ وسهامِ أقلامٍ له تُصْمِى العِدا ... وتظَلُّ بين مُسَدَّدٍ ومُقَرْطَسِ ناجَيْتُه وظلامُ فكري قد دجا ... وصباحُ صَفْوى عنه لم يتَنَفَّسِ فجلا السُّرورَ له بثغْرٍ باسمٍ ... طَلْقِ الجبينِ كوجْهِ يوم مُشْمِسِ فإليْكَها منِّي قوافيَ دَوْحُها ... زاهٍ بغير يدِ النُّهَى لم يُمْسَسِ بِكراً إلى كُفءِ تُزَفُّ ومهرُها ... نَقْدُ الجواب براحةِ المستأنسِ لا زِلتَ في حُلَلِ المسرَّةِ رافلاً ... ما حَدَّقتْ ليلاً عيونُ الخُنَّسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فأجاب وأجاد رحمه الله: خدٌّ تورَّدَ من لهيبِ تَنَفُّسِ ... أم قَدُّ مَعْسولَ المَراشِفِ ألعْسِ مِن رِيم وَجْرَةَ أو جَآذِرِ جَاسِمٍ ... لبسَ الشَّبابَ الرَّوق أحسنَ مَلْبَسِ مُتوشِّحاً خَطِّىَّ قامتِه فإن ... ماسَتْ فيا خجلَ الغصون المُيَّسِ فإذا رنا فاللَّحظُ منه بابِلٌ ... هاروتُ منه نُطْقُه كالأخْرَسِ أم عِقدُ غانيةِ الحسان زهَتْ به ... تيهاً على زُهْر الجوارِي الكُنَّسِ أم لُؤْلُؤٌ رَطْبٌ توائِمُ زَانَه ... حُسنُ النِّظام يِجِيد ظَبْيَةِ مَكْنَسِ أم روضةٌ غنَّاءُ في ذُرَى ... أغصانِها وُرْقٌ بلحْنٍ مُؤنِسِ حاكتْ لها أيدي الجَنوبِ مَطارِفاً ... وكسَتْ معاطفَها غلائلَ سُنْدسِ ما بين أصفرَ فاقعِ أو أحمر ... قانٍ وأبْيضَ ناصعٍ ومُوَرَّسِ أم غادَةٌ هْيفاءُ أذْكَرت الصِّبا ... صَبِّا تنَاسَى العهدَ منه وما نَسِي وافتْ وأفراسُ الصِّبا قد عُرِّيتْ ... والقلبُ أقصرَ عن هواه وما أَسِي وافتْ وَفِيَّ بقيَّةٌ ألهو بها ... مِن شَرْخِيَ الماضي تَعِلَّةَ مُفلِسِ مِن ماجدٍ وشِهابِ فضلٍ ثاقبٍ ... حُلوِ الشَّمائل بالفضائل مُكْتَسِ فظنَنْتُ رَيْعان الشَّبابِ أُعِيد لي ... حتى الوصالُ مِن الحبيب المُؤُنِسِ فطِفقْتُ أهصِرُ بانَةً من قَدِّها ... والقلبُ بين تَوَجُّسٍ وتهَجُّسٍ حتى اطمأنَّتْ فاجْتَلْيْت بوجهِها ... قمرَ السَّماءِ بلَيْلِ شَعرٍ حِنْدِسِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 لمَّا بدا خفِيتْ له شمسُ الضُّحَى ... في ثوب غَيْمٍ ترتْديه وتكْتَسِي نطقَتْ مناطقُها فأُخْرِس دونها ... نُطْقُ الفَصيحِ وحار فِكْرُ الكَيِّسِ لِمَ لا وناظُمها الشِّهابُ من اعْتَلى ... شُهْبَ العُلى بكَمال فضلٍ أقْعَس فَرْعٌ نَماه إلى خفاجةَ مَحْتِدٌ ... والفرعُ يُنْبِئ عنه طِيبُ المْغرِسِ وافتْ لنا منه حديقةُ روضةٍ ... خجِلتْ لبهْجَتهِا عيونُ النَّرْجِسِ طِرسٌ به زُهْرُ النجومِ كأنه ... صبحٌ وهُنَّ به بقايا الْحْنِدِسِ لثَمتْ شِفاهُ الغِيد قِدْماً نِقْسَه ... فغدا له فيه حياةُ الأنْفُسِ إنِّي لأَعجبُ من شِهابٍ قد سما ... مُتَبَوَّأَ العَلْياءِ أرْفَعَ مَجْلِسِ والشُّهْبُ تطلُعُ في السَّماء وحَدُّها ... فلَكُ الثَّوابتِ وهْوَ فوق الأطْلَسِ لا زلتَ في حُلَلِ الفضائلِ رافلا ... مُتوشِّحاً بُرْدَ الشَّبابِ الأنْفَسِ خُذها وإن كانت مُقصَّرةً فمِن ... شأنِ الكرام قبولُ عذرٍ من مُسي شامِيَّةً يعنوُ لباهرِ حسنِها ... وجهُ الغزالة والغزالِ الألْعَسِ وانْعَم بها لا زالتَ تُرشِفُ سمعَنا ... من رَاحِ نظْمِك مُتْرَعات الأكْؤُسِ ومما أنشدَنيه قولُه من قصيدة له: يَراعَك أمْضَى من شِفارِ الصَّوارِم ... ورأيُك أجْلَى من يُراقِ المَباسِمِ مَضاءٌ يقُدُّ المُرْهَفاتِ وعَزْمَةٌ ... لها في ضِرامِ الخَطْبِ فعلُ الضَّراغِمِ ومنها: بسَيَّارةٍ مثلِ النُّجوم طوالعٍ ... قوافِ لعَمْري أفحمتْ كلَّ ناظمِ تَساقْطَ في الأسماع لُؤُلُؤُ لفظِها ... تَساقُطَ طَلٍّ فوق زَهرْ الكَمائمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 بقِيتَ لهذا المُلْكِ تحمي ذِمارَه ... بسُمْرِ يَرَاع الخطِّ لا بالصَّوارِمِ جنابُك محروسٌ وبابُك كعبةٌ ... لبطْحائِها حَجِّى وفيها مَواسِميِ وله أيضاً: وكفى به جائراً في الحُكمِ ما عدَلا ... لو كان يسمعُ في أحبابِه عذَلاَ وراح يُضُمِر سُلْواناً بخاطره ... عن مَائِساتِ قُدودٍ تُخجِل الأسَلاَ بل كيف يصحو غَراماً أو يُفِيق هَوّى ... مَن باتَ بالأحْور العيْنَين مُشتغِلاً فما الهوى غيرُ أجفانٍ مُسهَّدةٍ ... تهْمِي بقلبٍ بنيران الأسَى شُعِلاَ ولا الغرامُ سوَى وَجْدٍ يُكابِدُه ... إلى الحِمَى يا سَقَى اللهُ الحِمَى نَهَلاَ حِمَى دِمَشْقٍ سقاها غيرَ مُفسدِها ... صَوْبُ الغمام وروَّى روضَها عَلَلاَ حتى تظَلَّ بها الأرْجاءُ باسمةً ... ويضحك النَّوْر أكمامِه جَذَلاَ وخصَّ بالجانبِ الغربيَّ مَنْزِلةً ... لبِسْتُ فيها الشبابَ الرَّوْقَ مُقْتبِلاَ مَغْنى الهوى ومغاني اللهو حيث به ... مَهاً إذا طلعتْ بدرُ السَّما أَفلاَ تلك المنازلُ لا شَرْقيُّ كاظِمةٍ ... ولا العقيقُ ولا شِعْبُ الغُوَير ولاَ ديارُ كلِّ مَهاةٍ كم أقول لها ... والصبُر ينْحَل في جسمي كما نَحَلاَ بما بِعْنِيكِ من سحرٍ صِلىِ دَنِفاً ... يهْوَى الحياةَ وأمَّا إن صَددْتِ فلاَ اللهُ يعلم أني بعد فُرْقتِها ... فارقتُ شَرْخ الصَّبا واللهوَ والغَزَلاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ما كنتُ لولا طِلابُ المجدِ أهجرُها ... هجْرَ امرئٍ مُغْرَمٍ بالرَّاح كأْسَ طِلاَ ولا تخيَّرْتُ أرضَ الرُّوم لي سكناً ... ولا تعوَّضْتُ عنها بالصَّبَا بدََلاً ولا امتَطْيتُ عِتاقَ الخيلِ راميةً ... بِيَ الْمَوَامِي تجوبُ السَّهلَ والجبلاَ مِن كل مِرْفٍ يفوق الطَّرفَ سُرعتهُ ... وسابحٍ مثل سِيد الرَّمل ما عَسَلاَ إذا تطلَّع من لُجِّ السَّرابِ يُرَى ... بدْراً غدا بهلالِ الأفْقِ مُنْتَعِلاَ ومنها: متى أتى بِيَ أرضَ الرُّوم مُنتجِعاً ... روضاً أريضاً وماءً بارداً وكلاَ وقال بُشْراك روضُ الفضل قلتُ له ... روضُ ابن بُستانِ مولانا فقال بَلَى هو الجوادُ الذي سارتْ مواهبُه ... تدعو العُفاةَ إلى نْعمائِه الجَفْلَى ومنها: وهاكَها من بناتِ الفكرِ غانيةً ... شاميَّةَ الأصْل مهما سائلٌ سأَلاَ غريبة في بلادِ الرُّوم ليس لها ... كُفْؤٌ سِواك فأنقِدْ مَهْرَها عَجَلاَ وكتب له أحبابه قصيدةً هَزَّت بنسيم عُتْهِا عِطْفَ آدابه، فأجابه بقوله، عفا الله عنه: توشَّحَتْ كالنجوم الزُّهر في الظُّلَمِ ... سِمْطيْن من لُؤُلُؤِ رَطبٍ ومن كَلمِ وقلَّدت جِيدَ آرَام النَّقَا دُرَراُ ... بزَّتْ بهنَّ دَرَارِي الأفْقِ بالقلمِ وأقبَلتْ في مُرُوطِ الزَّهو رِافِلةً ... تجرُّ تِيهاً فُضُولَ الرَّيْط من أَمَم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 جيداءُ مصقولةُ القُرطيْن ماَئِسةُ الْ ... عِطْفين مخضُوبةُ الأطْراف بالعَنَمِ كأنها حين وأفَتْ والفؤادُ بها ... صَبٌّ صُبابةُ شَرْخٍ مَرَّ كالحُلُم فما الرَّياض بَكاَها الفطرُ ... ليلَتَه بُكاءَ طَرْفٍ قريحٍ بات لم يَنَمِ شوقاً لِطَيْفِ المُزْن فيه الأقحوانَ ضُحًى ... عن ثَغْرِ مُبْتسِمٍ بالدُّرّ مُنْتَظِمِ فالوُرْقُ صادِحةٌ والروضُ ضاحكةٌ ... تغورهُ بَيْن مُنْهَلٍ ومُنْسجِمِ تجاذِبُ الرِّيحُ أطرافَ الغصون بها ... فتنْثَني والهوى ضَرْبٌ من اللَّمَمِ يوماً بأحْسَنَ مَرْأى من شمائِلِها ... وقد أتتْ بعِتابٍ من أخي كَرَمِ مُهذّب القول إلا أنه أُذُنٌ ... يُصْغى إلى قول واشٍ بالنِّفاق سُمِى لا يعرفُ الوُّدُّ إلا مَذْقَ ساعته ... والشَّاهدُ العَدْلُ ما يتلُوه من قَسَمِ هيْهات ما الوُدٌّ ممَّن كنتُ أعهدَهُ ... باقٍ وقد حال عن عهْدِي ولم يَدُمِ فيالَه من عِتابٍ لم يَفُهْ أبداً ... بمثْلهِ أحدٌ في سالفِ الامَمِ سِوى امْرئٍ ساء ظنَّا في صنائِعه ... فساءَ ظناَّ بخِلٍّ غير مُتَّهَمِ وشاتمُ العرْض فيما قيل، كُنٌ فطِناً ... مَن بلَّغ القولَ لا مَن ذاك عنه نُمي لا يُعزَيَنْ ذاك للإحسان والنِّعَمِ ... بل ذاك يُعْزَى لبُهْمِ القاع والنَّعَمِ كم من أخٍ صارمٍ وُدِّي صبَرْتُ ... حتى ارْعوَى ووِدادِي غُيرُ مُنصرِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 يا مَن تُعمِّر منه بيْتَ باطنِه ... وظاهرُ الأمر أن البيْتَ لم يرمِ يا مَن به مِن وِدادِي كلُّ خالصةٍ ... أصفوُ بها صَفْوةَ الأخْلاقِ مِن شِيَمي أصِخِ إلى القول وأسْمعْ ما أقول فَليِ ... صَبْرٌ ركنُ رَضْوَي غيرُ مُنْهَدِمِ قد كُنْتَ رَيْحانةَ العيْشِ التي بَسَقَتْ ... أغصانُها في حِمَى المعروفِ والكرَمِ فصَّوحتْ وذَوَى الغصنُ الرَّطيبُ فلا ... دارٌ بَحزْوى ولا رَبْعٌ بذَي سَلَمِ ولا مَعاجٌ على سِقْطِ اللِّوى وبه ... جآذرٌ قد كَحلْنَ الوُدَّ بالسِّقَمِ ولا على طلَلٍ دَمْعٌ يُراقُ ولا ... يُؤَرِّقُ الجَفْنَ ذكرُ اْلبانِ والعلمِ ولسلَمْ على حالَتيْ وُدٍّ وصَدْق وَلاَ ... ما زَان عِقْدَ نِظامِ جَوْهرُ الكَلَمِ وكان له غلام تُعصَر من شمائله سُلافةُ اللّطَّافة هَمَّتْه في خِدمتِه خِفَّةُ النشاط إلا أردافُه، أحْلَى من ظَفَر عَانى، وألذُّ من حديث الأماني، لو قيل للحُسْنِ تَمَنَّ المُنَى. تمنَّى أنه مثلُه، لشغَفِه به سلَّم له قلبَه، فَسرى به رَبْطه وحَلَّه، فسلبَه منه الزمانُ أبو البدائِع، وما كلُّ خَرْفٍ إذا وَهَى له راقِع، فكتب إلى الشريف أمير الشام، يستعْدِيه على أعدائِه، وأقسم عليه بالحَمِيَّة الهاشميَّة الموْرُوثة من آبائِه، بقوله: باللهِ يا نَشْرَ العَبي ... ر سرَى بِرَوْضاتِ الغَرِيَّ طاف المشاهدَ وانْثْنَى ... نَشْوانَ مِن كأسٍ رَوِىِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وأقام بالزّوْراء مِنْ ... ها في رياض الَخْابريِّ مُتَنَزَّلِ الآى الكري ... م ومَهْبطِ الوَحْي السَّنِيِّ إن جئْتَ رَبْعَ الشَّام فاقْ ... صِدْ ساحةَ الشَّرفِ العَليِّ أعني الشريفَ ابنَ الشري ... ف ابن الشريف المُوسَوِيِّ مُتحمِّلا عِنِّي السَّلا ... مَ كمِسْك دَارِين الذَّكِيِّ لِجَنابِ مولانا الوزير ... ر وَلِيِّ مولانا عَليَّ ثم أشرَحَنْ مِن حالِ مو ... لاه المحبَّ الطَّالُويِّ ماذا لَقى في ثَغْرِ صَيْ ... دا مِن دُرُوزِيٍّ غَوِيِّ دينُ التنَّاسُخِ ديُنه ... لا بل يَدِيِن بكلِّ غَيِّ ويرى الطَّبائعَ أنها ... فعَّالةٌ في كلِّ شَيِّ وافَي بمكتوبِ الشري ... ف إليه من بلدٍ قَصِيِّ يُوصِية فيه كأنَّما ... أوصاهُ في أخْذِ الصَّبيِّ فسقاهُ يوم فِراقهِ ... لا كان بالكأسِ الرَّوىِّ وغدا الحشاَ مِن بعدهِ ... يْبِكي بدمعٍ عَنْدَمِيِّ في غُربةٍ لا يشْتكى ... فيها إلى خِلٍّ وفيٍّ لا جارَ يْحميهِ ولا ... يأْوِي إلى رُكْن قَوِيٍّ إلاَّ إلى رُكنِ الشري ... ف الطاهر الشِّيَمِ الزَّكِيِّ حامي حِمَى الشرع الشري ... ف بكل أبْيَضَ مِخْذَميِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 مولاي لي حقٌّ علْي ... ك فجُدْ به من غْيرِ لَيِّ بولاءِ حَيْدَرةَ الوَصِي ... أخي النبيِّ الهاشِمِيِّ لا تُهْمِلن مِن أخْذِ ثا ... رِي من كَفورٍ بالنَّبيِّ وابْعثْ إليه مَقانِباً ... فيها الكمِيُّ على الكميِّ لو حاربَتْ جُنْدَ القضَا ... ءِ ثنَتْ سُراهُ عن مُضِيّ جرَّافَةٌ لم تُبْقِ في ... أَطْلالِه غيرَ النُّؤِىِّ وأُشَيْعِثٍ ينْعِي الدِّيا ... رَ مع ابن دَايَةَ في النَّعيِّ قلتُ: هذا بُردْ سابِريّ أو سحرٌ سَامِرِيّ، تجري منه مياه الفصاحة، وتزهو من مُحَّياه أنوارُ الملاحة، وفيه نَفْحة عَلويَّة، وشِكايةمن ابن مَعْن، وهو من الطائفة الملحدة القائلين بالتَّناسخ، على رأي الحاكم بأمر الله، ويقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 لهم: دُرزِيّة نسبة لحسين الدُّرْزِيّ، وهو صاحب دعوة الحاكم، ومعنى الدُّرْزِيّ: الخيَّاط. وقوله:) الوصي (هو عليّ رضي الله عنه، زعم الشيعة أن صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة للأمام عليّ رضى الله عنه حين تآخى معه في غَدِير خُمّ، وهو أمر مخالف لأهل السنة، إلا أن ممدوحَه كان يقول بذلك، فجرى في شعره على مُعْتْقَدِه، والله أعلم بالسَّرائر. وقوله:) لو حاربت (غُلُوٌّ كان ينْبغي تركه. و) الغَرِيّ (موضع بالكوفة، دفن فيه عليّ كرم الله وجهَه. ) والنُّؤِىّ (بضم النون والهمز، جمع نُؤْى، وهو ما يُحفَر حول الخِباء حتى لا يدخله المطر. والمراد) بأُشَيْعِت (تصغير أشعث، الوَتِد؛ لأنه يشعَت إذا دُقَّ. ) وابن دَايَة (كُنْيَة الغراب، والمراد إنه لا يُبْقى لهم أثراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ومما أنشَدِنيه قوله، وقد أرسلها من الروم إلى الشام: أنُسَيْمةَ الرَّوضِ المطيرِ ... بالعهْدِ في زمنِ السُّرورِ وأَنِيِقَ أيامِ الشَّبا ... ب وعَيْشِه الغَضِّ النَّضيرِ ووَثيقَ أيامِ التَّصا ... بي يالَمَعْهدِها الخطيرِ ومعاهدٍ كان الشَبا ... بُ وشَرْخُه فيها سَميرِي هوَّمْتُ فيه فصاح بي ... داعي الصباح المُستَنِيِرِ فطِفتُ أنظرُ منه في ... أعْقابِ بَرْقٍ مُستَطيرِ قد كان حسَّانُ المرا ... بِع فيه حسَّانَ البُدورِ أيامَ غُصنُ شبيبَتِي ... ريَّان من ماءِ الغرورِ وُذؤابتي شَرَك المَهَا ... وحُبَالَة الظَّبْي الغَرِيرِ حيثُ الشَّبيبةُ روضةٌ ... غنَّاءُ صافيةُ الغديرِ فَنَّاءُ رائدُها المَهَا ... ةُ الرُّودُ من رِيمِ الخُدورِ من كلِّ مُخْطفة الحشَا ... كأخِى الرَّشا أختِ الغَرِيرِ طلعَتْ بليل ذوائبٍ ... أبهْى من القمرِ المنيرِ بيْضَاءَ وشَّحَت التَّرا ... ئبَ والنُّحورَ من الثغورِ فكسى معاطِفَها الشَّبا ... بَ الرَّوْقَ حسَّانُ الحَبِيرِ تمْشِي أنَاةَ الخطْوِ في ... ها رَوْعةُ الظَّبْيِ النَّفُورِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 قوِيتْ على قْتلِي وفي ... ألْحاظِها ضَعْفُ الفُتورِ وبما جرَى يومَ النَّوى ... من دُرِّ مَدْمِعها النَّثيرِ كالعِقْد أسْلَمه النِّظا ... مُ من التُرائبِ والنُّحورِ وبوَقْفةِ التَّوديعِ والْ ... أَنْفاسُ تَصْعَد بالزَّفيرِ ويَدُ الفِراق تشبُّ في الْ ... أحشاءِ نِيرانَ السَّعيرِ إلاَّ سَرَيْتِ مع الصَّبا ... يا نَسْمةَ الروضِ المطيرِ فاجْتَزْتِ من أرض العرا ... قِ على الَخْوَرْنقِِ والسَّديرِ ووقفتِ بالزَّوراءِ وَق ... فةَ زائرٍ أوفى مَزُورِ وحملْتِ للكرْخِ التَّحِيَّة ... من أخِى شجَنٍ أسيرِ ونزلتِ من نهر الأُبُلَّ ... ةِ والصَّراةِ على شَفِيرِ وأقمتِ في شطَّ الفُرا ... تِ بمُلتَقى العذْبِ والنَّميرِ وسمعْتِ هَينَمةَ الرِّيا ... ض وصوْتَ جائشةِ الخريرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وجذَبْتِ في تلك الحداِ ... ئقِ طَوْقَ ساجعةِ الهَدِيرِ خُفَّتْ بسَرْوٍ كالقِيا ... نِ تلفَّعتْ خُضْرَ الحريرِ ولثَمْتِ خدَّ الروضِ في ... هـ نباتُ رَيْحان طَرِيرِ وثنَيْتِ عِطْفك والصّبا ... حُ يكاد يُؤذِنُ بالسُّفورِ وأتيتِ بابل فاصْطَبَح ... تِ بمثل مصباح منيرِ يُغْنِيِك مُتْهِمَةً ومُنْ ... جِدَةً سناها عن خَفيرِ ثم انبريْتِ مع الجَنُو ... ب وحُدْتِ عن مَسْرَى الدَّبُورِ حتى نزلْتِ على الأرا ... كَةِ أو رسَيْتِ على ثَبِيرِ فسقطتِ مِن أرض الخُزَا ... مَي والبَشاَمِ على الَخبِيرِ وطلْعتِ نَجداً والدجى ... يُسْتَلُّ من أثواب قِيرِ ومشيْتِ فوق عَرَارِه ... ما بين حَوْذانٍ وخِيرِ وهبَطتِ غَوْرَ تِهَامَةٍ ... والشُّهبُ مالَت لِلغوير ونزلْتِ في سَفْحِ الأرا ... كِ وشُفْتِ زاهيةَ البريرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وسلكَتِ من وادي العِقي ... ق منابتَ العَجَم الشَّكِيرِ وأمَلْتِ فيه ذوائبَ ال ... أغصانِ من طَلْحٍ نضيرِ وهصَرْتِ باناتِ النَّقا ... هصْر الرَّوادف للخُصورِ فحملْتِ منها من غَوا ... لي المِسْك فاغِيةَ الزَّهورِ وعبرْتِ دَارِيِنَ العطا ... رِ وشِمْتِ غالِيةَ العبيرِ وازْدَدتِ من أرَج الكبا ... ءِ ورَنْدِه عند المسيرِ وجَزَعْتِ وادي الشَّحْر ليلاً وانثنَيْتِ مع البُكورِ والصبحُ يخطُر في الدجْى ... كالوحْيِ يخطُر في الضميرِ والنَّسْر فيه واقعٌ ... خوفَ الصباح لدى الوُكورِ وكواكبُ الجوْزاءِ مُمْ ... سكةُ الأعِنَّة عن مسيرِ خافت سُهَيْلا فانتضَتْ ... سيفاً من الشِّعْرَي العبورِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 والنجمُ يهْوي للغرو ... بِ كأنه كفُّ المُشيرِ فهبطْتِ رَبْع الشامِ دا ... رَ اللَّهْو بل مغْنى السُّرورِ ونزلْتِ بالوادي المقدَّ ... سِ شاطئاً غيرِ الشطيرِ وخطَرْتِ من بطْحاءِ وا ... دي النَّيِربَيْنِ على الصخورِ ووقَفْتِ في تلك الرُّبى ... ما بين روضٍ أو غديرِ وقرأْتِ سُكَّانِ القصو ... ر بها السلامَ بلا قُصورِ لا سِيمَّا شيخِ العلو ... م مفيدِ أربْابِ الصُّدورِ شمسِ الهدايةَ والدِّرا ... ية شيخِ جامِعها الكبيرِ كشَّافِ أسرار البلا ... غةِ عُمْدةِ الفتْحِ القديرِ مُعلىِ منارَ الشّرعِ مُغْ ... نى المُعتَفِى كنزِ الفقيرِ ورئيسِها قاضي جما ... عتِها المُحكَّمِ في الأمورِ الفاضلِ اللَّسِن المفُوّ ... هِ والمُنزَّهِ عن نظيرِ أعْنِي به القاضي مُحبَّ ... الدِّين ذا الرأيِ المنيرِ مَوْلَى أراعَ يَرَاعُه ... قلبَ الطُّروسِ مع السُّطورِ ببديع وشْيٍ مُخجِلٍ ... وشْيَ البديعِ أو الحَرِيرِي وأبى الضِّياَ حسنِ حلي ... فِ الفضلِ والأدبِ الغزيرِ عجَباً له فاق الأوا ... ئلَ وهو في الزّمنِ الأخيرِ أدبٌ يروقُك مثلُ زه ... رِ الروضِ غِبَّ حَياً مطيرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ومنها: ومُشيَّدِي أرْكانها ... أمراءِ مُعلمِها الخطيرِ منهم جَنابُ الطَّا ... لُوِيّ سليلُ أرْتَقَ ذِي السَّرِيرِ مُحْيِي مكارمَ حاتمٍ ... بين الأنام بلا نَكيرِ والمنجَكِىُّ مُحمدُ السَّ ... امِي على الفَلَكِ الأثِيرِ فهو الأميرُ ابن الأمي ... رِ ابن الأميرِ ابن الأميرِ ذكَرتْهُمُ الأنواءُ ذِكْ ... رِى بالعَشِيَّ وبالبُكورِ وكساهمُُ خُلَعَ الشبا ... بِ الرَّوْقِ مُقتَبلُ الدُّهورِ وقد عارض بهذه القصيدة ما في) الحماسة (وللناس على مِنوالها قصائدُ كثيرة، أحسنها ما للشَّريف الرَّضِيّ: نطَق اللسانُ عن الضَّميرِ ... والسِّرُّ عُنْوانُ الصُّدورِ وعلى مِنْوالها لأبي بكر الخُوَارَزْمِيّ قصيدةٌ، مطلعها: إن الأُلى خَلْفَ الخُدورِ ... هم في الضَّمائرِ والصُّدورِ وقع الغُبارُ عليهمُ ... فغدا يَتِيه على العبيرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 لمَّا مشَيْن على الثَّرى ... تاهَ الترابُ على الأثيرِ يا سائِلي مَن في الهوا ... دجِ والبَراقعِ والستُّورِ فيها الرَّضاعُ من الِمنَّية والفِطامُ عن السُّرورِ وأنشدني من قصيدة أخرى له: ذكر العقِيقَ فسال في أجْفانه ... فاشْتفه وجداً إلى سُكَّانِهِ واشْتَمَّ في ريح الصِّباَ ... فصباَ حليفَ جَوًى إلى أوطانِهِ وشجاهُ مسجورَ الفؤادِ إلى الحِمَى ... وُرْقٌ سواجِعُ هِجْنَ مِن أحزانِهِ تملى من الورق الغرام وطالمَا ... دُرِستْ فنونُ العِشْق من أفنْاَنِهِ فيهِنَّ سالِمةُ الحشاَ من لوعةٍ ... لم تَدْرِ طعمَ الوصلِ من هِجْرانِهِ تمسِي وتصبحُ في أرائِكِ أيْكِها ... مع إلْفِها والعمرُ في رَيْعانِهِ ترْتادُ أرضَ الشامِ أخْصبَ منزلٍ ... حيثُ العَرارُ صفاَ إلى حَوْذَانِهِ حيثُ المغاني مُشرِفاتٌ بالدُّمَى ... والغانياتُ يطُفْنَ حول مغانِهِ في ظلَّ مُنْبَجِس اللُّجَيْنِ جرى به ... ذهبُ الأصيل يسيلُ من عِقْياَنِهِ أحْوَى الظِّلاَلِ كان سُمرَتَهُ لُمًى ... عذْبٍ المراشِفِ نَدَّ عن غزْلانِهِ بَيْناَ تردَّد فيه من عذْبٍ إلى ... عذْبٍ يتُوق إلى العُذَيْبِ وباَنِهِ مع صَفْوِ عيشٍ إذ رمَتْها نِيَّةٌ ... للرُّوم فاجَتْها يُسود رِعانِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 هبطَتْ بها الأقدارُ أرضاً لم يكُنْ ... فيها نزولُ الوَحْيِ مَعْ فُرْقانِهِ سوداءُ مُظلمِةُ الرِّحابِ كأنها ... قلبُ الحسودِ علَتْهُ ظُلْمةُ رَانِهِ فغدَتْ تَنوُحُ على البلادِ بمَدْمَعٍ ... سَحٍّ يُباَرِي الغيْثَ في تهتْاَنِهِ مأسورةَ القلبِ المُعنَّى من جَوًى ... مسجورةَ الأحشاءِ من نِيرانِهِ تبْكيِ إذا ذُكرِ الحِمَى حيث الحِمَى ... روضٌ تُغرِّد في ذُرَى أغْصانِهِ تنْفَكُّ تنثُر لؤلؤاً من أدمُعٍ ... كالدُّرِّ يُنْظَم في سُمُوط جُمَانِهِ حتى ترى روْضَ الحِمَى أو تجْتلِي ... روضَ ابن بُستانٍ وحيدِ زمانِهِ ذو رُتْبةٍ في المجدِ رامَ بلوغَها الْ ... فَلَك المُحيطُ فلَجَّ في دوَرانِهِ سبقَته فاستْعدَى عليناَ طاوياً ... لصحائفِ الأعمارِ في سَرَعانِهِ وله من أخرى: لي فيكمُ كدَرَارِي الأُفْقِ سائِرةٌ ... هِيِ اللآَّلِئُ ألا أنَّها كَلِمُ مِن كلَّ شامخةِ العِرْنيِن تَحسَبُهُاَ ... في الشَّعر ليْثاً لها من نفْسِها أجَمُ تبْقَى على صفحاتِ الدهر خالدةً ... كالأنجُمِ الزُّهْرِ عِقْداً ليس ينْفَصِمُ أو غادةٌ حسنُها قَيْدُ النَّواظرِ في ... ألْحاظِها سَقَمٌ في أنفِها شَمَمُ وله من أخرى: حِمَى الشَّام جادَ الغيثُ ما حلَّ تُرْبَه ... مغانيِ الهوى فيها مغاَنيِ أحبَّتِي وباتتْ بأَغلَى النَّيْرَ بَيْنِ مع الصَّبا ... تطارحُها ذِكْرى عهودٍ بربَوْةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 على نَهَرٍ حَصْباؤُه الشُّهْبُ قد جرى ... خِلالَ سَمَا رَوْضاتَها كالمجرَّةِ يجاوبُ تَسْجاعَ الحَمامِ خَرِيرُه ... فتُصغِي له الوَرْقاءُ من فَوْقِ أيْكَةِ ولله دَرُّ أبي الحكمِ، في قوله في هذا المعنى: وتحدَّث الماءُ الزُّلال مع الحصَى ... فجرى النَّسيمُ عليه يسمعُ ما جرَى فكأنَّ فوق الماء وَشْياً ظاهراً ... وكأنَّ تحتَ الماءِ سِرُّا مُضْمَرَا وقوله من أخرى: بَيَاضُ طِرْسِ جرى ذَوْبُ النُّضَارِ على ... لُجَيِنِه بلآلٍ حيَّرتْ فِكَرِي كاللُّؤلؤِ الرَّطْبِ إلا إنها فِقَرٌ ... غيرُ الأديب إليها غيرُ مُفتقِرِ ومنها في السُّفُن: ركائبٌ ليس ترْضَى بالجديلِ أباً ... لكنها من بناتِ الماءِ والشَّجرِ شُمُّ العَرانِين دُهْمٌ ما بها وَضَحٌ ... إلا نُجومُ الَّياليِ مَوْضِعَ الغُرَرِ ما زلتُ أجِدفُ طُوفانَ الخُطوب بها ... وأتَّقِي حادثَ الأيامِ والضَّررِ ومنها: خُذْها فدَتْكَ نفوسُ الشِّعر قاطبةً ... فقد علَتْهُ بمدحٍ فيك مُبتَكَرِ طائِيَّةُ الأصلِ إلا أنها نشَأتْ ... برَبْوة الشّامِ في روضٍ على نَهَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ورأى نَيْلَوْفَرَة صدَفَاً لِدُرَ السحاب، وحُقَّه لجوهر النَّدى المُذاب، كأنها بَوْتَقة أذابَ بها الجوُّ نُضارَه، أو كأسٌ في يد مُصْطبِح يُداوِي بها خُمَاره، أو مقلةُ صَبٍّ كئيب قد فَجأة على الغفْلةِ الرَّقيب، بعد ما امتلأتْ بدمعِ الهوى، وتردَّد فيها الدَّمعُ من حَيْرة النَّوى، وقد طفَا عليها الماءُ الزُّلال، فبلغ حافاتِها وما سال، بل لِخَشْية فراقِها، تشبَّثَ بأهْداب أوراقِها، فقال مُضِّمناً وأجاد: ونوفرةٍ كعين الصَّبِّ شَكْرَى ... تَجُمُّ الماء خشيةَ أن يُراقَا ذكرتُ لها النَّوى يوماً ففاضَتْ ... وصارت كلها للدِّمعِ ماقَا ) وشكري (بشين معجمة بمعنى ممتلِئة، وهو من قصيدة للمُتَنَبِّي، أوّلها: نظرتُ إليهمُ والعين شَكْرَى فصارت ......... الخ وأنشدني له أيضاً: شامَ بَرْقَ الشَّامِ بالرُّومِ خدوعا ... فانبرَتْ أجفانهُ تذْرِى الدُّموعَا هَبَّ من عَلْيا دِمشْقٍ مُوهِناً ... هَبَّةَ المِصْباح في الليل ذَرِيعاً جَزَع الآفاق في هَبَّتِه ... وأتى الرُّومَ سُرَى الأيْم جزوعا خفَقت راياتهُ في أُفْقِه ... خَفَقَان القلبِ قد أمسى مَرُوعَا وقعتْ شُعلتُه وَسْط الحشا ... وسَنَاه طارَ في الجوَّ رفيعاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ليس يدْرِي وَقْعَها غيرُ شَجٍ ... فارق الأوطانَ مثلِي والربُّوعَا أو مُعَنَّى بهوَىً تَيَّمَهُ ... من غزالٍ لراح للوصلِ مَنوُعَا يُخجِلُ الشمسَ سناهً وسناً ... ومَهاةَ الرَّمل جِيدا أو تَلِيعَا أسْهَر الجَفْنَ خَلِيَّا عن كَرًى ... مُقْلَةً لا تَطعَمُ النومَ هُجوعَاً كيف يكْرَى ناظرٌ فارقَه ... ناضِر العيشِ من اللَّيلِ هَزِيعاً وشبابٌ شَرْخُه مُقتبِلٌ ... كان للصَّبِّ لدى الغِيدِ شَفيعَا لم يكن ألا كحُلْمٍ وانْقَضَى ... أو خيالٍ في الكرى مَرَّ سريعَا أزْمَعَتْ حسْرتهُ لا تنْقضِى ... آهِ ما أسرعَ ما ولَّى زَمِيعَا لستُ أرضى منه بالسُّقْياَ له ... وسحابُ الْجَفْن يسْقيه النَّجَيعَا والذي هاج الهوى قُمْرِيَّةٌ ... بالضُّحَى تهتِفُ بالأيْكِ سَجُوعَا كلما ناحَتْ على أفْناِنها ... هاجَت الصَّبَّ غراماً ووُلوعَا وإذا عنَّتْ له غَنَّت له ... ذكَر الشَّامَ فزادَتْه صُدُوعَا يا سقىَ اللهُ حِماها وابِلاً ... مُسْبَل الطَّرفِ من الغيْثِ هَمُوعا حيث رَبْع اللهو منه آهِلٌ ... والغواني في مغانِيها جميعاَ كل رُودٍ لبستْ شَرْخَ الصِّبا ... وهَوًى إن تدْعه لبَّى مُطِيعَا كم لنا فيعنَّ من بَهْنَانةٍ ... وَلِعَ القلبُ بها خُوداً شَمُوعَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 لستُ أنْسَى ساعةَ التَّوديع إذْ ... وقفَتْ في موقفِ البَيْن خُضوعَا وهْيَ تَذْرِي لؤلؤاً من نَرْجِسٍ ... فوق وَرْدٍ كاد طِيباً أن يَضُوعَا علِقتْ ذَيْلي وخانَتْها الهوى ... فانثَنتْ من وقفةِ البَيْن صَريعَا وأفاقَتْ وبها حَرٌّ الجوَى ... ثم قالتْ وشكَتْ دهراً خَدُوعَا لا رعَى اللهُ المعالي مَطلَباً ... كم نرى صباَّ بها مُغْزًى وَلُوعَا كنت لي بدراً منيراً فاخْتفى ... في سِرارٍ بعد ما سَرَّى طلُوعَا وشباباً لاح بَرْقاً عندما ... أشعلَ الرَّأْسَ سَناً راح سريعَا أيها الظاَّعنُ والقلبُ على ... إِثْرِه مذ سار ما زال هَلُوعاَ لا تكنْ للعهد بعدي ناسياً ... يا حياتي واعْطِفَنْ نحوي رُجوعَا وهي طويلة، ذكر فيها تغرُّ بَه بالروم، واشتياقَه للشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 محمد بن قاسم الحَلَبِيّ يتيمة الدهر، وبَيْضة البلد، ممن نزلتْ فضائلُه بين العَلْياء والسَّنَد، أخ لمن تجَّنبه الدهرُ شقيق، حُرّ العِرض على أنه عبدُ الصَّديق، فكم له من يدٍ خضراء تنبتُها يدٌ بيضاء، كما اخضرَّت الهِضابُ، من أبيض نسْج خيوط السحاب. تَمُدُّ له الآفاقُ بِيضَ خيوطِه ... فتنسِجُ منها للثرى حُلَّةً خَضْرَا وله شعر رَاقَ بجيد الدهر عِقدُه، وعَذُبَ على لسان الدهر المُحلى بالفصاحةِ وِرْدُه، وزها يانِع رياضِه البهيَّة شقِيقُه وَوَرْدُه، مع فضلٍ حَلا في أفْواه الليالي ثناؤُه، وأضاء في دُجَى المشكلاتِ سَنَاهُ وسناؤُه. له صحائفُ أخلاقٍ مُهذَّبةٍ ... منها الحجَى والعُلا والفضلُ يُنْتَسَخُ وكانت أخباره تغدو على مسامعي، فتتشوَّقُ إلى لُقْياه أجفانُ عيون مطامعي، حتى لقِيتُه بالروم، فاهتزَّت به أعطافُ المسرَّة، ونِلْتُ به ما هو للرُّوح قُوتٌ وللطَّرف قُرَّة، وعُود الدهر المُورِق يختال في غلائِله، وفَيْنان رَوْضه كأنما سُرِق الحسنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 من بعض شمائِله، بطبعٍ أرقّ من بُرْد النسيم هلْهَلَه الشَّمال، وأصْفى من رِيق مُدامَةٍ صفَقها العَذْب الزّلال، فدارتْ بيننا شَمُول آدابٍ ظلَّ لها ثَغْرُ الأنس باسماً، وانتظمتْ عقودُ عُهُودٍ كان لها كفُّ المودَّةِ ناظماً، ولمَّا يرْضَ مُقامَه بحلب، وفطَم أملَه مما أدرَّ الدهر له بها وحلب، لأن زامِرَ الحيِّ لا يُطرب، وما كل حاملةٍ إذا أُنْتِجَتْ تُنجِب، سار عنها وسلك الطريق، حتى نزل بين وادي العُذَيْب والعَقِيق، فلما أخذ الله كريمَتيْه، وعوضه جنَّةَ عَدْن لديه، تربَّعتْ أقدامُ أقدامِه، وقد سُقِط في يديْه، فقد ينتظر دعوتَه حتى تلقَّاه، وإن كان مع الرَّكب اليمانين هَواه. على المرءِ أن يسْعَى لما فيه نفعُه ... وليس عليه أن يساعِدَه الدَّهْرُ فما دار بيننا من كؤس الأدب، ما كتبتُه إليه وقد قدم من حلب: حَتَّى مَ يغزوني صُدودُه ... والصبرُ قد كُسِرتْ جنودُهْ سكرانُ من ألحاظِه ... قامتْ على قلبي حُدودُهْ وسَقيمِ طَرْفٍ لم تزلْ ... أبداً لواحِظُنا تعودُهْ برَقتْ بوارقُ وَصْلهِ ... والهجرُ قد خَرِستْ رعودُهْ غصنٌ تَمِيلُ به الصَّبا ... في كُثْبِ أرْدَافٍ تَئُودُهْ لم أدْرِ فاتِرُ جَفْنِه ... والخِصْرُ أسْقَمُ أم عهُودُهْ نَشوانُ يعبثُ بي كما ... عبَثْت بآمالي وُعودُهْ لولا مِياهُ الحُسْنِ جا ... لتْ فيه لاحترقَتْ خدودُهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 كالصَّبِّ لولا دمعُهُ ... يهْمِى لأحرقَه وَقودُهْ يُخفِي الهوى وعيونهُ ... بغرامِه الُمْضْنَي شُهودُهْ بشهادةٍ ليست ترَدُّ ... فليس ينفعُه جُحُودهْ فسقَى رِياضَ الحُسنِ من ... دمْعِي حَيّا يَهْمِي مَدِيُدُه زمنٌ بجِيِد اللهوِ قد ... نُظِمَتْ على نَسَقٍ عقودُهْ إذ دَوْحُ أُنْسِى يانِعٌ ... بكئوسِنا انفتحَتْ وُرودُهْ والكاسُ نَجمٌ لاح في ... فَلَكِ المسرَّةِ لي سُعودُهْ يصفُو فيحْكِي ذِكْرَ مَن ... قد زيَّن الدُّنيا وُجودُهْ ذاك ابنُ قاسمٍ الذي ... ما زال في تعَبٍ حَسُودُهْ رُقِمَتْ به حُلَلُ العُلا ... وزهَت بطلْعتِه بُرودُهْ ما زال يُسْقَى من مِياهِ ... الفضلِ حتَّى اخْضرَّ عودُهْ فيكاد يُورِق بالسَّعا ... دةِ مُثِمراً منها وفودُهْ قد كان دَهْرِي عاطلاً ... حتى تحلَّى منه جِيدُهْ مَجْدٌ طَريفٌ يُغْرِق الْ ... أفكارَ إذ يبدُو تَلِيِدُهْ يا مالكاً رِقَّ الْقُلو ... بِ فكلُّها حُباَّ عَبِيدُهْ بل جَنَّةٌ فيها بطِ ... يبِ ثنائِنا أبدَا خلودُهْ في الشِّعر ليس ببالغٍ ... أدْنى بَديِهِته وَلِيدُهْ قد كان فِكْري صائماً ... حتى طلَعْتَ وأنت عِيدُهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فإلْيْكَها عِقداً لِجي ... دِ الدَّهرِ زَيَّنَة نضَيدُهْ بِكْراً يرُوم جوابَها ... مَهْراً تروقُ لها نقودُهْ ولئن تكُنْ قَيْدَ النُّهى ... فالحبُّ تُسْتَحْلَى قيودُهْ فالْبَسْ لباسَ مسرَّةٍ ... في الدهرٍ لا يَبْلَى جديدُهْ فأجاب، وأجاد: للظَّبْيِ لَفْتَتُه وجِيدُهْ ... والوَرْدِ ما أبدَتْ خدودُهْ والدُّرُّ يزهُو بالذي ... في ثَغْرِه منه نَضِيدُهْ وبوجهِه شَرَكَ العُقو ... لِ فأيُّ عَقْلٍ لا يَصِيدهُْ في كلِّ يوم للهوى ... من حُسنهِ معنىً يَزِيدهُْ روضٌ سقاهُ الله ما ... ءُ الحسنِ فاحمرَّتْ خدودهُْ يستوقفُ الأبصارَ حتَّى ... لا يَسُوغَ لها وُرودُهْ مَلِكٌ تحكمَّ في الجما ... لِ فنال منه ما يُرِيدُهْ وجرى بأسْرارَ الهوى ... للنَّاسِ من دَمعِي بَرِيدُهْ ما زال يسطوُ في الورَى ... من فعلِ مُقْلته جُنودُهْ حتى ظنَنَّا أنه ... بالأجْر آثَرَه شهيدُهْ يُبْدِى الصدودَ وكلَّما ... صانَعْتهُ عنهُ يُعِيدُهْ أتراه يجْحَدُ ما لقِ ... يتُ به وهل يُغْنِي جُحودُهْ وهو النَّهارُ إذا بدَا ... مِن نفسِه قامتْ شُهودُهْ كضياءِ مولانا شِها ... بِ الفضْلِ إذْ طَلعتُ سُعُودُهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ما زال يسُمو في سَما ... ءِ المجْدِ زيَّنَها وُجودُهْ حتى تقطَّعتِ المطا ... معُ عنه واسْتَعفى حَسودُهْ وَقَّادُ فِكْرٍ أيُّ خَطْ ... بٍ ليس يُطفِئُه وَقودُهْ كُرمَتْ له هَمِمٌ إلى ... غيرِ العُلا ليستْ تَقودُهْ يزهُو على جِيدِ الزما ... نِ بما يُنمِّقُه فريدُهْ مِن كل سَجْعٍ من مزا ... يا الحُسنِ قد نُظِمتْ عُقودُهْ وإذا ذكرتَ الشِّعر فهْ ... وَكما سمعْتَ به لَبيِدُهْ قد كنتُ أجْهَد في ابتْغا ... ء لقاء أيامٍ تُفِيدُهْ حتى وَفَتْ لي بالذي ... قد كان في أمَليِ وُعودُهْ فِلقيتُهُ البحرَ الخِضَمَّ ... يَفِيِضُ للعافين جودُهْ مُتدفِّقاً بالفضلِ تخ ... شى أن يفرِّقَها وُفودُهْ مَولايَ عُذْراً إنَّها ... من خاطرٍ قد جَفَّ عُودُهْ بعُدَتْ بقولِ الشِّعرِ في ... عهدِ الصَّبا حِيناً عُهودُهْ لبَّي دُعاكَ وأيُّ مو ... لىً لا تُلبِّيهِ عَبيدُهْ ما ضَرَّه عِيدٌ نَأَي ... ما دامَ من لُقْياكَ عِيدُهْ ومما أنشدَنِيه قولُه: مُتِّعْنَا يومَنا بصَحْوٍ ... ليس على الشَّمسِ منه سِتْرُ كأنَّ في الجوِّ منه كَنْزاً ... سال على الأرْضِ منه تِبْرُ وقوله في مليح مُصَفَر العِذار، كأنما خاف الدهرَ على ذَهاب حُسنِه، فقيَّده بسلاسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 النُّضار، أو ملك الجمال بلغ كماله، فمدَّ لمِشْكاةِ صُدْغِه سِلْسلة الغزالة: لمَّا الْتَحى تمَّتْ محا ... سنُ وجههِ وصفَتْ طباعُهْ وغدَا بلُطْفِ عِذَارِهِ ... قمراً أحاط به شُعاعُهْ ومما روَيْناه في معناه، قول الخطِيب الحَظِيرِيّ: وأشْقَرِ الشَّعرِ من لطافِته ... يَجرَحُ لَحْظُ العيونِ خدَّيْهِ فإن بدَا مَن يشُكُّ فيه فلِي ... شاهدُ عَدْلٍ من لونِ صُدْغَيْهِ وله أيضاً: كأنَّ صُدْغَيْهِ في أحْمرارِهِما ... قد صُبِغا من مُدامِ وِجْنَتِهِ وله أيضاً: ما أحمَرَّ شَعْرُ حبيبي أنَّ وَجْنَتِهُ ... سقَتْهُ من صِبْغِها خَمرْاً ولا خَجلاَ وإنما لفحَتْ خدَّيْهِ من كبدِي ... نارٌ فذبَّتْ إلى صُدْغَيْهِ فاشْتَعلاَ ومما أنشدَنِيه قولُه من قصيدة: قد دَعاهُ الهوى ودَاعِى التَّصابِي ... لاِدِّكار الأوطانِ والأحبابِ فأتَتْ دون صَبْرهِ من أليمِ الْ ... وجدِ نارٌ شديدةُ الإْلتِهاَبِ فذَوَى غُصْنُه الرَّطيبُ وجفَّتْ ... من رياضِ الصِّبا مياهُ الشبابِ شَعَرُ المرءِ نُسْخةُ العُمر والأيَّ ... امُ فيها من أصْدقِ الكُتَّابِ فإذا تمَّ منه ماكَتَبَتْه ... ترَّبَتْهُ من شَيْبهِ بتُرابِ لستُ آسَى على الصِّبا إنما أذْ ... كُر حقَّا لأقْدِم الأصْحابِ قد سقَتْنِي عهودُه العيشَ صَفْواً ... وكسَتْنِيه مُونِقَ الجِلْبَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ومنها: بحرُ فضلٍ لو قِيِسَ بالبحرِ كان ال ... بحرُ في جَنْبِه كلَمْع السَّرابِ مزَج الفضلَ بالسَّخاءِ كما ما ... زَجَ ماءُ الغَمامِ صَفْوَ الشَّرابِ وإذا قيل خُلْقُه الرَّوض أضْحى الر ... وضُ طَلْقاً بذلك الإنْتِسابِ ما عسى أن أعُدَّ من مَكْرُماتٍ ... ضَبْطُها قد أعْيَ على الحُسَّابِ وإذا ما الأفكارُ أُمعِن فيها ... غرِقَتْ من بِحَارها في عُبابِ أنتَ من ناظِر الزَّمان سوادْ ال ... عْينِ والناسُ منه كالأهْدابِ فصل قول:) شَعَر المرء نسخة العمر (إلخ، معنًى بديع، ونحوه قولي: لعَمْرِيَ إن الدهرَ خَطَّ بمَفْرِقي ... رسائلَ تدعُو كلَّ حيٍّ إلى البِلَى أرى نُسخة للعُمر سوَّدها الصِّبا ... وما بُيِّضتْ بالشَّيْب إلاَّ لتُنْقَلاَ ونحوه قول الأرَّجَانيّ: وقد علَتْ غبْرةُ الشَّيبِ الشَّبِيبةَ لي ... فبِتُّ للأجَل الكتوبِ مُكْتَلِياَ كتابُ عُمْرِي الليالي تّرَّبَتْهُ وما ... أدْنَى المُتَّربَ أن تلْقاهُ مُنْطَوِباَ وللأَمير العاصِمِيّ، وهو شاعر معاصر للصَّاحب، وإن لم يذكره في) اليتيمة (: تعجَّبَتْ حين ذَاع شَعْرِي ... من بَعْدِ نَضْوي الخِضابَ حالِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 قالتْ أهذا الذي أراهُ ... غُبارُ طاحونةٍ بَدَا ليِ فقْلتُ لا تعجبي فهذا ... غُبارُ طاحونةِ اللَّيَاليِ قلت: لولا مشاكلَةُ الطاحونة السابقة، ودورهُ معها لقبُحَت هذه الاستعارة جدّاً. وللغَزِّيّ: مسَحَتْ عارِضِي وما ذاك إلا ... أنها ظنَّتِ المَشِيبَ غُبارَا وقال العِماد: تشبيهُ الشَّيْب بالغُبار حسن، وكنت أظن أنّي ابتكرتُه في قولي: ليلُ الشبابِ تَولَّى ... والشَّيْبُ صُبْحٌ تألَّقْ ما الشَّيْبُ إلا غُبارٌ ... من رَكْضِ عُمْري تعلَّقْ قال: وشبَّهْتُهُ أيضاً بالتَّتْرِيب، في قولي: أصدوداً ولم يصُدَّ التَّصابي ... ونِفاراً ولم يَرُعك المَشِيبُ وكتابُ الشَّبابِ لم يَطْوه الشَّ ... وقُ ولا مسَّ نَقْشَه تَتْرِيبُ ولمحمد القَيْسَرَانِيّ: لا تُنكري وَضَحاً لَبِسْتُ قَتِيرَهُ ... رَكْضُ الزَّمانِ أثار هذا الْعِثْيَرَا وقوله:) كنت أظن أني ابتكرته (عجِبْب منه، مع قول ابن المُعتَزّ: صدَّتْ شَرِيرُ وأزْمَعَتْ هَجْرِني ... وصغَتْ ضمائرُها إلى الغَدْرِ قالَت كَبِرْتَ وشِبْتَ قُلت لها ... هذا غُبارُ وقائعِ الدَّهْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وهو مسطور في) ديوانه (وقد تابَعَه عليه كثيرٌ من الشعراء وتطفَّل عليهم العماد، لكنه طُفَيْليٌّ، وقد حذا حَذْوَه في قوله: إذا كتبَ الشَّبابُ سُطورَ مِسْكٍ ... وأترَبهُنّ كافورُ المَشِيِبِ فيا أسَفي وما أسفي وحُزْني ... سِوَى طَيِّ الصَّحيفةِ عن قريبِ على ذكر التَّتْريب، فما أحسن قول الطُّغْرائِيّ في وصف كَتِيبة من قصيدة له: عليها سُطورُ الضَّرْب تُعْجِمُها القنا ... صحائفُ يغْشاها من النَّقْعِ تَتْرِيبُ تُرْدِى الكتائبَ كُتْبُه فإذا غَدَتْ ... لم تَدْرِ أنْفَذ أسْطُرً أم عَسْكَرَا لم يُحسِن الإتْرابَ فوق سُطورِها ... إلا لأن الجيْش يَعْقِد عِثْيراً ومن إنشاء ابن الأثِير: صَدَر هذا الكتاب والفتْحُ غضٌّ طَرِيّ لم تَنصُلَ حُمرةُ يومِه، ولا أُغمِدتْ سيوف قومِه، فسطورُه تُتْرَب بمُثارِ عَجاجِه، مُمثَّلة بخطِّ ضَربِه، وإعجام زُجاجِه. وقلتُ مع زيادة حسن التعليل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 جيشٌ كأنَّ الأرضَ من تحتهِ ... صُحْفٌ غَدَت أقلامَهنَّ الرَّماحُ مذُ سطرَّ الجُنْدُ على وَجْهِها ... ترَّبَها النَّقْعُ فلاح الفلاحُ وأصل هذا ما رواه جابر، عنه صلّى الله عليه وسلم، أنه قال:) إذا كَتَبَ أحَدُكُمْ كِتاباً فَلْيُتْرِبْهُ، فإنَّه أنْجَحُ للْحَاجَةِ (. رواه أبو داود. وقد تكلَّم الناسُ فيه، وقيل إنه موضوع. وفي) النهاية (معناه، لِيَجْعل عليه التراب. وقال الطِّيبيّ ليُسْقِطْه على التراب، حتى يصير أقرب إلى المقصد، اعتمادا على الله في إيصاله إليه. وقيل: معناه التَّواضع في خِطابه، والمراد بالتَّتْريب المبالغة في التواضع. انتهى ومما أنشَدنيه: يا رَبْعُ سَقاكَ كلُّ مُزْنٍ غَادِ ... قد كُنْت محلَّ أُنْسِنا المُعتادِ هل يلحُظُني الزَّمانُ بالإسْعادِ ... يوماً فنَعُود فيك لِي أعْيادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 فائدة قال السُّيُوطي في) شرح السنن (: الإسعادة المُعاوَنة في النِّياحة خاصَّةً، وفي غيرها المساعَدة، أصله من وَضْع السَّاعد على الساعد. انتهى وعلى هذه فالإسعاد هنا ليس مُستَعْمَلا فيما وضعَتْه العرب، وإن صح على أنه مجاز مُرْسَل في مُطلق المُعاونة، لكنَّ الفصحاء يستقْبحون مِثْلَه. وقد بيَّنَّاه في كتاب قرض الشعر، المُسمَّى) حديقة السحر (فانظُرْه ثَمَّةَ. ومما أنشدَنِيه أيضاً قصيدةٌ في تهنئةٍ بخِتَان، واخترتُ منها قولَه: أعَلاَّمةَ الوقتِ مَوْلَى الموالِي ... وقُرَّةَ عينِ العُلا والكمالِ تَبَوَّأْ من المجدِ أعْلى مقامٍ ... وضَعْ نَعْلَ مَسْعاك فوق الهلالِ فقد أيقْن المجدُ أن المجيء ... بمثْلِك في الدهرِ عينُ المُحالِ فبُشْرَى لكم بالخِتانِ الذي ... به لبسَ المجدُ ثوبَ الجمالِ هو الشمعُ إن قُطَّ لا غَزْوَ أن ... أنارتْ به حالِكاتُ اللَّيالِي وظُفْرٌ بتَقْليِِمِه لا تزالُ ... أكفُّ المكارم منه حوالِ وتشْمِيرُ ذَيْل لدى الإسْتِباقِ ... لنَيْل الأماني وكسْبِ المعالي وما لِلْيَراع إذا لم يُقَطَّ ... فضلٌ يُعَدُّ على كلِّ حالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ومِن بعد بَرْيِ الغصون أزْدَهَتْ ... عليها أسِنَّةُ سُمْرِ العوالِي فلا برِحَتْ من مَزاياكُمُ ... بجيِدِ الزَّمانِ عُقودُ الَّلآلىِ فصل في معناه للقاضي الفاضل: الحمد لله أطْلَعه بثَنِيَّات الكمال، وبلَّغَه غاياتِ الجمال، ويَسَّره لدرجاتِ الجلال، ونقلَه تَنَقُّلَ الهلال، وشَذَّ تَشْذِيب الأغصان، وهذَّبَه تهْذيبَ الشُّجْعان، وأجرى فيه سُنَّةَ سَنَّ لها الحديدَ فنقَصَه المزِّيادة، واسْتَخْلَصه للسِّيادة، ودَرَّبَه للاصْطِبار، وأدَّبَه للانْتِصار، وألْقَى عنه فَضْلَهً في اطِّراحِها الفضيلَة، وقطَع عنه عَلَقةً حَقُّ مِثْلِها ألا تكون بمثلهِ مَوْصولَة، فلم يزَل التَّقْليم مُنَوَّها بالأغصان، ومُنَبَّها للثَّمر الوَسْنان، ومُبشِّرا بالنَّماء، ومُيسِّرا للنّشو والانْتِشاء. ولابن فَضْل الله، في خِتان الملك الناصر: لم يُرَوِّع له الخِتانُ جَناناً ... مُذ أصابَ الحديدُ منه حَدِيدَا مثلُ ما تُنقَص المصابيحُ بالقَطّ ... فتزْدادُ في الضِّياء وقُودَا وأصله قول الغَزِّيّ: تمالَك وُدّي حين قَلّمْتُ رأسَه ... قياساً على الأقْلامِ والشَّمْعِ والظُّفْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ولابن مَطْرُوح: لقد سَرَتِ البشائرُ والتَّهانِي ... إلى الثَّقَليْن من إنْسٍ وجاَنِ ويَصغُر كلُّ مْبْتَهِجٍ إذا ما ... نسَبْناهُ إلى هذا الخِتانِ تَوَدُّ الزُّهَرةُ الزَّهراءُ فيهِ ... لو اتُّخذت له إحدى القيانِ وأن البَدْرَ طَارٌ في يدَيْها ... وأن مُراسِلَيْها الفَرْقَدانِ وتسْملِى من الأفْلاكِ لحناً ... فما قدرُ المثالِث والمثاَنِي وتسْقى بالثُّريَّا فيه كأساً ... ولا أرْضَى لها بِنْت الدِّنانِ ولكن من رَحِيقٍ سلْسَبيلٍ ... بأيْدِي عْبقرِيَّاتِ حِسانِ ويصغر خادماً بَهْرامُ فيه ... على ما فيه من بأْسِ الجَنَانِ فلوْلا أنه فرْضٌ علينا ... لما مُدَّت لخاتِنِه يَدانِ وقَطُّ الشَّمعِ يُكسِبُه ضِياءً ... وقَطُّ الظُّفْرِ زَيْنٌ للبَنانِ وللصَّنَوْبَريّ أيضاً: أرى طُهْراً سُيْثْمِر بعد غَرْسِ ... كما قد تُثْمِر الطَّرَبَ المُدَامةْ وما قلَمٌ بمُغْنٍ عنك إلا ... إذا ما أُلْقيتْ عَنْه القُلاَمَهْ قلت:) الطُّهر (بالضم، والطَّهور بالفتح، والتَّطْهير كِنايات عن الخِتان، استعلمها المُحْدَثون، كقولهم للأعور،) ممتع (كما ذكره الثَّعالبِيّ في كتاب) الكناية (، وفي كتابه المُسَمَّى ب) مرآة المروآت (، وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ومن شعر صاحب الترجمة: ما كنتُ أحسبُ أن يكو ... نَ كذا تفرُّقُنا سريعاً قد كنتُ أنتْظِر الوِصا ... لَ فصِرْتُ أنتظرُ الرُّجوعاَ وله أيضاً: واللهِ لولا حُصولُ مَعْنًى ... في خاطري منكَ لا يزولُ ما كان بالعيْشِ لي انْتِفاعٌ ... ولا إلى مَطْلَبٍ وُصولُ وله: قد كنتُ أبْكي على مَن مات من سَلَفِي ... وأهلُ وُدِّي جميعاً غيرُ أشْتاَتِ واليومَ إذ فرَّقتْ بْيني وبينَهمُ ... نَوًى بكيْتُ على أهلِ المَودَّاتِ فما حياةُ امْريءٍ أضْحَتْ مَدامِعُهُ ... مَقْسومةً بين أحْياءٍ وأمْواتِ وله: وَيْلي من المُعْرِض لا قَسْوةً ... لكن لأقْوالِ العِدى والوُشَاةْ ما لاحَ للعينِ سَنَا وجْهِهِ ... إلاَّ وفيها من رَقيبٍ قَذَاهْ وله مُضمِّنا: صَبٌّ على الشَّنَبِ المعْسُولِ ذاب أسًى ... وبات مِن حرِّ نارِ الشَّوقِ في شُعُلِ كالشَّمع يْبكي ولا يدرِي أعَبْرَتُه ... من صُحْبةِ النَّار أم من فرقَةِ العَسلِ وكتبْتُ إليه في مرضٍ اعْتراه، فلم أعُدْه لمرضٍ أصابني، فعتَب عليّ، ولم يدْرِ ما عافني عن العيادة: سيِّدي ومولاي يعلم أن القلوبَ، وهي حصون المودَّة لا تُفْتَح عَنْوَة، والدهر لم يُبْقِ للصُّلح موضعاً تتمسَّك منه يدُ الأمل بعُرْوَة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ووِدادِي كما عرفْتَ وِدادِي ... وفُؤادِي كما عهِدْتَ فُؤادِي وصاحب البيت أدْرَي بالذي فيه، وأن للبَيْت ربَّا يحْمِيه، وقد عرَض من السِّقَم ما عاق عن العِيادة، وأقعدني عن القيام بأمرها وهي عِبادة، وكيف يصحُّ بدنٌ وروحُه سقيمة، فلذا أنشد لسانُ حال المودَّةِ السَّليمة: رأيتُ الفضْلَ في الدنيا غريباً ... ضعيفاً في معالِمها نحيفَا فلما أن سألتُ الدهرَ عنه ... أجاب مُلاحِظاً معنًى لطيفَا وقال لِيَ ابنُ قاسمٍ المُفدَّى ... وعينُ الفضلِ قد أمْسَى ضعيفَا فقلتُ له حَمَى الله المعالي ... بصِحَّتِه وآمَنَه المَخُوفَا وكتبتُ مع ذلك شعرا، عرضتُه عليه، وهو قولي مُضِّمنا: يزيدُ اشْتياقِي نحوَ مصرَ وأهلِها ... كما زاد مَدُّ النِّيلِ حتَّى تفجَّرَا أذاب النَّوى صبْرِي وأفْنَى مدامعِي ... فقالوا سَلاَ عن حُبِّنا وتَستَرَا ولم يَبْقَ لي إلا تَفَكُّرُ نيِلِها ... ولو شئتُ أن أبْكي بكيتُ تَفَكُّرَا وقولي أيضاً: إن وَجْدِي بمصرَ وَجْدٌ قديمٌ ... وحنِينِي كما ترَون حِنينِي لم يزَلْ في خيالِيَ النِّيلُ حتَّى ... زاد عن فِكْرتي ففاضَتْ عيُونِي وقولي، ناسِجاً على مِنْوال شعر الزَّمَخْشَرِيّ المشهور: وقائلةٍ ما هذه الأبحرُ التي ... جرَتْ من مآقيهِ ولم تَكُ غائِضَهْ فقالوا لها أنهارُ مصرَ التي ثَوَتْ ... بخاطرِه أمْسَتْ من العينِ فائِضَهْ ثم عَنَّ ليّ معنًى آخر، حال الكتابة، وهو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 لحديثِ نيِلِك مصر أُضْحِى مُصغِياً ... حتى يخوضُوا في حديثٍ غَيرِهِ يا كوثراً إن سُدِّ عنه مَسْمِعي ... تَلْقَاهُ فيه قد جرى بخَرِيرِهِ فأجاب، أبقاه الله: أتَتْنِي رُقْعَهٌ من ذِي وَلاءِ ... وَفَي فشَفَي اْمرَأَ دَنِفاً ضعيفَا أبانَتْ منه مَعذِرةً بسُقْمٍ ... ألمَّ به وصار له حَليفَا وشاطَرني السَّقامَ ولم يزلْ بي ... على طُولِ المدَى بَرَّا رؤُوفَا وذاك أبرُّ في سَنَن التَّصافِي ... وأوْقَى من عيادتِه أُلوفَا تَقِيه السُّوءَ نفسِي فهْوَ مَن لم ... يزلْ يُكْسَي به الفضلُ الشُّفوفَا شِهابٌ ثاقِبٌ محَتِ الليالي ... بطلْعتِه مِن الدهرِ الصُّروفَا مولاي، فكْري الكليل عليل، والاسْتِقصاء في مُجاراة سيِّدي ما إليه سبيل، وسلامتُكم غايةُ المسئول، والعذرُ عندكم إن شاء الله تعالى مقبول، والسلام. وقال جواباً عن كتاب: ورد الكتابُ مُبشِّراً بقدُومِ مَن ... ملأ النفوسَ مَسرَّةً بقدومِهِ فطرِبْتُ بالأسجاعِ من مَنْطوقِه ... وثمِلْتُ بالجِرْيال من مَفْهُومِهِ وسجَدْتُ شكراً عند مورِدِه على ... إسْعاد هذا العبدِ من مخدُومِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وقال أيضاً: قال لي العاذلون لِمْ مِلْتَ عمَّن ... بمُحيَّاهُ يُخْجِلُ الأقْماراَ قلتُ كان الفؤادُ عُشَّا له إذ ... كان فَرْخاً وحين رَيَّشَ طاراَ وقوله، رباعيَّة: يا جِيرَتنا في حلَبَ الشَّهْباءِ ... من يوم فِراقكُم سُرورِي نَاءِ قدْ مِتُّ لبُعدِكم غراماً وأسًى ... لَقَدْ غلطاً أُعَدُّ في الأحْياءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الأمير أبو بكر الحَلَبِيّ المعروف بابن حلالا. أميرٌ جيشُه الهِمَم، وبحر تغْترِف منه الدِّيَم تسْكَر من ألفاظِه المُدَام، فإذا ساقَطَ الحديث سَقاطَ الدُّرِّ أسْلَمه النِّظام، أو بَدَأ روضُ أدبه قامَت له الأغْصان في الرِّياض على الأقْدام. رحِيبُ ساحة الصَّدر، وصَلِيب قَناة الصَّبر، لم يعقِد حَبْوَةَ رأْيه إلا بيدِ الحَزْم، ولم يَحُلَّ الدهرُ ما عقَده إلا برَاحِة العزْم، فلا يأكل الطَّيْشُ حِلْمَه، ولا تحُلُّ يدُ النَّوائبِ حَزْمَه. أدبُه أرقُّ من دمْع السَّحاب، وأصْفَى من ماء الحُسْن في رياض الشَّباب، إلا أنه اقتصر عليه، وجعل جملةَ متاعِه في يديْه، والأدب روضةٌ ذاتُ أفْنان، لا تزْهو إلا إذا كانت ذاتَ أنْواع وألوان؛ فلذا قلَّ ما رُوِىَ شِعْرُه من ماءِ النَّضارة، واكْتَسى غُصْنُ لفظهِ ورَق الغَضارَة، ولم يحضُرْنِي منه الآن غيرُ قوله: أيا بَحْراً غدَوْنا من نَدَاه ... نُقدِّمُ بعضَ أنعُمِه لديْهِ كذاك البحرُ ينشَأُ منه غَيْثٌ ... وبعضُ سحابهِ يُهْدَى إليهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وهذا معنىً مشهور، في معناه قول البَدِيع: أُهْدِي لمجْلِسِك الشريفِ وإنما ... أهْدِي له ما حُزْتُ من نَعْمائِهِ كالبحرِ يُمْطِرُه السَّحابُ ومالَه ... مَنٌّ عليهِ لأنَّه من مائِهِ وقد ضمَّنه بعضُهم، ونقله من الجِدّ إلى الهزل، فقال: يتبادلان فيُنْصِفا ... ن وليس بينَهُما ارْتِيابُ فيُصِيبُ هذا ماء ذا ... كالبحْرِ يُمْطِرُه السَّحابُ وقد حضَرني في معناه، ما كتبتُه مع سَمكٍ أهديْتُه: أهْدَيْتُ حوتاً نحوَ مَن ... فاتَتْ عَزائمُهُ السِّماكْ فاقْبَلْ بحقِّكَ عُذْرَ مَن ... أهْدَى إلى البحرِ السِّماكْ ومن الفصول القصار: المُهَدِّد لمن للبحْرِ بالشَّرَق، وللحُوت بالغَرَق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 إبراهيم ومحمد ابنا أحمد الْحَلَبِيّ، المعروف بالمُلا هما من دَوْحة الكمال غُصْنان، بل رَوْضتان أنبتهما مَرْجان، ولا أقول نَهْرانِ فهما بَحْران، يخرج منهما اللؤلؤ والمَرْجَان، كل منهما جَواد يُفْرِغ الخزائنَ بجُودِه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فيملأ بالغيظ قلب حَسُودِه، طويل البَاع عذْبُ الموارِد إذا ظمِئت الأسْماع، مُرْهَف فكرِه صَقِيلُ الطَّبْع، وبحرُ كرمِهِ متموِّج بهُووب نسيم ذلك الطبع، رقيقُ حَواشِي المجد، أرَقُّ من عَبَراتٍ أسالها الوَجْدُ، وضَّاحُ المحَيَّا تحمَرُّ خجَلاً منه خدودُ الحُمَيَّا. صَنَّفا، وألفَّا، ولاَحا كغُصْنَيْ قد بَانَةٍ قد تألَّفا نَشَا في حِجْر الفضل والحسب، وبَسَقا في رَوْض النَّجْدة والأدب، في زمانٍ شَمِت فيه الجهلُ بالفضل، ورَقِيَ صَهْوة عِزِّه كلُّ فَدْم نَذْل. نَجْمان بأيِّهما اقتدَيْتَ في طُرُق المعاني اهْتدَيْت، فهما في مَغْرس الكرم صِنْوان، وثمراتُهما صِنْوان وغيرُ صِنْوان، ورَوْضا محامِدَ، يُسْقَيان بماءِ واحد. ووالدهما هُمامٌ ألفَّ وأفاد، وعذُبَتْ مواردُ إفادتِه للوُرَّاد. له تآليف كثيرة، منها) شرح مغني اللبيب (طَرَّز بتحْريرِه حواشِيَه، ودخل جنَّته من أيِّ باب شاء من أبوابِه الثَّمانِيَة. فمما أنشدته لمحمد ابنه: في الليلِ وفي النهار حَرَّى كَبدِي ... مقتولُ ضَنًى بجائرٍ ليس يَدِي تَرْشِي عيني جواهرُ الدمع على ... لُقْياه تظنُّ أنه طوعُ يَدِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وهو معنى مُترجَم من الفارسيَّة، ومثله قول صاحبنا محمد القَاسِمِيً: لُقْياكَ سرورُ قلبِيَ المحزونِ ... والوحشةُ من هَواك لا تَعْدُونيِ يا وَيْحَ عيوني خَشِيتْ شَقْوتَها ... منى فأتَتْ بدُرِّها تَرْشِينِي وقريب منه قول ابن الرُّومِيّ: وهبَتْ له عيني الهُجوعَا ... فأثاَبَها منه الدُّموعَا وأحسن منه قولُ الأرَّجَانِيّ: لولا طُروقُ خيالٍ منكَ مُنْتَظَرٌ ... يُلِمُّ بي راقداً ماساءَني سَهَرِي كأنَّ جَفْنَيِ إكراماً لزائرِهِ ... أمْسَى قدَميْهِ ناثرَ الدُّرَرِ ولإبراهيم من قصيدة، قَرَّظ بها شعرا ليوسف بن عِمْران: أطِرْسُكَ هذا أم لُجَيْنٌ مُذَهَّبٌ ... ونظْمُك أم خمرٌ لِهَمِّيَ مُذّهِبُ وتلك سطورٌ أم عُقودَ جواهرٍ ... وزُهْرُ سماءِ أم هو الروضُ مُخْصِبُ وتلك معانٍ أم غَوانٍ تُروُقُ لِلْ ... عيونِ وباللَّحْنِ المسامعَ تُطْرِبُ فيا حبَّذَا هذِي القوافي التي بمَن ... يعارضُها ظُفْرُ المنِيَّةِ يَنْشَبُ لقد أحكَمَتْها فكرةٌ ألْمعِيَّةٌ ... فكِدْتُ لها من رِقَّةِ النَّظم أشْرَبُ فمن غَزَلٍ قد هزَّ ذا سَلْوةٍ إلى التَّ ... صابِي فأضْحَى بالغزالِ يُشَبِّبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 فيا بحرَ فضلٍ فائض بلآلِئٍ ... لها فكرُك الوقَّادُ ما زال يَثْقُبُ ظنَنْتَ بأنِّي للخطاب مؤهَّلٌ ... فأرسَلْتَه شِعراً لنَظْمِيَ يخطِبُ فعُذْراً فإن الفكرَ منِّي مُشتَّتٌ ... وعقْلِي بأيْدِي حادثِ الدَّهرِ يُنْهَبُ وكان العِماد بينه وبين أحمد مودَّة صافية، وفي بعض الأحيان تجري بينهما مُداعَبات وأخْماص، فكتب له مرَّةً وقد رأى ميلَه لمُعَذَّرٍ كان من جملة خُدَّامِه، يسْتَفتِيه في رأيِ أهل المَوْصِل: ما تقولون يا ذَوِي الأفْضالِ ... وأُولى العِلْمِ والحِجَى والكمالِ في أُناسٍ يرَوْن في حَلَب الشَّه ... باء رأْىَ الهوى وحُبَّ الجَمالِ قد تحيَّرْتُ في هواهُم زماناً ... فاكِشفُوا لي عن شُهبْتِي وسُؤاليِ أيُّ ذَنْبٍ للأمردِ النَّاعِم الخدِّ ... الذي فاق رَبَّةَ الخَلْخَالِ بمُحيَّا مثل الغزالةِ حُسْناً ... وبطَرْفٍ أزْرَى بلَحْظِ الغزالِ وبمَصْقُول وَجْنْةٍ قد تسامَتْ ... بصَفاءِ على بديعِ الَّلآلئِ فلماذا تَعَوَّضُوا عن هَواهُ ... بذقونٍ كأنَّهُنَّ الْمَخَالِي مِن نتِيفٍ مُحفَّفٍ ذي اعْتلالٍ ... ناقصِ الحُسْن مَصْدرِ الأفْعالِ أفلا تنظرون مِرآةَ وَجْهٍ ... لاح بَدْراً مُكَمَّلاً بالدَّلالِ دون ذِي لِحيْةٍ كَسَتْهُ ظلاماً ... خارجاً عن مطالِع الاعْتدالِ فاكشِفوا شُبْهَتِي فأيَّةُ داعٍ ... لا تِّباعِ الهُدَى وتَرْكِ الضلالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 لا بَرِحْتُم في نعمةٍ وسرورٍ ... ناجِحي القَصْدِ بالِغي الآمالِ فأجابه بقوله: يا إماماً حوَى فُنونَ المعالِي ... وَهُماماً سمَا بُروجَ الكمالِ وأدبياً أتى بكلِّ بديعٍ ... من نِظامٍ أزْرَى بعِقْدِ الَّلآلِئ وعلى أصله المكارمُ جادَتْ ... بثَناءِ يفوقُ رِيحَ الغَوالِي ولَعَمْرِي إن العِمادَ إمامٌ ... فاقَ أقرْانَه بحُسْنِ الخِصالِ يا له فاضلاً وأحسنَ مَوْلًى ... في صحيح الهوى خَلا عن مثالِ هذَّبَتْه أيْدِي الليالِي إلى أن ... رَقَّ طَبْعاً ففاق صَفْوَ الزَّلالِ قد أتى منه لِي لطيفُ سُؤالٍ ... ببديعِ الفُنون أصْبَحَ حَالِي مَمَّقَتْهُ أيْدِي القريحةِ حتى ... حاز لُطْفاً قد تَمَّ بالاعْتدالِ جاء في طيِّه بنَشْرٍ ذَكِيّ ٍ ... دَقَّ عن ذَوْقهِ فُهُومُ الرِّجالِ سائلاً عن معاشِرٍ من بني الحُبِّ ... بشَهبْائِنا رَضُوا بالمُحَالِ عدَلوا عن هوى صقيلِ المُحَيَّا ... كم بخدَّيْه جالَ ماءُ الجمالِ وله بَهْجةٌ بوردِيِّ خدٍّ ... ولَحَاظٍ تُروى عن الغَزَّالِ ناعمُ الوَجْنتيْن معسُولُ ثَغْر ... وَيْحَ قلبي من قَدِّه العَسَّالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فلماذا تَعوَّضُوا عن هَواهُ ... بذُقون كأنَّهن الْمَخَالِي تارةً تَنْتَحُون حُبَّ نتِيفٍ ... ناقصٍ أجْوفِ الحشَا ذي اعْتلالِ وإذا الأمْردُ الجميلُ المُفدَّى ... لاح لم تقصِدُوا هَواهُ بِحَالِ وطلبْتُمْ منِّى الجواب وإتِّي الْ ... آن والعهد ليس لي من مَجالِ كيفَ والفكرُ في خُمولٍ وَهَمٍّ ... والحشَا في تَحَرُّقٍ واشْتِعالِ غيرَ أني أقول قولاً وجيزا ... وعلى الله في القَبولِ اتِّكالِي إنَّني مُغْرَمٌ بكلِّ جميلٍ ... حسَنِ الوصْفِ والثَّنا والفِعالِ أمْرداً كان أو فتىً ذا عِذارٍ ... فاق في الُحسْنِ رَبَّةَ الخَلْخالِ سَيَّح المِسْكَ وَرْدُ خدَّيْه لمَّا ... خاف أنَّا نُصِيُبه بالنَّبالِ وتجلَّى من هالةٍ في عِذارٍ ... وَجْهُه البدرُ ذُو البَهَا والجمالِ ذَا غرامِي ومذهبي واعْتقادِي ... أنه مذهبٌ من القَدِْح خَالِ إذْ رأيْنا ممَّن تقدَّمَ قوماً ... قد رَقَوْا في العُلا ذُرَى الآمالِ سَلكوا في هَوى الفريقيْن سِلْماً ... وأتوْا بالبديعِ من كلِّ قَالِ وطِباعُ الورَى تخالفُ فالنَّا ... زلُ فيهمْ وفيهمُ كلُّ عالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ها جَوابي ولستُ أزعَمُ أنِّي ... ذو صوابٍ فارَقْتُ نَهْجَ الضَّلالِ فعلى الفاضل الأديب مليكِ الْ ... فضلِ مَن جاءنا بهذا السُّؤالِ العمادِ الإمام نَشْرُ اعْتذارِي ... وقَبُولٌ يُقادُ مِن غيرِ قَالِ دام في رِفْعَةٍ وأرْغدِ عيشٍ ... ونعيمٍ وبَهجْة واقْتبِالِ ما انْتَحى المُرْدَ والمُعَذَّرَ صَبٌّ ... عادِمُ الصَّبْرِ واجِدُ البَلْيَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 يوسف بن عِمْران الْحَلَبِيّ أديبٌ نظَم ونَثَر، فأصبح ذكرُه جمالَ الكُتُب والسِّيَر، أكثرَ من الرِّحلة والنُّقْلة، على تَيَقُّظٍ لا تطمع فيه الغَفْلة، ففاضتْ عليه سحائبُ من الثَّناء سَكُوب، مُزْجيها رياحُ الشُّكر مما يسْحَبُه الصِّبا والْجَنُوب، إلا أنه في أواخره داسَتْ ساحتَه النُّوَب، فأحاط به الفقرُ لمَّا أدركَتْه حُرفُة الأدب، فأصبح بعد النَّعيم المقيم بُؤْسُه أبا العَجَب. لو كان يدْرِي المرءُ ابْنَه ... يُحْرَم بالآدابِ ما أدَّبَهْ وقد صحبني فرأيتهُ بشِعْره مُعْجَباً طَرُوب، إذا سَنَح له معنًى فكأنه قميصُ يوسفَ في أجْفان يعقوب، فمدَحنِي بعدَّة قصائد، وأهدي إليَّ منها ما هو على آدابِه شاهد، وطلب منِّي يوماً تقريظَ شِعْرِه، فقلتُ بدِيهةٌ: لَشِعْرُ ذا الحَبْرِ بَحْرٌ في تَموُّجِهِ ... يُهْدِي لأسْماعِنا رَوْحاً وريْحاناً ذُو منطِقٍ ساحرٍ مُطْرٍ فيَا عَجَباً ... للسِّحرِ يُنْشِئه وهو ابن عِمْرنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وكان من خزائن الآداب نَهَّاباً وَهَّاباً بألحانه، وإن رجح على مَن سِواه بأوْزَانِه. فمن عَذْب خِطابِه، وقلائده المُنتَظِمة في جِيد آدابه، ما أنشَدِنيه من قصيدةٍ له: أثار بأحْشائي البنَانُ المُطرَّفُ ... رَسِيسَ هوًى يَقْوَى إذا الصَّبرُ يَضْعُفُ وأرَّقني من حَيِّ سَلْمَى حمائمٌ ... غدَتْ فوق أغصان المعاطِف تهْتِفُ وثَغْرٌ إذا ما افْتَرَّ يُبْدِي ابْتِسامُهُ ... بُرُوقاً بها أبْصارُنَا تُتخطَّفُ وخَذٌّ سقَى ماءُ الشَّبابِ رياضَهُ ... بألْحاظِنا منه جَنَى الورْدِ يقْطَفُ ودينارُ خَدٍّ كاملُ الوزْنِ حُسْنُه ... على حُبِّه رُوحِي النَّفيسةُ تُصْرَفُ وجسمٌ صفَا حُسْناً يكاد أدِيمُه الْ ... مُنعَّمُ من فَرْطِ الطَّراوةِ يُرْشَفُ وقوله من أخرى حَذارِ تَرُومَ الوصْلَ من ساحرِ الْجَفْنِ ... فكم مَشْرِفَيٍّ دونَه سُلَّ من جِفْنِ وإياكَ من خَطِّيِّ عامل قَدِّهِ ... فكم أتْخَنَ الأحْشاءَ طعْناً على طَعْنِ ألا أيها الرِّيمُ الذي بات يَرْتَعِي ... حُشاشَةَ نَفْسِ الصَّبِّ لا روْضةَ الْحزْنِ بخَدَّيْكَ ما في مُهْجتِي من لظاهُما ... بِجسْمِي الْمُعَنَّى ما بخَصْرِكَ من وَهْنِ ومنها: لَثَمْتُ له جِيداً طَلاَ الظَّبْيِ دُونَه ... وثَغْراً لَماهُ العذبُ أحْلَى من الْمَنِّ وألْصَقْتُه بالصَّدرِ عند عِناقهِ ... كما ضَمَّتِ الأحْلامُ جَفْناً إلى جَفْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وهذا كقول القاضي الفاضل: فيا جَفْنَيَّ فاعْتَنِقا انْطِباقاً ... ويا نَوْمِي قدِمْتَ على السَّلاَمَهْ وله من أخرى: كأنَّ زهورَ الرَّوْضِ حين تساقطَتْ ... لتَقْبِيلِ أقدامِ الأحِبَّةِ أفْوَاهُ وله من أخرى: رَبيعُ عَدْلٍ به أيَّامُه اعْتدَلَتْ ... فالشَّاةُ والذِّئبُ في أيَّامِه اتَّفَقَا لا تَخْتَشِي الطيرُ من مُلْقِي الشِّباكِ لها ... ولو إليْها بألْفَىْ مُقْلةٍ رَمَقَا وفي معناه قولي، من قصيدة: فديْتُكَ يا مَن بالشَّجاعة يرْتدِي ... وليس لغيْرِ السُّمرِ في الحربِ يَغْرِسُ فإن عشِقَ الناسُ الْمَهَا وعُيونَها ... من الدَّلِّ في روْض المحاسنِ تنْعَسُ فدِرْعُك قد ضَمَّتْكَ ضَمَّةَ عاشقٍ ... وصارتْ جميعاً أعْيُناً لك تَحْرُسُ ومما أنشدنيه أيضاً قوله. مَا إن عصَبْتُ العينَ بعدهُم سُدًى ... ألاَّ لأمْرٍ طال مِنْه سُهادِي لمَّا قضَى نوْمِي بأجْفاني أسّى ... لبِستْ عليه العينُ ثَوْبَ حِدادِ وقد كنتُ لما ذكرَ لِي هذا ذكرتُ له نُتَفاً في معناه، فأعجَبتْه، فمنها: لا تُنكرِوا رَمَدِي وقد أبْصَرْتُ مَن ... أهْوَى ومَن هو شمسُ حُسْنٍ باهرٍ فالشمسُ مَهْما إن أطَلْتَ لِنَحْوِها ... نظراً تُؤَثّرُ ضَعْفَ طَرْفِ النَّاظِرِ ولقد أطلْتُ إلى اْحمرارِ خُدُودِه ... نَظَري فعكْسُ خيالِها في ناظِرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ومنها: رَمدتُ جُفونيِ عندما فارقْتُ مَن ... قد كان كُحْلاَ في نواظِر عَبْدِهِ وسرَقْتُ حُمرَةَ ناظرِي وسَقامِه ... عند النَّوَى من مُقْلَتَيْهِ وخَدِّهِ ومنها: حينَ خُبِّرتُ أن في الطَّرفِ منه ... رمداً زاد في ذُبولِ المحاجِرْ جئتُ كيْما أزورَ مِن وَجْه بدْرِي ... كَعْبَة الحُسْن تحت سُودِ السَّتائِرْ ومنها: ما اْحَمرَّ طَرْفُ العينِ ضَعْفاً ولا ... نَرْجِسُه بُدِّل منه الشَّقِيقْ لكنَّه من حُمْرةِ الخدِّ قد ... أصبح سَكْراناً فلا يسْفِيقْ ومنها: أنْظُر إلى أجْفانِه الرُّمْد ... تُبدِّل النَّرجِسَ بالوَرْدِ تَحْمرُّ لا مِن عِلَّةٍ إنما ... تأثَّرتْ من حُمْرةِ الخدِّ ولابن المُعْتَزّ: قالوا اشْتكَتْ نَرْجِسَتَا طَرْفِه ... قلتُ عَدَاهُ السُّقْمُ ما كانَا حُمْرَةُ ورْدِ الخدِّ أعْدَتْهُما ... والصِّبْغُ قد ينْفُض أحْيانَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وكتب ابن الْخِيَمِيّ إلى اليَعْمُوريّ، وهما أرْمَدان، قوله: أبُثُّكَ يا خليلي أنَّ عيْنِي ... غَدَتْ رَمْداءَ تجْرِي مِثْلَ عَيْنِ حديثاً أنت تعرفُه يقيناً ... لأنَّك قد رَمِدْتَ وأَنت عَينِي فأجابه: كفاك الله ما تشكو وحَيَّا ... محاسنَ مُقْلتَيْكَ بكلِّ زَيْنٍ وإنِّي من شِفائي في يقينٍ ... لأنَّك قد شُفِيِتَ وأنتَ عَيْنِي ومما قلتُه أيضا: أشكُو إليك جُفوناً قد رَمِدْنَ وقد ... فارَقْنَ مَرْآكَ يا مَن فَقْدُه حَيْنِي والقلبُ مُنقلِبٌ عن راحةٍ وهَناً ... والعينُ مثلُ اسْمِها مُعْتَلَّةُ العَيْنِ ولنُقْصِر عِنان الاخْتيار، فقد طال، والشيءُ بالشيءِ يُذكَر. ومما أنشدَه لي أيضاً قوله في بخيل: بخيلٌ لو بثُومٍ منه جادَتْ ... أناملُه لغالَتْه النَّدَامهْ ولو في النَّارِ أُلقِيَ ألفَ عامٍ ... لما عُرفَتْ له يوماً سَلامَهْ ولو صارتْ بسفْرتِه رغيفاً ... ذُكاءُ لما بدَتْ حتَّى القِيِامَةْ وقوله: أفْدِى حبيباً تَفُوقُ البدرَ طَلْعتُه ... لأنها لِغريب الحُسْن قد جَمعتْ حاك الجمالُ عِذاراً فوق وَجْنتِه ... غَزالةُ الصُّبحِ في أشْرَاكِه وقَعَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وأنشدتهُ لنفسي في معناه: ظنَنْتُ الصَّبا لمَّا على النهرِ قد جرَتْ ... وعكسُ ذُكاءِ لاح فيها لمُرْتَقِبْ شِباكاً بها صاد النَّسيمُ غزالَةً ... ألسْتَ تراها دائماً فيه تَضْطَربْ ومما يعجبني هنا قولُ القائل: غَدَوْتُ مُفَكِّراً في أمْرِ أُفْقِ ... أرانا العِلْمَ من بعد الجَهاَلَه فما طُوِيتْ له شُبْكُ الدَّرارِي ... إلى أن أظْفَرتْنَا بالغزَالَهْ وقول الشّهاب محمود في عُقاب: وللمحار: أنْظُرْ إلى النهر في تَطَرُّدِه ... وَصَفْوِه قد وَشَى على السَّمكِ توهَّم الريحُ صَفْوَه فغدا ... يَنْسِج فوق الغديرِ كالشَّبكِ وأحسن منه قولي: ما الغصنُ مال على الأنْهَار جَعَّدَها ... مَرُّ النسيمِ وألْقَى فوقَها حُبُكَا بل مَدَّ مِنْه يداً لمَّا رأى سَمَكاً ... من صَفْوِه طرحُوا من فوقه شَبَكَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 سُرور بن سنين الْحَلَبِيّ شاعرٌ سَمْحُ السَّجِيّة، له أنفاس نَدِية ندِيَّة، كانت نَسَمات المسامرَة تهُبُّ بنفحاتِه وأفْواهُ الأسماع تَحْتَسِي في نادي الأدب سُلافَةَ أبياتِه، ونَوْرُ روضِه يتَبسَّم في الأكْمام، فترى منه ما هو ألذُّ من نظر المعشوق وفي وجه عاشقٍ بابْتِسام، فتُسْتَعذَب في مَذاق الأدب، وتُتَلقَّى بضائعُها من الرُّكبان القادمة من حلَب. ثم رأيتُه لمَّا ورَد الروم، إلا أنه لم يُطِل مُكْثَه بها لفَقْد ما يَرُوم. وآفَةُ التِّبْرِ ضَعْفُ مُنتقِدِه فرجع قائلاً لكلِّ يومٍ غد، ولكل سَبْت أحَد، فلم تر عينُ أمله سُروراً، ولم يُذق كأساً كان مزاجُها كافورَا، ولم يلبِس بُرْدَ العُمْرِ قَشيباً، حتى احتُضِر غُصْناً رَطِيبا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 فمما أنشدني من شعره، قولُه من قصيدة: وليلٍ هدَتْنا فيه غُرُّ الفَراقِدِ ... لحاجاتِ نَفْسٍ هُنَّ أسْنَى المقاصدِ وقد صُرِفَتْ زُهْرُ الدَّرارِي دَراهِماً ... تمُدُّ الثُّريَّا نحوَها كَفَّ ناقِدِ وباتتْ تناجِيني ضمائرُ خاطرِي ... تُقرِّب نَيْلَ المَطْلَبِ المُتباعِدِ لَحَى اللهُ طَرْفِي مالَه الدهرَ ساهراً ... لمُكْتحِل الأجْفان بالنَّومِ راقِدِ حبيبٌ كأن البُعْدَ يَهْوَى وِصالَه ... معي فهْو لا يْنفَكُّ فيه مُعانِدِي أخذتُ الهوى من لَحْظه وابْتسامِه ... بما قالَه الضَّحَّاكُ لي عن مُجاهِدِ وقول) حبيب (إلخ، كقول أبي الطَّيِّب: كأنَّ الحُزْنَ مشْغوفٌ بقَلْبِي ... فساعةَ هجْرِها يجِدُ الوِصالاَ وقول الْمَعَرِّيّ: لئِن عشقَتْ صَوارِمُهُ الهوَادِي ... فلا تَعدمْ بما تَهْوَى اتِّصالاَ وفي معناه ما قلتُه: لك اللهُ مِن دمعٍ كشَمْلٍ مُبدَّدٍ ... وطَرْفٍ بِنَعْسانِ الجفونِ مُسهَّدِ لئن عشَق التَّسْهيدُ أجْفانَ مُقْلَتِي ... لِهَجْرِك فْليَنْعَمْ بوَصْلٍ مُخلَّدِ ومن تَقْريظٍ له على شعر ابن عِمْران: حَملْتَ إلينا يا ابن عِمْرانِ روْضةً ... من النَّظم يسْقيها الحِجَى صَوْبَ وَكْفِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 خِميلةَ شِعْرٍ يزْدرِي البدْرَ نَوْرُها ... وينْأَى عن الشِّعْرَى العَبورِ بعِطْفِهِ كأنَّ غُصوناً أُودِعتْ في سُطورِها ... لها ثمرٌ يلْتَذُّ سمعي بقَطْفِهِ إذا ما مشَى ليلُ المِداد بطِرْسِهاَ ... نهاراً زهَتْ فيه كواكبُ وَصْفِهِ فكانتْ كما زارَتْ مُعطَّرةَ اللَّمَى ... مُبِّردةً من حرِّ قلبي وَلَهْفِهِ ووَافَى إلى الصَّبِّ الكَئِيب شُوَيْدِنٌ ... لوَجْرةَ أحْوى فاحمُ الشَّعْرِ وَحْفِهِ فأحْبِبْ به عَبْلَ الرَّوادِف خَضْرُه ... يجوعُ إذا غَصّ الإزارُ برِدْفِه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 حُسَين بن أحمد الْجَزَرَيّ الْحَلبِيّ أديبٌ له أوصافٌ حُسْنَى، ومناقبُ هُنَّ الوَشْيُ بهجةً وحُسْناً، إذا أصغت له أذنُ أديب، حلَّت منه بوادٍ خَصِيب. سِحْرٌ من اللفظِ لو دارَتْ سُلافَتُه ... على الزَّمانِ تمشَّى مِشْيَةَ الثَّمِل رأيتُه بالروم، وهو شاب يجرُّ رداءَى شبابٍ وآداب، وهِلالُه مُشرِق في أُفُق نَمائِه، وغُرَّة صُبْحِه تُؤذِن بوجْهِ ذُكاءِ ذَكائِه، وقد سلك إلى المجد طريقا غير مَطرُوقة، بهمَّةٍ غيرِ هِمَّة، وخَليقةٍ، وللدهر فيه عِداتٌ يُرْجَى إنْجازُها، وحُلَل منشورة سيلوح طِرازُها، فلم ينْبسِط بُرْدُها حتى انْطوَى، ولم يُورِق قضِيبُه الرَّطيبُ حتى ذوَى، والدهر يقول، والنَّجمُ في مَطلَع العُمْرِ هوَى: أبْكِي إِناءَ شَبيبَةٍ ... في وقتِ ما امْتَلأَ انْكَفَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فمما أنشدني في صديقِه سرور، السَّابق ذِكْرُه: وحقِّك ما تركتُكَ عن مَلالٍ ... وبُغْضٍ أيها المولى الأميرُ ولكِن مُذ ألِفْتُ الحُزْنَ قِدْماً ... أنِفْتُ مَواضِعاً فيها سُرورُ وهذا من قول المُتَنَبيّ: خُلِقْتُ ألوفاً لو يُعاوِدْني الصِّبا ... لفارَقْتُ شَيْبي مُوجَعَ القلْبِ باكياَ ومنه أخذ البَهاء زُهير قولَه: وأَلوفاً فلو أفارِقُ بُؤسَي ... لتَوالَتْ لفَقْدِها حَسَراتِي وقد أجاد القائل في مُتابَعتِه: ألِفتُ الضَّنى من بَعْدكم فلو أنَّهُ ... يزولُ إذا عُدْتُمْ حَنَنْتُ إليهِ وصار البُكا لي عادةً فلَوَ أنَّهُ ... تغيَّبَ عن عْينِي بكَيْتُ عليهِ ومما قلتُ في المعنى: مْذ هجَرْتُم هجَر الطَّيْفُ وَلِي ... ناظِرٌ لم يَدْرِ ما طَعْمُ الوَسَنْ في هواكُمْ ألِفَ الحُزْنَ فلَو ... لم يجِدْهُ مات من فَرْطِ الحَزَنْ وله) ديوان (بليغ، طالعتُه فاخترتُ منه قولَه، من قصيدة: أعْطى سَرائِرَك النُّحولُ اللُّوَّمَا ... والحُبُّ ليس بمُمْكِنٍ أن يُكتَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ووَشَى ونَمَّ عليكَ دمعُك عندما ... وَشَّى بعنْدَمِه الخُدودَ ونَمْنَمَا أفَرُمْتَ تُبْهِم واضحاً من سِرِّه ... والدمَّعُ مُتَّضِحٌ به ما أبْهمَا أم خِلْتَ أنَّ أساَكَ تَمْحوهُ الأسَى ... كلاّ ورُبَّ جراحةٍ لن تُحْسَمَا إنَّ المحبَّةَ مْحِنَةٌ لا مِنْحَةٌ ... ومِن الغرام يَرى المُحِبُّ المَغْرَمَا وشَكِيَّتِي شَاكِي السِّلاح جُفونُه ... مُرُّ العَذابِ لِشِقْوتِي عَذْبُ اللَّمَى ظَبْيٌ ظُبَا لحظاتِه بمَضائِها ... أنا مُوقِنٌ لا شكَّ تُرْدِى الضَّيْغَمَا أخْشَى الهلاكَ تَوهُّماً من بأسِهِ ولرُبَّما هلك المُحِبُّ تَوَهُّمَا وأظَلُّ صادِي القلبِ خِيفةَ صَدَّه ... ولوَ أنَّه بنعيم وَصْلٍ أنعَمَا وإذا مُنِعْتَ الماءَ أوَّلَ مرَّةٍ ... ووَرَدْتَه أخرى تَذكَّرْتَ الظَّمَا بأبي وإن كان الأبيَّ وبِي رَشاً ... قَدَّ الغُصونَ رشاقَةً وتقدّمَا كالصُّبْحِ فِرْقاً والغزالةِ طَلْعةً ... والبدْرِ وجهاً والثُّرَيَّا مَبْسَمَا يزْدادُ وَرْد خُدودِه وجوانحِي ... من نارِهنَّ تضرُّجاً وتضَرُّمَا صافِي الأديمِ تَرى تَرافَةَ جِسْمِه ... ماءَ ويأْتَى الماءُ أن يتجَسَّمَا صنمٌ لبستُ الغِيَّ فيه غلائلاً ... والمرءُ يسْلُبُ رُشدَه حُبُّ الدُّمى كيف الهِدايَةُ لي وفاحِمُ فَرْعِه ... قد ظلَّ يَجْهَد أن يضِلَّ ويفحُمَا كالأُفْعُوانِ على قضيبِ كَثِيبةٍ ... لا يُرْتَجَي لسَلِيمهِ أن يَسْلَمَا أنا مَن أباح يدَ الغرامِ زِمامَهُ ... فمشى به أنَّى يشاءُ ويمَّمَا فعسى الحبائبُ أن تُخفِّفَ عُتْبَها ... فلقد حَملتُ من النَّوائبِ أعظَمَا في كل يومٍ رَوْعةٌ أو لَوعةٌ ... والفَذُّ تُقْعِدُه الحوادثُ تَوْأَماَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 شيْآنِ لستَ بآمنٍ عُقْباهُما ... أن تصْحَب الدُّنيا وتُدْنِى الأرْقَمَا فَلأبْلُغَنَّ نِهَايةً في قَدْحِها ... إن لم تُبَلَّغْني الأبَرَّ الأكْرمَا ومنها: وَلَو أنَّ إدراكَ المُنَى بَيدِ النُّهَى ... وطِئَت نَعامَةُ أَخَمصَىَّ الأنْجُمَا ومتى يصِحُّ سقيمُ جَدِّ أخي الحِجَى ... يوماً إذا كان الزَّمانُ المُسْقِمَا فالحُمْقُ ألْيَقُ والخِداعُ مُوافِقٌ ... والمكرُ أرْفَقُ ما تْرَافِقُ منْهُمَا أبناءُ دهرِك بالنِّفاق نفَاقُهمْ ... أفَيرْ نَضُونَك بالهُدى مُتكَلَّمَا ما لم تُنافِقْ فاتَّخِذْ نَفقاً به ... ترجُو السَّلامةَ منهُم أو سُلَّمَا لا يفقُهون وشرُّ مَن صاحبْتَه ... أن تصْحَبَ الأعمى الأصَمَّ الأبْكمَا ولقد مُلِئتُ تَحارُباً وتَجارِباً ... لم تَلْقَنِي إلاَّ إنَاءَ مُفْعَمَا ومن قصيدة: لا تَلْحَنُ الأقْدارُ في إعْرابها ... قد تُرفَع الأَسماءُ بالتَّقديرِ مكسورةٌ قد حاولَتْ إكْسِيرَها ... من جابرٍ والجبْرُ للمكْسُورِ وله من أخرى: وليلٍ كأنَّ الصبحَ فيه مآرِبٌ ... نُؤمِّل أن تُقْضَى وِخلٌّ نُصادِقُهْ وله من أخرى: ولم أنسَ ليلاً ما تبلَّجَ صُبْحُه ... ولا لاحَ في يافُوخِه وَخْطُ شائِبِ عدِمْتُ ابِتسامَ الفجرِ فيه كأنهَّ ... سُلُوُّ فؤادِي أو وفاءُ حَبائِبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وله من أخرى: فاسْلَمْ بدهرٍ عُصِمْتَ منهُ بهِ ... وعِشْ بعَلْيَاك عُمْرَ أَعْصُمِهِ تأسُو برُؤْياكَ من إساءَتهِ ... لا يُصلِحُ القَرْحَ غيرُ مَرْهَمِهِ فإنَّ هذا الزمانَ مُحسِنُه ... كفَّارةٌ من ذُنوبِ مُجْرِمِهِ وله من أخرى: وبي مَضاضَةُ عيْش مسَّنيِ لَغَبٌ ... مِنْها وساوِرنيِ في كَرِّها سَغَبُ حتى تصوَّر لي منها على ظَمأٍ ... أن المنِيَّة في ثَغْرِ المُنَى شَنَبُ ومن أخرى: بنا أظْلمتْ أيَّامُنا وتظلَّمتْ ... بَنُونا وأهلونا من الطَّالِعِ النَّحْسِ عسى شمسُ هذا الدهرِ تأْتي بوَفْقَ ما ... نُرجِّى وشمسُ الوَفْق في شَرَفِ الشَّمسِ وله يطلب فرساً: أبُثُّكَ أن لا طِرْفَ لي أقْتَضِي به ... دُيونِي وأعْيانيِ الغريمُ بَمطْلِهِ فجُدْ لي بما أرْجُوه إن شئتَ مُلْجَماً ... وإن رُمْتَ تعْجِيلَ العَطاَ فبِجُلِّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وله من أخرى: ورُبَّ غَبّيٍ كنتُ أُحسِن وُدَّهُ ... وتقبُح لي أقوالُه والفعائِلُ تغافلتُ عن أشْياءَ منه ورُبَّما ... يسرُّك في بعضِ الأمورِ التَّغافُلُ وهذا كقول بعض الحكماء: الكرمُ مِكْيالٌ ثُلُثاه التَّغابي. ولأبي فِرَاس: ليس الكريمُ بسَيِّدٍ في قومِهِ ... لكنَّ سيِّدَ قومِه المُتغابِي ومما قلتُه أنا في نحوه: كم قد سعَيْتُ للمعالي جاهداً ... فزاد في سعْيِي إليها لَغَبِي ولستُ في فهْمي غبِيَّا أبداً ... وإنَّني إن عَنّ سُوءُ لَغَبِي وله من أخرى: لا عَيْبَ فيهمْ غيرَ أنَّ صِلاتِهمْ ... تُغَرِّقُ آمالَ العُفاةَ بحُورُهَا أنَّ سُيوفَ الهِنْد في كُلِّ مَعْرَكٍ ... بأيمْانِهمْ حاضَتْ دِماءً ذُكورُهَا وله من أخرى: يَلَبِّيكَ من قبلِ السُّؤالِ نوالُهُ ... ويأْتِيكَ دون الانْتِظارِ نُضارُهُ وله في أخرى: وقبْلَك صاحَبْتُ الزَّمانَ وأهلَهُ ... فما شاقَنِي خِلٌّ ولا رَاقَ مَوضِعُ يُقدِّمني عَزْمي وحظِّي مُؤخِّرِي ... ويُوصِلُنِي حَزمْي ودَهرِي يُقطِّعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ولا ذَنْبَ لي إلا الفضيلةَ إنها ... من الجهلِ في الأيام أشْنَى وأشْنَعُ وهَمِّي من الدنيا المعالِي ونَيْلُها ... وما هَمُّ قلبي الرَّقْمَتَانِ ولَعْلَعُ ولا نَسْمةٌ سَحَرِيَّةٌ شِحْرِيَّةٌ ... ولا بَارِقٌ من بَارِقٍ وهْوَ يَلْمَع ولا عَذْبُ ماءٍ للعُذَيْبِ على ظَمَا ... مُمِضّ بجَرْعاءِ الحِمَى يُتَجرَّعُ ولا رَشَأٌ أحْوَى ولا صَوْتُ قَيْنَةٍ ... ولا قَدَحٌ فيه الرَّحِيقُ المُشَعْشَعُ ولكنَّه لَدْنٌ وأجْرَدُ سابِحٌ ... ومَسْرُودَةٌ زَغْفَا وأبْيَضُ يَسْطَعُ وإتْلافُ ما أحْوِى على طلبِ العُلا ... وهذا طريقٌ للمكارم مَهْيَعُ وإنِّيَ مِن خِلِّى بأيْسرِ وُدِّه ... أُسَرُّ وأسْرِى ما دعادني وأَسْرِعُ قليلُ مودَّاتِ الرِّجالِ كثيرةٌ ... وأيسرُها عند النَّوائبِ تُقْنِعُ أبَرَّكَ مَن يْلقاكَ بالبِشْر وجهُهُ ... ووَاساكَ في الضَّرَّاءِ مَن يتَوجَّعُ ولكنَّني أن أُلْفِ غيرَكَ وافياً ... وأكثَرُ مَن تْلقَى يخونُ ويخدَعُ فحاوَلْتُ أن ألْقَى المنايا أو المُنَى ... لدَيْكَ وعِرْنِينُ العِدى بِكَ أجْدَعُ تملَّكْتَ منِّي جانباً لا أُضِيعُه ... لغيِرك في الدنيا وغيرِي المُضِّيعُ لساناً طرِياَّ بالمديح وأُنْمُلاً ... سحائبُها من نفْثِها لا تَقَشَّعُ وقلباً على حِفَظِ المودَّةِ عامراً ... ولكنه إن سُمْتَه الضَّيْمَ بَلْقَعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وصيَّرْتني عبداً لأمْرِك طائعاً ... وإنِّيَ إلاَّكَ الأنامَ أُضَيِّعُ ولي رُتْبةٌ فوق الثُّرَيَّا مَحَلُّها ... ودون ثَرًى فيه نِعالُك تُوضَعُ وسَلْسَالُ لفظٍ سائغُ الوِرْدِ عذْبهُ ... له مَشرَبٌ صافٍ نَمِيِرٌ ومَشَرعُ وما قصَدَت إلاَّكَ قبلُ قصائِدِي ... ولم يَرَها قومٌ سِواكَ ويَسْمَعُوا مُنَمَّقَةً تزْهُو على زَهَرِ الرُّبَى ... وتُشْرِقُ كالزهْرِ السَّوارِي وتطلُعُ لو اعْتَبر الرَّائِي مواقعَ لفظِها ... تَيقَّن أن السِّحْرَ في الشِّعرِ يُجمَعُ وغيِرِي طُفَيْلِيُّ القوافيِ وأشَعبُ الْ ... معانِي له في كلِّ ما عَنَّ مَطْمَعُ وله من أخرى: إن خَصَّنيِ بالبُؤسِ دهرِي دائماً ... دون الوَرى فأنا بذلك أَفضَلُ هذِي عقاقيرُ العِطارةِ كُلُّها ... لم يحْترِقْ منْهُنَّ ألا المْنْدَلُ وله من أخرى: أرِى اليأْسَ عِزَّا والرَّجا ذِلَّة الفتَى ... وطُولَ المُنَى عجْزاً وحُبَّ الغِنَى فَقْرَا فلا تضْجَرَنْ من حالةٍ مُستحيلةٍ ... كما نِلْتَها عُسْراً ستَتْرُكَها يُسْرَا وإن الفتى كالغُصْنِ ما دام نابِتاً ... فآوِنَةً يُكْسَى وآوِنَةً يَعْرَى وله من أخرى: إذا ما كنْتَ مْصطِنعاً جميلاً ... فحاوِلْ مَن يروقُكَ بالصَّنِيعِ ولا تُكرِمْ به إلا كريماً ... رَماهُ الدهرُ عن مَجْدٍ رَفيعِ ولم أر نِعْمةً تُسْدَى فتُزْرِي ... بمُسْدِيها سِوى رَفعِ الوضيعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وقوله: غَيْرُ بِدْعٍ إذا ظُلِمتَ بدهْرٍ ... رزِق الغِمْرُ فيه حَظَّا عظيمَا فالهواءُ الصَّحيحُ يُدْعَي عليلاً ... واللَّديغُ المُصابُ يُدْعىَ سَلِيِمَا وقوله: ما سِئمْتُ الزَّمان إلا لِحِرْما ... نِ كريمٍ فيه وحَظِّ لئيمِ وثَراهُ اللَّئيم أقْبحُ في العيْ ... نْين مَرْأى مِن افتقار الكريمِ وله: ومُستَخْبِرٍ عنِّي بغيرِ جَهالةٍ ... يَراني وفي عَيْنَيْه عن حالتِي عَمَي تنكَّرَ مُرتاباً ولم يَدْرِ أنَّنِي ... شهِدْتُ مَذاقَ العيْشِ شُهْداً وعَلْقَمَاً إذا ما اسْتَردَّ الدهرُ منِّي هِباتِهِ ... فسِياَّن أن أُعْطى كثيراً وأحْرَمَا وله: لا يضرُّ الكريمَ قِلَّةُ مالٍ ... لا ولا بالَّئيم يُجْدِي الثَّراءُ فشَبَا مُرْهَف الجَبانِ كلِيلٌ ... وبصِنْدِيها تَقُدُّ العصَاءُ وله: لا تحسَبِ الأرزاقَ تُقْسَمُ باطلاً ... كلاَّ لقد ساوَى المُهَيْمنُ بْيْنَها فإذا رُزِقْتَ الجهلَ أدْرَكْتَ المُنَى ... وإذا حُرِمْتَ الجَدَّ أُعْطِيتَ النُّهَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وله: حاذِرْ عِداكَ الأقْربين من الورَى ... فأضرُّها القُرَباءُ والقُرَناءُ وَتَوقَّ من كَيْدِ الحَقُودِ ولِينِ مَا ... يُبْدِي فقد يُصْدِي الحُسامَ الماءُ وله: أبعَدُ ما يَطُلبُ إداركَهُ ... نَيْلُ المُنَى بالفضل إنسانُ وكلُّ شيءٍ وله غايَةٌ ... وغايةُ العِرْفانِ حِرمانُ وله: رُوَيْدَكَ إن بعدَ الضِّيقِ مَخْرَجْ ... وصَبْرُك عندَه أبْهَى وأبْهَجْ وكم مِن كُربةٍ عَظُمَتْ وجَلَّتْ ... وعند حْلولِها الرحمنُ فَرَّجْ وله: كفى حزَناً أنِّي أراكِ قريبَةً ... ويُقْصِيكِ عنِّى يا بُثَيْنُ أمورُ أراكِ ولكن لا سبيلَ إلى اللِّقا ... وكلُّ يسيرٍ لا يُنالُ عَسِيرُ وقوله: اسْقِني قهوةَ بُنّ ... وامزُجِ القهوةَ عُودَا فهْيَ للصَّفْراءِ والبَلْ ... غَمِ تمحُو وهْيَ سودَا وقوله: وأغْيَدَ أورثَني بُعدُه ... ثَوْبَ الضَّنَا فيه وفَرْطَ السِّقامْ رثَى ليَ العاذلُ في حبِّه ... حتى إذا خَطَّ عِذارَيهْ لامْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وله: مُذْ خطَّ آياتِ عِذارٍ له ... نقَّطَها من مِسْكِ شاماتِهِ ولاحَ في أصْداغِه وجهُه ... كأنَّه البدرُ بهالاتِهِ وأرسلَ اللَّحْظَ نذيراً وقدْ ... كلَّم قلبي بُمناجاتِهِ ولم أستطِعْ كُفرانَها إنَّني ... آمنتُ باللهِ وآياتِهِ وله في الصَّيْف: قد هجم الصَّيْفُ وولى الشِّتَا ... مُنهزِماً تابِعَ آثارِهِ مُبتدِعاً يسلُبُ أثْوَابنا ... ويُخرِجُ المالكَ من دارِهِ وله: أراكَ بِسِرِّ مُسْتَوعِيكَ سِرًّا ... مخافةَ أن تُسِرَّ إلى مُريِبِ أنَمَّ من السُّؤالِ على عَديمٍ ... ومن دَرَن السِّفارِ على غَريبِ وله: لا أشْتكي الحبَّ تُصْمِيني مصائُبهُ ... ولى عن اللَّومِ فيه أذْنُ أُطرُوشِ فلستُ أوَّلَ مَن ألقاهُ ناظرُه ... في صَبْوةٍ شوَّشَتْهُ أيَّ تَشْوِيِشِ كالنًّسْر أرْداه سهْمٌ فاستعَدَّ له ... عُذْراً وقال رمَى قلبي به رِيِشِي وله أيضاً: برُوحِيَ من أبصرْتُ صْفحةَ خدِّهِ ... وأبصرتُ وجهَ الشَّمسِ أغْبرَ أسودَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 كأنِّي أراها دُونَه مثْلمَا يُرَى ... سِواها إذا ماشامَها الطَّرْفُ أرْبَدا وله من أخرى: مُنِيرُ المُحَيَّا كلَّما شِمْتَ وجهَه ... أعاد إليك الطَّرْفَ جِدَّ كَليلِ كذا الشمسُ مهْما شامَها المرءُ لم يعُدْ ... وإن صحَّ منه الطَّرفُ غيرَ عليلِ وله من قصيدة: قد كان ليلُ ذَوائبي لي شافِعاً ... واليومَ صُبْحُ الشَّيْبِ من رُقَبائِي ولَمُلْتَقى بِيضِ الصِّفاِح أحبُّ للْ ... بَيْضاءِ من ذي لُمَّةٍ بَيْضاءِ ومنها: ولئن خَبَرْتَ بني الزمانِ وخِسَّةُ ال ... آباءِ تُنْتِج خِسَّةَ الأبنْاءِ إيَّاك تركنُ منهمُ لمُمَاذقٍ ... يُبْدِي الوفاءَ ولاتَ حينَ وفاءِ وتجنَّبَنْ مِن لِينِ مَلْمَسِ عِطْفِهِ ... فالعَضْبُ يصْدَأُ مَتْنُه بالماءِ ولطالَما أضْفَيتُ قبلَك خُلَّتِي ... مَن لا أراهُ موافقاً لإخائيِ وبلوْتُ منه وُدَّه فرأيتُه ... مُتلوِّناً كتَلوُّنِ الحِرْباءِ فغدوتُ أحترِزُ الأنامَ وغَدْرَهُم ... إن الطَّبيبَ يخافُ مَسَّ الداءِ وقطعتُ باليأْسِ الرجاءَ لديهمُ ... واليأسُ يُجدَعُ أنْفَ كلِّ رجاءِ وله من أخرى: أَوَّاهُ كم لوعةٍ بقلْبي ... تغدُو وكم رَوْعةٍ تروحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 إن الهوَى داءهُ عَياءٌ ... يعجِزُ عن بُرْئِه المسيحُ وله من أخرى، يصف قصيدتَه: وكأنَّها في كلِّ بيْتٍ شِمْتَه ... منها تضُمُّ القريض مُهَنْدِساَ والشِّعرُ ما شاقَتْكَ منه حِكْمةٌ ... لا ما يُشَوِّقُكَ الكئِيبَ الأوْعَسَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أبو بكر تقِيُّ الدين التاجر المعروف بابن الجَوْهَرِيّ من زَهَتْ زهرةُ حياتِه بالشام، فنظَر من مطالِع آفاقِها بوارِقَ الفصاحة وشَام، وأسعدَتْه الجُدود فبدَتْ عرائسُ أفكارِه متورِّدة الخُدود، ودارَتْ من شمائِلِه الشَّمول، فسُرَّتْ بها قلوبُ القَبولِ، وعيون العُقول، كما أرْفَضَّ عِرقُ الطَّلِّ الهَتَّان، على رُءوس القُضُب وطُرَر الرَّيْحان. وله في الأدب والشِّعر تجارة لن تَبُور، إلا أن طبْعَه كأمِّ الصَّقر مِقْلاتٌ نَزُور. فمن عُقودِه وجواهر نقوده، قوله: هذِي المنازلُ قبلَنا ... كم ذا تداوَلها أنَاسِي كم صدَّعتْ ملْكا وكم ... مِن مُدَّعٍ وَضْعَ الأساسِ غرَسُوا وغيرَهُمُ اجْتَنَى ... مِن بعدِهم ثمرَ الغِراسَ دُوَلٌ تَمرُّ كأنّها ... أضْغاثُ حُلْمٍ في نُعاسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وهو من قول أبي تمام: أعوامَ وَصْلٍ كاد يُنْسِي طِيَبها ... ذِكْرُ النَّوَى فكأنَّها أيَّامُ ثم انْبَرَتْ أيَّامُ هَجْرٍ أعقبتْ ... نحْوِي أسًى فكأنَّها أعْوامُ ثم انقضَتْ تلك السِّنونُ وأهلُها ... فكأنَّها وكأنَّهمْ أحلامُ وكانت نزلَتْ بي شِدَّة، ليس لها غيرُ لُطْفِ اللهِ عُدَّة، فكان في كل يومٍ يُسلِّيني الأحبابُ بذكر مُبشِّراتٍ بحصول الفرَج، فقلت، وقد كَثُر ذلك: وَيْلاهُ مِن زمنِ كأن نهارَهُ ... نفضَتْ دُجاهُ عنه صِبْغُ ظَلامِ من بعدِ ما كانتْ ليالينا لها ... نُورٌ يْرُينا صَفْوةْ الأيَّامِ زمَنٌ كأحْلامٍ تقَضَّى بعدَه زَمَنٌ نُعَلَّلُ فيه بالأحْلامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 شمس الدِّين محمد المعروف بابن المِنْقَار جواد في حَلْبَة المكارم سابق، مُخَلِّط مُزِيل، فاتِق راتِق، وقد كانت تتجاذبُ الأخبارُ شمائلَ فضائِله، وتهتزُّ الأغصانُ إذا هَبَّتْ نسماتُ شَمائِلِه، ومَن طاب عِرقهُ طاب من عَرْفِه الشَّمِيم، ومَن كان غُصناً في رياض المعالي هزَّةُ مرورُ النَّسِيم. إلا أن شِعرَه شعرُ العلماء، وأدبَه أدبُ الفقهاء، وما كل قصرٍ خَوَرْنَق وسَدِير، وما كل وادٍ فيه رَوْضة وغَدِير. على أنه كانت تَتِيه به على سائر البقاعِ بقاعُ الشَّام، ويفتخِرُ به عصرُه على جميع الليالي والأيَّام، فلا تزال تصْدَح وُرْقُ الفَصاحةِ في نادِيها، وتسير الرُّكبانُ بما فيه من المحاسن رائِحُها وغادِيها، وأقلامُ الفتْوَى مُثمِرةٌ من شمس إفادةٍ له ارْتفعَتْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فيالها من قُضُبٍ أثْمَرتْ بعدما قُطِعَتْ، ونُورُ فضلِه بادِي، وموائدهُ ممدودةٌ لكل حاضرٍ وبادِي. كالشَّمسٍ في كبدِ السماءِ ونورُها ... يغْشَى البلادَ مشارقهاً ومغارباً ولم يبْرح ثاوِياً في فَلَكِ السعادَة، حتى كُسِفتْ شمسُ حياتِه، فلبس الدُّجى عليه حِدادَه. فمن نفحاتِ أسرارِه، ولَمَعاتِ أنْوارِه قولُه للقاضي مُحبِّ الدين، وهو بمصر: مِن يومِ بَيْنِكَ كلُّ طَرْفٍ دامِي ... لم تكْتحِلْ أجفانهُ بمَنامِ لمَّا رحَلْتَ مُمتَّعاً بسلامةٍ ... ومصاحِباً للسَّعْدِ والإكْرامِ خلَّفْتَ بعدَكَ كلَّ خِلٍ هائماً ... يُجْرِي الدُّموعَ حَليفَ فَرْطِ غرامِ سكرانَ من كأسِ الفِراقِ مُعذَّباً ... يا صاحِ بالهِجْرانِ والآلامِ يشدُو بذكْرِك مِن نَواكَ إذا رأى الْ ... عشاقَ في رَكْبٍ لكلِّ مقامِ مولايَ بعدكَ قد تفرَّق شملُنا ... وضياءُ نادِينا انْمَحَى بظلامِ قد كنتَ واسِطةً لِعِقْدِ نِظامِنا ... حتى انفردْتَ فحُلَّ عِقدُ نِظامي وضِياءُ وجهِكَ في النهار إذا بدا ... فالشمسُ تستُتُر وجهَها بغَمامِ هذا وعبدُك ضاعَ بعدك برُه ... فاسْلَمْ ودُمْ السَّعدِ والإنْعامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وعلى حِماكَ من المحبِّ تحيةٌ ... لا تْنتهي وعليكَ ألفُ سلامِ وسقى الإله ديارَ مِصْرَ وأهلَها ... أنْواءَ سُحْبٍ من يديكَ عِظامِ لمّا حلَلْتَ بها تضاحَكَ نَوْرُها ... فَرَحاً وبُدَّلَ نقْصُها بتمامِ لا زِلْتَ تَرْفُل في ثيابِ سيادةٍ ... وتجرُّ وبُدِّلَ لعِزِّ فوقَ الْهاَمِ ما نمَّق المُشتاقُ طِرْسَ رسالةٍ ... بحديثِ أشْواقٍ وَبثِّ غرامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ابنه عبد اللطيف ولما ارتحلتُ عن مصر، فارقتُ أترابي ولِداتي، ومن بها من ذخائر آمالي وكنز حياتي. وظِئْرُ بلادٍ أرضعَتْني بمائِها ... وأنْفاسُ نَسْماتيِ ومَهْدُ دِيارِي مَررْتُ على دمشق الشَّام، فرأيتُ مَن بها من الكرام، كان ممَّن نعِمْتُ بلُقياه، ووقفتُ على هَضَباتِ عُلاه، هذا الأديب الحسيب، والروضُ الأرِيض، والمَرْبَع الخَصِيب، فحيَّاني بأنْفاسٍ من أنفاس الخُزَامَى أنْدَى، وهبَّت منه نفحاتُ أُنْسٍ كنَفْحة روضٍ من قُبَيل الصبح بلَّتْها الأنْدَا، فعطَّر بفضائِله المجامِع، وفَكَّه بثَمراتِ آدابِه المسامِع، وأهْدَى إلىَّ مشرفة قصيدةً، حيَّاني بها، وهي: بأُفْقِ دِمَشْقَ قد طلَع الشِّهابُ ... أضاءتْ مِنه هاتِيكَ الرِّحابُ هُمَامٌ جَدَّ في طلَبِ المعالي ... فأحْرزَ شَأْوَها منه الطِّلابُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ومَوْلى شأنُه تحْريرُ عِلْمٍ ... وتقريرُ المباحثِ والخِطابُ حواشِيِهِ مُنقَّحةُ المعاني ... ومِن فنِّ البيانِ بها اللُّبابُ فبَدرُ عُلاهُ مُكتمِلُ مُنيرٌ ... يفِيض بدُرِّها منه العُبابُ ففي التَّفسير مجتهدٌ وفيما ... نَحاهُ رأيُه أبداً صَوابُ فلا يُلْتقَي له فيه نَظِيرٌ ... وليس له سِوى التَّحرير دَابُ أتى من مِصرَ مجتازاً فطابتْ ... بَمقْدَمه معالمُها الرِّحابُ وعاد إلى دِمَشْقٍ وهْو ثاَنٍ ... عِنانَ العزْمِ واقْتَبلَ الإيابُ فقلَّد جِيدَها بُعقودِ فضْلٍ ... ووَشَّى روضَها ذاك الجَنابُ وجاد رُبَى دِمَشْقَ وساكنِيها ... بصَيْبٍ سَيْبُهُ إلْهَامِي سَحابُ فقرَّتْ أعيُناً وسَمتْ مقاماً ... وقد راقَتْ مشاربُهَا العذِابُ وغنَّتْ غادَةُ الرَّوْضاتِ زَهْواً ... فأُلْقِيَ عن مُحَيَّاها النِّقابُ وقد بسَمتْ ثغورُ النَّورِ فيها ... وأسْكَر من ثَناياها الرُّضابُ وكأسُ الوَرْدِ في راحِ الرَّوابي ... طفَا فيه من ألانْدَا حَبابُ فنِعم الوقتُ وقتٌ جاء فيه ... وخيُر الدهرِ وقتٌ مُستَطابُ فدَام مُمتَّعاً في ظلِّ عيْشٍ ... لطيفٍ لا يُكدِّرُه الذَّهابُ وعُمْرُ بنيِه في الدنيا طويلٌ ... يتِيهُ بعَدِّه فيه الحسابُ له منِّي ثناءٌ كلَّ وقتٍ ... جزيلٌ أو دعاءُ مُستَجابُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 شيخ الإسلام عماد الدِّين الْحَنَفِي الشَّامِيّ ماجد طويل النِّجاد، له بيت كرمٍ رفيعُ العِماد، من غير قَدْحٍ فيه وارِى الزِّناد، ممن رُفِع فوقَ هامة السِّماك مِهادُه، إذا شُيِّد بيتُ الشِّعر وعُمِّر رَبْعُ الأدب فهْو عمادُه، وإذا بدَى ربيعُ طَبْعه نشَر على البقاع وشَائِع، يُحْيي دارسَ الفضلِ فيُصبِح وهو مشهورٌ بها وَشائِع، وجواد قَرِيحتِه مَلآْن العِنان، سبَّاق إلى مغارِس قُصُب الرِّهان، بعَذْب مشرَب كأنه جَنَى النَّحل ممزوجاً بماء الوقائِع، فما رِيح الشَّمال وما الرَّاح الشَّمول، وما وَجَنات الورْدِ خَمَشَتْها راحةُ القبول. له لُطْفُ خُلُقٍ يسْعَى اللطفُ لينظُر إليه، ورقيقُ محاسن يقِف الكمالُ متحيِّراً لدَيْه، ألذُّ من إغْفاءِة الصَّباح، وأحْلَى من مذاقِ الظَّفَر من ثَمرات النَّجاح. وأنا وإن لن تقَعْ لي عليه عَيْن، فسماع الأخبار إحدى الرُّؤيتَيْن، على أنِّي إن لم أرَ الأسدَ فقد رأيتُ شِبْلَه، وسيأتي ما بْيني وبينه من المحبَّة والخلَّة، لمَّا قِلْتُ بظلِّ الشَّام، في روضة أطلَّت على نَهَر تَفْتَرٌّ مباسِم النَّوْر فيها عن لآلئِ المطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وكان صَدْراً لكلِّ نَاد، حتى قرَض الدهرُ منه رفيعَ العِماد: وزهْرةُ الدنيا وإن أيْنعَتْ ... فإنَّها تُسْقَى بماء الزَّوال وللطَّالُوِيّ فيه مدائح وبينهما محاورات، منها قوله: عهدَ السرورِ ورَيْعانَ الهوى ... النَّضِرِ سقاكَ عهدُ الحَيَا رَقْراقَ مُنحِدرِ وجاد رَبْعَك وَسْمِيٌّ تُكرِّرُه ... رِيحُ الصَّبا بين مُنْهَلٍّ ومُنهمِرِ وغرَّدتْ برُباكَ الوُرْقُ وابتكَرتْ ... بلَحْن مَعْبَد تتلُو طَيِّبَ الخَبرِ ولا برحتَ مغان للحِسان ولا ... رمَتْك أيدِي النَّوى بالحادثِ الغَدِرِ ولا أغَبَّتْكَ أرواحُ النَّسيم ولا ... عَدَتْ مغانِيكَ أخْلافٌ من المطرِ كم لي بها وشَبابي الغَضُّ مُقتبِلٌ ... من منْزلٍ آهل بالشوقِ والذّكرِ كم اجْتلَيْتُ بدوراً من مطالِعها ... قد لُحْنَ تحت سناءٍ من سنَا قمرِ من كلِّ رُعْبُوبٍةَ تهْفُو بمُصْطَبَرِي ... قد زانَها الحسنُ بين الدَّلِّ والخَفَرِ وَودٌ كسَتْها يدُ الأيَّام ثوبَ صِباً ... وصيَّرتْها الليالي فِتنَةَ البشرِ هيْفاءُ صَبَّ الصِّبا ماءَ الشبابِ على ... أعْطافِها وكساها حُلَّةَ الخفَرِ قامت تُعانِقُني عند الوِداع وقد ... قلَّدْتُها من دموعي رائِقَ الدُرَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 تقول والبَيْن تغْشاها ركائبُه ... بمَدْمَعٍ فوق روضِ الخدِّ مُنْحدِرِ لا تعتِبِ الدهرَ إن حالَتْ خلائقُه ... فصَفْوُ رَوْنَقِه لم يخْلُ من كَدَرِ وإن تَرُمْ تتَّقى من صَرْفِه نُوَباً ... فالْجأْ لظلِّ عماد الدِّين تسْتتِرِ مولَى غدَا رَبْعُه أمْنَ المَرُوعِ كذا ... جنابُه ظلَّ مأوَى الخائفِ الْحَذِرِ لا زال يسمُو إلى العَلْياء مُرتقِياً ... بسُؤُدَدٍ مجدُه عالٍ على الزُّهرِ حتى امْتطَى صَهَواتِ المجدِ ساميةً ... يخْتالُ في حُلَلِ الأوْضاحِ والغُرَرِ بهِمَّةٍ تُجْتَلَى كالليثِ ذا أشَرٍ ... وعَزْمْهٍ كمضاءِ الصَّارمِ الذَّكرِ ما فاضلٌ قطُّ جارَاه إلى أمدٍ ... في البحْثِ ألا انْثَنى بالعِيِّ والحصَرِ أقْلامُه السُّمْرُ في بِيض الطُّروسِ إذا ... سمَتْ أرَتْكَ فِعالَ البِيضِ والسُّمرِ له سجاياَ كزَهْرِ الروضِ غِبَّ نَدًى ... وقد تَوشَّحَ بالأبهارِ والغُدَرِ يْلقاكَ طَلْقَ المُحَيَّا وهْو مُبتسِمٌ ... بمَنِطقٍ وِرْدُه أحْلَى من الصَّدَرِ ما الروضُ جادَتْ له الأنْواءُ بالبُكَرِ ... فكلّلَتْ دَوْحَهُ الْمُخْضَلَّ بالزَّهَرِ جادَ الغَمامُ له سَحَّا بوابِلِه ... وقد كسَتْه الصَّبا من رِقَّةِ السَّحَرِ تخالُ زَهْرَ الأقاحِي في خمائِلِه ... زُهْرَ الْمَجَرَّة صِينَتْ عن يَدِ الغِيَرِ يَشدو الْحَمامُ على أغْصانِهِ سحَراً ... فيَبعثُ الشَّوقَ في أحْشاءِ مُستعِر يا فاضلاً قد جلَت أبكارُ فِكْرَتِه ... غُرَّ المعاني بها في أحْسنِ الصُّوَرِ يا ابنَ الكرامِ ومَن شادُوا بعزْمِهمُ ... ركنَ العُلا سامياً في سالِفِ العُصُرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 يا عِماداً لِبَيْت الفضلِ يرفُعه ... وكان من ضَعْفِه يُلْقَى على خَطَرِ إلى ذُراك انْتَمَتْ فاقْبَلْ على دَخلٍ ... نسِيجَها يا رئيسَ البدْوِ والحَضَرِ لا زالتَ في نِعمةٍ تسمُو بسُؤُدَدِها ... هامَ السِّماكيْن حيث النَّسْرُ لم يطِرِ ما ناح بالأيْك قُمْرِيٌّ وما سجَعتْ ... وُرْقُ الحمائم بالآصالِ والبُكُرِ فأجاب رحمة الله وأجاد بقوله: أحَلْىُ حَوْراءَ أم عِقدٌ من الدُّرَرِ ... أم زَاهِرُ الزُّهْر أم زَاهٍ من الزَّهَرِ أم الحُبابُ على راحٍ مُروَّقةٍ ... أم نَفْثةُ السِّحرِ ذِي أم نَسْمةُ السَّحَرِ أم نظمُ دُرٍّ زَهَتْ آياتُ منْطقِة ... فأعْجَزتْ كلَّ ذِي نظْمٍ ومُنتثِرِ يا نافثَ السِّحرِ مِن فِيه بمُعجِزَةٍ ... عقَدْتَ ألسُنَ أهل البدوِ والحضَرِ ويا مُديراً سُلافاً من بلاغِته ... هلاَّ ترفَّقْتَ بالألبابِ والفِكَرِ ويا أبنَ طَالُو وإن طال الزَّمانُ فما ... لنا بلوغٌ إلى عَلْياك فاقْتصِرِ أخذْتَ فَصَّ المعاني من معادنِه ... وغُصْتَ في أبْحُرِ الآدابِ الدُّرُرِ وحُزْتَ جَمْعَ المزايَا وانْفرَدتَ بها ... ولم تدَعْ للسِّوَى شيئاً ولم تذَرِ وجئتَ من كلِّ معنًى رائقٍ حسَنٍ ... بكلِّ ما قد خلاَ في الذَّوْقِ والنَّظَرِ كأنه ضرْب قدٍّ شَابَهُ شَنَبٌ ... بكلّ ما قد خلاَ في الذَّوْقٍ والنَّظَرِ وقد شهِدْنَا بما أُوتيتَ مُعجِزةً ... جَمْعَ الفضائلِ في فَرْدٍ من البشرِ أهْدَيْتَ لي غادةً جلَّتْ محاسنُها ... وقد تجلَّتْ لنا في أحْسَنِ الصُّوَرِ رعْبُوبةً من بَناتِ البدوِ مذ خطَرتْ ... لبي بها صار مِن وَجْدي على خَطَرِ حيَّتْ فأحْيَتْ بألفاظٍ مُنَّمقةٍ ... وغازَلتنا بلُطفِ الدَّلِّ والخَفَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وأسفَرتْ عن سنَا بَرْقٍ وعن شَفَقٍ ... وعن ضِياءِ وعن شمسٍ وعن قمرِ زارَتْ على حينِ إشْرَاقٍ لبَهْجَتِها ... ومتَّعتْنا بذاكَ المنظرِ النَّضِرِ وضَاعَ عَرْفُ شَذاها عندما برَزتْ ... مِسْكاً وعطَّرتِ الآفاقَ بالقُطُرِ سألْتُها قُبلَةً أَطْفِي بها حُرَقاً ... شبَّتْ بقلبٍ شديدِ الوَجْدِ مُستعِرِ فأوْمأت لِشتِيتٍ زانه شَنَبٌ ... وأنعَمت بلذيذِ الوِرْدِ والصَّدَرِ ونادَمتْني بليلٍ قد سُرِرتُ به ... لكنِّه ساءَني واللهِ بالقِصَرِ وبتُّ أُنْشِد مَدْحاً في محاسنِها ... ما قالهَ شاعرٌ في سالِف العُصُرِ ياَ نُزْهَةَ النَّفسِ يا مَن زانَ مَنطِقَها ... قُسُّ بنُ ساعِدَةَ المشهورُ في السِّيَرِ خُذْها إليْكَ وإن كانتْ مُقصِّرةً ... فشأْنُ مثلِك سَتْرُ العَيْبِ بالسُّتُرِ وإن تكُنْ أوْجَزت في المدحِ مُقصِّرةً ... فالعَذْبُ يُهجَرِ للإفْراطِ في الْخَصَرِ وإن تكُنْ من بديعِ القولِ عاطِلةً ... فقد تحلَّتْ بِعقْدٍ من مديحِ سَرِي فاعذُرْ فإني تركْتُ الشِّعرَ مِن زمنٍ ... لشاغلٍ عنه غَشَّي مُقلَةَ الفِكَرِ لا زِلتَ تسمُو على الأقرانِ مُرتدِياً ... ثوبَ البلاغةِ في أمْنٍ من الحَصَرِ ما طرّز الطّرْسَ تّنمِيقْ اليراع بما ... يزْهو على الرّوضِ أو يعلْو على الزّهَرِ أو شبَّبَ المادحُ المُطْرِي بَمدْحِكَ في ... بيْتٍ من الشِّعرِ في رَوْضٍ على نَهَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 بدر الدِّين بن رَضِيّ الدِّين الغَزِّيّ العَامِرِيّ الشامِيّ فريدُ الدهر وأوانِه، وابنُ عبَّاسٍ في زمانِه، وسَلْمان آل بيتِه، وحسَّان قصيدتِه وبيْتِه، صاحب الفنون، وغَيْثُ الإفادة الهَتُون، جمالُ الكُتُب والسِّيَر، سيِّد أهل الحديث وعَيْن ذوِى الأثَر، ممَّن حازتْ به أقطارُ غَزَّة، شرفاً باذخاً وعِزّة. وابنُه شِبْل الأسد، ذُو الرَّأْيِ الصَّائب الأسَدّ، وفِرِنْد نَصْله المصقُول الحَدّ، وهما كَرُكْبَتَيِ البعير في كل معنًى صارِم، أو كالحلقة المفرَغة أو كغِرَارَي صارِم، وبدر طلع من أفق كمالِ والدِه، وكرَع من بحر فضْلِه البَرّ مِاءَ الحياةِ قبل أنت يبدوَ نَباتُ عارضِه خَضِرَا، وتُحِيط بمَشْرق أنوارِه، في إبَّان طلوعه هالَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 عِذارِه، حتى أمدَّ شمسَ الفضل بما يُحْيِي النفوسَ، فهل سمعتَ ببدرٍ تسْتمِدُّ من أنواره الشُّموس، فتكلَّفَ البدرُ إذْ حَكاه، وضاهَى سَناءَه وسَناه. ولا عَجَبٌ للبدْرِ أن يتكلَّفا وله من شِعر العُلماء ما صدَحتْ من أقْفاص سُطورِه الحَمائِم، وتحمَّلتْ الصَّبا نَشْرَه فتلقَّتْه الزُّهور بثَغْرٍ باسِم. ولم يَزَلْ مُشرِقاً في منازِلِه البدْرِيَّة، حتى ألَمَّ بسَنا عُمرِه سِرار المنِيَّة، لا زال ثاوياً في قصورِ الجِنان، وضَرِيحُه مطافَ وفود الرَّحمةِ والغُفْران. فممَّا لَمَع من نُورِ كماله، وسطَع من نجومِ أقواله، قولُه: إذا كان حَمْدُ العْبدِ مولاه إنِّما ... يكونُ بإلْهامٍ مِن اللهِ للَعْبدِ وذلك مما يُوجب الحْمدَ دائماً ... فلا حَمْدَ حقَّا من سِوَى مُلْهِم الحَمْدِ وقوله: لنا أميرٌ فريدٌ في خلائِقهِ ... كم مِن كرائم أمْوالِ لدَيْه حَوَى له الْتِفاتٌ لرِزْقِ النَّاسِ مُعتنِياً ... يرى الفقيرَ لَدَيْه والغَنِيَّ سَوَا وقوله: مَن رام أن يبلُغَ أقْصى المُنَى ... في الحشْرِ مع تقْصِيِرِه في القُرَبْ فليُخْلِص الحبَّ لمولى الورَى ... والمصطفَى فالمرءُ مَع مَن أحَبّ وقوله: بالحظِّ والجاهِ لا يفضْلٍ ... في عصرِنا المالُ يُستَفادُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فكم جوادٍ بلا حمارٍ ... وكَم حمارٍ له جوادُ وقوله: يُقبِّل الأرْضَ حِماها الذي ... ألْثَمها أفْواهَ أهلِ العُلاَ عبدٌ إذا كاتَبْتْهَ ثانياً ... يزدادُ رِقًّا لَكمُ أو وَلاَ وكتب إليه الفاضل النِّحرير عبد الرحيم العبَّاسِيّ مُلغِزاً، بقوله: يا إماماً له الفضائلُ تُعْزَى ... وهُماماً أضْحى لراجِيه كَنْزَا ما بسِيطٌ حروفهُ ليس تُحْصَى ... وهْوَ حرْفانِ لا سِوَى إن تَجَزَّا كلُّ جُزْءٍ منه اسْتَوى القلبُ فيه ... جاءَ معنًى أو جاء لِلَّفظِ يُعْزَى نصفُه رُبْعهُ ولا رُبْعَ فيه ... وسِوَى الخُمْسِ منه ما تَمَّ أجْزَا وإذا ما تصحِّفْ البَدْءُ منه ... فهْوَ وَصْفٌ لكاملٍ نال عِزَّا أضْمَر القلبُ غادَةً إن تُصحِّفْ ... آخِراً فْهْو قولُها حين تَهْزَا وعلى حَمْلِ صَخْرةٍ ذُو اقتدارٍ ... ثُمَّ عن حَمْلِ إبْرةٍ نال عَجْزَا هاكَهُ واضحاً بدون خَفاءٍ ... لُغزُه ظاهرٌ وإن كان رَمْزا دُمْتَ في رِفعةٍ وحفْظُ إلهي ... لك دَوْماً حِصْناً حصِيناً وحِرْزَا فأجابه البدر: زادَكَ اللهُ بالدِّرايةِ عِزَّا ... فلقد قُمْت للِهدايةِ كَنْزَا يا بديعَ الألفاظِ عذْبَ المعاني ... صارَ منك البيانُ للدهرِ طَرْزَا مِن يُجارِيكَ في العلوم يُجاري الْ ... يَمَّ والمجدُ من تَجرِّيه يَهْزَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 إنَّ لُغْزاً أرسَلْتَه فاقِ برَ التِّ ... مِّ حسناً وأوْرثَ الفِكْرَ عجْزَا مَن يُفتِّشْ فليس يُلْقي له ... ثَمَّ نَظيراً فقد تفرَّد رمزَا ثم مَن يبتغِي مُضاهاتهِ لا ... تسمعُ الأُذْنُ منه في ذاك رِكْزَا وتراهُ وقَدْ تحيَّر ممَّا ... نَابَهُ للفِرارِ يجْمِزُ جَمْزَا من يُطِقُ يَلْمَسِ السماءَ ويأْتي ... بالدَّرارِي حتى يُحاكيه لُغْزَا قلتُ لمَّا أجبْتُ عنه إذا ما ... إبلٌ لم تكن لدَى فمِعْزَى غيرَ أنِّي بالسَّتْرِ منه وَثِيقٌ ... فإليه كلُّ الفضائلِ تُعْزَى دام في نِعْمةٍ وظلِّ سُعُودٍ ... ما مالَ النَّسِيمُ غُصْناً وهَزَّا وقوله: إنَّ ألْطافَ إلهي ... لِيَ قالتْ خَلِّ عَنْكَا لا تُدَبِّر لك أمْراً ... أنا أوْلَى بك مِنْكَا وقوله: مَن أطْلعَ الأحْمقَ فوق السُّهاَ ... يُنْزِله للمنْزِل السَّافلِ وغيُر بِدْعٍ فعلهُ حيثماُ ... يُقابلُ الباطلُ بالباطلِ وأنشد له بعضهم: ما في زمانِك واحدٌ ... لو قد تأمَّلْتَ الشَّواهِدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فاشْهَد بصِدْقِ ... مقالتِي أوْ لا فكَذِّبْني بوَاحِدْ قلت: ليس له، وهو من شعر أبي عامر الجرْجَانِيّ، أحد شعراء) اليتيمة (وفي معناه قول ابن حَيُّوس: قد مات في دَهْرنا الكرامُ ومَن ... يعرِفُ قَدْرَ الثَّناء والمدْحِ فإن شكَكْتُم فيما أقول لكمْ ... فكَذِّبوني بواحدٍ سَمْحِ ومما أنشده الخُوَارَزْمِيّ مما يُشبه هذا، وإن لم يكن من جميع الوجوه: أمْسَى بلا عِظَمٍ لدَيْه تَعاظُمٌ ... فكأنَّه أبْرُ الحِمارِ القائمُ ويقولُ إن الناسَ كلُّهمُ أنا ... والناسُ كلُّهمُ لدَيْه بهائمُ ولأبن تَميم: أيا مَعْشَرَ الأصحابِ مالي أراكُمُ ... وذَمُّ جميعِ الناسِ جُلُّ منُاكُمُ لئن كان ذمُّ الناسِ أضْحى شِعارَكُمْ ... فما الناسُ إلا أنتمُ لا سِواكُمُ ومما قلتُه في معناه: تفرَّدْتَ في ذا العصرِ بالفضْلِ والنُّهَى ... بزَعْمِك يا مَن زادَه عِلْمهُ جَهْلاَ فأبْقِ لنا في الدَّهرِ غيرك عالِماً ... يُصدِّقِ ذي الدَّعْوَى ويعرِفُ ذَا الفَضْلاَ ومن شعر والده: إنَّ خِلاَّ مَلَّ مِنَّا ... خَلِّناَ باللهِ منْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 هو لا يَسألُ عنَّا ... مالناَ نسألُ عنْهُ وللتَّقِيّ السُّبْكِيّ رباعيَّةٌ في هذا المعنى، وهي: يا قلبُ مِن الغرام قد زِدْت وَلَهْ ... مَن خانَك خُنْهُ أو تُعوَّضْ بَدَلَهْ فالنفسُ عزيزةٌ على مَن هِي لَهْ ... لا يصلُحُ لي مَن كنتُ لا أصلُح لَهْ ولأبن الوَرْدِيّ: إذا كرِهْتَ منزلاَ ... فدُونَك التَّحَوُّلاَ وإن جَفاكَ صاحبٌ ... فكُن به مُستَبْدِلاَ لا تحْمِلَنْ إهانةً ... مِن صاحبٍ وإن عَلاَ فمَنْ أتى فمَرْحباً ... ومَن تَولْى فإلَى ومما أنشدْتُه له: إن تسَلْ عن حالِ الذين اجتباهُمْ ... ربُّهمْ عاجزاً وتطلُب قُرْبَا أحْبِبِ اللهَ والذين اصْطفاهُمْ ... تبْقَ معْهُم فالمرءُ مَعَ مَن أحَبَّا وللحافظ ابن حَجَر العَسْقَلانِيّ في معناه: وقائلٍ هل عَملٌ صالحٌ ... أعْدَدْتَه ينقعُ عند الكُرَبْ فقلتُ حسِبي خِدْمَةُ المصطفَى ... وحُبُّه فالمرءُ مَعَ مَن أحَبّ وكنتُ قلتُ قبل أن أسمع هذا: وحقِّ المصطَفَى لي فيه حُبٌّ ... إذا مرضَ الرَّجاءُ يكون طِبَّا ولا أرضَى سِوى الفِرْدَوسِ مَأْوًى ... إذا كان الفتى مَعَ مَن أحَبَّا وأعلم أنه وقع في حديث صحيح، عن عائشة رضى الله عنها أن رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أنت أحبُّ إليَّ مِن نفسِي وأهْلي ومالي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وإني إذا ذهبْتُ لِدَاري لا تطيبُ نفسِي حتى آتِيَك وأرَاكَ، فإذا مِتَّ أنْتَ كنتَ في أعْلى مقامٍ، فأخْشى ألاَّ أراك. فلم يُجِبْه الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم، فنزل جبريلُ عليه السلام، بقوله عزَّ وجلَّ:) وَمَنْ يَطِعِ اللهَ والرَّسُولَ فَأُولئكَ مَعَ الذَّيِنَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ الآية. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:) الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ (. وقلتُ في معناه رُباعيَّة: حُبِّي لمحمدٍ حبيبِ البارِي ... في طِينةِ خِلْقَتي ورُوحِي سَارِ والمرءُ ومَن أحَبَّ في الخُلْدِ معاً ... طُوبَي لِي إن غدَوْتُ عبْدَ الدَّارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أبو الصَّفاء مصطفى بن العَجَميّ الْحَلبِي روضٌ وَرِيقُ أغْصان المُرُوَّة، رَيَّان من ماء المكارم والفُتَّوة، فارسُ الشَّهباء نُبْلاً وأدباً، طبعُه أخو ابْنَةِ العنب صفاءَ وطرَباً، أرْدانُ شبابه باللُّطفِ مُذهَّبَة، وكئوس آدابه المجْلُوَّة للقلوب مُحبَّبة، إِذا ابتسمَتْ عُقود ألْفاظِه كسَد نظِيمُ الجَوْهَر، وخُيِّل أنها لِرقَّتها من خدود الغِيد تُعْصَر، أقبلَتْ على شِعره الفصاحةُ بوجهٍ جميل، وقصَّر عن إدراكِ لطفِه النَّسيمُ وهو عَلِيل، مع صَباحةِ مُحيَّا يَهْزَأ بالرَّوضِ الوَسِيم، إذا عطَّرتْ مَجامِرُ نفَحاتِه أذيالَ النَّسيم، نفحَتْ في بُرودِ الزَّهْرِ نَشْراً، وعبَثتْ بمباسِم النَّوْر الضَّاحِكةِ بشْراً. ثَمِلٌ من سُلافَةِ الطَّلِّ في الزَّه ... رِ وناهِيكَ طِيبُها مِن كاسِ ولم تزل كئوسُ أدبهِ على النَّدامَى مَجلُوَّة؛ حتى ورَد موارِد الموت فبُدِّلتْ بالكَدرِ صُفُوَّة. وأيُّ صَفاءٍ لا يُكدِّرُه الدهرُ فقطَفتْ زهرةَ شبابهِ، وقد سقتْها دموعُ أحبابِه. فمن شِعره، ما أنشدني له الطالُوِيّ، من قصيدةٍ اخترتُ منها قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ما اجْتازَ بارقُ ذاكَ الثَّغرِ مُبتسِماً ... ولا النَّسيمُ بأخْبارِ الحِمَى نَسَمَا إذْ وعاوَدَه من وَجْدِهُ طَرَبٌ ... حتى كأنَّ به ما يُشْبِه اللَّمَمَا مُقيَّمٌ لعبتْ أيدي الغرامِ به ... فغادَرتْه كأنفاسِ الصَّبا سَقَمَا تسِيتُ منه على الأحْشاءِ كفُّ شَجٍ ... تضمُّ صدراً خَفوقَ القلبِ مُضْطرِمَا أبا خليليَّ لا زالَتْ مُجلَّلةٌ ... من البوارِقِ تهْمِي في عِراصِكُمَا حتى تظَلَّ لها الأرجاءُ باسِمةً ... تبُثُّ مِن سِرِّها ما كان مُكتَتمَا أماَ ومبسْمِهِ الزَّاهيِ بمُنتَسِقٍ ... يُزْرِي مُفَلَّجُهُ بالدُّرِّ مُنتِظمَا ولَفْتةٍ تذَرُ الألبابَ شارِدةً ... أيْدِي سَبَا وترُدُّ الفكرَ مُنقسِمَا لا حُلْتُ عن حُبِّه الأشْهَى إلى كبدِي ... من الزّلالِ وقد كادَتْ ظمَا ولا تبَدَّلتُ إنساناَ سِواهُ ولَو ... أضْحَى وجُودِي كصَبْري في الهوَى عَدَمَا ومنها: لِلهِ ما أنتَ في الأفاقِ تنْثُرُهُ ... وهْيَ الَّلآلئُ ظنَّتْها الورَى كَلِمَا ومنها: مِن كلِّ زَاهيةِ الألْفاظِ زاهِرةٍ ... لا ترْتضِي الشِّعرَ أن يُعْزَى لها شَمَمَا وله من قصيدة رَثى بها العِماد: عظيمُ مُصابٍ مُقْعِدٌ ومُقيمُ ... له كَمَدٌ بين الضُّلوعِ مُقيمُ وفادح خَطْبٍ حارَب الصَّبَر والكَرَى ... فأصبحَ كلٌّ وهْو عنه هَزِيُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وحُكْمٌ أذلَّ الفضلَ عنْد اعتزازِهِ ... وأوْهَى عمادَ الدِّين وهْو قويمُ ألا إنَّما عينُ المعالي غَضِيضةٌ ... وإن فؤادَ المَكْرُماتِ كَلِيمُ ومنها: أقامَتْ على قَبْرٍ عاطرِ الثَّرى ... سحائبُ رِضْوانٍ فليس تَرِيمُ إلى أن يعودَ القبرُ أنْضَر روْضةٍ ... بها النَّبْتُ شتَّى يانِعٌ وهشِيمُ وكان له بِجِلَّق أصدقاء تَسكَر بشمول شمائِلهم الرَّاح، وتهتَزُّ طرباً لذكرِهم معاطفُ الأرْيَحِيَّة والسَّماح، فتخفُق على هاماتِ مجدِهم ألْويةُ الحمد، وتُضِئُ في سماءِ معاليهم كواكبُ المجد، من كل مُصطَبِح بكاساتِ المَسرَّة مُغْتبِق، ولولا نَدَاهُ كاد من نارِ الذَّكاء يحْترِق. فلما ارتحلَ إلى الشَّهباء غلبَه الشَّجَن، ونافسَتْه الشُّجون، وفي ذلك فلْيَتنافس المتنافِسون، فكتب إليهم: يُقبِّل الأرضَ صَبٌّ مُغرَمٌ علَقاً ... بكُم وذلك مِن تكْوينهِ عَلَقَا حِلْفُ الصَّبابةِ أمَّا قلبهُ فشَجٍ ... من الفِراقِ وأما جِسْمُه فَلَقَا يشْتاقكُمْ كلَّما هبَّتْ يمانِيَةٌ ... ولا مَحالةَ أن يَشْتاقَ مَن عشِقَا بهِ من البيْنِ ما لو حلَّ أيْسرُهُ ... يوماً بأركان رَضْوَي هُدَّ أوْ طَفِقَا يا هل تعودُ أوَيْقافٌ بكم لفتىً ... دموعُه خَدَّدتْ في خَدِّه طُرُقَا اللهُ يعلمُ ما إن عَنَّ ذكرُكمُ ... إلا تناَثَر دُرُّ الدَّمعِ واسْتَبقَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ولا تغنَّتْ على غُصْنٍ مُطوَّقَةٌ ... ألاَّ أهاجَتْ لِيَ الأشْجَانَ والأرَقَا يا ليتَ شِعْرِيَ والأيامُ مُطمِعةٌ ... والدهرُ في عكسِ ما يهْوَى الفتَى خُلِقَا هل لي إلى عَوْدِ أوقاتٍ بكمْ سلفَتْ ... رَجاً فأظْفرُ أحياناً بما افتَرقَا للهِ أيامُنا والشَّمْلُ مُجتمِعٌ ... أيامَ لا فُرقَةً أخْشَى ولا فَرَقَا وإذْ بكُمْ كان عَيْشي أخْضراً نَضِراً ... وأسْودُ الليل منكُمْ أبْيَضاً يَقَقَا يا صاحِبَيَّ فلا رُوِّعْتمُا بنَوًى ... وعنكُما ظلَّ جَفْنُ الدَّهْرِ مُنطبِقَا إن جئتُمَا الجامعَ الزَّاهِي برَوْنقِهِ ... سقَاهُ من غادِياتِ السُّحْب ما غَدَقَا مُيَمَّمَيْن له عُوجا كذا كرماً ... لنَحْو قُبَّتِه الشَّمَّاءِ وانْطلِقَا فبلَّغا لِي سلاماً مَن مَحبَّتُه ... لم تُبْقِ لي منذُ حلَّتْ مُهجَتي رَمَقَا وخَبِّراهُ بما ألْقى بعيْشِكما ... من فَرْطِ لاعِجِ أشواقٍ أتَتْ نَسَقَا إنِّي إلى ذلك المغْنَى المشُوقُ كما ... أشْتاقُ صحْبيَ إخوانَ الصَّفا خُلُقَا لا سيَّما الأروعَ المحمودَ سيِّدنا ... المُسْكِتَ اللَّسِنَ المُطْرَي إذا نطَقَا طَوْراً تراه بكأسِ الحمدِ مُصْطبِحاً ... وتارةً من سُلافِ المجدِ مُغتبِقَا يا غائبين فما وُدِّي بمُنتقِضٍ ... منكُم ولا حبْلُ عهدِي واهِناً خَلَقَا تَحْدُوه رِيحُ الصَّبا وَهْناً لأرْضِكُم ... يُزْرِي شَذَاها بِرَيَّا مِسْكِه عَبِقَا فأجابه أبو المعالي الطَّالُوِيّ، بقصيدةٍ، أنشدَنِيها، وهي: وافَتْ فأرّجتِ الأرجاءُ والأفُقَا ... أُمْنِيَّةٌ من شَذاها قُطرُنا عَبِقَا رَاحٌ كأنَّ الصَّبا باتَتْ تُعلِّلُها ... بالسَّحْرِ بين رِياضٍ طَلْعُها بَسَقَا أم نَفْحَةٌ مِن رُبَى دَارِينَ عاطِرةٌ ... أهْدَتْ لنا أرَجاً جُنْحَ الدُّجَى عَبقَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 هَيفاءُ تزهُو بقَدٍ زانَهُ هَيَفٌ ... كخُوطِ باَنٍ غَضِيضٍ مُثِمرٍ بِسَقَا تَرنُو إلىَّ بطَرْفٍ كلُّهُ حَوَرٌ ... مهْماَ انْبَرتْ بفؤادٍ هامَ أو عَشِقَا لو شاهدَ ابنُ عُنَيْنٍ حُسْنَ طلْعتِها ... لا ذْكرَتهْ زماناً يبعُثُ الَحرقَا أو انْبرَتْ لحَبيبٍ وهْو ذُو لَسَنٍ ... أزْرَتْ به كذا سَحْبانُ إن نَطَقَا يا حُسنَها حينَ زارتْنا مُحبَّرةً ... قد نُظِّمَ الدُّرُّ في لَبَّاتِها نَسَقَا أهْدَتْ تحيَّةَ وُدٍّ من أخِي ثِقَةٍ ... يُزْري شَذاهَا برَيَّا المِسْك إن عَبِقَا لا غَرْو أنِّي مَشُوقٌ في الأنامِ له ... فالحُرُّ يشْتاقُ إِخوان الصَّفا خُلُقَا أشْتاقُ رؤْيَتَه الغرَّاءَ ما طلَعتْ ... شمسُ النَّهارِ وأبْدَى صُبْحُه شَفَقَا وكلَّما سَحَرًا هبَّتْ شآمِيَةٌ ... بسَفْح جِلِّقَ أو بَرْقُ الحِمى بَرَقَا أحْبابَنا والذي أرجوهُ مُبتَهلا ... بأن يُمَنَّ على مُضْناكمُ بلِقَا ما أن تذكَّرْتُ معنًى راقَ لي بكمُ ... إلاَّ ورُحْتُ بدَمْعي جازعاً شَرِقَا ولا شدَتْ بِغِياضِ الغُوطَتيْن ضُحًى ... وَرْقاءُ تنْدُب إلفاً نازِحاً شفقَا إلاَّ وغاض اصْطِبارِي أو وَهَي جَلَدِي ... ففاض من مُقْلَتَيَّ الدَّمعُ وانْطلقَا إذ جانبُ العيشِ طَلْقٌ رائِقٌ بَهِجٌ ... والدهرُ قد غَضَّ عنا الجَفْنَ فانْطَبقَا تلْهُو بكلِّ كَحِيلِ الطَّرْفِ ساحرِه ... يُزْرِي بِغزْلانِ عُسْفانٍ إذا رَمَقَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 لا سِيِّما إن غدا بالكأسِ مُصطبِحاً ... أوْ راحَ مِن وَلهٍ بالطاسِ مُغتبِقَا ليتَ الزَّمانَ الذي فينا الغدَاةَ قضَى ... بشَتّ ملْمومِنا والدهرَ ما خُلِقَا هَلْ أُوَيْقاتُنا الَّلاتي بكُمْ سلفَتْ ... تعودُ يوماً فأحظَى منكُم بِلِقَا عليكَ منِّي سلامُ اللهِ ما بقِيَتْ ... صباَبةٌُ تبْعَتُ الأشْجانَ والأرقَا تهْدِيه ريحُ النُّعَامَي نحو أرْضِكمُ ... كمِسْكِ دَارِين يزْكُو كُلما نُشِقَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 تقيُّ الدِّين بن معروف سماءُ فضلٍ بإطْلاع نجوم الكمال معروف، وشموسُ معارفِه لا يعْتريها كُسوف، ورياضُ عِلْمه أنِيقة، ودَوْحَة مجدِه وَرِيفَة الظلوَرِيقَة. إذا مسَّ الأقْلامَ سجدَتْ في محاريب الطُّروس شكراً، ومادت من مُدام مِدادِه هائمةً سُكْرا، فكم لِلَيْل حِبْرِه المِسْكِيّ الأنفاس يدٍ بَيَّض اللهُ بها مُحيَّا القِرْطاس. تُخبِّر أنَّ المانَوِيَّة تَكْذِبُ وله في علم الفلَك أنْظار تَنُم بأسرار كواكِبه، وإن كتم قلْبَه على لِسانِ أسرار صاحِبه، بَوَّأه اللهُ منه مكاناً علِياً، فتَلا لمن رَامَه سِواه:) أَعُوذُ بالرَّحمنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيَّا (فكم صعد له بخَطواتِ فكره وسَما، واتَّخذ خُطوطَ جدَاوِلِه للعُروج إليه سُلَّما، فكلَّما طارت حمائمُ النجوم من بروجِ أقْطارِها، جعلها بِطاقةً تَطِير في الآفاقِ لتْبليغ أخْبارِها، فلو كان لعُطارِد الخِيار كان بدَنانير الدَّرارِي له مُشْترِي، ولو أراد مَدْحَه أطْراه بقَول ابن الروميّ غيرَ مُفْترِي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أعلاكُمُ في السَّماءِ مجدُكمُ ... فلستُمُ تجهلون ما جَهِلاَ شافَهْتُمُ البدرَ بالسُّؤالِ عن الْ ... أمرِ إلى أن بلغتُمُ زُحَلاَ لم تُدْرِكوا قطُّ بالحسابِ بَل الْ ... أحسابِ علماً لكمْ ولا عَملاَ ولم يزل مُتقلِّداً بصارم القَضا، قانعاً من معشوقتِه الدنيا بحالَتي الصَّدِّ والرِّضا، حتى أراد أن يجدِّد لأسْتاذِنا رصَداً:) وَإنَّا لا نَدْرِي أشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ في الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدا (غافلا عن حَركات الفَلَك، حتى قال له: نبَّهَك اللهُ ما أغْفَلَك، فدارت دوائرُه على مدارِها، وصارت زاويةُ قبْرِه حادَةً بعد ما كانت مُنْفَرجة في أقْطارِها، وشكْلُ العَرُوس من زُخْرُف الحياةِ له أطْماع، وهو لمن تأمَّلَه شكل قطاع. والموتُ للإنْسانِ بالمِرْصادِ وقد طالعتُ له رسائل فلَكيَّة، وبعض تحريراتٍ هنْدسِيَّة؛ تدلُّ على عُلُوِّ كَعْبِه فيها، وُرقِيَّة من حَضِيض الخمول إلى سماء معالِيها. وله شعر وَسَط، ونثرٌ غرِيبُ النَّمَط، كقوله في مدح العَّلامة أبي الفتح المَالِكيّ: يا كَعْبةً يؤُمُّها أُولو النُّهْىَ ... وسِدْرةَ الفضْلِ إليْها المُنتهَىَ لأنتَ في العالَمِ فردٌ علَمٌ ... بل كلُّ الخلقِ عِلْماً وهُدَى والفضلُ لمَّا قال إن مَالِكِي ... بالشَّامِ كُلُّ قد أقَرَّ بالولاَ رَفَعْتَ قَدْراً وعَلَوْتَ رُتْبةً ... وفُزْتَ بالتَّقْديمِ حالَ الابْتِدَا وفُقْتَ أهلَ الأرضِ بالعلمِ الذي ... أُتيتَه مولايَ من ربِّ السَّمَا يَصْرِفُ لُبَّ المرءِ نحو لفْظِه ... إذ يُعْرِب الفضلُ على هذا البِنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وقوله من قصيدةٍ في مدح أستاذي سعد الدين الشاعر: صَباحُ الأمانِي في صَباح مكارم ... تجلّتْ على عَرْشِ الجلالةِ والحمْدِ مطالعُ ما زالَتْ طَوالِعُ بالَسَّنَا ... تُعِّممُ آفاقَ المكارمِ بالسَّعْدِ ) فائدة مهمة ( سُئِلتُ عنها في حال تحْريري هذه) الريحانة (، وهي أنه منَع بعضُ علماء المالكيَّة من الألْقاب المضافة للدِّين، كسعد الدين، وعز الدين. فقلتُ: قال العارفُ بالله ابن الحاج في كتابه المسمى ب) المدخل (الذي استقْصى فيه أنواع البدع، ما نصُّه: فصلٌ، من ارْتكب بدعه ينْبغي له إخفاؤُها؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم:) مَنِ ابتُلِىَ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هذِهِ الْقَاذُورَات فَلْيَسْتَتِرْ (والعالِم يجب عليه التَّستُّر أكثر من غيره؛ لأنه ربما يُقال: عنده عِلْم بجواز ما ارْتكبَه، فيَقْتدي به غيرُه، كما قال أبو منصور الدِّمْياطِيّ، في قصيدةٍ له: أيها العالمُ إيَّاك الزَّلَلْ ... وأحذَرِ الهَفْوةَ فالخَطْبُ جَلَلْ هَفْوةُ العالِم مُستَعظَمةٌ ... إن هَفَا أصبح في الخَلْقِ مَثَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وعلى هَفْوتِه عُمدَتُهمْ ... وبه يَحْتَجُّ من أخْطَا وزَلْ فهو مِلْحُ الأرضِ ما يُصْلِحُه ... إن بدَا فيه فَسادٌ أو خَلَلْ فمَمَّا ينْبغي التَّحفُّظ عنه من البدع الأعلامُ المخالفة للشَّرع، المُضافَة للدِّين؛ لما فيها من تزْكيه النَّفس، المَنْهِيِّ عنها، كما صرَّح به القُرْطُبيّ في) شرح الأسماء الحسنى (. وللفَضْل بن سَهْل قصيدةٌ في ذمِّها، فمنها قولُه فيمَن لُقِّب بعز الدين وفخر الدين: أرَى الدِّين يَسْتَحِي من اللهِ أن يُرَى ... وهذا له فَخْرٌ وذاك نَصِيرُ فقد كثُرَتْ في الدِّين ألقابُ عُصْبةٍ ... هُمُ في مَراعِي المُنْكَرات حَمِيرُ وإنِّي أُجِلُّ الدِّين عن عِزِّهِ بهِمْ ... وأعلمُ أن الذَّنْبَ فيه كَبِيرُ فمن نادَى بهذا الاسم، أو أجاب به، فقد ارتكب ما لا ينْبغي؛ لأنه كذَب؛ وفي الحديث:) عَلَيْكُمْ بالصِّدْقِ فإنَّهُ يَهْدِي إلَى الْبِّر والْبِّرُّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، والْكَذِبُ فُجُورٌ والْفُجورُ يَهْدي إلى النَّار (الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فإذا قال أحدٌ) مُحْي الدين (يُقال أهذا الذي أحْيى الدِّين؟ فإذا أخذ صحيفتَه وجدها مَشْحونةً بالكذِب. ولما دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أمِّ المؤمنين زينب، قال لها:) مَا أسْمُكِ؟ (قالت: بَرّة. فكرِه صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال:) لا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ (وسمَّاها زَينب. ولا يُقال: إنها خرجَت عن أصْلِها بالنَّقْل للعَلَميّة؛ لأنه لو كان كذلك ما كرهوا ترْكَها مع ما فيها من التَّشبُّه بالعَجم المنْهَيّ عنه. وهذه التَّسْمِية أوَّلَ ما ظهرتْ من مُتغلِّبة التُّرْك مضافةً للدَّولة، وكانوا لا يُلقِّبون أحداً إلا بإذن السلطان، وكانوا يبذُلون عليه المال، ثم عَدَلوا عنه بالإضافة إلى الدِّين. ونقل عن النَّوَوِيّ رحمة الله أنه كان يكره من يُلقِّبه بمُحْي الدِّين، ويقول: لا أجعل مَن دعاني في حِلٍّ. ولذا تحاشَى عنه بعض العلماء، وهذه نَزْغَة شيطانيَّة من أهل المشرق، ولما كان في أهل المغرب من التَّواضُع كانوا يغيَّرون الأسماء، لما هو مَنْهِيٌّ عنه أيضاً، فيقول لمحمد:) حمو (، ولأحمد) حموس (، وليوسف) يسو (ولعبد الرحمن) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 رحمو (ونحوه. انتهى. أقول: أمَّا كونُ هذه بدعة حدثَتْ بعد العصر الأول فلا شُبْهة فيه. وأما كونُها ممنوعة شرعاً، أو مكروهةً فلا وجهَ له، وما تشبَّثَ به أوْهى من بيْتِ العنْكبوت، وما نقله عن النَّووِيّ وغيرِه من السَّلف لا أصْلَ له، وكذا ما نُقِلَ عن شيخ والذي ناصر الدين اللَّقَانِيّ، أنه كان يكتب في الفَتاوَى) ناصر (لهذا. وقد غرَّني ذلك مُدَّةً، ثم رجعتُ عنه؛ لعدم ثُبوتِه. وكونُه كذباً يُكتَب في صفحة مجازَفةٌ لا ينْبغي أن يُقال مثلُه بالرَّأْي، وهذا لم يضَعْه الإنسان لنفْسِه، وإنمَّا سماه به أبَوَاه في صِغَره، وعدمِ تكْليفه. وكونُه تزكيةً لنفْسِه أيضاً غيرُ صحيح؛ لأن الإضافة تكون لأدْنى ملابَسةٍ، فهو مُضاف للسَّبب تفاؤُلاً، فعِزُّ الدين بمعنى يُعِزُّه الله بالدِّين، وكذا مُحي الدين، بمعنى مُحي نفسِه بالدِّين، فقياسُه على) بَرَّة (قياسٌ فاسد، مع الفارق، ولو صح هذا مُنِع أحمد، ومحمد، وحسن، وهو محمود. وقد قال المُحَدِّثون: إذا اشْتهر اللَّقب جازَ، وإن كان ذَمَّاً، كأعرج، وأعمش، فما ذكر تضْييق وحَرَج في الدِّين. وفي هذا الكتاب كثيرٌ من هذا النَّمَط، فإيَّاك والاغْترارَ به. والأعلام إنما تدلُّ وضْعاً على الذَّات، والتَّفاؤُل بالأمور المُسْتَحسَنة مُستَحب؛ لقوله في الحديث: كان يُحِبُّ الفَأْل، ويكْرَه الطِّيَرَة. ويحمدهقائلة لا يعتقد ثبوت ما يقال به، وإنما سُمِّيَ به، فلا كَذِب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 والأعلام لا حَجْر فيها، والتَّشبُّة بالعَجم فيما لا يُزاحِم الشَّرْع غير منْهىٍّ عنه، إلا للعصَبِيَّة المذمومة، بدليل حديث الخَنْدق. ويدل على ما ذكرناه حديثُ تسْمِية النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم بمحمد. وأما حديث) بَرَّة (إن صحَّ، فإنما فعلَه صلَّى الله عليه وسلَّم لكوْنِه من أعْلام الجاهِليَّة، أو لمعنًى آخر، بدليل أنها كانت بَرَّةً في نفسِها. اه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 محمد بن الرُّومِيّ المعروف بمَامَاي ابن أخت الخَيَّاليّ، نزيل دِمَشق الشام شاعر توقَّدت جَمَراتُ أفكاره، وتورَّدَتْ في رياض الشام وَجَناتُ أزْهارِه، وابتسَمتْ في ناديه ثُغورُ أنْوارِه، لكنها، خُدودٌ لم يتَرقْرَق عليها دَمْعُ القِطار، ومباسِم لم تَرْشِف الشمسُ منها رِيقَ الأمْطار، فللهِ دَرَّه من فصيحٍ لم يُعلَّل بمياه عُروقِ القَيْصُوم والشِّيح، ولم يُغْذَ بلِبَان العربيَّة، ولم يتَفَكَّه بثمار العلوم الجَنِيَّة؛ لأنه من بَنِي الأصْفر، وممَّن قاسَى الفقرَ الأسود وهو الموْتُ الأحْمر، إلا أن للبِقاع تأثيراً في الطِّباع، فلما تغَذَّى طفلُ جِبِلِّتِه ماءَ الشام ونَسِيمَه، وبزَغ هِلالُه فيه بعدما أُمِيطَتْ عنه هالَةُ التَّمِيمَة، انْصَقَل طَبْعُه المُرْهَف، فانْبَرتْ شمائلُه أرَقَّ من الشَّمالوألْطف، لا سِيَّما وأبو الفَتْح ماشِطَةُ عرائسِ فكرِه، ومُلِمُّ شَعَثِ لُمَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 نظْمِه ونثْرِه، إذا آنس طبْعُه لَحْنَة، أو طرَق طَرف ذِهْنِه طيفُ هُجْنَة. وقد طالعتُ ديوانَه، فرأيتُه يعْترِيه عِلَل وفُتُور، ويدخُلُ في مغانِي مَعانيه وبُيُوتِه القُصور. فمن شعرِه الذي اخترْتُه قوله: سمعتُ لسانَ الحالِ من قَهْوةِ الطِّلا ... يقولُ هَلُمُّوا نَصَّ أخْبارِي فباسْمِي تسمَّتْ قهوةُ البُنِّ في الملاَ ... ولكنَّها لم تَحْكِ أصْداغَ خَمَّارِي فمِن كِذْبِها قد سوَّد اللهُ وجْهَها ... وعذَّبَها بْعد الإهانِة بالنَّارِ ومنه قوله مُضمِّناً: قد قالتِ القْهوةُ الحمْراءُ وافتَخرَتْ ... كم قد ملكْتُ مُلوكُ الأعْصُرِ الأُوَلِ وقهْوةُ القِدْرِ إنْ قَدْراً عَلىَّ علَتْ ... ليِ أُسْوةٌ بانْحِطاطِ الشَّمْسِ عن زُحَلِ ومنه قوله: جُلِيَتْ عَرُوساً في عُقودِ حُبابِهَا ... وفَدَيْتُ ظَبْياً بالسُّرور حَبَا بِهَا طلَعتْ عروساً تنْجَلي في كأُسِها ... وكَسَا كُفوفَ الغِيد نَقْشُ خِضابِهَا بِكْرٌ إذا باكَرْتها لَك ولَّدَتْ ... سِرَّ السُّرورِ لدَى حُضورِ جَنابِها أخذَتْ من العقْلِ النَّفيسِ جواهِراً ... مَهْراً لها والنفَّفسُ من خُطَّابهَا رَاحٌ حَلالِي شُرْبُها في جَنَّةٍ ... والنَّصُّ في الجَنَّاتِ حِلُّ شَرابِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وهو مأخوذ من قول الأرَّجَانِيّ: كأسٌ مِن السِّحرِ الحَلا ... لِ بشُرْبِها للْقَوْم سُكْرُ في مجلسِ هُوَ جَنَّةٌ ... ولذاكَ فيه تَحِلُّ خمْرُ وقوله: يقول حبيبي مَا لِطَرْفِكِ أحْمراً ... كأنَّك ياحَيْرانُ في نَشْوةِ التِّيهِ فقلتُ له إشْراقُ خَدِّك قد بَدَا ... وقابلَه طَرفْي فحيَّلُهُ فِيهِ وأحسنُ منه قول الأمير مُجِير الدَّين بن تَمِيم: أقول للصَّحْبِ لا أنْكرُوا أثَراً ... مِن احْمِرارٍ بدَا في باطن المُقَلِ عاتَبْتُ ألْحاظَ عيْنِي عندما نظَرتْ ... إلى سِوَى الحِبِّ فاحَمرَّتْ من الخَجَلِ وقوله: ولمَّا انْقْضى شهرُ الصِّيام بفضْلِهِ ... تجلَّى هلالُ العِيد من جانِب الغَرْبِ كحاجبِ شيْخٍ شابَ من طُولِ عُمْرِه ... يُشِيرُ لنا بالرَّمْزِ للأكْلِ والشُّرْبِ وهو مأخوذ من قول العَقِيلِيّ: قُمْ هاتِها وَرْدِيَّةً ذَهبِيِّة ... تبدُو فتَحسَبها عَقِيقاً ذابَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أو مَا ترى حُسْنَ الهلالِ كأنَّهُ ... لما تَبدَّى حاجِبٌ قد شاَبَا ألا قوله) من طول عمره (تكميل حسن. ومما قلته في بعض الرسائل: شابَ حاجبُ الهلال وما دَانَاه كمالاً، واشتعل رأسُ الشمسِ شَيْباً ولم تَرَ له مِثالاً. ومما يُضاهَي هذا ما قلتُه لمَّا رأيتُ قول الثَّعالبيّ، في مدح قصْرٍ بناهُ الصَّاحِبُ ابن عبَّاد: لِلهِ قَصْرٌ ترَى كلَّ الجمالِ بهِ ... وأسْعُدُ الدهرِ تبْدو من جوانِبِهِ كأنَّما جَنةُ الفِرْدَوْسِ قد نزلَتْ ... إلى خُوَارَزْم تَعجيلاً لصاحِبِه ورأيت ما فيه من الغَفْلة؛ فإن تعْجيلَه بالدخول لها إنما يكون بالموت، ففيه إيهام لا يَلِيق بمثلِه، فقلتُ في هذا المعنى، وأتيْتُ فيه بنوعٍ من الاحْتِراس، سمَّيْتُه التهذيب: بنَى داراً يحارُ الوصفُ فيها ... وتَهْواها المحاسنُ والمَسَرَّةْ كأنَّ الجنَّةَ اشْتاقَتْةُ حتَّى ... له نزلَتْ أطالَ اللهُ عُمْرَهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وقد يقال: في قوله) نزلت (احتراس مَّا، لكَّنه خَفِيَّ، والمقام يأبَاه. ومن ديوانه قولُه أيضاً: كيف السَّبيلُ إلى كَتْمِ الغرام إذا ... كاتبْتُكم وأردْتُ السِّرَّ ينْكَتِمُ وقد غداَ الطِّرْسُ بالوجْهَيْنِ مُشتَهِراً ... وباللِّسانَيْن أمسْى يُعْرَفُ القَلمُ وقوله: لقد مرضَ الجَهُولُ له فعُدْنَا ... ونحنُ إذاً أُناسٌ رَاحُمونَا فظنَّ بأنَّنا عُدْناهُ خوفاً ... فإن عُدْنَا فإنَّا ظَالِمُونَا وقوله أيضاً: إذا دُفِن الإنسانُ في الرَّمْسِ بُرْهةً ... وعاوَدْتَه تلْقاهُ بادٍ ثانَيَاهُ وما ذاك إلا أنَّه مُتِّسمٌ ... على كلِّ مغْرورٍ بأحْوالِ دُنْياهُ ومما يُضاهي هذا، أن المولود يُولد باكياً، مقبُوضَ الكفِّ، فإذا مات فتَحها، فقال لحكماء: إنه إشارة لحرْصِه حيَّا، وأنه خرج منها بغير شئٍ، كما قيل: وفي قَبْضِ كفِّ الطفلِ عندَ وِلاَدِهِ ... دليلٌ على الحِرْصِ المُركَّبِ في الحَيِّ وفي بَسْطِها عند الممَاتِ إشارَةٌ ... ألا فانْظُرونِي قد خرَجْتُ بلا شَئِّ وكم في الكَوْن من إشارات، فهو جميعُه ناطقٌ بالعِظات، ولكن مَن يسمع ويبصر! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وأنشدني له بعضُ أدباء الشام: رأيتُ الكائناتِ خَيالَ ظِلٍّ ... مُحرِّكُها هو الرَّبُّ الغَفورُِ فصُنْدوقُ اليَمينِ بُطونُ حَوَّا ... وصُندوقُ الشِّمال هو القُبورُ وليس له، فإني رأيتُه منسوباً للشيخ ابن عَرَبيّ، وهو معنىً مشهور، ولكنه تصرَّف فيه فاستعار عَباءَةً، ورد دِيباجَةً. وأصلُه من قول الآخر: رأيتُ خيالَ الظِّلِّ أكْبرَ عِبْرَةٍ ... لمن هو في عِلْمِ الحقيقة رَاقِي شُخوصٌ وأشكالٌ تَمُرُّ وتنقض ... وتَفْنَى سَرِيعاً والمُحرِّكُ بَاقيِ ومنه وَلَّد ابن الوَرْدِيّ في الحَمَّام قوله: وما أَشْبَه الحَمَّامَ بالموْتِ لامْرئ ... تبصَّرَ لكن أيْنَ مِن يتَبصَّرُ يُجرَّدُ من أموالهِ ولِباسِه ... ويبْقَى مِن كلِّ ذلك مِئْزَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ومما قلتُه فيه: إن يكُنْ يَحْكِي خيالَ الظِّلِّ في ... فِعْلهِ دهرٌ لنا يُبْدِي العِبَرْ فعسَاهُ عن قريبٍ مُظهِراً ... صوراً أحْسن مِن هذِي الصُّوَرْ وقلت أيضاً: هي الُّدنيا خَيالَ الظِّلِّ تَحكي ... يُحرَّكُها القضاءُ كما يقُدِّرْ ولولا السِّتْرُ ممْدودٌ عليْهِ ... من الغَفَلاَتِ ما ألْهَى وما سَرّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 زَيْن الدِّين الإِشْعَافِي فاضل ليِّن العود ماجِد الأعْراقِ، حُلْو الشَّمائل عَذْب الأخلاق، له آثارٌ على أكُفَّ القبول مرفوعة، وكلماتٌ كثمراتِ الجِنان غير مقطوعةٌ ولا ممنُوعَة. صحبَني وهو يقطِف نَوْرَ التَّحصيل، وللفضل إلى معالِيه انتظار وتَأْمِيل، فتجاذَبْنا أهْدابَ المذاكرة، وجرَرْنا ذُيول المُناشدة والمحاورة. فمما أنشَدِنيهِ من شعرِه قولُه: كتبتُ وأفكارِي وحقِّك مُزَّقتْ ... كما قد بدَتْ في الحُبِّ كُلَّ مُمَزَّقِ ولو حُمَّ لي التَّوفيقُ كنتُ تركْتُه ... ولكنَّني أصبَحْتُ عيرَ مُوفَّقِ إذا قيلَ أشْقَى مِن بات ذا هَوًى ... فلا تُنْكِرَنْ هذا المقلَ وصَدّقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وهذا كقول الآخر: سألْتُها عن فؤادِي أيْنَ مْسكَنُه ... فإنَّه ضَلَّ عنِّي عند مَسْراهَا قالتْ لَديَّ قلوبٌ جَمَّةٌ جُمِعتْ ... فأْيُّها أنتَ تْعْنِي قلتُ أشْقاَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 أبو بكر الْجَوْهَرِيّ الشَّامِيّ شاعر عذْبُ الكلمات، حسَن الذَّات والسِّمات، عرائسُ أفكارِه صِباح، وجَوْهَرِيّ نفثاتِهِ صِحاح. ورَد إلى مِصر مُرتدِياً حُلَلَ الشباب، مُطرَّزَةً بطِراز أخْلاقِه العِذاب، مُتعاطِياً للتِّجارة، صارفاً لها نَقْد عُمْرِه. إذا كان رأسُ المالِ عُمْرَك فاحْترِسْ ... عليهْ من الإنْفاقِ في غيرِ واجبِ فمن جواهِر كلماتِه الصِّحاح، التي هي أرَقُّ من نَفَس الصَّبا في الصَّباح، وقولُه في مليحٍ اسمه داود، ورَقيبٍ اسمُه عمرو: أفَدِّي غزالاً بوَجْنتِه ... مع عارضِ شِبهْ واوِ العطْفِ ممْدُودِ كأنَّما الخَالُ فوق الخَدِّ يحرسُهُ ... حِذارَ سِرْقةِ عَمْرٍو وَاوَ دَاوُدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ولابن لُوْلؤ فيمن اسمه داود: قد كنتُ جَلْداً في الخُطوبِ إذا عَرَتْ ... لا تَزْدَهِيني الغانياتُ الغِيدُ وعهِدْتُ قلبي من حديدٍ في الحَشا ... فألاَنَه بجفُونهِ دَاوُدُ وللملك النَّاصر في داود: مُنِّى بَطْيفِكِ بعد ما مَنَع الكَرَى ... عن ناظِرَيَّ البُعدُ والتّسْهِدُ ومن العجائبِ أن قلْبَكِ لم يلِنْ ... لِي والحديدُ ألانَهُ دَاوُدُ ومما قلتُه فيما قالَه: وحاسدٌ يرسِمُ في صُحْفهِ ... فضْلى ويُخْفى الذِّكرِ إذْ يَطْرَأْ فأسْمِى لديْهِ وَاوُ عَمْرٍو لِذَا ... يُكْتَبُ في الخطِّ ولا يُقْرَا وأصله قولُ أبي نُوَاس: أيُّها المُدَّعِي سُلَيْماً سِفاهاً ... لسْتَ منها ولا قُلاَمَةَ ظُفْرِ إنَّما أنتَ مِن سُلَيْمٍ كواوٍ ... أُلْحِقَتْ في الهجاءِ ظُلْماً بَعمْرِو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 شمس الديِّن محمد بن إبراهيم الْحَلَبِيّ المعروف بابن الْحَنبَليّ والسماءِ والطَّارق، وما أدراك ما الطَّارق، هو في ميدانِ الفضلِ وحَلْبة الشّهْباء سابِق، وأيُّ سابق، وعصرُه كان مِسْكَ خِتامِها، وسَحَرَ ليالِيها وأصِيلَ أيّامِها، نوّرتْ حدائقُها بغَوادي شمائِله، وتحلَّى مِعْصَمُ مجدِها بسِوار فضائِله. حيثُ الْتقَى نَفَسُ الأقاحِي والصَّبا ... وترنُّمُ الحسْناءِ والورْقاءِ وجرى النَّسيمُ يجرُّ فضلَ ردائِهِ ... مُتبخْتراً يجْلي من الخُيَلاءِ نشوانَ يَعثُرُ بالغصونِ لطافةً ... منه فيسقُطُ في غديرِ الماءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 درَّس فيها، وأفْتَى، وطَمَى بحرُ فضائِله فترك الحُسَّاد يضربون حتَى. وله نَظمٌ كما انتظَمتْ دَرارِيُّ الزُّهْر، ونَثْر كما نثَرتْ الشَّمال على وَجَناتِ الرياض لآلِئَ القَطْر. وله تصانيف جَمَّة تزيًّنَتْ بها البلاد، وأمستْ تمائِمُها مَنُوطةً بأجْياد الأجْواد، فهو نسِيج وَحْدِه، آثارُه في حُلَل الفضل طِرازٌ مُذْهَب، وأسدٌ في مجادلةِ العلماء لا يُذْكَر عنده ثَعْلب. وله مُحاضَرات لو ذُكِرت للرَّاغب لسعَي لها راغباً، أو لسَحْبان ظَلَّ لذيل الخَجْلةعلى وَجْهِ البسيطةِ ساحباً. فمما هبَّتْ به صَبا الأسْحار، وغرَّدتْ به على كرسِيِّ الرُّبَى حَمَائمُ الأخبار، قولُه: يلومُونَنِي في تَرْكِ ضَمِّ قَوامِه ... ولا إذْنَ للنُّسَّاكِ في الضَّمِّ واللَّثْمِ نعم بيننا جِنْسِيَّةُ الوُدِّ والصَّفا ... ولكنَّني لم أُلْفِها عِلَّة الضَّمِّ وقوله: يقولون لي والشَّيْبُ عاَثَ بلحْيَتي ... عِناقُك عذْراءِ الحِمَى غيُر جائزِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أعَن نارِ خَدَّيْها التي هي مُنْيَتي ... أَمِيلُ وأسْتغْني ببَرْدِ العجائزِ وله: قوامُكَ يا بدرَ النُّجاة كأنَّهُ ... قَناً أو قَوامُ السَّروِ أو ألفْ الوَصْلِ وعينُكَ فاقتْ كلَّ عْينٍ بكُحْلِها ... فما أنْتَ إلا زَيْدُ مسألةِ الكُحْلِ وقوله: لكم هِمَمٌ نِلْتمُ برَمْي شِباكِها ... مَرامَكُمُ لما قَطعتُمْ بها البَيْدَا وعُدتُم إلى المَغْنَى بما نِلْتمُ وقد ... تولَّيْتُمُ صَيْداً فكان لكم صَيْدا وقوله: كنا سمِعنا بأوصافٍ كمُلْتَ بها ... فسَرَّنا ما سمعِناه وأحْيَانَا مِن قبل رؤيِتكْم نلْنَا محبَّتَكُم ... والأذْنُ تعشَقُ قبل العْينِ أحْيانَا وهو لبشّار، وأوله: يا قومُ أُذْنِي لبَعْضِ الحيِّ عاشِقَةٌ ... إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وفي معناه قولُ الحِلِّيّ: وهوِ يتكُمْ قبلَ اللِّقاءِ كما ... تُهْوَى الجِنانُ بِطَيِّبِ الأخْبارِ ولصاحب التَّرجمة أيضاً رُباعيّة، وهي: طَرْفاكَ كلاهُما ضعيفٌ وعليلْ ... مِثْلي وأنا العليلُ من أجلِ عَليلْ مِن ضَعْفِي قد صرَفتُ مَيْلي لهما ... والجِنسُ إلى الجنسِ كما قيل يميلْ قوله:) والجنس (إلخ، من أمثالِ مُولَّدي العجمْ، ومثله قولهم: الجنْسِيَّة عِلَّة الضَّم، وهو كما قيل: إن الطُّيورَ على أجْناسِهاَ تَقَع وشِبْهُ الشَّيءِ مُنْجذِبٌ إليْهِ وله من ابيات المعاني، في مليحٍ من بني تَمِيم: ومُهَفْهَفِ الأعْطافِ قلتُ له انْتسِبْ ... فأجابَ ما قَتْلُ المحِبِّ حَرامُ وله مضمناً: حَمى ثَغْرَه الضَّحَّاكَ صَمْصَامُ جَفْنِه ... كما صِينَ بالتَّعذيرِ خَدٌّ مُوَرَّدُ أخَدَّ حبيبي لا تزِدْ زردية ... فحسبُك والضَّحاكَ سيْفٌ مُهَنَّدٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 والضَّحاك اسم مَلِك العرَب، لكنه وافقَ صيغةَ المبالغة من الضِّحك. ومثلُه من نوادر العربيَّة. ومن فصوله القصار: إنما تُلْقَى المخاصِر إلى كريم العناصر: لا تجعلِ الدنيا للآخِرة ضَرَّة، ومن يَنْكحُ أمَة على حُرَّة. ما أخَسَّ الكلبَ العَوَّا، وإن صَعَد إلى السِّماك والعَوَّا. الصِّحَّة رأسُ المال، ورِبحُها حَسَنْ الأعْمال. تذْكيرُ المواعظ صَابون، لمن هُمْ عن دَنَسِ الأخلاق صَابُون. إذا كان النَّدَى مات، فالسُّؤال أعْظمُ النَّدامات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أبو الفتْح بن عبد السلام الِمالكيّ المغْرِبِيّ، نزيل الشام نادِرة الفلَك، وهدية الزمان، ونُكتَةُ عُطارِد المُدوَّنة في صُحف الإمْكان، وبُرهان مَن قال من الحكماء بتعَدُّد نوع الإنسان. وليس الغريبُ مَن تناءَتْ دارُه، بل مَن فُقِد من الكرامِ نُظراؤُه وأنصاره، وهو غريبٌ في فضْله ومجدِه، وإن ملَك من الأدبِ مُلْكاً لا ينْبغي لأحدٍ من بعدِه. ولما أشرقَتْ بالمغْرِب شموسُ علمِه وآدابه، وزها نورها إذ جَرى في عودِه ماءُ شبابه، أسفَر وجْه صباحِه، وجَلاَلَهُ الظَّفَرُ غُرَّة نجاحِه، فحلَّ عَقْد عزيمَتِه بالشام، كما حَلَّ الربيعُ نِقَابَه عن منْظرٍ بَسَّام: والرِّيحُ تجْذِبُ أطْرافَ الغصونِ كما ... أفْضَى الشَّقيقُ إلى تَنْبِيِه وَسْنانِ فألقى بها عصَا تَسْيارِه، ونفَض عن بُرْدهِمَّتِه غُبارَ أسْفارِه، وبنَى أمرَه على السْكون وماضِيَ حالِه على الفتْح، وقد شدَتْ وُرْقُ فصاحتِه بها بأطْربِ تَرنُّمٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وصَدْح، فمضَى زمنٌ ونَوْرَ الأدب لا يُجْتنَى إلا من رِياض كلامِه، وسُورَة الفتْح بمُحَارِبِيها لا تُتْلَى بغيْرِ ألْسنةِ أقْلامهِ، وإثْمِد مَراوِدِها كُحْلُ البصائرِ، وتُحَف آثارِه يتلَقَّى رُكْبانها كلّ بادٍ وحاضر، حتى في نادي القضاء تربَّع واحْتَبى، وأصبح طِرازُ مذهبِ مالكٍ به مُذْهَباً. وصار فيهم غريبَ الفضْلِ مُنفرِداً ... كبيْتِ حسَّانَ في ديوانِ سَحْنُونِ فأنار ليلَه الحالِك، وتصرَّف فيه تصرُّف مَالِك، بأخلاقٍ تُعْصَر منها شَمول الشَّمائل، وفضائلَ جَمَّةِ المآثرَ سَحْبانُ عندها بأقِل. إلا أنه مع تملُّكِ جواهرِ العلوم، وتقَلُّد جِيد كمالِه بعُقود المنْثور والمْنظوم، عادَاه دهرُه، وصافاه فقْرُه، فظل يَمْترِي صُبَابة عيشٍ لو أنها نَوْمٌ ما شُعرتْ بها الاحْداق، ويتحمَّل من أثْقالِها ما يُوهِن القُوَى والأعْناق. ولم يزل كذلك حتى غارَ ماءُ حياتِه، وانْغَلق على الفتْح بابُ قبرِه عند مماتِه، فانفتَحتْ له أبوابُ الجِنان، فسقاهُ اللهُ رَحِيقَ غُفرانِه بين رَوْحٍ ورَيْحان، ونزَّه عيونَ رجائِه، وأمَّلَه في رياضِ الجِنان، بين الحُورِ الحِسان. فمن نظْمه الذي حشَا الأسْماع سِحْراً، وملأَ أفْواهَ الرُّواةِ دُرَّاً، قولُه: بأبِي ألْعَسَ المراشِفِ ألْمَى ... مائِسَ القَدِّ ناعِسَ الأجْفانِ سرَق الجِيدَ واللِّحاظَ من الظَّ ... بْيِ ولِينَ القَوام مِن غُصْنِ بَانِ عطَفتْهُ الصِّبا إليَّ ومالي ... بالصِّبا بعدَ ما تراهُ يدَانِ فتحاشَيْتُ لَثْمه خِيفَة الْ ... إثْمِ وأطْلَقتُ مُقلتِي ولِسانِي آهِ لولا التُّقَى ومُعتَرَكَ الشَّ ... يْبِ لطاوَعْتُ في الهوَى شيْطانِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وله من قصيدة: حاز الجمالَ بأسْرِه فُمحِبُّه ... في أسْرِه لم يَرْضَ حَلَّ وَثاقِهِ قسَماً بصُبحِ جَبينِه لو زارنِي ... جُنْحَ الدُّجَى وسعَى إلى مُشْتاقِهِ لفرَشْتُ خَدِّي في الطَّريق مُقبِّلاً ... بفَمِ الجُفونِ مَواطئَ اسْتِطْراقِهِ وصفَحْتُ عن زَلاَّتِ دَهْري كُلِّها ... وعَنادِه فيما مضَى وشِقاقِهِ وقول) بفم الجفون (إلخ، كقوله أيضاً في أرجوزتهِ المشهورة: تكادُ من عُذوبةِ الألفاظِ ... تشْربُها مسامِعُ الحُفَّاظِ وهذا نوعٌ من البديع غريب، بيناه في) حديقة السحر (. وله نظائرُ كثيرة، وهو على نَهجْ قوله تعالى:) وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ (كما أشار إليه في) الكشاف (. وقد أوضحه الغَزِّي بقوله في بعض قصائده: إن لم أمُتْ بالسَّيفِ قال العُذَّلُ ... ما قيمةُ السَّيفِ الذي لا يَقْتُلُ وتُغيُّيرُ المُعتادِ يحسنُ بعضُه ... للوَردْ خَدُّ بالأنوفِ يُقَبَّلُ ومنه ما أنشدَه لنا صديقنا الطالُوِيّ لنفسِه: أَرُودُ بلَحِظي وَرْدَ خَدَّيْه والذي ... جنَى وَرْدَ الخُدودِ فما أخْطَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وأرشِفُ بالألْحاظِ خَمْرَةَ رِيقهِ ... لأنِّي امرُؤ آلَيْتُ لا ذُقتُ إسْفَنِطَا وهذه الخمرة لا يليق بها غير نقل البُحْتُرِيّ في قوله: تُفَّاحُ خَدٍّ إذا احْمرَّتْ محاسِنُه ... مُقَبِّلٌ اللَّحْظِ مَعْضوضُ وقوله) معْضوض (بدل من قوله) مقبل (، وهو غيرُه وليس بدل غلَط. وأنظره؛ فإنه من سِحر البلاغة. ومما نحن فيه قول ابن الرُّومِيّ: بَدرٌ كأن البدرَ مقْ ... رونٌ عليه كَواكبُ عَذُبتْ خَلائِقهُ فكا ... د من العُذوبةِ يُشْرَبُ ولابن هِنْد في عُود البَخور: رأيتُ العُودَ مُشتَقَّا ... من العُودِ بإيقانِ فهذا طِيبُ آنافٍ ... وهذا طِيبُ آذانِ ولابن المُعْتَزّ في فرس: يكاد لولا اسْمُ الإله يصحَبُه ... تأكلُه عوننا وتشرَبُه وللشَّريف الرَضِيّ: فأتَني أن أرَى الدِّيارَ بَطرْفيِ ... فلعَلِّي أرى الدِّيارَ بسَمْعيِ ومنه أخذ القاضي الفاضِل قولَه: مَثْلَتْهُ الذِّكْرَى لِسَمعي كأنِّي ... أتمشَّى هناك بالأحْداقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وأجاد أيضاً، حيث قال: الجودُ أمْدَح ممَّن قام يمدَحُهُ ... فالنَّاسُ ما نَطَقُو إلاَّ مِن النَّظَرِ وقوله ابن خَفاجة المغْربيّ الأندَلُسِيّ، وهو مَن رَماهُ الْحَدَق: وأهْيَفٍ قام يسْعَى ... والسُّكرُ يعطِفُ قَدَّه وقد ترنَّح غُصنْاً ... واحْمرَّتِ الكأسُ وَرْدَهْ وألهبَ السُّكرُ خَدِّا ... أوْرَى به الوَجْدُ زَنْدَهْ فكاد يشرَبُ نفْسِي ... وكِدتُ أشربُ خَدَّهْ ولناصح الدين الأرَّجَانِيّ: ورشَفْنا مُدامَ نظمٍ ونثره ... مِن كئوسٍ تُذاقُ بالآذانِ وقلتُ أنا: نَرجِسُ الروض قد زَها لِعُيونِ ... لا أرَى المشْيَ فيه للطُّرَّاقِ قلتُ لمَّا أتيْتُه لخليلي ... امْشِ يا صاحٍ فيه بالأحْداقِ والشيءُ بالشيءِ يذكر، هذا في معنى قولي قديماً مُضمِّناً: يا صاحِ إن وافَيْتَ روضةَ نَرْجسٍ ... إيَّاك فيها المشْيَ فْهو مُحَّرَّمُ حاكَت عُيونَ مُعذِّبِي بذُبولِها ... ولأجْل عينِ ألفُ عينٍ تُكرَمُ ولصاحب الترجمة من قصيدةٍ، مدح بها العلامة عَلِياَّ الحنَّائيّ، وعاتَبه على قطعِ مرتَّب له: أن قطعَ السَّيِّدُ عن عبْدِه ... ما كان قد رَتَّب من رِفْدِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فالعبدُ لم يقطَعْ دُعاءَ له ... رتَّبه كالجُزءِ من وِرْدِهِ ولا ثناءَ حسَناً نَشْرُه ... كالمِسْكِ والعنْبرِ في نَدِّهِ أو كرياضٍ رَاضَها وَابِلٌ ... فابْتسمَ اليانِعُ من وَرْدِهِ وانتظَمتْ من نَشْرُ أزهَارِها ... جواهرُ الأنْداءِ في عِقْدِهِ وهْوَ غنيٌّ عن ثَناءِ إمْرئٍ ... ظلَّ كَلِيلَ الذِّهنِ من فَقْدِهِ إذ مهَّد الحقُّ له رُتْبةً ... عظيمةً مُذْ كان في مَهْدِهِ ونال ما شاءَ من المجدِ لا ... بسَعْيِ إنْسانٍ ولا كَدِّهِ فهْو عَلِيٌّ لا بمَدْح الوَرَى ... له ولكن بسَناَ سَعْدِهِ وإنما أَوْجبَ مدْحِي له ... تتابُعُ النَّعماءِ من عِنْدِهِ وما حَباهُ الحقُّ سبحانَه ... من العُلا الزائدِ عن حَدِّهِ والعلمُ والتَّحقيقُ والفهمُ والت ... وفيقُ والتَّدقيقُ من قصْدِهِ والشُّكرُ للمنعِم فرضٌ به ... يأمَنُ ذُو الإيمانِ من طَرْدِهِ وفيه لا شكَّ مَزِيدٌ لمن ... لازَمَه والكلُّ من عنْدِهِ هذا وإن العبدَ يْبغِي الرِّضا ... في قُرْبِه الأقْرَبِ أو بُعْدِهِ ومالَه في غيرِه رَغْبَةٌ ... والعبدُ مَحْمُولٌ على قَصدِهِ وليس ذَا حُزْنِ لما فاتَ مِن ... دُنْياهُ مُذ سِيق إلى رُشْدِهِ سِيَّانِ فَقْرٌ وِغِنًي عندَه ... لما هُو المعهودُ من زُهْدِهِ وما تصَدَّى لصَدَى آلةٍ ... قبيحةٍ تُقْضِي إلى صَدَّهِ سوِى لزُومِ البيْتِ مُستوحشاً ... من الورَى حتى ذَوِى وُدِّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 مُشتغِلاَ بالعلمِ مُستغرِقاً ... أوقاتَه فيه وفي سَرْدِهِ قد لزِمَ العُزْلةَ لكنه ... لصَحْبِه باقٍ على عهْدِهِ أقسمَ لا يبرَحُ من بيتِه ... حتى يُوارَى في ثَرى لَحْدِهِ إن مات لم يتْرُك له دِرْهما ... يحوزُه الوارِثُ من بعْدِهِ ولا أثاثاً لا ولا مَلبَساً ... يصلُح للبيْع سِوى بُرْدِهِ وفرْوةٍ جَرْداءَ من عِنْقها ... أضلاعُه تَرعَدُ من بَرْدِهِ وطَيْلسانٍ خَلَقٍ دمعُه ... من عِتْقِه يجْرِي على خَدِّه ولم يكن يترُك شيئاً إذا ... فارَقَه يَأْسَي على فَقْدِهِ غيرَ بقايَا كُتُبٍ رَثَّةٍ ... أكثُرها قد مات في جِلْدِهِ يُباعُ في تجْهيزِه بعضُها ... والبعضُ وَقْفٌ لا على وُلْدِهِ هذا لعَمْري عَرْضُ حالي على ... مَن أجمعَ النَّاسُ على حَمْدِهِ لا برِحتْ أعتابُه قِبلةً ... يَؤُمُّها العارفونَ من وَفْدِهِ ما هَطَلتْ أُنْمُلَةٌ بالنَّدى ... من رَاحةٍ كالبحرِ في مَدِّهِ تكملة في قوله) مستغرقا (إلخ فوائده منها: أن الاسْتِغراق أصل معناه طلبُ الغرَق، ثم استعمله الناس في أخْذِ الشيء وتحْصيله، ومنه قولُ العامة) استغرق في الضَّحك (إذا أطالَه، وهو غلَط، وصوابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 في الضَّحك) استغرَب (، لا) اغتراب (أيضاً كقول البُحْتُرِيّ وضحكْنَ فاغْترَب الأقاحي من نَدًى ... غَضّ وسَلْسالِ الرُّضابِ بَرُودِ قال الآمِديّ في كتاب) الموازنة (قوله) اغترب (يريد الضَّحك، والمستعمل) استغرب (في الضحك، إذا اشتدَّ فيه، و) أغرب (أيضا أخْذاً من غُروب الأسْنان، وهي أطرافُها، وغَرْب كلِّ شيء: حَدُّه، إذ المعنى امتلأ ضحِكاً. انتهى. والسَّرد أصله نَسْج الدِّرع، وتتابُع الكلام وتَعْداد الأشياء، والعامة استعارَتْه لتتابُع نُعاس الجالس، وليس بعربيّ، وهو الذي أراد هنا، وهو كقوله: لداودَ من بَرْشٍ كساءُ سَفاهةٍ ... مُطرَّزةٌ من صُفْرةِ الوجْهِ والخدِّ وما زال دِرعَ الكَيْدِ للصَّحْبِ ناسِجاً ... ولو ناعِساً أمْسَى يُقدَر في السَّرْدِ وقوله:) مات في جلده (استعمال معروف عامِّيّ، وجهُ اسْتعمالِه ركيك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 والبليغ قولُ العرب للمفْلوج:) سُجِن في جِلْدِهِ (، وحسَّن هذا وصفُ الكتابِ به، كما قال ابن نُباتَة المِصْرِيّ: للهِ مجموعٌ له رَوْنَقٌ ... كرَوْنقِ الحَبَّاتِ في عِقْدِهَا كلُّ تصانيفِ الورَى عندَهُ ... تموتُ للخَجْلةِ في جِلْدِهاَ عوداً على بدءِ. ومن شعره أيضاً: مرحباً بالحِمام ساعةَ يطْرَا ... ولو ابْتَزَّ منِّيَ العُمْرَ شِطْرَا حبِّذا الارْتحالُ عن دارٍ سُوءِ ... نحن فيها في قَبْضةِ لأسْرِ أسْرَى وإذا ما ارْتحلْتُ يا صاحِ عنها ... لا سقَى الله بعْدِيَ الأرضَ قطْرَا وهذا كقول الأمير أبي فِراس الحَمْدَانِيّ، من قصيدة له: أراكَ عَصِيَّ الدَّمْع شِيمتُك الصَّبْرُ ... أما للهوى نَهْيٌ عليكَ ولا أمْرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الشاهد منها: تعُلَّلنِي بالوَعْدِ والموتُ دَونهَ ... إذا مِتُّ عَطْشاناً فلا نزلَ القَطْرُ ونحوه قولي في مطلع قصيدة: إن لم تُبِّرد لي الصِّبا غُلَّهُ ... فلا شَفَى اللهُ لها عِلَّهْ وله أيضاً: ويُمكِن وصلُ الحَبْلِ من بعد قَطْعِه ... ولكنه يبقَى به أثَرُ الرَّبْطِ وأحسنُ منه قولي في بعض الرَّسائل:) أنت وإن وصَلتَ بعد التقطْع حبلَ المودَّة، ففيما بَقِيَ من أثرِ ذلك في القلبِ عُقْده (. وقلتُ من قصيدة: يا واصِلينَ حِبالاً ... كانتْ تَشدّ المودَّةْ لا تقْطَعوها ببُعْدٍ ... قد غيَّرَ النَّأْيُ عَهْدَهْ فإن تقولوا وَصَلْنا ... من بعدِ ذا القطْع شَدَّهْ يبْقَى وحَقِّك فيها ... مِن ذلك القطْعِ عُقْدَهْ وهذه الاستعارة معروفة قديماً، وفي حديث العقَبة أن الأنصار قالوا:) إن بيْنَنا وبين القوم حِبالا، أتُراهم قاطِعيها (وقد حقَّقه في) الروض الأُنُف (. وكتب للقاضي مَعروف، وقد أهدى له حُلَّة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 مخدومنُاً قاضي قُضاةِ مدينتِي ... صَفَدٍ أحقٌّ الناسِ بالتَّفْضيلِ العالمُ الحَبْرُ الذي معروفُهُ ... تُزْرِي ببحْرِ النَّيلِ أهْدي لنحوِي من مَخيط ثيابِه ... جُمَلاً فأغْنانيِ عن التَّفصيلِ والتفَّصيل في لسان العامة بمعنى قطْع الثِّياب الجديدة، ففيه تَوْرِية، كقول ابن نُبَاتَة المِصْرِيّ: كم جُملةٍ وَصَلتْ لي من نَداك وكَمْ ... تَفْصِيلةٍ ألْبسَتْني أجْمَلَ الحُلَلِ حتى لقد غدَتِ المُدَّاحُ حائِرةً ... بين التَّفاصيلِ من نُعْماكَ والجُمَلِ وقوله أيضاً: قد نكسَ الرَّأْس أهلُ الكِيِمياَ خجَلاً ... وقطَّروا أدْمُعاً من بعد ما سَهِرُوا إن طالعُوا كُتُباً للدَّرسِ بينهمُ ... صاروا ملوكاً هم جَرَّبُّوا اْفتقرُوا تعلَّقوا بحبال الشَّمس من طَمَع ... وكم فَتًى منهمُ قد غرَّه القَمَرُ وقوله في أحْدَب:) كان أُتْرُجَّةَ الظُّرفاء، وكُرَةَ اللَّهو بمَيْدان النُّدماء اللُّطَفاء (وكان أبو الفتْح يكرهه، ولم يعمل فيه بقول البَاخَرْزِيّ: وصانعِ الدهرَ فكم دولةٍ ... صاغَتْ من السَّلْحةِ أتْرُجَّهْ فقال فيه: إذا غفرَ اللهَ ذَنْبَ امرئٍ ... فلا غُفِرتْ زَلَّةُ الأحْدَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 شديدُ النِّكايةِ مَعْ ضَعْفِهِ ... قِياساً على إبْرةِ العَقْربِ ومن ظُرفاء الحُدْبان القاضي الفاضل، وفيه يقول القائل: لِلَّهِ بل للحُسْن أُتْرُجَّةٌ ... تُذكِّر الناسَ بعهْدِ النَّعيمِ كأنها قد جَّمعتْ نفسَها ... من هَيْبِة الفاضلِ عبد الرَّحيمِ وعلى نمطِه، وإن لم يكن من بابه قولُ ابن جلنِك لما امتدح القاضي الزَّمَلْكَانَّيَ فأجازه بخُبْزٍ، فكتب على حائطِ بُستانهِ: لِلَّه بُستانٌ حلَلْنا دَوْحَهُ ... في روضةٍ قد فَتَّحَتْ أبوابَهَا والبانُ تحسَبُه سَنانيراً رأتْ ... قاضِي القُضاةِ فنفَشَّتْ أذْنابَها وهذا نمط عجيب، وقد بلَغنا أن بدرَ الدين بن مالك صنَّف) كراسة (في لطائِف هذه المقطوعة، ووُجوه بلاغتِها، ولم أرَها، وهو جَدِير بذلك. ووَجهُ حُسْنِها أنه قصَد به تَشْبيَه زَهْر البان، وأدمَج فيه هَجْو القاضي؛ لأن السَّنانير إنما تنفُش أذْنابها إذا فَزِعت من الكلاب، فكأنه قال: إنها ظَنَّتْه كلباً، ونحوه ما مرَّ في القاضي الفاضل، والإيماء لحُدْبتِه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وهذا النَّوع يُشبِه المدحَ بما يُشبِه الذَّمّ، وعكسَه، ففي صريحِه تشْبيه لطيفٌ، كنَى به عن هَجْوٍ قبيحٍ، وليست بلاغتُه من جَعْل التَّشبيه كنايةً عن معنى آخر؛ فإنه صرِيح، كما حقَّقه السَّيِّد في فن البيان، بل لأمور قصدَها، وليس هذا محلُّ تفصيلها، فإن أردْتَها فانظر كتابَنا) حديقة السحر (. وله أيضاً يُذكِّر مَن وعَده بتَاسُومة، وهي نعل معروف كالمَدَاس: رُبَّ تاَسُومةٍ بها قدْ وُعِدْنا ... فإذا قُربُها من النَّجمِ أبْعَدْ رَبِّ يَسِّرْ حصولَها لمحِبٍّ ... عَلَّهُ للِكمال يَرقَى ويصْعَدْ عملاً في الورَى بقوْلِ حكيمٍ ... ضَع مكانَ السَّعيِدِ رِجْلَك تَسْعَدْ وهذا مثل مشهور، بمعنى قول عليٍّ رضي الله تعالى عنه:) صاحِبْ مَن أقبلَ جَدُّه تَسْعدْ (. وقد قلتُ في مثالِ نعْلِه صلى الله عليه وسلّم: لمِثالِ النَّعْلِ الشَريفِ لِطه ... شَرفٌ قدرُه من النَّجم أبْعَدْ وسمِعنا الأمثالَ قالتْ قديماً ... ضَع مكانَ السَّعيِد رجْلَك تَسْعَدْ وسعيدٌ مِن كان من قَبْل هذا ... أو عليهِْ قد مرَّغ الوَجْهَ والَخْدّ وما أحق هذا أن يُنشَد له قولُ أبي العَتَاهِيَة: نَعْلٌ بعَثْتُ بها لتَلْبَسَها ... قدَمٌ بها تَسْعَى إلى المجْدِ لو كان يصلُح أن أُشَرِّكَها ... خَدِّي جعلتُ شِراكَها خَدِّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ولابن هَانِئ الأنْدَلُسِيّ في قَبْقاب وهو نعل يُصنَع من الخشب، وهو مُحْدَث بعد العصر الأول، ولفظهُ مولَّد أيضاً، لم يُسْمَع من العرب ما قاله الأزهَرِيّ: كنتُ غُصْناً بين الرياض رطِيباً ... مائسَ العِطْفِ من غِناءِ الحَمامِ صِرْتُ أحْكي عِداكَ في الذُّلِّ إذ صِرْ ... تُ بَرغْمِي أُداسُ بالأقْدامِ وله يذكُر معاهِد نِيطَتْ بها تمائِمهُ، وغَرَّدت على أغصانِ شبابه حمَائمُهُ، يندُب إخوانَه، وينْعَى أوْطارَه وأوْطانه: سَلُوا البَارِقَ النَّجْدِيّ عن سُحْبِ أجْفانيِ ... وعمَّا بقلْبي من لَواعِج نِيِراني ولا تسألُوا غيَر الصَّبا عن صّبابتي ... وِشِدَّةِ إليكمْ وأشْجانِي فما لي سِواهاَ مِن رسولٍ إليكمْ ... سريعِ السُّرَي في سَيْرِه ليس بالوَانيِ فيَا طالَ بالأسْحارِ ما قد تكلَّفَتْ ... بإنْعاشِ محزونٍ وإيقاظِ وَسْنانِ وتنْفيسِ كَرْبٍ عن كَئِيبٍ مُتَيَّمٍ ... يحِنُّ إلى أهلٍ ويصْبُو لأوْطانِ وتنْفيسِ كَرْبِ شَذَا نَسْمةِ الصَّبا ... صباحاً إذا مرت على الرَّنْدِ والْبَانِ فكم نحوكُمْ حمَّلْتُها من رسالةٍ ... مُدوَّنٍة في شرحِ حالي ووِجْدانيِ وناشَدْتُها باللهِ إلا تفضَّلتْ ... لتبْليغِ أحْبابي السَّلامَ وجِيرانِي وقد نَحَا نَحْو قول ابن مَلِيك الْحَمَويّ في قصيدةٍ له: سَلُو فاترَ الأجفانِ عن كبدِي الحَرَّي ... وعن دُرِّ أجْفاني سَلوا العِقْد والنَّحْرَا مَليحٌ إذا ما رُمْتُ عنه تصبُّراً ... يقول الهوى لن تسْتطِيعَ مَعَي صَبْرَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وهذا الشاعر، وإن لم يكن من أهل العصر، فإنه قريب العهد، فينْبغي ذكرُه هنا، فنقول هو: علاء الدِّين بن مَلِيك الْحَمويّ هذا شاعر حَماة، ومن كَلأَ سَرْحَ الأدب بها وحَماه. رآه أبو الفتح المالِكي، وقد رَقي شرفَ عِلْمِه وسَمَا، وهو بحانوتٍ له يبيعُ الأقْسما، وأقلامُه قُضُب على جَداوِل الطُّروس ميَّالة، أسبلَ على وجْهِ دَوْحِها الزَّاهِي ظِلالَه، بل لواءٌ على مَلِك الكلام، أو عمودٌ نُصِب عليه من السِّحر خِيام، وهو يخْلِب الأسْماعَ بسِحْره، ويُريق حلوَ مائِه على صِناعة شَعْرِه. ثم رفعَتْه حِرفةُ الأدب عن حَضِيض دُكَّانِه، إلى أن صار ملك الأدب بديوانِه، فنادى لسانُ قَرِيضِه النَّظيم: ما هذا مَلِيك بل مَلَك كريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وقد وقفتُ على) ديوانه (فجَنَيْتُ من ثَمراتِ حُسْنِه وإحْسانه، قولَه من قصيدةٍ له: ذُكِر الغَضَا فَحَنَتْ عليه أضْلُعِي ... وبكَى العَقِيقُ فساقَطتْه أدْمُعِي لِلَّه دَرُّ دُموعِ عيْني إنها ... وقعَتْ مِن الأجْفانِ أحْسنَ مَوْقِعِ مَن لي بقَلْبي يومِ كَاضِمةٍ وقد ... ودَّعْتُهم لو خَلَّفوا قلبي مَعي رحَلوا فكان القلبُ أوَّلَ راحلٍ ... والصَّبرُ آخِرَ ظاعنٍ ومُودِّعِ وقوله من أخرى: طِرازُ ذاك العِذارِ من رَقَمَهْ ... ودُرُّ دَمْعِي بفِيهِ من نَظَمَهْ وخالُه فوق كَنْزِ مَبْسَمِهِ ... بالمِسْكِ قُفْلاً عليه من خَتَمَهْ مَن لي به ظالَم الجفُونِ سَطَا ... ظُلْماً على صَبِّهِ وما رَحِمَهْ وقوله من أخرى: يا بريقاً بالحِمَى قد لَمَعَا ... حَيِّ عنِّي البانَ والأَثْلَ معَا فبذاك الحَيِّ لي غُصْنُ نَقاً ... طائرُ القلبِ عليه وَقَعَا يا لَه من غُصنِ بَانٍ يانِعٍ ... صادِحُ الحَلْيِ عليه سَجَعَا وقوله من أخرى: أحْيَا الرَّبيعُ الأرضَ بعد مماتِهَا ... وحَلاَ بسَكْبِ القطرِ عُودُ نباتِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 والزَّهرُ قد ألقَى النَّثار كأنَّما ... أدَّتْ كنوزُ الأَرضِ بعضَ زَكاتِهَا وحكَتْ جداوِلُها خَلا خِيلاً وقد ... أضْحى خَرِيرُ الماء من رَنَّاتِهَا وقوله من أخرى: سُقْياً لأرضٍ بعد كَوْثَرِ مائِها ... ما اشْتاقَ قلبي للموارِد مَنْهَلا لولا بقايَاهُ وحَقِّك في فمِي ... ما قلتْ شِعراً في المسامِع قد حَلاَ وهذا من قول بلدِّية ابن حِجَّة من قصيدة: ولولا بقاياَ طَعْمِهم في مذَاقَتِي ... لما ظَهَرتْ هذِي الحَلاوةُ في شِعْرِي ومن نُتَف له: مدَحتُكُم طمَعاً فيما أُؤَملُه ... فلم أنَلْ غيرَ حْمل الإثْمِ والنَّصَبِ إن لم تكنْ صِلَةٌ منكُمْ لذِي أدَبٍ ... فأجْرَةُ الخطِّ أو كَفَّارةُ الكَذِبِ وقوله أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 يكادُ لرِقَّةِ أعْطافه ... من الِّينِ يُعْقَد لْولاَ الكَفَلْ فإن قيل بدرٌ فقُلْ عبْدُه ... وإن قيل شمسُ الضَّحَى قل أجَلْ ونحوه قول ابن حَجَر: حبيبيَ لا تحتَفِلْ بالعَذَلْ ... وصِلْ مُغرماً للضَّناَ قد وَصلْ وحَقَّك إن العَذلَ الأقَلّ ... وأنْتَ الحياةُ وأنتَ الأجَلْ ومن قصيدة له: وفوقَ ظُهورِ الخْيلِ ماتُوا فأصْبَحوا ... وفي كلِّ سَرْجٍ فوقَها لهُمُ قَبْرُ وقد تواردَ في هذا المعنى مع ابن حِجَّة، في قوله من قصيدةٍ، وكنت لما طالعتُ في) ديوانه (لم أرَ له معنى ابتكَره غيره، وهو: ماتُوا على تِلك السُّروجِ مخافةً ... فكأنَّ هاتِيِكَ السُّروجَ مَقابِرُ وهو تشبيهٌ لطيف؛ لأن هيئةَ دَفَّتَيِ السَّرج، كهيئةِ جانِبَيِ القبر المصنوع من الحِجارة في هذا الزمان. وقد سبَق إليه ابن نُبَاتَة، في مَرثِيَّة له: وما الناسُ إلا راحلٌ بعد راحلٍ ... إذا ما انْقَضَى عصرٌ مضى بعدهَ عَصْرُ تَبدَّت لدَى البَيْدا مطاياَ قُبورِهمْ ... ليعلم أَهلُ العقلِ أنَّهمُ سَفْرُ ثم رأيتهُ في أشعار المتقدِّمين، لكن هذَّبه، فإن أبا نُواس قال في قصيدته، التي أولها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 أجارةَ بيْتَيْنا أبوكِ غَيورُ ... وميْسورُ ما يُرْجى لدَيْكِ عَسِيرُ ومنها: إليك أتَتْ بالقوْم هُوجٌ كأنَّمَا ... جَماجِمُها تحت الرِّحالِ قُبورُ قال الصُّولِيّ: أي إبلٌ كأن بها هُوجاً لنشاطٍ في سيْرِها، وهذا التَّشبيه بالقبر حسَن، لكنه أخذَه من قول الوليد: كأنَّ هاماتِها قبْرٌ على شَرَفٍ ... يْمدُّ للسَّيْرِ أوْصالاً وأصْلابَا انتهى. وها هنا أمرٌ نفيس، ينبغي الإصغاء له، لأن الجماجِم الرؤُس، ولو شَبَّه أسْنِمتَها أو الرِّحال التي عليها بالقبور، لكَان مِن المعاني التي لا نَظِير لها. فاسْتِحْسان الصُّوِلِي ليس بحسن، وكان المتأخِّرين إذ كانوا رأَوْه تنبَّهوا لهذا، وهذا من حُسْن الظَّن بالسَّلف، وإلا فللْمقال مجَال. فإذا فطِنْتَ لما قُلناه، وفهِمتَه علمتَ أن هذا كلَّه لا يصل في الحُسن إلى درجةٍ من درجات قوِلي، من قصيدةٍ لي: إذا جئتُ داراً قبل لُقيايَ أهلِها ... أُلاقِي قُبوراً للكرامِ أولي المجدِ عليهْا لقد حطُّوا رِحلاً بمنْزلٍ ... وكم هَوْدجٍ من بينهما مُر تَخِي الشَّدِّ لينْتَظِروا مَن خَلفَّوه بدُورِهم ... ليلْحقَهم قبلَ القِيامِ بلا جَهْدِ يقولون جِدُّوا في الرَّحيلِ فإن مَن ... تَبَقَّى أُناسٌ أُرضِعُوا اللُّؤمَ في المْهَدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وقولي:) قبل لقياي (إلخ، إشارة إلى أن قبور كلِّ بلدة خارجُها، فكل قادم لا بد أن يُلاقيها أولاً. والى هذا المعنى أشار القاضي الفاضلُ في قوله: المُدْنُ إن رجَع المُسا ... فرِ أو إذا خرجَ المُسافِرْ ما استَقْبَلَتْه ووَدَّعته ... هْهُ بغيرِ هاتِيكَ المقابِرْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 القاضي مُحِبُّ الدين بن تَقّيِ الدين الْحَموِيّ نزيل الشام، وشَامةُ مَن بها من الوجوه والأعلام، ذو كمالٍ وأدب، ومجدٍ تَناولَه عن كَثَب، فكان غَرَّة مَن نظَم ونثَر، وكتَب وشعَر، إذا حلَّ بنَادٍ تهلَّل صَدرُه وانْشَرح، وتزيَّنَتْ بدُرَرِ كلماتِه عُقودُ المُلَح، وترنَّمتْ أطيارُها، وتفتَّحت بنسيم خُلُقِه أنْوارُها، بمُحاورات له تحْمَرُّ خدودُ الكاساتِ منها خَجَلاَ، وتفْتح أزهارُ الخمائلِ لها آذاناً ومُقَلاً. إلا أنَّه وافَي رياضَها عشِيَّة، فحيَّتْه من أنفاسِها بألطفِ تحيَّة، فحَمدها وشكَر، بما طار بين سَمْعِ الأرض والبَصَر. ومن شعره قولُه في الشام: أتَيْنَا فسلَّمْنا عليها عَشِيَّةً ... فغنَّى لنا فيها الحَمامُ وحَيَّانَا وأبْدَى ثَغْرُ الأقاحِي تبسُّماً ... وأحْسنَ مَلْقانَا وأكرَم مثْوانَا وما هِيِ إلا جَنَّةٌ قد تزَخْرفَتْ ... ألم تَرَ فيها العينَ حُوراً ووِلْدانَا ومن تحتِها الأنْهارُ تجرِي وكلُّها ... عيونٌ إلى الرَّوضاتِ تُرسِلُ غُدْرانَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ومن فضل له:) يقبِّل الأرضَ بعد دُعاءٍ تُرَصَّع في تِيجانِ الإجابة دُرَرُه، وتَضَرُّعٍ تَقِف في ديوان الإخلاص فِقَرُه (. ومما وقفتُ عليه من آثارِه) شرح شواهد التفسير (وهو كتاب حسَن، لكنه لم يُشْبِع فيه الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 شهاب الدين الكَنْعَانِيُّ الشَّامِيّ شاعرٌ عَصْرِيّ، لم أقِف له على ما أنشدَه شيخُنا العِنَايَاتِيّ، من قوله: يحسَبُ كلَّ النَّاسِ أمْثالهَ ... مَن باتَ في مَهْدٍ نَعيِمٍ وَطِي أما تَرى الشَّبعانَ يا سيِّدِي ... يَفُتُّ للجيعانَ فَتَّا بَطِى وهذا مثَل عامِّيّ، من أمثال العوام، تضْرِبه للمُتَرفِّة الذي لا يعرِف حال مَن كل في بُؤْس وشِدة، فيَظنُّه مثلَه. ولفظ) الجيعان (أنكره أهل اللغة وقالوا: المسموع فيه جائِع وجَوْعان؛ لكن الأمثال لا تُغَيَّر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 معروف الشَّامِيّ هو ممَّن اتسم بالأدب في الحديث والقديم، وسَرَى ذكرهُ كما سرى من الرياض النَّسيم، فسَمَتْ مقاصِدُه، وعَذُبتْ مصادِرُه وموارِدُه فليس للرَّبيع نَضارةُ تلك الشِّيَم، ولا للغْيثِ شِيَمُ ذلك الكرَم، فرَوْضَةُ مآثرِه يانعة الزَّهْر، ونُسخةُ محاسنِه مُخلَّدةُ في صحائفِ الدَّهْر. لا زال جَدَثُه روضةً من رياض الجِنان، ومَنزِلاً تحُلُّ فيه قوافلُ الغُفْران، ما بكَى المطَرُ لِفراق الغَمام، فضحِك النَّوْرُ على بُكائِه في الأكْمام. فمما أنشدتُ له قوله: يا مُفرَداً أضْحَتْ ظواهرُ شأْنِهِ ... ما فوقَها في الحُسْنِ غيْر المَخْبَرِ يا سالباً فلبي الشَّجِيْ وما اشْتَكى ... منه الجفاءَ إلى السَّميع المُبصِرِ مِنِّي إليكَ مع النسَّيمِ تحيَّةً ... فتَقتْ نوافِجُها بمِسْكٍ أَذفَرِ مِن مَنْطقٍ يزهُو بحسنِ بَرَاعةٍ ... تُزْرِي حلاوتهُ بطَعْم السُّكَّرِ فكأنَّها وكأنَّه وكأنَّها ... من جَوْهرٍ في جَوْهرِ جَوْهرٍ يُبدِي التَّداخلَ في الجواهرِ عَنْوةً ... لبَصيرةِ المِقْدامِ لا المُتَحَيِّرِ فكأنَّما قِرْطاسُها أسرارناُ ... والبَيْنُ بينهما سَوادُ الأسْطُرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 أرجُو على قُرْبِ المَزَارِ يُقرَّب الْ ... بارِي تعالى مَوْرِدي من مَصْدَرِي في ذلك الشَّرفِ المُعَلّى المُنّتهى ... طَربُ المشُوقِ وجَنّة المُتّذَكِّرَ ) ونقلِ لي عنه فصلٌ في كَحَّال، صورته (فلان انْتَهى إلى فوق ما يُضرَب به المثَل، إن قيل يَسْرِق الكُحْلَ من العَيْن، فهذا يسرِق العيْنَ من الكُحْل، فقد أوْدَع كُحلَه حُزْنَ يعقوب، فمن كُحِل منه ابْيَضَتَّ عيْناه، وجحَد مُعجزةَ القميص اليُوسُفِيّ، فلو مَرُّوا به على ناظرِ تقرَّح جَفْناه، وهو من الذين إذا رَفَعوا أمْيالَهم فإنما هي لعَيْن الشمسِ، ولشَمْس العين مِزْوَلة، وإذا أوْلَج أحدُهم المِيلَ في المُكْحُلَة، فهو أولى بالرَّجم ممَّن أوْلَج المِيل في المُكْحُلة انتهى. وأنا أظنُّ أن هذا من كلام القاضي الفاضل. ومن هذا قولُ مِهْيار، في طبيب كَحَّال: أفْنَى وأعْمَى ذا الطبيبُ بطِبِّه ... وبكُحْلِه الأحْياءَ والبُصَراءَ فإذا نظَرتَ رأيتَ من عُمْيانِه ... أمماً على أمْواتِه قُرَّاءَ ومنه أخذ الزغاري قوله: أعْمَى الورَى بكِحالهِ ... والموتُ من وَصفاتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فكثيُر من عُمْيانِهِ ... يقرَا على أمْواتِهِ وإنما خصُّوا العُميان بالقراءة؛ لأنهم معروفون بكثرة الحِفظ، وقد قيل: إنه ما أخذَ اللهُ من عبدِه حاسَّة إلا نقَل قُوَّتَها لغيرِها. ولابن عُنَين: لو أنَّ طُلاَّبَ المطالبِ عندهُمْ ... عِلْمٌ بأنَّك للعُيونِ تُغَوِّرُ لأتَوْا إليكَ بكلِّ ما أمَّلْتَه ... منهُم وكان لك الجزاءُ الأوْفرُ ودعَوْك بالصَّبَّاغ لمَّا أن رأَوْا ... يغشَى لدَيْك ماءٌ أصْفَرُ وبِكفَّكَ المِيلُ الذي يَحْكِي عَصَا ... مُوسَى فكم عينٍ به تَتَفَجَّرُ ولمحمد بن الأكْفَانيّ: ولقد عجِبْتُ لِمَن أتَى بالكِيِميَا ... في كُحْلِه إذ جاءَ بالشَّنْعاءِ يُلْقِي على العينِ النُّحاسَ يُحيِلُها ... في لَمْحةٍ كالفِضَّةِ البَيْضاءِ وأحسن منه قولي: كُحْلُ كَحَّالِنا غدَا إكْسِيرَا ... منه قد عَلَّم الورَى الكِيميَاءَ فحَديدُ الأبصار يُلْقَى عليه ... عادَ في الحالِ فِضَّةْ بَيْضاءَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 نجم الدين بن معروف أديب إذا نظَم حرَّك الهوى، وقال الشِّعر:) وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (، فقد سلَك سبيلَ الرَّغائب، واهْتدَى بأعْلام المناقِب، فهو نَجْم بزَغ من سماءِ الكرَم، شمس اهتدت بأنواره سراة الأمم. تقلد سيف الإمارة، فلاحَتْ عليه من السَّعادةِ كلُّ أَمَارة، فلِّلهِ نجمُه الثَّاقب برِفْعتِه لدُرِّيِّ الكواكب. فمن أنوارِه السَّاطعة من مَشْرِقَ فِيهِ، ما كتَبه للقاضي أبي الفتْح يسْتَدعِيه: يا أيُّها المولَي الذي فُتِحَتْ له ... فَيْضاً إذ هُوَ ربُّ فضْلٍ مُطلَقِ وإذا أتاهُ الفاضلون بجُملة ... من فضْلِهم لا فاهُم في فَيْلقِ العبدُ يرغَبُ أن تُشَرِّفَ بيتَه ... ليصيَر أفضلَ بُقْعةٍ في جِلِّقِ لازلْتَ يا زَيْنَ الوجودِ مُمتَّعاً ... بعوارِفٍ منها المعارفُ تَسْتَقِى فأجابه: يا ماجداً نحوَ العُلا لم يُسْبَقِ ... ومُهذَّباً حازَ الكمالَ بجِلِّقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 لبَّيْكَ من مولّى بفضْلٍ داعياً ... لِمحبَّة بل عْبدِه المُتملَّقِ وافَتْ بدائعُ نظمِه تحْكِي عُقو ... دِ الدُّرِّ في سِلْكِ البيانِ المُونِقِ تدعو لحضْرتِه البديعُ صفاتُها ... ببلاغةٍ فاقَتْ بأفصح مَنْطِقِ سَعْياً على الأحْداقِ نحوَ كمالهِ ... وجمالهِ المُتَوّقدِ المتألّقِ نحوَ الفضائلِ والفَواضلِ والثَّنا ... نحوَ المكارمِ والنَّدى المُتدَفَّقِ لا زِلْتَ محَرُوسَ الجَنابِ مُمتِّعاً ... بلقائِك الفضلاءَ دُون تَقَرُّقِ ما لاحَ نَجْمٌ في الدُّجُنُّةِ ثاقِبٌ ... أو فاحَتِ الرَّوْضاتُ للْمُسْتَنْشِقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 محمد بن محمد الحكيم المعروف بابن المشْنُوق شاعر رأيتُه، وله شِعر لم يُثابِر على تهْذيبِه، فهو وَساوِس لفِكْرةِ تَهذِي به. وقد أنشد قصيدةً سماها لامِيَّة الروم، منها: حتى مَ أنظِمُ من دَمْعي ومن غَزَليِ ... أدِلَّةً وحبيبُ القلبِ مُعْتَزِليِ يرىَ خلودِيَ في نارِ الصُّدودِ فهَلْ ... فسَقْتُ حين جعَلْتُ العِشْقَ من عَمَليِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فتح الله بن بدر الدين محمود البيلونيّ الحلبيّ أديب فاضل، له طُرف ومُلَح وشِعر، سمَح طبعُه منه بما سنَح، وله مجلِس من مجالس القُصَّاص والنُّصَّاح، ينادِي به كلَّ طالبٍ حيَّ على الفلاح. رأيتُه وقد قدِم الروم بصحبه الوزير نَصُوح، وشمسُ فضلِه من أُفُق معاليه تَلُوح، فانقطع عن الاخْتِلاط، وربَّما حرك السُّكون رَدِيءَ الأخْلاط. وله شِعر وشُعور، هما من خيرِ الأمور، كقوله: يقولون ناَفِقْ أو فَوافِقْ مُرافقاً ... على مثلِ ذا العصْرِ كلُّ لقد دَرَجْ فقلتُ وأمرٌ ثالثٌ وهْوَ قولُ أو ... ففارِقْ وهذا الأمرُ أسلَمُ للحَرَجْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وقوله في بعض منازِل الحج، المسمى بأكْرَه، ويقال لها أكرى بالقصر أيضاً: تعفَّفْت عن زَادِ الرَّفيقِ ومائِهِ ... وسِرْتُ لبيْتِ اللهِ أُهْدِي له شُكْرَهْ ووَفَّرتُ ما عندي احتِرازاً وإنَّني ... لَصَوْنَيِ ماءَ الوجْهِ لم أرَ ما أكْرَهْ ومن أمثاله المُرْسلَة) رُبَّ داءِ أضرُّ منه الدُّواءُ (ومنه: إذا ابتُليتَ بُسُلطانٍ يرَى حسَناً ... عبادَةَ العِجْلِ قدِّمْ نحوَه العَلَفاَ وقوله: أنتَ كالمُنْخُل الذي صار يُلْقي الصَّ ... فْوَ للناَّسِ مُمْسِكأ للنُّخالَهْ وهذا مما وقع معناه في بعض الكتب الإلهية، كما نقله الإمام الرَّازِيّ. وقد كنتُ قلتُ فيه: الدَّهرُ كالغِرْبالِ في ... خَفْضٍ ورَفْعٍ لا مَحاَلَهْ إن حَطَّ لُبَّ لُبابِهِ ... رفَع الحُثالَةً والنُّخالَةْ والبَيْلُونِيّ، لقبُ جّدٍ له، وهو نسبة للبَيْلون، وهو طين أصفر، تسمِّيه أهلُ مِصْر طَفْلاً. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 القاضي ظهِير الدين الحَلبيّ أديبٌ وِرْدُه مَعِين، وإثْمدِ مِدادِه مما تَكْتَحِل بهِ عُيونُ اليقِين. صَحِبْتُه بالروم، فكان لي منه ظَهِير ومُعِين، فاقتطفُ سمْعي جَنَى أزْهارِه، لمَّا جَلاَ علىَّ نتائجَ أفكارِه، فرأيتُ كُبْراها وصُغْراها في الحدِّ الأوْسَط، ومنها ما هو عن رُتْبة الإنتاجِ مُنْحَطّ. فمن غَضِّ ثَمَراتِه، ويانِع زهراتِه، قولُه من قصيدةٍ نَبويِّة: نسيمُ الصَّبا من حاجِرٍ ونواحِيهِ ... سرَتْ فأزالَتْ صَبْرنا عن صَياصِيهِ ومِن بارقٍ شَامَ المُتَيَّمُ بارِقاً ... بدَا فتدَاعى شوقُه مِن أقاصِيِه ومِن ذِكْر أيامِ العُذَيْبِ تكدَّرَتْ ... مشاربُ صَبٍّ ضلَّ عنه مُناجِيهِ إذا قفَلَ الحُجَّاجُ زادَ وُلُوعُهُ ... وأرسل دَمْعاً قانِياً من أمَاقِيهِ وبي مَن غَدَا يخْتالُ عُجْباً بقدِّه ... وطَلْعِتِه سَكْرانَ مِن خَمْرةِ التِّيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وفيِ القُربِ أخْشاهُ وفي البُعْدِ قاتِلي ... فواحَرَباً من بعِدِ وتَدَانِيهِ يُفوِّق مِن جَفْنَيْهِ للقلبِ أسْهُماً ... بأوْهِنا بَرْمِي الكَمِيَّ فيُصْمِيه بذلتُ له رُوحِي فأعرضَ مُعجَباً ... وقال أمِلْكِي عادَ مِلْكَك تُهْدِيهَ وبالشِّعب من وَادِي النَّقا خيرُ جِيرَةٍ ... غدَت بُغَيِتِي واللهِ من غَيْرِ تَمْوِيهِ إذا ذُكِرُوا يرتاحُ قلبي كأنَّما ... أتَتْ نحوه تنقْادُ قَشْراً أمَانِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 بهاء الدين) محمد (بن الحسين العَامليّ الْحَارثيّ الشَّامِيّ أصلا ومَحْتِدا، الفَارِسيّ مَنشَأَ ومَولِداً. فاضل لَمَعَتْ من أُفْقِ الفضلِ بوارِقُه، وسقاه من مُورِده النَّمِير عَذْبُه ورائِقُه، لا يُدرِك بحرَ وَصْفِهِ الإغْراق، ولا تلْحَقُه حركاتُ الأفْكار ولو كان في مِضْمار الدَّهر لها السِّباق. زَيَّن بمآثِرِه العلومَ النَّقْليَّة والعقليّة، وملك بنَقْد ذهنِه جواهرَها السَّنِيَّة، لا سِيَّما الرياضيات، فإنه رَاضَها، وغرَس في حدائق الألْبابِ رِياضَهَا. وهو في مَيْدان الفصاحةِ فارسٌ أيّ فارِس، وإن كان غُصنُه أيْنَع وربا برَبْوة فارِس، فإن شجَرتَه نبتَتْ عروقُها بنواحِي الشَّام الزَّاهِية المغارِس، والعِرْقُ نزَّاع وإن أثَّر الجِوار في الطِّباع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ولما تدفَّق ماء كرمه خرج منها سائحاً، بعدما ألْقَى دَلوَه في الدِّلاء ماتحاً، لابساً خِلَع الوقار، قاطِعاً من رياض الكَوْن ثَمرات الاعْتبار، فجاب البلاد، وأتى إرَمَ مصر ذاتِ العماد، فنَمَّى متاعَ فضلٍ به اتّجَر، والمعالي في كَفَالات السَّفر، فاجْتَنى نَوْرًا انْفتحت كَمائمهُ، وَسَرى سُرًى قلبُ الوجود كاتمُه. وسُرَّ دَهْرٌ هو صَدْرٌ له ... بعالمٍ ذي نَجْدةٍ عامِل وفي أثناء ذلك نظَم عقود أشْعارٍ حِقَاقُها العُقُول، وجمع مِن أزْواد فضله مجموعة سماها) الكَشْكول (، طالعْتُها فرأيتُ فيها ما تنْشرح له الصُّدور، وتَحُلُّ عُقَدَ الإشْكال عن كل مَصْدُور. وكان رئيس العلماء عند عبَّاس شاه، سلطان العجم، لا يَصْدُر إلا عن رأيه إذا عقَد ألْوِية الهِمَم، إلا أنه لم يكن على مذْهبه في زَنْدقته وإلْحادِه لانْتِشار صِيتِه في سَدادِ دِينه ورَشادِه، إلا أنه عَلَوِيُّ بلا مَيْن، وهو عند العقلاء أهْوَنُ الشَّرَّيْن، فإنه أظهر غُلُوَّه في حبِّ آل البيْت، وجارَى في حَلْبة الوَلاءِ الكُمَيت، وأنشد لسانُ حالهِ لكلٍّ حيٍّ ومَيْت: إن كان رَفْضًا حُبُّ آل محمدٍ ... فلْيَشْهدِ الثَّقلان أنِّي رَافضِي وشِعرُه باللِّسانَيْن مُهذَّب مُحرَّر، وبالفارسيَّة أحسنُ وأكثر. ولما ساحَ في البُلدان، وأجتمع بمن فيها من الأعيان، عاد بدْرُ ذاتِه لفلَك أقطارِه، فعانق في أوْطانِه عقائلَ أوْطاره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وهو الآن قُرَّة عيْنِ مجدِها، وغُرَّةُ جَبِين سَعْدِها، تطوف بحَرَمِه وُفُود الأفاضل، وتتَوجَّه شِطْرَه وُجُوهُ الآمالِ من كلِّ فاضل، بنعيمٍ مُقيمٍ تتحدَّثُ عنه طُروس الأسْفار، وتَكْتَحِل بإثْمِد مِدادِه عُيون الطُّروس والأسْفار. فمن أنوارِ كلامِه، التي أطْلَعَتْها غُصون أقْلامِه، قولُه من قصيدة: يا ندِيمِي بمُهْجَتي أفْدِيكْ ... قُمْ وهاتِ الكئُوسَ مِن هاتيكْ هاتِها هاتِها مُشعْشَعةً ... أفْسَدتْ عقلَ ذَي التُّقَى النَّسِّيكْ خَمرةً إن ضَلِلْتَ ساحتَها ... فسنَا نُورِ كأْسِها يَهدْيكْ يا كليمَ الفؤادِ دَاوِ بهَا ... قلبَك المُبْتلَى لكْي تشْفِيكْ هي نارُ الكليمِ فاجْتَلها ... واخلعِ النَّعْلَ واترُكِ التَّشْكِيكْ صاح ناهِيكَ بالمُدامِ فدُمْ ... في احْتِساهَا مخالِفاً نَاهِيكْ عَمْرَك اللهَ قُل لنا كَرماً ... يا حَمامَ الأراكِ ما يُبْكِيكْ أتُرَى غاب عنك أهلُ مِنّي ... بعدَ ما قد توهَّنُوا نادِيكْ إن لي بين ربْعهِمْ رَشَأَ ... طَرْفُه إن تَمُتْ أسًى يُحييكْ ذُو قَوامٍ كأنه غُصُنٌ ... ماسَ لمَّا بدَا به التَّحْرِيكْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 لستْ أنْساهُ إذْ أتى سَحَراً ... وحْدَهُ وحْدَه بغير شَريكْ طرقَ البابَ خائفاً وَجِلا ... قلتُ مَن قال كلُّ ما يُرضِيكْ قلتُ صْرِّحْ فقال تجهلُ مَن ... سيْفُ ألحاظِه تَحكَّم فِيكْ قمتُ من فَرْحتِي فتحتُ له ... واعتَنقْنا فقال لي يَهْنيكْ بات يَسْقِي وبِتُّ أشْربُها ... خَمرةً تترُك المُقِلَّ مَلِيكْ ثم جاذبْتُه الرِّداءَ وقد ... خامرَ الخمرُ طرفهَ الفَتِّيكْ قال ليِ ما تُريد قلتُ له ... يا مُنَى القلبِ قُبْلَةً من فِيكْ قمتُ من فَرْحتِي فتحتُ له ... واعتَنقْنا فقال لي يَهْنِيكْ بات يَسْقِي وبِتُّ أشْربُها ... خَمرةً تترُك المُقِلَّ مَلِيكْ ثم جاذبْتُه الرِّداءَ وقد ... خامرَ الخمرُ طرفَه الفَتِّيكْ قال ليِ ما تُريد قلتُ له ... يا مُنى القلبِ قُبْلَةً من فِيكْ قال خُذها فُمذْ ظِرتُ بها ... قلتُ زِدْني فقال لاَ وأَبِيكْ ثم وَسَّدْتُه اليمينَ إلى ... أن دنَا الصُّبحُ قال لِي يَكْفِيكْ قلتُ مهْلاً فقال قُمْ فلَقَد ... فاحَ نَشْرُ الصَّبا وصاحَ الدِّيكْ وله من أخرى، مدح بها الأستاذ البَكْرِيّ، وقد اجتمع به، وهو مما يدلٌّ على سلامةِ عقيدتِه، قولُه: يا مِصرُ سُقْياً لكِ من جنَّةٍ ... قطوفُها يانِعَةٌ دانِيهْ ترابُها كالتِّبْرِ في لُطفِه ... وماؤُها كالفِضَّة الصَّافيهْ قد أخجلَ المِسْكَ نسيمٌ لها ... وزَهْرُها قد أرْخَص الغالِيةْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 دَقيقةٌ أصنافُ أوْصافِها ... ومالَها في حُسنِها ثانِيهْ مُنذ أنخْتُ الرَّكبَ في أرْضِها ... أُنْسِيتُ أصْحابي وأحْبابِيَهْ فيا حَماها اللهُ من رَوضةٍ ... بهْجتُها كافِيةٌ شافِيهْ فيهاَ شِفا القلبِ وأطْيارُها ... بنغمةِ القانونِ كالزَّارِيهْ ومنها: مَن شاءَ أن يحْيا سعيداً بها ... مُنعَّماً في عِيشَةٍ راضِيَهْ فلْيدَعِ العلمَ وأصْحابَه ... وليجْعلِ الجهلَ له غاشِيَهْ والطَّبَّ والمنطقَ في جانبٍ ... والنحوَ والتفسيرَ في زاوِيهْ وليترُكِ الدَّرسَ وتدْريسَه ... والمْتنَ والشَّرحَ مع الحاشِيهْ إلى مَ يا دهرُ وحتىَّ متى ... تَشْقَى بأيّامِك أيَّامِيَه تُحقِّقُ الآمالَ مُستعطِفاً ... وتُوقِع النَّقْصَ بأمَالِيَهْ وهكذا تفعلُ في كلِّ ذِي ... فضيلةٍ أو هَّمِةٍ عاليَهْ فإن تكنْ تحسَبُني منهمُ ... فهْيَ لعَمْرِي ظِنَّةٌ وَاهِيَةْ دَعْ عنكَ تعذِيبي وإلا فأشكُو ... كَ إلى ذَي الحضْرةِ السَّامِيهْ وله رباعيَّات لطيفة، منها: أغْتَصُّ برِيقَتِي كحَسْيِ الحاسِي ... إذ أذكُرُهُ وهْو لعْهدِي ناسِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 إن مِتُّ وجَمرةُ الهوى في كبدِي ... فالويْلُ إذاً لساكِنيِ الأرْماسِ وله: كم بِتُّ من المَسَا إلى الإشْراقِ ... من فُرقَتِكْم ومُطرِبي أشْواقِي والهمُّ مُنادِمي ونَقْلِي نَدَمِي ... والدَّمعُ مُدامِتي وجَفْني السَّاقِي ومنها لا تَبْكِ مُعاشِراً نأَي أو إلْفاَ ... القومُ مَضَوْا ونحنُ نأتي خَلْقَا بالمُهلةِ أو تَعاقُبٍ نَتْبَعُهمْ ... كالعطْفِ بثُمَّ أو كعطْفٍ بِألْفَا ومنها: من أربعةٍ وعشرةٍ أمْدادِي ... في ستَّ بِقاعٍ سكنُوا يا حادِي في طَيْبَةَ الغرَّاء مع سامَرَّا ... في طُوسَ وكَرْبَلا وفي بَغْدادِ ومنها: للشَّوقِ إلى طَيْبَةَ جَفْني بَاكِي ... لو صار مُقامِي فلَكَ الأفْلاكِ أستنْكِفُ إنْ مَشيتُ في روْضتِها ... فالمْشْيُ على أجْنحِة الأمْلاكِ ومنها: هذا النَّبَأُ العظيُم ما فيه كلامْ ... هذا لِمَلائِكِ السَّموات إمامْ مَن يَمَّم بابهَ ينَل مطْلَبَه ... مَن طاف به فهْو على النَّارِ حرامْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ومنها: هذا حَرَمٌ بفضْلهِ العقلُ أَقَرّ ... فيه لملائِكِ السَّموات مَقَرّ كلُّ منهم يقول يا زائَرِهُ ... قبِّلْ عنِّي تُرابَ تلك الأعْتابْ إن هُم سألُوا عن البَهاءِ فقُلْ ... قد ذابَ من الشَّوقِ إليكم قد ذَابْ ومنها: يا ريحُ أقُصُّ قِصَّةَ الشَّوقِ إليكْ ... إن جِئْتَ إلى طُوس فباالله عَليْكْ قبِّلْ عنِّي ضريحَ مولايَ وقُلْ ... قد مات بهاؤُكَ من الشَّوقِ إلَيْكْ ومنها: أَهْوَى رَشاً عرَّضنِي للبَلْوَى ... ما عنه لقَلْبِ المُعَنَّى سَلْوَى كم جئتُ لاشْتكِي فمُذْ أبصَرنِي ... مِن لَذَّةِ قُربِه نسِيتُ الشَّكْوَى ومثلُه قولي: لو تُسْمَعُ لَذَّ للمُعنّى الشَّكوَى ... لا مَنَّ بذا وليس عنه سَلْوَى كلٌّ بهَواه مُبْتَلًى ذو دَنَفٍ ... قالُوا وتَطيبُ إذ تَعُمُّ البَلْوَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ومنها: يا غائبُ عن عيْني لا عَن بالِي ... القُرْبُ إليكَ مُنْتَهى آمالِي أيامُ نَواكَ لا تَسَلْ كيف مضَتْ ... واللهِ مضَتْ بأسْوأِ الأحْوالِ وفي معناه وَوَزْنِه قول الأرَّجانِيّ: لا بأسَ وإن أذَبْتَ قلبي بهوَاكْ ... القلبُ ومَن سلَبْتَه القلْبَ فِدَاكْ وَلَّيْتَ وقُلتَ أنْعَم اللهُ مَساكْ ... مَوْلايَ وهل يَنَعْمَمُ مَن ليس يَراكْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 خِضْر المَوْصلِّي كعبة فضلٍ مُرتفِعة المقام، تضمَّنتْ أَلْسَنةُ الرُّواة الْتِزامَ مدْحِه فللِّهِ ذلك التَّضّمُّن والالْتِزام. رأيتُه في عُنْفُوان العمر والدنيا كلُّها رِياض، والأيَّام كلُّها أعْياد وأعْراس، والأوقاتُ كلُّها سَحَر، والأشْهَر كلُّها نَيْسَان. فلَوْ بِعْتُ يوماً منه بالدَّهرِ كلِّه ... لفكَّرْتُ ثانياً في إرْتِجاعِهِ وهو حسَنةٌ في صحائِف الأيَّام واللَّيالِي، وروضةٌ تُنْبِت الشُّكرَ في رِياض المعالِي، والعيشُ كلُّه نَضِر، وقد قيل لكلِّ زمان خَضِرٍ. إذا ما ذكَرْنَا جُودَه كان حاضرا ... نأَى أو دَنَى يسْعَى على قَدَم الخِضْرِ وأقام بمكة مع بني حسَن مُخْضَرّ الأكْناف، وصنَّف باسم السيد حسن كتابه) شرح شواهد الكشَّاف (، شرحاً تشبَّثَ بأهدابِه السِّحْر، وناطَ به تمِيمَةً مُعلَّقةً بجِيد الدَّهْر، وقد ملكْتُه وطالعتُه، فرأيت فيه ما يدل على سَعَةِ إطِّلاعِه، وطول طَوْلِه وبَاعِه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وهو تلميذ والدي، وكان يسلُك معه طريقَ الأدب، ويجْثُو بين يدَيْه على الرُّكَب. وأنشدني له قولَه مُضمِّناً: تبدَّلْ عن البَرْش المُبلِّد بالطِّلا ... فعالمِ أهْل البَرْش غِمْرٌ وجَاهِلُ فما البَرْش إن فتَّشْتَ عن كُنْهِهِ سِوَى ... دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامِلُ وللأسْعد بن مَمَّاتي، مما أنشده في كتابه) سلافة الزرجون (: ندِبميَ لا تَهْزَأْ بمشْمُولةٍ فإن ... بدَا لك منها بَهْجَةٌ وشَمائِلُ وراقَك منها رِقَّةٌ في قَوامِها ... ولاحَتْ كشمسٍ أضْعَفتْها الأصائِلُ فلا تغْتَرِرْ منها بِلينٍ فإنها ... دُوَيْهِيَة تصْفَرُّ منها الأنامِلُ وهذا من قصيدة لَبِيد، التي أولها: ألا كلُّ شئٍ ما خلاَ اللهَ باطلُ ... وكلُّ نعيمٍ لا محالَة زائِلُ وكلُّ أُناسٍ سوْفَ تدخلُ بْينَهم ... دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامِلُ وقد ضمَّن زكيّ الدين بن قريع منها أيضاً في قولهِ: تأمَّلْ صُحَيْفاتِ الوجودِ فإنَّها ... من الجانب السَّامِي إليكَ رسائْلُ وقد خُطَّ فيها إن تأمَّلْتَ خطَّها ... ألاَ كلُّ شيء ما خَلا اللهَ باطِلُ وفي معناه قول العلاَّمة الشيخ حسن البُورِينِيّ: وُرْقُ الرِّياضِ إذا نظَرْتَ دفاتِرٌ ... مَشْحونَةٌ بأدِلَّةِ التَّوْحيدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وهو في معنى شِعر أبي نُؤاس المشهور. ومما مدَحتُ به حضرة مولانا خِضْر المذكور: وصَباً من كُئُوسِ ذِكْرِكَ سَكْرَى ... لكَ حمَّلْتُها ثَناءً وشُكْرَا ولِوَجْدِي رَقَّتْ كطْبِعكَ لُطْفاً ... واسْتعارَتْ من طِيبِ ذِكْرِكَ نَشْرَا معك القلبُ حيثُما سِرْتَ يسْرِي ... فاسْألَنْه عنِّى فذلكَ أدْرَى مِن أُوليِ العَزْم لِي فُؤادٌ كَلِيِمٌ ... في النَّوَى لا يزالُ يتْبَعُ خِضْرَا فصل فيمن لقيتُه بالشام في رحلتي لمصر راجعاً من الروم لما مُنِيتُ بغربِةٍ قارِظِيَّة، ودعاني الشوقُ إلى العَوْد إلى القاهرة المُعِزِّيَّة، وعِنان مطايَا العزْم بينت ثانٍ وحَادِي، وطوارقُ الوساوِس بين رائحٍ وغادِي. بَدا لي بها وجْهُ جوٍّ قاطِب، وسامرتُ بها ليالي عُمْرَ الكواكب، يتعثَّرُ بالعَوَّاء، وتَضْرِبُه بعَصَا الجوْزاء، ونهارٌ صَباه سَمُوم، كأنه قلبُ صَبٍّ مغمُوم، أو نفسُ فقيرٍ مظْلوم، نفَضْت بها الآمالُ بِسَاطَ القَرار، واستَرجَعتْ نُزَّاعَها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الأمْصار، إذ لم تجِدْ حُرَّا ترْتَجِيه، ولا أخَا وَجْدٍ تُطارِحُه هوَى نجْدِ وتجارِبه، كما قلت: يا وَيْحَ مِصرَ ترحَّلَتْ سُكَّانُها ... وتعطَّلتْ تلكَ المجالسُ والمدارسْ ظَعَنُوا ومِن بركاتِها وجَمالِها ... كُنِسَتْ وهاتِيكَ النخيلُ بها مكانِسْ فكأن الكرامَ أوراقُ خريفٍ لوَتْه الأعاصِير، وبدّده الشَّتات، ورُسومُها خَطَّ بها البَلاءُ آياتِ الموارِيث وصُحفَ الفرائِض فلا يُذْكَر فيها غيرُ الأمْوات، فإذا رجع أو خرج منها المسافِر، ما وَدَّعه واستَقْبَله غيرُ المقابِر. عليها لقد حَطُّوا رِحلا بمنْزلٍ ... وكم هَوْدَجٍ من بْينها مُرتخِي الشَّدِّ وقد كنتُ أدْأَبُ في التَّرحال، لأحُطَّ برَبْعِها المُخْصِب رِحالَ الآمال، رجاءُ لقاءِ أشْياخي وأخْداني، ومغازلةِ مَن بها من خُرَّدِ أوَانِس الأمانِي، ممَّن سافَنْتُه بوادِيها، وساجَلْتُه بدِلاءِ المجُون في بَوادِيها، وقد تنْزِل من حِصْن طَوْدِها الأوابِد، كما قال كُشاجِم في كتاب) المطارد (: إن الوحوشَ قد تلِجْ العُمْران، وتلْجَأُ للآنِس، إذا كَلَب الشِّتاء، وعبَس بالجَدْب وجهُ الزَّمان، فعُدِمت الأقوات، وأخْفَى الْجَمَد والثَّلْج الماءَ والنَّبات، فشاب منه الوليد، كما قال مُسلِم بن الوليد: فإن أَغْشَ قوماً بعدَهم أو أَزُورهم ... فكالوحْشِ يُدْنِيها من الآنسِ الْمَحلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 يُذكَّرُنِيكَ الخْيرُ والشَرُّ والتُّقَى ... وقولُ الْخَنَا والحِلْمُ والعلمُ والجهْلُ فألْقاكَ في مذْمُومِها مُتنزِّهاً ... وألْقاكَ في محمُودِها ولكَ الفضْلُ فعاد الرَّائد خائباً، والبَشِير ناعِياً ناعِباً، إذ بدَت مُقْفِرةَ الأرْجاء، مُبَرْقِعةً باليأْسِ وجْهَ الرَّجاء، مِن دارٍ أمواتُها أشْراف، وأحياؤُها أجْلاف، بها ضِعاف عقولٍ يزعمون أنهم ألَّفُوا وصنَّفُوا، كأنَّهم بقيَّةٌ من أهلِ الكتاب الذين بَدَّلوا أو حرَّفوا فعُجْتُ زائراً مقابرَ أطْلالِها، وقد خُيِّل لي أنها أوَّلُ منزل سُفْرٍ بسُروجِها ورحالِها، ينتظِر بها السَّابقون اللاَّحِقين، فقلتُ: السلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، فرَدُّوا وصاحُوا بهاوَاها، وأنْشدني بَدِيهةً صَداها: يا راكباً حُثَّ المَطِيَّ ... لأرْضِ مصر تَنْتحِيهاَ جُزْ بالقَرافةِ واقْرأَنْ ... منِّي السلامَ لساكِنيهاَ وقلِ السَّلامُ على الكرِا ... مِ الأكْرمين الفاضِلِيهَا لم أَلْقَ بعدَهُمُ بها ... إلا جَهولاً أو سَفِيهاَ فكأنَّما الدنيَا البخي ... لةُ بالعطاءِ لمُجْتدِيِهَا صَرفَتْ دَنانِيرَ الْبَهَا ... بنُحاسِ نَحْسٍ من بَنِيهَا سادتْ بها فَرِقُ العبي ... دِ فأيُّ حُرٍّ يَرْتضِيهَا فلذا هجَرْتُ مُقامَها ... وطلبْتُ أرضاً أصْطفِيهَا فإذا مرَرْتَ فلا تَسلْ ... عمَّن نأَى مِن قاطِنيهَا وقِفِ الْمَطِيَّ بِجَلَّقٍ ... إن الكرامَ الغُرَّ فِيهَا عُرِفَتْ بعَرْفِ المجدِ ها ... تِيكَ الرُّبوعُ لِساكِنِيهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فرحلتُ إلى الوادِي المقدَّس طُوَى، والعزمُ بأيْدِي المطايَا شَبَّر شُقَةَ البَيْن وطَوَى، حتى نزلْتُ تُربةً عُجنتْ بماءِ الوحْي، على رَغْمِ أنْفِ النَّوَى، ومسَحْتُ بها المُحيَّا، وحَيِيتُ أكْرمَ مَحْيَا، بين الصَّخرةِ والطُّور، والبيتِ المُتلأْلئ فيه سَبَحاتُ النُّور: قَطعْنَا في مسافتِه عِقاباً ... وما بعد العِقاب سِوَى النَّعِيمِ ولما رأيتُه طَشْتَ ذهبٍ مملوءاً بالعقارب، غسلْتُ يدَ الأمل فيه من الرَّغائب، وانثنَيْتُ للشَّام شَامةِ وجْهِ البُلدان، وجَنَّةِ الله في أرْضِه المحفُوفةِ بالحُور والوِلْدان، المفروشةِ بسُنْدُس النَّبات والأشْجار، واللاَّبسةِ حُلَل الرِّياض المُزرَّرةِ بالأنْواء، المُسجَّفةِ بزُرْق الأنْهار، فقالت لي: أهلاً وسهْلاً، ومدَّتْ كرماً ونُزْلاً، وتلقَّتْنِي بصَدْرٍ رحِيب، فبِتُّ فيها بين تكريمٍ وترْحيب: مِن فوقِ أكْمامِ الرَّيا ... ضِ وتحْتِ أذْيالِ النَّسِيمِ ولقِيتُ بها من فضلائِها الأعْيان، وأُدبائِها النَّقِيَّة الأذْهان والأرْدَان، كلَّ كريمٍ تُحسَد عليه العيون والآذان، هو لعَيْن المجدِ قُرَّة، ولوجْهِ المكارِم غُرَّة، ولقلْبِ الدهرِ فَرْحةٌ ومسَرَّة. فكان ممَّن اجْتلاهُ ناظرِي، وعكَف عليه في حَرَمِ كَرمِه خاطرِي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 المولى عبد الرحمن بن عِماد الدِّين الشَّامِيّ الْحَنَفيّ وهو إذ ذاك مُفتِيها، وناشِرُ لواءِ الإفادة بنادِيها، ومُحي من رسومِ المدارس كلَّ دائِرٍ بها ودارِس. إن جاد فجُودُة تَمِيمةً للعدم، أو وَعَد فوعْدُه للغِنَى سَلَم، مع صِدْق مقالٍ، تُعْقَد منه الأقوالُ بالأفعال. إذا ذُكِر ما فيه من محاسِن الصِّفات، سجَدتْ له الخناصِر كأنه آياتُ سَجْدات، أو سُرِدَت نُعُوتُه فكلُّ نعتٍ مقطوع، وكلُّ وصفٍ تابِعٌ له، وهْو مَتْبوع. وقد مُتِّعْتُ منه بما هو ألذُّ من نَيْل الوَطَر، وليس العَيان كالخَبَر، وهَبَّت عليَّ رِيحُ إقْبالِه قَبول وجَنُوب، وأطْربَتْني أنفاسُه والكريمُ طَروب، وصَرْفُ الزَّمان مغلولُ اليديْن، والزمانُ مُنقَادُ لجمْعِ الشَّمل، كأنه عليه دَيْن، فقِلْنا في ظِلِّه الظِّليل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ولم نَرَ فيه نقْصاً سِوى أنه قليل، وناهِيكَ بطِيب عُنصُر لو رآه النَّظَّام أثْبتَ به الجوْهَر الفَرْد، مع لُطفِ طبعٍ هو شقِيق الروضِ المُخْجِلِ بلُطْفِه خَدَّ الورْد، وحُسنِ تقْريرٍ وتحْريرٍ يهتز طرباً له كلُّ غصنٍ نَضِير. وبالجملة فهو في كلِّ كمالٍ مُفْرَد، مُستَغْنٍ عن التَّعريف بفضْلٍ له لا يُحَدّ، فإنه أصِيلُ عصْرِه، وعِمادُ دهرِه، كأنما عَناهُ مَن قال: أرأيتُمْ في النَّاسِ ذاتَ لطيفٍ ... يشرَحُ الصدرَ مثلَ ذاتِ العِمادِ حَسبُها من لطافةٍ أنها لم ... يخلُقِ الله مثْلَها في البلادِ وقد دارتْ بيني وبينَه كئوس محاوراتٍ لها ثَغْر الحَبَاب باسِم، تُنْظَم منها في جِيد الآداب عُقودٌ لها بَنانُ البيان ناظِم، ولما قُوِّضَتْ خِيامُ المُقام، وَزُمَّتْ مطايا العزائم، كتبتُ له مُودِّعاً وشاكراً لما أفاضه عليَّ من سوابِغ المكارم قولي: قسَماً بلُطفٍ مالكٍ لفُؤادِي ... وبرَوضِ أُنْسٍ مُثْمرٍ لِودادِي وبطَلعةٍ نزلَتْ لدى حرَمِ العُلا ... وبسُدَّةٍ هي قِبْلةُ القُصَّادِ أنِّى ارْتحَلْتُ وذكُركم أبداً على ... طُولِ المَدى ماءِي النَّمِيرُ وزادِي يا واحدَ الدُّنيا وبيتَ قصيدِها الزَّ ... اهِي لدَى الإنْشاءِ والإنشادِ يا ابنَ العِمادِ لأنت عُمْدةُ سادَةٍ ... تُمتْاحُ في الإصْدارِ والإيرادِ إرَماً غدَتْ أرْضُ الشَّآم لأنها ... ذاتُ العِمادِ بكُمْ وأيّ عِمادِ بل جَنَّةً فيها الثَّناءُ مُخَلَّدٌ ... أتَرى لها بعد البِعادِ بعادِ وحديثُ فضلِكمُ المُعَنْعَنُ مَجْدُه ... أضْحى بأصْلِكَ عالِيَ الإسْنادِ يُثْنى عليه رائحٌ أو غادِي ... أبداً برغْمِ عشِيرةٍ أوْغادِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 واسْلَمْ ودمْ في عِزَّةٍ أيَّامُها ... لِلِقائِه لبِستْ حُلَى الأعْيادِ وبعد هذا الفصل: مولايَ، هذه نَفْثَةُ مصدُور، وغُلالةُ صُادٍ لولاك لم تُرْوَ بها الصُّدور، وبَدِيهَةُ غرِيبٍ من الأوطان والأحِبَّة مهْجُور، والطَّبع وإن كان في حَلْبتِه جَواد، فقد يكْبُو الجَواد، وقد يبْخل الجوَاد، ولكنَّني أقول كما قال ابن عَبَّاد: أما لولاكَ ما رأتْنِي القَوافِي ... في وِهادٍ من أرْضِها ونِجَادِ إن خَيْرُ المُدَّاحٍ مَن مَدحَتْهُ ... شعراءُ البلادِ في كلِّ نادِ والسلام. فأجاب: هذِي درَارٍ نُورُها لِيَ هادِي ... وشِهابُها رُجُمٌ على الأضْدادِ أم رَوْضةٌ بسَمتْ ثغورُ زهورِها ... أم حُلَّةٌ وْشِيتْ من الأبْرادِ أم تلك أبياتٌ البِناَ ... رُفِعتْ على عُمْدٍ رَفَعْنَ عِمادِي بُنِيتْ بأيْدِي فِكْرِ قُسِّ خفَاجةٍ ... تبَّت أيادِي فكرِ قُسِّ إيادِ مولايَ يا فرْدَ الوجودِ فضائلاً ... وشمائلاً يا أوْحدَ الآحادِ قد كنتُ أسمعُ عن فضائِلِك التي ... شنَّفْنَنِي من حاضرٍ أو بادَ ولطالَما قد كنتُ أرجو المُلْتَقَى ... وتُبَعِّد الآمالُ طولَ بِعادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 حتى شهِدتُ جمالَكم فلِمِحْنتِي ... جذَبتْ محبَّتُكم شِغافَ فُؤادِي ودَنا الرَّحيلُ مُخِّلفاً قلبي لكمْ ... وَقْفاً على الاتْهامِ والإنْجادِ سِرْ بالهَنَا أمَّا خَيالُ كمالِكمْ ... فهو السَّمِيرٌ لُمهْجتِي في النَّادي واسْلَم ولا تَنْسَ العِمادِي إنه ... لَيْعِّللُ الأحْشا بقُرْبِ بِعادِ ومما أنشدني قولُه: سأطْمِسُ آثاراً هَوايَ أثارَها ... وأنفُضُ من ذَيْلِ التَّصابي غُبارَهَا لقد آن صَحْوِي من سُلافِ صَبابةٍ ... لقد طال ما خاَمرْتُ جَهْلاً خُمارَهاَ هجْرتُ الهوى والزَّهْوَ حتى اشْتياقَه ... وطيبَ لياليِ الَّلهْوِ حتى ادِّكَارَهاَ وعفَّيْتُ سُبْلَ الهَزل بالجدِّ مُقلِعاً ... وعِفْتُ مَسرَّاتٍ جنَيْتُ ثِمارَهاَ أَثامٍ كُفِيتُ اليومَ بالتَّزكِ شرَّها ... لعلَّي غداً في الحشرِ أكْفَى شَرارَهاَ قَطَفْتُ أزاهيرَ الصَّبابةِ في الصِّبا ... وقد صار عاراً أن أَشُمَّ عَرارَهاَ فلو صائداتُ القلبِ أقْبَلْنَ كالْمَهاَ ... وقبَّلْنَ رأسِي ما قِبلْتُ مَزارَهاَ وقد كنتُ أوْدَعتُ الحِجاَ فاسْتَردَّهُ ... إلى النَّفسِ شَيْبٌ قد أعاد وَقَارَها وكان شَبابي شَبَّ نارَ صَبابتي ... فمُذْ لاحَ نُورُ الشَّيْبِ أخمدَ نارَهاَ تُرَى شيْبَتي ما عُذْرُها لشَبيبتَي ... وقد صَبَغتْ قبل الكمالِ عِذارَهاَ تبسَّمَ ثَغْرُ الشِّعرِ فيها تعجُّباً ... لها إذْ رَأَى ليلَ السّبَالِ نهارَهاَ فما زار وكْرَ الشّعر فيها غُرابُه ... ولا دارَ حتى اسْتوطَن البازُ دارَهاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 عسى الآن عمَّا قد عَثُرْتُ إنابَهٌ ... يُقيلُ بها للنفسِ ربيِّ عِثارَهاَ عسى رَحْمةٌ أو نَظْرةٌ أو عِنايةٌ ... يَتِمٌ سُعوِدي في صُعودِ مناَرهَا عسى نَفحةٌ من نُورِ نُورِ معارفٍ ... تَهُبُّ فتَختارُ الفؤادَ قَرارَهاَ ويشرحُ صدْرِي نورُ علم مُقدَّسٍ ... يُرِينيَ أسرارَ العلومِ جهارَهاَ وأُمْنح ألْطافاً من الانسِ أبْتَغِي ... خَفاَها ويأَبْى إلا اشْتِهارَهاَ وتُكْشَف عن عْينِ البصيرةِ حجْبُهاَ ... بأنْوارِ عِرفانِ تُزِيل اسْتِتارَهاَ فَيظهرُ لي سِرُّ الحقيقةِ مُسرِقاً ... على ظُلَمِ الكون التي قد أنارَها وأحْظَى بحالاتٍ من القُرْبِ أكْتَسِي ... بدُنيا وأُخْرى فضْلَها وفَخارَهاَ ولُطْفُ إلهي قُطًبُ دائرِة المُنَى ... فإنَّ عليه في العطاءِ مَدارَهاَ وقال قُبَيل موتِه، رحمة الله: قد شابَ فَوْدِيَ حين شابَ فؤادِي ... فكأنما كاناَ على مِيعادِ حُسْنَ الخواتِم أرتْجي من مُحْسِنٍ ... قد مَنَّ لي قِدْماً بحُسْنِ مَبادِي وعِمادِيَ التَّوحيدُ فهْوَ وَسِيلتي ... في نَيْلِ ما أرْجُوه عند مَعادِي إن قيلَ أيُّ سفينةٍ تَجْري بلاَ ... ماءٍ وليس لأهلها مِن زَادِ قُلْ رَحمْةُ الرحمن مَن أنا عَبْدُهُ ... تَسَعُ العبادَ فَمَن هو ابنُ عِمادِ وكتب إليَّ وهو مريض، وقد سمع بعَوْدِي لمصر، ولم يلبَثْ بعدَه إلا قليلا، ما صورتُه: أسْعَد الله تعالى طالِعَ مصر وما حولها من الأبصار، وأنجَد هذا العصرَ وما يلِيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 من الأعصار، وأبَّد عِزَّة العلومِ وأهْلِيها، وأيَّد دولَة الفضائل وطالبِيها، بدَوام سعادِة أيام عيْنِ أهلِ المعارفِ والمعالي، ووَاسِطة عِقْدهم الغالي، ونادِرةِ فلكِهم العالي، الذي هو صدْر العلماء وبَدْرُهم، ومَن يدور عليه أمرُهم، فكأنهم فلَكٌ هو قُطْبُه، أو جسد هو رُوحُه وقلبُه، علاَّمة العلومِ والمعارِف، وروضةُ الأدب الوَرِيقةِ وظِلُّها الوارِف، شمسُ عصْرِه، وعُزِيز مِصْرِه، جامع المزايَا والمناقِب، شهابُ الفضلِ الثاقبِ. أُهدِي إلى حضرته العليِّة تُحَفَ التَّحِيّة، وطُرَف الأدْعية المرْضِيَّة. وأُنْهى إليه شِكايةَ نِكايةِ الشَّوق، واسْتِطالةَ سُلطانِه، ومَدَّ مُدَّةِ البَيْن واسْتطالةَ زمانِه. وأُهنِّيه برُتْبة الرِّياسة العِلْميّة، التي بعضُ صفاتِها ولايةُ مصر المحمية، جُزْءٌ من آلائِها وآلاتِها، حيث أتَتْ تسْعَى إليه، ومدَّ بالأمر الشَّريف رُواقَها عليه، على أن المولى أنْوَهُ قَدْراً، وأنْبهُ شأناً وذكراً، من أن يُهَنَّى بولايةٍ، وإن أمِرَ أمْرُها، وعلا بين أهل العُلا قدرُها. ومنصِبُ مصر وإن عظُم موقعُه، فالمولى بحمْدِ الله وتعالى يرفعُه والمنصِب لا يرفُعه، وما شَرَفُه المؤثَّل المعلوم، إلا بفُنون الفضائلِ والعلوم. وحين بلغنا وصولُه بالسَّلامة بتيْسِير المُيَسِّر، عجبْنا كيف رِكب البحرُ البحرَ، وسلك البَرَّ البَرَّ، وقلنا عاد قُسٌّ إلى عُكَاظِه، وقلنا عاد قيْسٌّ بحِفاظِه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ولقد أحسن مولانا السلطان، إذ أنام الأنامَ في حِرْزِ العدل والأمان، بنَصْب فيْصَلِ حُكْمِه، وحُسام قضائه؛ لحَسْم مادَّة الظلم وانْتِضائِه، فتحَ بذلك باب دَوْلة العرب، ورَواج بضاعة العلم والفضْل والأدب، فخلَّد اللهُ دولةَ سعادتِه مدَى اللَّيالي والأيام، ونظَم أعوامَ مُدَّةِ سَلْطنتِه في سِلْك التَّأبِيد والدَّوام. ونسأل الله لحضرتِكُم طول البقاءِ، ودَوام العزِّ والارْتقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 أحمد بن شاهين الشَّامِيّ صديقنا الصَّادقُ الوداد، الفاضل المُستَغرِق بمحاسنِه لمراتِب الأعْداد، قَنَّاص سوانح الأفْكار، حائزُ قَصَب السَّبْق في كلِّ مِضْمار. أديبٌ حديثُه الحسن كقِطَع الروض، ولذة النَّشْوان، يُخيَّل لسامعِه أنه صَبَّ عليه الْجُمان، وجرَى خِلالَه ماءُ البَيان، تتسابق ألفاظُه ومعانيه إلى القلوب والآذان، حتى لا تدْرِي أيُّهما السابقُ في الولوج للسمع والجَنان، فكم هبَّت شَمْأَلُ شمائِله، فأضْحتْ سماءُ فضائِله، فيا عجباً كيف هَمَي منه النَّدَى، وقد انْقَشع به غمام الغَيِّ عن مطالِع الهُدَى، فهو نُكْتَة عُطارِد، الوارثُ من المجدِ كلَّ طَرِيف وتالِد، حتى أدْنَى جُودُ أيادِيه الحِسان، ولم يشُقَّ غُبارَه سوابقُ الاسْتِحْسان. وله نَظْمٌ ونثر أرَقُّ من دَمْع الصَّبّ، وأعْذَب من زُلال القَطْر غِبَّ الجَدْب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 لو بَقِيَتْ سِلْكاً على الدُّهورِ ... لعطَّلتْ قلائدَ النُّحورِ وأخْجَلتْ جواهرَ البُحورِ ... وسُمِّيتْ ضَرائِرَ الثُّغورِ تُهدِْي إلى الأكْبادِ والصُّدورِ ... رَوحاً يُحاكِي نَفْثَةَ االمصْدُورِ ولما وافَيْتُ في رحلتي إلى الشَّام، نظَمَنِي وإيَّاهُ في عِقْد الصُّحبة سِلْكُ الأيَّام، في أُوَيْقاتٍ كلُّها أصِيِلٌ وسَحَر، ولا عَيْب فيها سِوى ما بها من قِصَر. ) وكذاك أيَّام السُّرورِ قِصار ( فشرَّفنِي بقصيدةٍ أتْحَفنِي بها، وهي قولُه: أيُّ دهر قد جادَ لي بابتهاجِ ... وصَباَحٍ لاحَ لي بانْبِلاجِ وزمانٍ قد مَنَّ لي بنعيمٍ ... وقرانٍ وافَي بأسْعدِ تاجِ وازْدِيارٍ من غْيرِ وَعْدِ حبيبٍ ... كشفاءٍ من غيْرِ سَبْقِ عِلاجِ واجتماعٍ لنا بغيْرِ اتَّفاقٍ ... كَغنًى جاء طالباً ذا احْتِياجِ وسَخاءٍ من الزَّمانِ بأهْناَ ... نِعْمةٍ قد أتَتْ لأحْوج رَاجِ بقُدوم المولَى الإمام المُفَدَّى ... أحمدَ السَّيِّد الشِّهابِ الخَفَاجِي الشِّهابُ الذي أضاءَ فضَاءَتْ ... شامُنا مِن سِراجِه الوهَّاجِ زارَنا في دِمَشْقَ غَيْثٌ رَوِىٌّ ... غَيْثُ علمٍ من طبْعهِ الثَّجَّاجِ حين وَافَى مِن مِصْرَ والسَّعْدُ عَبْدٌ ... خادمٌ عنده بغيْرِ اخْتِلاجٍ ولو أنِّي وفَّيْتُ حقَّ قُدومٍ ... ساد حظِّي منه وزادَ ابْتهاجي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 كنتُ أفْرشْتُه جُفُونَ عيوني ... ورفَعْتُ الغُبارَ فوق الحجاجِ عالِمٌ يُخْرِجُ الخَفِيَّ المُعَمَّى ... من علوم الأُلى بلا اسْتِخْراجِ عنده كالصَّباحِ من كلَّ علمٍ ... مُدْلَهمٍّ كالليل أسْودَ دَاجِ أشْتَكِي غُرْبَتي إلَيْكَ وأنِّي ... بين أهْلي في خِسَّةٍ واندِمَاجِ غيرَ أنيِّ شَرْوَى غَرِيبٍ لفقْدِي ... أهلَ وُدِّي وعِشْرتي وامْتزاجي منهُم عُمْدَتِي الذي كان دهراً ... مُفْتِيَ الشامِ مُستَنِيرَ السِّراجِ العِمادِيُّ ذاك مَن قد تقَضَّى ... عُمُره في دُعاكَ ضِمْنَ الدَّياجِي كان واللهِ عِطْرَنا النَّدَّ لَمَّا ... ونلْتَقي في ثنَاكَ حين التَّناجي كان شيْخِي وكان خِلِّي إذا ما ... نابَنيِ حادِثٌ وطُبٌ مِزَاجي فرمَتْنِي فيه الليالي عِناداً ... والليَالي معروفةٌ باللَّجاجِ فتخلَّفْتُ في دِمَشْقَ وحيداً ... في اعْتِقالٍ وهِمَّتي في انْفِرَاجِ أيها السَّيِّدُ الجليلُ المُفدَّى ... عُجْ بحاَجِي عن سَيْرِ حظِّي السَّاجيِ فابنُ شاهِين ذو جناح مَهيضٍ ... باءَ إن لم تَرُشْه كالدُّراجِ كنُ لرِاجٍ من فضل جاهِك عَوْناً ... حيثُ يمْضِي بما ترى مُحتاجِ جارَ دَهْرِي علىَّ فانظَر لأمْرِي ... لا تكِلْني إلى اهْتمامِ احْتياجِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 رقَّ حالي فاجْبُرْه قبل انْصِداعٍ ... فمُحالٌ في الكَسْر جَبْرُ الزُّجاجِ كسَتْ مُدَّةً بضاعةُ فضْلي ... وبمْولاي جاء وقتُ الرَّواجِ بيننا حقُّ نِسْبةٍ لكريمٍ ... ذِي بُكورٍ للمجْدِ مَعْ إدْلاجِ لابن عبدِ الغنِّي ذاك المُصَفَّى ... جَوْهراً عالياً مَحلَّ التَّاجِ قدَّس الله روُحَه وحَياهُ ... برضَاهُ من غير سَبْقِ انْزِعاجِ وابْقَ واسْلَمْ ففي معاليك عنهُ ... خَلَفٌ للمُنَى بلا مِعْراجِ كلُّ وجْهٍ تأتِيه تلْقاهُ طَلْقاً ... سافرَ البِشْرِ وافَرِ الإنْتاجِ ومحمد بن عبد الغنيّ المذكور كان قاضيَ العساكر بالرٌّوم، وله) حواشٍ على تفسير البَيْضَاوِيّ (وسنذكره إن شاء الله تعالى، آخر هذه) الرَّيْحانة (. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الأمير منجك بن الأمير محمد بن منجك الجركسي أصلا ومحتداً، الشامي منشأً ومولدا. أديب أريب، ونجيب ابن نجيب. أورق عوده بالشام وأثمر، فإذا عدت السجايا عرضاً فسجاياه جوهر. نشأ بها والدهر ابيض أقمر، ونادم العيش والعيش اخضر. وللبقاع تأثير في الطباع، والعرق كما قيل لمغرسه نزاع، ومن كان جار الرياض لبس طبعه برد نسيمها الفضفاض، كما لبس النهر الجاري، درع النسيم الساري؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وقد نسَجتْ كَفُّ النَّسيم مُفاضَةً ... عليه وما غيرُ الحُبابِ لها حَلَقْ وقد صحبني بجلق، ونسيمه سجسج، وخيوط شبيبته بيد الكهولة لم تنسج، ولا زمني إذ رأى انعطافي عليه، وشبه الشيء منجذب إليه. ومدحني بمدائح أطال فيها واطاب، وغنم الصحبة ولم يرض من الغنيمة بالإياب. ومما كتبه إلى من شعره، وقد طلبت منه ما ودعه في الرحلة. صورة ما مدحت به مطلع نجوم المعالي، وفلك شموس الموالى، المولى عبد الرحمن حين، قلد صارم الأحكام بدمشق الشام، صينت عن حوادث الأيام: آلَى الزَّمانُ عليه أن يُوالِيكاَ ... يُثْنىِ عليْكَ ولا يأْتيِ بثاَنِيكاَ إذا سطاَ فبأحْكامٍ تُنفَّذُها ... وإن سخَا بفضلٍ من مساعِيكاَ لِيَهْنِ ذَا العيدَ حَظٌّ مِنْكَ حينَ غَدَتْ ... عُلاهُ ثم حُلاَهُ من أياَدِيكاَ هِلالُه نال فوقَ البدْرِ مَنزلةً ... مُقبَّلاً وجهُه أعْتابَ نادِيكاَ مُجمَّلاً بأياَدٍ منكَ فائِقةٍ ... مُعطَّراً بَغوالٍ من غَوالِيكاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وافَى يُهَنَّى بكَ الدنياَ ونحنُ به ... يا بَهْجةَ الدَّينِ والدنيا نُهَنَّيكاَ مَن ذا يُضاهِيك فيما حُزْتَ من شَرَفٍ ... ومن يُدانِيكَ في حِلْمٍ ويْحكِيكاَ فالشمسُ مهْماَ ترقَّتْ فهْيَ قاصِرةٌ ... عن بعضِ أيّسرِ شيءٍ من مَراقِيكا والبدرُ لَمْحةُ نُورٍ منكَ نُبْصرُها ... والبحرُ قطرةُ ماءٍ من غَوادِيكا وكلُّ طَوْدٍ تَسامَى فْهو مُحتقَرٌ ... إذا بدَتْ وَهْدةٌ من نحوِ وَادِيكاَ وكلُّ مْجدٍ فمن عَلْياكَ مُكتسَبٌ ... وكلُّ فَخْرٍ نَراهُ في حواشِيكا وما حكَى السَّلفُ الماضَي وحدَّثنا ... من السَّجايا بهِ إحْدى التي ِفيكا تعنُو لعِفَّتِك الزُّهَّادُ مُذعِنَةً ... ويحسُد الفَلكُ الأعْلى مَغانِيكاَ يا ابنَ الُحساِم الذي للدَّينِ نُصْرتُه ... أنتَ الُمفدَّى وكلُّ الناسِ تَفْدِيكاَ أعيادُنا كلُّها يومٌ نراكَ به ... وليلةُ القدْرِ وَقْتٌ من لَيالِيكا ومما مدحت به أيضا المولى المذكور، دام في رغد عيش وسرور: الناسُ كلُّهمُ شِراءُ عَطائِهِ ... والعِيدُ والنُّورُوزُ من آلائِهِ يخْتالُ ذَا باَلحلْىِ مِن عَلْيائِه ... شرَفاً وذا بالوَشْى مِن نَعْمائِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 قرَّتْ به عينُ الغزالةِ واغْتدَتْ ... مكحولةً في أُفْقِها بضِيائِهِ ما أنبتَ الأدْواحَ بعد ذُبولِها ... إلا سقُوطُ الطَّلَّ من أَنْوائِهِ سَلْسالُها ونسيمُها من لُطْفِهِ ... وعَبِيرُها من بعضِ طِيبِ ثَنائِهِ مولًى أقلُّ هِباتِه الدنيا فقلْ ... ما شئتَ في معروفِه وسَخائِهِ عَدْلٌ له ما زال يُورِقُ عُودُه ... حتى استظَلَّ الأمْنُ في أَفْيائِهِ غيثٌ أغاثَ به الُمهْيمِنُ خلْقَهُ ... مُتفضَّلاً وقضَى لهم بقَضائِه نَجْلُ الذي الأفْضالُ من ألْقابِهِ ... وحُسامُ دينِ اللهِ من أسْمائِهِ السَّعدُ من خُدَّامِه والعِزُّ من ... أتْباعِه والمجدُ من نُدَمائِهِ تسْعَى المواسمُ كُلُّها لِرِحابِهِ ... إذ لا بَهاءَ لها بغيْرِ بَهائَهَ ومما مدحت به إمام الأئمة، موضح المشكلات المدلهمة، يوسف ابن أبى الفتح أمام حضرة السلطان، دام منصوراً مظفراً في كل ان ومكان: قمرٌ إذا فكَّضرتُ فيه تعتَّباَ ... وإذا رآني في المنام تحجَّباَ صادفْتُه فتناولَتْ لحظاتُه ... عقلى وأعْرضَ نافراً مُتحجَّباَ مُتورَّد الوجَناتِ خَشْيةَ ناظرٍ ... أضْحى برَيْحانِ العِذارِ مُنقَّباً ساومْتُه وَصْلاً فأعْجَم لفظُه ... وأظنُّه عن ضِدَّ ذلك أعْرَباَ أنا مِنْه راضٍ بالصُّدودِ لأنَّنيِ ... أجِد الهوانَ لدى الهوَى مُستعذَبَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 شيئانِ حدَّثْ باللَّطافةِ عنهما ... عَتْبُ الحبِيب وعَهْدُ أيَّامِ الصَّباَ وثلاثةٌ حدَّثْ بطِيب ثنائِها ... زَهرُ الرياض وخلْقُ يُوسفَ والصَّباَ علاَّمةُ الآفاقِ من أشْعارُه ... لعلومِه أضْحَتْ طِرازاً مُذهَبَا مَن لو رآه البحرُ يوماً مُغضَباً ... لرأيتَه من خَشْيةٍ مُتلهَّباَ مَن لو أصابَ البرَّ أيسرُ قطْرةٍ ... من راحَتَيْهِ لعاد رَوْضاً مُخْصِباَ مَن لو نظَمْتُ الشُّهبَ فيه مدائحاً ... لظَننْتُ فِكرِي قد أساءَ وأذْنَباَ ما نسْمَةٌ سَحَرِيَّةٌ شِحْرِيَّةٌ ... باتَتْ تُعَلُّ من الغَمامِ الأعْذباَ نَشْوانةٌ وافَتْ تجرَّرُ في الرُّبَى ... ذيْلاً بِمسْكِيَّ الرياضِ مُطيَّباَ يوماً بأحْسنَ من صِفاتِ جَنابِه أنَّى تَداوَلها اللسانُ وأطْيَباَ مَن ذا يُقاسُ بماجدٍ جُعِلتْ له ... أرْضاً رِقابُ الحاسدين وقدْ أبَى ومما مدحت به المبرز في العلوم، المالك أزمة المنطوق والمفهوم، والبارع في المنثور والمنظوم، المرحوم عبد الرحمن العمادي، مفتى دمشق الشام: بانَ الخَلِيطُ ضُحًى عن الجَرْعاءِ ... فمَن المُقِيمُ لِشِدَّةٍ وعَناءِ اللهُ يعلمُ أن صُبْحِى في الهوَى ... سِيَّان بعد رَحِيلِهم ومَسائِي تُطْوَى علىَّ النائِباتُ كأنَّني ... سِرُّ الهوَى وكأنها أحْشائي وأشدُّ ما يشْكو الفؤادُ مُمنَّعٌ ... في لحْظِةِ دائي ومنهُ دَوائي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 رَيْحانةُ الحسنِ التي لعِبتْ بها ... رِيحُ الصَّبا لا رَاحةُ الصَّهْباءِ تجْري مِياهُ الحُسنِ في أعْطافِه ... جَرْىَ الصَّبابةِ منه في أعْضائي قمرٌ إذا حسَر القِناعَ مُخاطِباً ... شخَصتْ إليه أعْيُنُ الأهْواءِ ملكَتْ وِلايةَ كلَّ قلبٍ مُولَعٍ ... لَحَظاتهُ من عالمِ الإنْشاء إن يُخْفِه ليلُ النَّوى فجبِينُه ... صُبْحٌ ينِمُّ عليه بالأضْواءِ كم بِتُّ مَطْوِىَّ الضُّلوعِ على جَوّى ... أُغْضِى الجُفونَ به على الأقْذاءِ فإلى مَ فيه تَهُّتكِى وتَنَسُّكِى ... وعَلى مَ فيه تبسُّمِي وبُكائي عَلَّ الزَّمانَ يُفيدُني حْملَ الُمنَى ... حيثُ الْتجأْتُ لأوْحدِ العُلماءِ نَجْلُ العِماد ومَن بنَتْ عزماتُهُ ... بيْتاً دعائِمهُ على العَلْياءِ مجدٌ سماَ بجَنابِه حتى لقد ... بلغَ السَّماءَ وفاتَها بسَماءِ تَنْدَى أنامِلُه ويُشرِقُ وجُهه ... فيجودُ باْلآلاءِ والَّلأْلاءِ يقِظٌ بأعْقابِ الأمُورِ كأنَّما ... جُلِيتْ عليه حقائقُ الأشْياءِ سُبْحانَ من جَمع الفَراسةَ والهُدَى ... لِجَنابه السَّامِي على النُّظَراءِ ومَهابَةٌ ساد الوُلاةَ وَلاؤُها ... مَحْفُوفَةٌ بجَلالةٍ وبَهاءِ وشَمائِلٌ رقَّتْ كما خطَرتْ على ... زَهْرِ الرَّبيعِ بَواكِرُ الأنْداءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 مولايَ بل مَوْلَى البريَّةِ في صَفَا ... صِدْقِ الطَّوِيَّةِ من بَنى حَوَّاءِ أنت الذي ما زلْتَ تِرْبَ وِلايةٍ ... وأبو الورَى في طِينِة والماءِ تتْلُو على سْمعِ المحامدِ والثَّنَا ... آياتِ مدْحِك ألسُنُ النُّعْماءِ للهِ أمٌّ ما غُذِيتَ بثَدْيِها ... إلا لِبانَ العِزَّةِ القَعْساءِ أطْلَعتَ شمسَ الفخْرِ في فلَك العُلا ... وحفَفْتَها بكَواكِبِ الأبْناءِ المالِئُونَ قلوبَ أهلِ زمانِهم ... حُبّاً وأكْنافُ الرَّجا بغَناءِ والضَّارِبونَ خيامَ سُؤددِهمْ على ... هاَمِ السَّماك ومَفْرِقِ الجوْزاءِ يا مَورِداً حامَتْ عليه غُلَّتي ... مُذ جِئْتُه مُستسقِياً ورَجائِي وافَتْكَ من صَوْغِ القريضِ فَرائدٌ ... نُظِمَتْ بأيْدِي الفْهمِ والآراءِ لا بل سَقَيتَ رياضَ فكرٍ ما حِلٍ ... منَّى بفضْلِك صَيَّبَ الآلاءِ فهصَرْتُ غُصْنَ معارفٍ ومآثرٍ ... وجنَيْتُ نَوْرَ محامدٍ وثَناءِ هيْهاتَ ما شِعْرُ الأنام مُقارِناً ... شِعْراً تشرَّفَ منك بالإصْغاءِ ومما مدحت به أيضاً المرحوم عبد الرحمن العمادي المذكور: يا ابنَ الأماجدِ أنتَ مِنْ ... أيَّ الأفاضلِ وابنُ مَنْ كذَبَ الذي حسِب الزَّما ... نَ أتى بمْثِلكُم وظَنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 أيُقاسَ ما غرس العُلاَ ... يوماً بخَضْراءِ الدَّمَنْ والآلُ بالغْيثِ المُغِي ... ثِ إذا تَوالى أوْ هَتَنْ العِلمُ سِرُّ اللهِ لْي ... سَ عليه غيرُكَ يُؤتَمَنْ والمجدُ سار إلى جَنا ... بِكَ مِن أبيكَ على سَنَنْ وبك المناصبُ فخرُها ... دون الورَى من قبْلِ أنْ فإلْيك منَّى روْضةً ... بالشُّكرِ يانِعةَ الفَنَنْ لِمَ لا يطِيرُ بِىَ الرَّجا ... ء إلى حِماكَ مدَى الزَّمَنْ وبذَرْتَ لي حَبَّ المُنَى ... ونصَبْتَ لي شَرَكَ المِنَنْ وملَكْتَ رِقَّ مدائِحِي ... بالخَلْقِ والخُلُقِ الحسَنْ ومما مدحت به) شيخ الإسلام علم العلماء الأعلام (العلامة قدوة المحققين، وعمدة الفقهاء والمحدثين المرحوم الشيخ احمد المقري المغربي، سقى الله ثراه سحائب الغفران: فخراً دِمَشْقُ على كلَّ البلادِ بَمن ... أوْلَى البريَّةَ معروفاً وعِرفاناَ المَقَّرِيُ الذي في بعض أيْسرِ ما ... حوَى من الفضلِ كلٌّ راحَ حَيْراناَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 شمسٌ من الغرْبِ قد كانتْ مشارقُها ... بل دونَها الشمسُ يوم الفخرِ بُرهاناَ أغَرُّ ما أحْدَقَتْ أيدِي الفِطام به ... إلا وأضْحَى بماء المجْدِ رَيَّانَا تكاد تقْرأُ في لأْلاَءِ غُرَّتِه ... من سُورةِ العِزَّةِ القَعْساءِ عُنواناَ له من الفكرِ ما تحْنُو لأيسرِه ... ثواقِبُ الزُّهْرِ إرْشاداً وإذْعاناَ وسِيرةٌ عن أبى حفْصٍ تلقَّنها ... إلى وَقارٍ يُضاهِي هَدْى سَلْماناَ مُصاحِبٌ حُسْنَ فعل الخير يعشَقهُ ... مُراقِبٌ ربَّه سِرَّاً وإعْلاناَ يقْضِي النهارَ بآراءٍ مُسدَّدةٍ ... ويقطعُ الليلَ تسْبيحاً وقُرآناَ لأيٍّوِرْدٍ نُوَلَّى اليوم وِجْهَتنا ... وقد غدا بحرُه الطَّامِيُّ مُرْجاناَ لئِنْ مُنِحْنا بلَحْظٍ من مواهبِهِ ... نِلْنا الثُّريَّا وكان الخيرُ عُقْباناَ شفَى بدرْسِ) الشَّفا (مرضَى دِرايتِنا ... لَّما أفاد مع) الإيضاح (إنْقاناَ هيْهاتَ هيهاتَ مَن في القوم يُشْبهُهُ ... هل السَّرابُ يُضاهي الغيْثَ هَتَّاناَ إذا مشَى فعلَى الأعْناقِ مِشْيَتُه ... وإن رأيْتَ رجالَ الحيَّ رُكْباناَ يا سَّيدَ العلماءِ العاملين ومَن ... هو الإمام المُفدَّى حيثُما كاناَ أبْرأْتَ ذِمَّةَ دهرٍ جاء يَمْنحُنِي ... بعد الإساءةِ من لُقْياكَ إحساناَ دهرٌ يُقتَّل آمالي وأوسِعُه ... إذ أنت مِن أهلهِ حَمْداً وشُكْراناَ فطَأْ كما شِئْتَ لا تنفكُّ مُنتصِراً ... بأَخْمَصَيْكَ من الأعداء تِيجاناَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 واهْنَأْ فأَنت الذي أوْلاهُ خالقُهُ ... من الملائِكِ أنصاراً وأعواناً واسمَعْ لها من قوافٍ لا يُماثِلُها ... قولٌ من الشَّعر إلا قولُ حَسَّاناَ واستَجْلِها نُزَهاً لو أنَّها رُزِقتْ ... حظَّا لكانت لعيْنِ الدهرِ إنساناَ قال: ومما أجبت به لغز في يراع، أرسله إلي الفاضل الذي طابت) بذكر مآثره (الأسماع محمد الكريمي،) وفي ضمنه لغز في مهند (: فِدَى لك رُوحِي مِن رَشاً مْتَبَّرمِ ... ومن مُنْجِدٍ بالْمستَهامِ ومتْهِمِ ومِن عاتِبٍ إلاَّ على غير مُذْنِبٍ ... ومِن ظالمٍ إلاَّ غير مُجْرِمِ سقتْنِي العيونُ النُّجْلُ منك سُلافةً ... جرَتْ قبلَ خلْقِي في عروقي وأعْظُمِي وأسْلَمني فيك الغرامُ إلى الرَّدَى ... فإن كنتَ مَن يرْضَى بذلك فأسْلَمِ بعُدتَ ولى في كلَّ عُضْوٍ حُشاشةٌ ... تذُوبُ وطَرْفٌ هامِعُ الْجَفَنِ بالدَّمِ ولستُ مَلوماً أن مَن أيْقظَ النَّوى ... حُظوظِي التي لم تُجْنِ غيرَ تَنَدُّمِ جلَبْتُ إلى نفسِي المنيَّةَ عندما ... رمَيتُ فلم تُخْطِئْ فؤادِيَ أسْهُمِي أتَى اللهُ أن أبْكِى لغير صَبابةٍ ... وأرْتاعَ إلا مِن حبيبٍ بُمؤْلِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 سَجِيَّةُ النفسٍ لا تزالُ مَليحةً ... من الضَّيْمِ مَرْمِيّاَ بها كلُّ مُجْرِمِ أجَمَّعُ شُرَّدَ المعالي وإنَّني ... أبيتُ بفكرٍ في الهوى مُتَقسَّمِ وأنْدُب أوقاتاً ألذَّ من الُمنَى ... تقَضَّيْنَ لي بين الحَطِيمِ وزَمزمِ تطارحُني فيهِنَّ ذاتُ تَبَسُّمٍ ... حديثَ هوًى أحْلى من الشُّهْدِ في الْفَمِ مَوشَّحةُ الأعْطافِ حالِيةُ الطَّلاَ ... تُقلّد عِقْداً من دُموعي ومِن دَمِي أبَتْ أن تُرَى إلا لِطَرْفِ تفكُّرٍ ... ويَلثِمها إلا شِفَاهُ تَوهُّمِ أبِيت سَلِيمَ القلبِ منها كأنَّني ... أراقبُ صَفْوَ العيشِ من فَمِ أرْقَمِ وما أنا مَن يَسْلُو هواها وينْثَني ... إلى أحدٍ غيرِ الكريمِ المُعَظَّمِ محمدٍ السَّامِي الجَنابِ ومَن غَدَا ... له كَرَمُ الأخْلاقِ دون التَّكَرُّمِ هُمامٌ لقد أضْحَتْ مآثِرُ فضْلِهِ ... على جَبْهةِ الدنيا كغُرَّةِ أدْهَمِ ومَوْلًى إذا ضَنَّ السَّحابُ بِوَبْلِهِ ... عليْنَا سَقاناَ مُسْجَماً بعد مُسْجَمِ له سُؤْدُدٌ حَلَّ السَّماكَيْنِ رفْعةً ... وذلك إرْثٌ فيه من عَهْدِ آدَمِ وكَفٌّ تحلَّتْ بالسَّماحِ بَنانُهاَ ... بغيْرِ نُضارِ الفضْلِ لم تَتَخَتَّمِ فما روضةٌ غَنَّاءُ باكيةُ الَحْيَا ... تبَسَّمُ عن ثَغْرَىْ أقَاح وعَنْدَمِ تُمدَّ بها ريحُ الصَّبا خَطواتِها ... وتَرْفَلُ في ثوبٍ من النَّورِ مُعْلَمِ بأبْهجَ وجْهاً منه عند هِباتِه ... إذا يَّممت يُمْناهُ آمالُ مُعْدِمِ فيا ماجداً كل المفاخِر أصبَحتْ ... إلى مجدِه الوَضَّاحِ تُعْزَى وتَنْتَمِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أتَتْ تتَهادَى منكَ في مِرْطِ دَلَّها ... خَرِيدةُ أفْكارٍ وطَبْعٍ مُسَلَّمِ وما اصْطَحبَتْ إلا البلاغةَ مَحْرَماً ... وهل غيرُها للبِكْر يُلْفى بمَحْرَمِ لها صوتُ داودٍ وصورةُ يُوسُفٍ ... وحِكمةُ لُقمانٍ وعِفَّةُ مَرْيَمِ تُسائِلُنا عمَّا براه إلهنَا ... لتَسْطِيرِ آجالٍ ورِزْقٍ مُقسَّمِ جَرى قْبلَ خلْق الخلْق في اللَّوْحِ بالذي ... يكونُ وما قد كان مِن قبلُ فاعْلَمِ يَراعٌ يُراعُ الخَطْبُ منه وإنَّه ... ليُثْمِر من جَدْوَى يَدَيْكَ بأنْعُمِ أرانِي طريقَ الفضْلِ حتى سلَكْتُه ... وأوْضحَ لي مِن لُغْزِهِ كلَّ مُبْهَمِ فما اسمٌ رُباعِيٌ إذا بَانَ صَدْرُه ... غدَوْتَ به ذَا لَوْعَةٍ وتَرَنُّمِ وما هِي إلا بَلْدةٌ في رُبوعِها ... يطيب مُقام المُسْتَهامِ المُتَيَّمِ وإن مَحت الأفْكارُ من ذَاك ثالِثاً ... بكَيْتَ الصَّبا فيه وعَهْدَ التَّنَعُّمِ ويُذْكِرُني أخْلاقَك الغُرَّ شِطْرُهُ ... وتحْرِيفُه ضِدٌّ لكم لم يُكَرَّمِ ويُبْدِى لنا من قَلْبِه الشمسَ في الضُّحَى ... ويطلُعُ فيها أنجُماً بعد أنْجُمِ وثانِيةِ مَحْمودٌ لدى كلَّ عاشِقٍ ... ومَن ذا يَراهُ مِن وُشاةٍ ولُوَّمِ ويُسْلِمُني يومَ التَّرَحُّل قلبُه ... ولكنَّه مِن غيرِ كفٍّومِعْصَمِ ويُوصِلُ ما بين الملوكِ وقَصْدِها ... وإن هَمَّ في أمرٍ على الفوْرِ يفْصِمِ حَلِيُف نُحُولٍ لم يذُقْ قَطُّ جَفْنُهُ ... مَناماً ولم يطمَعْ بطَيْفٍ مُسَلَّمِ فَعولٌ ولكن ليس يُدْعَى بفاعلٍ ... قَؤولٌ ولكن ليس بالمُتَكلَّمِ على أنه قد بان بعْدَ خفائِه ... وأصبحَ مشهوراً لَدَى كلَّ ضَيْغَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 فأنْزِلْهُ من نادِيكَ أشْرفَ منزلٍ ... وألْبِسْهُ حَلْياً من قريضٍ مُنظَّمِ ولولا معانِيكَ العِذابُ وصَوْغُها ... لكان عسيراً بالمديحِ تكلُّمِي وقابِلْ جوابي بالقَبُولِ تفضُّلاً ... وسامِحْ فإن الفضّلَ للمُتَقَدَّمِ قال: وقلت متغزلاً: وافَى الربيعُ فما عليك بِعَارِ ... خَلَعُ العِذارِ ولا ارِْتشافُ عُقارِ صَهباءُ ليس يجوزُ عندي مَزْجُها ... إلا برِيقَةِ شادِنٍ مِعْطارِ تدعُ الدُّجى صُبْحاً إذا هيَ أُبْرزتْ ... فكأَنما اعْتُصِرتْ من الأنْوارِ ُقْم هاتِها حيثُ الهَزَارُ قد اغْتَدَى ... في الأيْكِ مُنعكِفاً على التَّهْدَارِ طَيرٌ أعاد الغصنَ جُنْكاً رُكَّبَتْ ... أوْتارُه مِن فِضَّةِ الأمْطارِ وتبُثُّه رِيحُ الصَّبا ويَبُثُّها ... ذِكْرَ الهوى مِن سالِفِ الأعْصارِ فانْهَضْ لتغْتَنمِ الشَّبيبةَ قبل أن ... يَرْمِي المشِيبُ الصَّفْوَ بالأكدارِ واشرَبْ على وَرْدِ الرُّبَى إن لم تَجِدْ ... وَرْدَ الخُدودِ لقِلَّةِ الدَّينارِ وانْصِبْ بفكركَ في الهوى شَرَك المُنَى ... لوقُوعِ ظل أو خَيالٍ سَارِي هذا ولسْتُ أرَى إذا فُقِد الذي ... أهْوَى جِنانَ الخُلدِ غيرَ النَّارِ هيْهاتَ ما النَّايُ الرَّخِيمُ ونَشُوةُ ال ... خمرِ القديمِ ونَغْمَةُ الأوْتارِ وحَنِينُ هيْنَمةِ الرياضِ عشِيَّةً ... وتراسُلُ الأطْيارِ في الأسْحارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 عِنْدي بأحْسَنَ من مُساجَلةِ الأَحِبَّ ... ةِ بالصَّبابةِ في سَنا الأقْمارِ من كلَّ معبودِ الجمالِ مُحَكَّمٍ ... فيماَ يَشاَ مُسْتَعْبِدِ الأحْرارِ قال: وقلت متذكراً لمغاني الأنس التي انمحت آثارها، ولم يبق للاماني ما تشبث به إلا أخبارها: قَصْرَ الأمير بوادي النَّيْرَ بَيْن سَقَى ... رُباك عّني مِن الوَسْمِىّ مِدْرارُ كم مَرَّ لي فيك أيّام هَواجرُها ... أصائِلٌ ولَيالِهنَّ أسْحارُ حيثُ الشَّبيبةُ بِكْرٌ في غَضارَتِها ... وللصَّبابةِ أحْلافٌ وأنْصارُ حيثُ الرَّياضُ تُغنَّيمي حَمائِمُها ... بالدُّفَّ والجُنْكِ والسَّنْطورُ لي جاَرُ حيثُ الخمائلُ أفْلاكٌ بها طلَعتْ ... زَهْرٌ من الزُّهْرِ والنُّدمانُ أقْمارُ حيثُ المُدامةُ رقَّتْ في زُجاجتِها ... يُديرُها فاتِرُ الأجْفانِ سَحَّارُ عِطْرِيَّةٌ نقضَتْ فيها عوارِضُه ... فَتِيقَ مِسْكٍ له الأرْواحُ سُفَّارُ ياقُوتةٌ أُفْرِغَتْ في قِشْرِ لُؤْلُؤةٍ ... فَلاحَ للشُّرْب منها النُّورُ والنَّارُ شمسٌ تعاطَيْتُها من راحَتَيْ قمرٍ ... له من الحسن ما يَرْضَى ويْختارُ يسْعَى إلى بها تحت الدُّجَى حَذِراً ... من الوُشاةِ لأنَّ الليلَ سَتَّارُ مُتَوَّجُ الرَّاحِ بالإبْرِيقِ ذا قُرطٍ ... مثل الهلالِ له الجَوْزاءُ زُنَّارُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 يسْقِى وأسْقِيه من ثَغْرِ ومن قَدَحٍ ... إلى الصَّباحِ فمِرْباحٌ وَمِخْسارُ يضمُّنا بأعالي القصْرِ ثوبُ هوًى ... زُرَّتْ عليه من الأشْواقِ أزْرارُ أمتَّعُ الطَّرْفَ منَّى في محاسِنِه ... وليس عندي من العُذَّالِ أشْعارُ حتى تيقَّظَ دهْرِي بعد ما غفَلتْ ... عنَّي حوادِثُه والدهرُ غَدَّارُ قال: وقلت: سقَى اللهُ يومَ القصْرِ إذ كان بيْننا ... حديثٌ كُمرْفَضَّ الجُمانِ المُنَضَّدِ برَوْضٍ يجولُ الماءُ تحت ظِلالِه ... كأيْمٍ مَرُوعٍ أو حُسامٍ مُجَرَّدِ يلوحُ به قانِي الشَّقيق وقد حكى ... لواحظَ مخْمورٍ كُحِلّنَ بإْثمِدِ ويَهْمِى به قطرُ النَّدى فتخالُه ... مُبَدَّدَ عِقْدٍ في فِراشِ زُمُرُّدِ ورَيْحانُة الغَضُّ الشَهِيُّ كأنه ... مَبادِى عِذارٍ فوق خدٍ مُورَّدِ سقاني به راحَ الرُّضابِ مُهَفْهَفٌ ... فرُحْتُ به لا أفْرُقُ اليومَ من غَدِ وبتُّ أظنُّ الجُلَّنارَ بدَوْحِة ... نجومْ عَقِيقٍ في سماء زَبَرْجَدِ إلى أن بدَتْ شمسُ النَّهارِ كأنها ... مَجِنُّ كَمِىٍ قد تحلَّى بعَسْجَدِ قال: وقلت متغزلا: قم للمُدامةِ يا نديم فإنها ... شَرَكُ المُنَى وحُبالَةُ الأفْراحِ حمراءُ صافيةُ المزاجِ كأنَّها ... وَرْدُ الخدودِ أذِيبَ في الأقْداحِ شمسٌ إذا بزغَتْ لعْيِنك في الدُّجَى ... أغْنَتْكَ عن صُبُحٍ وعن مِصْباحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 مِسْكِيَّةٌ أنّى فَضَضْتَ خِتامَها ... عَبِق النَّدِىُّ بنَشْرِها الفَضَّاحِ تفْتَرُّ عن حَبَب ثغورُ كُؤوسِها ... كسِقيط طَلٍّفي ثغورِ أَقاحِ بسْقِيكَها رَشَأٌ إذا غَنَّى بها ... رقَصتْ لذاك معاطِفُ الأرُواحِ قال: وقلت أيضاً متغزلاً: ألَدَيْهِ نَهْبُ النفوسِ مُباحُ ... رَشَأٌ سافِكُ الدَّمَا سَفَّاحُ أيُّ أسْدٍ تجُولُ حول حِماهُ ... وكِناسٍ له الظُّباَ والرَّماحُ ابنُ عشرٍ وأربعٍ لو تبدَّى ... في دُجَى الليلِ قلتُ لاحَ الصَّباحُ وما ربيعُ العيونِ غيرَ مُحيَّا ... هُ إليه أرواحُنا تَرْتَاحُ ليَ من وَجْنتَيْهِ وَرْدٌ جَنِىٌّ ... م ومُدامٌ من ثَغْرِه وأَقاحُ تتَدابَى له القلوبُ وإن شَطَّ م ... مَزارٌ وأبْعِدتْ أشْباحُ إنَّ كُتْبي إليه صُحْفُ الأماني ... وبها الرُّسْلُ بيْنَنا الأرْواحُ قال: وقلت في الشيب: لا تَلُمْني على اجْتنابيَ للْكَأْ ... سِ رُوَيْداً فما عَلىَّ مَلامُ ما ترى الشَّيْبَ فِضَّةً في عِذارِي ... سبَكَتْهُ بنارِها الأيَّامُ قال: وقلت في غرض اقتضى ذلك: أساءَ كِبارُنا في الدهرِ حتَّى ... جرَى هذا العقابُ على الصَّغارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 لقد شربَ الأوائلُ كأْسَ خمرٍ ... غدَتْ منه الأواخِرُ في خُمارِ قال: وقلت متغزلاً: ألقى فُؤادِي في أُوَارِى ... قمرٌ سُرَاه مِن اسكدارِ يْمضِي الدُّجَى ونواظِرِي ... في حُبَّة ترْعَى الدَّرارِي وأوَدُّ لو علِقَتْ بذيْ ... لِ الوعْدِ منه يَدُ انْتظارِي يْجنِي فأُبْدِى العذرَ عن ... هـ وليس يْرضى باعْتِذارِي أتَرَاهُ يدْرِي بالذي ... قاسَيْتُه أم غيرَ دارِ أشكُو الظَّمأَ أبداً وما ... ء ُالحسنِ في خَدَّيْهِ جارِ أغْدُو به حَيْرانَ لا ... أدْرِى يميني من يَسارِي رِيمٌ أبَتْ أخلاقُه ... إلا التَّخَلُّقَ بالنَّفارِ فعشِقْتُه وعليهِ مِن ... دون الورَى وقَعَ اخْتِيارِي قال: وقلت متغزلاً: وشادنٍ أرْكبنِي ... هَواهُ طَرْفَ الخَطَرِ مُهَفْهَفٍ مُبْتهِجٍ ... يَهْزُو بضَوْء القمرِ يكادُ أن يشْربَه ... إذا تَبدَّى نظَرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 أبِيتُ فيه قَلِقاً ... على فِراشِ السَّهرٍ كأنَّ عقْلِي كُرَهٌ ... لصَوْلجانِ الفِكَرِ قال: وقلت متغزلا: بِيَ ريمٌ كِناسُهُ المُرَّانُ ... ما لِقلْبِ من مُقْلتَيِهْ أَمانُ ذُو عِذارٍ كأنه ظُلْمةٌ الشَّرْ ... كِ ووجْهٍ كأنه الإيمانُ وكأنَّا من أنْسِه ومُحَيَّا ... هُ بروضٍ تُظِلُّنا الأفْنانُ خدُّهُ الوردُ والبنُفسجُ صُدْغا ... هُ لعينِي وثَغْرُه الأُقْحٌوَانُ وكأنَّ الحديثَ منه هو اللُّؤْ ... لُؤ يَرْفَضُّ بيْننا والجُمانُ وكأن النَّدِىَّ والكأْسُ تُجْلَى ... فيه أُفْقٌ نجومُه النُّدْمانُ وكأنَّ الأنْفاسَ منه نسِيمٌ ... وكأنَّا إذا شَدَا أغْصانُ وكأنَّ النُّدمانَ في دَوْحَةِ اللَّه ... وِغُضونٌ ثمارُها الكِتْمانُ يتعاطَوْن أكُؤُسَ العُتْبِ إذْ طا ... فَ عليهمْ بها المُنَى والأمَانُ يا سقَى ذلك الزَّمانَ وحَّيا ... هُ مُلِثٌّ مِن الرَّضا هَتَّانُ زمَنٌ كلُّه ربيعٌ وعيْشٌ ... غُصنُه يانعُ الجَنَى فَيّنانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 مَرّض لي بالشَّآمِ والعمرُ غَضٌّ ... وشَبابي يَزِينُه العُنْفُوانُ ابن عَشرٍ وأرْبَعٍ وثَمانٍ ... هِي عيدٌ وبعضُها مِهْرَجاَنُ قال: وقلت متغزلاً: نَبَّهْ جُفونَكْ من نُعاسِك ... واسْمَح بريِقك أوْ بكأسِكْ طاب الصَّبوحُ فهاتِها ... واشْرَبْ معي بحياةِ رَأسِكْ ما الوَردُ إلا من خُدو ... دِكَ والبَنَفْسَجُ من نُواسِكْ أفْدِيكَ ظَبيْاً أرْتجِي ... كَ وأتَّقِى سَطَواتِ بَاسِكْ تخْشَى الأسودُ مَهابةً ... مِن أن تَمُرَّ على كِناسِكْ قال: وقلت متغزلاً، من قصيدة: أتُرَى أين حَلَّ أم أين أَمْسَى ... غُصْنُ باَنٍ يُقِلُّ أعْلاهُ شَمْساً ليتَ أنى وقد ترحَّلَ بِيدٌ ... كُنَّ أمسِ لأسْطُرِ العينِ طرْساَ لَهْفَ شاكٍ يرى المعاهَد صُماًّ ... بعد ما شَطَّ والمعالِمَ خُرْساَ صَدَّعُ البَيْنُ منه ثَمّ فُؤاداً ... كان صَخْراً فعاد بالوَجْدِ خَنْساَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ومنها: شادِنٌ أظْلمُ الخلائقِ ألْحا ... ظاَ وأمْضَىِ فْعلاً وأكبرُ نَفْساَ علّمْته الأيَّامُ طُرْقَ التَّجنَّي ... والليالِي أقْرَأْنَه الصَّدَّ دَرْساَ أطْلَعَ الحسنُ في حديقةِ خدَّي ... هـ وُروداً تركْنَ لَوْنِيَ وَرْساً ومنها: طالَما بِتُّ بالخَدائِعِ أسْقي ... هِ ثلاثاً حيناً وأشْرَبُ خَمْساً نمزُجُ الكأسَ بالحديثِ وما ألْ ... طفَ ذاك الحديثَ معنًى وحِسَّا لستُ أدْرِى أمِن عُصارةِ خَدَّ ... يْهِ أم الرَّاِح صَفْوُ ما نتَحَسَّى لا رأَتْ مُقْلتِي مُحيَّاهُ إن كا ... ن فؤادِي يسْلُوه أو يَتَأسَّى قال: وقلت: لا تتَّهِمْ بالسوءِ دَهْرَك إنَّهُ ... جَبَلٌ يُجِيبُ صَداكَ منه صَدَاءُ مِرآتُك الدنياَ وفعلُك صُورةٌ ... فيها فما الشَّنْعاءُ والحَسْنَاءُ قال: وقلت متغزلاً: تناَهَى عندَهُ الأملُ ... وقصَّر دونَه العَذَلُ رَشاً يفْتَرُّ عن بَرَدٍ ... تكاد تُذِيُبه القُبَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 يخامِرُ عِطْفَه ثَمَلٌ ... يميلُ به ويْعتدِلُ يُمثَّل ما يُروَّفُه ... بصَفْحِة خَدَّه الخجَلُ فليت به كما اتَّصلَتْ ... حشاَيَ الطَّرفُ يتَّصِلُ إذا ما الخِدْرُ أبْرزَهُ ... تَناهَبُ حُسنَه المُقَلُ لقد أغْرَاهُ في تَلَفِي ... شَبابٌ ناضِرٌ خَضِلُ وقَدٌّ حَشْوُهُ هَيَفٌ ... وطَرْفٌ مِلْؤُه كَحَلُ فما الْخَطَّىُّ غيرَ قَنَا ... قَواٍم زانَهُ المَيَلُ ولا الهِنْدِيُّ غيرَ ظُباً ... حَواها النَّاظِرُ الغزِلُ سقَى خَلْساً بذِى إِضَمٍ ... مضَيْن الصَّيَّبُ الهَطِلُ وعْيشاً حين أذْكرُه ... أمِيلُ كأنني ثَمِلُ ورَبْعاً كنتُ أعْهَدُه ... وأُنْسِى فيه مُقْتبِلُ بكَيْتُ دماً على زَمنٍ ... لدَى تَوْدِيعه الأجَلُ ليالٍ كلُّها سَحَرٌ ... ودهرٌ كلُّه أُصُلُ ) وهي طويلة (قال: وقلت في الحماسة: لعَمْرُ أبى الرَّاقِي السَّماكَينِ رِفْعَةً ... وحامِي ذِمارَ المجْدِ بالحِلْمِ والبْاَسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فما أنا من يرْضَى القليلَ مِن العُلا ... ولا أنا مَّمن يحْتَسِي فضْلةَ الكاَسِ هي النَّفسُ فاْحمِلْها على الضيْمِ إِنْ تُرِدْ ... لها العِزَّ وانقُضْ راحَتَيْك من النَّاسِ قال: وقلت أيضاً: ومُنْتزَه يروقُ الطَّرْفَ حُسناً ... لما فيهِ من المَرْأَى البَدِيعِ تجولُ كتائِبُ الأزْهارِ فيه ... وقد كُسِبَتْ حُلَى الغَيْثِ المرِيعِ وبات الوردُ فيها وهْو شاَكِي السَّ ... لاِح يميدُ في الدَّرْعِ الْمَنِيعِ حكَى مُنْضَمُّ زَنْبقِةِ طُروساً ... وفيها عَرْضُ أحْوالِ الجميعِ تُنمَّقُ طَيَّها أيْدِي النُّعامَى ... وتبْعثُها إلى مَلِكِ الرَّبيعِ وقلت إذ أنفذت لبعض الأحبة كتابا، فقبله وتلطف في حسن الجواب: خُذها سُطوراً إليكَ قد بُعِثتْ ... ترومُ للنَّفسِ ما يُعَّللُهاَ في طَيَّ بْيضاءَ ظَلْتُ من وَلَهٍ ... فيكَ بأيْدِي اللَّحاظِ أصقُلُهاَ أكتُبها والدموعُ تَنْقُطُها ... بَعبْرةٍ لا أزالُ أُهْمِلُهاَ لو كان ظَنَّي إذا بَصُرتَ بها ... نيابةً عن فمِي تُقبَّلُهاَ لَرُحْت شوقاً إليك مُندرِجاً ... في طَيَّها والنَّسيمُ يَحْمِلُهاَ قال: وقلت: مَهْلاً سفينةَ آمالِي لعل بأنْ ... تَهُبَّ يوماً رياحُ اللُّطفِ والكرِم ويا حُظوظِيَ رِفْقاً لستِ مُدرِكَةً ... غيرَ الذي قسمَ الرحمنُ في القِدَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 قال: وقلت أيضاً: ورَوْضةِ أُنْسٍ بات فيها ابنُ أَيْكَةِ ... يُغرَّدُ والنَّايُ الرَّخِيمُ يُشَنَّفُ وقد ضمَّنا فيها من الليلِ سابِغاً ... رِداءُ بأكْنافِ الغَمامِ مُسَجَّفُ فظَلَّتْ عَرانِينُ الأبارِيقِ بالطَّلا ... إلى أن بَدَتْ كافُورةُ الصبحِ تَرْعُفُ وهذا معنى تصرف فيه وأبدع، وأدار منه على المسامع كأس أدب مترع، وقد سبقه إليه غيره، كابن رشيق في قوله: صَنَمٌ من الكافورِ بات مُعانِقِي ... في حُلَّتْين تَعفُّفٍ وتَكَرُّمِ فذكَرْتُ ليلةَ هجْرِه في وَصْلِه ... فجَرتْ بقايا أدْمُعِي كالعَنْدَمِ فطفِقْتُ أمسحُ مُقْلتِي في جِيدِه ... إذ عادةُ الكافورِ إمْساكُ الدَّمِ لكنه جعل جيد محبوبة منديله فدنسه، فلو قال: فجعلتُ عيْني تحت خْمَصِ نْعلِهِ ... إذْ شِيَمةُ الكافورِ إمساكُ الدَّمِ كان أليق بالأدب. وممن أجاد في هذا المعنى ابن مرج الكحل الاندلسي، في قوله: ألاَ بَشَّروا بالصُّبْحِ مِنَّىَ باَكياً ... أضَرَّ به الليلُ الطويلُ مع البُكاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ففي الصُّبحِ للصَّبَّ المُتَيَّمِ راحةٌ ... إذا الليلُ أجْرَى دَمْعَه وإذا شكا ولا عَجَبٌ أن يُمسِك الصُّبحُ عَبْرَتِي ... فلم يزلِ الكافورُ للدَّمِ مُمسِكا وقد قلت أنا في هذا المعنى أيضاً: وساقَ ليَ السُّرورُ غداً طبيباً ... له طَرَفٌ يُشِير إلى التَّصابِي رأَى في الكأْسِ صُبّض دَمِ الحُمَيَّا ... فذَرَّ عليه كافورَ الحُبابِ قال: ومما قلته أيضاً: سقَى صَوْبُ الحَياَ زَمناً ... سرقْناهُ من الغِيَرِ وقد مَدّ الغَمامٌ رِدَا ... لَه هُدْبٌ من المَطرِ ومما كتبه إلى الأمير منجك: يا وحيداً في السَّجاياَ ... والمزاياَ باتَّفاقِ وشِهاباً في سموا ... تِ العُلى سامِي الطَّباقِ وجَواداً عندَه الأفْ ... راسُ عَرْجاً في السَّباقِ أنْتَ بَحرٌ دونَه الأبْ ... حُرُ من بعضِ السَّواقِي لا تسُمْني حَصْرَ أوْصا ... فِك فكرِي في وِثَاقِ راعَني الدهرُ كما قدْ ... رُعْتَ مِصْراً بالفِراقِ ومما كتبه إلى الأمير أيضاً: قد بشَّرتْك بمِصْرَ بعضُ معاشر ... لم يعلَموا الأقْوالَ في تأْوِيِلهاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 مِصرُ أقلُّ نَدَى أيادِيك التي ... مِن فَيْضِ نائِلها أصابِعُ نِيِلهاَ وهذا كثير الأمثال، كقول ابن نباته المصري: وافَتْ أصابعُ نِيلِناَ ... فْيضاً وطافَتْ بالبلادِ وأتَتْ بكلَّ مسَرَّةٍ ... ما ذِي أصابعُ بل أياَدِي واحسن من هذا كله قولي من قصيدة نبوية: أصابعُ سيَّدِ السَّاداتِ منها ... لقد رَوَّى الزُّلالُ صَدَى الفُؤادِ فلو منها ينالُ النَّيلُ ظُفْراً ... لما مَصَّ الأصابعَ للتَّنادِي وعهْدِي بالأصابعِ في أيادٍ ... فكم في ذِي الأصابع مِن أياَدِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الفاضل أبو الطيب بن رضى الدين الغزي، نزيل الشام كان شامة الشام، وغرة الليالي والأيام. وله في الفضل والأدب فنون، ثم تبدلت الفنون كما يقال جنون، فاشتغل بدائه، وصار هوى الأحبة منه في سويدائه، فاعتزل الناس، وصار وسواس حليه حلى الوسواس، بعدما كان طبعه ارق من شمائل الشمال، ومعانيه أدق من دلائل الدلائل. وشعره لفضله شعار، وحسن خطه يتعلم منه الحسن نمنمة العذار. كقوله: صادفْتُه والحسنُ حِلْيَتُه ... كالرَّيم لا رُعثاً ولا قُلباَ والعِيدُ للألْحاظِ أبرَزهُ ... والبدرُ أقربُ منه لِي قُرْباَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 أهْوَى لتهْنِئتي ومَدَّ يداً ... وَفْقَ المُنَى فتناولَ القَلْباَ ومد اليد المعتاد، للمصافحة في الأعياد، مسنون لإظهار القرب والاتحاد، فجعلها لأخذ الفؤاد معنى بديع. ومثله ما قلته في مد اليد المسنون المأمور به في الدعاء، وهو مما لم اسبق إليه، فان أمر السائل بمد اليد، بمعنى خذ ما طلبت وأزيد: دعَوْناكَ من بعد قولِ ادْعُنِي ... فكيفَ نُرَدُّ وكنَّا دُعِيناَ أُمِرْنا بمَدَّ يدَىْ سائلٍ ... ليْملأَها أكْرمُ الأكْرمِيناَ وهذِي وجوهُ الرَّجاءِ اغْتَدتْ ... ترى بِعيونِ الظُّنونِ اليقِيناَ ومن شعره قوله من قصيدة: مؤنَّبي لا برِحْتَ في عَذَلٍ ... فحبَّذا حُبُّه علىَّ وَلِى غُصْنُ دَلالٍ أغَرُّ طلعته ... شمسُ الضُّحَى فوق ناعِمٍ خَضِلِ يجُولُ في عِطْفِه الدَّلالُ إذا ... تحمِل نَقَوَيْهِ فَتْرةُ الكَسَلِ رَقَّمتُ في طِرْس خَدَّه قُبَلاً ... فظلَّ يْمحُو بَنانُه قُبَلِى وأخْجَلَ الوَردَ في نَضارتِهِ ... شَقِيقُ خَدٍّ في وَرْدَتَيْ خَجِلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وقوله أيضاً: ترامَتْ نحوها الإبلُ ... وشامَتْ بَرْقَها المُقَلُ فتاةٌ من بني مُصَرٍ ... يُجاذِبُ خَصْرَها الكَفَلُ فما الخَطَّارُ إن خطَرتْ ... وما المَيَّالةُ الذُّبُلُ تَكَنَّفَها لُيوثُ وَغَى ... يُحاذِرُ بأْسَها الأجَلُ لَئن شَطَّ المزَارُ بها ... وأقْفَر دونَها الطَّلَلُ يمثَّلها الفؤادُ بهِ ... ويُدِنيها لَه الأمَلُ وكمْ لي يومَ كاظِمَةٍ ... فُؤادٌ خافِقٌ وَجِلُ وطَرْفٌ بعدَ بُعْدِهمُ ... بِمِيلِ السُّهْدِ مُكتَحِلُ علِقْتُ بها غَداةَ غدَتْ ... مَواطِئَ نعْلِها المُقَلُ فإن سارَتْ بأَخْمَصِها ... تداعَي الوابِلُ الهَطِلُ وإن قرَّت تَقَرُّ العْي ... نُ فِينا يُضْرَب المثَلُ وقوله: لم أَنْسَ ليلةَ زارنِي ... والبدرُ يجنَحُ للغُروبْ ثَمِلاً يميلُ كأنما ... عَبثتْ به رِيحُ الجَنُوبْ ولرَّبما جاد البَخيلُ ... وربَّما صدقَ الكَذُوبْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 فنَهَضْتُ إجلالاً له ... والقلبُ بالُّلقْيا طَرُوبْ وفرَشْتُ خَدَّي مَوْطِئاً ... فمشَى عليهِ ولا لُغُوبْ وضمَمْتُه ولثَمْتُ فَا ... هُ ألذَّ من كأسٍ وَكُوبْ حتى بدَا الإصْباحُ وه ... وَلدىَّ مِن أدْهَى الخُطوبْ ولَوَى به مِن حيثُ جا ... ءَ ومُقْلتِي عَبْرَى سَكُوبْ هذا الذي أهْواهُ إذ ... حازَ البهاءَ على ضُروبْ ملأَ المسامِعَ والخوا ... طِرَ والنَّواظرَ والقُلوبْ وقوله: وشِرْبٍ أدامُوا الوِرْدَ من أكْؤُسِ الطّلا ... وقد أنِفُوا الإصْدارَ عن ذلك الوِرْدِ سقَطْنا عليهم كَي نَلَذَّ لديهمُ ... سُقوطَ النَّدى عند الصَّباحِ على الوَرْدِ وقوله: عاطَيْتهُ حَلْبَ العصير ولا سِوَى ... زُهْرِ السَّماءِ تِجاهَ زَهْرِ المجلسِ أنظُرْ إليهِ كأنه مُتَبَّرمٌ ... مَّما تغازِلُه عيونُ النَّرْجِسِ وكأن صَفْحَة خدَّه ياقُوتةٌ ... وكأنَّ عارضَة خَمِيلةٌ سُنْدُسِ واصله لابن هانئ الأندلسي: عاطَيتْهُ كأْساً كأنَّ شُعاعَها ... شمسُ النَّهارِ يُضِيئُهُ إشْراقُهاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أنظُرْ إليه كأنَّه مُتَنَصَّلٌ ... بجُفونِه مما جَنَتْ أحْداقُهاَ وكأنَّ صفْحةَ خدَّه وعِذارَهُ ... تُفْاحةٌ حَفَّتْ بها أوْراقُها وقوله: خالَسْتُه نظَراً وكان مُورَّداً ... فازْدادَ حتى كاد أن يتَلهَّباَ أنظُر إليهِ كأنَّهُ مُتنصَّلٌ ... بجُفونِه من طُولِ ما قد أذْنَبَا وكأن صفْحَةَ خدَّه وعِذارَه ... تُفَّاحةٌ رُمِيَتْ لتَقْتُل عَقْرباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ومن أربابها المدلجين إلى منازل الفناء، السائرين عند وصولي إلى دار البقاء، الأمجد الاوحد، العلم المفرد: عبد الحق الشامي، المعروف بالحجازي وهو، كما أخبرت به، ذو فضل جسيم، والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم. أما الفصاحة فهو من الغر المحجلين يوم رهانها. وأما الفضائل فهو من السابقين في حلبة ميدانها، المرتضعين در المعالي في حجور الفضائل، المرتدين برود المكارم وشملة الشمائل، العاكفين في حرم العفاف، المعتطفين لجنى الغض القطاف. فمن ثماره المتفتح عنها عيون أنواره، الدالة على طيب المغرس وزكاء المثبت، قوله من قصيدة طويلة: سقَى الرَّبْعَ هَطَّالٌ من المُزْنِ ساكِبُ ... وجادَتْ عليه السُّارياتُ السَّوارِبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 هَدِيَّةُ رَجَّافِ العَشِىَّ كأنه ... كتائبُ تقْفُو إثْرَهُنَّ كتائبُ وكلَّ صَدوقِ البَرْقِ دانٍ رَبابُة ... تنُوءُ فُوَيقَ الأرض منه الهَيادِبُ تُزجَّيه أنْفاسُ الشَّمالِ وتمْترِي ... ضُروعَ عَزَالِية الصَّبا والجَنْائبُ يُرَوَّي بها في سَيْبِه باطِنَ الثَّرَى ... وتُمْحَى لسُقْياها المُحُولُ اللَّوازِبُ كأنَّ هدِيرَ الرعدِ في جَنَبَاتِه ... هديرُ قُرومٍ هيَّجَتْها الضَّوارِبُ كأنَّ دموعَ المُزْنِ وهْيَ سواكِبٌ ... دموعُ مُحِبٍ فارقَتْه الحبائِبُ فذَاك الحيَا لا زال في أرْبُع الحِمَى ... مَريئاً بِهِ منها الزُّلالُ الخَضارِبُ فتُصِبح منه الأرضُ مُخْضَرّة الرُّبى ... مُجلَّلةً بالرَّيطِ منها الأهاضِبُ ويُصبحُ منثُوراً بها رَيَّقُ الحَياَ ... كما نَثرتْ من جِيدها السَّمْطَ كاعِبُ خمائلُ فيها للظَّباءِ مسارِحٌ ... وفيها لأذيالِ الرياحِ مساَحِبُ وفيها لأطْرافِ الغصونِ ونَوْرِها ... عيونٌ علَتْ من فوقِهنَّ حواجِبُ كأن ثُغورَ النَّوْرِ وهْيَ بواسِمٌ ... بأرْجائِهاَ القُصْوى نجومٌ ثوَاقِبُ تَهادَى ظِباءُ الوحْشِ في عَرَصاتِها ... كما تَتَهادَى في القصورِ المرَازِبُ كأن الرُّسوم الدَّارساتِ تَصَبُّرِي ... عَشيَّةَ حُفَّتْ بالقَطِين الرَّكائِبُ فوا أسفاً لا القلْبُ من سَكْرةِ الهَوى ... يُفِيقُ ولا من غَيْبةِ الشَّوقِ آيِبُ فمن لي بحِفْظِ العهدِ من ذِى صَبابةٍ ... أضاعَتْ هواهُ المُذْنباتُ العواتِبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 تهُب معي من هَجْعِة العجْزِ رّبما ... تُنَالُ بأشْفاعِ الجُدودِ المطَالِبُ فقد تُدْرَك الحاجاتُ وهْيَ فوائِتٌ ... وقد تَصْدُق الآمالُ وهْيَ كواذِبُ وقوله:) هدية رجاف (المراد بالرجاف: الماء الجاري،) واصل معناه (المتحرك المضطرب، ولهذا سمي البحر رجافاً، كما قاله أهل اللغة. ولهذا أجاد القائل في مرتعش اليد: ما هَزَّ راحتَه سِوى فيْضِ النَّدَى ... والبحرُ مِن أسْمائِه الرَّجَّافُ وقوله:) وفيها لأطراف الغصون (البيت، كقول ابن نباته السعدي، من قصيدة له، مطلعها: رضِبناَ ولم تَرْض السيوفُ القواضِبُ ... نُجاذِبُها عن هامِهِمْ وتُجاذِبُ ومنها: خلَقْنا بأطْرَافِ القَنا في ظُهورِهْم ... عُيوناً لها وَقْعُ السُّيوفِ حَواجِبُ وتابعة أبو إسحاق إبراهيم الغزي، فقال: خلَقْنا لهم في كلَّ عيْنٍ وحاجبٍ ... بسُمْرِ القَنا والبِيضِ عَيْناً وحاجِباً وهنا لنا فائدة نفيسة، وهي ان من أهل المعاني من ادعى أن بيت الغزي أبدع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 لما فيه من الطباق بين السمر والبيض، ورد العجز على الصدر، واللف والنشر، ومراعاة النظير. وادعى انه يجوز أن يراد بالعين فيه الرئيس، وبالحاجب من يتبعه وحجابه، والمعنى أن رماحنا وسيوفنا نالت الحاجب والمحجوب، والرئيس والمرءوس، مع اشتماله على التورية والاستعارة، وهو جمعيه مما خلا عنه البيت الأول، مع ما فيه من الافتخار بقتال الأعداء الثابتين، دون المنهزمين، ف انه لا يفتخر بمثله. وبهذا عيب البيت الثاني أيضاً، وان ذكر صاحب) إيضاح المعاني (انه ابلغ لاشتماله على زيادة معنى، وهو الإشارة إلى انهزامهم، وأطال فيه وأسهب، وبعد وقرب. والحق ما ذهب إليه خطيب المعاني، فان الفضل للمتقدم، وبيت النباتي، أحلى لما فيه من التشبيه البديع، بجعل اثر الطعنة المستديرة) من الرمح (عيناً، وشطبة السيف فوقها حاجباً، والأغراب بجعل الظهر محل العين والحاجب. وأما انهزامهم فلا يدل على عدم شجاعتهم، حتى يخل بالفخر؛ فان الشجاع ينهزم ممن هو أشجع منه، ولهذا قالوا:) الفرار مما لا يطاق من سنن المرسلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 (كما فر موسى حين هم به القبط. وما ذكره من معنى العين والحاجب سخيف، وتخيل ضعيف،) مع أن جعل الضرب في العين والحاجب من العجائب (. وقد مر لي ما نحوت فيه نحو ابن نباتة بعينه وحاجبه، وهو: وتنْظرُه في قلِبيَ الصَّبَّ أعينٌ ... عليْها لَمحْنَّىِ الضُّلوعِ حواجِبُ وما ذكر من النقد عليه نقله ابن الشجري في) أمياله (عن الشريف المرتضى، وقال: انه عاب عليه قوله:) بظهورهم (وقال: لو قال:) بصدورهم (كان امدح؛ لان الطعن والضرب في الصدور أدل على الإقدام والشجاعة للطاعن والضارب، والمطعون والمضروب، لان الرجال إذا وصف قرنه بالإقدام مع ظهوره عليه، كان امدح من وصفه بالانهزام، كما قال أبو تمام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 حَرامٌ على أرْماحِنا طَعْنُ مُدْبرٍ ... وتنْدَقُّ في أعْلَى الصُّدورِ صُدورُهَا ولذا قال بعض المحققين: القول بان قد للتكثير في قوله: قد أتْرُكُ القِرْنَ مُصفَرَّاً أنامِلُه ... كأنَّ أثْوابَهُ مُجَّتْ بفِرْصادِ لمناسبة مقام المدح، من قصور الفهم. رحلة المؤلف إلى حلب ثم لم أزل أتوكا على البيضاء والصفراء، وأقيل تحت قباب الخضراء والزرقاء، حتى قذفتني لهوات المهامة إلى حلب الشهباء، والناس بين مقوض وراحل، وما هذه الأيام إلا عقب ومراحل، إذ ذهب الذين يعاش في أكنافهم كل مذهب، وبقيت في خلف كجلد الأجرب، إن تركته أذى جسدك، وان حككته أدميته ولوثت يدك. على أنَّنِي مِن بعد ذلك كلَّهِ ... وللهِ منَّى الحمدُ عِرْضِىَ أمْلَسُ فألقيت فيها عصا التسيار، عن كاهل العزائم، لما تفتحت بها عن زهرة المسرة خضر الكمائم، فإذا هي روضة مخضرة الأفنان، أو قطعة من الفردوس أهدتها لنا الجنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وكأنَّما الخْضراءُ من طَرَبِ بها ... نثَرتْ كواكبَها على الأغْصانِ ولها حصن كأنه وكر لنسر السماء، أو هامة معممة) بسحابة د كناء (. أرضها مفروشة بديباج نبت مرصع بالزهور، وحيطانها مجللة بستائر البهاء والنور. نسيمها أعطر من عرف شميمها، وأهلها الطف وارق من نسيمها، من كل فاضل ملئت بالفضل ثيابه، وما جد قد حشى بالكرم أهابه، وأديب رقت شمائله. فلولا البُرْدُ يُمْسِكُه لسَالاَ وعذبت كلماته ورسائله. فأرْشَفَنا على ظماءِ زُلالا فكان ممن لمعت بوارق بشره، وباحت خواطر نسيم لطفه بأسرار نشره، الفاضل الكامل، المرتدي بحبر الشمائل، العاكف في حرم الافادة، الطالع نجمه من أفق السعادة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 أبو الوفاء بن عمر بن عبد الوهاب الشافعي، العرضي الحلبي فلقيني منه حبر مجيد، وأديب يضع القلادة في الجيد. له فضل لم تنظر عين الدهر لمنافيه، بل كلما أجال طرفه رأى كل المنى فيه، فإذا واد خصيب النوى والثمر، وحديقة منمنمة الأطراف والطرر، سقتها غمائم نداه، وباكرها صيب جدواه، بلا منة لحوامل السحائب، ولا انتظار لقوافل الصبا والجنائب. صرف نقد أوقاته، وراس مال عمره وحياته، في تحصيل ربح الفضل والعبادة،) وترك فضل العيش وفضول الناس لما رأى في تركهما من السعادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 (،) وراى في (كل بكرة وعيشة، حبلى جنين نوائبهما في مشيمة المشية. ولما شمت كرمه وسيبه، وردت ربيعاً زر عليه جيبه، انتدب لملاقاتي، وابتدر وخير أنوار الربيع ما بكر. وكتب إلى مادحاً، ولزند فكري قادحاً قوله: أرَى الشَّهْباءَ للعَليا قِباباً ... ألم تَر أُفْقَها أبْدَى شِهاباَ وقبلُ كسَتْ معالِمَها الدَّياجِي ... مُسَرْبِلةً ذُرَاها والهِضاباَ وكدَّرَ صَفْوَ منهلِها قَتامٌ ... أحال شرابَها الصَّافِي سَراباَ وجرَّعَها كُؤوسَ الجَوْرِ صِرْفاً ... ولو سُقَىِ الغرابُ بها لشاَباَ وكان الجهلُ مُتَّسِعَ الفَيافِي ... يَضِلُّ الألمِعيُّ بها الصَّواباَ وضاق العلمُ ذَرْعاً حين سُدَّتْ ... مناهِجُه وضاق بها رِحاباَ تُعلَّلُها المطامِعُ كاذباتٍ ... وكم عادتْ سحائبُها ضَباباَ إلى أن حَلَّها رُوحُ المعالِي ... وطَوَّقَ عِقْدَ مِنَّتِه الرَّقاباَ إمامُ العلمِ بحْثاً واكْتساباً ... مُشِيدُ الفضْلِ إرْثاً وانْتشاباَ فَواصَلها بغيرِ سباقِ وَعْدٍ ... وفاجَأَها بنِعمتِه احْتساباَ فأهْلأ بالذي منه اسْتنارَتْ ... معالُمها وقد عَزَّتْ جَناباَ وقد وَطِئتْ على هَامِ الثُّريَّا ... ونظَّمتِ النُّجومَ لها نِقاباَ فقَرَّ بِها وقَرَّ بها وِداداً ... وقَرَّ عُيونَ أهْليها اقْتِراباَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وقد ظفِرتْ بكَنْزِ المجدِ حتَّى ... أحال التَّبْرَ للذَّهبِ التُّراباَ وفاضَ بحارُ كفَّيْهِ علوماً ... وأتْبَعها بمنْطقِه عُباباً ونَصَّر وجْهَ روض الفضل لَّما ... سقاهُ من فوائدِه رَباباَ قد ازْدحَمتْ بمَوْردِه عُفاةُ ال ... فضائلِ حين ما ساَل انْصِباباَ وقد ملأُوا رَكاياهُم ورَامُوا ... ذخائرَه انْتهازاً وانتْهاباً إذا جال السُّؤالُ بفكرِ شخْصٍ ... قُبَيلَ النُّطقِ لَبَّاهُ جواباَ فيا ذُخْرَ العلومِ فدَتْكَ نفْسِي ... ونادَتْك العُلا تَبْغى الثّضوَاباَ أقِلْ قلَمي عِثاراً زلَّ فيه ... فما وَفَّى المديحَ ولا أصاَباَ وكنتُ نبَذْتُ شِعْرِي في قِفارٍ ... نسيتُ الأُنْسَ منه حين غاَباَ إذِ الأيَّامُ قد رفَعتْ بُغاثاً ... فحالَت أنّها تُرْقِى العُقاباَ وظنُّوا أنهمْ كنَزُوا علوماً ... وأيْمُ اللهِ ما ملَكوا نِصاباَ أأمْدحُ مَن بنَظْمِي ليس يَدْرِي ... حَبيباً قد أردْتُ أم الحَبْاباَ وكان القصدُ من قَصْدِي تُجازَي ... من الممدوحِ لو فهِم الخِطاباَ لولا أنَّك السَّامي مقاماً ... له الأفْلاكُ طَأْطَأتِ الرَّقاباَ وكان بمَدْحِك العالي افْتِخارِي ... لما ذَهَّبْتُ بالمدحِ الكِتاباَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 فدُمْ يا زِينةَ الدُّنْيا بمجْدٍ ... تقنَّعت العُلا منه احْتجاباَ ثم كتب بعدها: لقد طفحت أفئدة العلماء بشرا، وارتاحت أسرار الكاملين سراً وجهرا، وأفعمت من المسرة صدور الصدور، وطارت الفضائل بأجنحة السرور، بيمن قدوم من اخضرت رياض التحقيق بأقدامه، وغرقت بحار التدقيق من سحائب أقلامه، وتلألأت غرر المباحث اشراقاً، واجريت مسائل الطالبين في ميادين التوضيح سباقاً. أعنى به جهينة أخبار العلوم، وخازن أسرار المنطوق والمفهوم، المؤسس لدعائم الأحكام فرعاً واصلاً، والسابق في مضمار التحقيقات منذ كان طفلاً. وقد خدمته بهذه القصيدة التي كتبتها عجلاً، وكنت أضمرت إلا أفوه بكلمة منها خجلاً،) لكن ظننت بالمولى كل جميل، ورأيت سترها بذيلي السماح والصفح) من فضله الجزيل. هذا وان العبد كتب تاريخاً سماه) معادن الذهب، في الأعيان) المشرفة بهم حلب سيعرض بعضه عليكم، ويؤتي بأنموذج منه لديكم، وجل القصد أن تكتبوا إلى نسبكم وأشياخكم، ومقروآتكم، وبعض شيء من المنظوم والمنثور، لنطرز حلله بطراز المأثور. والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وأنشدني من شعره قوله: بوَرْدِ الخدّ رَيْحانٌ مُحِيطٌ ... وتَرْكِي حُبّه لا أستطِيعُ وقلتُ النفسُ خَضْراً يا عَذُولي ... كما قد قلت والزّمن الرّبيعُ وهذا مثل عامي، يقولون:) النفس خضراء، تشتهي كل شيء (. وقولهم:) تشتهي (الخ، جملة مفسرة لخضراء. وكان اصله ما ورد في الحديث:) أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 أخوه محمد بن عمر العرضي فاضل نجيب حسيب، صحبني وبرد سبابه قشيب، وغصنه في رياض المعالي رطيب: إذ غُصنُ ذاك الشبابِ مُعْتدِلٌ ... لم تطْمَعِ الحادثاتُ في مَيَلِهْ ومخايل النجابة عليه لائحة، وطيور البلاغة في قفص سطور خطه صادحة، بكل ما هو اسر من التهاني، وأمان الظافر بالأماني، وحلل فضله زاه بآدابه طرازها، وعدات الدهر فيه قد حان انجازها، وقد يجود البخيل الشحيح، وكم لاح تحت الرغوة من لبن صريح. فلم تضل فيه الظنون، لما قضت ما في ذمته من الديون، وفكت ما عندها من مغلقات الرهون. فأنشدني من مقطعاته، واهدي إلى من مخبآته قوله: لم أزلْ من صَحيفةِ القلبِ أمْليِ ... في دُجَى الاغْتِرابِ سَطْرَ مِثالِكْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ناصباً هُدْبَ جَفْنِ عْيني شِباكاً ... فعسَى أن أصِيدَ طَيْفَ خيالِكْ وقوله: يا ليلةً طَالَتْ على عاشقٍ ... باتَ من الوجْدِ على جَمْرِ كليلةِ الميلادِ في طُولها ... تسِحُّ فيها العينُ بالقَطرِ كأنها ثِكْلَى جَنِينٍ لها ... أغرَّ قد سمَّتْه بالفجْرِ وقوله أيضاً: ارْفُقُوا فالْفؤادُ ليس بجَلْدٍ ... وارْحموا ذلَّتي وطولَ عَوِيلي أنا شحَّاذُ حُسنِكم وعيونِي ... يا غُناةَ الجَمالِ كالكَشْكُولِ وقوله أيضاً: قال لي الحبُّ لِمْ وضعْتَ على الأنْ ... فِ عُيوناً وفي عُيونِك مَقْنَعْ قلتُ مذ خَطَّ كاتِبُ الحسنِ نُوناً ... فوقَ ثَغْرِ كحاجبْين وأبْدَعْ فجعلْتُ العيونَ أرْبَعَ عَلَّى ... أن أرَى يا رَشاً حواجبَ أرْبَعْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وقوله أيضاً: ما قَصُرتْ تلك الليالي التي ... في جُنْحِها بِتُّ سَمِيرَ المِلاحْ لكنَّ أشْواقِي لذاك الرَّشا ... قد عَالَجَنْتِي خوْف وِشْكِ البَراحْ شقِقْتُ جَيْباً كالدُّجَى حالِكاً ... عن صَدْرِه فانْجابَ عنه الصَّباحْ وقوله أيضا: قد رَماني بالهُونِ ساقِي زَمانِي ... فكأنَّي دِرْدِىُّ كاسِ المُدامِ فأرَاقَتْنَي النَّدامى بُظلْمٍ ... في الزَّوايا ومَوْطِئَ الأقْدامِ وقوله أيضاً: عاب قومٌ شُرْبَ المُدامِ ولم يَدْ ... رُوا بأنَّ التَّعْييب عَيْنُ العُيوبِ جَبْرُ قلبِ الأقْداح بالرَّاحِ خَيْرٌ ... في اعْتقادِي من كسْرِ كأسِ القلوبِ وقوله: إن ذاكَ الرَّشَأ الخِشْفَ الذي ... مات عنه وَالِدٌ فهْوَ كَظِيمْ زادَه مَوْتُ أبيهِ قِيمَةً ... كان دُرَّا فغَدا اليومَ يتيمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وقوله أيضاً: قد زَهِدْنا عِشْقاً لدِينارِ خَدٍّ ... سَبَكَتْهُ حُسْناً يمينُ البَارِي وتركْتُ النَّوالَ والمالَ علَّى ... أن أرَى فيه مَالِكَ الدَّينارِ وقوله أيضاً: كان عهْدِي بالرُّوم فيها يَضُوعُ ال ... عِلْمُ والآن ضاع فيها العُلومُ شَّيبتْ فَوْدَ سيَّدِ الرُّسْلِ هُودٌ ... ولقد شَّيَبتْ فؤادِي الرُّوم وقوله: كأني وآمالي إذا ما تقَهْقَرتْ ... وبَرْقُ أمانِيّ سَرابٌ وخُلَّبُ عَروسٌ تُجِيد الرَّقْصَ حيناً إلى وَرَا ... وحيناً إماماً وهْيَ بالبَيْنِ تَلْعَبُ وقوله مُضمناً: السَّيفُ لَّما حكاه لْحَظُ ناظِرِه ... ناديْتُه بِلسان في الهوِى لَهِجِ لكِ البِشارةُ فاخْلَعْ ما عليك فقد ... ذُكِرت ثمَّ على ما فيك من عِوَجِ وقوله: أيُّها الرَّيمُ هل تَرِيمُ بنَظْرَةْ ... عَلَّ يصحُو الفؤادُ مِن بَعْدِ سَكْرَهْ بأبي أنْتَ غُصنُ باَنٍ تثَنَّي ... وغدَا يمزُجُ الدَّلالَ بخَطْرَهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ألِفُ القَدَّ زانَها نُقْطةُ الخْا ... ل فأضْحَى وواحدُ الحسنِ عَشْرَةْ عارِضٌ أخضرٌ وبِيضُ ثَنايَا ... سَوَّدَا وجهَ عِيشَتي بعد خُضْرَهْ أنت زَهرٌ غضٌّ وقلبي كَمامٌ ... فلماذا أوْقَدْتَ بيْتَكَ جَمْرَةْ زرَعتْ مقلتِي بخدَّيْكَ وَرْداً ... فأجِنْيِ قِطافَ زَرْعِيَ زَهْرَةْ يا أبا عُذْرةَ الملاحةِ إني ... بين مَوْتَي هَواكَ من حَيَّ عُذْرَهْ كَعْبةُ الحسنِ كلَّ وقتٍ إليها ... في ركابِ الُمنَى أحُجُّ بِفِكْرَةْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ووالد هذين الفاضلين الحبر، علامة زمانه، شيخ الإسلام عمر بن عبد الوهاب العرضي نسيج وحده، وفريد فضله ومجده. بحر لا تكدره الدلاء، ولا تنزف بعض موارده الملاء. لم يزل صدراً للإفادة والإفتاء بحلب، ترعى في ربيع فضله سوائم الطلب. وتآليفه وتصانيفه تنقلها الركبان، وتقف دونها سوابق الحسن والاستحسان. حتى رقى شرف السبعين، وصعد إليها بدرجات السنين، رافلاً في حلل الغنى، حتى جر الدهر عليه أذيال الفنا. وهو آخر من صنف بحلب، وأفاد، وأجاد. ومن اجل مصنفاته) شرح الشفاء (في مجلدات، ولنا عليه اعتراضات، بيناها في) شرحنا (. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وله نظم ونثر، كقوله في) شرح) الكافية للجامي، وله عليه) حاشية جليلة (: لِلِه دَرُّ إمامٍ طالما سَطَعتْ ... أنوارُ أفْضالِه من عِلْمِه السَّامي ألفاظُه أسْكرَتْ أسْماعَنا طَرباً ... كأنها الخمرُ تُسْقَى من صَفَا اللجاَمِ ولشيخه محمد بن الحنبلي فيه أيضاً: لِكافيةِ الإعراب شرْحٌ مُنقَّحٌ ... ذَلولُ المعاني ذُو انْتسابٍ إلى الجَامِي معانِيهِ تُجْلَى حين تُتْلَى كأنما ... هي الخمر تبدُو شمسُها في صَفَا اللجاَمِ ولصاحبنا الشيخ عبد الله الدنوشري: للِه شَرْحٌ به شَرْحُ الصُّدورِ لنا ... كأنَّه الدُّرُّ أو أزْهارُ أكْمامِ قد أسكرَ السَّمْعَ إذ تُتْلَى عجائبُه ... والسُّكرُ لاغَرْ وَمعروفٌ مِن الجاَمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 صلاح الدين الكوراني الحلبي فاضل، شاعر، ناظم، ناثر، مكثر، مسهب، مطرب، معجب. رايته بحلب يعاني حرفة الوراقة، ويكتب للقضاة الوثائق التي شدت وثاقه، وقد قيده الكبر، وعاقه الدهر أبو العبر، فحجل بين الغرائب والرغائب، وفتل بيد فكره في الذروة والغارب، وهو في مهد الخمول راقد، فمرت به النوائب وهو على طريقها قاعد. وقد كان امتدحني بعدة قصائد، منها قوله: شِهابُ المعالي قد أضاءَتْ به الشَّهْباَ ... وقد أطْلَعتْ من غُرَّ أفكارِه الشُّهْباَ ومن قبلُ أخْبارُ الثَّناءِ تواتَرتْ ... وقد ملأتْ أسماعَنا لُؤلُؤاً رَطْباَ وكان التَّمَنَّي أن يُطابِقَ سْمعُناَ ... نواظرَنا واسْتغرقَتْ قلْبَنا حُبَّاً وقد أعْرَبتْ ألفاظُه مَعْ تأخُّرٍ ... عن السَّبْقِ حتى فاقَتِ العَرَبَ العَرْباَ فمن منطقٍ عذبٍ وفضلٍ مُوجَّهٍ ... إلى المدح إيجاباً وللحاسدِ السَّلْباَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 بنَي غُرَّ أبْحاثٍ له قد تأسَّسَتْ ... فلم يستطِعْ باغِي الجوابِ لها نِقْبَا إذا كان منه الفهمُ في البحْثِ سابقاً ... وذلك منه لا يفارِقُه دَأْباَ فأهلاً بَمن يحْيا به مَشْرِقُ العُلا ... وقد كان كالعَنْقاء جاوَزتِ الغَرْبَا ومن حلَبٍ كان الفِطامُ من الُمنَى ... فقد يبِسَتْ منها ضُروعُ الُمنَى حَلْباَ إلى أن أتاحَ اللهُ بعضَ بقيَّةٍ ... من الحَزم حتى زَاحَمُوا المنْهَلَ العَذْبَا فتَبَّاً لمن قد زاغَ عن وُدَّه وقدْ ... تبَدَّى ثَبُوتَ القولِ إذ أظْهَروا اَلحرْباَ ومُذ قدأتَي هذا الزَّمانُ بمْثِلهِ ... لبيباً عِلمْنا أنه قد حَوى لُبَّا قدِ اغْدَوْدَقتْ يُمْناه من بَرْقِ بِشْرِه ... وقد سحَبتْ غُرُّ المعالي له سُحْباَ وأسْقَت أيادِي فضْلهِ سُحُبَ النَّدى ... وقد غرَستْ من حُبَّه في الحشاَ حَبَّاً له قلمٌ إن ينْفُثِ السَّحْرَ نافعاً ... فما ضَرَّهُ أن لا يغادِرَه عَضْباً فيا مَن له في مصرَ والشام هِمَّةٌ ... وباَعٌ طويلٌ يَبْهَر الرُّوم والعُرْباَ على حلَبٍ لَّما قدِمْتُم تبسَّمَتْ ... ثغورُ مبانِيها وتاهَتْ بكم عُجْباَ وأبناؤُها القومُ الذين مُرادُهمْ ... وِدادٌ ولا يبْغُون مالاً ولا كَسْبَا على ذا مَضى عهدُ الأخِلاَّءِ والذي ... يرُومُ خِلافَ الوُدَّ يستَوْجِبُ السَّبَّا وأشكُو إليكَ الدهرَ عَبْدَك إنَّنا ... نُسائِلُه سِلْماً يجاوبُنا حَرْباً وكم قَعَدتْ عن سبْقِها كلُّ صافِنٍ ... تُساَبِقُها العَرْجاَ وتَلْحَقُها اَلحدْباَ وإنَّي على فِعْلِ الزمانِ لواجدٌ ... بُكاءً على الخنْساءِ في صَخْرِها أرْبَى وقد زَعَمُوا أن الدُّخانَ مُجَفَّفٌ ... فداوَيْتُ دَمْعي في تَناوُلِه شُرْباَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وفي كلَّ معْنَى فيه قد رَقَّ رِقَّةٌ ... أُعلَّلُه مَن كان سارَقَه غَصْباَ وعبدُك ذيَّاك الصَّلاحُ مُقصَّرٌ ... بمدْحِك لكن لا يقولُ به كِذْباً ولو لم يكن قَيْدُ الكتابةِ عائقي ... وثقلةُ توقيعي الوثائقَ والكُتْباَ لحاولْتُ من عَجَّاج فِكرِك قَطْرةٌ ... كما يشْرَبُ العُصفورُ من مائِه عَبَّا فكيفَ وقد أصْبَحتُ عبداً مُكاتَباً ... ولا عِتْقَ لي حتى أرَى الَّلحْدَ والتَّرْباَ فلا زلتَ في أعْلَى مقامٍ إذا حدَتْ ... حُداةُ حِجازٍ في السُّرَى تُطْرِبُ الرَّكْباَ وأنشدني له: لَعمرُكَ لم أشْرَبْ دُخاناً لأجْلِ أنْ ... تُسَرَّ به نفسٌ تدَانَي خُروجُهاَ ولكن زنابيرُ الهموم لَسَعْنَنِي ... فدَخَّنْتُ حتى يسْتَبِين خُرُوجُهَا ولما أنشدني هذا، أنشدته قطعاً لي في معناه. منها قولي: ما شرِبْتُ الدُّخانَ إذ سِرْتُ عنكُمْ ... لِتَلَةٍّ به عن الأحْزانِ أحْرَقتْني الأشواقُ فالقلبُ منها ... صار بالوجْدَ مَخْزَنَ النَّيرانِ فخشِيتُ الأنْفاسَ تَفْضَحُ حالِي ... فلهذا ستَرْتُها بالدُّخانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 السيد احمد بن النقيب الحلبي سيد عجنت بماء الوحي والنبوة، وغرست نبعته في ساحة الفضل والفتوة، له مناقب هي الوشى حسناً وبهجة. إذا نُشِرتْ كانت مُمَسَّكةَ النَّشْرِ وغرائب رغائب في الكرم واضحة المحجة. يظَلُّ بها مُستْعبِدَ النَّظمِ والنَّثْرِ اجتليت بحلب محياه، فأكرمني بجوده ونداه، ومدحته شكراً لما اولاه: وكذا الهاشِميُّ مثلُك لا يُمْ ... دَحُ إلا بهاشَمِي الكلامِ فاستعار) ديواني (، واشتغل بمطالعته وانتخابه، وفي اثناء ذلك دعوته فلم يجب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ثم لا فيته فاعتذر بعد عتابه، بان اشتغاله بالديوان) منع من الملاقاة، وأنشدني له هذه الأبيات: وحقَّك لم أتْرُكْ زيارةَ سَّيدِي ... لِلَوّ يَعُوقُ النفسَ عنه ولا لَيْتِ ولكن بديوانٍ له قمتُ خادماً ... وقد كان فكْرِي قبلَ ذل كالميْتِ فأدْهَشني حُسْنٌ به ظَلْتُ حائراً ... فأدْخلُ في بيْتٍ وأخرجُ من بَيْتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 القسم الثاني محاسن العصريين من أهل المغرب وما ولاهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 مولاي أحمد أبو العباس المنصور بالله ابن الخليفة أبي عبد الله المهدي بن عبد الله القائم بأمر الله الشريف الحسني: مِن جَوهرِ النبيُّ محمدٌ ... فعليه من نُورِ الإله بَهاءُ ملك الآن، المطوف بفضائله وفواضله جيد الزمان، أنام جيد الزمان، أنام الأنام بيقظة حراسته في حرم، فقالوا في ظل ظليل تحت رياض السعد والكرم. وعطاياه تمائم الفقر واسمه عوذة النقم، وبشر محياه لكل ندى وجود سلم. وله شرف تحسده الشمس في الشرف، وجو جود إذا وكف أقلع السحب عن مجاراته وكف. معدن مجد وحسب، وجوهر سيادة ونسب، جمع بين نزاره ومعده، باع تمد به النبوة والخلافة قبل مده: نَسبٌ تحسَب العُلاَ بحُلاه ... قلّدتْها نجومَها الجوزاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 بدرٌ اتَّخذ أُفق المغربِ هالَة، وبحر ... أفاضَ على كل واردٍ نوَالَه. له كتائبُ آراء الألبابُ سلبها، وبوادر همم ليس إلا الأرواح طلبها. لا تزال تخاطبه، من كل أمر عواقبه، بكلام بين عبيد ولبيد، وحبيب والوليد. أخبرنا الأديب الفشتالي، بقسطنطينية، أنه لما دعت والده شعوب، ووفدت عليه بوارح الخطوب، وجلس أخوه الأكبر مسند الخلافة وسريرها، وظل متزها في روضتها وغديرها، أظهر أنه للملك غير طالب، وأنفق رأس عمره في فتح كنوز العلم والمطالب. فلما مات أخوه قام ولده في محله، واستولى عليه الغرور بخيله ورجله، فأرخى عليه الشباب، ستارة حجبت عنه الصواب، وأشار عليه بعض خدامه، بقتل من بقي من أعمامه، ليصفى من قذى الأكدار ورده، ولم يدر أن من شرب وحده غص وحده، فمد شباك مكائده، وهي من أعظم مصائده، كالحافر بظلفه، على مدية حتفه. وأنّى تُنجِّيهِ من الشرِّ حِيلةُ ... وقد طال ما أوْدَتْ بمُحتالِها الحِيَلْ فلما علم بذلك مولاي أحمد وجف مع أخيه بجيش من الروم وجيش من عنده، قائلا: إن ينصركم الله فلا غالب لكم من بعده، فتمت على ابن أخيه الهزيمة، وعلقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 على جيد تدبيره من الخذلان تميمة، فأصبح لعنان عزمه ثانيا، وذهب لملك الفرنسيس فأمده بما رجع به للحرب ثانيا. فلما التقت الكتيبة السوداء بالكتيبة الخضراء، أقلعت سحابة النقع بعد ما أمطرت ديمة الدماء الحمراء، فكم أسير في غل ندمه، وقتيل طلع بدره في شفق دمه. فما أكثر القتلى وما أرخص الأسرى فولج البحر وأغرق نفسه في ماء الغمر، وقال لقصير عمره بيدي لا بيد عمرو. فقلصت السعادة عنه ظلها، وعقد المحس له عقدة لم يذكر عاقدها حلها، ومله الملوان، وضحك على أمله الخذلان، فتبرجت لأحمد عروس تلك الممالك مهنأة بالرفاء والبنين، وأمست ثغورها لنور محياه ضواحك متهللة بالفتح المبين. فما ألم بتلك الثغور قلحٌ إلا جلاه بمساويك الرماح، ولا نبض عرق كفر إلا فصده بمباضع الصفاح. مع دخوله بيوت الفضل من أبوابها، وتحليه دون ملوك الزمان بحلى آدابها، حتى أنه كان يحضر دروسها، ويحيى بمنطقه الرائق دروسها، ويطلع في سماء ديوانه شموسها. وله شعر وإنشاء، بهما طرز المجد موشى، فهو رب السيف والطيلسان، والقلم المسدد والسنان. لازال المغرب به كامل الأهلة، والشمس تسعى له لتخدم بالسعد محله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 فمن عقده المنظوم، ورحيق أدبه المختوم، قوله: حرامٌ على طَرْفٍ يراهُ منامُ ... وحَلَّ لجسمٍ قد خفاهُ سِقامُ وكيف بقلبٍ في هواهُ مُقلَّبٌ ... وأنَّى له بين الضُّلوعِ مُقامُ فيا شادِناً يرْعى الحشاَ أنت بالحشاَ ... أما لٍمَحَلٍّ أنتَ فيه ذِمامُ وأحسن من هذا قول الأرجاني، في معناه: يرْمِي فُؤادِي وهْوَ في سَوْدائِه ... أتراهُ لا يخْشَى على حَوبائِهِ ومن البليَّةِ وهْوَ يرْمِي نفسَه ... أن يطمعَ المُشتاقُ في إبْقائِهِ وهاهنا نكتة أدبية، وهو أن الأرجاني أخذ هذا المعنى من قول الحماسي: قوْمي همُ قتلُوا أُمَيْمَ أخِي ... فإذا رميْتُ يُصيبُني سَهْمِي إلا أن هذا لا يُعد سرقة، وإنما هو توليد وانتقال من معنى لآخر يضاهيه، وهو من سحر البلاغة واستخراج مخبآت كنوز المعاني، وقل من يهتدي إليه لدقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وكانت بعض حظاياه عليه غضبى، وهي مجردة عليه من هجرها عضبا، فأهدى له حرسي وردة من بستانه، وحياه بشير الربيع بنشرها قبل أوانه، فأرسلها إليها مع أبيات يسترضيها، ويستعطف غصن قامتها بنسيم العتاب ويستعفيها: وافَى بها البستانُ صِنْوُكِ وردةً ... يْقضِى بها لما مطَلْتِ عهودَا أهْدَى البَهاَرَ محاجِراً وأنى بها ... في وقتِه كيما تكونَ خُدودَا فبعثْتُها مُرتاةً بنسيمها ... تُثْنىِ من الرَّوضِ النَّضيرِ قُدودَا وهو في هذا كمن أهدى للبحر الدر، بل للروض الزهر، ولا أقول التمر لهجر. وقوله أيضا: لا وطرفٍ علَّم السيفَ فقَدّ ... في قَوام كقَنا الخَطِّ مَيَدْ ووميضٍ لاح لمَّا ابْتسمَتْ ... من ثَنايا مثْلِ دُرٍّ أو بَرَدْ ما هلالُ الأُفق إلا حاسدٌ ... لعُلاها وبَهاها والغَيَدْ ولذا صار ضئيلاً ناحلاً ... كيف لا يفْنَى من حَسَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وللقطب المكي على منواله: لا وفَرْعٍ كدُجى الليلِ غَسَقْ ... وجبينٍ ضَوؤُه ضوءُ الفَلَقْ ومُحيّاً كَلِف البدرُ به ... وخدودٍ من حَوالَيْها شَفَقْ ما أرى الغِزلان إلا سَرقتْ ... منكِ جيداً والْتِفاناً وحَدَقْ ثم خافَتْ فتولَّتْ شُرَّداً ... كيف لا يشْرُدُ خوفاً مَن سَرَقْ ومما بسجته على منواله: لا وغضنٍ راقَ للطَّرْفِ وَرقَ ... وعليه حُلَلُ اللطفِ ورَقْ وشموسٍ لم تغِبْ عن ناظري ... والشعورُ الليلُ والخَدُّ الشّفَقْ وعُيونٍ حَرَّمتْ نومِي وما ... حللَّتْ لي غيرَ دمْعِي والأَرَقْ ما اْحمِرارُ الَّراح إلا خَجلاً ... من رُضابٍ سِكرتْ منه الحَدَقْ والذي قد حسَبوه حَبَباً ... فوقَ خدَّ الكأسِ قطراتُ العَرَقْ ) تنبيه (هذا القسم عده أهل البديع من المحسنات كقول عبد الله بن المعتز: لا ورُمَّانِ النُّهودِ ... فوق أغْصانِ القُدودِ وعناقيدَ من الصُّد ... غِ ووَرْدٍ من خُدودِ ورسولٍ جاء بالميِ ... عادِ من غيرِ وَعيدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ونعيمٍ من وِصالٍ ... في قفاَ طُولِ الصُّدودِ ما رأتْ عيني كعِيدٍ ... زارَني في يوم عِيدِ وقد أشار إليه في) الكشاف (ولم يفهمه كثير من الأدباء؛ لأنه من المعاني الوضعية فلا وجه لجعلها محسنة. وقد بينه الإمام المرزوقي بما لا مزيد عليه، في شرح قوله: بَقَّيْتُ وَفْرِي وانحرفتُ عن العُلاَ ... ولَقيِتُ أضْيافيِ بوجْهِ عَبوسِ إن لم أَشُنَّ على ابن حربٍ غارةً ... لم تَخْلُ يوماً من نِهابِ نُفوسِ فأشار إلى أنه جعل ما يذم به من الصفات سواء اتهم اتصافه بها أم لا؛ لغاية تنفره عنه، بمنزلة المصائب العظيمة عنده، ثم يجعل مقسما به، تأكيدا لعظيم فظاعته، ففيه كناية عن كناية، أو كناية مرتبة عن المجاز، وهو كثير كقوله: لئن كان ما بُلّغتَ عَني فلاَمني ... صديقيَ شَلَّتْ من يَدَيَّ الأناملُ وهذا هو القسم المعدود من المحسنات، وكذلك إذا أقسم على الشيء بنفسه، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 بمساويه كقوله: وثَناياكِ إنها إغْرِيضُ وقد ذكره الزجاج، وفيه مباحث أخر، ليس هذا محلها. وأخبرني الأديب الفشتلاني، أنه أنشده يوما قول الإبيوردي: ولو أنّي جُعلتُ أميرَ جيشٍ ... لما حاربْتُ إلاَّ بالسُّؤالِ فقال صاحب الترجمة: لو كان الشعر لي لقلت: ولو أنّي جُعِلتُ أميرَ جيشٍ ... لما حاربْتُ إلاَّ بالنَّوالِ وفي معناه قولي في بعض الرسائل: أعز حصون العباد، ظهور المطهمة الجياد، وخير من ذب عنك العدى، من ملكت قلبه بالندى. ونحوه قولي: بنَيْتُ حصوناً تصُون العُلاَ ... إذا ما بناءُ الملوكِ إنْهَدمْ حصوناً من العدلِ من حولها ... خنادقُ فيها مياهُ الكرمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ولابن الرومي، من قصيدة له: وحاربَ مِن نَعْمائِه رَيْبَ دهْرهِ ... من البَّر والمعروف جُنْدٌ مُجنَّدُ ولما بلغه) شرح توضيح إبن هشام (الذي صنفه الأستاذ الخال، في مجلدات، أرسل إليه عطية جزيلة، ورجا منه إرسال نسخة منه. وصور ما كتبه إليه: من عبد الله المجاهد في سبيله، الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين، الشريف الحسني، أمد الله بعزيز نصره أوامره، وظفر بنصره عساكره. إلى الفاضل الذي إذا نحا من العلوم نحوا رفع علمه توضيحا، وجاز تاليا وهو المقدم، ما تمحض من الخلاصة تنقيحا، وشرح ما خفي إبانة وتصريحا الفقيه المثيل، المتقن المتفنن، لازال يعمر من دست العلم منصه، يعمل في ميدانها وخده ونصه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 أما بعد حمد الله الذي ألهم تثقيف أود اللسان، وفتق منه بالبيان رتقا، وصرف حكمة الإعراب على ألسنة الأعراب، فامتد شأؤها في مجال الإبانة طلقا، وأجرى جياد مقاييسه المطردة فلم يتخلف لاحق عن متقدم سبقا. والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد الذي أرصده سببا للسعادة سفيرا، ودحض به قوادم الشرك فأصبح مهيضا كسيرا، وأعاض جمعه من السلامة تكسيرا، والرضا على آله وأسرته الغر الزهر الذين ينمو شذا ذكرهم عبيرا، ويروق طراز مجدهم حبيرا. وعن أصحابه الأعلام، الذين فضوا حلق الضلالة المسرودة ولقيت من عاصف بأسهم مبيدا مبيرا. وصلة الدعاء لعلي هذا المقام الأحمدي المنصوري الحسني بنصر عزيز يقطف من الفتح زهرات الكمائم وسعد جديد لا يزال قرين عزماته الماضية ما انقدح برق في في مسكة الغمائم، فكتبناه لكم من حضرة مراكش، حاطها الله وصنائع الله تعالى لهذا الجناب النبوي الكريم المولى مطردة لطراد كعوب الذابل وأمداد عنابته المطيفة المحدقة بهذه لإيالة العلية واكفة الغمام الوابل. هذا، وإنه قد اتصل بنا ما تعرفنا به حسن مثابكم، وإرسالكم لعلى هذا المقام، وإنكم ممن ارتشف مجاجة لثته المسكية الختام، واستوفى إيماض عنايته البازغة الشارق، وشام حياها الواكف غير خلب البارق، ليقمص من قمصها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الموشى أنيق الشارة، ويستشف في حزب من حل منها علوى دارة. وإلى هذا فتعرفوا أن أمثالكم من حملة المعارف، المتفيئين لظلها الوارف، متمم لهم في هذا الجناب قسط النباهة بين وتر وشفع، ونداء أعلامهم في هذا الباب لم يزل نداء رفع، وجنى الكرامة داني الإهتصار، وحظهم منها الإسهاب الذي لا يخل به اقتضاب وإقتصار، وفئتهم المتحيزة إلى هذا المقام لم تزل بالعناية محفوفة، تتعرف من تنويه المقدار مزيته وشفوفه. وأما الغرض الذي يممتم، والقصد الذي به ألممتم، من خدمة خزانتنا العلية بتصنيفكم المنقح الفصول، المحرر الفروع والأصول،) شرح توضيح العلامة ابن هشام (الذي أبرز منه مكنونه حتى استنار بعد اكتممام، وترك ذكر خالد غير خالد، ونسخ من صيته الطريف والتالد، فلكم التصريح في الحقيقة، والتفرد بمستتر الإضمار، وسابق الحلبة إنما يعرف آخر المضمار، فقد وقع من محلنا الكريم موقع القبول، وهب لنا من إيثارنا كل صبا وقبول، وتوفرت داعية رغبتنا في إتمامه، وإطلاع جنى زهراته من أكمامه، ليتسق إن شاء الله تعالى في سلك خزانتنا العلية اسمه، ويثبت بحمد الله في فهارسها الكريمة رسمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 والله تعالى يسدد لكم في غرض التوفيق مرامياً، ويجعل قسطكم من التسديد زاكياً ونامياً. والسلام. فصل المكتوب له هذا المنشور العالي، هو أستاذي وخالي، علاّمة العصر في سائر الفنون، وسر الدهر الذي كان في ضميره عن النقص مصون. سيبوية عصره، وشافعي زمانه في مصره. تحفة عطارد، وهدية الفلك في كل ماجد. صاحب الحسب والنسب، الزاهد العابد، الذي لم تمض له طرفة عين في غير طلب الفوائد. تخرّج على والدي، ثم لازم العلامة أحمد بن قاسم، والعلامة الشمس الرملي. ثم بعدهما انتهت إليه الرياسة العلمية، وصدر الإفادة والتأليف والتصنيف. وبه تخرجت، وبعلمه وبركة دعائه انتفعت. قدس الله تعالى روحه، وجاد بسحب الرحمة ضريحه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 أبو بكر بن إسماعيل بن شهاب الدين القطب، الرباني، الشنواني، الوفائي. وجده الأعلى ابن عم السيد علي الشريف الوفائي، التونسي منشأ ومولداً. بحر العربية الذي استمدت منه جداول الفضائل، وروض الكمال الذي قامت له الأغصان على سوقها الخمائل. لو رآه المبرد برد به الغليل، أو أحمد لقال: افدي) بالعين (هذا الخليل. فكم قرّط وشنّف، وألّف وصنّف. لم أدر أماء الحياة أحلى أم بحار راحاته، أم ما جرى في ظلمات نقسه المكتحل من عين دواته. أما ترى القلم بغير روح مسه فمشى، وطرز حلل القراطيس ووشى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 في طرسه جداول تشعبت أنهارها، ونبت من السطور على حافاتها رياضها وأزهارها وأنوارها: فكأنَّ الزُّهورَ فيها شُموعٌ ... ولِذا قيل إنها أَنْوَارُ وهو لعمري ممن تشرفت الصفات بذاته، ولذا سميت بالتوابع، وتحيرت العبارات في بديع صفاته، إذ رأت ما لم تره عيون المطامع. وهو والدي وأستاذي وخالي، ومن التأم في زمن الطلب به شعث حالي. وهو كما سمعت تلمذ لأبي وتخرج بابن قاسم، وهو الرحلة العلامة الذي هو لعقد الفضل في جيد الدهر ناظم. وله تصانيف كثيرة شهيرة ك) شرح التوضيح (الذي قرّط به آذان الدهر، وتوج به رأس الكمال وهامة الفخر، ونظم به في جيد الفضل قلائد السطور، فاتضحت حلاوة) القطر (وانتثرت طلاوة) الشذور (: تلكَ آثارُنا تدلُّ عليْنَا ... فانظُروا بعدَنا إلى الآثارِ وكنت كتبت إليه مكاتيب بعد رحلتي، وأسر الزمان لي في طول غربتي، منها مكتوب صورته: وجَد الصَّبا للعاشقين رسولاً ... فشَفى بإهْداءِ السَّلام علِيلاَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 قُل للأحِبةِ أنتُم مذ غنْتُمُ ... لم ألْقَ وجهاً للسُّلوِّ جميلاَ فخلعْتُ أيَّامَ الوِصالِ قصيرةٌ ... ولبِسْتُ ليلاً للهُمومِ طوِيلاَ حرس الله تلك الذات التي بدرها لا يخشى سراره، لا زالت مشرقة في سماء المعالي أنواره، وكلاء منها روض كمالٍ المجد أوراقه وثماره، وسقاها من وسمى النعماء كل صيب مغدق، بلَ من ولّى سجاياه ما يزهو به خصب كل ربيع ويورق، وحيا الله ذلك المحيا، وروى مواطن مواطئه التي يفاخر بها ثراه الثريا. لا زالت الفضلاء لا تنصرف عن ناديه؛ لأنه منتهى جموعها، ولا برحت الفضائل من سحب بناننه مخصبا ربيع ربوعها، كما قلت في قصيدة تمسكت بأذيال أفضاله، وتمسكت بعبير نسمات إقباله: فرائدُ تزْهُو في تَرائِبِ مدْحِه ... وعندِيَ لولا الجِيدُ ما حَسُنَ العِقْدُ سقَى اللهُ هاتِيكَ الرُّبى سُحْبَ راحةٍ ... لها نسماتٌ من عواطِفِه تحْدُو وإنَّ بِقاَعاً قد سقاها بَنانُه ... لينْبُتُ في أرجائِها الفخْرُ والمجْدُ وأنا أسأل الله تعالى أن يطفئ من البعد ضرام صداه، بمشاهدة ذلك الوجه الذي يقطر منه ماء بشره ونداه، ويحكم في عاتق الفراق، سيوف التداني والتلاق، فإن العبد ما دام في أسر البعد، فكره محبوس في سجن الغرام والوجد، متعلقة به إشراك النوى والنوائب، فهو جازم بألاّ يرفع حجاب همه الناصب. وكيف لا، وإناء القلب مملوء بولائك، وثوب الحياة لحمته وسداه منسوج بيد نعمائك، فأنت نور حدقة الزمان، ونمو حديقة الجنان، والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فكتب إلي رحمه الله: سلامٌ شَذَاهُ يملأُ الأرض نفْحةً ... تُبلِّغُها منِّي يدُ الصَّباَ وتحملُها هُوجُ الرِّياحِ إلى العُلاَ ... وتنْشُرها في الأرضِ شرقاً ومغرِباً وسَقَّى ديارَ الرُّوم والجو عابسٌ ... رذاذَ كمالٍ حلَّ فيها وطنَّبَا وردَّ عليه الغَيْمُ لُؤلُؤَ حَلْيِه ... ففضَّض هاماتِ النَّباتِ وذهَّباَ لئن كان عن مِصْرٍ توارَى شِهابُها ... فقد لاح في دارِ الخلافةِ كَوْكباَ وما كان تأْخِيري جوابَك عن قِلًى ... ولكنَّ ضَعْفي للقريحةِ شَيَّبَا وشرَّقنِي دمعُ الأسَى وأهاضَنِي ... على أنَّ قلبي مِن فِراقِك غَرَّبَا نأتْ بك ياقُسَّ الفصاحَةِ بلدةٌ ... وخلَّفتْننِي بعد الفِراقِ مُعذَّباَ فليت الذي شقَّ القلوبَ يَرُمُّها ... وليتَ الذي ساق القطيعةَ قَرَّباَ سلام كعرف الروض جر عليه النسيم ذيله، بعدما باتت كؤوس القطر تدار عليه نهاره وليله، فأشرقت شمس نهاره على الروابي والبطاح، وأخذت ترشف ريق الغوادي من شفاه الشقيق وثنايا الأقاح، ونشر كافور الطل مسكى الشذى على مجامر الجلنار، ونصبت على ندى الندى سرادقات من مخيمات الأشجار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 يهدى إلى من ألقت إليه العلوم مقاليدها، وملك من التحقيقات الفكرية طارفها وتليدها، أفصح من وشى وجوه الطروس بخطوط المعارف، وأسبل على عرائس الألفاظ فواضل المطارف. لا زالت عوارف المعارف عليه منهلة، وذيول مجده من بحار المكارم مبتلة. وبعد فقد ورد علينا المشرف الكريم، فألقينا عليه عصى التسليم، واجتنينا من قطوفه الدانية باكورة التسجيع، وتصدينا من غصون همزاته حمائم الترجيع، ورأيناه قد اشتمل على عتب أرق من دمعة الكئيب، وألطف من معاتبة الحبيب للحبيب. غير أن عذري مقبول لا يرد، وطول الأسى رفيق لا يود فإن المرض لازمني منذ سنوات ملازمة النجوم للأفلاك، ونصب لصيد الصحة فخاخه والشباك، لا يفارقني إلا مفارقة الجفن للعين، كأنه غريم ملح له على دين. كأنّ السُّقْم مُحتاجٌ لجسْمِي ... فما ينْفَكُّ عنه قَيْدَ شِبْرِ إن أردت القيام من مضجعي فلابد من معين، وإن مشيت فلا أستغني عن عصا وقرين. رفضت يدي القلم وطالما حملته، وجفا يميني بعدما أرضعته من جداول النوال وغذته. وارتعشت اليد لفراقه أسفا وندما، وصار وجدان الطروس بعده عدما، وأصبحت كأني من أهل الكهف والرقيم، لا أعرف كم لبثت من السنين، وإن كان عندي المقعد المقيم، والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وما شكاه في كتابه، فالج رماه بأوصابه في دهر أثقله بمصائبه، وعضه بأنياب نوائبه، فكساه لباس البأس والضر، وخلع ثوب الحياة، فقال: فثوباً لَبِسْتُ وثوباً أجُرّ وقلت لما أتى نعي وفاته، مضمنا: رحمَ اللهُ أوْحدَ الدَّهرِ مَن قد ... كان من حِلْيةِ الفضائل حَالِي ذاك مَن قلتُ سَلْوةً إذ نَعُوه ... ليْسَ حيٌّ على المَنُونِ بخاَلِ والمصراع الأخير شاهد لترخيم خالد، كما ذكره النحاة. ولما جاء نعي الخال، أخبرت بموت الوالد أيضا، فقلت في مرثية له: كأنَّ الليالي غالطَتْني ولم أكُنْ ... أُقدَّرُ أن أغْترَّ بالمكْرِ والحِيَلْ فقالتْ إذا أعطيْتُكَ الأْمنَ عاجلاً ... من الرُّزْء هل ترْضَى فقلتُ لها أجَلْ فجاءتْ بفَقْدِي للّذين أحِبُّهمِْ ... وقالتْ لهذا كنتُ أعْنِي فلا تسَلْ لأنَّيَ لا أخْشَى مُصاباً بُعَيْدَ ذَا ... فالله رَيْبُ الحادثاتِ وما فَعَلْ وهذا معنى مشهور في كلم فصحاء العرب، ولكنني تصرفت فيه، مع تسمية النوع، تصرفا يعرف حسنه من ذاق حلاوة الأدب. وفي هذا المعنى يقول الصولي: كنْتَ السَّوادَ لمُقْلةٍ ... تبْكي عليكَ وناظرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 مَن شاء بعدَكَ فليَمُتْ ... فعليكَ كُنتُ أحاذِرُ وهو رثاء في ابن له، وأخطأ صاحب) الموهبة اللدنية (إذ زعم أنه رثاء في النبي صلى الله عليه وسلم، وعزاه لغير قائله. وفي معناه قول الآخر: فكلُّ ما كنت أخْشَى قد أصِبْتُ بهِ ... فليس بعدهمُ مِن فائتٍ جَزَعُ وقال آخر: اعْتَضْتُ باليأسِ منه صَبْراً ... واعْتدَل اُلحزْنُ والسُّرورُ فلستُ أرجو ولستُ أخْشَى ... ما أحدَثتْ بعدَه الدُّهورُ فليَجْهَدِ الدَّهرُ في مُصابِي ... فما عسى جَهْدُه يُضِيرُ وقال أشجع: فما أنا مِن رُزْءٍ وإن جَلّ جازِعٌ ... ولا بسُرورٍ بعد مَوْتِكَ فارِحُ وقال غيره: لَعمْرِي لئِن كُنَّا فقَدْناكَ سيِّداً ... يحِقُّ لنا طُولُ التَّحزُّنِ والهَلَعْ لقد جرَّ نفْعاً فقْدُنا لكَ إنَّنَا ... أمِنَّا على كلِّ الرَّزاياَ من الجَزَعْ وقيل لأم الهيثم - وهي امرأة مع بلاغتها لها علم باللغة، والأزهري كثيراً ما ينقل عنها في) تهذيبه (- لما مات ابنها: ما أسرع ما سلوت عن الهيثم! فقالت: أما والله، لقد رزئته كالبدر في بهائه، والسيف في مضائه، والرمح في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 روائه، والله، لقد فريت كبدي، وتصدع قلبي لفقده وبعده، وما اعتضت به إلا الأمن من الرزايا بعده. وقد أوضح هذا المعنى القائل: ومَن سَرَّهُ أن لا يَرى ما يسوءُه ... فلا يتَّخِذْ شيئاً يخافُ له فَقْدَا وهو باب واسع، لو أردنا نظائره سحبنا ذيل المقال، على اثر الملال، فلنقتصر على مقدار الكفاية منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 محمد الفشتالي وزير مولاي أحمد أديب فاس، وريحانة فضلائها الأكياس. تقدم فيها متقلداً قلادة إنشائها، فائقا برسائله على سائر أدبائها. وكان في عصره من أجل وزرائها، رافلا في حلل الحبور، تبسم له الدولة الأحمدية بثغور السرور. وعاد إلى القسطنطينية رسولا من ملك الغرب والعود أحمد، معينا للسفارة وهل أحد أولى بالرسالة من محمد؛ لأنه ممن ألقى إليه مقاليد النهى البشر، وسلمت إليه يد التدبير مفاتيح الرأي والحذر. وكان بها كثيرا ما يجلو على كأس أنسه، ويسامرني بليل سمره ونقسه، ونحن في مضمار المحاورة نتجارى، حتى مضى لنا معه أُويقات أقصر من إبهام القطاة والحبارى، وأقصر من عمر تلاقي الأحباب، بل سالفة الذباب؛ لأنه ممن أحكم عرى المجد، وجذب عنان الشعر وأحكم الحل والعقد. فكنت إذا جاذبته أهداب الآداب، وأجلت في ناديه قداح الخطاب، كأني جاث بن الفرزدق أو جرير، لأنه بصير بعورات الكلام خبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ولما ورد الروم، كتبت له مهنئا بالقدوم: قُدومٌ له هذِي الثُّغورُ بواسِمُ ... وليس له غيرُ الزُّهورِ مَباسِمُ مَسَّراتُ إقبالٍ وعزْمُ قوادِمٍ ... عليها لِطَيْرِ رَفَّتْ قوادِمُ على فَتْرةٍ وافيْتَ للرُّومِ مُرسَلاً ... فضاءَتْ بنُورِ العلم منها المعالِمُ فهل أهْدَتِ الأيامُ أعيادَها لناَ ... ففي كلِّ وقتٍ مذ قدِمْتَ مواسِمُ هذا هناء عرائسه على الألباب مجلوة، وآياته المحكمة بلسان الزمان متلوَّة، سرَّت به الليالي والأيام، حتى كأنه في فم الدنيا ابتسام. ولعمري لقد أبان هذا الرسول من المرسل كماله، ولا غرو أن خص محمد في زماننا بالرسالة. قدوم ذهب الأفق في البكر والآصال، وهبت على رياض مجده نسمات الإقبال وقد جريت في هذه التهنئة من الأدب على سننه، وأردت أن تحيى بها فرائض مذهبه ومؤكدات سننه. فمن مولاي تجتنى ثمرات الألباب، وتطرز حال المعارف والآداب. فهذا زمان طلعت فيه شمس الفضل من مغربها، فإن فتح مولانا كنوز فكره فالعبد أحق بمطالبها، والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 فأجاب بقوله: جُذيْلُ حِكاكٍ قد رمى بعظَيمةٍ ... كثاَلثةِ الأثْفَى وهُنَّ عظائِمُ وذكَّرنِي الظَّعْنَ الذي قد نسِيتُه ... فتىً مُبْشِرٌ بل مُنْذِر لا يُقاوَمُ كأنِّيَ بالفضلِ الذي هو أهلُه ... يُغطَّى عِراقاً وهو بالنَّقْصِ عالِم طالعت، أبقاكم الله، السحاة التي لو رآها الفتح لما انفتح له إلى الإحسان باب، ولو طالعها البديع ما ارتدى من مميسه بجلباب. أقسم بتلك الفقر والقوافي، وهن القوادم في جناح الإحسان والخوافي، لقد سقتني من الأنس بعد الصحو كأسا دهاقا، وملأت فكري وهو المظلم بتنائي السكن إضاءة وإشراقا. وإني لتارك لعتاب الليالي، إذ جمعتنا في هذه الديار بأمثالكم، لازلتم تقيمون رسوم المعالي، وتجمعون في المكارم بين المقدم والتالي، بمنه وطوله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وله ماء شعر تشربه أفواه الأسماع، ورياض منثور تغرد حمائم قوافيه بمطرب الأسجاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 فمما دار بيني وبينه من كؤوس المخاطبة، وجال من جياد القول في مضمار المكاتبة، وأنا مسجون بالروم، وليس لي غير القضاء والقدر سجان، في ديار ترى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان، قولي ملغزا في حبات الأحقاق، الملتفة تحت أغصان المعاطف على كثب الأرداف: أيا رَوْضاً له ظِلُّ ... وشمسُ معارفٍ تعلُو ويا مَن قولُه فَصْلٌ ... وعُنْصُر ذاتِه فَضلُ أبِنْ لي ما مُقَيَّدةٌ ... برِدفٍ مالَهُ وَصْلُ بلا قلبٍ مُحجَّبةٌ ... ومنها العَقْدُ والحَلُّ على بابِ المسَرّةِ أو ... على كنْزِ الهوَى قُفْلُ ويحسنُ عَقْدُها لكن ... إذا حلَّيْتَها تحْلُو فأجاب، وأجاد: وفِكْرٍ طَلُّهُ وَبْلُ ... لنَدْبٍ فضْلُه أصْلُ ونظمٍ أرْفَعُ الشُّهبِ ... لأدْنِى قَدرِه نَعْلُ لَهذِي فَتْكَةٌ بِكْرٌ ... عَتَا في بَدْئِها نَصْلُ وحُزْتُم قصَبَ السَّبقِ ... فلم يَعُدْ لكم خَصْلُ وفُزْتُمُ من ثناً جَزْلٍ ... بما ليس له مِثْلُ فلا زِلْتُمْ ولا زالَتْ ... بكمْ ساعاَتُنا تَحْلُو وكتبت له ملغزا أيضا: أيُّها المفرَدُ الذي صار جمعاً ... في المعالِي ورَقَّ لفظاً وطَبْعاَ أيُّ شيءٍ لدى السَّمواتِ يُلْفَى ... وهْوَ في الأرض بالجَرَاءةِ يَسْعَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ذُو ثلاثٍ وأربعٍ إن عَدَدْنَا ... وتراهُ إذا تحقَّقْتَ سبعاَ فأجِبْنِي بجوْهرٍ من نِظامٍ ... كي أُحَلِّي به لساناً وسَمْعاَ فأجاب، وأجاد: يا بديعاً حاز المحاسِنَ طَبْعاَ ... وكريماً له المحامِدُ تَسْعَى لِيَ لُغْزاً أهديتَه في برودٍ ... من مَعانٍ كأنّضها وَشْيُ صَنْعاَ حاكَه فِكْرُ ماهرٍ قد تنَاهَى ... في ضُروبِ البيان أصْلاً وفَرْعاَ خامسٌ من بُروجِ دائرةِ الشَّم ... سِ وفي الغابِ بالضُّبارِمِ يُدْعَى لميَادِن فِكْرِه تتَبارَى ... سُبَّقٌ عندها السَّوابِقُ صَرْعَى شُقْرُ ذاك اليَراع مع دُهْمِ نِقْسٍ ... شُهْبُ طِرْسٍ يُرضِيه حُسْناً ووَضْعاَ يُسعِد الكفّض ساعِدَها القوِيَّا ... ن وما للطِّعانِ ضاعَفْتُ دِرْعاَ والقوافي تمِيلُ مَيْلَ الغوانِي ... للفتى حين يُشْبَعُ الشيخُ صَفْعاَ إن عهْدِي بالرّميِ عهدٌ قديمٌ ... أنْتَ أقْوَى على قِسِيِّكَ نَزْعاَ وهذا يشير إلى قول أبي حية النميري: رمَتْنِي وسِتْرُ اللهِ بيْني وبيْنَها ... عَشِيَّةَ أحْجار الكناسِ رَمِيمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ألا رُبّض يومٍ لو رمَتْنِي رمَيْتُها ... ولكن عهْدِي بالنِّضالِ قديمُ وأنشدني قصيدة هنأ فيها بفتح، فمما اخترته منها قوله: بُشْرَى تُزَّفُ من الزمان المُقْبِلِ ... بمنَصَّةِ الجَذَلِ الذي لم يَرْحَلِ يا نجلَ فاطمةٍ وكلّ مُفاخِرٍ ... فهو المُفاخِر دُرَّكمْ بالجَنْدَلِ لولا ضِياءُ المَشْرَفيَّة والقَنَا ... ضلَّتْ كتائبهُم بليْلٍ ألْيَلِ بعساكرٍ رمِدتْ بِعثْيَرِ نَقْعِهاَ ... عينُ الغزالةِ في الرَّعِيل الأوّلِ خطَبتْ سُيوفُك في منابرِ هامِهمْ ... خُطَباً تُذيقُهُم نَقِيعَ الحَنْظَلِ ومنها، في ختامها: هاكُمْ أميرَ المؤمنين قوافياً ... فاحَتْ مجامِرُها طِيبها بالَمنْدَلِ بمديح أهْلِ البيتِ هزَّتْ مِعْطفاً ... هُزْؤاً بمدْح جَرِيرهْم والأخْطَلِ وقوله في جواب اللغز السابق:) حين يشبع الشيخ صفعا (من مزج الجد بالهزل. وعليه فأنظر قوله في النتف، التي سميتها) بالشهب السيارة (، وهو: قيل إن كان في الشباب سرورٌ ... فَبياضُ الوجوه خيرُ وَقارِ قلتُ رُدُّوا الشَّبابَ لي واصْفَعوني ... واجْعلوني سُخْريَّةً للصِّغارِ والشيء بالشيء يذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وأجاد التعاويذي في قوله: وعُلُوُّ السِّنِّ قد ... كسَّر بالشَّيْبِ نشاطِي كيف سَمَّوه عُلوَّا ... وهْوَ أخْذٌ في انحطاطِ وقوله:) بعساكر رمدت (إلى آخره كقوله الأرجاني: والشمسُ فَرْطُ سَناهُ أرْمَدَ عينَها ... فكحَلْنها أيدي الجِيِادِ بإِثْمِدِِ ومنه قوله في النتف أيضا: وليلٍ زارَني والسعدُ وَافي ... على رغمِ الُمنافقِِ والُمداجي رَأَى ليليِ عيُونَ الشُّهْبِ رُمْدًا ... فعصَّبَها بِمُسْوَدِّ الدَّياجِي وأنشدني في قصيدة له، قالها وقد دعاه داعي النجاح، وأسفرت له شمس الظفر من خلف ستارة الفلاح، وأنشدته المسرة، قول شيخ المعرة: ابْقَ في نعمةٍ بقاءَ الدُّهورِ ... نافِذَ الأمر في جميع الأمورِ وقد قدم من غزاة صدع بها شمل الكفر أي صدع، بعدما خط على صحف البسيطة سطور جيش متربة بالنقع، غض بعثيرها الوهاد، وسر بها الفضاء فتضمخ من دم الأعداء بالجساد، والربيع قد نقط تلك الصحف ووشاها، وخط في جانبها النبات وحشاها. وكسا الأرض خِدمةً لك يامو ... لايَ دون الملوكِ خضْرَ الحريرِ وغَدت كلُّ رَبْوةٍ تشْتهي الرَّق ... صَ بثوبٍ من النباتِ قصيرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 فهْيَ تختالُ في زَبَرْجَدةٍ خْض ... راء تُغْذَى بلُؤْلؤ منثورِ فقدم له عن ذنوب الدهر صفح، والقلاع تعرب عن رفع عزمه بعدما بناها على الفتح، في يوم عده عيد السرور، قهل ملء العيون ملء الصدور. فقام بين السماطين، وهو إذا رأس كتابه، وناظم عقود الجوهر في سلك خطابه، مهنئا ومنشدا، وفي رياض ناديه مغردا، بقوله أيضا: قَسَماً بالجفون في سَطوةِ المُلْ ... كِ وقد أُيِّدتْ بحُسن الفُتورِ وظُباها التي بها تحْتمِي في ... حَوْزةِ الصَّوْن بارقاتُ الثُّغورِ وبخدٍّ يُكْنى أبا لهب تذ ... كي يد الحسن ناره في الضميرِ وبرَوضٍ تدِبُّ شوقاً إليهِ ... عَقْربُ الصُّدْغ في ليالي الشُّعورِ لَهَجرْنا المنامَ حتى تناسَتْ ... نحوَنا للخيالِ طُرْقُ المَسِيرِ يا ظِباءَ سَنحْنَ مُلتفِتاتٍ ... مُتْلِعاتٍ أجْيادَها للنُّفورِ أمَّن اللهُ رَوْعَكنَّ فإني ... أرْتجي وَقفْةً بوقْتً يَسير ومنها: نَسْمةٌ في باب الإمالةِ تُبْ ... دي عِلَلَ اليِّن في القضيبِ النَّضير ما عهِدْنا رِيمَ الفلا وغصوناً ... يُشرِقُ الحسنُ في بُرودِ البُدورِ رافضاتٍ عهْدَنا هلْ لوصْلٍ ... مِن رجاءٍ يطْفي لقلْبي الَحرُورِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 ذابَ شوقاً وأنفق العمرَ سَعْياً ... في رِضاكُمْ وماله من شُعورِ كان خدِّي مَجْرَى السَّوابق شُهْباً ... بادِياتٍ في لونِها المُستنيرِ فاسْتحالَتْ حُمْراً وتكمُن طوراً ... من أخاديدِ جَريِها في حَفِيرِ باعْتكافٍ يحْكي جهادَ جِيادِ ... مُدمِناتٍ على السُّرَى والبُكُورِ ومن مديحها: ياَ نَسِيباً أنت المُقدَّم في المدْ ... حِ فلسنا نَرى لكم من نَظيرٍ كم نَظْمتُمْ للحقِّ عِقْدَ اعْتزازٍ ... ونَثَرْتُم بالحَلِّ نظْمَ الفُجورِ وبضَرْبِ الهِنديّ كم قد طرَحْتُم ... من ضُروب العِدى بجَمْعِ الكُسورِ وأدَرْتُم عليهمُ للمنَايا ... أكؤُساً لم تزَلْ بكفِّ المُديِرِ دام في العزِّ مُلكُكمْ وبيُمْنَي ... عزْمِكم للفتوحِ سيفٌ الظُّهورِ ما جرَتْ أفْرُسُ الدَّرارى بِمضْما ... رٍ مَيادِينُها بِطُوِل الدُّهورِ قوله:) يا نسيباً (إلخ، كقول بعضهم مضمنا من قصيدة نبوية: له النَّسبُ العالي فيا ما دِحَ الورَى ... إذا كان مَدْحٌ فالنَّسيبُ المُقدَّمُ ولله در إبن خفاجة، في قوله: مَلِيكُ تبسَّم بِشْرُ المُنَى ... بمَرْآهُ وإمتدَّ خَطْوُ الأمَلْ فلم أدْرِ والحسنُ صِنْوٌ له ... أأَبْدأُ بالمدحِ أم بالغَزَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وكتب إلي وقد أصابته الحمى فاقتصد، يذكر إشتياقه، ويشكو ما منعه من ملاقاتي وعاقه. أنا في غربتي وعلتي، ونا خليل لم تبل بملاقاته غلتي، لا أظن نسيان الإخوان، وأعتذر لتقصير الزمان. كأنَّ زماني خاف لَحناً فلم يكُن ... ليجمَعَ بين السَّاكِنَيْنِ بأوْطانِ فكتبت له: كفاك اللهُ ما تخْشَى وغطَّى ... عليك بظلِّ نِعْمتِه الظَّليلِ أعز الله تعالى أنصار الكرم الفياض والحسب، وحفظ بحمايته معالم الفضل العامرة بالأدب، ببقائك محروسا من هجوم الخطوب، محفوفا بسور منيع من إحاطة القلوب، وأصوات جرس الدعاء به مرفوعة، وسدته بحجاب الصنائع ممنوعة، وله من عطر الثناء نشر وانتشر، فلا يمل حتى يمل نسيم السحر. والدهر وإن كان ذا غير، من تفكر فيه واعتبر، فكيف يتسلط عليه بآلامه، وهو لا يتسلط على أيادي إنعامه، فإن هم به ونعمه سابغة عليه، فقد ورد:) اتق شر من تحسن إليه (. أتُهْدِي له الأيامُ سُقْماً وإنما ... مساعِيهِ في أعْناقِهنَّ قَلائِدُ فإن اعتل فإنما اعتل الكرم والكمال، وإن مرض فقد مرضت الأماني والآمال، والقلوب والأرواح، وإن دعونا له فإنما ندعو لأنفسنا بالصلاح، ورب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 مريض لا يُعاد، ولا يحرم الأجر مريض الفؤاد، فلا أقول: يا ليتَ عِلَّته بي غير أنَّ له ... أجْرَ العليلِ وأني غيرُ مأجوُرِ وقد بلغني فصده الباسليق، وأنه قد بكى دما عرقه العريق. وباتَ اعْتلالُك يبْكي دماً ... وتضْحكُ في جِسْمِك العافِيَهْ وعرق الصحة له في كل منبت شعرة عين باكية، تبكي بدموع العرق على فراق العافية، وليس ببكاء وإنما من استغرب في الضحك قد تدمع عيناه، كما ان الحزين قد يضحك دهشة مما دهاه. فأضحك الله تعالى ثغر فصاحته، كما ضحكت تباشير صحته، وهنأ الله تعالى الوجود، بسلامة الكرم والجود، وأطلع كوكب سعده في أُفق الإفاقة والإقبال، فإن لكل زمان مقبل غرة وهلال. والسلام. ) فصل ( دعانا مرة داعي الصبا، فحرك منا ما حركته من عذبات ألبان أنفاس الصبا، إلى روض أنيق، وواد تزوره السراء من كل فج عميق. نبهت عيون أزهاره أكف نسيم السحر، ونيطت على قدود قبضه بعد اخضرار عارض نباته تمائم الزهر. والرِّيحُ تجُذِبُ أطْرافَ الغُصُون كما ... أفْضَى الشَّقِيقُ إلى تنْبِيه وَسْنانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 في مجلس سكرت فيه أباريق الصهباء، فرجعت أصواتها ترجيع تمتام وفأفأه. مع خلان، وخلص إخوان، كل منهم قرة، في عيون المسرة. فيه طراز حلل الليالي، وروضة تنبت أنوار المعالي. تتحاسد عليه القلوب والعيون، وتختم به صحف الطرف وختامه مسك يتنافس فيه المتنافسون. قام لديهم ساق كألف على سين أعطى قافه للإبريق، أو غصن عبثت به الصبا فكاد يعقد من اللين ذيل حواشي لطفه الرقيق. لولا كثيف كثيب ردفه، القائم عليه هيف عطفه. لولا سِهامُ جفونِه انْتَظَمتْ ... عُقِدَتْ على وجَناتِه القُبَلُ فنادى: حي على الصبوح، هلموا إلى ريحانة الروح، شقيقة نفس الإنسان، صابون درن الحزان، درياق ملسوع الغموم، مطية لهو ترتحل بها من منازل الهموم، باز له دستبان من ذهب، يصطاد به سوانح الفرح والطرب، حيث لا يسمع صراخ لغير الأوتار، ولا بكاء إلا للقناني ولا رقباء سوى عيون الأزهار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فلم يزل يحكم فيها الكاسات، ولا يسمعون من عذب ألفاظه غير خذ وهات، في يوم شابت ذوائبه، من قبل ماطر بالعشية شاربه. فلما دنا المسير، وغاب بدر الكأس المنير، نام بعضهم ثملا سكران، وذهب حافيا رجلان، فنسي نعله، وأودع عند الخمار عقله، فكأنما فر هاربا لما طرح أحمال أحزانه ورماها، وألقى صحيفة فكره والزاد حتى نعله ألقاها. فكتبت غليه أعزيه فيها، وأخفف عنه مصائب الدهر وأرثيها، بقولي على لسانه مداعبا، ومفاكها له مطايبا. لقد خانَنا دهرٌ وكنَّا به نعْلو ... يوَدُّ هِلالُ الأفْقِ لو أنه نَعْلُ وقد كان لي نعلٌ فشتَّتَ شملِها ... وما الدَّهرُ أهلٌ أن يدومَ له شَمْلُ وكانتْ تَقي بالنَفْسِ رِجْلي فأصبحتْ ... تُفارِقُها من بعد ما آذنَ الثُّكْلُ وقد كنتُ ذا بِشْرٍ فأصبحتُ حافياً ... وكم حزنتْ من بعدها الكَعْبُ والرِّجلُ فكم صحَبتْني في سرورٍ وشِدَّةٍ ... ولم تتخلَّف عن مُرادِي ولم تَعْلُ ونَقَّلَتِ الأقْدامَ للرَّاحِ سُحْرةً ... فعُدْتُ ولا عقلٌ لديَّ ولا نَقْلُ كذلك عاداتُ الشّراب وفعلُه ... فما اختارَه مُضنّى بهِ وله عَقْلُ وأنْشَدتُ خِلِّي حين ضاعتْ ولم يكنْ ... ليَنفعْنِي في ذلك الحادِثِ الخِلُّ وإنَّ أخِلاَّءَ الزَّمانِ غَناهُمُ ... قليلٌ إذا الإنسانُ زَلَّتْ به النَّعْل فأنشَدني بيْتاً يثبِّتُ مُهجَتي ... لكَيْما فؤادي عن محبتها يسْلُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 تزَوَّدْ من الدنيا متاعاً لغيْرها فقد شمَّرَتْ جَيْدَاءُ وأنْصَرَمَ الحبْلُ فلَهْفي عليها حين أمْسَت شهيدةً ... وقد جادها بالدَّمعِ قَطْرٌ له هَطْلُ وأضْحَتَ على وجهِ الثَّرى دون دافنٍ ... ولكن بكفِّ السُّحْبِ أمسى لها غُسْلُ فلما سمعها الفشتالي استظرفها جدا، وكتب له: رأيتُ أديباً واضعاً كفَّ حائرٍ ... على ذَقَنٍ إذ للهمُوم به شُغْلُ فقلتُ له هل بَتن إلفٌ لَوَت به ... نَوىً قَذَفٌ أم لا يُرجَّى له وَصْلُ فقال علِمْتُم أن جارِيتي يدِي ... وراحِلتي في كلِّ نائبةٍ نَعْلُ خرجت مع البازِي لِحَانِ مُدامةٍ ... رجاءَ سرورٍ والطَّريقُ بها وَحْلُ فأُبْتُ وبي من حادثِ الدَّهرِ لَسْعَةٌ ... بخُفَّيْ حُنَينِ لا ثراءٌ ولا عَقْلُ نأَتْ عن أديمِ الأخمَصَيْنِ وِقايةً ... وما بي شُعورٌ إذ تخطَّفَها الوَبْلُ كذا فلْيَجِلَّ الخطبُ في وَثَباتِهِ ... بكلِّ كريمٍ لا يفارِقُه فَضْلُ وفي كلِّ قلبٍ للخُطوبِ مآثِمٌ ... يحِقُّ لأرْبابِ القريضِ بها شُغْلُ فقلتُ له إن العِيافَة تَقْتضِي ... بتصْحِيفِ نَعْلٍ أن قدرَكم يَعْلُو تعوَّدَ دهرٌ جُودَكمْ وأتى له ... فألْقَتْ إليه عند ذَا نَعْلَها الرِّجْلُ وكتب إليه الأديب زين الدين الإشعافي الحلبي: تَعزَّ أخي إن كنتَ ممَّن له عقلُ ... ولا تُبْدِ أحزاناً إذا ذهبَتْ نَعْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ولا تعْتِبِ الدَّهرَ الخَؤُونَ فدَأْبُه ... لعَقْدِ اجتماعِ الشَّملِ دون المَدى حَلُّ لَحَى اللهُ دهراً لا يزال مُولعاً ... بتكْديرِ صَفْوِ العيشِ ممَّن له فَضْلُ يُفرَّقُ حتى شَمْلَ رِجْلِي ونَعْلِها ... أشدَّ فِراقٍ لا يُرَى بعدَهُ شَمْلُ فما شئْتَ فاصْنَعْ ما اللبيبُ بجازِعٍ ... ولا تاركٍ صَفْواً إذا زَلَّتِ النَّعْلُ بحقِّكَ قُم نَسْعَى إلى الرّضحِ سُحْرَةً ... نُجدِّدُ أفراحاً لكلِّ صَداً تجْلُو إلى دارِ لذَّاتٍ وروضِ مَسرّضةٍ ... برَحْبِ فِناها من غُصونِ المُنَى ظِلُّ ولابن قلاقس، وقد سرقت نعله: قُلْ لنجْم الدين يا مَن نهْتَدي ... من مُحَّياهُ بأسْنَى قَبَسِ ما الذي أوْجَب عَوْدِي راجلاً ... بعد أن وَفيْتُكمْ ذَا فَرَس خلَعوا نعْلِيَ لمَّا علِمُوا ... أنَّني من رَبْعِكم في قُدُسِ ) تتمة ( يقال في المثل للمتساويين في الخير: فرسا رهان. وهذا كما أفاده بعضهم باعتبار ابتداء الجري؛ لتساويهما حين الإرسال، وأما في المنتهى فيغلب سبق أحدهما، فكيف يجعلان متساويين، وقد ضربت أنا المثل للمتساويين في الدناءة بفردتي النعل، وثوري الحراث؛ فإنه لا ينتفع بأحدهما دون الآخر، فقلت: وثَقِيليْن هما ما افْتَرقاَ ... منهما الدَّهرُ أبو الغَدرِ اسْتَغاثْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 فكأنَّ اللُّؤْمَ قد صاغَهُما ... فَرْدَتَيْ نَعْلَيْه أو ثَوْرَيْ حِراثْ وقد ضربت العرب المثل في هذا برجلي النعامة، فقال الشاعر: وإني وإيَّاها كرَجْلَيْ نَعامةٍ ... على كلِّ حالٍ مِن غِنِّي وفَقِيرِ قال القالي في) أماليه (: أي أننا في اتفاقنا لا نختلف؛ لأنه ما من بهيمة تنكسر إحدى رجليها، إلا وتنتفع بالأخرى غير النعامة. انتهى. ولما قدم رغب في صحبتي، وخطب راغبا مودتي، وود انقطاعي عمن سواه، فلما رأيت كفاءته وصدق مدعاه، كتبت له: سَلاَ بأَنَةَ الوادي لدَى المنْزِلِ الرّحْبِ ... متى فقَدتْ غُرّض المناقبِ من صَحْبي فهل في حِماها نَفْحةٌ عَنْبريَّةٌ ... قد استَوْدعَتْها الرِّيحُ من نفَسِ الرَّكْبِ وهل بين أطْلالِ الرسومِ ونُؤيِها ... حمائِمُ بَانٍ في الرُّبَى طَيَّرتْ لُبِّي وهل من عُهودٍ قد تقضَّتْ بَقِيَّةٌ ... يُوَفَّى بها حقِّي ويُقْضى بها نَحْبِي سقى اللهُ عهداً للأحبَّةِ صَيِّباً ... من الطَّرْفِ تغنِيه عن الوابلِ السَّكْبِ وهَيْفَ غُصونٍ جادَها هاطِلُ الغنى ... فتُنْبِتُ أوراقاً من الشَّجرِ القَضبِ وكلُّ خليلٍ رَقْرَق الوُدّض صافياً ... فكلُّ مَلامٍ في محبَّتِه يُصْبِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 أُصدِّق فيه الظَّنّ من ضِنَّتِي بهِ ... على كلِّ شيءٍ قد عرفْتُ سِوى قَلْبِي وما ذاك من سُوءِ الفِعالِ جِبِلَّةٌ ... فكم جاءَ سُوءُ الطَّنِّ من شِدَّةِ الحُبِّ هذا معنى غير ما قاله المتنبي: إذا ساء فعلُ المرءِ ساءَت ظُنونُه ... وصدَّقَ ما يعْتادُه مِن تَوَهُّمِ والحديث شجون. ومنها: إذا غاب بَدْرُ التِّمِّ طَلْتُ مُراقِباً ... لمَطْلَعِه من مشرِقِ العيْنِ والغرْبِ ولكنَّ شمسَ الحُسْنِ من وَجْهِ مُنْيَتِي ... لقد برَزتْ للنَّاظرين بلا حُجْبِ كذلك بشَمْسِ الغَرْبِ أشرَقَ شرقُنا ... بفضلٍ له قد شاعَ في العُجْمِ والعُرْبِ وقد كنتُ قِدْماً تُبْتُ عن كلِّ خُلْطةٍ ... تُنَكِّدُ عَيْشِي وهْي من أعْظَمِ الذَّنْبِ فلمَّا صفَى منه الودادُ ومَشْرَبٌ ... يرُوقُ لِظَامٍ ذِيدَ عن مَوْرِدٍ عَذْبِ نَقضْتُ على حُكْمِ المُرُءةِ تَوْبَتي ... وقد طَلَعت شمسُ المعالي من الغَرْبِ وبعد الشعر فصل: مولاي أحمد قد ملأ فضله الجبال والوهاد، فسد على حساده طرق الجحد، وحاز السيادة من ساعة الميلاد، فإنك مهدي إليها من المهد. وهو يعلم أن عقائل الوداد في خدور الخمول كمينة، وأنها لا تنجلي لغير المحرم ولا يبدين زينة، فإن الزمان مشتق من الزمانة، والإخوان لتقلب قلوبهم من الخيانة، وإن أطلع السباخ النخلة الفينانة، فقد ينبت المرعى على دمن الثرى، وتقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الأزرار مالها من ضيق العرى، وما كل جوهر له مشترى، وما كل صاحب يعرف قدر العسكري. فلذا نفرت حتى عن ظلي، وقاطعت حتى ولدي وأهلي، لكن ما لك من حسن الأخلاق، جذب لك مودتي بالأطواق، والسلام. قولي:) وما كل صاحب (الخ، إشارة إلى ما ذكره ياقوت في) معجمه (، من أن الصاحب ابن عباد تمنى لقاء ابن أحمد العسكري، فكاتبه في الحضور له، فتعلل بكبر السن، فلما يئس منه جذب السلطان لذلك الصوب، وسار معه، فحين أتى عسكر مكرم، كتب له: ولمَّا أبيْتُمْ أن تزورُوا ... ضَعُفْنا وما نَقْوَى على الوَخَدانِ أتيْناكُم من بُعْدِ أرضٍ نزورُكمْ ... على منزلٍ بِكْرٍ لنا وعَوَانِ نُسائِلُكمْ هل من قِرًي لنَزِيلِكمْ ... بِملْءِ جُفونٍ لا بملْءِ جِفانِ فأجاب، بنثر، ونظم منه: أرومُ نُهوضاً ثم يَثْنِي عزِيمَتِي ... تَعوُّذُ أعْضائِي من الرَّجَفانِ فضَمَّنْتُ بيتَ ابن الشَّريد كأنَّما ... تعمَّد تشْبِيهِي به وعَنانِي ) أُهمُّ بأمْرِ الحزْمِ لو أسْتطِيعُه ... وقد حِيل بين العَيْرِ والنَّزَوانِ ( فلما قرأه استحسنه، وقال: لو خطر ببالي هذا المثل، ما أرسلت ذلك الشعر، لكني ذهلت عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ثم أن العسكري قصده بحجم غفير من تلامذته، في ساعة لا يصل غليه أحد في مثلها، فحجبه الحجاب، فرفع صوته، يقول: مالِي أرى القُبَّة الفيْحاءَ مُقْفَلةً ... دُونِي وقد طال ما اسْتَفْتَحْتُ مُقفَلَها كأنها جنَّةُ الفِرْدَوْسِ مُعْرِضَةً ... وليس لي عَملٌ زَاكٍ فأدْخُلَها فناداه الصاحب: أدخلها يا أبا أحمد، فلك السابقة. فبادر له الخدم، وحملوه حتى جلس عنده، فأقبل عليه، ورفعه إلى ارفع مجلس، ثم تحادث معه، وسأله عن مسألة، فقال له: الخبير صادفت. فقال له: مازلت تغرب في كل شيء حتى المثل السائر. فقال: تفاءلت عن السقوط للحضرة. فأدر عليه، وعلى من معه بصلات كانوا يأخذونها إلى أن توفى. فانظر ما في هذه القصة من لطائف الآداب، وما للصاحب مع جلالة قدره من مكارم الأخلاق، الذي طير ذكره في الآفاق، وخلده في صحائف الدهور، وهكذا فلتكن الصدور. ولما أراد العود إلى المغرب، قال لي: عندي أمانة من مولاي أحمد، لا أرى غيرك لها أهلا ومحلا، فطال العهد ولم أر لها محلا، فقلت:) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 إن محلا وإن مرتحلا (فلما أزف الرحيل كتبت له رقعة فيها: أطال الله عمرك طول مواعيدك، وجعل آمالنا الكمونية مورقة من سحائب جودك. ولعمري، لقد طال المطال فعرقوب لا يبلغ عرقوبه، وزاد العتب على الإلحاح والعتب بغير جرم عقوبة، ولو لم يكن أملي أضعف من الذباب، ما أرتبط بحبال العنكبوت على هذا الباب، فلله أنت ما أحلمك وما أصبرك على كثرة السؤال والجواب، ولم أر مثلك في الجود، إذ بذلت لي ألوف ألوف من الوعود، ولم تلمني على مقابلتها بالكفران، وها أنا ذا تائب شاكر لهذا الحرمان، إذ لم يكن لمثلك علي منة، وأحمد الله على كل حال متبعا للسنة. وقد كان يعجبني قول أبي محمد الحكيم: لُبْسُ الثِّيابِ وتشْييدُ القصورِ وفي ... تلك الثِّيابِ رأيْنا أنفُساً خَرِبَهْ لأضْرِبَنَّ رجائي ألفَ مَقْرَعةٍ ... فِيكُمْ وأصْلُب آمالِي على خَشَبَهْ فلما رأيت بعد العهود، وطول حبال الوعود، قلت: طالتْ مواعيدُك يا سيِّدِي ... والعمرُ قد يقْصُر عن ذَا المِطالْ فخِلْتُ آمالي لها دُرْبَةٌ ... قد علَّمَتْها المشْيَ فوق الحِبال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ولو ترَى مِثْلاً لها ربَّما ... جرَتْ على فُرْجتِها بالنَّوالْ واللائق بالعارف بالزمان، أن لا يتعب على أحد من الإخوان، فإن الدهر خرف وهرم، ولو سأل شقيق شقيقه درهما لقال: أودى درم. فرحم الله الكرام، وعلى الجود الرحمة والسلام. وهذه رقعة قصدت بها المزح والمجون، ورياضة الطبع الحرون. وقولي:) أودى درم (مثل. قال الأعشى: ولم يُودَ من كنْتَ تسْعَى له ... كما قِيلَ في الحرْبِ أوْدَى دَرِمْ قال السكري في) شرح ديوان الأعشى (: درم هو دب بن مرة بن ذهل، وكان النعمان يتطلبه، فجهز له سرية؛ فلما ظفروا به مات في أيديهم، قبل وصوله للنعمان، فلما سأل عنه، قالوا: أودى درم. فذهبت مثلا. انتهى. وقصدت به الدرهم؛ لأن الدرهم فارسي معرب، وأصله درم، وقد يتلفظ به على أصله. ومثله قولي في الرجل الجليل، يكون خاملا لا يواسيه أحد، فإذا مات عظموه، وتأسفوا عليه: بكى الخلقُ ذا الفضْلِ لمَّا مضَى ... وقالوا ألا لَيْتَه لو سَلِمْ ولو كان يسْألُهمْ دِرْهَماً ... لقال له النَّاس أوْدَى دَرِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 ) فصل ( ذكر لي يوما أنه مشتاق للقائي، مستوحش لظلمة التنائي، فقلت ما جوابي لك غير قول أبي العيناء للمتوكل، وقد قال له: قد اشتقت لك يا أبا العيناء. فقال له: يا سيدي، إنما يشتد الشوق على العبد؛ لأنه لا يصل إلى مولاه، أما السيد فمتى أراد عبده دعاه. وما أكذب الشوق بالمقال، إن لم تقم عليه شواهد الإقبال. وقد شرحنا حالنا في التنائي والتداني، وقول ناصح الحين الأرجاني: وإذا رأيتَ العبْدَ يهْرَبُ ثُمَّ لَمْ ... يُطْلَبْ فَمَوْلَى العبدْ منه هاَربُ فاهتز عطفا، وتاه رقة ولطفا. ثم قال لي: من أي معنى أخذ هذا؟ قلت: لا أدري. فقال هو من قول المتنبي: إذا ترحَّلْتَ عن قومٍ وقد قدَرُوا ... أن لا تُفارِقَهُمْ فالرَّاحِلون هُمُ فأبدع وأبدع، وأعلم أنه من الأدب بمرأى ومسمع. ومنه أخذ القائل: ليس ارْتحالُك ترتْادُ الغنى سفَراً ... بل المْقامُ على بُؤْسٍ هو السَّفَرُ والمتنبي أخذه من قول الطائي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 وما الفَقْرُ بالبيدِ الفضاءِ بل التي ... نبَتْ بي وفيها ساكِنُوها هي الفَقْرُ ولما رأى وزراء الروم، وما هم عليه من دارس الرسوم، من تكبر بلا نفع يرجى، وتبختر كل دابة منهم حتى العرجى، قال أهؤلاء عني الغزى بقوله: مِن آلة الدَّسْتِ ما عند الوزير سِوَى ... تَحرِيكِ لِحيتِه في حالِ إيماءِ فهْوَ الوزيرُ ولا أزْرٌ يَشُدُّ به ... مِثْلَ العَروضِ له بَحْرٌ بلا ماءِ فذيلته بديهة له، وقلت: عسى تدورُ عليهمْ دائراتُ رَدًى ... تُقطِّعَنَّهمُ تقْطيعَ أحْشائي فقد شابه الرئيس المرءوس، وقام على جرب الأبدان قرع الرءوس، وما هذه الدول، إن لم يعرها الآن خلل، إلا كسقف السماء، وقبة الخضراء، قائمة بلا عمد ولا أطناب ولا وتد، فهي كبيوت الأشعار، لا تظلل في حضر ولا أسفار. كما قلت: جيوشٌ مالها في المُلْك نَفْعٌ ... حكَتْ صُوَراً تُصوَّرُ في كتابِ رأيتُ قتالَهمْ من غيْرِ نَبْلِ ... كمثلِ الضَّربِ في كُتُبِ الحسابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وعلى بحر العروض يعجبني هنا قول الأرجاني: راعَ الفؤادَ نَوَى الخَلِيطِ ولم يكنْ ... قبل النَّوى من حادثٍ بمَرُوعِ وأرى فُؤادي في الزَّمانِ كأنَّه ... بيْتُ العروضِ بُراد للتَّقْطيعِ وللحظيري: وعِرْضٍ بلا ذنْبٍ يُقطَّعُ دائماً ... كبيتِ عَروضٍ والحوادثُ أطْوارُ وقلت في معناه: دوائرُ أفلاكٍ تلوحُ بُحورُها ... بأصْفارٍ نجْمٍ قابلتْها بتَصْريعِ كما خُطَّ في رَسْمِ العَروضِ دوائرٌ ... جميعُ الذي مُعَدٌّ لتقْطِيعِ وقلت أيضا: وأنِّي في تضْييعِ ما قد جمعتُه ... لأجْلِ الذي يُولِي الوزيرُ من الغِنَى كبائعِ بيتٍ كان فيه مَقَرًّهُ ... يقول كفاَني بيتُ شِعْرِيَ مَسْكَناَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 محمد بن إبراهيم الفاسي نزيل مصر شمس فصاحة طلعت في آخر الزمان من المغرب، لو رآه ابن سعيد لنسي بفكاهة مفاكهته) المرقص والمطرب (. ما كنت أظن المغرب تنجب له بمثيل، إن الزمان بمثله لبخيل. ارتحل لمصر، واختلط بناسها، وميز حال فصولها وأجناسها. ولما قدم كتبت له خاطبا لعقائل وداده، جاليا كئوس المؤانسة على فؤاده: أيا شمسَ أهلِ المغربِ شَرَّفْتَ مِصرَنا ... وقلَّدتَه عِقداً نقيساً من الأُنسِ فصار رَبيعاً باعْتدالِ قُدومِكم ... ولا بِدْعَ فيما قلتُ في شرَف الشَّمسِ وكانت حالي معه حالية، وموارد أنسي به من قذى الكدر صافية، أراضعه ثدى الآداب، وأتخذه ممن مودته تدخل بيت القلب بغير إذن وحجاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 إلى أن أرتحل إلى المحلة، وجعل كرم قاضيها مقر أمله ومحله، وفارق إخلاءه وصحبه، لما كابده من صحبته الأمر بين الفقر والغربة، فانعطفت عليه أغصان المسرة وألهنا، وأقام في رياض المكارم تحت ظلال المنى. إلى أن حالت الحال، وأذنت شمس حياته بالزوال، فجاد بنفسه، وغاب في مغرب رمسه، بعدما وقف على أطلال الهمم، باكيا على دارس رسوم الكرم. وكان مغرما معي بالمزاح، لابسا للخلاعة وبرد الجد عنه غير مزاح. وأنشدني له يوما قوله: حكَيْتُ إبليسَ خَناً ... وصُورةً مِن عَوَرِهْ يا سابني عن العَمَى ... عندِي نِصْفُ خَبَرِهْ فقلت له: قد سبقك إلى هذا الباخرزي، في قوله: فلا تحسَبُوا إبْليسَ علَّمني الخَنَا ... فإنِّيَ منه بالفضائح أبْصَرُ وكيفَ يرى إبْليسُ مِعْشارَ ما أرَى ... وقد فُتِحتْ عَيْنايَ لِي وهْوَ أعْوَرُ وهو من قول الآخر: وكنتُ فتًى من جُنْدِ إبْليسَ فارْتَقَى ... بِيَ الحالُ حتى صار إبْليسُ من جُنْدِي ولو مات مِن قَبْليِ لأحْيَيْتُ بعدَه ... طرائِقَ فِسْقٍ ليس يُحسِنُها بَعْدِي وكان إذا أغار على معنى أغار، ولا يبالي بأنه يرى مغزاه إذا انجلى الغبار، تبعا لمذهب القائل: فإنَّ الدرهمَ المضروبَ باسْمِي ... أحَبُّ إليَّ من دينارِ غَيْرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 كقوله: يا تاركاً شُرْباً لقهوتِنا التي ... تجلُو صدَا القلبِ الكئيبِ العاني في ترْكِ مثلِك شُربَها لِيَ راحةٌ ... توفيرُها وطهارةُ الفِنْجانِ وهو من قول ابن الرومي: يا لائمي في الرَّاحِ غيرَ مُقصِّرٍ ... مازال ظنُّكَ سيِّئاً في الرَّاحِ فأفَلُّ ما في تَرْكِ مِثْلِك شُرْبَها ... توفيرُها وطهارةُ الأقْداحِ ولم يزل باللهو معروفا، وبغزلان النقا مشغولاً مشغوفا، لاسيما إذا تفتح عن ورد الخدود أكمام العذار، وشاهد صنع الله الذي يولج الليل في النهار. وقالُوا أتَتْ كُتْبُ العِذارِ بغزْلِهِ ... فقلتُ لهم لا تعْجَلوا فبِها وُلِّى ويقال أن هذا الأمر أذهب خبره وخبره، ومحا بيد الفنا عينه وأثره، حتى عصفت رياح المنية بروضه القشيب، وهصرت يد الردى يانع غصنه الرطيب، فاحتضر واحتضر، بأمر الملك المقتدر. لازال جدثه روض من رياض الجنان، ولابرح مجرى لجداول الرحمة والرضوان. فمن العنبر الذي أذكته مجامر فكره، وقذفته في سواحل المحاورة بحور شعره، ما أنشده لي من قوله مضمنا: قلُ للقضيبِ ورَاحُ الريِّح تعطِفُه ... أثْناءَ بُرْدٍ من الأزْهار مُنْتسِجِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 أشْبَهتَ قامةَ من أهْواهُ لو طلَعتْ ... أعْلاَك شمسٌ وفُقتَ المِسْك في الأرَجِ لك البِشارةُ فاخْلَعْ ما عليك فقدْ ... ذُكِرتَ ثَمَّ على ما فيكَ من عِوَجِ ولابن أبي حجلة مضمنا: قل للهلالِ وغَيْمُ الأُفْقِ يسْترُه ... حكَيْتَ طَلْعةَ من أهْواهُ بالبَلَجِ لك البِشارةُ فاخْلَع ما عليك فقدْ ... ذُكِرْتَ ثَمَّ على ما فيك من عِوَجِ وأنشدني له أيضا مضمنا: أأسْلُو في الهوَى طَعْمَ الهوانِ ... ورَبْعُ الحسنِ مَأْهُولُ المغانِي ومَن أهواهُ واصَلنِي جِهاراٍ ... وصِرتُ من الَّقيبِ على أمانِ وقد حلَّ العِذارُ بوجْنَتيْهِ ... بمنْزلةِ الرَّبيعِ من الزَّمانِ وأنشدني قصيدة، منها: أتُسِلُ دمْعِي ثم تسألُ ما جرِى ... عجباً لعَمْرِك ما رأيتُ وما أرَى هذِي دِماَ نفْسٍ هواكَ أذابَها ... فهَمَتْ على خَدِّي نجِيعاً أحْمرَا ومنها: مَن كان يقْبِضُه جلالُ الحُبِّ عن ... بِسْطِ الجمالِ فلم يزَلْ مُتَحيِّرَا فأنا جمَالِيُّ الغرامِ وهكذا ... وِرْدُ الجمالِ لن تَراه مُكَدَّرَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ومنها في حسن الختام: وإليْكهاَ والحسنُ بعضُ صفاتِها ... بِكْراً تُحاكِيها الملاحةُ منْظرَا قد زََّفها فكْري إليك ومهْرُها ... نَقْدُ القَبولِ وسقُّها أن تُمْهَرَا حاشاكَ تُهمِلها ويعرِفُ قدرَها ... من قد ترى بين الثُريَّا والثَرَى ختَم البيانُ بها فكلُّ سليم طَبْ ... عٍ صار من عَجَب بها مُتَحيِّرَا وله في الهجاء مضمنا: لقد قلتُ للِطُّورِيّ لمَّا بدَا لنا ... كجُلمودِ صخْرٍ حطَّهُ السَّيلُ من عَلِ بوجْهٍ كليْلِ الهجْرِ أسْودَ طائلٍ ... ألا أيُّها الليلُ الطَّويلُ ألا ابْخَلِ ومما أنشدنيه لنفسه قوله: ولمَّا دار بالخَدَّيْن نَبْتٌ ... حكَى عصرَ الصِّبا قبلَ المشِيبِ تيَّقنْتُ الوِصالَ وليس وَعْدٌ ... هناكَ ولا خُلُوةٌّ ولا رقِيبِ ولكن دَارَةُ القمرِ اسْتَتمَّتْ فدلَّتْنا على مطَرٍ قريبِ وأنشدت له قولي في معناه: على خَدِّه مُذ لاح نَبْتُ عِذارِهِ ... جرَتْ أدمُعي في الخدِّ ذاتَ صَبِيبِ إذا ما اسْتدارَتْ دَارَةُ البدْرِ حولَه ... فإنَّ وقوعَ القَطْرِ غيرُ عجيبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ومما أنشدنيه قوله من لفظه مضمنا: يا سالبَ الغُصْنَ حُسْنَ القَدِّ والمَيَلِ ... مُلْبِسَ الشمسِ ثوبَ الحُزْنِ والخجَل ما شاَن خدَّك نبْتُ بل صفاَ فترَا ... ءتْ في سَناهُ ظِلالُ الهُدْبِ والمُقَلِ فاثْبُتْ على حُبِّه يا قلبُ تَحْظَ بهِ ... فهل سمعْتَ بظِلٍّ غيرِ مُنْتقِلِ ومعنى البيت الثاني مما سبق إليه، كقول الأرجاني: أعِدْ نظراً فما في الخدِّ نبْتٌ ... حَماهُ اللهُ من رَيْبِ المَنُونِ ولكن رَقَّ ماءُ الخدِّ حتَّى ... أراكَ خيالَ أهْدابِ الجُفونِ ومما قلته في معناه مضمنا: صَقِيلُ خُدودِهِ مِرْآةُ قلبي ... وماءُ الحسنِ رَقَّ به ورَاقاَ تُحِيطُ به العيونُ إذا تَبَدَّى ... وهل طَرْفٌ يُطِيقُ له فِراقاَ فَخالُوا رِقَّةَ الأهْدابِ فيه ... عِذاراً قد كساَ بدْراً مَحاقاَ وظَلْنا نجْتلي منه مُحيَّا ... كأنَّ عليه من حَدقٍ نِطاقاَ وكان يهوى بمصر غلاما وقد دب ظل العذار على ورد خده، وجعل حارس الحسن بنفسجه سياج ورده، هام به هيام سعد بن أنيس بورده، ووهبه روحا لابسة حلل المودة، فكان لا يسر إلا إذا اصطبح من عذاره بالآس ثم لما أدركه الغرق من الوجد واليأس، عمل فيه مزدوجة لم يدركها مدرك، فكان ذلك سببا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 لصده المهلك، فارتحل لافتضاحه للمحلة الكبرى، فكتبت له إذ ذاك قصيدة، لأجدد له الذكرى. منها: مَن لم يُدِمْ ذكرَ الحبيبِ النَّاسي ... ومعاهداً فيها فليس بناَسِ بِي مَن كساَ جسْمِي السِّقامَ وَعَلَّني ... بمُدَامِ دمْعِي يالَهُ من كاسِ في نُقْطةٍ من خالِه يرجُو الوفاَ ... دمعٌ زيادتُه بغيْرِ قِياسِ لمَّا خشِيتُ على الكرَى من مَدْمعِي ... أوْدعتُه في طَرْفِه النَّعَّاسِ يقْسُو علىَّ فؤادُه ياليْتَه ... يَعْدِيه لِينُ قَوَامِه الميَّاسِ تاللهِ ما حُبِّي لعارِضِ خدَّه ... كالوَرْدِ بل حُبِّي له كالآسِ ومنها: يا جوهراً للمجْدِ صار مُجرَّداً ... ما أنتَ إلا الرُّوحُ لْلأكْياسِ لو لم تُحدِّثْ عن شمائِلِك الصَّبا ... لم تكْتسِب ذا الطِّيبَ في الأنْفاسِ يا راحلاً عنِّي ومُجْرِىَ أدْمُعِي ... ما في وُقوفِكَ ساعةً من باَسِ عِقْدٌ على جِيدِ الزَّمانِ مُنظَّمٌ ... روْضٌ له ظِلٌّ على الجُلاَّسِ لم أسْتطِعْ وصْفِي لهيبَ صَبابتِي ... مَن يُودِعُ النِّيرانَ في القِرْطاسِ ومنها: فاسْتَجْلِها بِكْراً نتيجةَ ليْلةٍ ... صَهْباءَ سالبِةً عُقولَ النَّاسِ لا زال يا إنْسانَ عيْنِ العصرِ مِن ... ذِكْرِي بسالفِ عْهدِكَ اسْتِئْناسِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 مولاي أما الشوق فقد اشتعل ضراما، وكاد عذابه أن يكون غراما، حتى قال فم الجفن: يا نار كوني بردا وسلاما. فأني ألقي إلي كتاب كريم، فاح منه شميم عرار نجد وما بعد العشية من شميم، فمتعت بما هو أحلى من الوصل بعد الهجر، ومن الأمن بعد الخوف، ومن البرد بعد السقم، ولم أدر أطيف منام، أو زائر أحلام، أم قرب نوى بعد البعاد، أم حبيب وافى بلا ميعاد، من أديب أشرق بدر مجده ساطعا، وألبسني برد المسرة أخضر يانعا. أهُمُّ ببَسْطِ حِجْرِي لالْتقاطٍ ... إذا حاضَرْتَ بالدُّرِّ النَّسيقِ فحدانى أن أحث مطي الهمم، إلى نحو كعبة الفضل والكرم، فحركت مجمل الطبع حتى عبق عنبرا وندا، وهززت قضب اليراع على خدي الطرس فانتثر أقاحا ووردا. وقد كنت ممن زجر عن هذه الصناعة طبعه، فإنها كما قيل كالياسمين لا يساوي جمعه. ولسان التقصير، كما قيل قصير لاسيما والجود عبد أنت سيده، والفضل عقد أنت مقلده، والبلاغة سوار ليس لغيرك عليه يد، ورداء المعارف مستعار منك، وان كان لا يسترد، وللفصاحة ماء لا يجري في غير ناديك، وينبوعه لا يتدفق إلا من أياديك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ولو صوَّرت نفسَك لم تزِدْها ... على ما فيكَ من كَريِم الطِّباعِ وزمان الأنس غابت عني أسراره، وطريق المجد أظلم دوني ليله ونهاره، وانطوى عني دجاه وضحاه، فسامرت نسره ونعائمه، ونفضت بعصا النسيار نجوده وتهائمه، وعود الهوى، قد يبس وذوى، وعهدي قديم بالنضال، وأني في السبق قد أثقلني قيد الكلال. ولا ينكر من القرائح جمودها، ولا من نيران الذكاء خمودها، وقد غاض الكرام، وفاض اللئام، والحر لا يستعبد بغير الوداد، ولسان المرء من خدم الفؤاد. ولولا ابتسام ثغر المنى، وامتداد خط الأمل لنا لمل كل قلب عاني، يقتات السوف والأماني. فقد صرفت عن كل شيء وجه ميلي، لما نفر عني كل شيء حتى صبح ليلي، واستوحشت من كل شيء حتى ظلي، ومللت حتى الملل فقلت من لليلي ومن لي. إنَّ دهراً يلُفُّ شملي بسعدي ... لزمان يهم بالإحسان وفي المثل:) أعطي العبد كراعا، فطلب ذراعا (. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 فعسى أن تمنوا بسطور، هي سلالم يترقى بها إلى السرور. لا زلت ترفل في ثوب بقاء بالصحة معلم، وتقيل في ربيع مسرة حماه عن الاكدار محرم، ألما الظلال عذبى المشارب، تسطر محامده بين دفتي المشارق والمغارب، ما حن صديق إلى صديق، وصرف بدارهم النجوم دينار الشمس الأنيق، والسلام. فأجاب بقوله: أسَقِيطُ طَلًّ في حديقة آسِ ... أم ذا حبابٌ دار فوق الكاسِ أم دُرُّ ثَغْرِ الأُقْحُوانةِ باسِمٌ ... أم دمعُ طَرْفِ النَرْجِس النَّعَّاسِ أم جَنَّةٌ جُنَّ النَّسيمُ بحُسنِها ... أغْصانُها من ذاك في وَسْواسِ أم هذِه زُهْرُ النجومِ تزيَّنتْ ... منها السماءُ هِدايةَ للنَّاسِ أم ذا هو السِّحرُ الحلالُ حَلاَ أم الْ ... عذبُ الزُّلالُ وكلُّ عُضْوٍ حاَسِي أم رُقعةٌ رفَعتْ لواءَ بيانها ... فأتى البديعُ لها ذليلَ الرَّاسِ نطقَتْ بكلِّ فضيلةٍ ظلَّتْ لها الْ ... أحداقُ بين مُحقِّقٍ أو خاَسِي الشِّعرُ فاخَر أنْجُمَ الشِّعْرَى بها ... والجَوُّ قال الفضْلُ للِقرْطاسِ مَن ذا يُطاوِلها ومطْلَعُ نُورِها ... أفُقُ الشَهابِ وظُلمةُ الأنْقاَسِ وافَتْ فما وفَّيْتُ بعضَ حقوقِها ... إَلا ببَذْل النَّفُسِ والأنْفاسِ طار الفؤادُ لها وَقارُها ... ما في وقوفِكِ ساعةً من باَسِ جاءتْ تُحدِّثُ عن محاسنك التي ... شُدَّت إلى حُسنِ الثَّناَ بِمِراسِ أمَّا الفصاحةُ صَحَّ أنَّكَ قُسُّهاَ ... بالرَّغم من غِمْرٍ حسودٍ قاسِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 ِللهِ دَرُّ عَقِيلةٍ أبرَزتَها ... عقَلتْ بِبَهْجتِها عقولَ النَّاسِ مِن كلِّ بيتٍ كاد يُشبِه لفظُه ... معناه كلٌّ دَقَّ عن إحْساسِ شَرحَتْ ليَ الوُدَّ القديمَ وذكَّرَتْ ... قلباً فَديْتُك لم يكنْ بالنَّاسِي ما أخطأتْ رَشَداً وإن تكُ أبْطَأتْ ... خيرُ اللِّقا ما كان بعدَ الْياَسِ فالحُبُّ أن أرْضى بما تَرْضى وها ... حُبِّي وحَقِّك راسخٌ بأساسِ كُنْ كيفَ شئْتَ فشِيمَتيِ حِفْظُ العهُو ... دِ وإننِّي طَوْدُ الوفاءِ الرَّاسي يا مَن زهاَ حُرُّ القرِيضِ بلفْظِه ... وغَنِي به الإنْشاءُ من إفْلاسِ ومَن اسْتَنَارتْ منه مصرُ وأُفْقُها ... لَّما كساها الفضلُ خيرَ لِباسِ ومَن انْمَحَى ذنبُ الزَّمانِ لأجْلِه ... وغَدَتْ به الأيامُ كالأعْراسِ دُمْتَ المُقدَّمَ في المجادةِ والإجا ... دةِ والإفادة والنَّدى والباَسِ وإلَيْكهاَ وهي الملاحةُ نَفْسُها ... والحسنُ بالأنْواع والأجْناسِ فإذا أصاخَ لها الحسودُ حسِبْتَه ... ما بين كأس أو ظِباءِ كِناس عذْراءُ تبسطُ عُذْرَ تقْصيري ومِن ... داءِ التطاوُل فهْيَ نِعْمَ الآسِي أنَّى لمْثلِي أن يجيءَ بِمثْلِ ما ... تأْتِي وأين الشَّمسُ مِن نِبْراسِ لكنَّهاَ ردُّ السَّلامِ سلكْتُ فيهِ الطُّولَ قدْرَ زيادةِ اسْتِئْناسِ فعلَيْكَ من أوْفَى السَّلام أَبَرَّه ... مَّمن يُكابِد بُعْدَه ويُقاسِي حَلَّ المْحَلَّةَ جسمُه والقلبُ في ... مصرٍ لديكَ وأهلُه في فاسِ بعد تقبيل ثريا ذلك الثرى، الذي عبق في المشام عنبرا، وقلد جيد الزمان دررا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 لا زال منبع البيان، ومنتجع الأعيان، ولبرح جوهر حصبائه يفضله العيان، على قلائد العقيان. هذا، وقد وصل إلى، وصل الله لك أسباب العلا وألبسك رائق الحلى، كتابك الخطير في رقعة من محاسن لفظك الرائق الجلباب، المزري برونق ريق الشباب، وبهجة من بدائع خطك المستوقف للناظر، المخجل بحسنه الوشي الفاخر، والروض الناضر، فأجناني ثمر البر يانعا، وجلى على وجه الود لأبيض ناصعا. وأراني كيفَ انِقيادُ القَوافِي ... في زمامِ البيانِ سَمْعاً وطَوْعاَ وفتح للمخاطبة بابا، طالما كنت له هيابا، ورفع حجابا، ترك القلب وجابا. مازلت أغازلها أملا، فلا أطيق لها عملا، وألاحظها أمدا، وأذوب دونه كمدا. وفي تَعَبٍ من يحسُدُ الشمسَ نورَها ... ويزعُم أن يأْتي لها بضَرِيب لا جرم أنه اقتضاني خالص ود، وصحيح عهد، لم يلتفت مني إلى معذرة، ولم يكلآني إلى ما في الوسع من المقدرة، وقد يعود على علمك بحر القريحة ثمدا، وحسام الذهن معضدا فتكلفتها بحكم هذا الغرام تحت حصر، ونازح بصر، فإن سمحت بالإغضاء، وسامحت في الإقنضاء، سلمت لك اليد البيضاء، وظهرت لشكرك بالقضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وأما العذر الذي توخيت - ولا عدمت - شرحه، وحميت بقوة الكلام سرحه، فأنت غني عن تكلفات إيضاحه، ومد أوضاحه، فالذي يثبت في النفوس، من الود المصون المحروس، لا يخشى عليه من تسلط الطموس والدروس. ولا أقول إن ودي لك كالتير، إذ لا يصفو ما لم يشبه لهيب الجمر، ولا كالراح، حيث يفتقر في الرفة إلى مر المساء والصباح. بل أقول: إن ودي لك - أبيت اللعن - كالفرات العذب، يشفي غليل القلب، ويطفي لهيب الصب، يحل بالأرض الميتة فيحيها، ويمر بالروضة الذابلة فيتوجها بالأزهار ويحليها. وأنت - أعزك الله - لا تثريب عليك إذ كل يعمل على شاكلته، ويجري في أموره على مقتضى مرتبته، فإن حنو السيد - وأنت ذاك - يستكثر قليله، وإخلاص العبد، وهو أنا، يستحقر، كما علمت جليله، والحق أغلب، ومعرفي المرء نفسه أصوب. وإن تفضلت بالاستفسار عن أحوال العبد، فالحال في خير، والمآل يعلمه الله تعالى. وبالجملة، فسهم المصيبة إن سدده الدهر فعلى مثله وقع، والتألم بمثل هذه الحالة قد ارتفع. ولم أرَ مثل الصَّبْرِ أما مذاقْهُ ... فحُلْوٌ وأما وجهُه فجميلُ. وكذلك كل من دعا الصبر لما شاء أجاب، وأراه من نشره الأفق المنجاب، وأقامه بين مبرات وألطاف، وأعطاه مما أحب جني قطاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ولله در القائل: يعيشُ المرءُ ما استغْنَى بخْيرٍ ... ويبْقَى العًودُ ما بَقِيَ اللَحاءُ وهو الدهْرُ لا يُرَدّ عن مراده، ولا يصادر في إصداره وإيراده. فيومٌ عليناَ ويومٌ لناَ ... ويومٌ نساءُ ويومٌ نُسَرُ على أن طول الغيبة ليس لشيء، علم الله آثرته على لقياكم، إذ استبدله طوعا لكنه ارتكاب للأخف من الضررين، واختيار للأهون من الشرين. عسى غلطاً يُثْنِى الزمانُ عِنانَه ... بدَوْرِ أمورٍ والأمورُ تدورُ فتُدرَك آمالٌ وتُقْضى مآرِبٌ ... ويحدثَ من بعدِ الأمور أمورُ فلذلك قدمت من البحر بالوشل، وسرحت في رياض المنى بين عسى ولعل، فقد قيل إذا دار الفلك، فعليك أو فلك، ولله في خلقه أمر لا تدرك العقول حكمته،) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَينْشُرُ رَحْمَتَهُ (. وما اجتليته في كتابك الخطير، وروض كتابك المطير، استدعي شيئا من نظم العبد ونثره، والتنويه بذلك من خامل ذكره. فلا عدمت منك مولى على الإحسان مثابرا، وحكيما لكسر إكسير الخاطر جابرا. مع تشتيت الحال لبعد مزارك، ونأي داري عن دارك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وأقسم أني صممت عن التغافل عن الجواب، وهو الأولى بالصواب، إذ ليس بلبيب من يقيس الشبر بالباع، والجبان بالشجاع، وكيف لا، وكل من تكلف فوق طاقته، افتضح لساعته، ولكن عدم الامتثال محذور، والملجأ إلى ما لا يطاق معذور. فتكلفت لما يعرض عليك من المسمطات، سوى القصيدة المشار إليها بذكر بعضها، فإنها متقدمة على ورود مشرفتكم. فمثلك من سد الخلل، وتجاوز عن الزلل. والله يبقيك، ومن كل سوء يقيك، والسلام. قوله في القصيدة:) حلٌ المَحلَّة (الخ، كقول ابن الخازن: يوماَ بحُزْوَي ويوماً بالعقِيق ويو ... ماً بالعُذَيْبِ ويوماً بالخُليْصاءِ ولأبي تمام: بالشَّام أهْليِ وبغداد الهوَى وأنا ... بالرَّقْمَتَيْن وبالفُسْطاطِ إخْوانِي وللأمير أبي فراس الحمداني: يا هل لصَبٍ بِكَ قد زِدْتَه ... على بَلايَا أسْرِه أسْرَا قد عدِمَ الدنيا ولذَّاتِها ... لكنَّه ما عدِمَ الصَّبْرَا فهْوَ أسيرُ الجسم في بلدةٍ ... وهْوَ أسير القلبِ في أُخْرِى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ولابن عبد ربه الأندلسي صاحب) العقد (: الجسمُ في بلدٍ والرُّوحُ في بلدِ ... يا وَحْشةَ الروح بل يا غُرْبَةَ الجسَدِ إن تَبْكِ عيناك يا من قد كلِفْتُ به ... مِن رحمةٍ فهما سهْمانِ في كَبِدِي ولابن الفارض: كيفَ يلْتَذُّ بالحياةِ مُعنًّى ... بين أحشائِهِ كوَرْىِ الزِّنادِ في قُرَى مِصْرَ جسمُه والأُصَيْحا ... بُ شَاماً والقلبُ في بغدادِ وقلت أنا في مثله: شُتِّتَ النَّوْمُ والأحَّبةُ عني ... مع تأْليفِ أدْمُعِي ووُلوعِي أنا في بلْدةٍ وأهْلي بأُخْرَى ... وحبيبي بغير تِلكَ الرُّبوعِ فكأن الزَّمانَ مني اشْتَرى الصَّفْ ... وَبنَقْدٍ أسالَهُ من دمُوعِي وقوله في المنثور:) وُدِّي لك (الخ، كقول أبي محمد بن سفيان من شعراء) القلائد (: كتبت وما عندي أصفى من الراح، وأضواء من سقط الزند عند الاقتداح. وقول أبي محمد بن القاسم الوزير في جوابه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 كتبت عن ود لا أقول كصفو الراح، فإن فيها جناحا، ولا كسقط الزند فربما كان شحاحا، ولكن أصفى من ماء الغمام، وأضواء من القمر ليلة التمام. فراجعه بقوله: كتبت - دام عزك - عن ود كمء الورد نفحه، وعهد كصفائه صفحه، ولا أقول أصفى من ماء الغمام فقد يكون معه الشرق، ولا أضواء من قمر التمام، فقد يدركه النقص ويمحق. وليس ما وقع فيه الاعتراض مختصا بصفو الراح، ولا بسقط الزند عند الاقتداح، فإن أمور هذا العالم هذا سبيلها، وجياد الكرم تجود كيفما أرسلها مجيلها. وعلى ذكر القصة قلت: إن الصفَّي الذي كنتُ أعهَدُه ... عند المُلَّماتِ ذُخْراً للوداد مُذِقْ وقد يغَصّ بخيْر الزْادِ آكلُه ... وقد يكون من الماء الزُّلالِ شَرَقْ وقلت أيضا: إن كنتَ تُوجعني بالّلوم في زَللِي ... وظَلْتَ تُبْرِيءُ من الدّاءِ بالدَّاءِ فقد يسوغُ بضَرْبِ الظَّهر غُصةُ مَن ... قد اسْتغاثَ فلم يُنْجِدْه بالماءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ) فصل ( كنت في عنفوان الشباب أهوى الهزل والخلاعة، مع هذا الأديب، لكثرة ما عنده من الأهواء، فكتبت له يوما، وقد رأيته يتحدث مع بعض الأحداث: ما بال مولاي مغرى بتقديم الذكور على الإناث، ومرتكبا لأثام تطلق بها حور الجنان بالثلاث؛ ذلك لأن الرجل خير من المرأة بالاتفاق، فلذا تخلف عن الخلاق، وشق جيب الشقاق، كما قلت: أديبٌ مالَ عن حبِّ الغواني ... وبالغلْمان أصبح ذا اكتِراثِ أقلت برأي أرباب المعاني ... فغلبت الذكور على الإناث وما سواه من خلاف القياس، وإن لم يخل مثله عن لبس والتباس وإيران تحت لحاف خطر. وممن خالف المعاني، الأديب الأصفهاني، حيث قال: هاتيكَ حبيبتي ازْدَهَتني طِيباً ... أوْسَعتُ بها ابنَ هانِئٍ تكْذيباَ لو أمْعَنت النُّحَاةُ فيها نظراً ... لم تدْعُ إلى المذكَّر منها التَّغليباَ والتغليب باب واسع الموارد، كثير المصائد والأوابد، فلينظر الصواب، ولا يرسل الباز في الضباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 الوزير عبد العزيز الثعالبي الأديب ساحر تخلب نفثاته العقول، وفاضل الأيام من فضله غرر وحجول. إن ذكر رقة طبعه في الشمأل والشمول، أو شعره فما أبيات غيره إلا دارسات رسوم وطلول. إذا طرز بكلامه برود المجد، تخاله من جارو سكان تهامة ونجد. قدت من أديم المجد خلاله، ففضح الرياض وسحر السحر أقواله. ديمة مجد أمطرت سحائبه وسماء فضل شرف كواكبها مناقبه. شمائلُ لا جَيْبُ الزَّمانِ مُعطَّراً ... حكاَها ولا خَدُّ الشَّمول مُوَرَّدَا أطلع في رياض ورده وسوسنه، وأصبح للفقه ملكا فضائله في صحف الدهر) مدونة (. بمثله بطون الإمكان عقيمة، فلو رآه الثعالبي توج به) تتمة اليتيمة (. إذا جلى كواعب كلمانه فضحت الكواكب نورا، وإذا أنشد عد نثره سواه هباءً منثورا. ولما قدم قسطنطينية الروم اجتمع به الأفاضل، وعظمه من بها من الصدور والأماثل، فكتبت إليه مادحا، ولعذب أدبه مائحا، بقولي من قصيدة: وافَتْ وطَرْفُ النَّجم مكحُولُ الحَدَقْ ... وعارِضُ الظلماءْ في خَدِّ الشَّفَقْ سكْرانةٌ الألحاظِ من خمر الصِّبا ... تعثُر في ذيلِ ظلامٍ وفَرَقْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 واستعْجلَتْ في خَطْوِها تكان أن ... تسِبقَ طَيْفَ آملٍ لها طَرَقْ مائسةٌ تفضَحُ أغْصانَ النقَا ... لها من الحلْىِ ثِمارٌ ووَرقْ فأبْصَرتْني للسَّقام لابساً ... ملابساً من وَشْيِ أفكارِي أدَقّ فابْتَسمتْ فكاد مِن بارِقِها ... فحمُ الدُّجى يحَرْقُه ضوْء الفَلقْ ما اهتزَّ عصنُ البانِ إلَّا فَرَقاً ... لأنَّه لهَيَفِ القَدَّ سَرَقْ ومنها: ماءُ الجمال في رياض خدَّها ... راقَ لنا ظِرى وُرُودُه وَرَقَ ماذُقتُه وماءُ صَفْوِى كدِرٌ ... بهَجْرِها فكيف لي منه شَرَقْ وِرْدٌ بأفْواهِ المُنَى مُتعَذَبٌ ... كوِرْد بحرٍ قد نفَى قَذَى الملَقْ عبدُ العزيز مَن بعِزَّ مْجدِه ... أحيى زماناً فيه للفضْل رِمَقْ رَوْضٌ سحابُ الفضل جادَ نَوْرَه ... حتى زهَا مُقْتَطَفاً ومُنتَشَق للفضلِ مالكٌ وفي مِضمارِه ... من أشْهبِ بقَصَب السَّبْقِ أحَقّ خُذْها عروساً لبست ثوبَ البهاَ ... سعَتْ إليك بين خَبَّ وعَنَق لو صُرَّ دُرٍ طَرَقتْ أسماعَه ... أهْدى لها دُرَّ الثّناء في طَبَقْ قد وصف السّحرَ لسانُ طِرْسِها ... بعارِض خُطَّ على خَدَّ الورَقْ حتى غَدا العْنبرُ يُلْقى نفسَه ... في النْار من غَيْظٍ لديه وحَنَقْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ومدحه صاحبُنا الأديب أبو المعالي الطَّالُوِىَ بقصيدة أنشدنيها، منها: لعبدِ العزيز الأوْحدِى الثَّعالِبي ... بدائعُ فاقتْ مُبْدَعاتِ الثَّعالِبي فما بعدَها في الدَّهرِ تُلْقَى يَتيمةٌ ... ولا قبلَها وَشَّتهُ أقلامُ كاتبِ سَوادُ سطورٍ في بياضِ مَهارِقٍ ... وشَامٌ على خدّ لحسناء كاعبِ وإلاَّ لَمّى وَسْط الشَفاهِ يُعَلُّ مِن ... جَنَى النَّحلِ ممزوجاً بماءِ المذَانِبِ وإلاَّ رياضٌ قد كسَتْها يدُ الصَّبا ... طرائفَ وَشْىٍ من نسيجِ السَّحائبِ كأنَّ عليها عَبْقرِىُّ مَطارِفِ ... ومن حُلَلِ الدَّيباجِ وَشْىُ عصائبِ فكيف ترَى عينٌ يتيمةَ دهْرِها ... وأمٌّ سجاَياهُ وَلودُ الغرائبِ فاللهِ مولى قد شهدْنا بما وَشى ... مُكاتبةَ الصَّادَيْن صابٍ وصاحبِ وحَكَّم في نْظمِ القريضِ خواطراً ... أبتْ غيرَ نظمِ النَّيراتِ الثَّواقبِ فما يَشْكُرِىُّ القومِ يوماً وإن شدَا ... بنظْمِ القوافِى عنده غيرَ ناعبِ فكم بنت فكرٍ قد جلاها بنَانُه ... علينا وما غيرُ الأديبِ بخاطبٍ كأنَّ صَباَ دَارِين فَضَّتْ عضيَّة ... على عِطْفها الميَّاسِ مسْكَ الحقائبِ ومرَّتْ بوادي الشّجْرِ مجُتازَةَ الَلوَى ... لوِىَ الرَّملِ فيه البانُ مُرْخَى الذَّوائبِ تجُاذِبُ من نجْدٍ شَمِيمَ عَرارِهِ ... فيرْنُو لها الحَوْذانُ من لْحظِ غاضبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وواَفتْ الزَّرواءِ ليلاً فساجلَتْ ... على الكرْخ داراً بالدُّموِع السَّواكبِ وللمغْربِ الأقْصَى ثنَتْ من عِنانِها ... تَؤمُّ حِمىَ البيْضاءِ عَزَّتْ لطِالبِ بحيث تَرى البيْتَ الإمامِىَّ معتلًى ... تطوفُ به الأمْلاكُ من كلَّ جانبٍ مَجَرُّ العوالِى السمْهرِيَّة والقَنا ... ومجْرَى الجيادِ المُقْرباتِ السَّلاِهبِ عليها أسود الإنْس في يوم سِلمِها ... وفي الحرْبِ تُلقَى دامِيات المَخالبِ بها يكْلأُ اللهُ الخلافةَ في حِمىَ ... مليكٍ قصىَّ العزْمِ داني المواهِبِ حِمَى الملكِ المنْصورِ موْلاىَ أحمدٍ ... إمامِ الهدى رامِى العِدى بالمقَانِبِ أسودٌ على متْن السَّراحيبِ غابُها ... من الأسَل الخطَّىَ دامِى الثَّعالبِ تلَوَّى بأيْدِى الدَّارِ عينَ كأنَّها ... صِلالُ نقاً مَذْعورةٌ في مسارِبِ تَرى السَّرْدَ نَهْياً والقَتِرَ حَبابَةُ ... فتكْرعُ في حوضٍ من الدَّمَّ راغبِ مُؤيَّدُ دينِ اللهِ مُشْتجِرُ القَنا ... ومُعترِك الَهيْجا بماضِي القواضِبِ سليلُ الوغَى إن ينتضى يومَ مَعْرَكٍ ... وفيه المنايَا مُزَّفتْ في الكتائبِ ومنها: فيا ابْنَ الألَى هذِى مناقبُ فخرِهمْ ... وهل بعد هذا الفخرِ شَأْوٌ لطالبِ لَعِنْدى على بُعْدِ الدَّيارِ ونأيِها ... قلائدُ نظمِ كالنَّجومِ الثَواقبِ ولكن قوافِى الشّعرِ كيف أجيِدُها ... وفيكمْ أتَى التَّنْزيلُ يا آلَ طالبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وأنّى لأهْوَى أن أكونَ مع الصَّبا ... رسولاً إلى البيْضاءِ تُقْضَى مآرِبِى لدَى ملِكٍ دانى النَّوالِ وكفُّه ... لراجيهِ أندْى من غّيوثٍ سَواكِبِ على كلَّ خطّ منأسرَّةِ وجْهِه ... دليلٌ على أن الرَّجا غيرُ كاذبِ لُسدِتِه مأوَى العُفاةِ بَعْثتُها ... قوافِ عسى عَّنى تقومُ بواجبِ عليها من المدْحِ الإمَامِىّ جوْهرٌ ... ترَقْرَق ماءَ في متونِ القواضبِ وأنشدني الفاضل عبد العزيز بقسطنطينية قصيدة، منها: زُجاجةُ الفجْر أبدتْ خَمْرةَ الشَّفقِ ... ولُجَّة الصَّبحِ أخْفَتْ نَرْجسَ الأفُقِ فبات في زُهُر طِلاً ... وليس غيرُ دخانِ النَّدّ من غَسَقِ والليلُ قد قلَّد الإصْباحَ حين بدَا ... كأسْودٍ لابسٍ طوْقاً من الورِقِ وما محاَ الصُّبحُ نِقْسَ الليلِ واسْتَترتْ ... سَوْساَنةُ الفجْرِ يوماً وَرْدةُ الشَّفَقِ لكن دمُ اللَّيلِ لمَّا سالَ عَنْدَمُه ... أنَتْ لتْقطعَه كافورةُ الفَلَقِ في روضةٍ أودعَتْها السُّحْبُ سِرَّ شَذاً ... فنَمَّ وَفْدُ الصَّبا عن نَشْرِه العَبِقِ فيها لكُمْتِ كؤوسِ الرَّاح مُعْتركٌ ... وليس غيرُ اْحمرارِ الوردِ من عَلَقِ حيثُ الأسِنةُ زُرقٌ من بَنَفْسَجهِ ... وخَضْرُ أوراقهِ فيهنَّ كالدرَقِ وللشَّقيقِ اْحمرارٌ في جوانِبهِ ... كأنَّهن جِراحاتٌ على نَسَقِ والرّيحُ فوق مُتُونِ الماء طالعةٌ ... بيضاً على زَرَدٍ مفْكوكة الَحلَقِ والرّوضُ مثلُ أبى حفْصٍ وبهْجتُه ... كخُلْقِه وشذَا ربَّاهُ كالخلقِ نَجْلُ السّرِىّ أبى العباس من ظَهرتْ ... آياتُ سُؤددِه في وجْهِه الطَّلقِ وعلى بنوالها قول الحلي: فَيْرُوزَجُ الصُّبحِ أم ياقُوتَهُ الشَّفَقِ ... بَدتْ فهيَّجتِ الورْقاءَ في الورَقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وبيت الشقيق من قول القاضي عياض: انْظُر إلى الزرْعِ وخاماتِه ... تحُكى وقد ماسَتْ أمامَ الرّياحْ كَتيِبةً خضْراءَ مهزومَةً ... شقائِقُ النُّعمانِ فيها جِراحْ ولابن الزقاق الأندلسي نُثِر الوَرْدُ في الغدِيرِ وقدْ ... درّجه بالُهبُوب نَشْرُ الرّياحْ مثل دِرْعِ الكِمِىَّ مزَّقَها الطَّعْ ... نُ فسالتْ بهِ دِماءُ الجِراحْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 العلامة محمد دكروك المغربي عابد زاهد، فهو مِشْكاةُ نورٍ تعلَّق قلبُه بالمساجدِ. فأحاديثُه مصابيحُ الأنوار، وذاتهُ مشْكاةُ العلومِ والأشرار، وآثارُه مُشرِقةٌ بالكمال، وحِماهُ مَرْتَعٌ لسَوارِح الطَّلب والآمال. تَعْبَق أرواحُ العُلا من حلاه النَّادَ، وتفُوح في مجامِر الذَّكاء الوقَّاد، وتُبشَّر بالنَّجاح، وتُنادى: حّي على خيْر الفَلاح. مع صِيتٍ هو المِسْك الفَتِق، والروضُ المثمِرُ الأنِيق، وخُلقٍُ بكلّ ذكرٍ جميل خَلِيق، فلا يُدركه مُبار خلْفه جَرىَ، هيهات هيهات فات ذَا أثراً. وكنتُ وأدْهَمُ الشَّبيبة طرِب العِنان، ووَرَقُها خَضِرٌ ماِئس الأفْنان، ووُرْقً مطُوقةٌ بروائع الأفْتِنان، أرُودُ مساقِطَ النَّدى، حتى عَلِق به حَبْلُ الرَّجا، وأنا في إبَّان الطَّلب، أتَّجرِ في بِضاعة الأدَب، فنزلْتُ بساحتِه، وحطَطْتُ رَحْلى على ماء سماحِته، كما قال الكِنْدى: وحطَطتُ رَحْلىِ في بني ثُعَلٍ ... إن الكريمَ للكريمِ مَحَلّ فورَدْتُ مَنْهَل إفادتِه الصَّافِى، وقرأتُ عليه عِلْمَى العروضِ والقوافي، وهو شِفاءُ الغليل، لا سيِما في علم الخليل، فقد تخَرّج به طُلاَّبهُ، وضُربَتْ به أوْتادُه وامتدَّتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 أسبابُه، حتى قامَت به الأدِلَّة، وسلِمَتْ بلا فاصلةٍ كلَّ عِلَّة، وجرَتْ في بحارِه مياهُ الفضائل، حتى كاد أن يكذب القائل: مثلُ العروضِ له بحرٌ بلا ماء فكم وَشَّى رِداءَ الآدابِ ووَشَّع، وردَّ شمْسَها من المغرِب كما رُدت ليُوشَع، ولكل عصرٍ يُوشَعُ يَردُّ شمسَ الفضْل بعد الأُفول، وتشرِق شمسُ العصْرِ على القصْرِ والطُّلول. يُقْرِى وفودَ الطَّلب بيانا، ويُقِرُّ عيونَ الأمل حُسناً وإحْسانا. وله في المعالي أرُومة، وفي مغارِس الفضْل جُرْثُومة. غُذَّىَ بلبِانِ وليدا وعُدّ لَبيد إذا قِيس بفصاحتِه بَليدا. رَاق في جِيد دهْرِه قِلادَةُ الأوْصاف، وتَحلَّت بَعذْبِ مدائحِه أفواهُ الرُّواة من سائرِ الأطراف، حتى تَهادَتْه الدَّوَل، لَذِيذِ الكَرَى للمُقَل. فهو أنْدَى على الأكْباد من قَطْر النَّدى، وألَذُّ في أفواهِ الأجْفانِ من كُحْلِ الكرَى. فالكونُ إمَّا ناطِقٌ فمُعظَّمٌ ... حُرُماتِهِ أو ناطقٌ فَمُسَّبحُ ثم إن الدهرَ اقتطف ثمرةَ فؤادِه، وقطَع فِلْذَة كبدِه ببعض أولادِه، فهادر إلى طَيْبَةَ وقال بها في ظِلال النَّعيم، إلى أن دعاهُ لجِوارِه المولى الكريم. وكنتُ كتْبتُ إليه أسّلية، وأصبَّره في بَنيِه وأعزَيه: كُنِ المُعزَّ لا المُعزَّى بهِ ... إنكان لا بُدّ من الواحدِ لعل اللهَ يُخلِف ما أخذ من بَنِيك ومالِك، ويجعلُ الباقَي منهم كما قيل في المَثَل: فَتًى ولا كمالِك. وأنت لا تعدِم أجْرَ الصبِر على كمالِك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فكم نبَتَ من غصن غصون، وطلع من حَّبةٍ سنابلُ حبّاتُها دُرٌ مَكْنون. وفي الله الخَلفُ من كل ضائع، وما المالُ والأهلُون إلا ودائِع. والسلام. وكان أمْلىَ علىَّ من أشعاره، وبدائع فوائدِه وآثاره، ما حَدني عليه الدهرُ فمزَّقة أبْدِى سَباَ، وهجم عليه الضَّباعُ والنّسيان فَنهَب وسبَى. وسهمُ الرَّزايا بالنَّفائِس مُولَعُ ) تتَّمة وفائدة مهمَّة ( في تفسير هذا المثل، قال ابن خاَلَوَيْه في كتاب) ليس (: ليس أحدٌ سمَّى نواة النَّخلة جَريمةً إلا أوساً الأنْصارىّ، في حديثٍ له، وهو أن أوسا بن حارثة لم يكن له ولد إلا مالِك، ولأخيه خمسةُ أولاد، فلما حضَره الموتُ، قال له قومه: كنَّا نأمرُك بالتَّزوُّج في شبابِك فلم تفعل! فقال: لم يِهِلك هالك، ترك مالِك، وإن كان الخزرجُ ذا عَدَد، فليس كمالكٍ وَلَد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 فلعل الذي استخرج النَّخلةَ من الَجريِمة، والنارَ من الوَثِيمة، أن يجعل لمالِكِ نسْلا، ورجالا بُسْلا. يا مالكُ، المِنيَّةُ ولا الدَّنِيَّة، والعتابُ قبل العِقاب، والتجَلُّد لا التَّبلُّد. واعلم أنَّ القبرَ خيرٌ من الفقر. وشَرُّ شاربٍ المُشْتَفّ، وأقبحُ طاعمٍ المُقْتَعِف. وذَهابُ البصر، خيرٌ من كثيرٍ من النَّظر. ومن كَرَم الكريم، الدَّفاع عن الحريم. ومَن قلَّ ذَلَّ، ومن أَمِر فَلّ. وخيرُ الغِنى القناعة، وشر الفقر الضراعة. والدهر يومان، فيوم لك، ويومٌ عليك، وكلاهما مُنْتَحْذَر، وإنما تَعُزُّ مَن تَرى، ويغرَّك مَن لا تَرى، ولو كان الموتُ يُشْتَرى، لسلِم منه أهلُ الدنيا. الشَّريفُ: الأبْلَج، والَّلئيم: الُعَلْهَج. والموتُ المَقِيت، خيرٌ من أن يُقال هَبِيت. وكيف السَّلامة، لمن ليست له إقامة. وشرٌّ من المُصيِبة سوءُ الخلُق، وكل مجموٍع إلى تَلَف، حبَاَك إلهُك. قالوا: فكان مِن نَسْل مالك بعدَد الخَزْرَج، أو نحوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 تفسيره: الجريمة: التمرةُ تُسمَّى بها النَّواة؛ لأنها منها. والوَثيمة: حجَر القَدَّاحة. وأمِر بمعنى: كَثُر. والهِبيت: الضعيف الجبان. والأبْلج: السيد الوَضَّاح. والُمَعلَهج: المختلطِ النسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ) الخاتمة ( اعلم أنّى كنتُ في رحلتي مُتَّجِراً في بضائع الفوائد، مُغرَماً بَصْيد الشَّوارِد وقَيْد الأوابِد، اسْتِعلام خبرِ مَن لم أرَه من الأدباء والفضلاء، فسألتُ مَن لِقيتهُ من المغرب عمَّن قرُب عهدُه بها من الأعيان، وعن خَبايا الدَّفائن التي ادّخروها وهم أقلُّ من القليل، والدَّهرُ حَسود بخيل. فمِمَّن تعطّرتُ بِطيب أخْبارِه، وتفكَّهْت بباكورَةِ ثمارِه بالمغرب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 حسان الدَّين بن أبي القاسم الدَّرْعِيّ المغربي أديب حسام طَبْعِه مُرهَف، ومَشْرِ فيُّه بحُلَى الآدابِ والعلمِ مُشرَّف. قدرُه أغْلَى من النُّجوم الزَّاهية، ومِسْك مدادِه يُرخِص شّذاهُ الغاليِة. فاخَرت الأرضُ السماءَ بمطالعِ شمْسِه، وعَلِم قُطرُه به أن يومَه خيرٌ مِن أمْسِه. فهو رَوْضٌ تُقَّبل الأرضَ فيه ثغوُ الزُّهور، وتُطرَّز بُرودُ الآداب بمالَه من المنظوِم والمنْثور. أخبرني صاحُبنا محمد بن إبراهيم الفَاسِىّ - لا زال في رَوْح ورَيحْان، ولا برٍح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 جَدَتُه روضة من رياض الجِنان - أنه أنشده لنفْسِه مُضّمنا، يخاطب محمد بن يعقوب الأندلسي: ولي صاحبٌ قد هَذَّبتْ لي يدُ الصَّفَا ... مَودَّتَه في غِيبَةٍ وعَيانِ ولكن هَوائي مَعْ هواُ تخالفَا ... تخالُفَ رُؤْيَا السّجنِ للفَتَيانِ فيَهوْى بني نجْدٍ ولِينَ خُصورِهمْ ... وأهْوَى بناتِ الغَوْرِ طولَ زمانِي يُذكّرُنِى حالِي وإيَّاهُ قولَه ... رَفيقُك فَيْسِيٌّ وأنْتَ يَمانِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 عبد العزيز الفشتْاَلِيّ أديبٌ عَذْبُ الَّلسان، معاضي شَباَ السَّنان. له دَمَثُ أخْلاق وشمائِل، تجرُّ وراءَها ذُيولَ الصَّبا والشَّمائِل. ألطفُ من وَجَناتِ وَرْدٍ عِذارُها الآس، وأسحرُ من عيون الغِيد إذا غازَلها النعُّاس. إن خَطَّ زَيَّن بُرْدَ البلاغةش ووَشَّاه، وتغَايَر على أخْذِ الرّقَّةِ لفظُه ومعْناه: فيَطَرب السَّمعُ لألفاظِه ... ويرَقُص القلبُ لمْعناهُ بهمَّةٍ هي خِذْن القَضَا، ولُطْفِ طبعٍ ألَذّ من ذنْبٍ محاه الرِّضا. فرِيدٌ هِمّتُه إلى هضَبات الهمَّة ناظِرَة، وحيدٌ تقفُ دون اشْتهارِه الأمثالُ السَّائرة. عَبثَت بالبيان راحاتُ فكرِه السَّاحرة، فأيقظَتْ من مَهْدِ الألفاظِ عيونَ المعاني الفاتِرَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وكان قبلَ ما جرَّ عليه الدهرُ ذُيولَه قام لإقْبالِه، وقرَّ به في الدولة العَلويَّة الأحْمدية على أمْثاله. فممَّا ارتشَفَه فم السمع والآذان، وروِىَ بَنمِيرِه العذبِ ظامِئُ الأذْهان، قولُه: حين أزْمعتُ عند خوفِ البعادِ ... وعَدَتْنِي من الفِراقِ العوادِي قال صَحْبِي وقد أطلْتُ الْتِفاتي ... أيُّ تركْتَ فلتُ فؤادِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 عبد السلام بن سَنوُس المَغْرِبِيّ أديب فاس، ومِسْك غِزْلان ذلك الكنِاس، ورَيحْانُهُ أهْدَى نفْحُه خبَره إلى الصَّبا الطّيب الأنْفاس. فالله طيب الأخْبار، وما أهْداه لي من المَسارَ. مِن كلّ حديثٍ هو لِعْين الفخرِ قُرة، وفي وَجْهِ دُهْمِ الليالِي غُرّة. ألفاظُه تضحكُ على ثُغورِ الأنوار، الضاحكة لُبكاء الأمّطار. أنشدني له بعضُ الأدباء: وبدرٍ لاح من تحتِ السلاهمْ ... يقولُ لكلَّ قلبٍ قد سَلاهُمْ لئن خشُنَتْ ملابسُه عليهِ ... فقد خشنَتْ على الوَرْدِ الكمائِمْ السلاهم: جمع سلهامة، وهي بلغة أهل المغرب بُرْنس أبيض خِشن. وأنشدني عبد العزيز الثّعالِبي شعراً له في القمر، منه: دَعْ ذَا وقل للناس ما طارقٌ ... يطرُقُهمْ جَهْراً ولا يَّتقِى ليس له رُوحُ على أنهُ ... يركبُ ظهرَ الأدُهَمِ الأبَلقِ شيخٌ رأَى آدمَ في عْصرِه ... وهو إلى الآن بِخَدّ نقىِ وهو بوَسْط البحر مَعْ قومِه ... لاَ ينْثىِ عن نَهجِه الضَّيَّق هذا ويمْشِي الأرْضَ في لْيلةٍ ... أعجِبْ به من موثَقٍ مطُلّقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 فتارةً ينزلُ تحت الثَّرَى ... وتارةً وَسْطَ السَّما يرْتَقِىَ وتارةً يُبْصَرُ في مغرِبِ ... وتارةً يُبْصَرُ في مشرِق وتارةً تُبْصِرُه سابحاً ... يجّرِى بشاطِى البحْر كالزَّوْرقِ وتارة تحسَبُه وهْوَ في ... ضَيْعَتِه والبعضُ منه بقَىِ ذُبابةً من صارمٍ مُرْهَفٍ ... بارزةً من جَفْنِه المُطْبَق يدْنُو إلى عُرْسٍ بَهَا حُسْنِها ... يخُتْطِفُ الأبْصارَ بالرَّوْنَقِ حتى إذا جامَعهَا يرْتدِى ... بحُلةٍ سوْداءَ كالمُحْرَقِ وهْوَ على عادتِه دائماً ... يُجامِعُ الأنْثَى ولا يَلْتقَيِ ثُم يُجوبُ القَفْرَ من أجْلِها ... مًشْتملاً في مِطرَفٍ أزْرَقِ حتى إذا قابَلها ثانياً ... تشُكُّه بالرُّمْحِ في المفَرْقِ وبعد ذا تُلْبِسُه خلِعةً ... يا حُسْنَها في لَونِها المُونِقِ فجسْمهُ من ذهبٍ جامدٍ ... وجلدُه صِيغَ من الزَّنْبَقِ ثم يُرَى في حال إتْمامِهِ ... مثلَ مَجِنّ المِحْرَبِ المُلتقى وهْو إذا أبْصَرْتهَ هكذا ... أحسنُ مِن صاحِبَةِ المَفْرِقِ وقد نُسِب هذا لغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 السيد عبد الخالق الفاَسِيّ أديبٌ تَجْتَنِى منه الألْبابً يانِعَ ثمراتِها، وسماه لم تخرُج بدُورُ كمالِه عن هالاتها. فرعٌ من شجرةِ النُّبوة، المَسْقيِة بماء الوَحْى والفُتوَّة. فعَلاَ وسَماَ، فأصلُه ثابت وفرعُه في السَّما. فطِرازُه مُذْهَب على كُمّ المجْد، أنه من ذُؤابةٍ تَنًوس بين تِهامة ونجْد. عِقْدٌ على صْدرِ المناقب العليَّة، وتاجٌ معقودٌ برأسْ العصابة العَلَويَّة. تَولَّد بين المصطفى ووَصِيَّة ... ولا غَزْوَان تزْكُو هناك الغَرائِسُ شَمَّامةٌ في يدِ الأدب، ورَيحْانة من رياحِين العرب. لم تزل سيّارةُ المسائل تَلَقط أخبارَه، ورُكْبان الأخبار تتزوَّد وتَمْتاز أشعارَه. فمما أنشدني له الأديب محمد الفاَسِي: إذا ما رْمتَ نُصحَ النَّاسِ طُرا ... تحَرّ المُقْبلين ذوِى الإياَبِ فلا تُسْمِعَ سِوى مَن كان حَبَّا ... وإلا لا خَراجَ على خَرابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 السيد يحيى القُرطْبِيّ هو فيما بَلغني روضٌ مُخصِب ربيع، من وادٍ بالفضل مَرِبع. مِن فُرُوعِ الدَّوْحَةِ العَليّة العلَوية، وثمراتِ تلك الشجرةِ النبوية، الباسِقة بما سقاَها من ماء الندى، والمُورقة المُثْمرة بالعلم والهُدَى. فَخَارٌ لو أنَّ الشمسَ تُكْسى سَنائًهُ ... لما غشِيَتْها المُظْلمِاتُ الدَّوَامِس أسِر بالأنْدلس في وَقعةٍ أسَرَتْ أفراحَ القلوب، وشَقَّت قلوبَ المؤمنين قبل الُجْيوب، فأصبحَ في حالٍ تعُدُّ المَنايا أمانياَ، ويَرى لضَعْفِ الدّين الموتَ طبيبِاً شافيا. إذ عَثُرتْ خيولُ الفِتَن والنّقَم، بَذوِى المروءةِ والنّعم، فأرسلَ قصيدةً نعَى بها الإسلام، ونادى ملوكَ الرُّوم وعلَماءها الأعْلام، فلم يجد بها صَفيِا، يقول له لقد أسْمَعْتَ لو ناديتَ حَيا، وذلك في عهد السلطان سُلَيمان، الذي دخل في خبركان، وهي هذه: لكلّ شئ إذا ما تمّ نُقْصانُ ... فلا يُغَرُّ بطيبِ العيش إنسانُ هيَ الأمور كما شاهدُتَها دِوَلٌ ... مَن سرَّه زمنٌ ساءتْه أزْمانُ وعالَمُ الكونِ لا تْبقَى محاسنُه ... ولا يدومُ على حالٍ لها شَانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 يمُزَّقُ الدهرُ منَّا كلَّ سابِغةٍ ... إذا نَبَتْ مَشْرَ فيَّات وخُرْصانُ وينْتضَى كلَّ سيفِ للفناءِ ولو ... كان ابن ذِى يَزِنٍ والغِمْدُ غُمْدانُ أينَ الملوكُ ذوو التّيجانِ مِن يَمَنٍ ... وأينَ منهم أكاليلٌ وتيِجانُ وأين ما شادَه شَدَّادُ من إرَمِ ... وأين ما سَاسَهُ في الفُرْس ساَسانُ وأين ما حازَه قارونُ من ذهبٍ ... وأين عادٌ وشَدّادٌ وقَحْطانُ أتى على الكلَّ أمرٌ لا مَرَدّ له ... حتى قَضَوْا فكأنَّ الكُلَّ ما كانُوا وصار ما كان مِن مُلْكِ ومن مَلكِ ... كما حكَى عن خَيالِ الطَّيْفِ وَسْنانُ دار الزَّمانُ على دَارَا وقاتلِه ... وأمَّ كِسْرَى فما آواهُ إيوَانُ كأنّما العَّصْبُ لم يُسْهِل سَببٌ ... يوماً ولم يَمْلكِ الدُّنْيا سُليمانُ فَجائِعُ الدَّهرِ أنواعٌ مُنوَّعةٌ ... وللزَّمانِ مَسرَّاتٌ وأحْزانُ وللمصائبِ سُلْوانٌ يُهوَّبُها ... وما لِماَ حلَّ بالإسْلامِ سُلْوانُ دَهَى الجزيرةَ خَطْبٌ لا عَزائ له ... هَوىَ له أحُدٌ وانْهدَّ ثَهْلانُ أصابَها العينُ في الإسْلام فامْتُحنتْ ... حتى خلَتْ منه أقْطارٌ وبُلدْانُ فَسلْ بَلَنْسِيةً ما شأْنُ مُرْسَيةٍ ... وأين قُرْطَبةٌ أم أين جَيَّانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وأين حِمْصٌ وما تحْويهِ من تُرَهٍ ... ونهْرُها العذبُ فيَّاضٌ ومَلآْن كذا طُلَيْطُلًةُ دارُ فكْم ... من فاضلٍ قد سمَا فيها له شَانُ وأين غَرْناطَةٌ دارُ الجهادِ وكمْ ... أُسْدٍ بها وهُم في الحرْب عُقْبان وأين حَمْراؤُها العَلْيا وزْخرُفُها ... كأنَّها من جِنِان الخُلْدِ عَدْنان قواعدُ كُنَّ أركانَ البلادِ فما ... عسى البكاء إذا لم تَبْقَ أَرْكانُ والماء يجْرِي بساحاتِ القصور بها ... قد حَفَّ جدْولَها زَهْرٌ ورَيحْانُ ونهرُها العذبُ يحكي في تَلسلهُ ... سيوفَ هندٍ لها في لحوَ لمعانُ وأين جامُعها المشهوُر كم تُليِتْ ... في كلّ وقْتٍ به آيٌ وفُرْقانُ وعالِمٌ كان فيه للجَهُول هدًى ... مُدرّسٌ وله في العِلمْ تِبْيانُ وعابدٌ خاضعٌ للهِ مُبْتهلٌ ... والدَّمعُ منه على الخدَّيْنِ طوفانُ وأين مَالَقَةٌ مَرْسَى المراكِبِ كمْ ... أرْسَتْ بشاحتِها فُلكٌ وغِرْبانُ وكم بداخِلها من شاعرٍ فَطِنٍ ... وذِى فُنونٍ له حِذْقٌ وتِبْيانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وكم بخارِجها من مَزْهٍ فرجٍ ... وَجَنَّةٍ حولَها نهرٌ وبُسْتانُ وأين جارتُها الزَّهْرَاء وقبَّتُها ... واين يا قومُ أبْطالٌ وفُرسانُ وأين بَسطةُ دارِ الزَّعْفرانِ فهلْ ... رأى شبيهاً لها في الحُسن إنْسانً وكم شجاع زعيمٍ في الوغَى بطَلٍ ... بدَا له في العِدى فَتْكٌ وإمْعانُ كم جَنْدلتْ يدُه من كافرٍ فَغدا ... تبْكيهِ من أرْضِه أهلٌ ووِلدانُ ووَادياً مَن غدَتْ بالكفر عامرةً ... ورُدَّ توحيدُها شِرْكٌ وطُغْيانُ كذا الْمَرِيةُ دارُ الصّالحين فكمْ ... قُطْبٍ بها عَلمٍ غَوْثٍ له شانُ تبْكِى الحنيفَّيةُ البيْضاء من أسَف ... كما بكَى لفِراق الإلْفش هَيْمانُ حتى المحاريبُ تبْكى وهْىَ جامدةٌ ... حَّى المنابرُ تبكى وهىْ عِيدانُ على ديارٍ من الإسْلام خاليةٍ ... قد أقْفَرتُ ولها بالكفر عمرْانُ حيثُ المساجد قد أمْسَت كنائسَ ما ... بهِنَّ إلا نَواقيسٌ وصلْبانُ يا غافلاً وله في الدَّهرِ موعِظةٌ ... إن كنتَ في سِنَةٍ فالدهرُ يْقظانُ وماشياً مرِحاً يُلْهِيه موطِنهُ ... أبَعْدَ حِمْصٍ تَغُرُّ المرْءَ أوْطانُ تلك المصيبةُ أنْتْ ما تقدَّمَها ... ومالَها مَعْ طويلِ الدَّهْر نِسيْانُ يا راكبينً عتِاقَ الخْيل ضامِرة ... كأنَّها في مجالِ السَّبْق عِقْبانُ وحاملينَ سُيوفَ الهنْدِ مُرهَفةً ... كأنَّها في ظلام الليلِ نِيرانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ورائعينَ وراء النهَّرِ من دَعَةٍ ... لهم بأوْطانِهم عِزٌ وسُلطانُ أعندكُمْ نَبَا من أمْر أندْلس ... فقد سَرَى بحديثِ القومِ رُكبانُ كم يْستغيثُ صنادِيدُ الرّجالِ وهُمْ ... أسْرَى وقْتلى فلا يهتزّ إنْسانُ ماذا التقاطُع في الإسْلام بينكمُ ... وأنُتُم يا عبادَ اللهِ إخْوانُ إلا نُفوسٌ أبيِاَّتٌ لها هِممٌ ... أمَا على الخيرِ أنْصارٌ وأعْوانُ يا مَن لنُصْرةِ قومٍ قُسَّموا فِرقاً ... سطَا عليهم بها كفرٌ وطغْيانُ بالأمسْ كانوا مْلوكاص في منازِلهمْ ... واليومَ هم في قُيودِ الكفرِ عُبْدانُ فلو تراهمْ حيَارى لا دليلَ لهمْ ... عليهمُ من ثيابِ الذُّلّ ألوانُ فلو رأيتَ بُكاهُمْ عند بَيْعِهمُ ... لهالَكَ الأمرُ واسْتَهْوتكْ أحْزانُ يا رُبّ طفلِ وأم حيلَ بينهُما ... كما تفُرَّق أرواحٌ وأبْدانُ وغادةٍ ما رأتْها الشمسُ بارزةً ... كأنَّما هيَ ياقوتٌ ومَرْجان يقودُها مِلجُ عند السَّبْي صاغِرة ... والعينُ باكيةٌ والقلبُ حَرَّان لمثْل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ ... إن كان في القلب إسْلامٌ وإيمانُ هل للجهادِ بها من طالب فلقدْ ... تزَخْرفَتْ جَنَّةُ المأوى لها شَانُ وأشرفَ الحورُ والولدانُ مِن عُرَفٍ ... فازَتْ لعَمْرِى بهذا الخيْر شُجْعانُ ثُمَّ الصَّلاُ على المختارِ من مْضَر ... ما هبَّ رِيح صَباً واهتز أغصانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 ) فصل ( هنا تُكَسب العَبرات، لتُطِفئ نيران الحَسرات. فهذه الأنْدلس دارُ الإسلام، ملكها الكفُارُ وبُدَّل نورُها بالظَّلام. وجوامعُها صارت كناِئس، وأسودُها لكِلاب الكفرِة فرائس. وجامعُ قُرْطبَةَ الكبيرة مملوءة بالكتُب مسدُودُ الباب، ومأْوًى للحشَرات ومَرْقدٌ للكِلاب. وأسطولُ الرُّوم يُنْفَق عليه الأموال، فتخرجُ رؤساؤهم بُعدَد الحرب والرّجال، ويأخذون الجِزيْة من فقراء المسلمين، فإذا عادوا عَدُّ أنفسهم عُزاةً غانِمين. ولولا أهلُ المغرب والجزائرِ، لم يكن للدّين مُعين ولا ناصر. وقد سلَّط الله عليهم بنى الأصْفر، فصار عَيْشُهم أسودَ بالموْتِ الأحمر. وسَّلط على قُسْطَنْطِينيَّة دوامَ الطَّاعون الجارِف، فقلوبُهم راجِفة وعيونُهم بالدّماء ذوارِفِ. وتَرى حريقَ تلك الدّيار، لا يخُمد في ليلٍ ولا نهار، لما بِها من ظَلمَة الوُزَرا، وإنّما طَغَوا بُعلماء سوء وقضاة عمّ جهلهمُ سائر الورَى. لعَمْركَ قد عمّ الحريقُ بَبلْدَةٍ ... بها علماءُ الروم في الجهل والعَمَى ومن مالكِ وافَى رسولُ حريقهمْ ... دعاهمُ إلى نارِ الجحيم جَهَنمَّاَ فقال أقفلوها واقبضوا أُجْرةً لها ... فإن هُدِمتُ يُنْبنَى بها ما تهدّماَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 فطالَبْهم خُزَّانُها بَوقودٍها ... وما صَرفوهُ في زمانٍ تًقدَّماَ فأفْتاَهُم المْفتى بأنَّ ضَمانةُ ... عليهمْ وأن الغُرْمَ للبُطء مَغْنمَاَ ومن كثْرة الدَّيْن المحيط بما لِهْم ... أباح رِشاً قد كان رَبّىَ حرَّماَ فهذه إِنْذارات ثلاث، جرت عادةُ الله بعَدها بالخَراب، واسْتئصال مَن بها بأشدّ العذاب والعِقاب، كما قال الله تعالى) وَإذَا أَرَدْناَ أَنْ نُهْلِك قَرْيةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِها فحقّ عَلَيْها القَوْل فَدَمَّرْناَهَا تَدْمِيرا. وهذا المعنى في الحريق ظنَنْتُ أنَّى لم أسَبق إليه. ثم رأيتُه شعر أبى الحسن المنجَّم حيث قال: أقولُ وقد عانْيتُ دارَ ابْنِ صورةٍ ... وللنّار فيها مارِجٌ يتَضرَّمُ كذا كلُّ مالٍ أصُله من نهاوِشٍ ... فعمَّا قليل في نَهابرَ يُغرَمُ وما هُو إلا كافرٌ طالَ حَبْسُه ... فجاءتُه لَّما اسُتَنبْطاتهُ جَهَنَّمُ ومثله قول الآخر، فيمن انْكسَرت يدُه. قالوا فلان على ما فيهِ من عِبرَ ... قد أصْبَحَتْ مذُه مَذْمومَةَ الأثَرِ تأخَّرَ القْطعُ عنها وهُىَ سارِقةٌ ... فجاءها الكسُرُ يسْتَقْصى عن الخبرِ وقوله) يستقصى (الخ فيه لُطف، يعرفه من له شَمَّة من الأدب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ذكر مكة المشَّرفة ومن بحماها صانها الله وحَماها وزادها تشريفا وتكريما وتعظيما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 لَّما اْمتطَيْتُ مطاياَ الهِممَ، ووجَّهتُ وَجْه عزْمى إلى قِبْلة الأمم، ورَعيْتُ بالأحْداق حدائقَ تلك المسارح، وقد سالَتْ بأعْناق المَطىّ الأباطِح، في وَفْدٍ ركب عزمُهم غاربَ المَسرَّة وامْتطَى، وهَتْهمُ النُّجبُ إلى أوْدِية بضلُّ فيها القَطَا، فقطعُوا مَهامِةَ وأطْلال، يخاف أن يَسْرِى بها طَيْفُ الخيال. فكم لاحت جداول موارد النوق جسورها، وسارت بهم سفائن بر والسراب بحورها. فكأنَّها أشْجار، يحرّكها صَبا الأسْحارِ. تَسْقيها من السُّرى غمائِمهُ، وتزهو على نَوْرِ الخدودش كمائمهُ. والشَّمالُ تحْدُوهم بمِسْكىّ الأنْفاس، والسماءُ حديقةُ نرَجسَ بين رَيحْانٍ وآس. حتى الْتَتقط كف الصَّباح زُهرِه، وقطَفتْ بَنَفْسجَ الظَّلمْاء راحةُ فجْره، ووَرَد سِرْحانهُ غديرَ الصَّباح ونادَى القُمْرى على منارِ الدَّوح: حي على الفلاح. ولم أزل أدْابث في التَّسْيار، إلى أن نفضْتُ عن منِكب المشقَّة غُبارَ الأسْفار، فنزلتُ بجوار بيُت الله الحرام، وتطيبتُ بمِسْك تراب الحطيم والمقَام. وقلتُ: بمكَّة لى غَناء ليس يفْنَى ... جِوارُ اللهِ والبيتِ المُعظمْ ففيها كِيمياء سعادةٍ قد ظفرْت بها من الحَجر المُكرَّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 فلما أفَضْتُ من تلك المناسِك بتلك البِقاع، طُفْتُ بها بل بالمسَرَّة طَوافَ الوَداع، وخرجتُ من أحبّ البلاد، والله لا يدعُو إلى دارهِ إلا مَن اسْتَخْلصَه من العباد. وما دَرَى البيتُ أنى بعد فُرْقتِه ... ما سِرْتُ من حَرم إلاَّ إلى حَرَمِ قاصداً طَيْبةَ الطَّيبة المُطَيَّبَة، وارداً موارد آمالي المُسْتَعْذَبة. وقد قيل في زُرقِ العيون شآمةٌ ... وعنْدِيَ أن اليُمْنَ في عيْنها الزَرْقَا فكلَّما سَرى في الصّبا نَسْرُ بطاحِها، وَدَدتُ لو أعارَتْني الُعابُ خفِافَ جناحِها، إلى أن لمَعت أنوارُ الهُدَى، من سماء العُلا وقبِاب الحمَى. لِمَهْبط الوحْي حقَّا ترحلُ النُّجبُ ... وعند هذا المُرَجَّى يْنتَهي الطَّلبُ فنزلتً اعتِنقُ الأراكَ مُسلّما، وكِدْتُ إلمُ أخْفافَ الرّواحل، إذ أوْصلتْني إلى أعذبِ المناهل، ولم اقلْ على قلق الوَضين أشْرقي بدَم الوَتين. فإذا المَطيِ بنا بَلغْنَ مُحَّمداً ... فظهُورهنَّ على الرّجالِ حَرام قرَّبْنَنَا من خيرِ مَن وَطِئ الثَّرىَ ... فلَها علْيناَ حُرْمَةٌ وذِمامُ فحلَلْتُ في أرفعِ مَقام، تُفاخِر فيه الرُّوس الأقْدام، ويشَهد نَشرُ المِسك بفضل غُبارِه، وتُقرُّ الجواهرُ بأنَّها دون حَصاه فضْلاً عن أحْجارِه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وفاخَرتِ الشُّهبَ الحصىَ والجنادِلُ فلذا صحَّ رَمْىُ الجمار، بحصْبائِها الصّغار، ولم يِصحَّ والدُّرَر، وما ذاك إلا لِشَرَفٍ خصَّة بها خالقُ القُوى والقُدَر. فنزَّهْتُ عيونَ أملي في روضةٍ ذاتِ أنْوار، وعِلمتُ وهي من رياض الجَّنة أني لا أدخلُ بعدَها النَّار. وأنا الآن منتِظرٌ لألطاف رَبّى، وهو في كلَّ الأمورِ حسْبى، أن يُعيدني لجوارِه، واجتْلاء نُورِ حَبيِبه ومخُتارِه، به إليه مُتوسّلا، وفي نَيْل رجائي مُتوكّلا لا مُتأكّلا. وقد تأمَّلت دعوةَ أبي الأنبياء إبراهيم، وقولَه:) فاجْعَلْ أَفْئدِة مِنَ النَّاسِ تَهْوِى إلَيْهمْ (إذ لم يقل: اجْعل الناسَ تهْوِى إليهم:؛ لأن المرادَ أنَّ الشوق يجذبُهم إليه، ويعُلق مشكاة قلوبهم بسلاسلِ أنوارِه، حتى يراهم بغيرِ اخْتيارٍ له مُتوجّهين، وهم تحمُّل المشاقّ بوَعْثاء السفر غيرُ متضجَّرين. كأنما هو مِغناطيسُ أنفسِنا ... فحيثما كان دارَتً نحوَهُ الصُّورُ ولذا جعل الطائفُ البيتَ على يَسارِ؛ لأن القلبَ في جهِةِ اليَسار، وقد كان قبل الوُصولِ مائلاً إليه، فلما وصل دام على ما كان عليه. كما قلتُ: قل لَمن لامَ على سَعْيي له ... قصَّرِ الَّلْومَ وإن شئْتَ لُمِ مَن أتى قْلبي إليه ساعِياً ... كيف لا يسْعَى إليه قدَمِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 ذكر الدولة الحسَنيَّة ومن بها من بَقِيّة العلماء والشعراء والأعيان هو بيتٌ أسّستْ عُمُدُه على الخِلافة، وقُطَّرت من شَعْبِ شجَرتِه مياهُ اللطافة، وغرِست بين أثلاثِ المجدِ اعوادُه، فاستراحَتْ عنده الآمالُ وتعِبتً حُسَّادُه. قَصْرُ مَعالٍ يردُّ الطرفَ كليلا، ونسيمَ الشمالٍ عَليلا. أعْلَى الممالِكِ ما يُبْنَى على الأسَلِ فهو سُورُ الخطوب، وخليفُة أخْلاق الصّبا والَجنوب. تُقصَد بتُحَفِ المدائح، فيشترونَها بنقْد المنائح. فعندهم مَحطَّ الرُّكْبان من الأطْراف، وريحُ المحامدِ مَتْجَرُ الأشْراف. فإذا كان الدَّهر قاتِمَ الأعْماق، مُسوَدَّ النَّواحِى، فوجوُهْهم نُجومِى ووَضَّاحُ عُرَرِهم صَباحِى. فكم راضُوا الزمنَ بعد الحِرَان، فأصبحَ سَهْل القِيادَ رخِىّ العِنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 تتحلّى بذكرِهم الأفواه، ويفوح نشر الطيب خالطته الأفواه وغُرَرُهم في حباه الليالي والأيام، يعجَزُ عن وصِفها أفْواه الدُّوِىّ وألسنةُ الأقلام. في سماءِ مَعالٍ ماء مجَرّتها مَورُود، ينبتُ في حافاتهِ شقائِقُ الشَّقيقِ مُتورّدةَ الخدود. فاكتحَلتْ بالسحرَ مقْلةُ دياجيِها، وقُلَّدتْ بجواهر النُّجوم لَبَّاتُ لياليِها. إلى أن أدّبتْ أمانةُ المُلكْ إلى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 أبى نُمىّ بن بَرَكات فهطَلتْ منه على رياضِ الحرمَينْ سحائبُ البركات. وله شعرٌ نفحاتُه ذكِية، وفصاحتُه عَليَّه عَلَوية، كقوله في المقام اليُوسُفِى بمصر والأداهمِ أحْجال، والقُيود كما قيل خلا خيِلُ الرّجال، وقد لمعَ برَقُ الحِجار فكاد يطيرُ شوقاً لحِمى النَّوى والحِجاز: ما يلْمعُ البرقُ من تِلقْا ديارهمُ ... إلا ولىِ مدْمَعٌ بالسَّفْحِ هَطّالُ واللهِ لولا قيودٌ في قوائمنا ... من الجميل وفي الأعْناقِ أغلالُ لكان لي في بلاِدِ اللهِ مُتّسَعٌ ... وفي الملوكش لُباناتٌ وآمالُ لي حُرْمةُ البيتِ والجارِ القديم ومن ... أتاكمُ وكهولُ الحي أطْفالُ أتيْتُكُمْ وجلابيبُ الصّبا قشبٌ ... فكيفَ أرْحلُ عنكمْ وهْىَ أسمال وفي البيت الأخير معنى لطيفِ، وهو كقولي: تاللهِ ما فارقْتُ لي وطناً به ... بُردٌ جرَرْتُ من الشبيبةِ زَاهِي إلا لأنّي أسْتحِي من رَدّهِ ... خَلفَاً أرقّعُه بعُذْرٍ واهِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 شهاب الدين أحمد الفَيّوميّ ومن فحول شعرائِه المقلَّدين جيِدَ محَّبتهم بطَوْقِ ولائه: شهاب الدين أحمد الفَيّوميّ أديبٌ نسقَ من جواهرِ كلامهِ أكاليل دُر ما لمْنظومِها سِلك، وجرَت مياهُ البلاغة في رياضِ نظامهِ فذابتْ كذَوْب التْبر أخًلصه السَّبك. إذا امتَدّ خطوُه إلى المجدِ وكرَم الخيِم، وهو أسرعُ من رَجْع يدِ الذَئب وأوْسع من خَطو الظّليم. جمَعْت له الحظُوطُ من تلاِلها ووِهادِهاً، وقِيدَت له القلوب بأزِمةِ ودادها. وأنشده يوماً قصيدة بائيَّة، امتدَحه بها، فلما وصل إلى قوله فيها: يهتْزُّ من تحت السّلاحِ كأنه ... رَيْحانةٌ لعِبتْ بها ريحُ الصّبا جَثَي على رُكبتْيه ووَثب، وتطايرَ من إحداقه شَرَرُ الغضب، وكاد أن يُكلمه بألسنِة السيوف، ويخلعَ عليه خلعة حمراء بلا أزْرار فصلَتها يدُ الحتوف، فلما قال بعده: في كلّ مَنْبِتِ شَعْرةٍ من جسِمه ... أسَدٌ يمدُ إلى الفرِيسةِ مخْلباَ قال: عفوتُ عماَّ فات، أولئك يُبدّل الله سيَّئاتهم حسَنات. ) وديوان (شعره مشهور، ودرُّ برَاحتِه في نادي الأدب مَنثْور. ولما ارْتحل إلى القاهرة، قال متشوّقا بأم القرى معاهدَه ومآثره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 يا رَبّ وَصْلٌ ولا سَلْوةٌ ... لا زَوْرةٌ مِن طْيفِهمْ لالِقاَ إن لم يكنْ في وَصْلِهمْ مَطْمعٌ ... فلا تعُذّبْ مُهجتِي بالبَقَا وله فيه مدائح عديمةُ الأمثال، سائرة في الآفاق سَيْرَ الأمثال، منها قصيدته التي عارض بها قصيدة صَفَّي الدّين الحّلىّ، التي مطلعُها: أذابَ التّبرَ في كأسِ اللّجينِ ... رَشاً مْخضُوبُ اليَديْنِ وأولها: بدَتْ فأرْتْكَ شمسَ المَطْلعَين ... فتاةٌ أسْهرتْ بالمطلِ عَيْني وعلى منوالها قصيدة الشّهاب المْنصُوري، أحد الشهب السّبعة، وأولها: بكيْتك يا غزالَ الأجْرعيْنِ ... وقد رِبحتْ عليكَ الأجْرَ عَيْنيِ ومن شعره قوله مضمنا: لقد عذَلتُ فلانَ الدّين حين علا ... عليه عَبْدٌ فقال أقلل من العذَلِ فإن عَلاني مَن دوني فلا عَجبٌ ... ليِ أسُوةٌ بانْحاطِ الشّمسِ عن زُحَلِ وله أيضا: أواخِرُ الخمر فيها ... على الأوائِل فَضْلُ تمرُّ دَوْراً فَدَوْراً ... وكلَّما مَرّ يَحلو وله في من اسمه حسين: تركْتَ جَفْني واصلا والكَرَى ... راه فجُدْ بالوَصْل فالوصلُ زَينْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ولا تُحبِنْيِ عن سؤاليِ بلاَ ... فالقلبُ يخْشَى كَرْبَ لاَ يا حُسَينْ وفي قوله:) زين (إيهامٌ غيرُ زَيْن، لأن العامَّة تقول في حروف الهجاء زين، والصحيح فيها زَاء بالمدّ والقصر، ويقال زَىْ بزنة كَى، كما قاله ابن جِنّى وأما هذه فتحريف قبيح. وله أيضا: حَجَّ للبْيتِ اخْتِلاساً ... وفَساداً فلأَنامِ مُذ رآهُ النَّاسُ قالوا ... حَجَّ للبيْتِ الَحرامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 السيد حسن بن أبي نُمَىّ ثم خلفَه ابنه حسن، ومَن حديثُ مناقِبه مستفيضٌ حَسن. وما محاسٍنُ شَئ كلُه حَسَنُ فقد سارتْ بمآثره الرُّكبان، وتحلّى بذكرِه كل لسان. فالحِلّ يعرفُه والَحَرم، والمجدُ ينطِقُ بمحامدِه والكَرَم. وإنما المرءُ حديثٌ بعدَهُ ... فكُنْ حديثاً حَسناً لمن وَعى فقد خَفَتْ في الخافِقَين راياتُ مَكارمِه، ونُصِبتْ على أعلام كماتِها بين مَعالِمه، وسرَتْ سحائبُ كرمِه ولها من غُرَّته برِيق، وتفرَّقت أنهارُ جودِه في كلّ فَريق، حتى طَفت على هضَباتِ الُعذَيْب والعقِيق. وله فَضْل فضاء عَلَوي حلَّ بين الرّفْق والباس، وأبس عن إدْراك حَدْسه فيه إياس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 بين حماسةٍ وسماحة، وفصاحةٍ وصَباحَة. إذا زان قوماً بالمناقبِ واصِفٌ ... ذكَرْ فضْلاً يَزينُ المناقِبَا وجلالهُ هْيبةٍ لا تُريد حاجباً، وشِيمٌ شمٌ لو تجسَّمت كانت بوجهِ الدَّهر عَيْناً وحاجبا. فكم أوردَ النجَّيعَ سيفَه المجرّد عن العلاِئق، وأصدَره ثائرا على غَدِير لامَته من الدماء شقائِق. مِن فِتْية إذا تصافحوا بالصِّفاح، تهللَّتْ ضاحكةً بالنَّجِيع ثُغورُ الجراح. حَلِيمٌ إذا ما الحِلمُ فَكَّ حِزامَهُ ... وَقُوفٌ ولو كان الوُقُوفُ على جَمِرْ مع محاضرات لو سمع بها الرَّاغب سعَى لها راغِبا، وأبكارُ أفْكارٍ لا يكافِئها إلا مَن كان بمتاع الحياةِ خاطِبا. ما عُذْرُ مَن ضربَتْ به أعْراقُه ... حتَّى بلغْنَ إلى النَّبيّ مُحَمدٍ أنْ لا يَمُدّ إلى المكارم باعَةُ ... وينالَ غاياتٍ العُلا والسُّوددِ مْتخلفّاً حتىَّ تكونَ ديُولهُ ... أيْدِي الزَّمانِ عمائماً للفَرقَدِ بلَغني أن بعض بني عمَه ورَد نَدِبَّه، جارا لِذيْل التّيهِ والَحمِيَّة الهاشِمَّية، فتصدَّر عليه شخصٌ في ذلك النَّادي، فتجعَّدت أساريرُ وسيفُ حِدَّتِه من غْمِد التَّصير بادِى، فلما فِطن لذلك قال: إنه ليقودُنِي زِمامُ العجَب، ويُهزُّ عِطْفَ أرْيَحِيَّني ساعدِ الطَّرب، بقصيدِة المُتنّبي، التي أوَلها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 فؤادٌ ما تُسلَّيهِ المُدامُ ... وعُمْرق مثل ما تهَبُ اللَّئامُ فتسلَى بذلك وتعلَّل، وتبَّسمَ وجهُ مسَرَّته بعد القُطوب وتهلَّل، إذ فِهم تلْويَحه، لقوله فيها. ولو كان المكانُ له عُلُوٌّ ... لطارَ الجيْيشُ وانْحَطَّ القَتامُ وفي معناه قولي، من فصل: لو كان الشَّرفُ بالمكان، ما انحطَّتْ النارُ وعَلاَ الدُّخان. وقولي من قصيدة: لم أدْرِ يومَ الحربِ هل ثار الثَّرَى ... أم خَيْمةٌ نُصِبتْ عليه وقد سَرَى أم نالَهُ شرَفٌ بِمَسّ نِعالهِ ... فَعلاَ رُءوسَ عِداهُ حين تكبَّرَا أم راح مُشْتكِياً إلى خَلاَّقِه ... دَوْسَ الجِيادِ عليه حّتى يُنْصَرَا ومما يحسُن إيراده هنا قول أحمد المعرّىّ: قل للرّئيس أبي محَّمدِ الرّضا ... قولَ أمْريِ أبْلاَه حُسْنَ بلاءِ مِن حوْلِ برْكتِك البهية سادةُ الْعلماء والفضلاء والرؤساءِ لو أنْصفوك وهم قِيامٌ أشْبَهَتْ ... أشخاصُهمْ أمْثالَها في الماءِ ومنه أخذ الأرَّجاِني قوله: هذا الزمانُ على ما فيه من كَدَرِ ... يحْكى انْقلابُ لياليهِ بأهْليِه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 غديرَ ماء تراءَى في أسافِله ... خَيالُ قومٍ تمَشَّوْا في نَواحِيهِ فالرّجلُ تنُظْرُ مرفوعاً أسافِلُها ... والرأسُ ينُظْرَ منكَوساً أعاليهِ وقوله) على ما فيه من كدر (من حَشْو الَّلوزِيَنج، أما ترى قول المعرّي والخِلُّ يُبْدِى لي ضمائِرَهُ ... مع الصّفاءِ ويُخْفِيها معَ الكَدَرِ وأحسن من هذا كله قولي: خليَلّى ذِي الدنيا الدّنَّيةُ لم تزَلْ ... تُعادِي حُرّا شريفَ المناقبِ أسافِلُها تعلُو أعالِيهاَ كما ... يَراهُ لبيبٌ عارفٌ بالعواقبِ إذا صُوّرتْ للنّاسِ معكوسةً بدَتْ ... فلا تَعْجَبَبنْ والدّهرُ بَحْرُ العجائبِ عَوْدٌ إلى سيرة ابن سيد النَّاس، الذي تسير الصبا بعبير لطفه ديبة الأنفاس: كنت قبل أن تعرى أفراس الصَّبا، ويتفرَّق شْملُ الأيام أيْدِي سَباَ، لمَّا أرْتحا مع والدي لذلك المُمَجَّد، لنجْتليَ وجهَ المليحةِ في الخِمارِ الأسْود، رأيتُه وقد أبْيَضَّ على لِمَّتِه، وثَقب الشيبُ مِغُفَرَ هامتِه، وقد علا هامَ السَّتين، وتَرقّى شرَف السَّبعين. وإن امرأ قد سار سْبعين حِجَّةَ ... إلى مَنْهلٍ من وِرْدِه لَقريبُ مُشمَّراً لِمخَاضِها واقفاً على حياضِها، بفكْرةٍ ما كانت النّيرانُ تخ لو رُزقتْ بعضَ ذكائها، وبِكْرِ هِمَّة إذا جُليِتْ لا يُعَدُّ غير المجد أكْفائِها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 قد قَلَّمَتْ يدُ عزائِمه أظفارَ الخُطوب، وكادت لا تطأ الحرمً بغْير إذْنِه الصَّبا والَجنوب. يسوق لأعْدائِه جُنودً الحتوف، ويرى وُجودَهم ذنْباً لا يعتذِرُ عنه غيرُ ألسنةِ السيُّوف. فكل حديث صدَر منهم وحَدثَ، لا يرفُعه إلا التّيمًم بتراب الجَدَث. ولى صَوارِمَه تْذيبَ قولِهمُ ... فُهنَّ إلسِنةٌ أفْواهُها القِمَمُ إذا تربَّعَ رأيهُ في نادٍ واحْتَبى، قامتْ بين يدَيَه الهِمَمُ وحُلَّت الحُبَى. يضَطْرب لهِيبتِه إذ هبَّت رياحُ النَّصر سُمْر الرّماح، وساَلت بسوابح الجُرْدِ وأعْناق المطايا الوِهادُ والبِطاح. وكان من سُنَّةِ سلَفه، ومَن خَلَفهم مِن خير خَلَفِه، أن يُقدَّم للإمامة مَن قَّدمَتْه الأيَّام، وفي المثَل:) أكبرُ منك بيومٍ أعرفُ منك بعام (. وكان يليه سِنَّا ذُو الرَّأْي الصَّائب، أغرُّ السَّعْد والوجهِ والمناقب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 أخوه السيد الجلّ ثَقَبَة مَن لو وَجَّه لدُرّ الكواكب سِنانَ هِمَّتِه ثَقَبَه. ومِشْكاةُ بصيرتهِ مُشْرِقَةٌ بنُور اليقين، وكلامُه ينُثر على الفصاحة نِثارَ الجوهر الثَّمين. وكُلَّ مَن نَسَله يُحدثَّ نفسَه بالإمامَة، وأن يْتلُوَ في صحيِفها آياتِ مجدِه أمامَه. فمنهم من جعل لذلك وَسيلَته، الدُّخولَ في حواشِيه ومُصاهرتَه، ولسانُ حالِه يُنادِى فيما يُبدِْئُ ويُعيد:) مَا لَناَ فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ وإنَّكَ لَتَعْلَمُ ماَ نُرِيدُ (. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 فلما برع: حسين وترعْرَع، ولبِس لَامَةَ النَّجابةِ وتدرَّع. وهو بحرُ نَوال أمواجُه الهِمَم، وروضُ سيادةِ الفخْرِ والكَرَم. لم يزَل يرسلُ له هدايا وتُحَف، ويتضرَّع له بمودةٍ بأنواع الخلوص تُحَفّ. فقال له والده يوما في أثناء الكلام: إيذَن لحسين في أن يلىَ الرّفادة في هذا العام. فقال له: تريد أن تُضيِف السّباع، وهذه ضِباع المُنْحَنَى جِياع! فلما علم ما في هذه الكناية، صرع من النّكاية، صرَّح اليأسُ بجوابِه، وهجم على قلبه همٌّ أحلَّ تباريحَ الَجوَى بِه. فرجع بخُفَّىْ حُنَين، وشاهد منه كَرْبَلا حسين، حتى ذات بسيفِ الحسرة طعمَ الشَّهادة، ولِبس عليه الدَّهرُ من دياجِيه حِدادَه. فسقَى قبرَه رَبّقُ الغوادي الباسمِة البُروق، وإن كان فيه بحرُ كرمٍ يَعذُب في أفواهِ الأمانيّ ويَرُوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 ثم نهض أخوه: مسعود على قدمه، طالعاً بدُره المسعود بين نجوم أتْباعِه وخَدمِه. وهو إذ ذاك في المعرفة عَلمَ، وفي طريق المجد ثَبْتُ القلب ثابتُ القَدَم. يتبَّسم لغُرّتِه وجهُ النَّهار، ويُناجِه السَّعدُ بما في ضمائِره من الأسْرار. وله حسناتُ شعرٍ ما خُطّ في مجموع الدّهرِ مثُلها، ولا سجَعت وُرْقُ الفصاحةِ بلحْنه في ذُؤابةٍ هاشميةٍ قبْلَها. ومسعود لو مَسَّ عوداً بْعدِه أوْرَق، لِما جال في بِثْر مُحيًّاه من ماء النَّدى وتَرقْرق. مع شجاعةٍ يرتعد لها الأسدُ والأسَل، وبَعُدّ الصّعنَ في الهْيجاء كالقُبَل. كما قلتُ فيه: قومٌ غزوتَهمُ رأيتَ جسومَهمْ ... مُقَلاً لهنَّ إشارةٌ المتكلَّمِ من كلّ مُقْلِة طَعْنةٍ نجلاءَ مُذ ... نظَرتْ فِراقَ الرُّوحِ تَبْكى بالدّمِ رمِدتْ فكحَّلها مَراوِدُ شُمرِه ... من اثْمِدِ النَّقْعِ المُثارِ المظْلمِ وكأنَّما رمَدتْ لخوفِ قواضِبٍ ... صَلَّتْ فتسجُدُ وهْىَ ذاتُ تَيمُّمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 فلم يزل يخطُب من المُلْك كواعبَ أبكارِه، حتى أدركَه الغرقُ في حِياض مِماتِه المُترَعَة من بحارٍ أفكاره. فأرسَى بسواحل شَعُوب، وأنشدتْه الحالُ بلسان الخُطوب: عَياه به مات المحِبُّونَ مِن قبلُ فبلغ في سفينة أملِه وفاتَه، وسبقه الأجلُ كما سبق السَّيفُ العّذَل وفاتَه. فرأيت جَنازتَه والدموع حوله طُوفان، وقد أرْسَت سفينةُ تابوتهِ على جُودِيّ الفَناء والأحزان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 فلما بدَّل الأمْنِيَّة بالمنِيَّة، وسقاه الدهرُ كأسَ المَنُون رَويّة، قام مقامَه: أبو طالب مترشَحا لأمرها، مترقّبا بعد موت ثَقَبة لاجْتلاء بدرِها. وكان قبلُ لا يرِد مورداً من مناهل آمالِه، إلا وقد غَصّ بقّذَى رُقبائِه وعُذَّاله: لم ترِدْ ماء حسنِك العينُ إلّا ... شَرِقتْ قبل رِبّها برقيبِ فأراد والدُه أن يقلّد بصارِمها، ويجعلَ هياكلَ جيِاده في أجْيادها مُقامَ تمائِمها، فأرسل الأميرَ بَهْرام، فَرَطاً يستسْقىِ له ماءَ المَرام، وهو منتِظرٌ لها انتظارَ ليلةٍ القّدْر، راجياً أن يُحلَّ منها محلَّ القلب من الصَّدر. فنثَر على ذلك الرسول، جواهرَ الإحسان والقَبُول، وأهدى له مع كتاب العهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 خِلَعاً حِسان، أزهى توشَّحت به معاطفُ الكُتبان، وألبستْه عطايا الربيع قدودَ الأغصان: فكان كما قيل: قرَّت عيونُ المجد والفخرِ ... بخِلْعه الشمسِ على البدرِ زَرَّ عليه الملكُ فَضْفاضَها ... وإنما زَرّ على البحرِ ما هو إنعامٌ ولكنَّه ... ما خلعَ الغيُث على الزَّهرِ فأفِيضَت عليه خِلْعةٌ مُعْلَمة، وأصبحت قلائدُ الجو في جِيد السَّيادة مُنظَّمة. مما تقَرَ به عينُ الزَّهْرا، ويرفع الله به لآلِ البيتِ ذِكْرا. وأمرُه بالدهر عابث، وأغصانُ المنابر بِاسْمِه مُورِقة أثائِث. وأمطَر عليه عِهاد الكرَم وَسْمِيَّا ووَلْياً، وتلَى منشورَه المُعرِب عن أنه أصبح لأبيه وَليَّا. فتبوَّأَ صدرَ الخلافةِ والجلالة، وورِثها عن أبيه حيَّا لا عن كَلالة. فأقرّ بعْهدِه لساناَ السيفِ والقلم، ونُودِىَ هذا الذي تَعرِف البطحاءُ وطْأتَه والحِلّ والحرَم. قام فطاف بالبيت شُكْراً لذلك الإنعْام الجسيم، فكاد يُمسِكه عِرفانَ راحتِه لما اسْتلم الرُّكنُ والَحطيم. وصورة منشورِة، وهو مما أنشأْتُه بأمر رئيس الكُتّاب:) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الحمد لله الذي نشَر على الخافِقَيْن أعلامَ عدْلِه، وزيَّن حُلَل الوجود بجُوده وفضلِه. ونشكره شكراً تطوف وُفود الإخلاص حولَ كعبِته، وتقصر الفصاحةُ بعد التَّحليق في افق البلاغة عن أن تكون مُزدَلِفةً من شُكْر نعمِته، وتسجد له الأفلام في كعبة الطّرْس المكسُوّ بسَواد مِدادِه، وتسعى للصَّفا في مواقف إصْدارِه وإيرادِه. وصِلاتُ الصَّلاة المِكيَّة النَّسيم، العَنْبَريَّة الشَّمِيم، تَتَوالى توالِى القطر المُكرَّر على تلك الأقْطار، والمَثْوَى الذي تُرابُه إثْمِد البصائر والأبْصار: حياكِ يا تُربةَ الهادِي الرسولِ حَياً ... بمنطقِ الرعدِ بادٍ من فمِ السُّحُبِ ضمَمْتِ أعظُمَ مَن يُدعَى بأعْظَمِ مَن ... يسَعى إليه أخو فضلٍ ولم يخِبِ وحُزتِ أوضحَ مَن يَهْدِي وأفصحَ مَن ... يُبْدِي وأرجحَ مَن يُعزَى إلى نَسَبِ محمدٍ المرسَل بكتاب تمسَّك بأهْداب سِحْر البلاغة والإيجاز، واستَوْثَق دون بُلغاءِ العرب بعُرَى الإعجاز، فرَمى قلوبَ المعارضين بجَمَراتِه، وكحَل بصائرَ المُطيعين بمِيل الهداية فأقرُّوا ببَينّات آياتِه. وعلى آله وصحبِه، وجُندِه وحِزْبه، أولياء عهده، والخلفاءِ من بعده، ما جُرّدت صوارمُ البُروق من أغْماد الغَمائم، وسرَى نسيمُ نجد فابتسَمتْ له ثغورُ النَّوْر في الكمائم. هذا، وقد أظهر الله عزَّ سلطانه كنزَ سرّه المكُنون، بقوله:) وَلَقدْ كَتَبنْاَ فيِ الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذَّكْرِ أَنَّ الأَرضَ يَرِثُهَا عِباَديَ الصَّالِحُونَ (، فعُلم به سِرُّ الأمْر، في قوله:) أَطِيُعوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأولِى الأَمْرِ (. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فإنه ليس بعد النُّبوة والرّسالة إلا مراتبُ الصَّلاح، ولهذا كانت الرَّعايا بلا سلطان كالأجْسام بلا أرْواح. وما الشَّريعةُ إلا روضةٌ زاهيةُ الثّمار، مُتفتّحة الأنْوار، تَجرى من تحتها الأنهار، والسلطان مُتعهّد لها بالحراسة، يحميِها من كل جَان بشَوْكة السّياسة. وإذا كان ظلَّ اللهِ في أرضهِ، وشمسَه المتّضِحَ بأنوار سَنَن سُلته وفرْضِه، فعلى مَن طلَعت عليه الشمس أن يجنَحَ لِظله، ويَقِبل في دَوْحَة إحسانِه وفضلهِ. فإنه الشمسُ الذي تضئُ بدورُ الكواكب بأنْاره، والبحرُ الذي تستمد جداولُ الأمراء من أنهاره. والسماءُ الذي تتَمْنطق الجوازء لخِدمته، ويخافُ الأسدُ أن يَمُدّ إليها يدَ سَطْوته. والجنَّةُ التي تحت ظِلال السيُّوف، والمُتقرَّب إليه بمحاسن الأعمال، والمُستَجار به من الصُّروف. والَحرمُ الذي يأمَن فيه الخائف، وكعبة اللَّطائف البادِية لكلّ طائف. والربيعُ الذي اعتدلتْ أيامُه بالعَدالة، فصدَحْت حمائمُ الثَّناء على أغصانِها المّيَّادة الميَّالة. وتهْتزُ أعوادُ المنابرِ باسْمِهِ ... فهل ذكَرتْ أيْامَها وهْيَ أغْصانُ وممَّا ينبغي أن يُرسمَ في صحائف الأفكار، ويُجعَل طِرازاً على كعبِة المحاسن والآثار، أنه من أهمّ ما يْهتمُّ به مَن جَعل الحِجا زِيَّه، خِدمة طِرازاً الطَّيّبة، ومكْة المُشرَّفَ بها سائرُ الأنوار المحَّمدية، ومظَهر الآثار العُلْوية العَلِيَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ومْثَوى مَن شرَّف الله به نوعَ الإنسان، والأُنْموذَج الذي صاغَه الله تمْثالاً للِجنان، كما ورد في السُّنة:) مَما بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ الَجْنَّة (. وكذلك أوَّلُ وُضِع للنّاس، وأسّس على التَّقوى منه الأساس. كأنما هو مِغْناطِيسُ أنفِسنا ... فحيثُما كان دارتْ نحوَه الصُّوَرُ وكان أوْلَى ما يقلّدُه الإنسانُ عقودَ جواهر الإحسان، ويجتهد في تقليده، وتأْييد تأْييده، ويتُوَجُهُ بتاج التكْريم، ويُعّمُمه بحُلَل التَّبْجيل والتَّعظيم، ويخزِل الصّلةَ لجنابه الموصول، ويَضمِر له في القلوب القَبول، بدُورَ فلك السعادة، وصُدورَ مسنَد السيادة، السادة الأجلاء الأشراف، فخر آل عبد مناف. وكيف لا يزدادون حُبَّا، بعد قوله:) قُلْ لَا أَسْئَلُكمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المْوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (. كلُّ مَن لم يَرَ فرضاً حُبَّهمْ ... فهْوَ في النَّار وإن صلَّى وصاماَ وبالجملة، فإن مادحَهم كن قال للأسد: ما أشدَ شجاعتَك. وللبحر المحيط: ما أوسع ساحَتَك. لا سيما طَوْدُ المجد الشَّامخ المُنيِف، المرفوعُ عَلمُ العِزّ والنَّسب الشريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 تاجُ هامة بني الحسن والحسين الَجناب العالي، مَغْرِس ثَمَرات المعاني والمعالي. العريق الحسيب، الأصيل النَّسيب. ذُخْرُ الأنام، فخرُ اللَّيالي والأيام. زهرة الشَّجرة العَلَويّة، فرع الدَّوْحة النَّبويّة. إذا وجههُ أو رأْيُه أو فِعالُه ... تبلَّجْنَ في ليلٍ تجلَّتْ غياهِبُهْ صارمُ الخليفة المُغْمَد في رقاب أعدائِه، ورحمتُه الُمْمطِرة دُرَرَ سحابِها على أوليائِه. الحسنُ الذٌات والصّفات، أبو المحاسن حسن بن أبي نُمَىّ بن برَكات، أيَّده الله بنصرٍ لا يْبَلى جديدُه، ول تْنتِثر بيد الحواديث عقودُه، آمين. وقد ورد من جانبه رسول، تلقَّاه من سُدَّتنا نسيمُ القَبول. إذ جاب الفَيافَى من حَزْنها وسْهلها، وأدَّى الأماناتِ إلى أهلها. وكان كالِميل سلَك بين الجُفون فأجاد، ومتَّع العيونَ بإنمِد الصَّلاح والسداد. ومعه مَنشور أرق من نسيم السحر، معرب عن العين بالأثر. فأخبر أن مرسله أراد الفراغ، وما على الرَّسولِ إلا البلاغ. وتضَّمن مْنشورُه المذكور، أنه أراد الاستراحة من نَصَب المناصب، والتَّقاعدَ عما بها من المراتِب، رغبةً عن زُخْرف الحياة، إلى خدمة سيَّده ومولاه. وأن نجَله النجيب الجليل، الحسيب الأصيل. النَّاشئ في الشَّرف الباهر، المُسَتخرَج من أكرم العناصر. لَيْثَ غابِة بيِض الصّفاح، وسُمْرِ العسَّالة الرّماح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 عليه أمارةُ الإمارة، ومخابِلُ والصَّدارة: بلغ السّيادةَ في ابْتداءِ شبابهِ ... إن الشَّبابَ مَطِيَّةٌ للسُّؤدَدِ وسأل أن نقلّدَه صارمَ إمارة تلك الديار، وما يْتبعُها من البُلدان والأقطار. على ما جرَتْ عليه عادةُ سَلِفه الذي سَلَف، وقانونُ خَلْفَهم من الخَلَف. فأجْبناه إلى مَرامِه ومُرادِه، وأمددْناه بإسْعافِه وإسْعاده، لأنه إنما نزَع صارِمَها من يدِه الأخرى، وجعل خاتَمَها بعد يُمْن اليُمْنَى في يَسار اليُسْرَى. فسارت الإمارة من حَرمَ إلى حرَم، ولم تخرج من جيرانِ نجْدٍ وذِي سلم. فعليه، بعد ما خلعنا عليه حللا تأنق واشيها، ورقت على وحده حواشيها، ونظْنا إليه بنَظَرنا الذي هو إكْسير، أن يحُسِن في العمل والتَّدبير. وينظرَ إلى الرَّعاية بْعين الرّعاية، ويصونَها عن أهل الضَّلالة والغِوَاية. ويُؤمّن من تلك المناسِك، ويحرسَ تلك المسالِك. ويختارَ من قومه مَن يحرُس أطرافَها من الأعداء ويحمِيها من كل قاصرٍ في فعله تَعدَّى. ويبطلَ ما فيها المكُوس والمظالم، ويقيمَ الحدودَ على مستحقّيها من كلّ باغٍ وظالم. لُخلَّد في صحائِف تلك البلاد الحسَناتِ، ويمحُوَ ما فيها من آثار السَّيئات. ويتصرَّفَ في بَنْدر جُدَّة على العهد القديم، ومَن جاور ذلك المقامَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 فليسْعِفْه بالنَّعيم المقيم،) وَمَن يُرِدْ فيهِ بإلْحاَدٍ بِظُلمٍ نُذقْهُ مِنْ عَذَاب أَلِيمٍ (. ويحرسً الوافدين إلى ذلك البلد الأمين، لإقامة شعائر الدَّين. ويحِمىَ بحمايتهِ وَرَد أو صَدَر، ويحرسَ مواردَهم الصافيةَ من الكَدَر. ويلاحظَ ما للخليل عليه الصلاة والسلام من صالح الدَّعَوات، في قوله:) رَبّ اجْعَلَ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أهْلَهُ مَنَ الثَّمَرَاتِ (. ثم لْيَعلمْ كلُّ من كَحل بصرَه بان مِد منشورنا الكريم، وشَنَّف مسامَعه بلآلئ لفظِه النَّظيم. مِمَّن في دَارَةِ تلك الدّيار، أو هالةِ تلك الأقْطار، وانتظم في سِلْك سُكَّان القُرَى والأمصار. مِن السَّادات الكرام، والقُضاة والُحكَّام، ووُلاة الأمور والأعْيان، والوافِدين على تلك الديار والسُّكان. أنَّ إمارة تلك المعاهد وما فيها من العساكر، وما أحاطَتْ به من الأصاغر والأكابر، وسائر الوظائف والمناصب، والجِهات والمراتِب، مُفوَّضةٌ إلى السيد السَّنَد أبي طالب. ناظراً بعين الإنصاف، مُتجنَّبا سبيلَ الاعِتساف. مُصرَّفا جميع المستحّقين بُحسنْ التّصرِيف، صارفاً من لا يستحق برأْيه الشريف. وقد أقْمناهُ مقامَ نفسِنا في ذلك المقام، وفوَّضنا إليه النَّقْض والإبْرام. والعلاَمة السُّلطانية حُجَّةٌ لما فيه مَرْقوم، مُحقّقُة لما فيه من منطوقٍ ومفهوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 فلْيتحقق من وقف على هذا الخطاب، ومَن عنده عِلمٌ من الكِتاب، من أهل مكة زادها الله شرفا وما في جوارها، وَطيْبة الطّيبة طيَّب الله ثراها وسائر أقطارها، وبقَّيِة الثُّغور، الباسِمة لدولتنا بمياسِم السرور، من حاضرها وباديها، أنَّا أعطيْنا القوسَ بارِيها. فلم تكُ تصلحُ إلاَّ لَهُ ... ولم يكُ يصلحُ إلاَّ لَهَا سدّد الله سِهامَ رأْيه في أغْراض الصَّواب، وفَتح له بمفاتحي السُّمْر كلَّ مُغَلقٍ من الأبواب. ما سقطتْ من كفّ الثُّريّا الخواتِم، ورقَتْ على منابر الأغصان خُطباءُ الحمائِم والسلام (. وإذ انتهينا إلى هذا المقام، فأصْغِ لم نقُصُّه عليك من عجائب الأيام، فإن المصْدورَ لا بدّ له من نَفْثه، ومَن جهِده المسيُر يطلب على الطَّريق مُكْثَة. فاعلم أننا رأيْنا كل ملُك له مُبْتَدا تظهر فائدتهُ وعائدتهُ في خَبَره، وانتهاء يقف السَّعدُ بعد وِرْده عند صَدْر صَدَره. ثم يرجع ما جرَى إلى قَراره، فُينذِر الإقْبال بإدْباره، ويعود تدْميرُه في تْدبيره ويُقدّر صانعُ القدرَ أديَمه على مِقدار تقديره. وإلى الله ترجع الأمُور، وعلى بحُور الإرادة يجْرى الفلك ويدُور. وقد تظهر قبل آخرِه فيه قُوّة، فيُظِهر فرِعْونُ طغيانَه وعُتُوه، وللشمس زوَال إذا ارتفعتْ، وللسمر سقوط إذا زَهَت وأيْنعتْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وقد يزيدُ قبل الانطفاء نورُ المِصباح، ويحصل للمريض إفاقةٌ يُسَمع بعدها الصّياح. وتسمى هذه الأطِباء النعْشَةَ الأخيرة، فكم من نَعشْتة تقُرّب من السَّقيم نَعْشهُ، وهذا في غير الخلافة النبوَّية، فإنها بالحيّ الذي لا يموت مَحْميّة. وقد كان انتهاء صُعود الشَّرف في الحجاز بالسيد حسن وفي المغرب بمولاي أحمد، وفي الرُّوم بالسلطان مراد، ونحن الآن لا ندْرِي ما يريد ولا ما يُريد، فقد ذهب سليمانُ وانْحَّلت الشياطين، ووقف الرَّجاء على شَفَا جُرفٍ هارٍ بين قومِ مجانين، فالجواد دون الحمار المِصْرى، وأبو جهل وعَظ الحسنَ البصْري: فقُلْ بعده للدهرِ يأْتي بصَرْفِهِ ... وقلْ لليالي: أفْعل ما بدا لَكِ وقلت: قد جُنَّ شَيْخي وفي الأمثال من قِدَمٍ ... إن الشبابَ جُنونٌ يُرْؤُه كِبَرُهْ يا ربَّ فاعقِدْ بقُولَنْجٍ له دُبُراً ... حتى يعودَ عليه بعد ذا ضَرَرُهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 قطْب الدين المكّيّ النَّهْروانِيّ أصلاً ومَحْتِدا قطبُ مركزِ دائرة تلك الأقطار، والصدرُ المسْتوْدَع لما فيها من الأسرار. وهو فاضل جرَى في بساتين فضْلِه جداولُ الآداب، وتمسَّك الشّعرُ منه بأعظم الأسباب. فوقف دون مَداه ضِدُّه وحسُودُه، ومَن قَّيَده الكلاُ لا تنْفكُّ قُيودُه. فذاك كمن جارىَ جواداً بِمُقْرفٍ ... قوائمهُ مِشْكولةٌ بحرِانِ فسماءُ مجدهِ مُطلعِة لكواكب شِعره، وزهرةُ عمرِه سُقيتْ بماء سروره وبتْره. تنقطع عند كرَمِه الآمالُ وتعجز الأماني، ويقصُر سِلْكُ الألفاظ عن نظم ما فيه مِن دُرَر المعاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وتُقّبل أفواهُ الأقلام لَمَى مِدادِه، وبهيم سُوَيْداء كلّ لبيب في سوادِه. وتنفتح عيونُ الأنوار لتُشاهد ساطعَ أنواره، وتترنَّم حمائمُ الحرَم بأسجاعه وأشعاره. ويُهبُّ نسيم نجدٍ لشَغفِه برقَّتِه عليلا، ويجرُّ على ثَرَاه تيِهاً بمُضاهاتهِ له ذْيلاً بَليلا. لتَغَذَّيه بلبان فصاحة بجْدٍ وذي سَلَم، واقْتناصِه أو ابِدَ المعارف بها فاعَجبْ لمن حلَّ له الصَّيدُ في الحَرَم. وقد شحَذ مُرهَف طبعِه بَيِد الكمال، وسنَّ أسَلَةَ لسانهِ فانْجَلىَ بهِ فرِنْدُ سِحْره الحَلال. حتى تفيأتْ فتْوَى تلك الأقطار ظلالَ براعتِه، وسالتْ مسَائلُ المسائِل في جِيادَ يراعتِه. فكان قُطْبَ تلك الدائرة، وعليه مَدارُ فكل الفضلِ وبه الأمثالُ سائرة. فمُعوَّل أمورِها عليه، ومُنصْرَفَ وجوهُ الإقبال إليه. حتى أصبح عاطل حاله حاليا، ومرتفع حظّه عن وِهادِ الخمولِ عاليا. فلا يردُ مكَّةَ أحدٌ من أهلِ العلم والصَّلاح، إلاَّ فَيَّأ ظلالَ الكرم والسَّاح، وهزَّ عِطْفتَ أملِه بنشْوةِ الارْتياح. إلى أن تعدّى الأجل، من القُطْبِ دائرةَ الأمل، فدارتْ عليه رَحَى المَنُون، وطحنَتْ دقيقَ أفكارِه السّنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 فدعاه الله لجوارِ الجِنان، وتلقَّاه جَدَثُه بَروْحِ رحمةٍ ورَيْحان، وطافتْ بُمثْواه وفودُ الغفران. وقد نَعاه الفضلُ والكرم، وناحتْ لفِراقِه حمائمُ الحَرَم. حمائمُ أبْلَت في الحنين لِباسَها ... فلم يبْقَ منها غيرُ طَوْقٍ بجيدِها فممَّا تَهادتْه الرُّكبانُ من شوارِدهِ، وعُلّق في كعبةِ الفصاحة من نتفِ وقصائده، قوله: أقبل كالغصْنِ حين يهْتزّ ... في حُللٍ دون لُطفِْها الخَزّ مُهَفْهَفُ القَدّ ذو محَيّا ... بعارِض الخدّ قد تطرّزْ دارَ بخدَّيْه واوُ صُدْغٍ ... والصَّادُ من لْحَظِه تلَوَّزْ الخمرُ والجمرُ في لَماهُ ... وخدُّه طاهرٌ ومُلْغِزْ يشكو له الخَصْرُ جَوْرَ رِدْفٍ ... أزعجه حملُه وأعْجَزْ طلبتُ منه شِفاء سُقْمِي ... فقال: لْحَظِي لذاك أعْوَزْ قد غفر اللهُ ذنبَ دهرٍ ... لمْثلِ هذا المليحِ أبْرَزْ جزَّ فؤادي بسيفِ لْحظٍ ... أوَّاهُ لو دام ذلك الَجْزّ أفْديِه من اغْيدٍ مليحٍ ... بالُحسْنِ في عَصْرِه تميَّزْ كان نديمي فمُذْ رَآني ... أسيرَهُ في الهوى تعزَّزْ حرَّم مِن وَصْلِه مُباحاً ... لّما أحلَّ القِلَى وجَوَّزْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 يا قلبُ لا تسْلُ عن هَواهُ ... واثْبُتْ وكُنْ في الغرامِ مَرْكَزْ وقالت في عَرُوضه: مَن علَّم الغصنَ حين يهْتَز ... مَيْلَ قُدودٍ تميلً في الْخَزّ غِيدٌ رماحُ القدودِ منها ... ليستْ بغير الفؤاد تُرْكَزْ وإن يكنْ هَزُّها دَلالاً ... ليس لغيرٍ الطّعان ذَا الْهَزّ كم وعدتْ بالوِصل مُضْنّى ... وُعودُه بالمِطال تُنْجَزْ وما حَسودٌ إذا توارَى ... تَراهُ من غيْظِه تمَيَّزْ في ألِفَى القَومِ ليِنٌ ... بعَطْفِة الصُّدغ منه تُهْمَزْ خِطابُه يُطرِب الأمانِي ... ولو بهُزْؤٍ علىَّ طَنَّزْ وشَتْمُه كالمديح يُطْرِى ... ومُسْهبُ القولِ منهُ مُوجَزْ كم لحظةٍ منه لي بطَرْفٍ ... فيها رِضاه على مُلْغِزْ له مُحيَّا بديعُ حُسْنٍ ... فيه جميعُ الجمالِ يُكْنَزْ ولى به مَطَلبٌ مَصونٌ ... بقُفْلِ صُدغ له مُرزَّزْ لو لم يكنْ حبُّه بقلبي ... ما كان بين الضُّلوع يُحْرَزْ قضيبُ آسٍ على كَثيب ... أزْعجه رِدفُه وأَعْجَزْ كأنما خَصْرُه خَفاء ... مْغني له ذا الجمالُ الْغَزْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 جلَّ الإلهُ البديعُ صُنْعاً ... ومَن لهذا المليح أبْرَزْ فاغنَمْ زمانَ السرورِ واطْرَبْ ... ففُرصةُ العمرِ فيه تُنْهَزْ وانظرْ بِساطَ الربيعِ يدعو ... لصَفْوِ عيشٍ عليه قد عَزَ مَهَّدهُ لاجْتماع شمْلٍ ... مُنِبَّتٌ يُرْدهُ مُطرَّزْ تُنْحَرُ فيه الزَقاقُ نحراً ... طُبّق فيه مفاصِلُ الْخْزّ والوُرْقُ في روضِه تنادى ... من ذَلَّ في الحبّ فهْو قد عَزّ كذاك قد ذلّ في الورى مَن ... بغير ربٍ له تعَزَّزْ كطالب الصُّوف من لئيمِ ... وهو لُجرْبِ الكلابِ قد جَزّ وكان من عَزَّ بَزَّ قِدْماً ... واليومَ من برَّ فهْو قد عَزّ وهذه حُلُّةٌ ترقَّتْ ... عن نسيجِ يُردٍ يرِقُ أوْ قَزْ لها على القُطبْ دائِراتٌ ... أضحى لها في الحضيضِ مَرْكَزْ وله في الوزير سنان لما فتح اليمن: لك الحمدُ يا مولايَ في السّرّ والجهرِ ... على عِزَّة الإسلام والفتح والنَّصرِ كذا فليكُنْ فتحُ البلادِ إذا سَعتْ ... له الهِمَمُ العَليْا غلى شرَفِ الذّكرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 جنودٌ رَمت كَوْكَبانٍ خِيامَها ... وآخرُها بالنّيل من شاطِئيْ مِصْرِ تجرُّ من الأبْطالِ كلَّ غَضَنْفَرٍ ... بصَارمِه يسْطو على مَفْرِق الدهرِ عساكرُ سلطانِ الزمانِ مَليِكنا ... خليفةِ هذا العصر في البَرَّ والبحرِ حَمَى حَوْزَةَ الدّينش الحِنيفيّ بالقَنا ... وبيضِ المواضِى والمُثقفَّة السُّمرِ ومنها: وحين أتاهُ أنْ قدِ اخْتلَّ جانِباً ... من اليمن الأقْصى أصرَّ على القَهْرِ وساق لها جيشاً خَميِساً عَرَمْرَماً ... يَدُك فجاجَ الأرضِ السَّهْلِ والوَعْر لدى أسدٍ شاكي السّلاحِ عرينُه ... طِوالُ الرّماحِ السَّمْهَرية والُبتْر وزيرٌ عظيمُ الشَانِ ثاقِبُ رأيه ... يجُهز في آن جيوشاً من الفِكْرِ ومنها: سِنانٌ عزيزُ القدْرِ يوسف عصْرِه ... ألمْ تَرَهُ في مصرَ أحكامُه تجرِي ومنها: وهل تطمع الأعْداءُ في مُلْكِ تُبَّعِ ... وتأخذهُ من آلِ عثمانَ بالمكْرِ أبَى اللهُ والإسلامُ والسيفُ ... وسِرُّ أميرِ المؤمنين أبى بكْرِ ومن مشهور شعره قوله: الدَّنُّ لي والكأس والقَرْفَفُ ... وللفقيه الكُتْبُ والمصحفُ إن كان ما تُعجِبُه قِسْمتي ... فلْيَقتسِمْها مثلَ ما يعرِفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 كم يزْدرِي الكأس ويهْزُو بها ... يُخشْىَ على هذا الفتى يُقْصَفُ يسُبُّ شُرَابَ الطّلا عامِداً ... أليس في الحُكام مَنْ يُنْصِفُ فأتْرِع الكأسَ على غَيْظِه ... وعاطِنيها أيُّها الأهْيَفُ وقل هو القطبُ ببَحْرِ الهوى ... قد عام والله به يلْطُفُ وله أيضاً أَحِبَّةَ قْلبي أنتمُ قد وردْتُمُ ... مَعيِ مَنْهلَ اللَّذَّاتِ وهْو نَمِيرُ وواللهِ ما استغْنَيْتُ عنكم بغيرِكمْ ... وإني إليكمْ ما حِييتُ فقيرُ وله أيضا: أحسنُ من غَفْلةِ الرَّقيبِ ... وْلحَظةِ الوعدِ من حبيبِ وقُبْلةٍ كانت اخْتِلاساً ... في وَجْنَتَيْ شادِنٍ رَبيبِ كَتْبُ أديبٍ إلى مُحبٍ ... طالتْ به مُدَّة المغِيبِ تَتْرَكُ مَن سُطّرَت إليه ... أهْيمَ مِن عاشقِ طَرُوبِ وله أيضاً: بَدَا عَرَقٌ في خذّه فسألتُه ... إذا ما تَبدّى قال لي وهْو يَمزْحُ ألا إنَّ ماءَ الوردِ خدّى إناؤهُ ... وكلُّ إناءِ بالذي فيه ينْضَحُ وهذا مثل أوردة المَيْداني في) أمْثاله (ولم يزد فيه على قوله: كلُّ إناء يرشَح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 بما فيه ويُروَى: ينضح بما فيه، أي يتحَلَّب. انتهى. وقد سبقه إلى هذا مُجير الدين بن تميم كما وقفتُ عليه في) ديوانه (بقوله: سَقى الله رَوْضاً قد تبدَّى لناظرِي ... بدرَشَاٌ كالغُصنِ يلْهُو ويْمَرحُ وقد نضَحتْ خدَّاه من ماء وَرْدِه ... وكلُّ إناء بالذي فيه ينُضَحُ وعن الشيه نصر الله بن مُجَلّى أنه رأى في المنام سَّيدَنا أميرَ المؤمنين علياّ بن أبي طالب، كرم الله وجَهه، ورضى عنه فقال له: يا أميرَ المؤمنين، تفتحون مكَّة، وتقولون مَن دخل دارَ أبي سُفيان فهو آمن، وقد تمَّ على ولدك الحسين منهم ماتمَّ! فقال له: أما سمعتَ أبياتَ ابن الصَّيفىَ، يعني به الحيْصَ بيْصَ؟ فقلت: لا. قال: اسْمَعْها منه. فلما انْتهيت ذهبت إلى دارِه، وذكرتُ له ما رأيتُ في منامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 فبكى وحلف أنه نظمها في هذه الليلة، ولم يقف عليها سواه، وهي هذه، وأنشدها له: مَلكْناَ فكان العفوُ منا سجَّيةً ... فلمَّا مَلكْتُمْ سال بالدَّم أبْطَحُ وحلَّلتُمُ قَتْلَ الأسارىَ وطاَلَما ... غدَوْنا على الأسْرَى بَمُنَّ ونصفحُ وحسْبكمُ هذا التفاوتُ بيننا ... وكلُّ إناءِ بالذي فيه ينْضَحُ وقد سبقَهم إلى هذا أبو الفتح كُشاجَم، فقال: ومُسْتهْجِنٍ مَدْحي له أن تكُوئِدَتْ ... لنا عُقدة الإخْلاصِ والحرُّ يُمدَحُ ويأْبَى الذي في القلبِ إلاَّ تَبَيُّناً ... وكلُّ إناءِ بالذي فيه يْنضَحُ وقلتُ في الهجاء: فتى كان مِن قبل الشَّبابِ مُؤاجَراً ... وقد لاطَ كهلاً وهْو تَيْسٌ سينَطْحُ يبيعُ برأسِ المال في السوُّقِ ما اشْترَى ... وكلُّ إناءِ بالذي فيه يرْشحُ وهذا المثل لم أرَ مَن شرح مَورِدَه ومضربه، وهو يحْتمِل معنيَيْن: أحدهما، وهو الظاهر المُتبادر: أن كلَّ أحدٍ يلوح على ظاهره ما في باطنه، وإن أخفاه؛ كما قيل: مَن أسرَّ سَرِيرةً ردَّاهُ الله برِدائها. والثاني: أن كلَّ أحدٍ يُجازَى مِن جنس عملِه، وهو الذي قصده الَحيْصَ بيَصْ. وقد قلتُ في بعض الفصول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 كلُّ عداوةٍ تزول إلا عداوةَ الحسد، وكل زارع لِماَ زرعَ حصَد، وبَيْضةُ ابن دأْية النَّعَّاب، وإن جثا عليها طاوسُ عَدْنٍ لا تُفْرخُ إلاَّ الغراب، وإن كان عُشُّة في سِدْرَةِ المُنْتَهى، وقد غَذَّيْتَها من ثمارِ الَجنَّة ومُنْتهَا. وفي صحيح الخبر:) النَّاسُ مَجزْيُّونَ بِأَعْمالِهمْ خَيراً فَخيْرٌ، وإن شرَّا فَشرّ (. وقد قيل: مَن قال خيراَ فلَه ... ومَن يقلْ شَرَّا فشَرّ وقال قَطَرِىُّ الخارجيّ مُتمُلَّا: قيل للعَقْرب: أنت محبوسة في الشتاء، أفلا تخرجين لمشارقِ الشمس بالغَدوات، كما تخرج الناس؟ فقالت: ما أحسنَ أيادىَّ عندهم في الصيف حتى آنس بهم في الشتاء. ولله دَرُّ أبي القاسم الدَّبُوسي في قوله: أقول بُنصْحِ يا ابنَ آدمَ لا تنَمْ ... عن الخير ما دامتْ فإنًّك عادِم وإنَّ الذي لم يصنعِ العُرْفَ في غِنًى ... إذا ما عَلاه الفقرُ لا شكَّ نادمُ فقدّم صَنيعاً عند يُسْرِك واغتنمْ ... فأنتَ عليه عند عسرِك قادمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 جمال الدين بن صدر الدين بن عصام الدين، العلامة الإسْفَرَايِنِىّ فاضلٌ نَشاْ بمكَّة بين تِهامة ونَجْد، ورُبّىَ في حَجْر المعالي والمجد، ففاق طبُعه رِقه وطِيباً نسيمَ النْرجِس والوَرْد. وخلعتْ عليه الأيامُ جمالَها، وأفاض اللهُ عليه فضْلَها وأفْضالَها. واللهُ جميلٌ يحبُّ الجمال، والدهرُ قد يُسعِفُه وإن كان عدوَّا لأهل الكمال. فحاز كرماً ومجدَا، وفاح عَنْبَراً ونَدا. عَطاه ولا مَنٌ وحُكمٌ ولا هَوًى ... وحِلْمٌ ولا عجْزٌ وعزٌ ولا كِبْرُ وهو في الفضل عصِاميٌ عريق، له عَذْبُ مَشْربٍ بين العُذَيب والعَقيق. وأنا وإن لم أرَه فقد صاحبُتُ أخاه عليَّا، ورأيتهُ وقد رفعه الله مكاناً عَلياَّ، ففُزْت بصُحْبته وقد طافتْ وُفودُ الآمالِ حولَ كَعْبتِه. جمالَ ذِي الأرضِ كانوا في الحياةِ وهمْ ... بعدَ المماتِ جمالُ الكُتْبِ والسّيَرِ فمن شعره قوله: فنِجْانُ قَهْوةِ ذّا المليحِ وعْينُه ال ... كَحْلاْء حارَتْ فيهما الألْبابُ فسَوادُها كسَوادِها وبياضُها ... كبياضِها ودُخانُها الأهْدابُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 قال أبو منصور الجْوَاليِقي في كتاب) المُعرَّب (: الفنجان معرَّب، وصوابه فنْجانة، وفيه نظَر وتشبيه الدُّخان بالأهْداب تشبيه بديع. ومثله في الحُسنْ قولُ الصَّنَوْبَرىّ مُجمَّرةٌ طاف بها الغِلْمانُ ... أبدَعَ في صَنعتِها الزَّمانُ كأنها فيما حكَى العَيَانُ ... فَوّارةٌ وماؤها دُخانُ في بِرْكةٍ حَصْباؤها نيِرانُ ... إذا تَبدّتْ حَزِن الرَّيحْانُ وسُرَّتِ الجُيوبُ والأرْدَانُ وقلتُ فيها، من أرجوزة أيضا: لله ما أحْسنَها من مُجمَّرهْ ... أنْفاسْها طيبةٌ مُعَطره كأنَّها ورِيحُها طُيَّابُ ... نَرْجسَةٌ من فوقِها ضَبابُ وعلى ذِكْر الأهداب انظر حسنُ قولي، في مليح لبي فَرْوة سَمور وضَبيٍ مِن السّمُّورِ ألْبس فرْوَةً ... وماسَ كما هزَّتْ ضَباً سُحرة سَرْوَا كأنّ عيونَ الناسِ من دَهْشةٍ به ... تُخلّف أهداباً فتحسَبُها فَرْوَا ولشيخنا العِناياَتي، من قصيدة: قَهْوةٌ لا صُداعَ فيها نَعَمٌ في ... ها مُزيلٌ مِن الصُّداِع مُريح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 صِبنَ في الصّينِ مِسْكُها فحكاها ... لَعَسٌ في بياضِ ثْغرٍ يلُوحُ ليلُ وصْل في صُبْحِ لُقْيا حبيبٍ ... طاب منها غَبُوقُها والصَّبوحُ وللأستاذ محمد البَكْرى، أو لمحمد ماَماَى المعروف بالرُّومِي: أنا المعشوقةُ السَّمْرَا ... وأجْلَى في الفناَجِين وعودُ الهِنْدِ لي طِيبٌ ... وذكْرِى شاعَ في الصِّينِ وكتب جمال الدين للقطب المكَىّ، يهنّيه بشهر رمضان: يا شيخَ أهل العلمِ في أمّ القُرَى ... رمضانُ هَلَّ ببَهْجةٍ لم تُوصَفِ فَتَهَنَّ وحدَك إن ذاتَك أصبحتْ ... هي اشرفٌ في أشْرفٍ في أشًرفِ فأجاب، وأجاد، وأجاز: يا واحدّ الفُضلاءِ أنتَ جمالُنا ... فَتَهَن بالشهرِ الشريفِ الأشْرفِ شعْرٌ بِشْعر لا رِباً فيه وإن ... زاد العِيارُ فوزْنُ هذا الأشْرَفي الأشرَفي في العُرْف بمعنى الدّينار، نسبةً للملك الأشرف، وتوحيده جرّته القافيةُ. ولابن الَقّيم وقد مدح مَن أجابه، وأجازه: ولما مدحت الهِبْرزِى بنَ احمدٍ ... أجاز وكافَني على المدْحِ بالمدِْح فعَّوضنيِ شِعْراً بشْعرٍ وزادني ... عطاءَ فهذا رأسُ ماليِ وذَا رِبْحِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 لفظْتُ ملوك الأرضِ حتى لقِيتهُ ... فكنتُ كَمن شقَّ الظلامَ إلى الصُّبحِ وهذا من قول ابن سِنان الخَفاَجِيّ: طوَيتُ إليك الباخِلينَ كأنَّني ... سرَيْتُ إلى شمسِ الضُّحَى في الغَياهِبِ ومما يشبه هذا قولُ البَبَّغاء: زمنُ الوردِ أشرفُ الأزْمانِ ... واوانُ الرَّبيعِ خيرُ أَوانِ أدرك النَّرْجِسُ الجنِىُّ وفُزْنا ... منهما بالخُدودِ والأجَفْانِ أشْرفُ الزَّهْرِ زارَ في أشرفِ الدّه ... رِ فصِل فيه أشرفَ الخِلاَّن ومدح البُحتُرِيَ طاهرَ بن إسماعيل الهاشِمي، فبعث له بدنانير، وكتب معها: لو يكون الحِياء حسْبَ الذش أنْ ... لدينْا له مَحَلٌ وأهلُ لُحَييبَ اللُّجَينَ والدُّرَّ واليا ... قوتَ حَثْواً وكان ذاك يَقِلُّ والشَّريفُ الظريفُ يسمحُ بالعُذْ ... رِ إذا قصَّر الصديقُ المقِلُّ فردَّها، وكتب إليه: بأبيِ أنتَ للبرَّ أهلُ ... والمساعي بَعْدٌ وسَعْيُك قَبْلُ والنّوالُ القليلُ يكثُر إن شا ... ء مُرجّيك والكثيرُ يقِلُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 غير أنَّى رَدَدتُ برَِّك إذْ كا ... ن رِباً منك والرّبا لا يحلُّ وإذا ما جزِيْت شعراً بشْعرٍ ... يبلُغُ الحقُّ والدنانيرُ فَضْلُ ومثله قول أبي القاسم الدَّاوُدِي: ربما قصَّر الصديقُ المُقِلُّ ... عن حقوقٍ بهنَّ لا يسْتقلُّ ولئن قلَّ نائلٌ فصَفاهُ ... في وِدادٍ ونيَّةٍ لا يِقلُّ أرْخ سِتْراً على حَقارةِ برِىّ ... هَتْكُ برَّ الصديقِ ليس يحِلُّ ولنْورد هنا رِبا الشعر، وما قيل فيه؛ فإن الحديث شُجون. وقد قال الصنَوْبَري: لستُ أستحسنُ الرّبا في سوى ال ... وُدّ فأجْزِي مثْلاُ بمثلٍ وأُضْعِفْ ولما هنَّأ الشعراء ابن طاهر بولاية خُرَاسان وأنشده تّمام بنُ ابي تمام هنَّاك ربُّ العرشِ هنا كا ... مامِن جزيل المُلكِ أعْطاكاَ قرَّتْ بما أعطِيتَ ياذا الحِجاَ ... والباسِ والإنْعامِ عيْناكَا أشرقتِ الأرضُ بما نِلتهُ ... وأوْرقَ العودُ بجَدْواكاَ استضعف الحاضرون شعرَه، وقالوا: ما أبعدَ ما بينه وبين أبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 فأجابه بعضُهم بقوله: حيَّاك ربُّ الناسِ حيَّاكاَ ... إنَّ الذي أمَّلتَ أخْطاكاَ مدحْتَ خِدْناً متهما ما له ... ولو رأى مَدْحاً لواساكاَ فهاكَ إن شئْتَ بها مِدْحةً ... مثلَ الذي أعْطَيْتَ أعْطاكا فقال: أعز الله الأميرَ، الشعر بالشَّعر رِباً، فاجعل بينهما مِنَحاً من الدراهم؛ حتى يحِلَّ. فضحك، وقال: إن لم يكن معه شعرُ أبيه، فمعه ظَرْفُه، وأجزل جائزتَه. وقال السّراج الورَّاق: وعوَّضَنيِ على شِعْري بشعْرٍ ... وجازَى بالمُحال على المُحالِ ولستُ ألوُمه فيما أتاهُ ... لِعادتهِ قديماً بالبدالِ وكتب دِعْبل لأبي دُلفَ، وقد انقطع عنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 هجَرتُك لم أهجُرك كُفْرانَ نِعْمةٍ ... وهل يُرْتَجى نَيلْ الزيادة بالكُفرِ ولكنني لما أْتيتُك زائراً ... فأفْرطتَ في بِرَّى عجزتُ عن الشكرِ فإن زدْتني بِرا تزايدْتُ جَفْوة ... فلا نَلتقي طولَ الحياة إلى الحشْرِ فوجَّه له ألفَ دينار، مع رُقْعةٍ فيها: إلا رُبَّ ضيفٍ زائرٍ قد بسطْتُه ... وآثرْتُه قبلَ الضّيافةِ بالبشْرِ أتاني بترْحيبٍ فما حال بيِنْه ... وبين الِقرَى والبشْرِ من نائلٍ نزْرِ رأيتُ له فضلاً علىَّ بقَصْدهِ ... إلى أن يراني موضعَ الحمدِ والشكرِ فزوَّدْتُه مالاً يقلُّ بقاَؤه ... وزوَّدني حَمْداً يدومُ على الدَّهرِ فردَ دِعْبل الألفَ، وقال: الشّعر بالشعر، والبرُّ رِباً. ومثل قول دِعْبل لأبي العلاء المعَرّي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 لو اخْتصرتُمْ مِن الإحْسانِ زُرْتُكم ... فالعَذْبُ يُهْجرُ للإفْراطِ في الخَصَرِ وكنت كتبتُ لبعض الناس شعْراً فأجاب عنه بشْعرٍ فكتبتُ له: فدَيْتُك قد بعْثتُ الشّعر دُرّا ... نفيساً عِقْدُه مِنَنُ الرَّقابِ فجثتَ بمثْلِه مِن غير وَزْنٍ ... يُعفّر في الوُجوهِ ولا يُحابِى عملْتَ بسنةَ المختارِ لَّما ... منَنْتَ به سريعاً في جوابي وقلتَ بلا رِباً وفَّنْتُ مَدْحاً ... بمَدْحٍ منك صرْتَ به تُرَاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ى أخوه علي العِصاميّ كعبة المعالي، وَمن به حالُ الكمالِ حاليِ. لا عيبَ فيه إلا أن لفظَه عطَّل الياقوتَ والدُّرَ، ولا عيبَ في نَداه إلا أنه يبعد كلَّ حُرّ. فهو غُرةُ الجَمال، وصورةُ الكمال. إذا نطق فما الروضُ زارَه الَحياَ، وإذا تهلَّل فما النهر حيَاه بَرقُ السَّما. ولعَمَرْي غن جَده، أسعد الله بَجْمع شملِ الفضائِل جَده. نفسُ عِصامِ سوَّدتً عصِاماً ... وعلَّمْته الكَرَّ والإقْداماَ وهذا الحفيد عِقْدُ المناصِب به نضيد. لم يفتخرْ بآبائِه، ولم يْبتهج بنضارةِ أصْلِه ونمائه لما اعْتصَم بعُرْوةِ الفضلِ الوُثْقَى، وصعَد إلى رَبْةِ المجد وترَقى وقال أنا عِصاميٌ لا عِظاميِ، وإن كنتُ لذِمار مآثرِي حامي. فألَّف وصَّنف ونوَّع قرَى الأسْماعِ وأتْحَف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وأفاد الطلاَّب، وحلَّ بأسْنان قلمِه المُشْكلات الصّعاب. وأقام في جوار بيتِ الله وِحمَاه، معتزِلاً عن الناس ولا بِدْع أن يُعتزِل جار الله. وكان ممَّن وَرِىَ به زِناَدِى، ورَوِىَ من ورْده فؤادي. وسُعّرتْ بالاستفادة منه نارِي وفكَّ من رِبقَة الجهل بفضْله أسارِى ولم يزل يُرسل إلى وُفودَ أخْباره، ويُهدِى نسيم نجدٍ إلى نَفَحاتِ آثاره. إلى أن صُمّ الخَبر، وعمىَ قائُد الأثر. وبيني وبينه مُكاتباتٌ. منها، ما كتبتُه إليه مع سَمَك: مولايَ أطال اللهُ بقَاك، ورفعك على هام السِّماك. أنهِى إليك، ناثِراً للآلئ المَعْذِرة بين يديْك أني زرتُ البحرَ أخاك، ويدُ الرجاء مُدَّت لما بُهتتُ عيونُ الشّباك. فأهدَى إلىَّ من المسَرَّة، ما كدتُ معه أصْطادُ حوت السّماك بشِباك المجرَّة. وأرسلَ لزيارتي أمواجَه، فإنْساني الدهرَ وخَطْبَه فلا أدْري أأعْرض عنّى أمْ وَاجَه. وأهْدَى إلىَّ حيتاناً كأنَّها خناجر، قطعَتْ من الجوع الغَلاصِم والخناصِر. فصَّير جِيدَ أمالي حاليا، وأذْكرني وما كنت نَاسيِا بحرَ عَطاياك وهو أكبر، ولكنَّ الشيء بالشيء يُذْكَر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 فأرسلتُ وإن كنتُ كمنُ أهْدى للجِنان غضَّ الزَّهَر، وأرسل الشَّمع للشمسِ والتَّمر لهَجَر: أرسلتُ أسْماكاً إلى ... مَن مجْدُه حلَّ الفلَكْ أرأيتَ قْبلي مُهْدياً ... أهْدَى إلى البحرِ السَّمكْ وذكر مرَّة في درسه قولَ الرئيس ابن سينا في بعض كتبه حديث: إنَّ الحكْمةَ لَتَنزْل مِنَ السَّماءِ فلا تَدخُلُ قَلْباً فيِه هَمُّ الْغَدِ. فقلتُ: إنه لم يُسْنده، وهو بكلام النُّبوُّة أشْبَه. وقد نظمْتُه فقلت. مَن يَتْرك الدُّنياَ يسُدْ أهلَها ... ويْقتطِفْ زَهْرتها باليَدِ لا تسكنُ التَّقوَى ولا حِكْمةٌ ... منْزلَ قلبٍ فيه هَم الغدِ وللإمام الشافعي رضى الله عنه قريبٌ منه: كم ضاحكِ والمنايا فوق هامِته ... لوْ كان يعلم غَيْباً مات مِن كَمَدِ مَن كان لم يؤتَ عِلماً في بقاء غدٍ ... ماذا تفكُّرُه في رِزْقِ بعد غدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 أحمد المدَنىّ، المعروف باليُتَيْم، مصغَّرا دُرٌ في حِقاقِ الدهر يَتيم، ودَوْحُة أدبٍ هزّها مُرورُ النسيم. بعْذبِ طبعٍ مُسَلْسل، وبُرْدِ فصاحة على الشَّعر مُهلْهَل إذا نَسَج حُللَه على مِنْوالها فهو من الطراز الأول. فهو تَوْءم نسيم السَّحر، وشقيقُ الماء والزَّهر. وربيب الحسن سقاه ماء الصبا، وخدن الخمائل قدم عليها رسول الصبا. مع خلاعةٍ ومجُون، وحديث صَبابة كلها شجُون. في فتيةٍ ينْظِمهُم الطَّرَب، نظْماً يرْقُص له الَحَبب: لا يُجْمِعون على غير الحرام إذا ... تجمَّعُوا كحَبابِ الرَّاحِ وانْتظمُوا فمن دُرَّه اليتيم، وعِقْد النَّظيم: للهِ مُحْكم قهوةٍ تُجْلى لنا ... في أبْيضِ الصّينيّ طاب شَرابُها فكأنما هي مُقْلةٌ مكْحولةٌ ... ودُخانُها مِن فوقها أهْدَابُهاَ ونحوه ما قلتهُ: زرتُ روضَ الحمى الأريض سُحيْراً ... إذْ دعاني إليه سَجْعُ الطيورِ وكأن الشَّقيقَ تحت ضَبابٍ ... مِجمْرٌ فوقه بُخارُ البَخُورِ وقد مرَّ قريبا نحوُه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 سراج الدين بن عمر الأشْهل المدَنيّ سراجٌ وهَّاجٌ أشرقتْ منه أنوارُ الفصاحة، وانْجلتْ أبكارُ أفكارِه في حُللَ الملاحة. حديقُة سِحْر، وحُقةُ شِحْر تَقْطُر منه مِياهُ اللُّطْفِ الجارية، وتجْرِى برِقَّة الحجاز وظَرْف العِراق وجَزالة البادية. ولم يزلْ مقيما بجوار الرَّسول عليه أشرفُ تحية، حتى أطفأ سِراجَه صَرْصرُ المَّنية. فمن شعره قوله: أرسلتُ رُسْلي لقْهوةٍ سَحَراً ... فما أتَوْا سُرْعةً من الكسَلِ فقيل صِفْها فقلتُ مُقتبِساً ... جاءتْ على فْترةٍ من الرُّسلِ وله أيضا: ما الحالُ قالوا صِفْ لنا ... فلعلَّ ما بِكَ أن يُزَاحُ فأجبتُ ما يَخْفاكُمُ ... حالُ السّراجِ مع الرياحْ وقد سبقَه لمثْلهفي كثير من شعرِه السراجُ والورّاقُ فمن محاسنه قوله: يُبنىَّ اقْتَدى بالكتابِ العزيزِ ... فزدتُ سُروراً وزاد ابْتِهاجَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 فما قال لي أفّ في عُمْرِه ... لِكَوْني أباً ولكَوْني سِراجاَ وله أيضاً: إلهي قد جاوزتُ سَبْعينَ حِجة ... فشُكراً لنَعْماك التي ليس تُكَفرُ وعمَّرتُ في الإسلام فازْدَدتُ بهَجة ... ونُوراً كذا يبدُو السّراج المُعَمّرُ وعمَ نورُ الشْيبِ رأسِي فسرَّنيِ ... وما ساءني أن السّراجَ مُنَوَّرُ وللسّراج الورَّاق أيضا: كم قطع الجودُ من لسانِ ... قلَّد من نْظمِه النُّحورَا فها أنا شاعرٌ سِراجُ ... فاقْطَعْ لِسانيِ أزِدْكَ نُورَا وللشعراء المتأخرين كثيرُ أشعارٍ، تتعلق بأسمائهم، وقد نحوتُ نحوَهم لّما قلتُ: قالوا نَراك سقطْتَ من رُتَبِ ... أترى الزَّمانَ بمثْلِ ذا غَلطِاَ قلتُ الشَّياطينُ الّلئامُ عَلَوْا ... ولذا الشّهاب مِن العُلا سقَطَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 ، 68 عبد الرحمن، وعلى ابنا كثير المكّيَّان أديبان هما في وجهِ الكمال غُرة، وجَوادان سماءُ كرَمِهما للعافِين ثَرَّة. أمْتَطيا ظهْرَ المجد، ونزلا بطْنَ تِهامةَ وظْهر نَجْد. بهِمة إذا غزَتْها النَّوائب، كانت عن حَدّ المُرْهفَات نوائِب الْتجافي الدولة الَحَسنِية إلى طِراز الدُّول، وأوَيا لها حيث لا عاصِمَ من طُوفان الخُطوب غلا ذلك الجَبل. فأصبحتْ يدُ الجود لأسْباب الغَنى رابِطة، ونُظمتْ عقودُ الكرَم في جيِد أملِهما بلا وَاسطِة، ففي تلك الأكُفّ بِحارٌ تَغْرَق فيها الآمال، ويرشَح من عرَقِ الخجلِ لها جَبينُ السَّحاب الهَطَّال. من كل مَن مسَحَتْ راحةُ إحسانهِ، قذَى الفقرِ عَيْن زمانِه. فنادى لسانُ العياَن، قد وضَح الصُّبح لمن له عَينْان. فمما أنشد لعبد الرحمن قوله: كبارُ زمانِنا أضْحَوْا صغاراً ... وقد غضِب الزمانُ على الكبارِ كأنَّ زمانَنا من قوم لوُطٍ ... له وَلَعٌ بتقْديمِ الصّغارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وفي معناه قول المِعْمار: أبْرى مُغرًى بالّلواطِ الذي ... يقبحُ لا سِيمَّا على مثْلِهْ أوقَفَ لا تسَلْ ما جَرى ... وصرتُ خلْفَ الناسِ من أجْلهِ وقلت: وزمانٌ فيه الصَّغيرُ يُقدّمْ ... أتُراهُ لذلك الذَّنْبِ ينْدَمْ لعَن اللهُ قومَ لوُطٍ فهُمْ قدْ ... علموهُ التقْديمَ حتَّى تقَّدمْ وقلت أيضا، وهو أحسن مما تقدَّم: أقول لهذا الدَّهْرِ عَتْباً على م لا ... تُقدمُ مَن قد قدَّمَتْهُ الورَى حقا فهمَّ بتْقديمِ المُقدَّم تَوْبة ... فكان الذي قد رامَ تقْديمه عِلقْاَ ومما أنشدته لعلىّ بن كَثير قوله: صحِبتُ الأنامَ فألفْيتُهمْ ... وكلٌ يميل إلى شَهْوتِهْ وكلٌّ يُريدُ رِضى نفْسِه ... ويجلِبُ ناراً إلى بُرْمَتهْ فاللهَّ دَرُّ فَتى عارفٍ ... يُدَارِى الزمانَ على فِطنتِهْ يُجازِى الصَّديقَ بإحْسانِه ... ويُبقْى العدوَّ إلى قُدْرتِهْ ويلبَسُ للدهرِ أثْوابَهُ ... ويرقصُ للقرْد في دَوْلتِهْ وقوله:) يجلب ناراً إلى بُرْمتَه (البرمة: قِدر من حجارة، بلُغة أهل مكَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 هذا المثل كقولهم في مثل آخر:) كلٌّ يحطِب في حْبلِه، ويجر النارَ لقُرْصه (أي رغيفه. وما أحسن قوله أيضا: ويوم قَر زاد أرْياحُه ... يخْمشُ الأبْدانَ من قَرْصِهاَ يومٌ توَدُ الشمسُ من بَرْدِهِ ... لو جرَّت النارَ إلى قُرْصِهاَ وفي معنى قوله:) ويرقص للقرد (ألخ، قولُ الأهْوازِى قُلْ لمن لامَ لا تلُمْنِي ... كلُّ امْرِئ عالمٌ بشَأنِهْ لا ذنْبَ فيما فعلتُ أني ... رقصْتُ للقرْدِ في زمانِهْ من كرَمِ النفسِ أن ترَاها ... تحْتمِل الذُّل في أوَانِهْ ولأبي تمامَّ: لا بُدَّ يا نفسُ مِن سُجودٍ ... في زَمنِ القِرْدِ للقُرودِ وتقدم الصغار داره قديم، مَّمن ابْتُلىَ به الثَّعالبي، وقد اشْتكاه بقوله: في قصيدة له: لكَ الدُّنيا وما فيها بِلادٌ ... تُلاحِظُها بَعْينيْك احْتِقارَا تكَبَّر ذا الزَّمانُ على بنيِه ... فعِشْ حتى تُعّلمَه الصَّغارَا وصار صِغارُهمْ فيه كِباراً ... فدُمْ حتى تَردَّهُمُ صِغارَا خدمْتُ لك الملوكَ أرُوضُ نْفسِي ... لآمنَ تحت خِدْمِتك العَثارَا ولو كانتْ لنا الدُّنيا جعلناَ ... لك الدُّنْيا وما فيها نِثارَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 محمد بن أبي الخْيْر ابن العلامة حَجَر الهيَتْمي المَكّىُّ منشأ وموطنا بليغٌ عَذْب البَيان، نجيبٌ البَنان، طويلُ النّجاد وسيف اللّسان. رأيته وأنا بالحِجاز، وليس بينه وبين الكمال حِجاز. وأنشدني له شعراً من خَيْر الأمُور، وقد يقع ما يجلُو طَيْفَ السُّرور. إلا أنَّ أكثره في الأهاجِي، ومنه ما هو المُعَمَّياتِ والأحَاجي. فممّا أنشدني له قوله: يا ذَا الذي مِن خالِه حَبَّةٌ ... سَوْداء في الخدَّ الشّديدِ الصَّفا دَعْني أقَبّلْها تُزيلُ الضّنى ... فالَحبَّةُ السّوداءُ فيها الشّفا وله في مليح اسمه على: لِعَلىّ محاسِنٌ ... ما لها قَطُ مُشْبهُ وبِشاماتِ خدّه ... كرَم اللهُ وَجْهَهُ والدعاء ب) كرَّم الله وجهه (مخًتصٌ بالإمام عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه في لِسان الناس؛ لأنه أسَلم صِبيا ولم يسجُد لغير الله، وقد روَى الشّيعة فيه أثراً، وهو أن أمّه، رضي الله عنه، وهي حامل به، كانت إذا جاءت لصّنم أحسَّت بتحْويل وجهِه عنه في بطنها. ولم نَرَ فيه نْقلا لغيرهم. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 العلامة شِهاب الدين أحمد بن حَجَر الَيْتَمي نزيلُ مكَّة، شرَّفها الله علامة الدَّهر خصوصا الحِجاز، فإذا نُشِرت حُلَل الفضل فهو طِراز الطّراز. فكم حجَّت وفودُ الفُضلاء لكَعْبته، وتوجَّهتْ وُجوُه الطَّلب إلى قِبْلته. إن حّدث عن الفقْهِ والحديث، لم تتَقرَّط الآذانُ بمثل أخباره في القديم والحديث. فهو العَلْياء والسَّنَد، ومن تَفُكُّ سِهامٌ أفكارِه الزَّرَد. تآليفُه غُرَرٌ مُنيرات، أضاءتْ في وُجوه دُهمِ المشكلات. ) فكم أغْنى بُتحَف أفكارِه ... مُحتْاجا، وأوضح للإرشاد مِنْهاجا ( الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وكفَّ المُبتدِعة) بالصَّواعِقِ (و) الزَّواجر (وفاق بأقوالهِ المعتَمدة الأولَ والآخِر. وَلُود اللَّيالي عن مثلِه عَقيم، ودِرْياق نَفثات طبعِه السَّليم شِفاء كلّ سَقيم. نُشِرتْ على الدنيا خِلَعُ الفرَح، وتزيَّنتْ ببديع صفاتِه المِدَح. أقلامُ فَتاواه مفاتيحُ ما أرْتج من المسائل المُشْكلة، والعلمُ بابٌ مُقْفلٌ مفتاحهُ المسألة. وهو مِن أجلّ مشايخِ والدي، الذي ورِثْتُ من علِمه طَرِيفي والدِي. رحمه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 علامة الدين بن عبد الباقي صاحب كتاب) الطّراز المنقوش، في محاسِن الحبوش (. رأيتُه فرأيت منه عَذْبَ بيانٍ بديع، في صورة أديبٍ خليع. ورأيت كتابَه هذا وهو في وجْه أدبِه شامَة، وعَيْناً في مُحيا عمرِه نظَر به الدهرَ وشامَه. وله ربيعُ أدبٍ ورَيق، وسُلافة خَلاعةٍ نَقْلُها قُبَلٌ وَرِيق. وأنشدني من شعره، طرَفاً لم يتعطَّر كتابي بنَشْره. وكتاب ابن الجَوْزي في معناه، فاح من مِسْك مِدادِه عَرْفُ طِيبِه وشَذاه: مُصَّورٌ مِن حَدَقِ الحِسانِ ... مُركَّبُ من مُلَحِ الخِيلانِ كأنَّه في ناظرِ الزَّمانِ ... إنسانُ عينِ الحسنِ والإحسانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 القاضي حسين المالِكيّ المَكّيّ سماء سحائبِ الكرَم، وصائدُ قَنَص المعالِى في حِمَى الَحرمَ. إذا نُشِرتْ صحفُ نَداه طُوِىَ ذكْرُ حاتمِ طَىّ، أو رُفعتْ راياتُ عُلاه فليس غير السُّوددِ فَىّ أو ذُكِر الكرامُ فهم له خدامَ، أو أيْنعت رياضٌ مُحَبرَّة دراتْ انهارُ جودِه حولَها خدام. ذو هِمَّة نظَمتْ راحتُها عِقْد الكرام، وبدَّدتْ ما تجَّمعَ من خُطوب الأيام. بطبعٍ ألذَّ من محادثةِ الحبيب، وأعذبَ من مُفاكِهةِ الصديق الأريب. وغُرَّةِ أشهرَ من مَثل، وعن الملوك فلا تسَل. شريفُ النسَّب، سَرِى الحسَب. إذا أخصَبتْ بماء النَّدى عذَباتُه الخُضْر، أجدبَتْ ساحتُه من الحُمْرِ والصُّفْر. إن قال يا عَنْبرُ جاء الشذا ... أو قال يا ياقوتُ جاء الذَّهبْ يُشرِقُ نورُ النُّبوَّة من بارِق أسرَّته، وتطلع بدورُ الهدى من هالِة أسرَّته. ثم لم تزل السُّعود في خِدْمتِه قائمة، وعيونُ النوائبِ عن معاليِه نائِمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 راقياً من مطالِع الكمال أوْجَها، بمُحَيا يفيضُ سَناً من بُدور اليتّمّ أوْجَهَا. إلى أن تولَّى قضاءَ طَيْبَة الطَّيّبة وأمستْ خِيامُ سَعْدِه على هامِ الفَلك مُطنّبة. فبّدا مِحَاقُ بدرِه، وخُتيِمتْ بيد القضاء صُحفُ عُمْرِه. ويقال: إنه هَّبتْ عليه شَعوبُ بعواصفِ السَّموم، وجرَّعه ساقي أجلِه كأسَ السُّموم. وكان في شَرْخ شبيبتِه، وإقْبال رايةِ طليعتهِ، في خُمول يُرى الدهَر الصَّبرَ كيف يكون، ويعزُّ والخُطوب عليه تَهوُن. هَممُ الفتى في الأرضِ أغْصانُ الغِنىَ ... أبداً وليستْ كلَّ حينٍ توُرقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 العلامة عليُّ بن جَار الله المَكّىّ الحَنفّي الخطيب مفتى الحرمين الشَّريفْين خطيبٌ مِصْقَع، لفظُه بالفصاحِة مُوشى مُوشَّع. إذا انْحدَر من تَلْعته ماء بلاغتِه، وسال ببَطْحاء أمّ القُرَى سَلْساَل براعتِه، شهد بفضْله الناسُ من فاجر وبَرّ، وكاد يخْصُّر تحته أعوادُ كل مِنْبر. فتهْتزُّ أعواد المنابرِ أسِمه ... فهل ذكرَتْ أيْامَها وهْيَ أغْصانُ فعطر المحافلِ طيِباَ، فلا ندرِي أضمَّخ طيباً أم ضمَّ خطِيباً. رأيتهُ وقد طعَن في السّنّ وليس له غير العصَاقَناَ، وقج رَقَى شرَفَ السَّبعين وهي سُلَّم الفَنَا. وهو ينشرُ في نادِيه حِبَرَ الأثِيث، وتُرفَع له الفَتاوَى في عصْرِه وأسانيُد الحديث. وردْتُ مَنْهَلَ إفادتهِ رائقِاً، وأخذتُ من إجازاتِه ما صرْتُ به على الأقْرانِ فائِقاَ. وهو في مذهب النُّعمان لِشيْخنا المَقْدِسي شَقيِق، وأمُّ القُرَى لم تلدْ مثَله من نجيبٍ عريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 علي الكيزواني المغربي نزيل مكَّة المشرَّفة صُوفيٌّ أقام بمكَّة لابساً بُردَ التقى، حتى أحرمَ وتجرَّد من لِباس البَقَا. وله شعر على طريقة أرْباب الحقيقة. كقوله: رقَّ الشرابُ ورَقَّتِ الكاساتُ ... ونشابَها فأضاءتِ المِشْكاةُ اشرَبْ هينِاً إن فهْمتَ حديَثنا ... أنتَ الكليُم وذاتُك المِيِقاتُ وهو كقول الصّاحب ابن عّباد: رَقَّ الزجاجُ وراقتِ الخمرُ ... ونشابَها فتشا كلَ الأمْرُ فكأنَّما خمرٌ ولا قدحٌ ... وكأنَّما قدَحٌ ولا خَمْرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 معين الدين بن البكَّاء نزيل مكَّة المكرَّمة المُعظَّمة، شرَفها الله نديمٌ دَمِث الأخْلاق، مُتوشّحٌ ببرُودٍ لُطْفُ حواشِيها رقاق. فهو للأدباء صَدرْر، ونادِيه واسعُ الصّدر. نبتَتْ دوحُته في رياض الحسَب، فاجْتَنى منها زَهرةَ الحياة وفواكهَ الأدَب. وله من طِيب الأنْفاس، ما تسكَر منه الحُميّا والْكَاس، ممّا هو أحْلَى ثمراتِ الأمانِي غِبّ مَرارةِ اليَاس. وهو ممَّن ساجلْتهُ وأنا للأدبِ مُمْتاح ونادَمْتُه والعمرُ مُورِقٌ بالمسَرَّة مُثْمرٌ بالنَّجاح. لياليَ أعطيْتُ البَطالةَ مِقْوَدِي ... تَمُرّ اللّيالي والشهورُ ولا أدْرِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وكان بعد ما وقع له بالرُّوم هاجَر لبني حسن، وأقام في ظِلَّهم بمكة مُؤتلفِاً بهم ائتْلافَ المُقْلة بالوَسنَ. فأينعتْ زَهْرته بعد الذُّبول، وسقاه صَيبُ كرمِهمْ وهّبتْ له نسماتُ القبول. فلما تُوُفَّى السيدُ مسعود، تبدَّل بالنَّحسْ السُّعود. فجدَّد ديباجَته وارْتحل، عملا بقولهم: إذا نَبَا بك منْزلٌ فتحوَّل. ولأمْرٍ ما ثَنى القِرْنُ عطفْهَ، وجدَع قَصيرٌ أنْفَه. وكانت أيامُه غَضَّةْ نَضِرة، تكاد في عصْرِه تقطُر منها مياهُ المسرَّة. وكان في جَمْع المعارف والنّوادر ممَّن لم يرَ الدهرُ نَظيرَه، ولم يطِنَّ على سمعهِ حديثٌ كأحاديثِه النَّضيرة. فهو ذُكاء الفلك، وهو بشَرٌ بل مَلَك. فمما ترشَّح من قَطراتِه، وجرى في المسامع من عذْبِ كلماتِه، قوله يا شقيقَ الروح والجسم ويا ... دَوْحةً بالودّ فضْلاً أثْمَرتْ بحياةِ الوُد إلا صُنْتهَ ... لِمُحبٍ روحُه قد سُعِّرتْ كنتُ ل أخْشى حسوداً لا ولا ... عينَ واشٍ إنْ بسُوءِ نظرَتْ وأرى الوُدّ وهَى بُنْيانهُ ... ما كأنَّ العينَ إلا أثَّرتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 ومن شعره تذْييل لبيت القاضي الفاضل: تراءتْ ومرآةُ السماء صَقِيلةٌ ... فأثَّر فيها وجهُها صورةَ البدرِ ولاحتْ عليها حَلْيُها وعُقودُها ... فأثّر فيها صورةَ الأنْجم الزُّهرِ وله أيضاً: حاذِرْ زُويلةَ أن تمرَّ ببابها ... وطعامَها كُنْ آيسا من خْيرِه فمُوسّط القْتلى يقول بها انظُروا ... مَن لم يُمتْ بالسيفِ مات بغْيرِه وهو تضمين لقول ابن نُباته السَّعْدي، من قصيدة: ومَن لم يُمتْ بالسيف مات بغيرهِ ... تعدّدتِ الأسبابُ والداءُ وأحدُ ومن شعره قوله في تقسيم الأيام: الدهرُ أربعةٌ أيامُهُ انحصَرتْ ... صَحْوةٌ وغَيمٌ ورِيحٌ ثم أمطارُ فالصحوُ ظَرْف لإصْلاح المآرِبِ إذْ ... تُقْضَى من الصَّيد يومَ الغيمِ أوْطارُ ويومُ ريحٍ لنَوْمٍ لا حَراك به ... ويومُ هَطْلِ السَّما للكأسِ مِدْرارُ واليومَ قد نُثرتْ دُرَّا سحائُبه ... على بِساطِ رُباً يكْسوهْ أزْهارُ فبادرِ الكأسَ يا بدرَ الزمان فمِنْ ... ضيِاء وجْهِك لا في الأفْقِ أقمارُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 العلاَّمة عبد الرحمن الخِيارِيّ نزيل المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فاضلٌ إذا جُمِعت الفضائلُ فهو مُنتهَى الجُموع، وكاملٌ كمالُه كثَمرَ الجنَّة غير مقطوع ولا ممَنْوع. لَّما رأى الوقتَ سيفاً لا يقطَعُ إلاّ الأعمار، وأن المرءَ قبل فَوْتِ الفرصة على أيامِه بالخيار، لم يَمْضِ له وقتٌ في غير العبادة، ولا ساعةٌ في غير الاستفادة والإفادة. بوجهٍ أبْلجَ وضَّاح، يلوح من رُتّه نورُ السَّداد والصَّلاح. كأنَّ اللهَ جمع له المناقبَ فاختار منها وانْتَقى، ورأى أن أحْسنها وأكرمها التُّقَى. وآثارُ أقلامه يحسدها الحورُ واللّمَا، ويعرق خجلاً منها خدُّ الروْض بالنَّدى. أبْدى صنيعُك تْقصيرَ الزمانِ ففي ... خدَّ الربيعِ طلوعُ الوردِ من خجلِ وكان في زمن الطَّلب، ومنافسة إخواني أولى الأدب، صديقَ روحي وشقيقَها، وريحان مسرتي وشقيقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وعودُ الزمان خَضْرٌ ورِيق، ووجهُ بِشْره بسّامٌ طَليق. ولما رأى أن اللهَ أوصى بالجار، رحل لطيَبْةَ الطّيبة وسكن في جِوار النبيّ المختار. فدخل رَوْضةً من ريِاض الجنة في حياتِه، وإذا أنعم اللهُ على عبدٍ حَباه بِنعْمةٍ لا يسُلبها منه بعد مماتِه: يا نسيماً من نحو طَيْبةَ سارِى ... مُهْدياً عِطْرَ نَدّها والعَرارِ مُزْرِياً نَشُره بعْنبرِ شِحْرٍ ... في حشا جَوْنَةِ الفتَى العطَّارِ خُذْ فؤادي فذاك مَجْمَرُ شوْقٍ ... وغرامٌ بُمضْمَر الوجْد وارِى موُقداً فيه عنْبراً من مديحي ... لحبيبِ المُهيْمن المُختارِ لمقامٍ بمُقْتضاه بليغٍ ... لا يُوفّى بلاغة الأسْرارِ وفصيحٍ فصاحةُ اللفْظِ فيه ... زاد حُسْناً بكَثْرةِ التَّكْرارِ ولمَن في ذُراهُ مِن كلّ جارٍ ... حاز حِفْظاً لعَيشْه بالجِوارِ فهمُ خَزْرجِي وأوْسِى وإن لم ... يُسعِفِ الدهُر بالمُنَى أنْصارِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 سِمَّا صِنْوِىَ الشقيقُ لروحِي ... وهْوَ عبد الرحمن حامي الذّمارِ قد تملىَّ برَوْضةٍ حاز فيها ... مُثْمِرَ السَّعدِ مُزهرَ الأنْوارِ باع دنيا دنَتْ بأخرى تسامَتْ ... فغدا في مَبِيعه بالخِيار فعساه يُمن لي بدعاءٍ ... مُستجابٍ في ليلهِ والنهارِ ليحوز الشّهابُ أعظمَ سُؤالٍ ... وأمانٍ من مطْلعَ الأنْوارِ ما ارْتدَى الليلُ من برُود الدَّياجي ... حُلَّة طُرزتْ من الأسْحارِ فأجاب سقى الله ثراه: بعدَ إهْدا أسْنَى السلام السَّارِي ... من رُبا طَيْبةٍ أجلّ الدّيارِ فائقاً طيِبةُ شذا كلَّ مسكٍ ... فاتقاً نُورهُ دُجَى الأسحارِ لحبيبٍ في الله خلِ وفىٍ ... طيَّبِ الأصل ذي الثَّناء السارِي أحمدُ الفعلِ والشّهابُ المُرجَّى ... كاشفُ المشكلاتِ كنزُ الفَخارِ دام في نعمةٍ وعزّ ولُطفٍ ... من إله الورى الكريمِ البارِي محُيِياً سُنةَ الأُلى سبقوه ... باتّباع الأُلَى وحسنِ الوقارِ وصلاةٌ مع السَّلامِ دَواماً ... للنبيّ المُمجَّد المختارِ ولآلٍ وصَحْبِه ما اضْمحلَّتْ ... ظُلَمُ الظلم باجْتِلا الأنْوارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 فإني أحمَد الله تعالى وأصلَّي وأسلم، على نبيّه صلَّى الله عليه وسلم. وأعرض كثرةَ الأشواق، وتزايُدَ الوداد الذي لم يغيرْه تعاقبُ المُدَدِ والبِعاد. ودوامَ الدّعاءِ المرجوّ القَبول، لا سيَّما تجاه أشرف وأكْرمِ رسول. ووصول مكتوبكم الكريم، وحصولَ السُّرور بلوامِع مَضْمونه، وبدائع مكْنُونه. وقد بلغَنا حسنُ سيرتكم في المناصب، ومزيدُ العِفة، فجزاكم الله تعالى خيرا، أعانكم وسدَّدكم. ولا تقطعوا أخباركم السَّارَّة، جمع الله لنا خَيْري الدُّنيا والآخرة، بجاه المصطفى الأمين، آمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 نفحة من نفَحات اليمن ومَن بلغنا خبرُه في هذا الزَّمن ممن بَقيَ بها من الفضلاء والشعراء، وكان قريب العهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 فمنهم، رحمهم الله تعالى: عبد الله بن شمس الدين بن مُطهرَّ اليمَنيّ فرعٌ من ذُوابةِ، هاشم، ونَبْعة من وَشِيجِ تلك المكارم. من آل مُطهَّر وهم ملوكٌ مُكرَمون، لا يمَسّ صحف مجدِهم إلا المطَّهرون، من حَدث البشريَّة، ودَنَس الهَيُولَى الدَّنِيّة. مِن كلَّ من قضى للعلْياء وَطَرَهَا، وتلى آياتِ المجد وسُوَرَها. تعبَق منهم أنفاسُ النُّبوَّة، وتجرُّ على وجه البَسيطة أذيالَ الفتُوُة. لم تُمْنحَ محاسُنهم من صحف الليالي والأيام، ولا تُثْمِر بمثلها أغصان اليَراع والأقلام. مغارسُ طالتْ في رُباَ المجدِ فالْتقتْ ... على أنبياءِ الله والخلفاءِ إذا حمل الناسُ اللواء علامةً ... كفاهمُ مُثارُ النّقْعِ كلَّ لِواءِ حتى أغارت عليهم جيوشُ ابن عثمان فذَوَى ذلك الثمر، واستفت الأيامُ ماءَ حياتِهم فلم يَبْقَ إلا الكدَر. فالتجأ إلى جبلِ كَوْكبان، واستظلَّ به من هَجيِر حوادثِ الحِدْثان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 وهو جبلٌ تضئ فيه قناديلُ النجوم، وتلْفَّ على هامتهِ عصائبُ الغُيوم. يزاحِم الأفلاكَ بالمناكبِ، وتكاد أن تلْتقِط سُكَّانُه لآلئ الكواكب. عالٍ كأنَّ الجنَّ مُذ مَرَدَتْ ... جعلّتْه مَرقاةً إلى السِّرِّ وهو الآن تاجٌ على رأس الزَّمن، وخالٌ تتَزينَّ به وَجَناتُ اليمن. كأنما شَمخ كبْراً بُمجاورةِ مَن به نزَل، وصار كبيرَ أناسٍ في بِحَادٍ مُزَمّل وطَودٍ على ظْهرِ الفلاةِ كأنه ... طُوالَ الليالي مُطرِقٌ في العواقبِ يُلوثُ عليه الغيْمُ سُودَ عمائمٍ ... لها من وَميِضِ البرْقِ خُضرُ ذوائبِ تحلي به آثارُ آبائِه بعد مماتِها، ويَرُدُّ روحَ المكارمِ للآمالِ بعد وفاتِها وفواتِها. فمما التقطته من بعض السَّيارة أشْعاره، وأهدَتْه إلىَّ تجِارُ اليمن من تحُفَ آثاره، قوله من قصيدة مدح بها أخاه عزّ الدين: خطَرتْ فقال الغصنُ صَلّ على النّبي ... وبدَت فقالت للشُّموشِ تحجَّبي وسُموطُها دارت على لَبابِهاَ ... وزهَتْ فقلنا للنُّجوم تغَّيبي لاحتْ لنا كالبدرِ ثم تبَرْقعتْ ... فرأيتُ بدراً حلَّ قلب العَقْربِ وبخدّها خالٌ أراه عَمَّة ... حُسْناً وناسَبه بلوْنٍ أجنبي فلطَرْفِها عزُّ انكسارِ جفونِها ... ولعِطفْيها تيِهُ المدُلّ المُعجَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 ومنها: مُنىَّ علىَّ بزَوْرةٍ أحي بها ... في أنْسِ قُربك أوْ عِدِيني وأكْذِبي رِقَّي بعزِكّ يا سعادُ لذِلَّتيِ ... مُتّى ومَتّنيِني أمانَي اْشْعَبِ ما أحسنَ الأطماعَ يُرْجَى نَيْلُها ... والصَّبُّ بين مًصدّقٍ ومَكذّبِ ومنها: يا ليتَ شِعْرِي هل أفوزُ بمَطْلبي ... مِن لَثمْ دّياكَ الخُدَيْدَ المُذْهَبي مَن لي بشمِسىّ الجمالِ ممُنَعٍ ... ما دونه لِمُحبّة من مَذْهَب مُتلوّنٍ كمَدا مِعي فوُعدودُه ... لقّبْلَنِي بالخائفِ المُترقّبِ يا قلبُ مالك ما انْقلْبتَ عن الهوى ... والقلبُ قد قالوا كثيِرُ تقلُّبِ خَلّ النسّيبَ فقد أطْلت وَعدَ عن ... ذكرِ الصَّبابةِ واشتغِلْ بالأنسْبِ كَفَرْ زخارِفَ زُورِ لهوس بالثَّنا ... وانشُرْ مُلآآتِ الحديثِ الأطْيَبِ بصفاتِ عز الدين والدنيا ومَن ... ما قلتَ فيه من الثَّناء لم تكذِبِ حدّثْ وقلْ ما شئتَ في أوصافِه ال ... حسنَى وحَيّ بكلّ فنِ مُعجِبِ أسد تخافُ الأسْدُ ثعلبَ رُمْحِه ... وعجْبتُ من خوفِ الأسودِ لثعَلْبِ قوله:) صلى على النبي (المراد به التعجب، والناس يستعملونه بهذا المعنى كثيرا، كقول شيخ الشيوخ الأنصاري، بحَماة: فمن رأى ذلك الوِشا ... ح الصَّائمَ صَلّى على محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 وقال عَرْقَلة: أقبلَ يهتزُّ في غُلالِتِه ... مَن ليس يَشفِى لعاشقٍ غُلَّةْ فقال كلُّ اْمرئ تأمّلَهُ ... ألفُ صلاةٍ على رسُولِ اللهْ وقد تابعتُهم، فقلت في قصيدة: ظَبْىٌ على الصّبَ حين سلَّمْ ... صلَّى على المصطفى وسلَّمْ مُدْنَفُهُ والدموعُ بحرٌ ... بُتربِ أقْدامِه تيمَّمْ ومثله قولهم:) الله اكبر (، كما قال ابن النَّبيه: الله أكبر ليس الحسنُ في العربِ ... كم تحتَ كُمةِ ذا التركىَّ من عَجَبِ وهو قد اقتدى بعلىّ بن الَجْهم، في قصيدة مدح بها بعض الخلفاء: اللهُ أكبرُ والنبيُّ محمدُ ... والحقُّ أبْلجُ والخليفةُ جعفرُ وقد عابه شعراء عصره؛ حتى قال فيه مَروان يهجوه: لَّما وصلتَ إلى الإمِام عشَّيةً ... وكذَبْتهُ ومدحْتَهُ بآذانِ وقال أيضا: أراد علىُّ يقولَ قصيدةً ... بَمْدحِ أميرِ المؤمنين فأذَّناَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 فقلتُ له لا تعْجَلَنْ بإقامةٍ ... قلتُ على طهرٍ فقال كذا أَناَ والإمام النَّووِيّ، رحمه الله تعالى، صرَّح في) الأذْكار (بأن الصلاةَ على النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم في مثلِه ممنوعةٌ شرعاً، والوارد في مثْلِه) سبحانه الله (. وقال الحَليِميّ من أئمة الشَّافعية:) إنه جائز بلا كراهة، وبيَّنوا وجهَة في فِقْههم. لطيفة من غريب التَّمليح ما وقع في مجلس أبي بكر بن زُهْر، من أن بعضَ أدباء الأندلس كان عنده، فدخل فاضلٌ من أهل خُراسان عليهم، فأكرمه ابن زُهْر، وأجله. فقال الأنْدَلسيّ: ما تقولُ في علماءِ الأندلس وأدبائهم وشُعرائِهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 فقال: كبَّرْتُ. فلم يفهْم جوابَه، واسْتَبْرده. فلم يفهم ابن زُهْر إنْكارَه. ثم قال: أقرأتَ شعر المُتنّبيّ؟ قال: نعم، وحفظتُه. قال: أما سمعتَ قولَه: كبَّرتُ حولَ ديارهمْ لمَّا بَدتْ ... تلك الشموسُ وليس فيها المشُرِقُ فعلَى نفسِك فْلتُكبّر، ولفِهْمك فاتَّهِم وأنْكِر. فخجل، واعتذَر. أقول: هكذا فْلتكن مُحاوَرة الأدباء. وأراد أبو الطَّيّب بتكْبيره التعَّجبَ. وقوله في القصيدة:) أسد (إلخ، فيه إيهامٌ بَدِيع؛ فإن الثَّعلب طَرَفُ الرُّمحِ الداخل في السّنان، والحيوان المعروف. ومثله قول ابن السَّاعاتي: ولو يمْلِكُ الملكُ الأهلّةَ عنده ... أبى فخرُها إلا نِعالا لجْردِهِ إذا مدَّ جيشاً للعدوّ تلاعَبتْ ... ثعالبُ أطرافِ الرّماح بأُسْدِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 قوله:) أو عديني واكذبي (يقطُر منه ماء اللطافة، كقول مِهْيار: يا ما طلِي بالدَّيْنِ ... ما ساءني إليك ترْدادُ المواعيدِ بي إن كنتَ تُنْجِز ثم لا نْلتقي ... فدُم على المَطْلٍ وقُلْ واكْذِبِ وللشريف الرَّضي: يُعجُبني مَطْلُ غَريمِ الهوَى ... لطُولِ ترْدادِي إلى الماطلِ ومثلهُ حسَن كثير، قديما وحديثا، كقول الطغرائيِ: وتُعْجُبُني المواعِدُ كاذباتٍ ... لترْدادِي إليه على المطِلِ ولابن الفارض، رضى الله عنه عِدِيني بَصْلٍ وأمْطُلي بِنَحازِه ... فعنْدِي إذا صحَّ الهوَى حَسُنَ المطْلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 السيد حسين بن مُطَّهر اليَمَنيّ رحمه الله تعالى هذا أيضا من أشراف العصريّين. وقد أنشدني له بعضُ أصحابنا شِعْراً يفوح منه عَرْفُ تِهامَة ونَجْد، ويُتَرْجِم عمَّا فيه من المجد. كقوله، من قصيدة له: مِن أين يَخلُق وجدُك المُتجدَّدُ ... ويزول عنك حَنينُك المُتردّدُ وقد استفَزَّك بالرَّحيلِ مُودّعٌ ... قالوا الرَّحيلُ غداً عدِمْتُكَ يا غَدُ يا نازِلينَ على العُذَيْبِ وثَهمَدٍ ... بأبي وبي كيف العُذَيْبُ وثَهْمَدُ أخُزامُه وبَشامُه وأراكُه ... خَضرٌ على ما تعَهدون وأعْهَدُ ومنها: الحجُّ يقصَد كلَّ عامٍ مرّة ... ولك العوالمِ كلّ حين تقصُدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وهذا المعنى كثير مسبوق إليه، كقول بعض العصريَّين: كعبةٌ أسّستْ على الفضلِ لكن ... كلَّ حينٍ لها تحُجُّ الوُفودُ وأصله قول سعيد بن سلام، وقد قال له بعض ندمائِه في بستان: ما أحسن هذا البستان! فقال له: أنت أحسنُ منه؛ لأنه يُؤتِى أكُلَه كلَّ عام، وأنت تُؤتِى أكُلكَ كلَّ حِين. وممن قرُب عهدْه باليمن: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 عبد الهادي السودي ّ صاحب) الديوان (المشهور فاضلٌ جمع في أغصان الألفاظ ثمارَ المعانِي، وعارفٌ بالله جَناهُ في كلَّ حين دَاني. شيخُ الطَّريقة، العابرُ من قنطرة المجاز إلى الحقيقة. جمع مِن بضائِع الأدب ماراق صُنْعا، وحسدّتْهُ لرِقَّة نسْجِه بُرودُ صَنْعا. ونسيج من مُهَلْهل الأشْعار في السُّلوك، ما كأنَّ قلمَه على مِنْوال ظرْسِه مِسكُّوك. وشعرُه مطُبوع، وعلى اكُفّ القبول مرفوع. تلّذُ به الأسماع، وتطرَب على السَّماع. وأكثرُه على لسان أهل العِرْفان، الذي هو للَحْضرة الإلهيَّة تَرْجُمان. كقوله: كيف حارُوا فيكَ وَاعَجبا ... يا مُنَى سمْعِي ويا بصَرِى أنتَ لا تًخفَى على أحدٍ ... غير أعْشى الفكرِ والنَّظَرِ حِيرةٌ عَّمتْ فأيُّ فَتى ... رامَ عِرْفاناً ولم يَحَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وقوله من قصيدة: عاذلِي في الحبّ أو خطَرِة ... لستَ من ليلىِ ولا سَمَرِةْ أنا في وادٍ أظنك ما ... قِلْتَ في الأفْياءِ من شجَرِة لا تُطِلْ فيه المَلامَ إلى ... أن تذوقَ الحُلْوَ من ثَمَرِهِ يا حُلولَ الشّعْبِ من أصَمِ ... أنشْقوني النَّشْر من زَهَرِهْ وهذه على مِنْوال قصيدة أي نُواس التي مطلعها أيها المْنتابُ من عُفُرِة ... لستَ من ليلى ولا سَمَرِة كَمُن الشَّنآنُ فيه لنا ... ككُمُونِ النَّارِ في شجَرهْ لا أذُودُ الطيرَ عن شجَرٍ ... قد يلُوْثُ المرَّ ثَمَرهْ وهي طويلة في) ديوانه (. وممن قرُب عهدُه أيضا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 إسماعيل بن إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن محمد بن يوسف بن عمر بن عليّ العَلَوي الزَّبيدي الشافعيّ من ذريّة اليمنيّ شارح) الكشاف ( أغرُّ يَمانِي، منه تُجْنَى ثمار الأماني. سحابُ فضله أوْطفُ الأهْداب، أخصبَتْ به رياضُ المعاني والآداب. نَقَّابٌ محدّث تمُ أفكارُه على أسرار الغيوب، وربيعٌ مَرِيع إذا أنَيت الربيعُ البَقْلَ أنبت رَيْحان القلوب. ولد بزَبيد، وبيت شرفه فيها مشيد. ولدتْ به أمُّ السيادةِ أوْحدَا ... مًضمنمّاً معنى العَديدِ الأكْثرِ وللدهر فيه عِداتٌ لا تَعرِف المَطْل، ومقدَمات مُرتبةٌ لِنتائج الفضْل. حتى ظهرتْ له اليدُ البيضاء في الفنون العقليَّة والنَّقليّة لا سيَّما ما أبدعه في) شرح الجامع الصغير (من دقائق العربية. فكم شَفى إفهاماً مِراضا قلوبُها ... ولا يعرف الأدْواء إلا طبيبُها. كما قال تلميذه الصَّدرُ فيه من قصيدة: وإن تكن للنحوِ أصلاً فلا ... غَرْوَ فإسماعيلُ اصلُ العربِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 مع شرَف الحسَب، وعُلُوّ شجرةِ النَّسَب. فهو مُكرّم مُفضَلَّ مُعَم مخْوَل. والفَخار فنون، كما أن الحديثَ عنه شُجون، والأخبارُ الصادقة على محاسِنه عُيون. وقد رأيتُ من آثاره أبْكارَ عَرائِس، وحُوراً مَقْصُوراتٍ في خِيام الأفكار أوأنِس: لا تَرْتَضِي الثريّا عْقداً والزُّهرةَ فُرْطاَ، ولا تَلْبَسُ المجرَّة ومِرْطا. ك) شرح الجامع الصغير (وتعريف البيان، في شرح لَقْطة العَجْلان (، للزَّرْكشي في المنطق والأصْلَيْن والَجدَل. وهو كما قال فيه نسيبُه الفاضل الدين: يا سائلي جَهْلاً عن إسماعيلَ عَن ... مِقدارِ رُتْبتِه ورِفْعةِ شأنِهِ أنصتْ تجدْ تعْريفَه وبياَنَهُ ... كافِيكَ عن تعْريفِه وبَيانِهِ أولاً فُعذرُك فيهُ عثذرٌ واضِحٌ ... والشيء قد يخْفَى لبُعْدِ مِكانِهِ ولشُعراء عصره فيه مدائح كثيرة، كقول عامر بن هارون الموْزَعيّ: رَأَوْك فضَلْتَهمْ أدباً وسَمْتاً ... فنالوا منك عُدواناً وبَهْتاَ ورامُو النَّقصَ منك فأكْذَبتُهمْ ... ظنونُهمُ وعاد الذمُّ نَعْتاَ حَماهُمْ نجمُ سعدِك أن يحُلُّوا ... مَحلَّك أو يحُموا حيثُ حُمْتاَ تَصرَّفْ يا أبنَ إبراهيم فيما ... حوَيْتَ من المعارفِ حيث شِئْناَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وكيف يسومُك الحُسَّادُ خَسْفاً ... وأنت أجلُّهمْ حَظاَّ وبَخْتاَ وأبرعُ مَن تلفَّت المعالي ... إليه ومَن بَرَى قلماً وأفْتَى وقد ناديتُ لما سِرْت ربّى ... بما ناداه ذُو النُّونِ بنُ مَتَّى بأن يكفيكَ عاديةَ الليالي ... وتصْحَبك السَّلامةُ حيث كُنْتماََ وقد أوتيتُ سُؤْلِى فيك إذْ لمْ ... تزلْ فَوقاً ومَن عاداك تَحْتاَ فُدونكها عروساً من صديقٍ ... تُمتُّ بصُحْبةِ الآباء مَتَّا وخُذْها غَصَّةً من مْنطقٍ ... بالْثَغَ لا يَبينُ ولا أرَتَّا ربطتُ بها معالي الشمس قَسْراً ... القوافي فيك نَحْتاَ يودُّ البدرُ لو ترْضَى أن ... يكون لها أخاً والشمسُ أخْتاَ وقد حاز قدراً عاليا ووَجاهة، ونشَر من الفضل ما أيَّد الله به عِزَّهُ وجاَهَه. مع زُهد ليس طَرفُه لزُخرُف الدُّنْياَ بِرَاني، ولا بِدعْ فالحكمةُ يَمانية والإيمان يماِنى. روَّح الله رُوحَه، وزاد من نعيم الجنانِ فُتُوحَه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464