الكتاب: نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز المؤلف: رفاعة رافع بن بدوي بن علي الطهطاوي (المتوفى: 1290هـ) الناشر: دار الذخائر - القاهرة الطبعة: الأولى - 1419 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز رفاعة الطهطاوى الكتاب: نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز المؤلف: رفاعة رافع بن بدوي بن علي الطهطاوي (المتوفى: 1290هـ) الناشر: دار الذخائر - القاهرة الطبعة: الأولى - 1419 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] تعريف الدرس الذى نسيه المبطلون: أدب الاختلاف في الإسلام بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كانت لفتة لطيفة صائبة عند ما نبّهنى بعض الأصدقاء إلى إمكان أن نصدر فى (الذخائر) كتابا ذا طابع يتمشى مع شهر رمضان المبارك، ثم كانت اللفتة اللطيفة الاخرى باقتراح كتاب الطهطاوى في سيرة النبى صلّى الله عليه وسلّم. لقد كان ذلك منذ فترة قبل أن نسمع بما سمعنا من تعرّض بعضهم لشخص الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) ودعوته وطبيعة رسالته، وهو تعرّض يسىء إلى صاحبه ولا يسىء إلى من قصدت الإساءة إليه، وذلك لأسباب، منها: * أن هذه الصيحة التى صدرت عن أكبر رمز دينى في العالم الغربى قد ضربت في الصميم روح الحوار والتسامح التى يتداعى بها العالم كله- خاصة دول الغرب- في الاونة الأخيرة، وأظهرت جليا أن أحاديثهم في هذا الصدد هى أقرب إلى الديكور واللياقة الدبلوماسيّة منها إلى التعبير عن مواقف حقيقية لمن صدرت عنهم. * أنها كشفت عن أن هناك تناغما بين المدّ العدوانى والطموح الاستعمارى وروح الهيمنة لدى عدد من ساسة الغرب وبين تلك الصيحات التى تصدر من هنالك وهناك بين الحين والاخر تارة باسم حرّية التعبير، وأخرى باسم التاريخ والحقيقة ... ولكنها في جميع الأحوال لا تعنى سوى دقّ ناقوس العدوان والنفخ فى الجمر حتّى يتأجج نارا قد تأتى على كل شىء. * كذلك كشفت عن أن أحقاد الماضى باقية في ضمائرهم، حيّة في الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 7 ذاكرتهم مما يصدق عليه قول الشاعر: وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا أى أن الظاهر قد يوحى بالسلام والحبّ بينما ينطوى الباطن على نيّة الخصام والحرب. ونحن لا ننكر حقيقة أنه (لكلّ وجهة هو مولّيها) وأن لكل إنسان أن يتحّمس لعقيدته بما تتفق فيه مع غيرها وما تختلف فيه أيضا، لكن المهم أن يتمسّك فى حديثه عن عقائد الاخرين ب (أدب الاختلاف) ، وهو مما تفتخر به الثقافة العربية عامة والإسلامية خاصة، نعم لدينا كتب تحمل عناوين: أدب السماع، أدب المعاشرة، أدب الطلب، أدب الإخوان، أدب الجليس، أدب النديم، أدب الموائد، أدب القاضى، أدب الكاتب، أدب السلطان، أدب الحروب وفتح الحصون، أدب الناطق، أدب الجدل، وفي هذه العناوين تعنى كلمة (الأدب) : المعرفة، الثقافة، الخبرة اللازمة لإحسان التصرّف بالقول أو العمل، أو حتّى الصمت، فى هذا المجال أو ذاك ... ولا شك أن أدب الجدل يعنى حسن الاستماع إلى الاخر واحترام وجهة نظره وإحسان الرّد عليه مع عدم الإساءة له حتى في موقف الخلاف معه، انطلاقا من المبدأ الأسمى الذى أرساه القران الكريم، والذى يقوم على شقين: أحدهما: قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون 6] . والاخر: قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام 164] . وانطلاقا من هذا المبدأ جاء الرصيد التطبيقى الرائع الذى حكاه القران عن بعض مواقف الأنبياء في تقرير حريّة الاختيار ومسئولية كلّ عما وقع عليه اختياره دون إجبار أو ازدراء. ففى سورة البقرة- بعد أن ذكر وصية إبراهيم الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 8 لبنيه بأن يؤمنوا بالله، ووصية يعقوب لبنيه كذلك بالإيمان بالله وتوحيده، وألايموتوا إلّا وهم مسلمون- جاء قوله تعالى تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة 134، ويتكرر في لفظ الاية 141] . فإذا لجّ العصاة في الجدال والحجاج كان التوجيه من الله لرسوله قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ البقرة 139] . ويضرب نوح عليه السلام المثل في احترام رأى الاخرين وعدم مجاراة قومه في ازدراء مخالفيهم في العقيدة وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ [هود 31] . فلما أوسعوه خلافا، وتحدوه في صدق رسالته، وقالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [هود 32] . كان جوابه الذى ألهمه الله إيّاه: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ [هود 35] . ومعنى الاية ولفظها قريب مما جاء في الاية (25) من سورة سبأ، بعد أن مهد له بما في الاية (24) . ولكن المهم هو أن ما جاء في الايتين كان هو نهاية الاشتباك بين المتشككين والموقنين في أوائل السورة- فى الايتين 3، 6 وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ... وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ 3، 6] ذلك هو محور الخلاف، أما الجواب فقد جاء- كما قلنا- فى الايتين 24، 25: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 9 فيم الخلاف والتطاول إذن؟ مع أن الأمور واضحة ومقرّرة: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم إن افتريته فعلى إجرامى وأنا برىء مما تجرمون لا تسألون عمّا أجرمنا ولا نسأل عما تعملون بل إن الاية 24 من سورة سبأ تحمل معنى رائعا، وذلك بعدم القطع بالمصيب والمخطئ من المتجادلين، وترك الأمر لحكم الله، وذلك في قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، أحد الفريقين بالقطع (على هدى) ، والاخر (فى ضلال مبين) لكن دون تحديد، نزاهة وإنصافا للخصم المجادل، وإحقافا لأدب الخلاف. هذه الظاهرة- الإنصاف للاخر عند الاختلاف، بعدم القطع بمن على صواب، أو عدم القطع بالأفضل، أو عدم القطع بمن ينتصر- عرفها العرب.. حسّان بن ثابت يدافع عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ردّا على هجاء أبى سفيان بن الحارث له، يقول حسّان مخاطبا أبا سفيان: هجوت محمد فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّكما لخيركما الفداء لاحظ الشطر الأخير (فشركما لخير كما الفداء) لم يقل الشاعر إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو خيرهما، وإن كان مؤمنا بذلك، نزاهة وثقة بأن ممدوحه هو الأفضل وإن لم يصرّح بذلك ... الرسول صلّى الله عليه وسلّم قام بتطبيق أعظم الأمثلة في الأدب الاختلاف، وذلك بالتنازل عن ذكر صفته- وهى الرسالة- عند تسجيل معاهدة الحديبية، بل والتنازل عن ذكر البسملة بصورتها المعهودة، اكتفاء بكلمة (باسمك اللهم) ، وذلك نزولا الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 10 على رغبة مفاوض أهل مكة الذى قال: لا أعرف الرحمن، ولا أقرّ بأنك رسول الله «ولو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك (محمد بن عبد الله) » فيقول النبى صلّى الله عليه وسلّم: «إنى لرسول الله، وإن كذبتمونى، وأنا محمد بن عبد الله، ثم يقول للكاتب: اكتب محمد بن عبد الله. هذا على الرغم من اعتراض عليّ وأبى بكر وعمر، وغضبهم إلى قريب من الثورة، ولكنه أدب الاختلاف، فقد عرف صلّى الله عليه وسلّم أنه- وهو في موقف التفاوض مع من يخالفه في عقيدته- إنه ليس من حقه أن يفرض صفته، أو لغته الخاصة، على مخالفه، لذلك ارتضى لغة مشتركة يقرها خصمه ويوافق عليها، وإن كان في قرارة نفسه لا يرضاها. وكم من مرة جاءته رجالات قريش يحاولون أن يثنوه عن دعوته بالتهديد تارة والترغيب أخرى، وكان يعلم سلفا أن عروضهم مرفوضة، ولكنه كان ينصت إلى ما يقولون ويستمع إليه ويناقشه ويرد عليه في موضوعيّة ورحابة صدر. وتحمل كتب السيرة الكثير من أخبار هذه المفاوضات، من أشهرها ما دار بينه وبين عتبة بن ربيعة الذى جاء إلى الرسول فقال: «يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم ... فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها» . ويقول الرسول: «قل يا أبا الوليد، أسمع ... فلما فرغ عتبة قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) : أو قد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع منى. قال: أفعل ... إلى اخر الخبر. [الخبر في سيرة ابن هشام 1/ 293، 294] . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 11 عزيزى القارئ ... ذلك هو الدرس الذى تعلمناه من الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) درس فى أدب الاختلاف ولغته.. كيف تستمع لخصمك، وتفسح له صدرك وتمنحه فرصة التعبير عن رأيه وشرح موقفه، وبعد ذلك يكون من حقك الردّ، والردّ هنا بمعنيين: الجواب، والرفض، وأبعد درجات الرفض هو شعار (لكم دينكم ولى دين) (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ، دون عداء، هذا الدرس بسطه القران الكريم- كما سبق أن رأينا- وعرفه العرب في بعض أشعارهم- وطبقه الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) أحسن تطبيق، وكان (صلّى الله عليه وسلّم) أحفظ له وأكثر عملا به من هؤلاء الذين صدّعوا رؤوسنا بالكلام عن الحرّية والمساواة والعدالة و ... و ... إلخ وكنا نظن أنه قد جاء الوقت لتؤتى هذه الدعاوى ثمارها لينعم الإنسان بتأمل نفسه وما حوله ويملأ رئتيه من نسائم السلام والمحبّة، ولكن سرعان ما طلع علينا من يقول إنه سيشعلها حربا صليبية جديدة من جهة، ومن يدير اسطوانة مشروخة فى الهجوم على ديانات الاخرين ورموزها من جهة ثانية، مع إصرار عنيد وغبىّ على أن ما يقولونه وما يسعون إليه هو المساواة والمحبة والسلام والعدل. وأنه الطريق إلى مصلحة الشعوب ورخائها. ويعجب المتأمل من درجة التناقض بين الأقوال والأقوال، وكذلك بين الأقوال والأفعال ... فالاحتلال أصبح يسمى تحريرا، وتدمير الشعوب: الأرض والديار والبشر- أصبح يسمّى خلاصا، وامتلاك أعنى الأسلحة وأكثرها فتكا واستخدامها عند اللزوم، وتحريم ذلك على الاخرين يسمى عدالة ومحافظة على السلام!!. وهكذا ... عزيزى القارئ ... كنا قد اخترنا أن يكون كتاب الذخائر هو (نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز) الذى كتبه الطهطاوى بمناسبة شهر رمضان، وجاءت المهاترات الأخيرة في التطاول على شخص الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) ودعوته فأكدت سلامة اختيارنا. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 12 نعم ... لأن سيرة الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) التى ترسم خط حياته في الكفاح من أجل دعوته بالقول والفعل تقدم مشهدا رائعا لما سميته (أدب الاختلاف في الإسلام) وهو مشهد حدوده- أو لنقل مفرداته من جهة: لا إكراه في الدين، ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتى هى أحسن، ومن جهة أخرى: ولا تزر وازرة وزر أخرى، لكم دينكم ولى دين. وهو- كما نرى- مشهد لا مجال فيه للمزايدة أو الغصب، أو التطاول على الاخرين والطعن عليهم، بل شعاره (امن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كلّ امن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله) ومع ذلك نتّهم نحن بالتعصّب ويدّعى الاخرون لأنفسهم صفة التسامح، وتلك هى المأساة الحقيقية في عالمنا الحديث، أعنى أدّعاء الأدوار، أو تبديلها وتبادلها عنوة وغصبا، الذئب يمثل دور الحمل، والحمل يورّط في دور الذئب، القاتل يظهر في دور الضحية، والضحيّة يفرض عليها دور القاتل .... وهكذا. وتلك- مرة أخرى- هى المأساة، أو لنقل: المؤامرة التى نرجو أن يكشف حقيقتها ويفضح أبعادها نشرنا لكتاب في سيرة الرسول يحمل حقيقة موقفه من مخالفيه وكيفية تصرفه في نشر دعوته، مما كان وما يزال- هدفا للهجوم الظالم عليه من جانب مدعى السلام والتسامح، أولئك الذين فاتهم أن يستوعبوا الدرس الحقيقى ... درس الإسلام في أدب الاختلاف مع الاخرين. عبد الحكيم راضى أكتوبر 2006 الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 13 هذه الطبعة عزيزى القارئ ... هذه كلمة شكر، وعرفان بالفضل لأهله، وصاحب الفضل في حصولنا على هذه الطبعة هو الصديق الكريم الأستاذ أحمد على حسن صاحب مكتبة الاداب الذى تفضل أولا بالسماح لنا بتصوير طبعة الكتاب الصادرة عن مكتبته، ثم زودنى بعد ذلك بطبعة أخرى على اسطوانة قال إنها أصحّ من النسخة الورقية المطبوعة. وقد احتاج التعامل مع الاسطوانة التى حصلنا عليها إلى جهد شاق ومحاولات متعددة، وذلك لسببين: اختلاف نظم الأجهزة، واختلاف مقاس الطبعة عن المقاس الذى تطبع به الذخائر، أما الجهد الأكبر فكان في تصحيح النسخة الجديدة ومراجعتها إذ تبين لنا كثرة الأخطاء الواردة بالطبعة المذكورة إلى حد يفوق أى توقع ... مما اضطرنى إلى قراءتها أكثر من مرة، مستعينا بالمقابلة مع النسخة الورقية الموجودة. وأكثر ما كانت الأخطاء في الأشعار الواردة بالكتاب وهى كثيرة وكذلك في أسماء الأشخاص والأماكن. وقد ساعدنى في جانب من المراجعة الابن العزيز الدكتور سامى سليمان أحمد- مقدم هذه الطبعة - فله جزيل الشكر. رئيس التحرير الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 15 مقدم هذه الطبعة د. سامى سليمان أحمد، أستاذ النقد العربى الحديث المساعد بكلية الاداب، جامعة القاهرة. 1- درس بجامعة «بامبرج» بألمانيا (1995- 1998) كما درّس بها (1996- 1998) اللغة العربية والعامية المصرية والأدب العربى الحديث. 2- عمل أستاذا زائرا بجامعة أوساكا للدراسات الأجنبية باليابان (2004- 2006) . 3- شارك في عدد كبير من المؤتمرات العلمية حول قضايا الأدب والنقد العربى بالجامعات المصرية واليابانية، وبالمجلس الأعلى للثقافة. 4- شارك في عدد من المشروعات العلمية، ومنها معجم أسماء العرب (1989- 1990) ، ومشروع جامعة أوساكا للدراسات الأجنبية لعمل امتحان دولى لقياس مهارات دارسى العربية من غير الناطقين بها (2004- 2005) ، ودليل الجامعة الأمريكية للأدب العربى الحديث (2006) . 5- نشر مقالات ودراسات متعددة بمجلات فصول والفكر العربى ومجلة كلية الاداب جامعة القاهرة، ومجلة «كانساى» للدراسات العربية والإسلامية باليابان، ومجلة الفنون الشعبية. 6- من مؤلفاته: الخطاب النقدى والأيديولوجيا: دراسة للنقد المسرحى عند نقاد الاتجاه الاجتماعى فى مصر «1945- 1967» (2002) . كتابة السيرة النبوية عند رفاعة الطهطاوى: دراسة في التشكيل السردى والدلالة (2002) . خطاب التجديد النقدى عند أحمد ضيف مع النص الكامل لكتابه «مقدمة لدراسة بلاغة العرب» ، (2003) . مدخل إلى دراسة النص الأدبى المعاصر، (2003) . الذات وحلم تغيير الواقع: قراءة في قصيدة «الجامعة» لمحمد سليمان (2004) . حفريات نقدية: دراسات في نقد النقد العربى المعاصر (2006) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 17 بسم الله الرحمن الرحيم تقديم رفاعة الطهطاوى ومدخل حديث لكتابة السيرة النبوية (1) مثل رفاعة الطهطاوى (1801- 1873 م) نموذجا للمثقف العربى المجدد في أولى مراحل النهضة العربية الحديثة التى بزغت مع بدايات القرن التاسع عشر، وقد فرضت تلك المرحلة على ذلك المثقف الحديث والمحدّث أن يسهم بكتاباته في مجالات ثقافية واجتماعية متعددة، وقد جسد الطهطاوى هذا النموذج إذ جمعت كتاباته بين عمل المفكر الاجتماعى والتعليمى، والصحفى، والأديب (الشاعر والناثر) ، والمؤرخ غير المحترف، ومثل منحاه الإصلاحى العنصر الأساسى الرابط بين كتاباته التى تؤكد، بتنوعها، سعى الطهطاوى إلى الوفاء بما تطلبه واقعه. وقد تنوعت إسهامات الطهطاوى في مجالات الأدب العربى في القرن التاسع عشر؛ ورغم كونه واحدا من شعراء المرحلة الأولى من مراحل حركة الإحياء، على نحو ما يتجلى في ديوانه، فإن من اللافت أن إسهاماته في ميادين الكتابة النشرية هى التى وضعت اسمه في قائمة الأدباء المجددين في القرن التاسع عشر؛ إذ جمع بين تقديم شكل الرحلة في كتابه «تلخيص الإبريز في تلخيص باريز» (1834) والإسهام في تأصيل الرواية التعليمية وذلك بترجمته لرواية فينيلون (1651- 1715) المسماة" وقائع تليماك" (1699) والتى أعطاها الطهطاوى عنوان" مواقع الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 19 الأفلاك في وقائع تليماك" (1868) . كما أن له إسهامات بارزة في مجال الكتابة التاريخية يعكسها كتابه" أنوار توفيق الجليل في توثيق مصر وبنى إسماعيل" (1868) ، كما يعكسها كتابه" مناهج الألباب المصرية في مباهج الاداب العصرية" وإن لم يكن من نمط الكتابة التاريخية الخالصة. وقد كتب الطهطاوى السيرة النبوية وقدمها تحت عنوان" نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز"، وهى تمثل أوّل نموذج للكتابة الحديثة لمتن السيرة النبوية. وتحمل تلك العنونة أكثر من دلالة؛ فالطهطاوى قد ربط" نهاية الإيجاز" بكتاب" أنوار توفيق الجليل" وهذا ما يسوغ النظر إلى" نهاية الإيجاز" بوصفه جزا من كتابات الطهطاوى التاريخية، ويدعم ذلك تقسيم الطهطاوى كتابه إلى أبواب وفصول تحمل عناوينها دلالات مرتبطة بتتبعه حياة الرسول (ص) وبعض هذه العناوين- مثل" الأسباب الباعثة على الهجرة"- يبدو أكثر اتصالا بعمل المؤرخ منه بعمل الأديب. وفي مقابل الدلالات السابقة هناك دلالات مضادة تشير إلى إمكانية قراءة" نهاية الإيجاز" بوصفه كتابا مستقلا عن" أنوار توفيق الجليل"، من ناحية، وبوصفه كتابة تقع في المنطقة الواصلة بين الأدب والتاريخ من ناحية أخرى. فالطهطاوى أعطى كتابته عن السيرة اسما مستقلا عن كتابه التاريخى، كما أن كتابة الطهطاوى للسيرة ذات وشائج قوية في ارتباطها بأنماط كتابات السابقين عليه للسيرة النبوية، بقدر ما هى مختلفة عن كتابات اللاحقين له مباشرة أو الأجيال التالية له؛ فكتاب محمد الخضرى" نور اليقين في سيرة خير المرسلين" (1895) بمثابة سيرة تاريخية بالغة الاختصار، بينما كتاب محمد حسين هيكل" حياة محمد" (1935) يمثل، فيما نرى، أول دراسة تاريخية يقدمها كاتب أو مؤرخ مصرى حديث يفيد من مناهج البحث التاريخى الغربى، ويتجادل مع كتابات بعض المستشرقين حول سيرة النبى" ص". ويعد" نهاية الإيجاز" وكتاب" المرشد الأمين للبنات والبنين" اخر كتابات الطهطاوى، وقد نشرت فصول" نهاية الإيجاز" فى ثلاثة وأربعين عددا من أعداد مجلة" روضة المدارس" فى سنواتها الثالثة والرابعة والخامسة. ويتكون النص المنشور الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 20 فى" روضة المدارس" من ستة أبواب، وتتفق الأبواب الخمسة الأولى منه مع الطبعة المحققة التى تقوم عليها دراستنا هذه (1) . بينما عنون الطهطاوى الباب السادس على النحو التالى: الباب السادس في الوظائف والعمالات البلدية، خصوصية وعمومية، أهلية داخلية جهادية، التى هى عبارة عن نظام السلطنة الإسلامية، وما يتعلق بها من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية على ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وفيه فصول" (2) ، ولكن المحققين (عبد الرحمن حسن محمود وفاروق حامد بدر) جعلا من هذا الباب وما يليه كتابا سمياه (الدولة الإسلامية: نظامها وعمالاتها) ثم ووصفاه بأنه المتمم لكتاب" نهاية الإيجاز" (3) . وفي نهاية العدد الثالث والأربعين من" روضة المدارس" هناك فقرات- حذفها المحققان- يقرر فيها على رفاعة أن الطهطاوى قد أتم قبل موته تسويد كتابى" نهاية الإيجاز" و" المرشد الأمين"، وقد راجع نهاية الإيجاز حتّى الفصل التاسع من الباب الثالث، بينما تتبع على رفاعة بقية الكتاب (قراءة وتصحيحا، حذفا وإثباتا) (4) . واللافت أن المحققين قد حذفا المقدمة التى وضعها الطهطاوى لكتابه، والتى نشرها في العدد الرابع من السنة الثالثة من سنوات" روضة المدارس" وهى مقدمة مكونة من صفحتين يشير فيها الطهطاوى إلى أن" نهاية الإيجاز" يمثل الجزء الثانى من" أنوار توفيق الجليل"، ويشير أيضا إلى أن على مبارك هو الذى رأى التعجيل ينشر هذه السيرة منجمة في" روضة المدارس" على تطبع كاملة بعد ذلك (5) . ولما كان" نهاية الإيجاز" متمماك" أنوار توفيق الجليل" فقد احتل في هذا النسق ترتيب المقالة الخامسة على النحو التالى: المقالة الخامسة: فى ظهوره صلىّ الله عليه وسلّم وأحواله وشئونه ووقائعه والدخول في الحياة البرزخية وذكر الخطط والعمالات الإسلامية التى كانت في عهده صلىّ الله عليه وسلّم إلى استخلاف أبى بكر رضى الله عنه وفيه أبواب. ويمكن للقارئ المعاصر أن يقرأ" نهاية الإيجاز" من منظور التشكيل السردى الذى وضع فيها لطهطاوى السيرة النبوية، بما ينطوى عليه ذلك التشكيل من واحدات وتقنيات وطرائق سردية اعتمدها الطهطاوى لينقل بواسطتها، من ناحية، رسالة ضمنية حملتها كتابته، وليسهم، من ناحية ثانية، فى تقدم نمط جديد من الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 21 أنماط كتابة السيرة النبوية بوصفها نصّا سرديا، وليساهم، من ناحية ثالثة، فى إنشاء تقاليد كتابة بعض الأنواع السردية الحديثة في الأدب العربى. وبقدر ما تكشف النواحى الثلاث السابقة عن منحى التجديد الأدبى لدى الطهطاوى فإنها تتطلب إضاءة عدة أطر تتمثل في أنماط كتابة السيرة النبوية- بوصفها نصا سرديا- لدى السابقين على الطهطاوى، وعلاقة كتابة الطهطاوى السيرة بلحظة نشأة الأنواع السردية الحديثة في الأدب العربى، ووعى الطهطاوى بالأشكال السردية العربية الوسيطة، ومستويات تلقى نص الطهطاوى ودور الوسيط الثقافى الذى نقله إلى المتلقى في تحديد طرائق التلقى، وعلاقة كتابة الطهطاوى بالموقف أو الرسالة التى ضمّنها تلك الكتابة. وستتبدى طبيعة كتابة الطهطاوى عبر الأطر المختلفة التى نضع" نهاية الإيجاز" فى سياقاتها المتداخلة والمتفاعلة معا. (2) مرّ متن السيرة النبوية بمراحل متعددة ومتشابكة، ومتوالية أيضا، إلى أن استوى نصّا سرديا مكتملا؛ إذ شكلت المرويات التى رواها بعض الصحابة عن حياة النبى (ص) وصفاته وسلوكه المادة الأولى لمتن السيرة، وطوال القرنين الأوّل والثانى الهجريين برزت أسماء بعض التابعين- مثل عروة بن الزبير وعاصم بن عمر بن قتادة والزهرى وعبد الله ابن أبي بكر وغيرهم- ممن تخصصوا في رواية أخبار النبى. وقد وازى تطور الاهتمام بجمع أخبار النبى التطور في علوم الحديث والتفسير والتاريخ (6) وهذا ما برز، منذ بداية القرن الثالث الهجرى، إذ توزع الاهتمام بسيرة النبى بين أصحاب كتب طبقات المحدثين، من ناحية وكتّاب التاريخ العام من ناحية ثانية، وكتّاب سيرة النبى من ناحية ثالثة. فابن سعد (ت 230 هـ) صاحب (الطبقات الكبرى) قد دوّن سيرة النبى في الأجزاء الأربعة الأولى من كتابه، حيث كان يعنون الفقرات، ثم يسوق داخل كل فقرة مجموعة المرويات: أي الأحاديث والأخبار التى تقع في دائرتها، ولا يكاد يقدم رأيا فيما يرويه (7) . على حين أصّل الطبرى (ت 310 هـ) فى كتابه (تاريخ الرسل والملوك) تقليدا يتمثل في تقديم الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 22 سيرة الرسول (ص) بوصفها جزا من التاريخ العام، وقد تابعه في ذلك المؤرخون التالون له كابن الأثير (ت 630 هـ) فى كتابه (الكامل في التاريخ) وابن كثير (ت 774 هـ) فى كتابه (البداية والنهاية) وغيرهما. وتشكلت كتابة السيرة النبوية في ثلاثة أنماط مختلفة؛ نمطان منها يمكن وصفهما بأنهما نمطان سرديان خالصان، على حين يمكن وصف ثالثهما بأنه يضيف إلى المتن السردى نصا اخر شارحا بعض الوقائع أو يضيف معارف من علوم متنوعة. ويمثل نمط السيرة المكتملة التى تقدم وقائع حياة النبى (ص) وغزواته وعلاقاته المختلفة النمط السردى الأوّل، ونموذجه الأجلى سيرة ابن إسحاق (ت 151 هـ) التى رواها ابن هشام (ت 218 هـ) ، وقد قسم ابن إسحاق السيرة إلى ثلاثة أقسام كبرى هى المبتدأ، والمبعث، ثم المغازى، وكان يقدم- سواء داخل كل قسم من الأقسام الكبرى أو الأقسام الصغرى التى تشكل الأقسام الكبرى- الأخبار المختلفة، ويقدم الوقائع مستشهدا بالأشعار سواء في إطار سرده الوقائع، أو في نهايتها؛ كما في تقديمه- فى نهاية الغزوات- الأشعار المختلفة التى قيلت فيها. وإذا كان ابن هشام قد هذب نص ابن إسحاق فإنه قد أهمل بعض مرويات ابن إسحاق كما خذف أشعارا لم ير (أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به (8) . ولقد تحول متن ابن هشام إلى المصدر الأساسى الذى اعتمده اللاحقون له سواء كانوا من المؤرخين الخلّص أو من كتاب السيرة النبوية، ويمثل كتاب" عيون الأثر فى فنون المغازى والشمائل والسير" لابن سيد الناس (ت 734 هـ) نموذجا لكتابة تتابع تقاليد سرد السيرة النبوية المكتملة التى أصّلها ابن إسحاق وابن هشام، ثم تضيف إليه تقاليد جديدة مثل تقديم مرويات مختلفة عن رواة اخرين غير ابن إسحاق، وتقديم مرويات تمثل تحديدات أدق لمضامين بعض مرويات ابن إسحاق، أو تصحيح بعض المرويات التى قدمها ابن إسحاق (9) . ولما كان معنى مصطلح السيرة النبوية قد انصرف- لا سيما في المراحل المبكرة من رواية السيرة وتدوينها- إلى دلالة تقصره على تقديم المرويات الخاصة بمغازى الرسول (ص) فإن كتاب محمد بن عمر الواقدى (ت 207 هـ) " المغازى" يمثل نمط الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 23 الكتابة في السيرة طبقا لهذا الفهم. ويبدو أن اقتصار عمل الواقدى على فترة قصيرة من حياة النبى (ص) قد منحه فرصة وضع تقاليد خاصة في سرد المغازى؛ إذ ثبّت طرائق واحدة اتبعها في سرد الغزوات المختلفة؛ فبعد أن افتتح كتابه بذكر أسماء الرواة الذين نقل عنهم أخباره مشيرا إلى اختلاف مروياتهم أخذ يسرد (المغازى واحدة واحدة مع تاريخ محدد للغزوة بدقة، وغالبا ما يذكر تفاصيل جغرافية عن موقع الغزوة، ثم يذكر المغازى التى غزاها النبى بنفسه وأسماء الذين استخلفهم على المدينة أثناء غزواته، وأخيرا يذكر شعار المسلمين في القتال، كل ذلك بالإضافة إلى وصفه لكل غزوة بأسلوب مواحد، فيذكر أولا اسم الغزوة وتأريخها وأميرها، ويكرر في بعضها اسم المستخلف على المدينة وتفاصيل جغرافية مما كان قد ذكرها في مقدمة الكتاب. وفي أماكن كثيرة يقدم لنا الواقدى قصة الواقعة بإسناد جامع- أى يجمع الرجال والأسانيد في متن واحد. وإذا كانت الغزوة قد نزل فيها ايات كثيرة من القران، فإن الواقدى يفردها واحدها مع تفسيرها ويضعها في نهاية أخبار الغزوة. وفي المغازى الهامة يذكر الواقدى أسماء الذين شهدوا الغزوة وأسماء الذين استشهدوا أو قتلوا فيها) (10) . ويشكل نمط الكتابة المختصرة النمط السردى الثانى من أنماط كتابة السيرة النبوية، وهو يشترك مع النمط السابق في تقديم الأخبار الخاصة بحياة الرسول (ص) ووقائع دعوته وغزواته المختلفة، وتقسيم هذه الأخبار طبقا للمسار الزمنى لحياة الرسول (ص) ، ولكن كتّاب ذلك النمط كانوا يركزون على اختيار الوقائع، ويعرضون عن تقديم المرويات المختلفة حول الوقائع التى يعرضونها، كما يندر لدى بعضهم- كابن عبد البر- تقديم الأشعار المرتبطة بوقائع السيرة، بينما لا يورد بعضهم الاخر- كابن حزم- أيّا من أشعار السيرة. ومن أبرز النماذج التى تمثل هذا النمط كتاب" الدرر في اختصار المغازى والسير" لابن عبد البر (ت 463 هـ) ، وكتاب" جوامع السيرة" لابن حزم الأندلسى (ت 459 هـ) (11) . وثمة احتمال أن يكون تأصل هذا النمط في إطار كتابة السيرة النبوية قد أثر على كتابة بعض النصوص التى تنتمى إلى النمط الأوّل؛ فكتاب المقريزى (ت 845 هـ) (إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع) يقوم على الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 24 إيجاز المرويات المختلفة التى يعيد المقريزى صياغتها بلغته هو، مقدما- فى ثنايا سرده- بعض المرويات المسندة إلى قائليها الأوّل، ومستشهدا بالقليل من أشعار الوقائع، (12) ، ولعل قيام كتاب المقريزى على لغة مؤلفه في الصياغة جعل منه متنا مختلفا عن متون النمو الأوّل التى كانت تنظيما لمجموعات من الأخبار ذات الأسانيد. إن متن السيرة النبوية في كتابات النمطين السابقين يشكل نصا سرديا يقوم على تتابع عدد من الواحدات السردية الكبرى التى تصور حياة النبى (ص) ، وإذا كانت كل واحدة سردية كبرى تقدم مرحلة مهمة ودالة من حياة شخصية النبى (ص) فإن الواحدة السردية الكبرى يمكن أن توصف بأنها مقطع سردى طويل يبدأ من نقطة زمنية محددة وينتهى عند نقطة زمنية محددة، وتحمل كل نقطة منهما قيمة دالة في حياة الشخصية، وما بين نقطة البداية ونقطة النهاية يتشكل امتداد زمنى تملؤه عناصر سردية متنوعة كالوقائع والأخبار والأحداث وغيرها. وإذا كانت كل واحدة كبرى تشكل (سلسلة من الأفعال المتعاقبة) (13) فإن الراوى لا يكتفى بتقديم تلك السلسلة عبر مسار زمنى صاعد، وإنما يستطيع دائما أن يكسر ذلك المسار بالعودة المطولة إلى الماضى أو ماضى الماضى أحيانا- ولا سيما لتأصيل نسب الشخصية- أو تقديم نبوات بمصائر بعض الشخصيات- ولا سيما أعداء البطل- أو الاستطراد نحو كثير من التفريعات السردية التى تضعف- أحيانا- من ظهور المسار الزمنى الأساسى للوقائع. وتشكل بعض الوقائع في السيرة النبوية ما يمكن أن يسمى واحدة سردية وسطى إذ تقع- من ناحية- فى مدى زمنى أقل من المدى الذى تستغرقه وقائع الواحدة السردية الكبرى، كما تقوم- من ناحية ثانية- على نواة صراع مباشر يحدد للراوى طريقة معينة في سرد الوقائع وتنظيمها وصياغة التفاصيل، مما يجعل السرد أدنى إلى التركيز على خيوط متوالية زمنيا، ومتوالدة سببيا. وتمثل الغزوات الكبرى نماذج دالة لتلك الواحدات السردية الوسطى، ولعل هذا" التميز" الذى تتصف به واحدات المغازى هو الذى جعل عبد الله إبراهيم يصفها بأنها قد جاءت- فى سيرة ابن إسحاق (بشكل واحدات شبه قصصية) (14) ، بينما وصف عبد الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 25 الحميد بورايو الغزوة بأنها (تمثل قصة مكتملة، لها بداية ووسط ونهاية، وهى في الوقت نفسه ترتبط بمثيلاتها بواحدة ملحمية) (15) . وتمثل الأخبار والحكايات المختلفة نمط الواحدة السردية الصغرى ليس في متن السيرة النبوية واحدها، ولكن في كل أشكال السرد العربى الوسيط. وتمثل السيرة المشروحة النمط الثالث من أنماط كتابة السيرة النبوية، ويقوم هذا النمط على الموازاة بين نصين مختلفين ومتصلين في الان نفسه، ويتمثل النص الأوّل في متن ابن إسحاق أو ابن هشام الذى يتحول لدى كتاب هذا النمط إلى نص أصلى، بينما يتمثل النص الثانى في نص شارح يقدم فيه مؤلفه شرحا للألفاظ الغريبة أو إعرابا لبعض الكلمات أو العبارات الغامضة، وتجلية لأنساب بعض الشخصيات، وإكمالا لبعض الأخبار الناقصة، وتناولا لبعض الجوانب الفقهية أو الكلامية التى تثيرها بعض وقائع السيرة أو مواقفها. ويبدو أن هذا النمط قد تشكل في مرحلة تالية لتشكل النمطين الأولين، كما يبدو أنه كان يؤدى بعض الوظائف التعليمية المباشرة، ومن الكتب الممثلة لهذا النمط كتاب" الروض الأنف في شرح السيرة" الذى ألفه عبد الرحمن السهيلى (ت 581 هـ) ، وهو يقرر في مقدمته أنه قد جمع فيه (من فوائد العلوم والاداب، وأسماء الرجال والأنساب؛ ومن الفقه الباطن اللباب، وتعليل النحو وصنعة الإعراب، ما هو مستخرج من نيف على مائة وعشرين ديوانا، سوى ما أنتجه صدرى ونفحه فكرى ونتجه نظرى ولقنته عن مشيختى، من نكت علمية لم أسبق إليها ولم أزحم عليها) (16) . ولعل ذلك النص أن يكون كاشفا عن أن اكتمال نص السيرة النبوية لدى ابن هشام- فى بداية القرن الثالث الهجرى- قد جعل من شراحه يسعون إلى إفادة القارئ بتقديمهم مجموعة من المعارف المختلفة المستمدة من مجالات الحديث والفقه وعلوم اللغة وعلم الكلام والتاريخ، والقراات أحيانا، فى إضاءة النص الأصلى للسيرة، وذلك ما يخرج بعض هذه النصوص، وربما معظمها، عن إطار الكتابة الأدبية والكتابة التاريخية؛ يستوى في هذا كتاب" الروض الأنف" وكتاب" الشفا فى حقوق المصطفى" الذى ألفه القاضى عياض (ت 544 هـ) وجعل من شروحه الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 26 وسيلة لعرض بعض المسائل الكلامية أو تقديم تفسيرات لبعض الايات القرانية، أو تقديم بعض الأحاديث والأخبار، أو عرض بعض مسائل القراات القرانية (17) . شكل كل نمط من الأنماط السابقة مجموعة من التقاليد الكتابية الخاصة بمتن السيرة النبوية بوصفه نصا سرديا، أو بشرحه لغايات مختلفة. وكانت هذه الأنماط متاحة أمام الطهطاوى وهو يكتب" نهاية الإيجاز"، وقد نقل الطهطاوى كثيرا من النصوص السابقة عليه، وكان يردها إلى مصادرها، لكنه أعاد صياغة تقاليد كتابة السيرة النبوية حيث أفاد من تقاليد كتابتها لدى أصحاب الأنماط الثلاثة السابقة عليه (وذلك ما سيتضح تفصيلا في فقرات تالية) . وبقدر ما كان سعى الطهطاوى إلى إعادة صياغة تقاليد كتابة السيرة النبوية دالّا على منحاه التجديدى الذى يبدأ بتمثل الموروث- مع السعى إلى تجاوزه- فإن فعل التجاوز لدى الطهطاوى يمثل بدوره، دالا اخر على أن كتابة. الطهطاوى السيرة النبوية لم تنفصل عن لحظتها التاريخية والأدبية؛ أى لحظة ميلاد الأنواع السردية الحديثة في الأدب العربى. (3) إذا كان الطهطاوى قد قدم صياغته للسيرة النبوية في أوائل العقد الثامن من القرن التاسع عشر فإن عمله هذا يمكن تفهمه في تقاطعه مع إطار التيار الأساسى السائد على الرواية العربية الحديثة في المرحلة الأولى من مراحل تبلورها، والتى تمتد من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر إلى بداية الحرب العالمية الأولى. وقد ساد فيها نمطان روائيان هما الرواية التاريخية والرواية التعليمية ويتفق النمطان في كون التعليم الهدف المشترك لكليهما؛ وإن اختلفت طبيعته بينهما؛ فبينما كانت الرواية التاريخية تعلّم الأحداث والوقائع التاريخية الخاصة بفترة أو شخصية ما من التاريخ العربى والإسلامى فإن الرواية التعليمية قد تغيت تقديم معارف من علوم متنوعة، على نحو ما يتجلى في رواية" علم الدين" (1883) لعلى مبارك (1823- 1893) والتى تعد النموذج الأساسى لها في هذه المرحلة (18) . ومن اللافت أن بدايات الرواية التاريخية قد بدأت في لبنان في وقت معاصر الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 27 لتقديم الطهطاوى" نهاية الإيجاز"؛ إذ قدم سليم البستانى (1848- 1884) روايات: " زنوبيا" (1871) ، و" بدور" (1872) ، و" الهيام في فتوح بلاد الشام" (1874) ؛ وقد نشرت كلها في أعداد مجلة الجنان. بينما قدم جميل نخلة المدور روايته" حضارة الإسلام في دار السلام" فى عام 1888 ثم بدأ جرجى زيدان (1856- 1914) مع بداية العقد الأخير من القرن التاسع عشر، أى عام 1891، تقديم سلسلة روآياته عن تاريخ الإسلام؛ إذ قدم- فى الفترة من 1891 إلى 1914- اثنتين وعشرين رواية صاغ في معظمها أحداث التاريخ العربى الإسلامى (19) ؛ وركز فيها على بعض المراحل والشخصيات المؤثرة فيه مثل: الحجاج بن يوسف (1902) ، وأبو مسلم الخراسانى (1905) ، والعباسة أخت الرشيد (1906) ، والأمين والمأمون (1907) ، وعبد الرحمن الناصر (1909) ، ثم صلاح الدين ومكائد الحشاشين (1913) . على حين أنه اعتمد في القليل من روآياته التاريخية على وقائع بعض الفترات التاريخية الحديثة أو المعاصرة له، أو بعض شخصيات التاريخ العربى المصرى الحديث، كما في روايتيه محمد على (1907) والانقلاب العثمانى (1911) . إن تلاقى نمطى الرواية التاريخية والرواية التعليمية في الهدف التعليمى العام هو الذى يفسر مظاهر التلاقى بينهما في طرائق الصياغة والتشكيل واستخدام تقنيات بعينها. فلما كان تعليم التاريخ- بالمعنى العام والمباشر لهذه العبارة- هو مبتغى كتاب الرواية التاريخية فإن ذلك الهدف كان يضم إلى تقديم الحقائق التاريخية المتعلقة بفترة ما، من ناحية، تصوير بعض الجوانب الحضارية التى تميز هذه الفترة، من ناحية ثانية، وتصوير الأخلاق والعادات، من ناحية ثالثة. وكان حرص كاتب الرواية التاريخية على أن يقدم لقارئه الحقائق والأحداث التاريخية الكبرى في الفترة يكتب عنها دافعا له إلى أن يثبت المراجع التاريخية التى اعتمد عليها سواء في بداية الرواية أو في نهايتها أو في مواضع مختلفة، على نحو ما يبدو لدى جرجى زيدان وجميل نخلة المدور. وقد أفرز ذلك ظاهرة متكررة تتمثل في حرص كتاب الرواية التاريخية على إسناد الأخبار والمعلومات إلى مصادرها. وبقدر ما تشير هذه الظاهرة إلى ارتباط هؤلاء الكتاب ببعض طرائق نقل الأخبار التاريخية وغير التاريخية- فى الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 28 الأشكال السردية العربية الوسيطة- فإنها تشير أيضا إلى أن الجمهور الذى كان يتوجه إليه هؤلاء الكتاب إنما هو جمهور كانت" التقليدية" سمة مؤثرة في ثقافته؛ إذ كان يطالب كتاب هذا الشكل بالحرص على" المرويات الصحيحة" مما كان يدفع بعض الكتاب- مثل جميل نخلة المدور- إلى إعادة صياغة بعض الوقائع وتناولها (بشىء من التهذيب والتنقيح وتبديل الروايات الضعيفة بما هو أصح وأثبت عند أئمة النقل) (20) . وكان كتاب الرواية التاريخية يسعون إلى تقديم وصف تاريخى وجغرافى دقيق ومفصل وموثق للأماكن التى تدور فيها أحداث رواياتهم، بينما نحا بعضهم أحيانا إلى الاهتمام بإيراد التفاصيل التاريخية أكثر من العناية بإحكام (الخيال في خلق صورة حية واقعية) (21) للمجتمعات أو الفترات التاريخية التى يصورونها. وقد دفع المسعى التعليمى المباشر كتاب الرواية التاريخية إلى الاتكاء على تقنية الاستطراد؛ إذ كان كاتب هذا الشكل يتخذ من أحداث روايته وسيلة لتقديم معلومات عن عصرها، أو تقديم النصائح والمواعظ والحكم والتوجيهات المباشرة (22) . كما تتجلى الظاهرة نفسها في" علم الدين" حيث ينتقل الراوى بين عدة مسامرات تختلف في موضوعاتها مما يضعف من دور الرابطة الأساسية التى تربط هذه المسامرات (23) . لقد كان كتّاب نمطى الرواية التاريخية والرواية التعليمية يسعون- كل بطريقته إلى اتخاذ التشكيل السردى وسيلة ناجعة لتعليم جمهور المتلقين، وهذا ما حدد دور" الخيال" فى تشكيل حبكات أعمالهم؛ إذ ثمة صيغ مختلفة لتشكيل الحبكة؛ منها صيغة تقوم على الجمع بين حكاية وقائع تاريخية وحكاية متخيلة غالبا ما تكون حكاية عاطفية؛ وإذا كانت الحكاية الأولى تتشكل من عناصر قدمتها المصادر العربية القديمة عن الشخصية أو الفترة موضوع الرواية فإن الحكاية المتخيلة قد تستند إلى شخصيات تاريخية يملك الكاتب حرية الإفاضة في سلوكها أو ابتكار أحداث تنسب إليها أو مجاوزة بعض الأطر التاريخية في تصويرها له، على نحو ما يبدو في تصوير جرجى زيدان لشخصية أبى العتاهية في روايته" العباسة أخت الرشيد" (24) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 29 وبينما قامت معظم روايات زيدان على تلك الصيغة من الحبكات فإن ثمة صيغة أخرى قدمها جميل نخلة المدور هى صيغة الرحلة الخيالية إلى فترة تاريخية سابقة؛ فروايته" حضارة الإسلام في دار السلام" تصور رحالة فارسيا يطوف معظم البلدان الإسلامية في المائة الثانية للهجرة، ويلتقى بعدد من رجال العصر العباسى ويتصل بالبرامكة بصفة خاصة، ويقدم رحلته- إلى المتلقى- فى إطار مجموعة من الرسائل التى تصور للمتلقى كثيرا من جوانب العصر الذى ارتحل إليه. وتمثل حبكة رواية" علم الدين" الصيغة الثالثة من صيغ الحبكات، وهى صيغة تقوم على الجمع بين حكاية رئيسية تمثل حكاية الإطار، وهذا ما تجسده علاقة علم الدين بالرجل الإنجليزى، سواء في مبتدأها أو تطورها أو نهايتها- وحكايات أخرى فرعية تتصل- بطريقة أو بأخرى- بحكاية الإطار، وتنشأ هذه الحكايات- دائما- من دورانها حول شخص واحد كما في قصة يعقوب أو قصة المصرى المغترب (25) . إن وضع كتابة الطهطاوى السيرة النبوية في" نهاية الإيجاز" فى توازيها الزمنى مع تأصيل الرواية التاريخية والرواية التعليمية يكشف عن كثير من جوانب التلاقى بينهما، والتى يمكن أن يكون بعضها دالا، بدوره، على بعض صور التفاعل بين تشكيل الرواية التاريخية وبنية بعض الأشكال السردية العربية الوسيطة؛ فإذا كان كاتب الرواية التاريخية يحرص على الاعتماد على مرويات تاريخية" موثقة" ويشير إلى مصادره، فإن كتابة الطهطاوى كانت تحقق الشرط ذاته مستجيبة في ذلك إلى" خصوصية" متن السيرة في إطار الثقافة العربية الوسيطة؛ بمعنى أن حرص المهتمين بالسيرة النبوية- فى عديد من العلوم في الحضارة الإسلامية- على تحقيق نسبة الأحداث والوقائع إلى النبى (ص) قد حدد مجال الابتكار أمام كاتب السيرة إذ أصبح ماثلا في التأكد من صحة الأخبار، ثم اصطفاء بعضها، أو الكثير منها أحيانا، مع التخلى عن كثير من التفصيلات أو المرويات الخلافية. ولعل ذلك ما شكل مبدأ لكتابة السيرة النبوية حتّى لدى الأجيال التالية للطهطاوى؛ على نحو ما يبدو عند طه حسين في" على هامش السيرة" (1933) (26) . وبقدر ما كان الشرط السابق يقيد خيال كاتب السيرة في ابتكار أحداث أو الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 30 وقائع فإن ضخامة مرويات السيرة- لا سيما عند كتاب النمط المطول- كانت تعطى كاتب السيرة المحدث فرصة اختيار مجموعة من الأحداث والوقائع ليشكل منها هيكلا سرديا متصلا، وهو الموقف نفسه الذى كان يتخذه كاتب الرواية التاريخية إزاء المواد التى تقدمها له المصادر التاريخية العربية القديمة والوسيطة. ولما كان هدف الطهطاوى من كتابة السيرة يتصل بأهداف كتاب الرواية التاريخية والتعليمية، فقد كانت تقنية الاستطراد في السرد تقنية مشتركة بين كتابته وكتابتهم. وستتبدى تلك الجوانب بتفصيل أكبر في فقرات تالية، ولكن ذلك لن يتحقق إلا بعد الوقوف على مدى وعى الطهطاوى بالأشكال السردية المختلفة ووظائفها. (4) تقع سيرة الطهطاوى في المنطقة الواصلة بين التاريخ والأدب، وكانت كتابة الطهطاوى لها تتصل- بقدر تماسها مع الرواية التاريخية والرواية التعليمية- بمرحلة الإحياء التى ينتسب إليها فكر الطهطاوى وكتاباته المختلفة. ويتبدى اتصال الإحيائية بكتابة الطهطاوى" نهاية الإيجاز" من كون الطهطاوى قد أعاد إحياء ذلك الشكل السردى بعد أن توقفت كتابتة في مصر لمدة أربعة قرون؛ إذ إن اخر الكتابات المصرية السابقة على الطهطاوى هو كتاب المقريزى" إمتاع الأسماع" (27) . ويتصل بذلك الإحياء بعدان يتعلق أولهما بالصلة بين الأدب والتاريخ ودورها في تحديد طريقة كتابة السيرة وتقديمها بوصفها شكلا سرديا. بينما يرتبط ثانيهما بوعى الطهطاوى بالأشكال السردية العربية الوسيطة والقديمة. ولا ينفصل عن هذين البعدين تصور الطهطاوى لمهمة الأشكال السردية والأنواع الأدبية الحديثة. يتبدى البعد الأوّل الكاشف عن الصلة بين الأدب والتاريخ لدى الطهطاوى فيما يظهر في مواضع مختلفة- على قلتها- من كتابات الطهطاوى بتناول الأدب أو بعض جوانبه أو بعض قضاياه أو ما يبدو من اهتمامه النسبى بتناول مسائل كتابة الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 31 التاريخ ووظائفه. واللافت أن تناول الطهطاوى لمسائل الأدب يركز فيه- على عادة غيره من الإحيائيين- على الشعر، بينما يغلب أن يتصل تناوله للنثر عامة أو السرد خاصة بتناوله للتاريخ. ولعل تقديم الطهطاوى لتناول الشعر في مقابل التغييب النسبى لتناول النثر أو السرد بوصفه الطرف الثانى من أطراف ثنائية الشعر والنشر أن يشير إلى انتماء الطهطاوى إلى اللحظة التاريخية التى كان الأديب والناقد الإحيائى يسعى فيها، حثيثا، لصياغة موقف من الأشكال النثرية بتأثير اتصاله بالثقافة الأوروبية. وبالمثل يبدو تناول الطهطاوى لبعض الأشكال السردية العربية الوسيطة في إطار تناوله للتاريخ دالا على منحى إحيائى يتصل باستعادة تناول المؤرخ العربى الوسيط- فى مرحلة نضج الكتابة التاريخية- لأوجه التشابه والتلاقى بين بعض الأشكال السردية والكتابة التاريخية، وأوجه الاختلاف والتمايز بينهما (28) . إن التاريخ عند الطهطاوى ينقسم إلى أثرى وبشرى (فالأوّل ما كان من طريق الشرع كالقصص الواردة في الكتب السماوية والثانى ما وقف عليه الناس من الوقائع والحوادث الحاصلة في الأعصر القديمة والحديثة فأرخوه) (29) . وإذا كان التاريخ أحداثا ووقائع تنتمى إلى الماضى دائما أو إلى الحاضر أحيانا، فإن الكتابة التاريخية عند الطهطاوى تستهدف تحقيق مهمة مزدوجة، وتعود هذه الازدواجية إلى المتلقى الذى كان الطهطاوى يتوجه إليه؛ إذ كان بحكم موقعه الثقافى والطبقى وطبيعة المرحلة يتوجه بكثير من كتاباته إلى الحاكم من ناحية، وإلى عامة القراء- ولا سيما طلاب المدارس من أبناء النظام التعليمى الذى أنشأه محمد على ودعمه إسماعيل- من ناحية أخرى، فالطهطاوى يقرر أن (تعلم التاريخ أليق بأبناء الأمراء والسلاطين، إذ هو معرفة أحوال الأمم والدول والملوك الماضين، فتقف الملوك به على أحوال من مضى من الأنبياء والأصفياء وغيرهم من أرباب الرياسات والسياسات، ممن مرّ زمانهم وانقضى، فيعتبر القارئ لسيرتهم من تلك الأحوال، ويتحصل على ملكة التجارب من تعرفه تقلبات الزمان والانتقال، فيحترز عن تجرع غصص ما نقل عن المضار، وينتهز التمتاع بفرص ما قيل الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 32 من المنافع والمضار، فالتاريخ عمر ثان للناظرين، فمن تعلمه فكأنما زاد في عمره وأحسن عاقبة أمره) (30) . إن كتابة التاريخ لدى الطهطاوى بمثابة (معاد معنوى لأنه يعيد الأعصار وقد سلفت، وينشر أهلها وقد ذهبت اثارهم وعفت) (31) . وليست هذه سوى عملية استحضار للماضى، بأحداثه وشخصياته إلى وعى المتلقى الذى يتوجه إليه الكاتب المؤرخ، وتنهض تلك العملية على مجموعة من الأشكال السردية المختلفة التى يشير الطهطاوى إلى عدد منها عرفه التراث العربى القديم كالخبر والقصة والسيرة، ثم المقامة التى جمعت بين التعليم والنقد الاجتماعى. بينما يبدو تناول الطهطاوى للأسطورة بوصفها- شكلا سرديا- نابعا من اتصال الطهطاوى بالأدب الفرنسى وجذوره اليونانية. ومن اللافت أن كل الأشكال السردية العربية التى تناولها الطهطاوى قد كانت لها فاعليتها في تبلور أشكال الرواية العربية في مرحلة نشأتها بصفة خاصة. يبدو مصطلح الخبر أو الأخبار لدى الطهطاوى مقترنا بالتاريخ من حيث كون التاريخ نقلا أو تقديما للأخبار، ومن هنا يربط الطهطاوى بين التاريخ والأخبار من ناحية، والكتب السماوية- فى جانب من جوانبها السردية- من ناحية أخرى. إذ يؤكد أنه لمكان العناية به (أى بالتاريخ) لم يخل منه كتاب من كتب الله المنزلة، فمنها ما أتانا بأخباره المجملة ومنها ما أتانا بأخباره المفصلة) (32) . ولعل تلك الأهمية التى نالتها الأخبار التاريخية هى التى جعلت الطهطاوى يرفض الأخبار التى أولع بها (الإخباريون والقصاص) من (الأقاويل غير المرضية) و (ما يظهر بعرضه على ميزان العقل أنه من محض الخرافات) أو من (الأباطيل والخزعبلات) (33) . ويمثل موقف الطهطاوى استمرارا لمواقف فئات مختلفة في المجتمع العربى الوسيط من نشاط القصاصين وحكاياتهم وأخبارهم (34) ، كما أنه يمثل دافعا من الدوافع المباشرة التى دفعته إلى تلخيص السيرة النبوية وتقديمها في شكل موجز. ويتردد مصطلحا القصة والقصص في مقدمة ترجمة الطهطاوى لرواية" مواقع الأفلاك في وقائع تليماك" وفي كتابه" مناهج الألباب المصرية في مباهج الاداب الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 33 العصرية"، ومن اللافت أن الطهطاوى في مقدمة ترجمته تلك يمدح النبى" ص" بأنه (خير من اختص بالقصص والنبأ، وأنبأ عن قصة بلقيس وسبأ، ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها من أخبار العرب والعجم) (35) . ولقد قرن الطهطاوى رواية" تليماك" ببعض الأشكال السردية العربية الوسيطة، فتليماك- كما يراها الطهطاوى- موضوعة (على هيئة المقامات الحريرية في صورة مقالات) (36) ، كما أطلق الطهطاوى مصطلح" قصة" على بعض السير الشعبية العربية، ثم فضل رواية تليماك عليها وعلى بعض الأشكال السردية العربية الاخرى كألف ليلة وليلة؛ إذ يقرر (وأين منها (أى من تليماك) عند القوم ألف ليلة وليلة وألف يوم ويوم، وهل تقاس بها قصة ذى يزن أو عنتر، فكيف وموضوعهما أقطع أبتر، فقد اشتهرت هذه المقالات بين الملل والأمم اشتهار نار على علم وترجمت بفصاحتها الركبان في سائر الجهات لما اشتملت عليه من المعانى الحسنة مما هو نصايح للسلاطين والملوك وبها لسائر الناس تحسين السلوك تارة بالتصريح والتوضيح وأخرى بالرمز والتلويح) (37) . ولما كان الطهطاوى بترجمته رواية" تليماك" يقدم نصّا يقوم على استلهام أصل أسطورى فقد توقف أمام مصطلحى الأسطورة والأساطير؛ إذ قدم- فى ديباجة ترجمته- تعريفا بتليماك وعرّف بأصله الأسطورى، ونصّ على أنه يستقى معلوماته من (كتب الخرافات اليونانية) (38) . وفي ضوء ذلك حاول أن يبرر ميلاد تليماك من مواقعة المشترى للكمينة زوجة انفتريون، وسعى إلى تقريب هذا إلى ذهن المتلقى العربى بتقديمه عدة أخبار من التراث العربى تتحدث عن زواج الأنس بالجان أو الأنس بالملائكة (39) . وفي هذا ما يشير إلى أن الطهطاوى قد أدرك أن الأسطورة شكل سردى يقوم على مجموعة من الأخبار التى تحوى أفعالا خارقة أو مجاوزة للمألوف، من ناحية، كما أنها- من ناحية ثانية- تجسيد لعقيدة جماعة معينة، ولكنها يمكن- من ناحية ثالثة- أن توظف لأهداف تعليمية أو أخلاقية. وفي ضوء ذلك يتبدى وصفه للأدب اليونانى بأنه مبنى (على إفراط العبارة) فى الاعتماد على الأساطير مؤكدا أنه (لما كان الفرنج يحذون في ادابهم حذو اليونان اتخذوا الخرافات اليونانية قدوة في ذلك وألفوا فيها تاليف تسمى المثيولوجيا ووقائع تليماك مشحونة بهذه الأشياء) (40) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 34 ويتضمن تناول الطهطاوى للأسطورة ودورها في الأدبين اليونانى والفرنسى دلالات متعددة لعل أبرزها تأكيده على ضرورة التفريق بين الظاهر والباطن فيها (41) وهو تمييز قد يسهم في تأويل الرسالة الضمنية التى ينطوى عليها" نهاية الإيجاز" على نحو ما سيتضح في فقرات تالية. ويمثل مصطلح المقامة واحدا من مصطلحات الأشكال السردية التى أشار إليها الطهطاوى، وتشير بعض سياقات استخدامه لديه إلى إطلاقه إياه على القصص الفرنسية (42) . وأما مصطلح سيرة فمن المؤكد أن الطهطاوى قد عرفه- منذ البداية إبان دراسته بالأزهر قبل سفره إلى باريس، ثم أتيح له في باريس أن يقرأ سيرا أوروبية متنوعة كسير فلاسفة اليونان وسيرة نابليون، وقد قرأها في إطار دراسته" النظامية" للتاريخ، واللافت أنه وصف مادة بعضها مستخدما بعض المصطلحات المستخدمة في السرد العربى الوسيط كالقصص والحكايات والنوادر (43) . إن تحليل المصطلحات السردية التى استخدمها الطهطاوى يكشف عن أنه كان على دراية واسعة بكثير من الأشكال السردية العربية القديمة والوسيطة، كما أتيح له التعرف على عدد من الأشكال السردية الأوروبية القديمة والوسيطة والحديثة، ولما كانت معرفته بهذه الأشكال قد تمت في إطار تشكل معرفته بالتاريخ فقد كان ذلك دافعا له لأن يرى دور هذه الأشكال في تحقيق مهام تعليمية وتهذيبية يحققها التاريخ. كما قادته تلك المعرفة إلى الوعى بالأدوار التى يمكن أن يؤديها السرد في توصيل معارف مختلفة، ولهذا اعتمد عليه في عدد من مؤلفاته سواء التاريخية مثل" أنوار توفيق الجليل" أو التعليمية التوجيهية العامة مثل" المرشد الأمين" و" مناهج الألباب". وقد قاده ذلك الوعى إلى إعادة كتابة السيرة النبوية بوصفها نصّا سرديا، ولعله كان يدرك- على نحو ضمنى- أن مثل هذه الكتابة هى صورة من صور التجادل مع تقاليد راسخة تثبتت في كتابة السيرة النبوية لدى السابقين عليه، وإذا كانت كتابته تلك قد استندت إلى توجهاته الإصلاحية التى حكمت مجمل مؤلفاته، فإنها قد تأسست، من ناحية، على رؤيته التاريخية، بينما قامت، من ناحية أخرى ومن حيث هى إعادة تشكيل لتقاليد شكل سردى راسخ في الثقافة العربية الوسيطة، على أداة الذوق الذى رأى الطهطاوى أنه ملكة متجددة يتغير الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 35 دورها بتغير البيئة والأزمان ويرتقى مع تقدم العمران (44) . وفي هذا ما يؤسس للطرائق والتقنيات التى اعتمدها الطهطاوى في إعادة تشكيل كتابة السيرة النبوية ليواجه متطلبات جديدة طرحها واقع جديد. (5) تتصل كتابة الطهطاوى السيرة النبوية بتقاليد كتابة السيرة النبوية في التراث العربى السابق عليه، كما ترتبط بطرائق الكتابة والتشكيل في الرواية التاريخية والرواية التعليمية المعاصرتين له. وتتكشف تلك الصلات- أكثر ما تتكشف- فى التشكيل السردى الذى صاغ فيه الطهطاوى كتابته، ويقوم على ذلك التشكيل على عدة عناصر هى: تنظيم الواحدات السردية الكبرى، والاعتماد على تقنية الإيجاز والحذف، والركون إلى تقنية الاستطراد، ثم توظيف الشعر داخل الكتابة السردية. وبقدر ما تمارس تقنيتا الإيجاز والحذف والاستطراد تأثيرات متعددة في إطار الواحدات السردية (الكبرى والوسطى والصغرى) فى سيرة الطهطاوى فإن أدوارهما في تشكيل. الواحدات الوسطى تحمل دلالات واضحة على المنحى التجديدى في كتابة الطهطاوى للسيرة النبوية، ومن هنا ضرورة التوقف أمام نموذج من نماذج تشكل الواحدات الوسطى. وبقدر ما تمثل العناصر السابقة متن السيرة النبوية عند الطهطاوى فإنها تكشف عن كون الطهطاوى نموذجا لذلك الراوى المفارق لمرويه. (1/ 5) تنتظم السيرة النبوية لدى الطهطاوى في ست واحدات سردية كبرى، هى على تتابعها: المولد، والمبعث، والهجرة، وظواهر ما بعد الهجرة، ثم وفاة النبى (ص) وذكر بعض أخلاقه وصفاته ومعجزاته وأزواجه وأعمامه وعماته وأخواله ومواليه وخدمه وحشمه، ثم الوظائف والعمالات البلدية. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 36 ومن البين أن الواحدات الأربع الأولى- بالإضافة إلى نقطة الوفاة في بداية الواحدة الخامسة- قد رتبت على أساس زمنى قائم على التوالى التاريخى. وتشكل العلاقة بين هذه الواحدات نمطا من أنماط البنية المركبة التى تقوم على منطق النظم أو التنضيد- عند شلوفسكى- حيث تتتابع مجموعة من القصص القصيرة يغلب أن تكون واحدات سردية (مستقلة كل واحدة عن الاخرى، لكن تصل فيما بينها شخصية مشتركة) (45) ، ويؤدى تعاقبها في نص واحد إلى إنشاء (واحدة جديدة لها بنية مخصوصة، ولعل أظهر ما تتجلى فيه هذه البنية القصص التاريخية أو قصص السيرة) (46) . وتشكل تلك الواحدات الهيكل الأساسى لمتن السيرة النبوية، ومن اللافت تأمل العلاقات التى ينشئوها نص الطهطاوى مع الكتابات السابقة عليه؛ فهو من ناحية يتابع كتّاب نمط السيرة المختصرة- كابن عبد البر وابن حزم- الذين قصروا متن السيرة على متابعة حياة النبى (ص) من ميلاده إلى وفاته. بينما يبدو- من ناحية ثانية- معدّلا في بعض التقاليد السائدة لدى كتاب النمط المطول والنمط المشروح؛ فإذا كانت سيرة ابن هشام تنتهى بوفاة النبى (ص) فإنها قد توقفت عند القصائد التى قيلت في رثائه، بينما وضع ابن سيد الناس- قبل تقديمه واحدة الوفاة- أخبارا مختلفة عن الجوانب الاجتماعية والأسرية للنبى كأولاده وأعمامه وأزواجه وأسرته ومواليه وكتابه وحراسه وجمل من صفاته وغيرها (47) ، وهذه هى نفسها الواحدات الصغرى التى ساقها الطهطاوى بعد ذكره الوفاة. ومن اللافت أن المنطق الكامن خلف ذلك التنظيم الذى قدمه الطهطاوى يبدو متصلا- بقوة- ببعض السير الغيرية التراثية، كما يرتبط أيضا بنظام الترجمة في بعض كتب التراجم العربية ككتاب الأغانى؛ فسيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزى (ت 597 هـ) تقوم على سرده وقائع حياته من مولده إلى توليه الخلافة عبر تتابع زمنى محكم، ثم تلجأ إلى السرد القائم على الموازاة بين عرض سلوكه وتصرفاته من ناحية وصفاته وسماته من ناحية أخرى، مما يخرق الترتيب الزمنى لسرد الوقائع الذى تجلى في الواحدات الأولى. ولا تمثل حادثة مقتل عمر نهاية السيرة إذ تتلوها مجموعة من الواحدات التى يقدم فيها المؤلف عددا من الواحدات أو الموضوعات المتصلة بعمر كبعض صفاته، وبكاء الناس عليه، والمنامات التى راها أو التى رؤى فيها، وذكر ثناء الناس عليه (48) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 37 ورغم أن نظام الترجمة في كتاب الأغانى يقوم على الابتداء بنسب المترجم له والانتهاء بوفاته، فإن بعض التراجم كانت تنتهى بأخبار تتصل بالمترجم له بعد وفاته (49) . وإذا كانت الواحدة السادسة التى قدم فيها الطهطاوى الوظائف والعمالات البلدية قد مثلت لدى دارسى كتاباته التاريخية دالا من دوال تجديده (50) فإنها- من حيث علاقتها بواحدات السيرة- تبدو متصلة بها في اعتمادها على تقديم كم كبير من المرويات السردية المختلفة، بينما تبدو- فى الان نفسه- منفصلة عن متن السيرة؛ إذ تبدو عرضا لجوانب اجتماعية وسياسية تنظيمية يستعين ببعض العناصر السردية كالأخبار والحكايات، كما تبدو إيجازا لكتاب الخزاعى (ت 789 هـ) " تحرير الدلالات السمعية" (51) . وقد صرح الطهطاوى بأن إضافته تلك الواحدة إلى السيرة تمثل نمطا من أنماط التجديد في كتابتها (52) ، ولعل هذه الإضافة دال يشير إلى أن كتابة الطهطاوى السيرة لم تقف فقط عند حد التغيير في تقاليد كتابة السيرة النبوية، بل جمعت إليها لونا من النصوص المقالية- الاجتماعية والسياسية- التى قد تنهض- بدورها- دالا على تغير ما في توجهات الطهطاوى الفكرية في أخريات حياته. وتختلف أطوال الواحدات السردية الكبرى في سيرة الطهطاوى نتيجة عاملين يتمثل أولهما في حجم العناصر السردية وغير السردية التى يعتمد عليها الطهطاوى، وتبدو الواحدة الرابعة، وهى الخاصة بظواهر ما بعد الهجرة، أطول هذه الواحدات، ولذا قسمها الطهطاوى إلى واحدات أصغر حيث جعل من أحداث كل عام وما فيه من غزوات واحدة واحدة. على حين يتمثل ثانيهما في بروز تقنيتى الإيجاز والحذف والاستطراد حيث تبدو فاعلية كل منهما سببا من أسباب تحديد حجم الواحدة السردية، من ناحية، ودالا- من ناحية أخرى- على أهمية هذه الواحدة أو تلك في متن الطهطاوى. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 38 (2/ 5) مارست تقنية الحذف والإيجاز تأثيرات متعددة في تشكيل الطهطاوى لمادة سيرته، ويعد إدخال كلمة الإيجاز في العنوان" نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز" دالا أوليا على تلك التأثيرات. وتبدو فاعلية هذه التقنية بعنصريها- الحذف والإيجاز- جلية في حذف الطهطاوى للواحدة السردية الكبرى الأولى في سيرة ابن هشام وهى واحدة المبتدأ، واستعاضته عنها بتقديم بعض الجوانب الأساسية في حياة العرب في الجاهلية وانتهائه إلى الحديث عن الإرهاصات الداخلية والخارجية بمولد النبى (ص) ، وذلك في الجزء الأوّل من" أنوار توفيق الجليل" (53) ، واللافت هنا أن الطهطاوى قد قدم نبوءة سيف بن ذى يزن بمولد النبى (ص) ، وذلك في لقائه بعبد المطلب، وهذا ما يتناقص مع ما يبدو من ميل الطهطاوى إلى تجاهل كثير من الرؤى والنبوات التى اعتمدت عليها كثير من نصوص السير السابقة، على نحو ما يظهر، على سبيل المثال، فى سرده وقائع غزوة بدر. وبقدر ما كان الحذف دالا على مسعى الطهطاوى إلى استبعاد عناصر متعددة من متن السيرة السابقة عليه فإن الطهطاوى كان يعمد إلى الاتكاء على عنصر الإيجاز حيث كان يقدم بإيجاز شديد الدلالة الأساسية التى تشير إليها تلك الواحدة المحذوفة؛ فإذا كانت سيرة ابن هشام قد أفاضت في تقديم أخبار العرب قبل ميلاد الرسول ولذلك لتمجد شخصية الرسول (ص) بوصفه المثل الأعلى للبطولة العربية (54) فإن الطهطاوى قد حذف تلك الواحدة، وقدم في، إطار تناوله للإرهاصات بمولد النبى" ص"، تفسيرا سياسيا يثبت حاجة الجماعة العربية إلى رسالته. وإذا كان الطهطاوى قد بدأ سيرته بمولد النبى" ص" فإنه قدم نسبه بإيجاز مقارنة بسيرة ابن هشام (55) ، ومتفقا في هذا مع كتّاب النمط المختصر للسيرة كابن عبد البر وابن حزم. وتبدو تقنية الحذف والإيجاز بارزة في حذف الطهطاوى لمعظم أسانيد المرويات المختلفة من أخبار وأحاديث وحكايات واكتفائه دائما بالراوى الأوّل أو الأصلى لكل منها. ويلتقى الطهطاوى في ذلك مع كتّاب النمط المختصر من السيرة، كما يلتقى الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 39 مع كتب المختصرات في التراث السردى العربى الوسيط (56) . وتبرز تقنية الحذف فى استبعاد الطهطاوى لكثير من الأشعار- مقطوعات كانت أم قصائد- التى قدمها ابن هشام وغيره من كتاب النمط المطول من السيرة كابن سيد الناس، دون أن يمنعه هذا من توظيف الشعر وظائف مختلفة في سيرته. ويبدو أن تلك التقنية كانت تمارس فاعليتها في كتابة الطهطاوى اعتمادا على عنصر الحذف في عدد من المواضع التى كانت كتابات السيرة السابقة تستخدم فيها عناصر تشويق تدفع المتلقى إلى متابعة السرد؛ ففى سرده أخبار حفر عبد المطلب بئر زمزم حذف كل المرويات التى قدمتها السير السابقة، والتى جعلت من ذلك الفعل استجابة لرؤيا راها عبد المطلب (57) . كما تجلى النمط نفسه في حذفه لعدد من النبوات المرتبطة بوقائع غزوة بدر (وهذا ما سيتضح تفصيلا في فقرة تالية) . وإذا كان ارتكان الطهطاوى إلى تقنية الحذف والإيجاز يقرنه بطرائق كتابة الرواية التاريخية في مرحلته التاريخية- الأدبية فإن حضور تلك التقنية في كتابة الطهطاوى إنما كان يقترن بتغييبه تقنية الاستطراد، بينما يمثل حضور تقنية الاستطراد دالا على فعالياتها المختلفة عن فاعلية تقنية الحذف والإيجاز. (3/ 5) الاستطراد تقنية سردية محورية اعتمد عليها الطهطاوى في تشكيله لمتن السيرة النبوية، وتقوم تلك التقنية على تطرق الطهطاوى- والذى يمثل نمط الراوى المفارق لمرويه- إلى بعض الجوانب الفرعية التى تتصل بالوقائع أو الشخصيات أو المواقف التى يدور حولها السرد. ويقوم الاستطراد على تصور الراوى وجود صلة بين ما يحكيه وما يستطرد إليه، دون أن يتطلب السياق السردى الاتكاء على هذه الصلة فى الموضع الذى يبرز فيه الاستطراد. وتبدو الصلة واضحة بين هذه التقنية لدى الطهطاوى ومفهومها الذى استقر لدى كثير من النقاد والبلاغيين العرب؛ إذ تحدد الاستطراد لديهم بأنه (أن يأخذ المتكلم في معنى فبينا يمر فيه يأخذ في معنى اخر وقد جعل الأوّل سببا فيه) (58) مما يشير إلى أن الصلة الفكرية أو الشعورية بين المعنيين- والتى قد ترتد إلى التقاليد الجمالية والثقافية أو إلى إرادة المتكلم- هى الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 40 دافع المتكلم إلى الاستطراد. ولعل أهمية المعنى الأوّل الذى يحدث عنده أو منه الاستطراد هى التى دفعت بعض البلاغيين العرب القدامى إلى اشتراط أن يعود إليه المتكلم مرة أخرى بعد انتهاء استطراده (59) . وبقدر ما يمثل الاستطراد في متن الطهطاوى صورة من صور إيقاف السرد مما ينتج وقفات سردية كثيرة، فإنه دال يشير إلى الغايات الدفاعية والتعليمية التى أراد الطهطاوى تحقيقها لدى من توجه إليهم بمتن سيرته. وهناك نمطان من تقنية الاستطراد بارزان في سيرة الطهطاوى، ورغم أن ما يجمعهما هو الهدف التعليمى" العام" فإن ثانيهما يبدو فيه ذلك الهدف أكثر مباشرة، ولهذا يمكن وصفه بأنه استطراد تعليمى مباشر، بينما يمكن وصف أولهما بأنه استطراد سردى. ويتمثل نمط الاستطراد السردى في جنوح الطهطاوى الراوى إلى تقديم عدة أخبار أو وقائع تصور بعض سمات الشخصية التى يدور حولها السرد أو تقديم جزء من" تاريخ" الشخصية التى تسهم في الحدث. وتكشف معاينة السياقات التى برز فيها هذا النمط أن المنطق الكامن وراءه يتمثل- دائما- فى علاقات النسب أو الاتصال التى تربط بين الشخصيات التى يسرد الراوى عنها. وثمة نموذج دال على بروز هذه التقنية يتمثل في سرد الطهطاوى لواقعة زواج النبى (ص) من السيدة خديجة (60) حيث يقوم نمط هذه التقنية على قطع الخيط الأساسى لزمن الوقائع، والانتقال منه إلى زمن اخر أسبق تاريخيا، يضم وقائع أخرى ترتبط بالشخصية التى يدور حولها السرد؛ فإذا كان زمن واقعة الزواج ينتمى إلى ما قبل المبعث فإن بعض الوقائع التى يقدمها الطهطاوى تنتمى إلى الزمن نفسه، وبذلك يتحقق قدر من الاتساق في المسار الزمنى للوقائع المقدمة، بينما تنتمى وقائع أخرى إلى مرحلة ما بعد المبعث وبذلك تمثل- بمعنى أو باخر- استكمالا لبعض الجوانب التى تكمل صورة الشخصية التى يدور حولها السرد (أى شخصية السيدة خديجة) ، بينما يقوم السرد على نوع من الانتقال" الحر" بين المراحل الزمنية للوقائع المقدمة .... وتبرز فاعلية هذا النمط الاستطرادى في سرد تلك الواقعة على النحو التالى: يأخذ الطهطاوى في سرد حادثة زواج النبى (ص) بالسيدة خديجة (65- 66) ، الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 41 ثم في تقديم بعض الأخبار عن أولاده منها؛ فيشير بإيجاز إلى أبى القاسم (66- 67) ، ثم يتوقف عند زينب وزواجها بالعاص (67- 69) ، حيث يبدو ما يقدم عن العاص أكثر بكثير مما يقدم عن زينب، ثم يتحدث عن رقية (69) ، ثم عن أم كلثوم (69) ، ثم عن فاطمة (70) . وحينئذ تبرز تقنية السرد التعليمى الخالص التى يستخدمها الطهطاوى في تناول مسألة فضائل أهل البيت معتمدا على حشد تفسير بعض الايات القرانية، والاستشهاد ببعض الأحاديث النبوية، مضيفا إليهما شواهد شعرية مختلفة (ص- ص 70- 74) . واللافت أن الاستطرادين السردى والتعليمى يتماثلان في الطول ... ثم يعود الطهطاوى إلى سرد موجز عن بنات فاطمة (زينب وأم كلثوم ورقية) (ص 75) ، وينتقل منه إلى سرد وفاة السيدة خديجة وتقديم جوانب من حياتها قبل زواجها بالنبى (ص) (78- 79) ، ثم يتوقف مستطردا أمام مقولة بعض الصوفية عن أن (أربعة من النساء أنجبن أربعا من الأنبياء عليهم السلام فوجدن بذلك المغفرة) (ص 80) . ويتكرر هذا النمط الاستطرادى في تقديم الطهطاوى لعدد من الشخصيات منها: عبد المطلب، وفاطمة الزهراء، ثم حليمة السعدية التى يبدو أن تقنية الاستطراد السردى تتحول- عند تقديمها- إلى استطراد عكسى؛ إذ يبدأ الطهطاوى بتقديم بعض جوانب حياتها وسلوكها بعد الإسلام، ويتبع ذلك بتلخيص القصة المتواترة عن إرضاعها النبى (ص) (61) . إن ذلك النمط السردى يقوم، دائما، على تغييب زمن الوقائع المسرودة عن طريق تحرير الراوى من الالتزام بتنسيقها وضبطها في مسار زمنى قائم على تتابعها في زمن الحدوث. ومن اللافت أن ذلك التغييب الزمنى يبدو ظاهرة بارزة في كثير من كتب التراجم والطبقات في التراث السردى العربى (62) ، وكذلك في عدد من السير الغيرية التراثية كسيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزى وسيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم (ت 214 هـ) ؛ فبعد أن ضبط ابن عبد الحكم وقائع حياة عمر من بدايتها إلى توليه الخلافة أخذ يقدم العناصر السردية- كالأخبار والحكايات والقصص- وغير السردية- كالمواعظ والرسائل- دون حرص على ترتيبها أو العمل على إبراز الترابط الزمنى فيها (63) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 42 ولعل هذا ما يشير إلى قوة تأثير التراث السردى العربى في تقنيات كتابة الطهطاوى السيرة النبوية. وتمثل تقنية الاستطراد التعليمى المباشر تقنية متواترة بكثرة وفي مواضع مختلفة من نص الطهطاوى (64) ، وبقدر ما يمثل بروزها لديه تجديدا في نمط كتابة السيرة الموجزة أو المختصرة؛ إذ لم يلجأ إليه ابن عبد البر أو ابن حزم، فإن استخدامها يشير إلى متابعة الطهطاوى ما استقر في متون شرح السيرة النبوية من العروج إلى قضايا ومسائل دينية وأخلاقية وكلامية وتاريخية ولغوية وأدبية مختلفة يرى الشارح أنها ذات صلة بوقائع السيرة النبوية. ويختلف نمط هذه التقنية عن نمط تقنية الاستطراد السردى في كون الاستطراد السردى غالبا ما كان يقوم على صياغة الطهطاوى الوقائع بلغته هو (وإن استعان أيضا بالايات القرانية والأحاديث النبوية) ، بينما غلب على الاستطراد التعليمى المباشر أن يكون نقلا أو تلخيصا لمرويات وكتابات من مصادر سابقة على الطهطاوى، كان الطهطاوى يتصور أن ما قدمته مفيد للمتلقى الذى يتوجه إليه. وتتسم بعض نماذج هذه الاستطرادات بالطول حتّى أن الواحد منها قد يستغرق فصلا كاملا أو ما يقل عنه بقليل، على نحو ما يبدو في الاستطراد الخاص بمسألة الاحتفال بالمولد النبوى الذى يتمثل في مجموعة من النصوص المنقولة عن مصادر فقهية وتشريعية وغيرها (65) . ومن اللافت أن ذلك النموذج يمثل قطعا ممتدا ومطولا في مسار الوقائع التى يقدمها الراوى، كما يغيب فترة من حياة النبى (ص) ؛ إذ انتهى الطهطاوى في الفقرة السابقة عليه إلى قص وقائع حياة النبى حتّى بلوغه السادسة، بينما استأنف السرد- فى نهاية هذا الاستطراد- وقد صار عمر النبى (ص) ثلاثة عشرة عاما. وبذلك أدى الاستطراد إلى قطع يتمثل في إسقاط أخبار ووقائع عدة سنوات من طفولة النبى (ص) . وقد تكررت الظاهرة نفسها في سرد الطهطاوى لوقائع الهجرة إلى الحبشة (66) . وتشكل الاستطرادات المختلفة الناتجة عن حادثة الإسراء والمعراج نموذجا اخر دالا الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 43 على مهام تقنية الاستطراد التعليمى المباشر لدى الطهطاوى؛ فبينما لا يحتل سرد الطهطاوى لوقائع الإسراء والمعراج سوى مساحة محدودة تزيد قليلا عن الصفحة، ملتقيا في هذا مع ابن عبد البر وابن حزم (67) - فإنه يجنح إلى استطرادات مختلفة معظمها يدور حول مسائل كلامية ناتجة عن الإسراء والمعراج (68) وهى تمضى على النحو التالى: مسألة شق الصدر (125) ، ماء زمزم وأفضليته (126- 127) ، ضرورة الامتثال للأفعال التى أمرنا الله بها (129) ، كيفية الإسراء: هل كان بالروح والجسد أم بالروح فقط (130- 132) رؤية النبى (ص) لله (132- 140) ، ثم مسألة رؤية المؤمنين النبى في الدنيا وفي المنام (141- 144) ، ويتناول أخيرا مسألة المفاضلة بين الليل والنهار (144- 148) ، وليس غريبا أن تكون تلك المفاضلة قد نتجت عن كون الإسراء ليلا. ومن اللافت أن هذا النمط من الاستطراد قد تحول لدى الطهطاوى إلى وسيلة تجعل من بنية بعض الواحدات السردية الكبرى بنية قائمة على سرد وقائع هذه الواحدة، من ناحية، وتقديم استطرادات تعليمية تمثل قطعا متكررا لمسار تلك الوقائع، من ناحية أخرى. ويشكل سرد الطهطاوى لواحدة الهجرة نموذجا دالا على ذلك، حيث يراوح الطهطاوى بين قص الوقائع، وتقديم استطرادات تعليمية مباشرة يتصف معظمها بالطول (69) . ويبدو الاستطراد بنمطيه تقنية راسخة في بعض كتابات الطهطاوى غير الأدبية (70) ، واللافت أن الطهطاوى كان يدرك أن الاستطراد خصيصة متواترة في كتاباته التاريخية والأدبية، وكان يبرر اعتماده عليه بالغاية التعليمية التى تهدف إلى تبصير المتلقى؛ إذ يصف كتابه" أنوار توفيق الجليل" بأنه (اشتمل على ذكر الحنفاء والخلفاء والعلماء والسلاطين والأساطين والأمراء والوزراء، وجميع ما اقتضاه فن الاستطراد، وأوجبته المناسبة وحكم به الأسلوب الحكيم لبيان المرام والمراد) (71) . كما نص الطهطاوى- فى سرده لوقائع غزوة بدر- على بعض استطراداته. إن بروز الاستطراد تقنية أساسية في كتابة الطهطاوى السيرة النبوية دال يقرن الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 44 كتابته بتقاليد كتابة الرواية التعليمية والتاريخية (1870- 1914) حيث اعتمد كتابها دائما على تلك التقنية لتحقيق غايات تعليمية وإصلاحية تشبه غايات الطهطاوى. (4/ 5) أصلت كتابات السيرة النبوية السابقة على الطهطاوى ثلاثة تقاليد تتصل بتوظيف الشعر في إطار سرد السيرة، يتمثل أولها في الإكثار من تقديم الأشعار- مقطوعات كانت أم قصائد- فى إطار السرد، وهذا ما يتجلى لدى كتاب النمط المطول كابن هشام والواقدى؛ إذ اعتادوا تقديم كثير من المقطوعات الشعرية التى قالتها بعض الشخصيات المساهمة في الوقائع المسرودة، مما جعل منها وسيلة لاستكمال بعض جوانب هذه الوقائع أو تأكيد أو تدعيم جانب أو أكثر من جوانبها. بينما انفرد ابن هشام بتقديم عدد كبير من القصائد والمقطوعات التى قيلت في غزوات النبى (ص) بصفة خاصة، وكان يوردها بعد انتهائه من سرد الوقائع، وقد تابعه في ذلك ابن سيد الناس (72) . ويتمثل ثانى هذه التقاليد في تحجيم دور الشعر في سياقات سرد السيرة النبوية، ويبرز هذا التقليد لدى ابن عبد البر حيث اكتفى بإيراد اثنى عشر شاهدا شعريا يتراوح الواحد منها من بيت إلى سبعة أبيات، وقد وردت هذه الشواهد في سياق سرده للوقائع، ومعظمها منسوبة إلى شخصيات مشاركة في الوقائع مما يجعلها جزا من تلك الوقائع (73) . بينما يتمثل التقليد الثالث في الاستبعاد التام للشعر من دائرة سرد السيرة النبوية، ويبرز هذا التقليد لدى ابن حزم؛ إذ تخلو" جوامع السيرة" من الأشعار تماما وتقتصر على تقديم الأخبار والوقائع. ولقد كانت تلك التقاليد ماثلة أمام الطهطاوى والذى اختار متابعة التقليد السائد الذى يقرن السرد بالشعر، فاعتمد في صياغته السيرة على نماذج كثيرة من الأشعار، وندر أن يسرد وقائع دون أن يورد فيها أشعارا (74) ، ومع هذا فقد أبقى الطهطاوى قليلا من الأشعار التى وردت في سيرة ابن هشام، وأضاف إليها نماذج الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 45 كثيرة نقلها عن التالين لابن هشام، وغلب على الأشعار عنده أن تكون مقطوعات أو قصائد قصيرة، بينما ندرت لديه القصائد الطويلة (75) كما ندر تقديمه لأشعار من تأليفه هو (76) . وقد تنوعت وظائف الشعر في سرد الطهطاوى تبعا لاختلافات السياقات التى وردت فيها نماذجه؛ ففى بعض السياقات يبدو الشعر جزا متمما للواقعة التى يرويها الطهطاوى أو ينقلها عن السابقين، كما يبدو في الأبيات المنسوبة إلى أبى طالب عند موته، أو المقطوعة التى قيلت في غزوة بدر (77) . على حين يتحول الشعر- فى سياقات أخرى- إلى وسيلة لإثبات الفكرة التى يقدمها، أو بالأحرى، يناقشها الطهطاوى؛ فحين يشير إلى الخلاف حول إيمان عبد المطلب، ويرجح القول بأنه من أهل الفترة ينقل مقطوعة شعرية من خمسة أبيات تعبر عن الرأى الذى يتبناه هو (78) . ويجعل من المقطوعات الشعرية أحيانا وسيلة لشرح الفكرة؛ إذ يقدم فكرة ما فى السرد أو الوصف أولا، ثم يجعل من الشعر سبيلا لصياغة الفكرة وشرحها، على نحو ما يبرز في الشاهد التالى: (هل يجوز أن يكنى غيره صلىّ الله عليه وسلم بأبى القاسم أو لا؟ خلاف، وإليه أشار بعضهم بقوله: فالشافعى مطلقا لها منع فى كنية بقاسم خلف وقع على الحياة، والنواوى جعل ومالك جوز، والنهى حمل يمنع من سمى محمدا، فعى) (79) هذا هو الأقرب، أما الرافعى وتشير النماذج السابقة إلى أن بعض الأشعار التى قدمها الطهطاوى كانت تمثل إضافات إلى المتن السردى الذى صاغه، أو وسيلة لتقديم صياغة شعرية لبعض الأفكار التى ناقشها. غير أن توظيف الشعر، فى سياقات أخرى لدى الطهطاوى، يكشف عن تلك العلاقة الوثيقة التى ربطته بتقنية الاستطراد والتى هيمنت على كثير من المواضع السردية. إذ قد يجعل من الشعر- فى عدد من المواضع- وسيلة الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 46 لتقديم صياغة شعرية للفكرة التى قدمها في السرد (80) ، وإذا كانت الفكرة- بهذه الطريقة- تصاغ سردا وشعرا فإن النماذج الشعرية تنتمى إلى دائرة الشعر التعليمى الذى يقدم نظما لأفكار أو وقائع ليسهل حفظها وتردادها. ويبدو الشعر، فى مواضع أخرى، وسيلة لنظم الوقائع التى قدمها الطهطاوى سردا؛ فبعد أن سرد وقائع حياة النبى منذ مولده إلى كفالة عبد المطلب له، ثم وفاة عبد المطلب، قدم خمسة عشر بيتا للحافظ العراقى نظم فيها هذه الوقائع ذاتها (81) . وقد يجعل من الشعر وسيلة لتحقيق الاستطراد؛ فحين يشير إلى قصيدة أبى طالب في مدح النبى (ص) يذكر أنها تزيد على ثمانين بيتا، ويشير إلى أن ابن إسحاق ذكرها، ثم ينقل منها بيتا واحدا فقط، هو: وشق له اسمه ليجلهفذو العرش محمود وهذا محمد ثم يقول (وحسان بن ثابت ضمن شعره هذا البيت) ويأتى بمقطوعة له من ستة أبيات فيها البيت المضمن (82) . واللافت أن الشعر، لدى الطهطاوى، قد يكون وسيلة لتحقيق استطراد داخل الاستطراد؛ ففى بعض أنماط الاستطراد التعليمى المباشر يستطرد الطهطاوى من السرد أو الوصف إلى الشعر، ففى نهاية استطراده إلى مسألة المولد النبوى والاحتفال به يستطرد مرة أخرى إلى ذكر همزية عبد العزيز الزمزى، ومطلعها: أثغور منها الصباح أضاء أم بروق على النقا تتراءى ويستغرق هذا الاستطراد الشعرى سبع صفحات إلا قليلا (83) . كما يتكرر الاستطراد الشعرى داخل الاستطراد النثرى في مسألة المفاضلة بين الليل والنهار (84) . إن توظيف الشعر داخل متن سيرة الطهطاوى سواء لاستكمال بعض الوقائع، أو لإعادة صياغتها، أو لتحقيق صورة من صور الاستطراد يقرب كتابته من تقاليد استخدام الشعر لدى كتاب الرواية التاريخية والتعليمية (1870- 1914) الذين أكثروا من استخدام الشعر لتحقيق وظائف تتلاقى مع وظائفه في متن سيرة الطهطاوى (85) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 47 (5/ 5) تمثل صياغة الغزوات الكبرى- كبدر وأحد والخندق- دوال بارزة على الطرائق التى اعتمدها الطهطاوى في تشكيل الغزوة بوصفها واحدة سردية وسطى، وتتبدى فيها الفعاليات المختلفة لتقنيتى الإيجاز والحذف والاستطراد وتوظيف الشعر في إطار السرد، كما تبرز فيها الطريقة التى يعتمدها الكاتب الراوى لتنظيم الوقائع التى يقدمها، وهى طريقة تتضمن دلالات متعددة، وستكشف دراسة الواحدة السردية الوسطى عن هذه الجوانب جميعا، وذلك ما سيتحقق عبر المقارنة بين نص الطهطاوى ونصوص السابقين عليه من كتاب السيرة النبوية. وردت وقائع غزوة بدر عند كتاب السيرة المطولة كابن هشام، وكتاب المغازى كالواقدى، وكتاب النمط المشروح كابن سيد الناس، كما وردت لدى كتاب النمط المختصر كابن عبد البر وابن حزم، بينما وضعها الطهطاوى في إطار ظواهر السنة الثالثة للهجرة (86) ورغم ما يشير إليه ذلك من جعلها تابعة للإطار الزمنى المتمثل فى إفراد الحوادث وضمها إلى سنوات حدوثها، فإن ذلك لا ينفى أهمية هذه الواحدة فى إطار ذلك التقسيم الزمنى. إن كل كاتب من أولئك الكتاب يمكن وصفه بأنه الراوى الأساسى لأنه هو الذى يقوم باختيار الوقائع، واستبعاد بعضها، وإيجاز بعضها الاخر، ثم يقوم- فى النهاية- بعملية تنظيم المرويات المختلفة، وإن اختلفت- بطبيعة الحال- ماهية هذه العمليات لدى كل واحد من هؤلاء الرواة. ويبدو لدى كتاب النمط المطول اهتمام واضح بتقديم سلاسل الأسانيد التى نقلت المرويات، فالواقدى ساق، فى بداية كتابه، أسماء الرواة الذين نقل عنهم مغازيه قائلا إن كلّا منهم (قد حدثنى بطائفة، وبعضهم أوعى لحديثه من بعض، وغيرهم قد حدثنى أيضا فكتبت كل الذى حدثونى) (87) . ولذا بدأت معظم مروياته بعبارة" قالوا" إشارة إلى أن مضمونها أو متنها منقول عن هؤلاء الرواة أو معظمهم، بينما كان يتوقف في بداية خبر من الأخبار المفردة- التى تقدم جانبا مختلفا أو متناقضا مع الأخبار المنقولة عن مجموعة الرواة الذين نقل عنهم- ليقدم سلسلة الرواة الذين نقلوا هذا الخبر. على حين تبدو الأخبار عند ابن هشام متتابعة الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 48 ومسندة إلى رواتها، وتقدم الأخبار متوالية حتّى حين تتضمن معلومات متشابهة أو قريبة من التكرار. أما عند ابن سيد الناس فرغم اعتماده على مرويات ابن إسحاق فإنه قد أضاف إليها مرويات أخرى عن رواة اخرين أهمهم ابن عقبة، وهو يهتم بها حين تقدم إضافات أو تصحيحات لمرويات ابن إسحاق، وذلك ما يمكن وصفه بأنه عملية تقوم على الية التدقيق (88) . ولما كانت مرويات ابن إسحاق تشكل الخيط السردى الأساسى الذى يتابعه ابن سيد الناس فإنه كان حريصا دائما على استخدام عدد من التعبيرات والصيغ التى تشير إلى عودته إلى ذلك الخيط السردى الأساسى، مثل: " رجع إلى خبر ابن إسحاق" و" رجع إلى الخبر عن ابن إسحاق" و" رجع إلى خبر الأوّل" أى ابن إسحاق. أما كتاب النمط المختصر كابن عبد البر وابن حزم والطهطاوى فقد كانوا يختارون بعض المرويات ليشكلوا منها واحداتهم السردية، وقليلا ما كانوا يقدمون سلسلة أسانيد هذه المرويات، كما كانوا يميلون إلى الاكتفاء بالراوى الأوّل للخبر. وقبل سرد الوقائع حرص هؤلاء الرواة جميعا على تقليد يتمثل في تقديم مجموعة من الأوصاف التى حملتها هذه الغزوة أو تلك؛ فغزوة بدر هى" بدر الكبرى" و" بدر القتال"، ورغم" بساطة" هذا التقليد فإنه يكشف عن وظيفة من وظائف الراوى المفارق لمرويه حيث يسعى إلى تحديد الأهمية الاعتبارية للأبطال أو لبعض الوقائع (89) . ويمثل تقديم البداية الزمنية للوقائع نقطة مشتركة عند أولئك الرواة جميعا، فكل منهم جعل من علم النبى (ص) بأمر قافلة قريش وإرساله اثنين من المسلمين لتحسس أخبارها نقطة منشأ الوقائع، وإن اختلفت الكيفية التى قدمت بها نقطة البداية تلك؛ فبينما يشير ابن هشام إلى معرفة أبى سفيان قائد قافلة قريش بتصرف النبى (ص) ، فإن الواقدى يؤجل هذه الواقعة، ويأخذ في سرد تحرك المسلمين والنبى (ص) وانتقالهم من المدينة إلى بدر، ويحدد مختلف الأماكن التى مروا بها، ويتشابه ابن حزم معه في ذلك (90) ، وهذا ما يشير إلى ملمح متكرر لدى بعض رواة السيرة من حرص على تتبع الانتقالات المكانية المفصلة للوقائع، بينما الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 49 أعمل الطهطاوى تقنية الحذف؛ إذ لم يشر إلى الأماكن التى انتقل عبرها جيش النبى (ص) إلا مرة واحدة فقط (91) . وتبدو البنية السردية لنقطة البداية" السابقة" عند الواقدى قائمة على توالى الأخبار، ويشير الواقدى، دائما، إلى الأيام التى وقعت فيها الانتقالات المكانية، كما يقدم تفصيلات لبعض الجوانب الثانوية (92) . وتمثل رؤيا عائشة بنت عبد المطلب النقطة المحورية التالية في تحريك الوقائع وتوجيهها، وهى تقدم نبوءة ضمنية أولية بخسائر قريش. ويبدو حرص الواقدى وابن هشام على تقديم هذه الرؤيا مفصلة (93) ولكن الواقدى قدم، بعدها، بعض التفصيلات التى تصور جانبا من جوانب الصراع بين بنى هاشم وبنى أمية، كما قدم الواقدى عدة أخبار منسوبة إلى شخصيات قرشية مختلفة، يمثل كل خبر منها نبوءة بمصير قريش أو بعض رجالها، وأفاد الواقدى من هذه النبوات في تصوير دعوة بعض القرشيين إلى عدم الخروج لقتال محمد (ص) كما صور قيام بعض رجال قريش باستسقام الأقداح، فخرج النهى إليهم، لكنهم خالفوا ذلك (94) . إن النبوءة تقنية من التقنيات السردية التى تشير إلى مستقبل أو مصير بعض الشخصيات المهمة، ومن هنا لعبت دورا أساسيا في السير الشعبية العربية (95) ، وبها يحقق الراوى وظيفة الاستباق إذ يشير بها إلى أحداث ستقع (96) فيما بعد. إن راوى السيرة النبوية في نمطها المطول كان يتعامل دائما مع الواحدة السردية بوصفها إطارا عاما مرنا لا يقيد حريته في تقديم الأخبار التى تقدم بعض التفصيلات، أو الأخبار التى تمثل تكرارا لما قدمه من قبل، أو الأخبار التى تدعم منحى ضمنيا- تعبيريا أو أيديولوجيا- يعمل على تثبيته لدى المتلقى. وبقدر ما كانت تلك الحرية تفيد الراوى في تحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية المتصلة بالسياقات والقوى الاجتماعية التى كان يروى السيرة في إطارها- فإنه كانت تمنحه إمكانية تقديم بعض التفصيلات التى تهدف إلى إقناع المتلقى، من ناحية، وتشويق المتلقى وإثارة رغبته في تتبع الوقائع، من ناحية أخرى ... وذلك ما يبدو واضحا في سرد الواقدى وابن هشام للنقطة التالية لرؤيا عاتكة؛ إذ يقدمان الأخبار المختلفة عن سعى قريش- قبل خروجها إلى بدر- إلى إصلاح ما بينها وبين بنى الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 50 بكر، حينئذ يلجأ الراوى (الواقدى وابن هشام) إلى تصوير ظهور إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجى أحد زعماء بنى كنانة ليؤكد لقريش أن بنى بكر لن تهاجمها (97) . وذلك ما يدفع الراوى إلى التوقف عن سرد وقائع الغزوة ليعود إلى الماضى فيقدم تفاصيل الخلاف بين قريش وبنى بكر (98) . وبقدر ما يمثل ذلك التوقف قطعا لتقديم الوقائع فإنه يهدف إلى تفسير بعض الجوانب المرتبطة بقريش بوصفها طرفا من طرفى الصراع. إن محورية الدور الذى تؤديه الرؤيا في كثير من مواقف السيرة النبوية والسير الشعبية العربية هى التى تفسر سعى الراوى- فى إطار النمط المطول للسيرة النبوية إلى الإبقاء عليها في اللحظات تسبق حدوث الوقائع المهمة. وقد توقف الواقدى وابن هشام عند تقديم رؤيا جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب التى تمثل نبوءة بمصير عدد من القرشيين الذين سيقتلون في القتال (99) . وتلعب هذه الرؤيا دورا مزدوجا في تشكيل الأحداث؛ إذ ينكص بعض القرشيين عن الذهاب إلى بدر، بينما يزداد إصرار أبى جهل على القتال. وعلى مستوى تشكيل الوقائع يبدو الواقدى أكثر من ابن هشام ميلا إلى تقديم الحواريات- بينما يبدو ابن هشام ساعيا إلى ضغط هذه الحواريات أو حذف فقرات منها أو تقديمها سردا (100) . ومن الملاحظ أن الطهطاوى قد استبعد تماما تلك الرؤيا والأخبار التى سبقتها، ملتقيا في هذا مع ابن عبد البر وابن حزم. أما الوقائع الأساسية المرتبطة بأحداث الغزوة فهى: استشارة النبى أصحابه، واستطلاعه أخبار مسير قريش، ثم تحرك المسلمين لقتال قريش، ثم تشاور النبى (ص) مع أصحابه واقتراح الحباب بن المنذر مكان عسكرة جيش المسلمين، ثم وقائع القتال ونتائجه، ولا يختلف ترتيب هذه الوقائع" الأساسية" عند هؤلاء الرواة جميعا، وإن بدت بعض الطرائق التى استخدمها هذا الراوى أو ذاك ذات دلالة على منحاه في الصياغة والتشكيل. فبينما اعتمد السرد لدى ابن هشام والواقدى وابن سيد الناس على تقديم مجموعة من الأخبار المتوالية والمتعاقبة فإن اهتمام كل منهم بتقديم سلاسل أسانيد هذه الأخبار يجعل منها- أى من هذه السلاسل- وسيلة موجهة نحو تحديد كيفية للتلقى تقوم على تأكيد الفواصل بين المتلقى والوقائع التى تقدم له. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 51 وإذا كان ابن عبد البر وابن حزم قد قدما الوقائع ذاتها موجزة فإنهما قد اختلفا في اعتمادهما على الاستطرادات في تناولهما لبعض جوانب هذه الوقائع (101) . ورغم أن كتابة الطهطاوى تشترك معهما في انضوائها إلى النمط الموجز من كتابة السيرة النبوية فإن من اللافت أن صياغة الطهطاوى لهذه الوقائع تكشف عن بروز منحيين مختلفين لدى الطهطاوى؛ أولهما يعد إعادة صياغة وتشكيل للوقائع، بينما يعد ثانيهما بمثابة استطراد (102) . ويبرز المنحى الأوّل في سرد الطهطاوى الوقائع بلغته هو، وترتيبه الوقائع ترتيبا قائما على منطق السببية مما يدفعه إلى تقديم الوقائع على أساس تواليها الزمنى، من ناحية، ويتيح له من ناحية أخرى إمكانية تقديم أو تأخير بعض الأخبار التى قدمها الرواة السابقون ليضعها في سياق سببى مباشر (103) ، ويمكن أن توصف تلك العملية بأنها نوع من التركيب السياقى الذى يتمثل في إنشاء سياق سردى (يستلزم ترتيب مجموعة من الأحداث، بحيث تصبح هذه الأحداث سلسلة متتالية قابلة للفهم والتتبع) (104) وتحمل دلالة. ولعل تلك العملية كانت تتطلب الارتكان إلى الية الإيجاز والحذف، وقد ظهرت فاعليتها في حذف الطهطاوى لأسانيد المرويات التى كانت تشكل عائقا أمام" ضغط" السياق السردى وتركيزه، والإشارة الموجزة التى قدمها في نهاية صياغته الوقائع إلى أسماء عدد من شهداء المسلمين وقتلى قريش، مختلفا في هذا عن كتاب النمطين المطول والموجز للسيرة النبوية الذين حرصوا- فى نهاية سرد وقائع الغزوة- على تقديم قوائم كاملة بأسماء من أسهموا في الغزوة، وأسماء الشهداء وأسماء القتلى، واللافت أن هذه القوائم كانت تحتل دائما مساحة أكبر من المساحة أكبر من المساحة التى تحتلها وقائع الغزوة نفسها (105) . وبقدر ما أدت تقنية الحذف والإيجاز إلى مساعدة الطهطاوى على التركيز على سلسلة الوقائع الأساسية، فإنها لم تمنعه من الإشارة الموجزة إلى تعدد المرويات أو اختلافها حول هذا الجانب أو ذاك. ورغم صياغة الطهطاوى لوقائع الغزوة بلغته هو فإنه قد قدم، فى إطار ذلك، الايات القرانية المرتبطة بالغزوة، كما قدم أيضا عددا من المرويات الحوارية أو الحديثية كما هى. وتابع الطهطاوى تقليدا من تقاليد كتاب السيرة بنمطيها يتمثل في شرح أو تفسير بعض الكلمات أو أسماء الأماكن داخل المتن السردى (106) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 52 ويبرز المنحى الثانى في استخدام الطهطاوى لتقنية الاستطراد بنمطيها؛ وإن كان من الواضح أن نمط الاستطراد السردى قد أصبح عنده مرتبطا بتقديم حكايات موجزة، أو مطولة أحيانا، عن بعض قتلى أو أسرى بدر؛ كحكاية النضر بن علقمة وقتله بأمر النبى (ص) ، وحكاية عمر بن وهب الجمحى وصفوان أمية وهى منقولة عن ابن إسحاق، وحكاية أسر العباس بن عبد المطلب في بدر ثم إسلامه وهى تتضمن استطرادات أخرى عن زوجته وعن دعائه وإجابته، وحكاية نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب، وأخيرا حكاية إسلام عمرو بن العاص (107) . أما نمط الاستطراد التعليمى المباشر فيبدو أقل استخداما من النمط السردى، ويبرز في حديث الطهطاوى عن لون من الألوان البديعية يسمى غريب الاتفاق، وتناوله لمسألة الشهادة وأنواع الشهداء (108) . وتبدو وظائف الشعر داخل تلك الواحدة السردية متسقة مع وظائفه في إطار سيرة الطهطاوى؛ فبعض الأشعار كانت جزا من الأحداث أو متممة لحكاية من الحكايات، بينما كان بعضها الاخر بمثابة إعادة لما قيل سردا أو وصفا، فى حين أن بعض الأشعار قد سيقت بهدف تأكيد الفكرة، بينما مثلت بعض النماذج الشعرية استطرادا على الاستطراد السردى أو النثرى في كتابة الطهطاوى (109) . (6/ 5) تقضى دراسة عناصر التشكيل السردى للسيرة عند الطهطاوى- بداية من تنظيم الواحدات السردية الكبرى، واستخدام تقنيتى الإيجاز والحذف والاستطراد لتأدية وظائف مختلفة ترتبط بتقديم المواد السردية، وانتهاء بتوظيف الشعر في سياقات السرد، وكيفية بنية الواحدة السردية الوسطى- إلى الكشف عن تجليات التجديد في كتابة السيرة النبوية لدى الطهطاوى. فإذا كانت كتابة الطهطاوى قد انطلقت من التماس مع كتابة الرواية التاريخية والرواية التعليمية في مرحلة (1870- 1914) فإن هذا المنطلق هو الذى حدد للطهطاوى التجديد في تقاليد كتابة السيرة النبوية بوصفها نصا سرديا، وذلك ما حققه بإعادة تقديم السيرة في الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 53 شكل جديد يفيد من التقاليد الكتابية والصياغية المختلفة التى تجلت في أنماط كتابة السيرة النبوية السابقة عليه. وقد بدت في التشكيل السردى الذى قدمه الطهطاوى ملامح تماس" قوية" مع الرواية التاريخية المعاصرة له، سواء في الاعتماد على أحداث تاريخية، وحذف أسانيد المرويات، واستخدام تقنية الاستطراد لتؤدى وظائف تعليمية مباشرة أو غير مباشرة، أو توظيف الشعر داخل السياقات السردية المختلفة ليؤدى وظائف مماثلة لوظائفه في الرواية التاريخية المعاصرة له. وأما خاصية تنظيم الوقائع تنظيما قائما على منطق السببية، مع إعمال تقنية الحذف والإيجاز، والتى تبدت في صياغة الطهطاوى للواحدة السردية الوسطى الممثلة في الغزوة- فهى دال كاشف عن التماس الشديد بين التشكيل السردى لبعض واحدات السيرة عند الطهطاوى والرواية التاريخية المعاصرة له، بل إن سبق الطهطاوى لمعظم نماذج هذه الشكل الروائى- فى مرحلة (1870- 1914) - يشير إلى إمكانية النظر إلى كتابة الطهطاوى السيرة النبوية بوصفها فعلا إبداعيا مسهما بفاعلية في التمهيد للرواية التاريخية. وذلك ما يكشف عن جانب جديد من جوانب ريادة الطهطاوى في مجال كتابة أو تقديم الأشكال السردية الحديثة؛ إذ لا تقتصر ريادته- فى هذا المجال على كتابه" تخليص الإبريز" وترجمة" وقائع تليماك" أو عمله الصحافى الذى أسهم فيما يرى الن روجر- فى تطور الرواية العربية (110) ، بل تمتد أيضا إلى إعادة صياغة متن السيرة النبوية وجعله شكلا مسهما في التمهيد للرواية التاريخية. وبقدر ما يبدو في كتابة الطهطاوى السيرة من تماس مع الرواية التاريخية فإن ذلك التماس هو الذى يمكن أن يفسر" خفوت" تأثير الكتابات الغربية- والفرنسية تحديدا- عن النبى" ص" على كتابة الطهطاوى؛ فعند إقامة الطهطاوى فى باريس (1826- 1831) واتصاله بالثقافة والأدب الفرنسيين كان هناك خمسة عشر عملا فرنسيا تناول النبى" ص" سواء بكتابة سيرته، أو بتقديم وصف تاريخى له، أو بتقديم فهم جديد له يكشف عن رؤية جديدة له تخالف رؤية القرون الوسطى، واستلهام شخصيته في بعض الأعمال الإبداعية الكبرى (111) . ولا يبدو تأثير هذه الكتابات على كتابة الطهطاوى السيرة على الرغم مما يبدو في" أنوار الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 54 توفيق الجليل" من اتصال الطهطاوى بكتابات المستشرقين حول بعض جوانب الثقافة" الدينية" العربية (112) ، فلعل الطهطاوى لم يعن بما كتبه المستشرقون الفرنسيون السابقون عليه والمعاصرون له عن سيرة النبى" ص". لقد كانت كتابة الطهطاوى السيرة النبوية بصياغة تشكيلها السردى نابعة من الموقف الذى كان الطهطاوى يسعى إلى تأصيله لدى من توجه إليهم بها. (6) إذا كان درس التشكيل السردى للسيرة النبوية لدى الطهطاوى قد كشف عن جوانب التجديد في كتابته لها، فإن استنباط الموقف الذى تنطوى عليه تلك الكتابة سيفضى إلى إدراك مستويات الدلالة فيها، وهذا ما يتطلب الالتفات إلى أنماط المتلقين الذين تلقوا نص الطهطاوى، ودور الوسيط الثقافى الذى حمل كتابة الطهطاوى إليهم. تركزت في شخصية الرسول (ص) الصفات الأساسية التى شكلت مرتكزات البطولة لدى الجماعة العربية عبر عصورها المتوالية، وتلخصت هذه الصفات في (اتصال نسبه بما يثبت عروبته وشرفه وأهمية ابائه جميعا) (113) و (دفاعه عن مبدأ أو عقيدة، وأيا كان هذا المبدأ أو تلك العقيدة فلا بد أن تكون خيرة مؤمنة) (114) ، وتعضيد أفعاله بقوة (غيبية خارقة تثبت صحة ما يدافع عنه من مبدأ) (115) ، والاتساق بين أفعاله وأقواله التى تهدف إلى تحرير الإنسان، وإرساء قيمة العدالة، وتأسيس السلوك على قيم أخلاقية مثالية. ولعل هذا ما يفسر، من ناحية، بقاء سيرة الرسول (ص) طوال حياة المجتمع العربى، وتأثيرها في تشكيل نموذج البطل في السير الشعبية العربية، من ناحية أخرى، ولا ينفى انقطاع المصريين- قبل الطهطاوى بأربعة قرون عن كتابة السيرة النبوية- بقاءها حية وفاعلة في الوجدان الشعبى المصرى/ العربى. ومن هنا كانت كتابة الطهطاوى" نهاية الإيجاز" بمثابة إعادة تقديم النموذج البطولى الذى تعكسه شخصية الرسول (ص) ، ليجعل منه وسيلة مباشرة وضمنية في الان نفسه لنقل موقفه أو رسالته الإصلاحية إلى دوائر المتلقين الذين يتوجه إليهم. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 55 وتتمثل الدائرة الأولى في شرائح من المتعلمين والمثقفين الذين أنجبهم النظام التعليمى الذى أنشأه محمد على ودعمه إسماعيل فيما بعد، وقد كان الوسيط الثقافى الذى نقل" نهاية الإيجاز" إلى تلك الدائرة مؤسسة" جديدة" من مؤسسات إرساء التحديث وتثبيت التمدن؛ إذ أسهمت مجلة" روضة المدارس"- طوال سنوات صدورها (1870- 1877) - فى مسيرة التحديث سواء بتقديم العلوم الجديدة التى كان المجتمع المصرى يحتاجها، أو تقديم المعارف الجديدة التى ترتبط بمجالات التاريخ والفلسفة والاجتماع، أو بالإسهام في إعادة تشكيل بعض الأشكال الأدبية القديمة كالمقامة، أو بتشجيع الأشكال الأدبية الجديدة، ثم بمحاولة تطويع اللغة العربية لتصبح قادرة على الوفاء بالتعبير عن الأفكار والصيغ الفنية الجديدة (116) . وقد كان نشر" نهاية الإيجاز" فى" روضة المدارس" وسيلة لنقل الرسالة الإصلاحية التعليمية التى يتضمنها إلى فئات واسعة من المتلقين، وهذا ما تؤكده طريقة توزيع" روضة المدارس"؛ إذ (كان ديوان المدارس يرسل إلى المدارس بعض أعدادها ليشتريها المدرسون منبها إلى الحذر من عدم ارتداد أى نسخة من الروضة، ثم قرر الديوان أن يشتريها جميع الموظفين في المدارس، والمكاتب الأهلية ممن يزيد مرتبهم عن 250 قرشا في الشهر، وكان ديوان المدارس أيضا يرسل أعدادا من روضة المدارس إلى أعيان البلاد ليقوموا بتوزيعها) (117) . وأما الدائرة الثانية التى توجه إليها الطهطاوى بكتابته" نهاية الإيجاز"- بما تنطوى عليه من تقديم شخصية الرسول (ص) بوصفه النموذج البطولى العربى الإسلامى- فهى دائرة السلطة والحاكم، وهذا ما يحتاج إلى إضاءة موسعة تكشف عن تحولات علاقة الطهطاوى المثقف بالسلطة وتأثيرها في تحولات بعض أفكاره. إن الطهطاوى- كما وضعه غالى شكرى في إطار تصنيفه للمثقفين المصريين فى القرن التاسع عشر من منظور علاقة المثقف بالسلطة- يمثل نموذج" المثقف الشامل"؛ أى المثقف ذى الرؤية الشاملة الواعية بجوانب النهضة ووسائلها وغاياتها، وذلك في مقابل المثقف الداعية السياسى كعمر مكرم، والمثقف الخبير كعلى مبارك. وإذا كانت هذه الأنماط الثلاثة قد ولدت في رحم السلطة فإن الطهطاوى المثقف الشامل كان- فى صياغته" مشروع" (تحديث القوة الاجتماعية الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 56 والفكرية القادرة على إقامة مجتمع النهضة المتصل والمشارك في الحضارة الحديثة ( ... ) ينطلق أو يكفئ داخل مؤسسة الدولة، يتقاطع مشروعه ومشروعها ويتوازيان، ولكنه لا يخرج عن المؤسسة) (118) . وإذا كانت كتابات الطهطاوى التجديدية قد واكبت مساعى محمد على لتحديث المجتمع المصرى، فإن نفيه إلى السودان لمدة خمس سنوات (1850- 1854) فى عهد عباس الأوّل- الذى امتد ست سنوات فقط (1849- 1854) - قد جعل سلبيات الحكم المطلق والمستبد تتجسد بقوة في وعيه. فبعد أن كان الطهطاوى يستمد معرفته بتلك السلبيات من اتصاله بالفكر السياسى الأوروبى، أصبحت تجربة منفاه تجربة عيانية جسدت له تلك السلبيات. واللافت أن استبداد عباس الأوّل قد ارتبط بقضائه على كثير من المشروعات الإصلاحية- فى مجال التعليم خاصة- التى أسسها محمد على. وذلك ما كشف لرفاعة عن السلبيات الاجتماعية التى تتولد عن الاستبداد. وإذا كانت هناك أسباب مختلفة حول أسباب نفى رفاعة- أو على الأقل إبعاده- إلى السودان (119) فإن واحدا من أقواها يتمثل في (احتواء الطبعة الثانية من تخليص الإبريز عام 1849 على فقرات تنقد مبدأ الحكم المطلق) (120) . ولقد كان ذلك التحول في علاقة الطهطاوى بالسلطة الممثلة في الحاكم، وبروز سلبيات الحكم المطلق أمامه دافعا إلى ترجمته" وقائع تليماك"؛ إذ كانت هذه الترجمة وسيلة لنقد ذلك الحكم، وذلك بما تضمنته هذه الرواية من حواريات كثيرة يقوم فيها الحكيم منظور بتعليم تليماك طريقة تسيير الحكم على أساس من الحرية، ويكشف له عن خطورة الاستبداد وعواقبه الوخيمة. وعلى الرغم من أن علاقة الطهطاوى بإسماعيل- الذى تولى الحكم في الفترة من 1863- 1879- كانت" جيدة" فليس من المستبعد أن تكون كتابته" نهاية الإيجاز" بمثابة رسالة ضمنية إلى الحاكم، تقوم على تقديم صورة الرسول (ص) بوصفه نموذجا يجمع بين البطولة، من ناحية، والإصلاح من ناحية ثانية، والخلق المثالى من ناحية ثالثة ... وتعضد هذا" التأويل" مجموعة من الدوال التى تتبدى في كتابات الطهطاوى بعد المنفى بصفة خاصة. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 57 ويتصل أوّل هذه الدوال بما تكشف عنه قراءة" مناهج الألباب" (1869) مقارنة بتخليص الإبريز (1834) من بروز قيمة العدالة في الأوّل، بينما كانت قيمة الحرية هى السائدة والمسيطرة على خطاب الطهطاوى في الكتاب الثانى (121) . ويبدو حرص الطهطاوى على تقديم قيمة العدالة في" مناهج الألباب" قرين الكشف عن تعدد جوانبها؛ فهى- من ناحية- أسّ قيام المجتمع وبقائه واستمراره، أو هى- حسب وصف الطهطاوى- أساس التمدن، فالعدل هو (الأصل في سعادة الممالك) (122) ، وهى- من ناحية ثانية- الأساس الذى في ضوئه تقام قوانين توزيع السلطة داخل مؤسسة الحكم؛ إذ (لما كانت السياسة جسيمة لا يقوم بها واحد اختص الملك بمعالى الأحكام وكلياتها وخلع بعض نفوذه في جزئيات الأحكام على المحاكم والمجالس وجعل لهم لوائح وقوانين خصوصية ترشد أفعالهم ولا يتعدونها. قال بعضهم ليست في الدنيا جمعية منتظمة ولا مملكة معتدلة الأحكام إلا وتكون القوة فيها بالأصول العدلية، فالأصول العادلة تصون ناموس الدولة عن الملامة) (123) . بينما يجعل الطهطاوى العدالة- من ناحية ثالثة- حقا تاما من حقوق الرعية إذ إن (مأمورية العدل أوّل واجبات ولاة الأمور وهو وضع الأشياء في مواضعها، وإعطاء كل ذى حق حقه والإنصاف بميزان القوانين) (124) . وبقدر ما كان ذلك الدال الأوّل يقترن بسعى الطهطاوى إلى التأكيد على ترسيخ العدالة قيمة شاملة في تنظيمها المجتمع وتحديدها توزيع السلطة وكونها السمة التى ينبغى أن تحكم علاقة الحاكم برعيته- فإن الدال الثانى يتصل بالتصور الذى يطرحه الطهطاوى للعلاقة بين الكاتب أو المفكر والحاكم، ويكشف هذا الدال- عبر مجموعة من النصوص المنقولة التى" يجيد" الطهطاوى انتقاءها وتقديمها- عن إعلاء الطهطاوى لشأن الكاتب والمفكر على الحاكم، وهذا ما يتجلى في تكرار نقوله على شدة احتياج الحاكم إلى الكاتب والمفكر؛ فإذا كان (الكاتب مالك الملك يصرفه بقلم الإنشاء كيف يشاء) (125) فإن الكتاب هم (سياسة الملك وعماده وأركان السلطان وأطواده، بأقلامهم تبسط الأرزاق وتبيض الامال، وبها تصان المعاقل إذا عجزت عن الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 58 صونها الرجال) (126) . ويقرن الطهطاوى فعل الكتاب بالحكمة ورجاحة العقل؛ فبالكتابة (والكتّاب قامت الرياسة والسياسة وإليهم ألقى تدبير الأعنّة والأزمّة) (127) . ومن هذا المنظور الذى يعلى من فعل الكتابة كاشفا عن المهام الاجتماعية والسياسية التى يستطيع ذلك الفعل تحقيقها- احتفى الطهطاوى بمقولة ابن المقفع إن (الملوك أحوج إلى الكتّاب من الكتّاب إلى الملوك، ومن فضل الكتابة أن صاحب السيف يزاحم الكاتب في قلمه ولا يزاحمه الكاتب في سيفه) (128) . وإذا كان الطهطاوى قد قرن العدل بالتمدن، من ناحية، وجعل من الكاتب والحكيم مرشدا للحاكم وسائسا له من ناحية ثانية، فإن الدال الثالث الذى يتولد عن الدالين السابقين قد تبدى في سعى الطهطاوى- على ما يبدو بوضوح في" مناهج الألباب"- إلى تقديم أمثلة مختلفة من تاريخ مصر القديمة وغيرها من الدول تكشف عن انصياح الملك الحاكم للحكماء وعمله بنصائحهم ضمانا لبقاء الدولة وترسيخا للعدل (129) . وقد أسس ذلك الدال الثالث لدال رابع أنشأه الطهطاوى بقران وصل فيه بين عدالة الحاكم/ الملك من ناحية، ودور الرأى العام، من ناحية ثانية، ووظيفة التاريخ من ناحية ثالثة، فكشف ذلك القران عن صورة من الجدل بين عدالة الحاكم التى تتجلى في أفعاله، وتأثيرها في الرأى العام بوصفه متلقيا لهذه الأفعال، ودور التاريخ بوصفه وسيلة سردية تبقى ذكر الحاكم أو تخمله؛ فمما يحمل الملوك على العدل (ويحاسبهم محاسبة معنوية الرأى العمومى أى رأى عموم أهل مملكتهم أو ممالك غيرهم ممن جاورهم من الممالك ( ... ) ومما يحاسب الملوك أيضا على العدل والإحسان التاريخ، أى حكاية وقائعهم لمن بعدهم من ذراريهم وخلفهم من الأجيال التالية، فإن المؤرخ يذكر للأمة أخبار ملوكها فينتقل من العين إلى الأثر ومن البيان إلى الخبر فيثبت محاسن الملوك ومثالبهم لأعقابهم ليعتبروا) (130) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 59 ويتضام مع الدوال الأربعة السابقة دال خامس يتمثل- فيما لاحظناه من قبل- من تأكيد الطهطاوى إمكانية تعدد مستويات الدلالة في النص السردى، وما لاحظه بعض دارسيه من لجوئه إلى بعض طرائق التحفظ والتخفى لتقديم أفكاره الإصلاحية والنقدية (131) . إن تلك الدوال الخمسة السابقة تشير إلى أن" نهاية الإيجاز" بتقديمه صورة النبى (ص) بوصفه نموذجا للبطل العربى في صفاته المثالية أخلاقيا وإنسانيا وسلوكيا- إنما كان يمثل رسالة ضمنية إلى الحاكم، وهذا ما يكشف عن المستوى الثانى من مستويات تلقى نص الطهطاوى، أو إمكانات إرساله التى تتحقق على نحو رمزى. د. سامى سليمان أحمد الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 60 الهوامش (1) نعتمد على طبعة مكتبة الاداب الصادرة في عام 1990 بتحقيق عبد الرحمن حسن محمود وفاروق حامد بدر. (2) انظر مجلة روضة المدارس، السنة الرابعة، العدد العشرين (غاية شوال 1290 هـ) ص 350، الطبعة الثانية، دار الكتب المصرية 1998. (3) انظر: رفاعة رافع الطهطاوى: نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز، تحقيق عبد الرحمن حسن محمود وفاروق حامد بدر، مكتبة الاداب، 1990. (4) روضة المدارس، مرجع سابق، السنة الخامسة، العدد الثانى عشر، (غاية جمادى الثانية 1291 هـ) ص 530. (5) انظر: روضة المدارس، مرجع سابق، السنة الثالثة، العدد الرابع (غاية صفر 1289 هـ) ص- ص 44- 45. (6) للإحاطة بمسألة نشأة رواية السيرة النبوية وتدوينها، تنظر الكتابات التالية: دائرة المعارف الإسلامية، مادة السيرة، المجلد الثانى عشر، ص- ص 439- 458، طبع لجنة الترجمة، 1933. أحمد أمين: ضحى الإسلام، الجزء الثانى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص- 319- 339. محمد عبد الغنى حسن: التراجم والسير، دار المعارف، 1955، ص- ص 30- 34. مارسدن جونس: مقدمة تحقيقه لكتاب المغازى للواقدى، مطبعة جامعة أكسفورد، 1966، الجزء الأوّل، ص- ص 5- 35، ولا سيما ص- ص 19- 29. (7) انظر: محمد بن سعد: الطبقات الكبرى، طبع لجنة نشر الثقافة الإسلامية 1939، الأجزاء الأربعة الأولى. (8) عبد الملك بن هشام: سيرة النبى، صلى الله عليه وسلّم، حقق أصلها وضبط غرائبها، وعلق عليها محمد محيى الدين عبد الحميد، مكتبة محمد على صبيح 1971، الجزء الأوّل، ص 2. وقد ذكر ابن هشام في بقية نصه أن مما حذفه أشياء يسوء بعض الناس ذكرها، وأشياء أخرى لم يقر له البكائى بروايتها. (9) انظر: ابن سيد الناس (محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى اليعمرى) عيون الأثر في المغازى والشمائل والسير، دار الافاق الجديدة، بيروت 1977، الجزء الأوّل صفحات: 290، 293، 294، 295، 297، 298، 300، 309، حيث يقدم مجموعة من المرويات التى قدمها رواة اخرون- لا سيما ابن عقبة- عن وقائع غزوة بدر. وانظر ص 294 حيث يقدم خبرا يصحح به خبر ابن إسحاق عن عدد القرشيين الذين خرجوا للقتال في بدر. (10) مارسدن جونس: مقدمة تحقيقه لكتاب المغازى، مرجع سابق، ص 31. (11) انظر: ابن عبد البر (يوسف بن عبد البر النمرى) : الدرر في اختصار المغازى والسير، تحقيق د. شوقى ضيف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، 1995. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 61 - ابن حزم (أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد) : جوامع السيرة وخمس رسائل أخرى، تحقيق إحسان عباس وناصر الدين الأسد، دار المعارف،، 1956 (12) انظر: المقريزى (تقى الدين أحمد بن علي) : إمتاع الأسماع بما للنبى صلىّ الله عليه وسلّم من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع، تحقيق وتعليق محمد عبد الحميد النميسى، دار الأنصار، القاهرة، 1981. (13) عبد الله إبراهيم: السردية العربية: بحث في البنية السردية للموروث الحكائى العربى، الطبعة الثانية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000، ص 170. (14) عبد الله إبراهيم: المرجع السابق، ص 147. (15) عبد الحميد بورايو: المغازى لون من السير الشعبية العربية، مجلة الفنون الشعبية، عدد 51، إبريل- يونيه 1996، ص 37. (16) عبد الرحمن السهيلى: الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق وتعليق وشرح عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب الحديثة، القاهرة 1967، الجزء الأوّل ص 35، وانظر أيضا ص، 33 وانظر نموذجا في شرحه لغزوة بدر في الجزء الخامس من كتابه حيث قدم جزا من نص ابن هشام ص- ص 81- 115، ثم قدم شروحه وتعليقاته ص- ص 116- 144، ثم عاد إلى تقديم بقية نص ابن هشام ص- ص 145- 171، بينما قدم شروحه وتعليقاته عليه ص- ص 172- 201. (17) انظر: القاضى عياض (أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبى) : الشفا بتعريف حقوق المصطفى، جزان، تحقيق على محمد البجاوى، مطبعة عيسى الحلبى، القاهرة 1977. ويمكن أن يضاف إلى هذا النمط كتاب الوفا بأحوال المصطفى، الذى ألفه ابن الجوزى (أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزى) ، وهو يتشابه مع كتاب" الشفا" فى تناوله لموضوعات كثيرة، ويختلف عنه في أمور أهمها: حذفه أسانيد الأخبار، وذكر القليل من أشعار السيرة، وتناوله حوادث السيرة بإيجاز ودون تعليقات دائما. انظر: ابن الجوزى: الوفا بأحوال المصطفى، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار الكتب الحديثة، القاهرة 1966. (18) وصف على مبارك كتابه" علم الدين بأنه (اشتمل على جمل شتى من غرر الفوائد المتفرقة في كثير من الكتب العربية والإفرنجية في العلوم الشرعية والفنون الصناعية وأسرار الخليقة وغرائب المخلوقات وعجائب البر والبحر وما تقلب فيه نوع الإنسان من الأطوار والأدوار في الزمن الغابر، وما هو عليه في الوقت الحاضر وما طرأ عليه من تقدم وتقهقر وتكدر وراحة وهناء وبؤس وعناء إلى غير ذلك من الشئون بتقلب الدهور وتصرف الأمور مع الاستكثار من المقابلة والمقارنة بين أحواله وعاداته في الأوقات المتفاوتة والأنحاء المتباينة) ، على مبارك: علم الدين، الجزان الأوّل والثانى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1989، ص 8 من المقدمة. وقد رأى عبد المحسن طه بدر أن" علم الدين" (رواية تعليمية) وعلى هذا حلل العناصر الروائية فيه، انظر كتابه: تطور الرواية العربية الحديثة في مصر" 1870- 1938"، الطبعة الرابعة، دار المعارف، 1983، ص- ص 67-، 72 أما أحمد درويش فيرى أن على مبارك قد (وضع بذرة للرواية التعليمية في الأدب العربى المعاصر ممثلة في علم الدين) ، انظر كتابه تقنيات الفن القصصى عبر الراوى والحاكى، الشركة المصرية العالمية الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 62 للنشر، 1998، ص 127، ونشير إلى أن الاقتباس المذكور من فصل عنوانه (على مبارك: قراءة في علم الدين) ص- ص 123- 148. (19) نشير إلى أن القليل من روايات زيدان كان يتناول بعض أحداث العصر الجاهلى تمهيدا لتصوير التغير الذى أحدثه ظهور الإسلام في الشخصيات التى عاصرت الجاهلية وبداية الإسلام، على نحو ما يظهر في روايته" فتاة غسان" التى صدرت عام، 1898 (20) جميل نخلة المدور: حضارة الإسلام في دار السلام، الطبعة الثانية، مطبعة المؤيد، 1905، ص أمن المقدمة. (21) محمد يوسف نجم: القصة في الأدب العربى الحديث في لبنان حتّى الحرب العظمى، دار مصر للطباعة، 1952، ص، 178 وانظر أيضا: تطور الرواية العربية الحديثة، ص- ص 104- 106. (22) انظر: تطور الرواية العربية الحديثة ص 106، القصة في الأدب العربى الحديث ص 185، 192. (23) فى الجزء الأوّل من علم الدين تمضى المسامرات من المسامرة الحادية عشرة إلى الثامنة عشرة على النحو التالى: الخانات واللوكندات، النساء، البوستة، المكاتبة، الملاحة، التعلم والتعليم، البحر وعجائبه، ثم البراكين. واللافت أيضا أن بعض المسامرات تتألف من موضوعات مختلفة ولذلك كان مبارك يعطيها عنوانا دالا على ذلك، فالمسامرة العاشرة يسميها شتى، بينما يسمى المسامرة التاسعة عشرة" شذور"، مما يشير إلى تصوره أن واحدة الموضوع كانت تؤدى إلى اتصال المسامرة أو واحدتها. (24) تتبدى السمات المشار إليها في المتن في رواية" العباسة أخت الرشيد" بدا من العنوان الفرعى الذى يصفها بأنها (تشتمل على نكبة البرامكة وأسبابها، وما يتخلل ذلك من وصف مجالس الخلفاء العباسيين وملابسهم، ومواليهم، وحضارة دولتهم في عصر الرشيد) ، ومرورا بما أثبته المؤلف في الصفحة التالية لصفحة العنوان من قائمة المراجع التى اعتمد عليها. أما حبكة الرواية فتجمع بين حكايتين تصور أولاهما وقائع صعود البرامكة وسقوطهم عبر أحداث كثيرة، وتركز على علاقة جعفر البرمكى بالعباسة أخت الرشيد بوصفها حكاية تتضمن خيطا عاطفيا قويا، وحكاية أخرى تصور حب أبى العتاهية لعتبة جارية العباسة، وعبر استخدام تقنيات المصادفة والحيلة والمفاجأة- والصراع أحيانا تبدو الملامح التعليمية واضحة في: تقديم وصف تفصيلى لقصور بغداد وأسوارها (ص- 3- 4) ، ووصف تفصيلى لقصر الأمين وبستانه، وكذا قصر الرشيد (87- 88) ، ثم وصف قصر زبيدة (79- 80) . وصف جوانب الحياة الاجتماعية والحضارية لا سيما في قصور الخلفاء وعلية القوم؛ كوصف جوانب اللهو (57- 64) وموكب الرشيد (85) ووصف الرقيق وأصنافهن وطرق تربيتهن وإعدادهن لمتطلبات الحياة العباسية (23- 28) ، وظاهرة التمسك بالطالع (137- 138) ، وتصوير مجالس الرشيد في جده ولهوه (99- 104) ، ويبدو اهتمام المؤلف بالجوانب التاريخية في الموضوعات السابقة وفي وصفه للملامح الخارجية للشخصيات واضحا. تصوير أجواء التنافس السياسى في بلاط الحاكم- كما في تصوير الصراع بين الفضل بن الربيع والبرامكة، أو بدايات الصراع بين الأمين والمأمون، أو لجوء أفراد الطبقة الحاكمة إلى التجسس على بعضهم البعض. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 63 - الاتكاء على تقنية الاستطراد كما في الصفحات: 13، 21، 40، 41، 16- 17، وغيرها. ففى الموضع الأوّل، على سبيل المثال، ينتقل الراوى من الحديث عن بعض ملامح العباسة الخارجية إلى الحديث عن أوّل من اتخذت العصابة المكللة، بينما ينتقل في الموضع الثانى من تقديم الملامح الخارجية للفضل بن الربيع إلى الحديث عن أنواع الأمزجة وتأثيرها في السلوك، وهو ما يتكرر مرة أخرى ص 40، بينما تهدف بعض الاستطرادات إلى التأثير العاطفى في القارئ وتقديم بعض النصائح والحكم التى يستخلصها الراوى من الموقف، كما في كلام الراوى (16- 17) الذى يرد بعد وصفه لقاء العباسة بجعفر. (25) أحمد درويش: تقنيات الفن القصصى، ص- ص 140- 145 حيث يمثل لهذه الظاهرة بقصة يعقوب التى بدأت في المسامرة الثالثة والخمسين- والتى حملت عنوان" حكاية يعقوب"- وانتهت في المسامرة الثانية بعد المائة- والتى حملت عنوان" تتمة حكاية يعقوب"- وقد تخللت هذه القصة قصص أخرى كثيرة عن أحوال البحار وغابات افريقيا وحياة الكنسية والدير وغيرها، انظر: علم الدين الجزء الثانى ص- ص 651- 778، الجزء الثالث ص- ص 1153- 1252. (26) طه حسين: على هامش السيرة، الجزء الأوّل، الطبعة الثامنة عشرة، دار المعارف 1968، ص ك من المقدمة، حيث يقول طه حسين إنه قد منح نفسه (الحرية في رواية الأخبار واختراع الحديث ( ... ) إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبى، أو بنحو من أنحاء الدين) حينئذ كان يلتزم (ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث، ورجال الرواية وعلماء الدين) حيث كان يرد الأخبار إلى مصادرها الأولى. (27) انظر: جمال الدين الشيال: التاريخ والمؤرخون في مصر في القرن التاسع عشر، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2000، ص 80. (28) حول مواقف بعض المؤرخين العرب القدامى من العلاقة بين القصص والتاريخ، انظر دراسة ألفت كمال الروبى، الموقف من القص في تراثنا النقدى، مركز البحوث العربية، 1991، ص- ص 158- 168. (29) الطهطاوى: أنوار توفيق الجليل، تحقيق محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1974، ص 14 من المقدمة. وهو الجزء الثانى من الأعمال الكاملة وقد نشره عمارة تحت عنوان" تاريخ مصر والعرب قبل الإسلام". (30) الطهطاوى: المرجع السابق ص 13 من المقدمة. وانظر أيضا: الطهطاوى: مناهج الألباب المصرية في مباهج الاداب العصرية، مطبعة شركة الرغائب 1912، ص- ص 197- 198 حيث يعرض الطهطاوى أفكارا مماثلة لما قدمناه في المتن. (31) الطهطاوى: أنوار توفيق الجليل، ص 17. (32) الطهطاوى: المرجع السابق ص 17. (33) العبارات الأربع المنقولة في المتن هى عبارات الطهطاوى في: أنوار توفيق الجليل، ص- ص 9- 10. (34) حول تفاصيل هذه المواقف، انظر: ألفت كمال الروبى: الموقف من القص، مرجع سابق، ص- ص 59- 96. (35) الطهطاوى: مواقع الأفلاك في وقائع تليماك، المطبعة السورية، بيروت، 1867، ص- ص 2- 3 من المقدمة. ومن اللافت أن القصة عن الطهطاوى في" مناهج الألباب" قد اقترنت- كثيرا- بالقران الكريم، وقد كرر فيه عدة مرات الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 64 الإشارة إلى قصة يوسف، وربط بين القصص القرانى والعظة والعبرة، من ناحية، كما أخذ- من ناحية ثانية- يستنبط المعارف" التصورية والتصديقية" من قصة يوسف في القران، واللافت أيضا أنه قد أخذ يستنبط منها الدلالات الفكرية والتاريخية، انظر: مناهج الألباب المصرية في مباهج الاداب العصرية، ص- ص 181- 186. (36) الطهطاوى: المرجع السابق، ص 28. (37) الطهطاوى: مواقع الأفلاك، ص- ص 28- 29 من ديباجة الكتاب. (38) الطهطاوى: المرجع السابق، ص 24، وانظر أيضا ص- ص 23- 24 حيث يتحدث عن الأصل الأسطورى لتليماك. (39) الطهطاوى: مواقع الأفلاك، ص- ص 27- 28، ويشير الطهطاوى إلى أنه ينقل هذه الأخبار عن كتاب" حياة الحيوان" للدميرى. (40) الطهطاوى: المرجع السابق، ص 28. (41) من المؤكد أن حديث الطهطاوى عن تبنى المؤلفين الفرنسيين فكرة تعدد الالهة كإله الجمال وإله العشق وغيرهما وإن كانوا فيما يقول (لا يعتقدون ما يقولون، وإنما هذا من باب التمثيل ونحوه) - كان يسهم بطريقة غير مباشرة في تهيئة أذهان المتلقين المصريين لتقبل بعض الأنواع القديمة الحديثة في الأدب الأوربى والتى تبنى على أساس الأساطير، وأعنى المسرح أو التراجيديا بصفة خاصة، وهذا جانب يكشف عن ريادة الطهطاوى للتحديث، حتى في المجالات التى لم يعمل بها مباشرة وإن أتيحت له فرض الاحتكاك بها في باريس. (42) قرن الطهطاوى في مقدمته لمواقع الأفلاك بين تلك الرواية ومقامات الحريرى، كما أشرنا في المتن. أما في تلخيص الإبريز فقد ذكر عددا كبيرا من الكتب التى قرأها والمجالات التى اطلع عليها، وقد وردت ص 334 عبارة يقول فيها (وقرأت أيضا ( ...... ) كثيرا من المقامات الفرنساوية) . ويقول محمود فهى حجازى في تعليقه على هذه العبارة (استخدام الطهطاوى هنا كلمة المقامات الفرنساوية بمعنى القصص) . انظر تلخيص الإبريز في تلخيص باريس، دراسة وتعليق: محمود فهمى حجازى، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1974. (43) انظر الطهطاوى: تلخيص الإبريز، مرجع سابق، ص 333 حيث يحدد كتب التاريخ والسير التى قرأها في" بيت الأفندية" بباريس، ويصف أحدها بأنه (يتضمن قصصا وحكايات ونوادر) . وانظر ص- ص 484- 485 حيث يقدم محمود فهمى حجازى تعليقات وشروحا بالغة الأهمية حول هذه الكتب. (44) حول مفهوم الذوق عند الطهطاوى، انظر: عطية عامر: رفاعة الطهطاوى.. الناقد الأدبى، منشور ضمن كتاب" شوقى ضيف: سيرة وتحية، إشراف طه وادى، دار المعارف، 1992، ص- ص 347- 348 حيث يعرض لمعنى الذوق عند الطهطاوى. (45) شلوفسكى: بناء القصة القصيرة والرواية، ترجمة إبراهيم الخطيب، ضمن كتاب نظرية المنهج الشكلى (نصوص الشكلانيين الروائيين) ، مؤسسة الأبحاث العربية- بيروت، والشركة المغربية للناشرين المتحدين، 1982، ص 146. ونشير إلى أن كلمة" قصة قصيرة" هنا بمعنى حكاية أو واحدة سردية. (46) محمد القاضى: الخبر في الأدب العربى: دراسة في البنية السردية، طبع كلية الاداب- منوبة، تونس، ودار الغرب الإسلامى، بيروت، 1998، ص 366 الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 65 (47) انظر: ابن سيد الناس: عيون الأثر، مرجع سابق، الجزء الثانى، ص- ص 364- 417. (48) انظر: أبو الفرج بن الجوزى (عبد الرحمن بن علي بن محمد) : سيرة عمر بن الخطاب، عنى بضبطه وحل مشكله، وعرضه على كتب الحديث: طاهر النعسان الحموى وأحمد قدرى كيلانى، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، دون تاريخ. (49) محمد القاضى: الخبر في الأدب العربى، مرجع سابق، ص، 425. (50) انظر: جمال الدين الشيال؛ التاريخ والمؤرخون، مرجع سابق، ص 81، حسين فوزى النجار: رفاعة الطهطاوى، مرجع سابق، ص 143، أما كرابس جونيور فيرى أن هذا الجزء من كتاب الطهطاوى ... يمثل تقدما في التكنيك- أى تكنيك الكتابة التاريخية، ثم يرد ذلك إلى تأثر الطهطاوى بفولتير إذ يقول إن الطهطاوى قد استطاع (أن يضمن في دراسته دراسة مستفيضة عن المؤسسات الإسلامية المبكرة- وهى بدعة هامة في زمانه، ربما يكون قد أوحى له بها قرااته لتاريخ فولتير Voltaire عن لويس الرابع عشر، الذى حاز شهرة لهذا السبب بالتحديد) كتابة التاريخ في مصر في القرن التاسع عشر: دراسة في التحول الوطنى، ترجمة وتعليق عبد الوهاب بكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993، ص ص 111- 112. (51) انظر: أبو الحسن علي بن محمد الخزاعى التلمسانى: تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله صلىّ الله عليه وسلّم من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية، تحقيق أحمد محمد أبو سلامة، طبع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، 1980، وتقوم بنية هذا الكتاب على مجموعة من الأبواب التى، تنقسم بدورها إلى فصول، ويتناول المؤلف في كل فصل حرفة أو مهنة مما كان على عهد الرسول (ص) ، ويعد السرد عنصرا أساسيا من عناصر بنية الفصل في هذا الكتاب إذ كان الخزاعى يبدأ كل فصل بتقديم أسماء الشخصيات التى مارست هذه المهنة أو تلك، ثم يقدم مرويات ونقولا من مصادر مختلفة تؤكد ما ذكره أو وتثبته، ثم يتبع ذلك بتقديم (أنساب وأخبار) هذه الشخصيات، بينما يختم الفصل بتقديم بعض الشروح اللغوية التى تتصل بالمادة التى قدمها في الفصل. انظر- على سبيل المثال- الباب الخامس وعنوانه (فى ذكر الخادم) ، وهو يتكون من فصلين هما: (فى ذكر من تولى خدمة النبى" ص") و (فى ذكر أنسابهم وأخبارهم) ص- ص 54- 56. وقد لجأ الطهطاوى إلى إيجاز ما ورد في هذا الباب وأدمجه فى بابين اخرين (من أبواب الخزاعى) وقدمها في فصل واحد عنوانه (فى خدمه الخاصة به صلىّ الله عليه وسلّم) ، انظر: نهاية الإيجاز، الجزء الثالث، ص- ص 5- 16. (52) الطهطاوى: نهاية الإيجاز، الجزء الثانى، ص 329. (53) انظر: الطهطاوى: أنوار توفيق الجليل، ص- ص 657- 661. (54) انظر: نبيلة إبراهيم: السيرة النبوية بين التاريخ والخيال الشعبى، عالم الفكر، عدد مارس 1982، ص 335. (55) انظر: نهاية الإيجاز، ص- ص 2- 4. وقد أصلت السيرة النبوية مبدأ البدء بتقديم نسب البطل في كل السير الشعبية العربية، انظر: أحمد شمس الدين الحجاجى: مولد البطل في السيرة الشعبية، كتاب الهلال، العدد 484، إبريل 1991، ص 74. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 66 (56) حول حذف الأسانيد في مختصرات كتاب الأغانى مثل" تجريد الأغانى من ذكر المثالث والمثانى" لابن واصل الحموى (ت 679 هـ) و" مختار الأغانى في الأخبار والتهانى"، انظر: محمد القاضى: الخبر في الأدب العربى، مرجع سابق، ص، 335 ومن الملاحظ أن ابن الجوزى قد حذف الأسانيد في كتابه" الوفا بأحوال المصطفى" رغبة في الإيجاز وخوف إملال السماع، وهذا ما جعل الوقائع تحتل مساحة موجزة- انظر على سبيل المثال- تقديمه لغزوة بدر ص- ص 675، 682، من الجزء الأوّل. (57) انظر: الطهطاوى: نهاية الإيجاز، مرجع سابق ص، 22 وانظر: سيرة ابن هشام الجزء الأوّل، ص- ص 92- 93 ومن اللافت أن بعض الكتاب" العقلانيين" من الجيل التالى للطهطاوى قد تقبلوا هذه الرؤيا- كما نجد عند طه حسين ومحمد حسين هيكل، انظر: طه حسين: على هامش السيرة، مرجع سابق، ص- ص 3- 6، محمد حسين هيكل: حياة محمد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000، ص 116. (58) أحمد مطلوب: معجم النقد العربى القديم، الجزء الأوّل، دار الشئون الثقافية العامة، بغداد، 1989، ص 149، وهو يعالج مصطلح الاستطراد ص- ص 148- 153. (59) انظر أحمد مطلوب: المرجع السابق، ص 152. (60) انظر: الطهطاوى: نهاية الإيجاز، ص- ص 65- 80، وتجنبا لإطالة الهوامش سنشير إلى الصفحات داخل المتن. (61) انظر: نهاية الإيجاز، ص- ص 33- 34. (62) انظر: محمد القاضى: الخبر في الأدب العربى، مرجع سابق، ص- ص 425- 426، حيث يمثل لهذه الظاهرة بتراجم كتاب الأغانى. (63) انظر: أبو محمد عبد الله بن عبد الحكيم: سيرة عمر بن عبد العزيز، على ما روى الإمام مالك ابن أنس وأصحابه، نسخها وصححها وعلق عليها أحمد عبيد، الطبعة الأولى بنفقة المكتبة العربية، مصر ودمشق، 1927. وانظر: أيضا: سيرة عمر بن الخطاب لابن الجوزى، مرجع سابق، وانظر ملاحظاتنا عليها في الفقرة الخاصة بالواحدات السردية في متن هذه الدراسة. (64) انظر نماذج مختلفة لهذه الاستطرادات في المواضع التالية: ص- ص 33- 33 عن أبى لهب، ص- ص 42- 60 عن المولد النبوى، ص- ص 65- 83 تنتشر استطرادات مختلفة لا سيما ص- ص 70- 74، 80- 81، 81- 83 ص- ص 96- 118 حيث يسرد وقائع الهجرة إلى الحبشة، ص- ص 125- 148 استطرادات مختلفة مرتبطة بالإسراء والمعراج. أما في الجزء الثانى فينظر- على سبيل المثال- عرضه لوقائع الهجرة، ص- ص 16- 39، حيث تبرز فيه استطرادات مختلفة في الصفحات التالية: 21- 22، 30- 33، 36، 37- 39. (65) انظر: نهاية الإيجاز، ص- ص 42-، 64 (66) تناول الطهطاوى الهجرة إلى الحبشة ص- ص 96- 118، وقد مضت كتابته على النحو التالى: بدأ بالحديث عن أسباب هذه الهجرة وبدايتها ص 96، ثم عرض إسلام عمر بن الخطاب وما ترتب عليه ص- ص 97- 98، ثم لجأ إلى الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 67 قطع مطول للسرد حيث قدم واحدا من استطراداته التعليمية ناقش فيه مسألة" الغرانيق" ص- ص 98- 112، واللافت أن هذا الاستطراد قد قاده إلى تناول الصفات التى يجب توفرها في الأنبياء، والصفات التى يجب ألا يتصفوا بها، وذلك ما يشكل عرضا لمسائل كلامية صرف داخل الاستطراد التعليمى (ص- ص 109- 112) . وأعقب ذلك بتقديمه حكاية عثمان بن مظعون (ص- ص 113- 114) ، ثم عاد ثانية إلى مسألة الهجرة إلى الحبشة، ثم تناول مقاطعة قريش لبنى هاشم ومسألة الصحيفة (ص- ص 115- 116) ، ثم قدم أخبارا عن إسلام الطفيل بن عمرو الدوسى (ص 116) ، وإسلام عشرين من نصارى نجران (ص 117) ، ثم قدم حكاية نعمان بن عدى (ص- ص 117- 118) فيما يمثل اخر نماذج الاستطراد في تلك الفقرة. (67) انظر: نهاية الإيجاز ص- ص 123- 124، وقد حكى ابن عبد البر الإسراء والمعراج في خمسة أسطر فقط، انظر الدرر في اختصار المغازى والسير، مرجع سابق، ص، 69 بينما رواها ابن حزم في صفحة إلا قليلا،، انظر: جوامع السيرة، ص، 68 (68) انظر: نهاية الإيجاز، ص- ص 125- 148. (69) انظر: نهاية الإيجاز، ص- ص 16- 39، وتمضى فيها استطرادات الطهطاوى على هذا النحو: استطراد عن قول أبى بكر الشعر ص- ص 21- 22، استطراد عن مسألة الرسول والشعر ص- ص 30- 32، المفاضلة بين مكة والمدينة ص 36، ثم الفرق اليهودية والتوراة وأسفارها ص- ص 37- 39. (70) من اللافت ما يقوله" كرابس جونيور" بصدد كتاب" مناهج الألباب" من أن الفصل الأوّل منه (بلا رابط) وليس له (موضوع أساسى واضح أو غرض) وأن الطهطاوى فيه كان (ينقلب سريعا جيئة وذهابا من التفسير إلى الحديث إلى الشعر) . وفي موضع اخر يصف كتابة الطهطاوى هذا الكتاب بأنه (كان في الشكل شاردا ملأ عمله بالاستطراد وعدم التتبع) ، انظر: كتابة التاريخ في مصر في القرن التاسع عشر، مرجع سابق، ص 107، 114. (71) الطهطاوى: أنوار توفيق الجليل، مرجع سابق، ص 10. وقد ذكر الطهطاوى في مقدمته لتخليص الإبريز أنه قد دون فيه" رحلة صغيرة وقد وشحها (ببعض استطرادات نافعة) انظر: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، تحقيق وتعليق محمود فهمى حجازى، الهيئة العامة للكتاب، 1974، ص 141 (ص 3 من المقدمة) . (72) انظر: ابن هشام: السيرة النبوية، الجزء الثانى ص- ص 536- 557، ابن سيد الناس: عيون الأثر المجلد الأوّل ص- ص 344-، 349 (73) انظر ابن عبد البر: الدرر في اختصار المغازى والسير، مرجع سابق، صفحات 115، 120، 168، 169، 172- 173، 183، 212- 213، 238، 247 (74) انظر المواضع التى يرد فيها الشعر في الباب الأوّل- على سبيل المثال- فيما عدا الصفحات التى يتحدث فيها عن المولد النبوى (ص- ص 42- 63) ، وهى في الصفحات: 4 وفيها ثلاثة نماذج، 7، 8، وفيها نموذجان، 11، 15، 19، 20 وفيها نموذجان، 21، 26، 27 نموذجان، 29 وفيها ثلاثة نماذج، 32، 33، وفيها نموذجان، 34، 35، 36، 37، 39، 40- 41، 67، 72، وفيها ثلاثة نماذج، 73- 74، 77، 78، 81، وفيها ثلاثة نماذج أيضا. وأما المواضع التى الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 68 تخلو من الأشعار فهى: الفصل الخاص برحلة الرسول (ص) إلى الطائف، فى الباب الثانى، والفصل الثالث من الباب الثانى ص- ص 40- 42. (75) من المواضع التى أورد فيها الطهطاوى قصائد طويلة: فى مدح السيدة عائشة وذكر فضلها أورد قصيدة كمال الدين ابن العديم، وهى تتكون من خمسين بيتا، ص- ص 305- 307 من الجزء الثانى. وفي مسألة الاحتفال بالمولد النبوى أورد قصيدة لعبد العزيز الزمزمى، تقع في سبع صفحات إلا قليلا ص- ص 57- 63. (76) الشاهد الوحيد الذى قدمه الطهطاوى من أشعاره هى القصيدة التى عبر فيها حبه أهل البيت ومدحهم، ص- ص 73 74. (77) انظر: نهاية الإيجاز، ص 15، 60. (78) انظر: نهاية الإيجاز ص 21، وانظر نموذجا اخر ص 32. (79) نهاية الإيجاز، ص- ص 66- 67. (80) انظر الصفحات التالية في" نهاية الإيجاز": ص 4 حيث يقدم ثلاثة أبيات لأبى طالب في مدح النبى والفخر به. ص 7 حيث يقدم جزا من قصيدة لابن سيد الناس يحصى فيها ما وافق أسماء النبى من أسماء الله الحسنى. ص- ص 38- 39 حيث يسرد عن واقعة شق صدر النبى (ص) ثم يقدم مقطوعة من ستة أبيات تصف المواضع الثلاث التى تم فيها ذلك. ص 132 حيث يعرض أشعارا في مسألة الإسراء، وهل كان الروح والجسد أم بالروح فقط، وذلك بعد أن ناقش المسألة. (81) انظر: نهاية الإيجاز، ص- ص 40- 41. (82) انظر: نهاية الإيجاز ص 29، وانظر أيضا نموذجا اخر ص 33، حيث يحكى الطهطاوى واقعة تحقق نبوءة النبى (ص) لعتيبة زوج ابنته أم كلثوم، ثم يقدم بيتا أشار فيه حسان بن ثابت إلى هذه الواقعة. (83) انظر نهاية الإيجاز ص- ص 57- 63. (84) انظر: نهاية الإيجاز، ص- ص 57- 63 وانظر أيضا، ص: 140، 145، 147-، 148 (85) حول تواتر هذه الظاهرة في روايات مرحلة النشأة، انظر: محمد يوسف نجم: القصة في الأدب العربى الحديث، مرجع سابق، ص، 202 إبراهيم السعافين: تطور الرواية العربية الحديثة في بلاد الشام (1870- 1967) ، وزارة الإعلام العراقية، 1980، ص- ص 94- 95، ص 109،، 118 (86) انظر وقائع بدر عن هؤلاء المؤلفين على النحو التالى: ابن هشام: السيرة النبوية، الجزء الثانى، ص- ص 440-، 557 الواقدى: المغازى، الجزء الأوّل، ص- ص 19-، 171 ابن سيد الناس: عيون الأثر، الجزء الأوّل، ص- ص 290-، 349 الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 69 - ابن عبد البر: الدرر في اختصار المغازى والسير، ص- ص 110-، 138 ابن حزم: جوامع السيرة، ص- ص 107-، 154 الطهطاوى: نهاية الإيجاز، الجزء الثانى ص- ص 51-، 77 (87) الواقدى: المغازى، ص، 2 (88) انظر: محمد القاضى: الخبر في الأدب العربى، مرجع سابق، ص 503، حيث يتناول التدقيق بوصفه أسلوبا من أساليب تفخيم الأخبار ويعرفه على النحو التالى (كثيرا ما يرد الخبر مجملا في مرحلة أولى ثم يرد بعد ذلك وقد ألحقت به تفاصيل تشرح غوامضه أو تضيف إليه جزئيات لم تكن فيه أصلا) ، وهو يقدم ص- ص 503- 507 أمثلة لفاعلية هذا الأسلوب في صياغة الأخبار في كتاب" الأغانى". (89) انظر: عبد الله إبراهيم: السردية العربية، مرجع سابق ص، 114 (90) انظر: الواقدى: المغازى، ص- ص 20- 27، وانظر: ابن حزم: جوامع السيرة، ص- ص 110-، 111 (91) انظر: الطهطاوى: نهاية الإيجاز، ص، 53 (92) انظر: الواقدى: المغازى، ص 24 حيث يحدد أسماء بعض الصحابة الذين كانوا يتعاقبون على الإبل في مسير المسلمين نحو بدر. (93) انظر: الواقدى: المغازى 1/ 29- 31، وابن هشام: السيرة النبوية 2/ 441-، 442 (94) انظر: الواقدى: المغازى 1/ 33-، 37 (95) حول دور النبوءة في السير الشعبية العربية، انظر دراستى أحمد شمس الدين الحجاجى: النبوءة أو قدر البطل في السيرة الشعبية، الهيئة العامة لقصور الثقافة،، 1994 مولد البطل في السيرة الشعبية، مرجع سابق، فصل النبوءة. (96) انظر: عبد الله إبراهيم: السردية العربية، مرجع سابق، ص، 165 (97) انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 2/ 445، والواقدى: المغازى 1/ 38. (98) انظر: ابن هشام: السيرة النبوية 2/ 443- 444، الواقدى: المغازى 1/ 38- 39. (99) انظر: الواقدى: المغازى 1/ 42، ابن هشام: السيرة النبوية 2/، 450 (100) انظر الوقائع التى يقدمها الواقدى ص- ص 41- 42، وقارنها بما يقدمه ابن هشام ص، 450 (101) انظر، على سبيل المثال، جوامع السيرة ص- ص 108- 109 حيث يبدو ابن حزم مهتما بتتبع تفاصيل الانتقال المكانى لجيش المسلمين، ص- ص 110- 111 حيث يقدم خبرا عن كيفية تعرف أبى سفيان على جيش المسلمين. (102) من اللافت أن المنحى الأوّل يبرز في الصفحات 51- 62، بينما يتبدى المنحى الثانى في الصفحات 63- 77 (103) المثال الواضح لذلك يبدو في إعادة وضع الطهطاوى لخبر اشتراك الملائكة في بدر؛ فبينما قدم ابن إسحاق مرويات مختلفة عن اشتراك الملائكة في القتال إلى جانب المسلمين في بدر- فى نهاية سرده لوقائع القتال- فإن الطهطاوى قد قدم مضمون هذه المرويات في إطار سرده للحظات التى سبقت القتال، فكان ذلك سبيلا لتحبيك السرد. انظر: ابن هشام 2/ 462- 463، الطهطاوى ص 57 الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 70 (104) سيزا قاسم: الخطاب التاريخى من التقييد إلى الإرسال: قراءة في الطبرى والمسعودى وابن خالدون، ضمن كتاب: الأدب العربى: تعبيره عن الواحدة والتنوع، إشراف عبد المنعم تليمة، مركز دراسات الواحدة العربية، بيروت 1987، ص- ص 149-، 150 (105) انظر: الطهطاوى: نهاية الإيجاز، ص 62، وانظر: ابن عبد البر: الدرر في اختصار المغازى والسير ص- ص 117- 138، حيث يقدم الفصول التالية: تسمية من استشهد ببدر من المسلمين 117، تسمية من قتل ببدر من كفار قريش 118- 119، تسمية من أسر ببدر من كفار قريش 119- 121، تسمية من شهد بدرا من الأنصار 125- 128، تسمية من شهد بدرا من الخزرج 129- 138 بينما يعرض وقائع بدر ص- ص 110، - 116 أما ابن حزم فقد عرض الوقائع ص- ص 107- 114، ثم قدم الأسماء في ثلاث فقرات فقط على النحو التالى: تسمية من شهد بدرا من المسلمين رضى الله عنهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم 114- 146، ذكر شهداء بدر رضوان الله عليهم أجمعين 146- 147، ثم ذكر من قتل من المشركين يوم بدر 147- 152، بينما عرض الوقائع ص- ص 107- 114، انظر: جوامع السيرة. والملاحظ أن ابن حزم كان يذكر أسماء المشاهير فقط، وكان يقسم الأسماء تبعا لانتما اتها إلى بطون قريش، كما ذكر الأسرى في إطار حديثه عن قتلى المشركين. (106) انظر: نهاية الإيجاز، ص 52، 53 (107) انظر: نهاية الإيجاز، ص- ص 63- 73 (108) انظر: نهاية الإيجاز ص- ص 74- 77 (109) انظر: الأشعار الواردة في غزوة بدر في نهاية الإيجاز في الصفحات التالية: 60، 63، 69، 74، 62، 64 حيث تبدو نماذج الوظائف التى أشرنا إليها في المتن، وقد رتبنا ذكر صفحات الشواهد تبعا لترتيب وظائف الأشعار المذكور في متن الدراسة. (110) انظر: Roger, Allen:The Beginnings of the Arabic Novel, In:Modern Arabic Literature, edit- ed by M.M.Badawi, Cambridge University Press, 2991, P.381. (111) حول هذه الكتابات، انظر مادة" محمد" فى: The Encyclopaedia of Islam, New Edition, V.VII, edited by:Gibb, Hamilton AIexan- der, Leiden- New YorK 3991, P- P 063- 783. وقد ورد الحديث عن الكتابات الحديثة لسيرة النبى (ص) ص- ص 382- 384 تحت عنوان " النصوص التى قدمت رؤية أقل تحيزا"، كما قدمت قائمة بالمؤلفات الفرنسية حول النبى، ص- ص 383- 384، ولعل جدة هذه الكتابات أنها قدمت رؤية" منصفة" للنبى تختلف عن رؤية كتاب القرون الوسطى الذين غلب عليهم تقديم رؤية" سلبية"، لمزيد من التفصيل حول هذه الرؤية وأسبابها يمكن مراجعة الفصل الأوّل من الدراسة التالية. Buaben, Jabal, Muhammad:Image of the prophet Muhammad in the west:A studyof الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 71 Muir, Margoliouth and watt, published by the Islamic foundation, Markfield Dawah cen- tre, printed in Great Britain, 1996, P- P 3- 20. (112) انظر الطهطاوى: أنوار توفيق الجليل، ص 655، حيث يشير إلى موقف المستشرقين من الإعجاز والمشابه والمحكم في القران، حيث يقول إنهم يعدون ذلك (من المعايب) ويصفهم بشدة التعنت في ذلك. (113) فاروق خورشيد: فى الرواية العربية: عصر التجميع، الطبعة الثالثة، دار الشروق، بيروت- القاهرة- 1982، ص 187. (114) فاروق خورشيد: المرجع السابق، ص 187. (115) فاروق خورشيد: المرجع نفسه، ص 187، وانظر أيضا ص- ص 184- 185، 188 (116) حول دور مجلة روضة المدارس في النهضة الحديثة يمكن مراجعة الدراسة التالية: عبد العزيز الدسوقى ومحمد عبد الغنى حسن: روضة المدارس: نشأتها واتجاهاتها الأدبية والعلمية، دراسة نقدية تحليلية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975 (117) مرفيت الطرابيشى: رفاعة الطهطاوى رائد الصحافة العربية، ضمن كتاب رفاعة الطهطاوى رائد التنوير، طبع الهيئة العامة لقصور الثقافة 1993، ص، 295. (118) غالى شكرى: المثقفون والسلطة في مصر، الطبعة الأولى، أخبار اليوم، 1991 ص 63، وانظر ص- ص 45- 72، حيث يحدد أنماط هؤلاء المثقفين. (119) انظر: محمود متولى: عصر رفاعة، ضمن كتاب: رفاعة الطهطاوى رائد التنوير، مرجع سابق، ص- ص 24- 25، حيث يعرض الأسباب المختلفة وراء نفى رفاعة إلى السودان، وإن كان يرجح أن سبب النفى (هو أن رفاعة كان يؤيد المصرية الكاملة بينما كان عباس ومن حوله يؤيد تبعية مصر للعثمانيين) . (120) جاك كرابس جونيور: كتابة التاريخ في مصر في القرن التاسع عشر، مرجع سابق، ص 103. (121) حول ما طرحه الطهطاوى عن الحرية في تخليص الإبريز، انظر دراسة عزت قرنى: العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة، سلسلة عالم المعرفة العدد 30، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والاداب، الكويت، يونيه 1980، ص- ص 36- 59. (122) رفاعة الطهطاوى: مناهج الألباب المصرية ص، 180 (123) رفاعة الطهطاوى: مناهج الألباب ص، 353 (124) رفاعة الطهطاوى: مناهج الألباب ص، 356 (125) رفاعة الطهطاوى: مناهج الألباب ص، 167 (126) المرجع السابق، ص 167. (127) نفس المرجع والصفحة. (128) الطهطاوى: مناهج الألباب، ص 168. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 72 (129) انظر: الطهطاوى: مناهج الألباب ص 178 حيث يقول (كانت حكماء مصر تذكر الملوك دائما بالحقوق والواجبات وتحثهم على التمسك بالفضائل الملوكية وتلعن من يصرفهم عنها من بطانة السوء وأهل النفاق، وكانت الملوك في تلك الأوقات يشتغلون بمطالعة الحكم والاداب والمواعظ والتواريخ وكل ما يرشد إلى العدل والاستقامة) . وانظر أيضا ص- ص 197- 198 حيث يكشف عن تأثير قص التاريخ على الإسكندر الأكبر. (130) الطهطاوى: مناهج الألباب، ص- ص 355-، 356 (131) انظر: العدالة والحرية- مرجع سابق، ص 26، حيث يشير عزت قرنى إلى اتخاذ الطهطاوى أساليب التحفظ في" تلخيص الإبريز" وهو بصدد الحديث عن الإفادة من الأفكار الأوروبية. وانظر أيضا: جاك كرابس جونيور، كتابة التاريخ في مصر في القرن التاسع عشر؛ مرجع سابق، ص 107 حيث يصف الفصل الأوّل من" مناهج الألباب" باللا ترابط بسبب انتقال الطهطاوى في حديثه من (التفسير إلى الحديث إلى الشعر) ، ويصف هذا بأنه (محاولة معتدلة عارضة لتقديم تبرير دينى لبعض الأفكار الجديدة التى يقترحها أو يقدمها فيما بعد في الكتاب) ، ثم يعود جونيور في هامش رقم 46، ص 120 إلى القول إنه (يحتمل أن الفصل الأوّل استخدم كستارة دخان لتجنب اعتراضات المتحفظين الدينيين) . الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 73 مقدمة الناشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. والصلاة والسلام على الطيّب المطيّب الذي أرسله الله رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا، وجعل سيرته العطرة خالدة أبد الدهر إلى يوم الدين. ويعد.. فإن تاريخ الأمم هو تراثها الماضى الذى تستمد منه الإلهام والثقة في حاضرها، وتستشرف به مستقبلها؛ مقتفية الأثر، متجنبة الزلل، اخذة بالمثل العليا. وما تاريخ الأمم إلا تاريخ رجالها الخالدين الذين غيّروا بأعمالهم وجه التاريخ وتركوا بصمات واضحة على جبين الإنسانية. والرسل هم أعظم العظماء؛ بهم استنارت القلوب والعقول؛ بلّغوا رسالات السماء، وأخرجوا الإنسانية من ظلمات الجهل والجاهلية، وأرسوا أسس حضارات متميزة. مجدوا الفضيلة، وكانوا حربا على الرذيلة، ونادوا بارتقاء الإنسان عن الحيوانية، ورسموا له أسس حياة إنسانية راقية. وسير الأنبياء والرسل، وقصصهم- من ادم عليه الصلاة والسلام إلى نبينا صلّى الله عليه وسلّم- فنّ إلهي تربوي، ورد في التوراة والإنجيل [قبل تبديلهما] ، وفي القران الكريم: بما أورده من سيرهم عظة وعبرة نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ [يوسف: 3] ، ولا تكاد تخلو سورة من سور القران من سيرة رسول أو نبي، بل سميت سور بأسماء رسل وهى على ترتيبها في المصحف: يونس (10) ، وهود (11) ، ويوسف (12) ، وإبراهيم (15) ، وطه (20) ، ويس (36) ، ومحمد (47) ، ونوح (71) ، عليهم أفضل الصلاة والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم هو خاتم الأنبياء ومتمّم رسالاتهم، وإنّا- وإن كان عليه الصلاة والسلام قد نهانا عن المفاضلة بين الأنبياء حتّى لا ننتقص من قدر أحدهم- نراه بلا مراء أعظمهم أثرا في تاريخ الإنسانية بما أرساه من مفاهيم وقيم روحية وعملية وأخلاق ومبادئ كانت أساسا لحقبة جديدة في طور الرقى الإنساني. لذا كانت السيرة النبوية الشريفة أشرف وأطرف العلوم الإنسانية، وكان لها مكان الصدارة من علوم الدين؛ ذلك أن الإسلام رسالة ورسول يبلغها، وسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم رسول ورسالة بعث بها إذ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3، 4] فارتبط تدوين السيرة المحمدية بسائر العلوم الدينية؛ من تفسير لاى الذكر الحكيم وعلم حديث وفقه وأصول دين وغيرها، أخذا وعطاء. وللسيرة النبوية مصدران أساسيان: القران الكريم بما أورد من إشارات لبعض الأحداث النبوية، والحديث الشريف الذى ليس إلا مواقف نبوية إن قولا أو فعلا أو تقريرا، ثم تأتى مصادر أخرى- فرعية- هى اثار الصحابة ورواياتهم، ثم روايات غيرهم بعد تمحيصها وتدقيقها. والمؤرخ للسيرة النبوية حين يشرع فيها يجمع شوارد هذه السيرة في ترتيب تاريخى معيّن في إطار العصر وأحداثه. وللسيرة النبوية جوانب عديدة؛ فهي إلى جانب كونها تاريخ رجل: طفولته وصباه، وشبابه ورجولته إلى وفاته، فهى تاريخ عصر عاشه صلّى الله عليه وسلّم، وتاريخ رجال صحبوه واخرين عادوه؛ ففيها منهاج حياة في السلم والحرب، وهى حياته الخاصة في بيته مع نسائه التى علّمت الناس أصول العشرة واداب البيوت، وهى سيرة عشرته مع أصحابه وذويه التى علمت الناس أصول الصحبة والإخاء والمودة، وهى نظام اجتماعى متين: الأسرة نواته والتكافل رباطه، وهى نظام اقتصادى لا ضرر فيه ولا ضرار الخ ... لذلك فإن من كتب من العلماء والحفّاظ في فن السيرة والتأريخ للنبى صلّى الله عليه وسلّم لم يستطيعوا الإحاطة بشتّى جوانبها على كثرتهم ولم يوفوه حقه صلّى الله عليه وسلّم. فإنّ فضل رسول الله ليس له ... حدّ فيعرب عنه ناطق بفم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وكتابنا هذا الذى نقدم له «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز» زهرة من الزهور اليانعة في بستان السيرة المحمدية. يمتاز بالأصالة وغزارة المادة العلمية وعمق الفكرة، صيغت بلسان عربى ويراع يعرف كيف يعبر عن فكره، وينقله فى يسر ووضوح إلى القاريء. والكتاب في جملته يراعى الترتيب الزمنى المعهود في كتب السيرة السابقة عليه: بدا بمولده حتّى وفاته صلّى الله عليه وسلّم، ويضيف فصولا عن نظم الدولة الحديثة التى أرساها الإسلام وهو باب مستحدث لم يوفه السابقون عن المؤلف- رحمه الله- حقّه. والمؤلف يستخدم المنهج العلمى في دراسته؛ فإذا ما تعرّض لحادثة عجيبة أو حدث تاريخى مختلف عليه، أو مسألة فقهية عرضت له في سرده، أخذ القاريء في سياحة طريفة، ووافاه من علمه الغزير بما يحيط بالمسألة ويجليها؛ إذ يقلّبها على وجوهها، ويشرك القاريء معه في التوصل إلى اقتناع عقلى يميط اللبس ويجلى الحق. ومؤلف الكتاب عالم جليل من أبناء مصر؛ «السيد رفاعة الطهطاوى» [شريف حسيني] ينتسب إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن طريق الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبى طالب من فاطمة الزهراء رضى الله عنهم، وذلك من جهة أبيه، أما أخواله فمن الأنصار. وهو [عالم أزهرى جليل] تعلّم في الأزهر على كبار العلماء، ومنهم الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر. [وهو خطيب وإمام فصيح] ، وهو [إمام النهضة العلمية في مصر] كما وصفه الأمير عمر طوسون رحمه الله، فهو الذى نقل العلوم الحديثة إلى مصر بما ترجم من مؤلفات وما بث فى تلاميذه من روح العلم في شتّى فروع المعرفة، من: هندسة وجغرافيا وأدب وطب وعلوم حربية الخ. وهو إلى جانب ذلك كله [ذو شمائل فاضلة] فهو ذكى الفؤاد، متوقد الذهن، حديدى الإرادة، طيب الخلق. وسوف تطّلع بنفسك أيها القاريء الكريم على حسن تعبيره ودقة معانيه مما لا يتوفّر إلا [لأديب مطبوع] . وسوف يعرض لك محققا الكتاب ترجمة له تنبئك بالخبر تفصيلا بعد إيجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 [عملنا في هذا الكتاب] طبعنا هذا الكتاب عن طبعة طبعت عام 1291 هـ بمطبعة المعارف الملكية «نظارة قلم الروضة والمطبوعات» بمصر. . ولقد تولى تحقيق هذه الطبعة وإخراجها على هذه الصورة الأستاذان الجليلان: عبد الرحمن حسن محمود، وفاروق حامد بدر، جزاهما الله خيرا عما أسدياه للمكتبة الإسلامية من خدمات جليلة توّجاها بعملهما الطيب الذى سوف يحكم عليه القارئ بنفسه. فلقد تصدى [الأستاذ عبد الرحمن حسن] لشرح بعض غامض الكلام، وتخريج ما يحتاج إلى تخريج من الحديث الشريف، والرّد ما أمكن على بعض المسائل التى تحتاج إلى رد. وقد تصدى أيضا لتصحيح الأخطاء العديدة التى كانت بالطبعة التى راجعنا عليها، وهي أخطاء نعتقد أنها مطبعية لا يسأل عنها الشيخ رفاعة، فمن أغرب ما صحّح من هذه الأخطاء- وهى عديدة- عنوان فيه: «وهجرته إلى الحبشة وإلى الطائف» والمعروف أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لم يهاجر إلى الحبشة، وإنما الصحيح «وهجرة المسلمين إلى الحبشة وخروجه إلى الطائف» . ولوضع الأمور في نصابها نقول: إن الشيخ رحمه الله توفى عام 1290 هـ، والكتاب طبع في عام 1291 هـ، ومن هنا نعرف أن الشيخ رحمه الله لم يتمكن من مراجعته، كما أشار ابنه إلى هذا في نهاية الطبعة الأولى، وحتّى لو فرض أنها كتبت بيده الكريمة فإنها من باب السهو و «جلّ من لا يسهو» . [أما الأستاذ فاروق بدر] فقد تصدى للناحية التاريخية من العمل بدا بإعداد ترجمة وافية للمؤلف في إطار عصره. كما أضاف بعض المعلومات التاريخية الهامة التي قد يكون أغفلها المؤلف. وعلّق على بعض الأحداث التاريخية التى ذكرت دون أن تستوضح. وعنى كذلك بعمل خرائط للمواضع والبلدان والغزوات التى تدور في إطارها السيرة، وكذلك بعض الجداول الإيضاحية. وكلّ ما نرجو أن نكون قد وفّينا السيرة الشريفة بعض حقها علينا، وأن ينفع الله بهذا العمل. اللهم صلّ علي سيدنا محمد، وغفر الله للمؤلف، وسدّد خطانا ووفقنا إلى ما فيه خير البلاد والعباد. محمد عبده وأحمد عبده ابنا على حسن مكتبة الاداب غرة المحرم 1403 هـ- 18 أكتوبر 1982 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ترجمة المؤلف هو السيد/ رفاعه بن بدوى بن علي بن محمد ابن علي بن رافع، وهو شريف حسينى يتصل نسبه بالرسول عليه الصلاة والسلام عن طريق محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن فاطمة الزهراء، أما أخواله فمن الأنصار. ولد رفاعة الطهطاوى سنة (1216 هـ/ 1801 م) وهى السنة التى غادرت فيها حملة «نابليون بونابرت» مصر. ولد في بلدة طهطا، إحدى قرى مديرية سوهاج في صعيد مصر. ولد رفاعه لأبوين كانا على قدر من اليسار لم يلبث أن زال بسبب سحب والي مصر محمد علي باشا ما كان بأيدى العلماء والأشراف من الالتزامات. وقد دفعت الضائقة المالية أباه إلى ترك بلدته بحثا عن الرزق، وصاحب رفاعة أباه في هذه الجولة من قنا إلى جرجا، ثم عاد إلى طهطا بعد وفاة والده. وهناك تعهده أخواله، فحفظ القران الكريم، وكتب المتون العلمية التى كانت معروفة يومئذ على يد نفر من أقاربه العلماء. وفي سنة 1232 هـ/ 1817 م وفد رفاعة إلى الأزهر يطلب العلم، وسنّه إذ ذاك تناهز السادسة عشرة سنة، واتصل منذ دخل الأزهر بشيخه الشيخ حسن العطار الذى احتضن تلميذه واختصه بمزيد من الرعاية لما أنسه فيه من الذكاء وحب العلم. ولم تطل المدة بالفتى رفاعة في طلب العلم حتّى تخرّج في الأزهر (فى مدة لا تتجاوز الستة أعوام) ، ثم عمل سنتين بعد التخرج مدرسا في الأزهر، قام خلالها بتدريس كتب كثيرة في بعض العلوم الأزهرية، مثل الحديث، والمنطق، والبيان، والبديع، والعروض، وغيرها. وكان شيخا سلس الحديث، واضح العبارة، يفهم دروسه الكبير والصغير بلا مشقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وفي عام 1240 هـ/ 1824 م عين الشيخ رفاعة الطهطاوى واعظا وإماما لإحدى فرق الجيش المصرى النظامي، الذى كوّنه والى مصر «محمد علي باشا» ، فأدى مهمته على أكمل وجه. لكن الشيخ رفاعة لم يمكث في الجيش إلا فترة قصيرة، إذ عند ما قرر محمد علي أن يوفد عددا من شباب مصر إلى باريس سنة 1241 هـ/ 1826 م زيّن الشيخ حسن العطار للوالى أن يجعل لهؤلاء المبعوثين إماما يذكّرهم بالدين ويعظهم ويرشدهم، ويؤمهم في الصلاة، وأن يكون هذا الإمام هو الشيخ رفاعة الطهطاوي. سافر الشيخ رفاعة إلى باريس إماما للبعثة، وبدأ في تعلم اللغة الفرنسية، وأقبل على دراسة العلوم المقررة على طلاب البعثة بأكثر مما أقبل عليها طلاب البعثة أنفسهم. وكان تعمّق الشيخ رفاعة في دراسة اللغة العربية وإتقانها بالأزهر سببا في أن وجّهه المشرفون علي البعثة لإتقان اللغة الفرنسية ودراسة فن الترجمة، حتى يستطيع أن يؤدى نصيبه في النهضة العلمية والحركة الفكرية متى عاد إلى مصر، وذلك بترجمة العلوم المختلفة التى كان الوطن في أشد الحاجة إلى ترجمتها. ولما كان فن الترجمة يحتاج من المترجم إلى معرفة بالعلوم التى سيترجمها من لغة إلى أخرى، نظمت للشيخ رفاعة دراسات في مختلف الفنون والعلوم، فقرأ كثيرا من كتب الهندسة، والرياضة، والعلوم، والتاريخ، والجغرافيا، والاجتماع، والعلوم العسكرية، والقانون وغيرها، وتمرّن على الترجمة، فقام بترجمة بعض الكتب الصغيرة، وبعض الفصول من الكتب الكبيرة التي أتمّ ترجمتها بعد عودته إلى مصر. انتهز الشيخ فرصة وجوده في باريس، فأمعن النظر في كل ما راه، وتغلغل فى الحياة الفرنسية من جميع نواحيها، فعرف ما هو الدستور، وما هى الانتخابات، وعرف المدارس الفرنسية، ومجامع العلماء في باريس وأثرها في الحياة الفكرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وتكلّم عن المكتبات وأثرها في هذه الحياة، كما انتقد الفرنسيين في كثير من أخلاقهم، وعوائدهم، وعقائدهم التى لم يكن يقرها. * وبعد خمس سنوات قضاها الشيخ رفاعة في باريس عاد إلى مصر سنة 1246 هـ 1831 م حيث استقبله المصريون أحسن استقبال. عين الشيخ رفاعة بعد عودته إلى مصر مترجما بمدرسة الطب، وكان أوّل مصرى يعيّن مترجما بهذه المدرسة، وقام خلال هذه الفترة بمراجعة كتاب «التوضيح لألفاظ التشريح، في الطب البيطري. ثم نقل رفاعة الطهطاوى سنة 1249 هـ 1833 م مترجما بمدرسة الطوبجية (المدفعية) بطره، وفيها قام بترجمة بعض الكتب الهندسية والجغرافية اللازمة للمدرسة وغيرها من المدارس الحربية، فأتمّ ترجمة كتاب «مباديء الهندسة» الذى طبع في بولاق سنة 1833 م. ولما كان رفاعة الطهطاوى يعشق علمي: الجغرافيا والتاريخ، منذ كان يتلقى العلم في باريس، فقد بدأ بترجمة كتاب خاص أسماه «التقريبات الشافعية لمريد الجغرافية» وطبعه عام 1834 م، كما طبع كتابين ترجمهما في باريس هما «المعادن النافعة» و «قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر» . وفي أواخر سنة 1250 هـ/ 1834 م تقدم رفاعة لأولى الأمر باقتراح يتلخص في أن يؤذن له بافتتاح مدرسة للترجمة تعلّم فيها الألسن الشرقية والغربية وبعض المواد المساعدة كالتاريخ والجغرافيا، والرياضة، ليقوم خريجوها بترجمة الكتب في العلوم المختلفة. وأنشئت المدرسة سنة 1834، وكان مقرها «سراى الدفتردار» بحى الأزبكية، وكانت تسمى أوّل الأمر «مدرسة الترجمة» ثم صارت «مدرسة الألسن» . وكان الغرض من إنشائها تخريج مترجمين لمصالح الحكومة. ثم اتجهت إلى أن يكوّن من خريجيها قلم يعرف «بقلم الترجمة» ، ثم استقر علي أن يكون هدفها إعداد المترجمين والمدرسين، وإمداد المدارس الخصوصية (العالية) بتلاميذ يعرفون اللغة الفرنسية، وكان رفاعة مديرا لهذه المدرسة، ويقوم بالتدريس فيها. أما في مجال الصحافة فكان لرفاعة الطهطاوى دور بارز؛ ففى عام 1842 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 صدر قرار رسمى عن ديوان المدارس، بتعيين رفاعة الطهطاوى رئيسا لتحرير صحيفة «الوقائع المصرية» وتضمّن هذا القرار دستورا جديدا لهذه الصحيفة، من المحقق أن رفاعة الطهطاوى اشترك بنفسه في وضع مواده، ثم تولى تنفيذ ذلك بطريقة كان لها الفضل كل الفضل في تنظيم الوقائع تنظيما جديدا، والدخول بها فى طور اخر من أطوار حياتها الطويلة المجيدة. وخليق بنا أن نشير إلى بعض الإصلاحات التي أدخلها الطهطاوي، ومنها: 1- لاحظ أن هذه الصحيفة تكتب باللغتين العربية والتركية، غير أن التركية كانت تحتل اليمين من الصحيفة، بينما العربية تحتل الناحية اليسري، وحين أشرف على الوقائع أصر على أن تكون العربية ناحية اليمين والتركية ناحية اليسار. 2- لاحظ الطهطاوى أن مواد الصحيفة تكتب أولا بالتركية ثم تترجم بعد ذلك إلى العربية، فإذا كان الأصل التركى سقيما في ذاته فأخلق بالترجمة العربية أن تكون ركيكة سقيمة كذلك. ولذلك وجدنا الطهطاوى يحتم على الصحيفة أن تقدم المواد كلها بالعربية أولا، ثم لا بأس من أن تترجم هذه المواد إلى التركية بعد ذلك. 3- عنى الطهطاوى في صحيفة الوقائع عناية خاصة بالأخبار المصرية مقدما إياها على الأخبار الخارجية. وفي سنة 1849 تولى عباس الأوّل حكم مصر، وكان رجعيا ضيق الأفق، فأصدر أوامره بإغلاق المدارس الخصوصية، وكانت مدرسة الألسن أوّل مدرسة ألغيت. ولم يقنع عباس بذلك، بل أمر بإنشاء مدرسة ابتدائية بالخرطوم، وأن يتولى تأسيسها رفاعة الطهطاوي. ورغم شعور رفاعة بالأسى لإحساسه بأنه منفي، رغم ذلك قام بواجبه في مدرسة الخرطوم خير قيام، وشغل وقته بترجمة قصة «تليماك» لمؤلفها «فنلون» ، وقد طبعت هذه الترجمة بعد ذلك في بيروت، بعنوان «مواقع الأفلاك في وقائع تليماك» كما عني بتكوين جيل من مثقفى السودان بثّ فيهم روح العلم والمعرفة، وكانوا نواة نهضة علمية مماثلة لتلك التى عرفتها مصر على يديه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وفي عهد سعيد عاد السيد رفاعة إلى مصر، وكانت له جهود علمية في ميادين أخرى في عهدى سعيد وإسماعيل، أهمها تعيينه وكيلا للمدرسة الحربية تحت نظارة سليمان باشا الفرنساوي، إذ اتجه الرأى يومئذ إلى أن تكون هذه المدرسة نواة لمدرسة جديدة تحتفظ من المدرسة الأولى بصفتها العسكرية، ويتجه التعليم فيها وجهة مدنية بالإكثار من دراسة اللغات والعلوم الأدبية والرياضيات، إلى جانب التعليم العسكري. أنشئت المدرسة بالقلعة سنة 1856 م، وعيّن رفاعة رئيسا لها، فأقبل على عمله الجديد بهمة قويه، يريد أن يجدد بذلك عهد مدرسته القديمة (مدرسة الألسن) . كما أشرف رفاعة على قلم الترجمة الذى أنشيء في عهد إسماعيل، وقام بترجمة مجموعة من القوانين الفرنسية- بالاشتراك مع نفر من تلاميذه- غير أن نشاط رفاعة توقف مرة أخرى بإلغاء المدرسة الحربية بالقلعة سنة 1861 م. واستدعى رفاعة في عهد إسماعيل ليتولى إصدار صحيفة جديدة ينفق عليها ديوان المدارس، وأطلق على هذه الصحيفة «روضة المدارس» . وصدر العدد الأوّل منها في شهر إبريل سنة 1870، وكانت تصدر مرتين كل شهر، وكانت هذه المجلة تقصر عنايتها على أخبار الطلبة والامتحانات، ومن أهدافها النهوض باللغة العربية، ونشر المعارف الإنسانية، فلم تكن روضة المدارس مجلة سياسية، بل كانت مجلة علمية وأدبية. وفي النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وضع رفاعة جلّ مؤلفاته، ومنها «مباهج الألباب المصرية ومناهج الألباب العصرية» ، و «المرشد الأمين في تربية البنات والبنين» ، و «التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية» وغيرها. وإذا كانت جهود رفاعة الطهطاوى في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر موجّهة لترجمة الكتب التاريخية لتزويد المكتبة العربية بمجموعة من الكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 المعرّبة، تغطى تاريخ العالم بقدر الإمكان، إلا أننا نجده في النصف الثانى من القرن التاسع عشر خطا خطوة جديدة، وبدأ يؤلف في التاريخ، وفي تاريخ مصر بوجه خاص. ورغم أن الشيخ رفاعة لم يدرك ثورات المصريين ضد الحملة الفرنسية، إذ ولد في نفس السنة التي غادرت فيها الحملة مصر، لكنه سمع عنها الكثير، وقرأ عنها في كتاب الجبرتى «عجائب الاثار» ، وكذلك قرأ الكثير عن الثورة الفرنسية أثناء دراسته في باريس، وقرأ كثيرا من مؤلفات الكتّاب الفرنسيين الذين مهدوا لقيام الثورة الفرنسية، أمثال «روسو» و «فولتير» و «منتسكيو» ، وشهد ثورة فرنسا سنة 1830 م، وترجم الدستور الفرنسى الذى وضعه لويس التاسع عشر. لذلك كله اتجه رفاعة- عند ما بدأ التأليف في التاريخ- اتجاها قوميا، ووضع لنفسه خطة ترمى إلى وضع مؤلّف ضخم في تاريخ مصر، منذ عهد الفراعنة إلى العصر الحديث. وكان للجهود التى بذلها علماء الحملة الفرنسية في مصر أثر كبير في لفت الأنظار إلى الاثار المصرية، وكان لعثور رجال الحملة على حجر رشيد، وعكوف علماء فرنسا على قراءة ما عليه من نصوص، وتوفيق العالم الفرنسى «شمبليون» فى فكّ رموز الكتابة الهيروغيلفية، مما مكّن من قراءة النصوص المنقوشة على جدران المقابر والمعابد، والمكتوبة على أوراق البردى وغيرها، وتمكين المؤرخين من التعرف على أسرار الحضارة المصرية القديمة، بعد أن ظلت مجهولة قرونا طويلة. ثم أقبل الباحثون والمنقبون الأوروبيون على الحفر، وكشفوا كثيرا من الاثار المصرية القديمة، وبدأ الأثريون والمؤرخون الأوروبيون يكتبون تاريخ مصر القديم كتابة صحيحة إلى حد كبير. واستفاد رفاعة الطهطاوى من هذه الحركة، وبدأ يؤلف كتابا في تاريخ مصر منذ القدم، وخصص الجزء الأوّل لتاريخ مصر فى عصور الفراعنة، والبطالمة، والرومان، وسمّاه «أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر، وتوثيق بني إسماعيل» وقد طبع هذا الجزء في بولاق سنة 1285 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ثم قرر رفاعة أن يؤرخ لمصر في العصر الإسلامي، ولكنه رأى أن يؤرخ أولا للرسول عليه الصلاة والسلام بصورة يلتزم فيها بالمنهج العلمي، وجعل هذه السيرة الجزء الثانى من كتابه، وسمّاه «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز» . وقد بدأ نشره على حلقات، فى مجلة «روضة المدارس» وهو كتابنا هذا الذى نقدم له. فى هذا الكتاب تتبّع رفاعة حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم منذ مولده إلى وفاته، وأفرد الفصل الأخير للتحدث عن نظام الحكومة في عصر النبى صلّى الله عليه وسلّم، وعند هذا الجزء وقف قلم الشيخ رفاعة إذ وافته المنية سنة 1290 هـ 1873 م. توفي ذلك العالم الجليل الذى كان بحق زعيم الحركة العلمية والأدبية في عصر محمد علي، وحتّى عصر إسماعيل، وقد بلغت مؤلفاته المعروفة حتّى الان نحو الثلاثين مؤلفا في شتى العلوم. مؤلفاته ومترجماته جاء في كتاب «اكتفاء القنوع بما هو مطبوع» فى الستة الشهيرين من زمن اليقظة والذى يسميه البعض بدور الاختلاط (أى اختلاط الغرب بالشرق) : ص 407: «رفاعة بن رافع الطهطاوى المتوفى سنة 1290 هـ» له عدة مصنفات منها: (1) رحلته إلى فرنسا: سماها «خلاصة الإبريز والديوان النفيس» طبعة 1230 فى بولاق في عهد محمد على باشا. (2) «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز» طبعت بالقاهرة 1291 هـ، وهى من أحسن المختصرات في سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. (3) (مطلع شموس السير في وقائع كرلوس الثانى عشر) طبعت في بولاق 1257 هـ وهى مترجمة من اللغة الفرنسية عن كتاب الفيلسوف فولتير في سيرة Charles 12 من ملوك فرنسا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 (4) (التعريفات الشافية لمريد الجغرافية) طبعت في بولاق 1250 هـ، وأيضا 1254 هـ، وهى مطوّلة في الجغرافيا مأخوذة عن 4 أجزاء من جغرافية مالط برون الفرنسية. (5) (أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بنى إسماعيل) طبعت في القاهرة 1285 هـ في 554 ص وهى مفيدة في تاريخ مصر القديم. (6) (نظم العقود في كسر العود) قصيدة طبعت في باريس 1827 م وهى معرّبة عن شعر نظمه العلّامة اغوب أى يعقوب. (7) (المرشد الأمين في تربية البنات والبنين) طبع في بولاق وهو مطوّل في البيداغوجيا (التربية) . (8) «مواقع الأفلاك في أخبار تليماك» ترجمها من الفرنساوية، وهي قصة تليماك الأدبية الشهيرة طبعت في بيروت. (9) (مباهج الألباب المصرية في مناهج الألباب العصرية) طبعت في 291 صفحة في بولاق 1286 هـ وهى مباحث عن حالة الاداب المصرية في عصره وسياستها وصنائعها وعلومها. (10) (تعريب القانون المدنى الفرنساوي) طبعت في 2 ج في بولاق سنة 1293 هـ. (11) (هندسة ساسير) ترجمها من الفرنساوية. طبعت في بولاق. (12) (جمال الاجرومية) وهى منظومة سهلة المأخذ مبنية على الاجرومية الشهيرة. (13) «قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر» جعله على قسمين: الأوّل في أخلاق أهل بلاد أوروبا، ترجمها عن كتاب العلامة دبينغ في عوائد الأمم وأخلاقها، والثانى معجم الاصطلاحات الجغرافية والتاريخية أخذه عن الفرنساوية طبعت في 2 ج في بولاق 1249 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 (14) (قدماء الفلاسفة) ترجمها عن الفرنساوية طبعت في بولاق 1252 هـ. (15) (تاريخ قدماء المصريين) طبعت في بولاق 1254 هـ. (16) «جغرافية صغيرة» ترجمها من الفرنساوية طبعت سنة 1230 هـ في بولاق. (17) «جغرافية عمومية في كيفية الأرض» ترجمها عن الفرنساوية طبعت في بولاق سنة 1239 هـ. (18) (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) وهو وصف مدينة باريس طبعت في بولاق سنة 1250 هـ. (19) (رسالة المعادن) ترجمها عن الفرنسية طبعت في بولاق سنة 1248 هـ. (20) «بداية القدماء وهداية الحكماء» أوجز فيه التاريخ القديم وأسهب في تاريخ اليونان القديم ومعبوداتهم وحرب ترواس، وهو كتاب مأخوذ عن مصادر عربية وأفرنجية طبعت في 281 ص في بولاق سنة 1282 هـ. (21) (كتاب المنطق) طبع في بولاق سنة 1254 هـ، وهو معرّب عن كتاب فرنساوى في المنطق للعلّامة دومارسيس. (23) (قانون التجارة) ترجمه عن المجلة الفرنساوية طبعت في بولاق سنة 1285 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الباب الأوّل فى مولده الشريف إلى بعثته صلّى الله عليه وسلّم الفصل الأوّل فى مولده الشريف، ونسبه المنيف «1» . ورضاعه، وكفالته آباؤه: هو أبو القاسم: محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك ابن النّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس ابن مضر بن نزار «2» بن معد بن عدنان، الذى قيل فيه: وكم أب قد علا با بن له شرف ... كما علا برسول الله عدنان وهذا مما لا اختلاف فيه من الاباء، وما فوق ذلك مختلف فيه. ولا خلاف في أن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، وإنما الخلاف في عدد ما بين عدنان وإسماعيل من الاباء، فمن مقلّ ومكثر، وكذلك من إبراهيم إلى ادم عليهما الصلاة والسلام، ولا يعلم ذلك على حقيقته إلا الله تعالى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا انتهى في   (1) المنيف: المشرف على غيره. (2) وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، وما افترق الناس فرقتين إلا جعلنى الله في خيرهما؛ فأخرجت من بين أبوي، فلم يصبنى شيء من عهر الجاهلية، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن ادم حتّى ولدني أبى وأمي، فأنا خيركم نفسا وخيركم أبّا» رواه البيهقى (فى دلائل النبوة) ورواه الحاكم في تاريخه، والديلمي، وابن عساكر عن أنس رضى الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 النسب إلى معد بن عدنان أمسك وقال: «كذب النسّابون؛ قال الله تعالى وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً «1» » . وقد أجمع النسابون (العدنانية والقحطانية والأعاجم) علي أن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام من ولد سام بن نوح، وأنّ عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام؛ فانتهاء النسب إلى إسماعيل كثير النسل العديد، وذى النبوة العظمى والملك الشديد، متفّق عليه كمال الاتفاق. وأما أمه صلّى الله عليه وسلّم فهي: امنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، فتجتمع امنة بنت وهب مع زوجها عبد الله بن عبد المطلب في كلاب بن مرة، ويفترقان من ولده. فعبد الله من ولد قصى بن كلاب بن مرة، هاشميّ، وامنة بنت وهب من ولد زهرة بن كلاب بن مرة، فهى قرشية زهرية. طهارة نسبه صلّى الله عليه وسلّم: وهو صلّى الله عليه وسلّم مصباح الكون وضياؤه، وخير بنى ادم؛ لأنه من نور الله «2» فإن الله عز وجل حين خلق ادم عليه السلام وأكمل نشأته واستخرج في عالم الذرّ من ظهره ذريته، وأشهداهم علي أنفسهم «3» لاحت أنوار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكان نور نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم أشرقها صباحا، وأنورها مصباحا، فلم يزل نوره صلّى الله عليه وسلّم رأي العيان في كل الأزمان، ينتقل باهر الضياء من خير الاباء إلى خير الأبناء، حتى انتهى إلى كبير مكة وقريش في الجاهلية: عبد المطلب بن هاشم، ثم إلى أبيه عبد الله الذّبيح الثانى والد نبينا محمد أبى القاسم أشرف الناس   (1) رواه سعد وابن عساكر عن ابن عباس. قال تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الفرقان: 37- 38] . (2) نسبه الخلق إلى الخالق، لا أن الله نور هو جزء منه، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. (3) اقرأ الاية: 172 من سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 نسبا، عجما وعربا، ذى القدر العليّ والفضل الجليّ، ابن الذبيحين «1» وصاحب النسبتين من الأبوين: بنى هاشم وبنى زهرة، الذى نقله الله من الأصلاب الشريفة إلى الأرحام الطاهرة العفيفة، كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ما ولدتنى بغيّ قط منذ كنت في صلب ادم، فلم تزل تناز عنى الأمم (أى تتنازعني) كابرا عن كابر، حتى خرجت في أفضل حى في العرب: هاشم وزهرة» «2» فأبوه من بنى هاشم، وأمه من بنى زهرة. ما زال نور محمد متنقلا ... في الطيّبين الطاهرين ذوي العلا حتي لعبد الله جاء مكمّلا ... ولبنت وهب قد علا متهلّلا وهو صلّى الله عليه وسلّم ذو نسب: إبراهيم خليل الله دعامه، وإسماعيل سنامه، وكنانة زمامه، وقريش نظامه، وهاشم تمامه، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار» «3» وقال الشاعر: نسب أضاء وشمسه من هاشم ... وسماؤه من يعرب ونزار من معشر ورثوا السيادة كابرا ... عن كابر فهم كبار كبار ومن كلام عمه أبى طالب: إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرّها وصميمها وإن حصلت أنساب عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها وقديمها وإن فخرت يوما فإنّ محمدا ... هو المصطفي من سرّها وكريمها   (1) رواه ابن مردويه والثعلبى في تفسيريهما، والخلعى في الفوائد، وذكره الزمخشرى في الكشاف. (2) رواه ابن عساكر عن أبى هريرة ولفظه كما في الجامع الكبير للسيوطي: «ما ولدتنى بغى قط منذ خرجت من صلب ادم، ولم تزل تنازعنى الأمم كابرا عن كابر حتّى خرجت من أفضل حيين من العرب: هاشم وزهرة» . وقال عليه الصلاة والسلام: «ما ولدنى من سفاح أهل الجاهلية شيء: ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام» . متفق عليه، ورواه الطبراني وابن عساكر عن ابن عباس. (3) ولفظ الترمذى عن واثلة بن الأسقع قال: قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة، واصطفى من بنى كناية قريشا، واصطفى من قريش بنى هاشم، واصطفانى من بنى هاشم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 [مولده] : ولد صلّى الله عليه وسلّم يوم الاثنين «1» حين طلع الفجر، وهو وقت البركة كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «بورك لأمتى في بكورها» «2» لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل على المشهور. واختلف في عام ولادته صلّى الله عليه وسلّم؛ فالأكثرون على أنه عام الفيل، وبه قال ابن عباس، وحكي الاتفاق عليه، قيل: وكل قول يخالفه وهم، والمشهور أنه بعد الفيل بخمسين يوما، وإليه ذهب السهيلى في جماعة، وقيل غير ذلك. ويوم الاثنين كانت هجرته ووفاته، وكذا الإسراء «3» به، قيل: وابتداء نبوته، فلهذا صارت أيامه مبتسمة الثغور ولياليه مشرقة بالنور. وكان صلّى الله عليه وسلّم معتدل الخلق والخلق كما هو مشهور، وكانت ولادته في زمن الملك العادل كسرى أنوشروان، وهو لقب لكل من ملك الفرس. وموضوعيّة* حديث «أنا ولدت في زمن الملك العادل كسرى أنوشروان» لا تمنع من وصف كسرى بالعدل، فقد ذكر الغزالى رحمه الله تعالى في كتاب «السير والسلوك إلى مالك الملوك» أن الخالق جلت قدرته أرسل نبيه في أسعد وقت وأوان، فيه خير الملوك؛ فكان الملك في ذلك الزمان كسرى أنوشروان، وأنه فاق جميع الملوك بعدله وسياسته، وذلك كله   (1) وقال الخوارزمى: «ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الاثنين 8 من ربيع الأوّل عام 1 من الفيل- وبعث صلّى الله عليه وسلّم يوم الاثنين 8 من ربيع الأوّل عام 40 من الفيل- من مولده إلى مبعثه أربعون عاما ويوم واحد- من مبعثه إلى أوّل المحرم من السنة التى هاجر فيها 12 عاما وتسعة أشهر وعشرون يوما (وثلاث وخمسون سنة تامة من أوّل عام الفيل) - خرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين 8 من ربيع الأوّل عام 54 من الفيل- انتقل إلى الرفيق الأعلى يوم الإثنين أوّل ربيع الأوّل سنة 10 هجرية» اهـ. ما قاله الخوارزمى ملخصا. انظر الاستيعاب لابن عبد البر- وعن ابن عباس: «ولد نبيكم صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين، وخرج من مكة يوم الإثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وكانت وقعة بدر يوم الاثنين» هذا ما روى عن ابن عباس، والمعروف المشهور أن وقعة بدر كانت يوم الجمعة والله أعلم. (2) رواه الطبراني في الأوسط عن أبى هريرة، وعبد الغنى في الإيضاح عن ابن عمر. (3) أسرى به صلّى الله عليه وسلّم يوم الإثنين، وقال الزهري: كانت الإسراء قبل الهجرة بسنة، وكذا قال عروة بن الزبير، وقال السدي: بستة عشر شهرا. * أى كونه حديثا موضوعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ببركة قدوم سيد الكائنات وأشرف الموجودات؛ فوصف كسرى بالعدل، وإطلاق العدل عليه لتعريفه بالاسم الذى كان يدعى به في زمنه، لا لوصفه بالعدل والشهادة له بذلك؛ فإنه كان يحكم بغير حكم الله، أو وصفه بذلك بناء على اعتقاد الفرس فيه أنه كان عادلا كما قال تعالى: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ [هود: 101] أى ما كان عندهم الهة، ولا يجوز أن يسمّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يحكم بغير حكم الله عادلا، وهذا على فرض صحة الحديث، والحق أنه كذب لا أصل له كما نقله الحفّاظ من المتقدمين والمتأخرين. وكان مولده صلّى الله عليه وسلّم بالشّعب؛ وهو شعب بنى هاشم (مكان معروف عند أهل مكة يخرجون إليه في كل عام يحتفلون بذلك أكثر من احتفالهم يوم العيد إلى يومنا هذا، فى الدار التى كانت لمحمد بن يوسف أخي الحجاج) «1» . [أسماؤه صلّى الله عليه وسلّم] : وهو صلّى الله عليه وسلّم دعوة إبراهيم عليه السلام حين بنى الكعبة دعا لأهل مكة فقال: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: 129] ، وبشرى عيسى عليه السلام في قوله تعالى: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] وأخرج من حديث عمرو بن مرة قال: خمسة تسموا قبل أن يكونوا: محمد بقوله: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] ، ويحيى بقوله: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [مريم: 6] ، وعيسى بقوله: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [ال عمران: 39] وإسحاق ويعقوب بقوله: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] . وإنما سمى في بشارة عيسى باسم أحمد مع أن اسمه الذى سماه به جده عبد المطلب محمد؛ رجاء أن يحمد في السموات والأرض، وقد حقق الله رجاءه كما سبق في علمه؛ لأن أحمد في الحقيقة أبلغ من محمد، كما   (1) ذكر محب الدين الطبرى المكى في كتابه «القرى لقاصد أم القري، فى ص 664 قال: «كان عقيل بن أبى طالب قد استولى على بيت النبى صلّى الله عليه وسلّم زمن الهجرة، فلم يزل بيده ويد ولده حتي باعوه لمحمد بن يوسف (أخى الحجاج الثقفي) فأدخله في داره التي يقال لها البيضاء، ثم تعرفت بدار ابن يوسف، ولم يزل ذلك كذلك حتّى حجت الخيزران (جارية المهدي) فجعلته مسجدا يصلّى فيه، وأخرجته من الدار إلى الزقاق الذي يقال له «زقاق المولد» . اهـ ... وهو الان مكتبة عامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أن أحمر وأصفر أبلغ من محمّر ومصفر، قال صلّى الله عليه وسلّم: «لى خمسة أسماء؛ أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحى الذى يمحو الله بى الكفر، وأنا الحاشر الذى يحشر الناس علي قدمي، وأنا العاقب الذى ليس بعدي نبي» «1» وقد سمّاه الله رؤفا رحيما «2» . وقد ذكر الحافظ ابن سيد الناس اليعمرى فيما وافق من أسماء الله الحسنى لأسماء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قصيدة له فقال: وحلّاه من حسني أساميه جملة ... أتي ذكرها في الذكر: ليس يبيد وفي كتب الله المقدس ذكرها ... وفي سنّة تأتي بها وتفيد رؤف رحيم فاتح ومقدّس ... أمين قوي: عالم وشهيد وليّ شكور صادق في مقاله ... عفو كريم بالنّوال يعود ونور وجبار وهاد من اهتدي ... ومولي عزيز ليس عنه محيد بشير نذير، مؤمن ومهيمن ... خبير عظيم: بالعظيم يجود وحقّ مبين اخر أوّل سما ... إلى ذروة العلياء وهو وليد فاخر أعني اخر الرسل بعثة ... وأوّل من ينشقّ عنه صعيد أسام يلذ السمع إذ هي عدّدت ... نعوت ثناء والثناء عديد ومن أسمائه صلّى الله عليه وسلّم: طه، يس، والمزّمل، والمدثر «3» وعبد الله، فى قوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن: 19] ، ونبى التوبة ونبى الرحمة «4» ، ومذكّر في   (1) وللحديث ألفاظ وروايات مختلفة ذكرها السيوطى في جامعه ص 331 ج 1 مخطوط، ومن رواتها البغوى في الجعديات، والباوردى والحاكم والطبراني عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه، والترمذى في الشمائل، وابن سعد عن مجاهد مرسلا: كلّ بروايته وسنده. وكثرة الروايات دليل صحة الحديث، والحمد لله رب العالمين. (2) في اخر سورة التوبة: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. (3) فى قوله تعالى: طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى - يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ- يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ- يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. (4) من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا محمد، وأحمد، والمقفي، والحاشر، ونبى التوبة، ونبى الرحمة، رواه الإمام أحمد والإمام مسلم عن أبى موسى الأشعري، زاد الطبراني: «ونبى الملحمة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية: 21] ، إلى غير ذلك من الأسماء. روى الترمذى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم ينتظرون خروجه، قال: فخرج حتّى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عجبا، إن الله تبارك وتعالى اتخذ من خلقه خليلا: اتخذ إبراهيم خليلا، وقال اخر: ماذا بأعجب من كلام موسي: كلّمه تكليما، وقال اخر: ماذا بأعجب من جعله عيسى كلمة الله وروحه، وقال اخر: ماذا بأعجب من ادم اصطفاه الله عليهم وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، فسلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه، وقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم؛ إن إبراهيم خليل الله، وهو كذلك، وإن موسى نجيّ الله، وإن عيسى روح الله وكلمته، وإن ادم اصطفاه الله، وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا سيد الأوّلين والاخرين ولا فخر، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفّع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لى فيدخلنيها ومعى فقراء المؤمنين ولا فخر، «1» انتهي، فقوله صلّى الله عليه وسلّم «ألا وأنا حبيب الله» أراد صلّى الله عليه وسلّم المحبة العامة التى منها توحيد المحبة، وهى الخلّة الخاصة؛ فهو صلّى الله عليه وسلّم حبيب وخليل، حيث تخللت المحبة الموجدة في جميع أجزاء روحه صلّى الله عليه وسلّم كما قيل: قد تخلّلت موضع الرّوح منّي ... وبذا سمّي الخليل خليلا لا سيما وأنه قد صحّ أن الله اتخذ نبينا خليلا، فحصل له من الإنعام الحبّ العام على الخاص والعام، كما قيل: خللت بهذا خلّة بعد خلّة ... بذلك طاب الواديان كلاهما فلا نظر لزعم من لا علم عنده أن الحبيب أفضل من الخليل؛ محتجّا بأن محمدا حبيب الله وإبراهيم خليل الله، وقد علمت ما يفيد خلاف ذلك، لما صحّ عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله اتخذنى خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا» وفي الحديث   (1) وقد ذكره السيوطى في جامعه ص 603 ج 1 من رواية الترمذى عن ابن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 «لو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلا» «1» فلم يتخذ أبا بكر إلا حبيبا، على أن المحبة في ذاتها أفضل من الخلة كما هو التحقيق؛ لما أن الحبيب من يحب بلا امتحان، والخليل من يمتحن ليحب، ولأنه صلّى الله عليه وسلّم يوصف بالحبيب وإن كان خليلا، وإبراهيم عليه السلام يوصف بالخلة وهو حبيب، لصدق تعريف الحبيب عليه. ولأهل الإشارة* مشرب اخر حسن في مغايرة المحبة والخلة وتفضيل الأولى على الثانية، حيث قالوا: إنما اتصل الخليل بواسطة: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: 75] ، والحبيب بدونها: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النجم: 9] وقد علمت أنه لا حاجة إلى ذلك لعموم المحبة ودخوله فيها، وأن هذه الإشارة الصوفية مطمح النظر فيها سيدنا محمد وسيدنا إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وقد خص الله تعالى كلّ واحد من أنبيائه بكرامة؛ فأكرم ادم عليه السلام بسجود الملائكة له وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة: 34] ، ونوحا عليه السلام بإجابة الدعوة: لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ، وموسى عليه السلام بالكلام: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164] ، وإبراهيم عليه السلام بالخلة وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125] ، ونبيّنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالصلاة عليه بالاية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56] . وقوله: «أنا سيد الأولين والاخرين» إخبار عمّا أكرمه الله به من الفضل والسؤدد، وتحدّث بنعمة الله تعالى عليه، وإعلام لأمته، ليكون إيمانهم به على حسب موجبه، ولذا أتبعه بقوله: «ولا فخر» والمعنى: هذه الفضيلة التى نلتها كرامة من الله لم أنلها من قبل نفسى ولا بلغتها بقوّتي، فليس لى أن أفتخر بها،   (1) ولفظ الحديث بتمامه: «إن الله اتخذنى خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، فمنزلي ومنزل إبراهيم فى الجنة يوم القيامة تجاهين، والعباس بيننا؛ مؤمن بين خليلين، رواه ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو. وروى الطبراني: «إن الله اتخذنى خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن خليلى أبو بكر» ، قال المناوى في شرح هذا الحديث في «فيض القدير» : وأما خبر: «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، فقاله قبل العلم. اهـ. وبهذا يكون هذا الحديث ناسخا لما قبله، والله أعلم. * المتصوفون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ولا يعارض هذا ما في الحديث «أنه جاءه رجل فقال له: أنت سيد قريش، فقال: السيد الله» «1» أى هو الله الذى يحق له السيادة، إذ هو محمول على أنه كره أن يحمد في وجهه، وأحبّ التواضع، وكذلك ما روي عنه عليه الصلاة والسلام «لا تفضّلونى على يونس بن متّى» «2» أى تفضيلا يؤدى إلى تنقيصه، وإلا فهو صلّى الله عليه وسلّم سيد ولد ادم على الإطلاق، وقد روى عن على رضى الله عنه قال: «سمعت حبيبى رسول الله» يقول: هبط عليّ جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن لكل شيء سيدا؛ فسيد البشر ادم، وسيد ولد ادم أنت، وسيد الروم صهيب، وسيد فارس سلمان، وسيد الحبش بلال، وسيد الشجر السدر، وسيد الطير النسر، وسيد المشهور رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام العربية، وسيد العربية القران، وسيد القران سورة البقرة» «3» . [طهارة مولده وشرفه] : وقد اختصه الله سبحانه وتعالى من أطيب العشائر نكاحا، وحماه من دنس الفواحش والسفاح «4» ، ونقله من أصلاب طاهرة إلى أرحام منزهة بشهادة: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 219] فكان نور النبوة ظاهرا في ابائه لم يشركه في ولادته من أبويه أخ ولا أخت؛ لانتهاء صفوتهما إليه، وقصر   (1) رواه الإمام أحمد وأبو داود عبد الله بن الشخير. (2) وروى البخارى عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقولن أحدكم إنى خير من يونس بن متى» ويؤيد ما يقوله الشيخ من عدم المفاضلة المؤدية إلى التنقيص ما ورد في حديث صحيح، فيه طول «لا تفضلوا بين أنبياء الله ... » . (3) ورواه الديلمى بلفظ «سيد الناس ادم، وسيد العرب محمد، وسيد الروم صهيب، وسيد الفرس سلمان، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال طور سيناء، وسيد الشجر السدر، وسيد الأشهر المحرم، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القران، وسيد القران سورة البقرة، وسيد البقرة اية الكرسي: أما إن فيها خمس كلمات في كل كلمة خمسون بركة» . (4) روى ابن مردويه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أنفسكم نسبا وصهرا وحسبا» وروى ابن عساكر عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما ولدتنى بغى قط منذ خرجت من صلب ادم، ولم تزل تتنازعنى الأمم كابرا عن كابر حتّى خرجت من أفضل حيّين في العرب: هاشم وزهرة» . وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى اكتفينا منها بهذا، والله ولى التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 سرّهما عليه، ليكون مختصا بنسب جعله الله للنبوة غاية، ولتفرّده نهاية، فلا يشارك فيه ولا يماثل، فلذلك مات أبواه في صغره، فهو سلالة اباء كرام، ليس فيهم مسترذل ولا مستبذل، بل كلهم سادة قادة، وشرف النسب وطهارة المولد من شروط النبوّة، ولبعضهم: تنقّل أحمد نورا مبينا ... تلألأ في وجوه الساجدينا تقلّب فيهم قرنا فقرنا ... إلى أن جاء خير المرسلينا روى عن هشام بن محمد السائب الكلبى عن أبيه قال: «كتبت للنبى صلّى الله عليه وسلّم خمسمائة أم، فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان في الجاهلية» . انتهي. ولعل هؤلاء الأمهات من جهة الأصلين، أى أمهات أبيه وأمه، وأمهات ابائهم وأمهاتهم؛ لإمكان السنين التي تحسب فيها الأجيال. وعن علي بن أبى طالب رضى الله عنه أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن ادم إلى أن ولدنى أبى وأمي، لم يصبنى من سفاح الجاهلية شيء» «1» ومن ثمّ ورد عن ابن عباس مرفوعا «لم يلتق أبواى قط على سفاح، ولم يزل الله ينقلنى من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّى مهذبا؛ لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما» «2» . وبالجملة فكان نكاح النبي صلّى الله عليه وسلّم كنكاح الإسلام في أنه بإيجاب وقبول، وإن لم يكن مستجمعا للشروط التى اعتبرت فيما بعد في نكاح الإسلام؛ لأن استيفاء شروطه الإسلامية كان   (1) رواه العدني، وابن عدي، والطبراني في الأوسط عن على كرم الله وجهه. وقال: «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، رواه ابن سعد عن السيدة عائشة رضى الله عنها، وقالت: «نكاح كنكاح الإسلام» . (2) رواه أبو نعيم ولفظه: « ... لم يلتق أبواى قط على سفاح؛ لم يزل ينقلنى من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذبا، لا تتشعب بى شعبتان إلّا كنت في خيرهما، قد أخذ الله بالنبوة ميثاقي» اهـ. من مواكب ربيع للحلوانى ص 144، وهو المعنىّ بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [ال عمران: 81] . وروى البيهقى في سننه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ولدنى من نكاح الجاهلية شيء؛ ما ولدنى إلا نكاح الإسلام» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 على سبيل الاتفاق دون القصد، أو المراد كنكاح الإسلام في الجملة؛ لأن إسلام الولى أو عدالته أمر متعذر قبل الإسلام، خصوصا أيام الجاهلية، فنكاح أصوله صلّى الله عليه وسلّم منزّه عن السفاح، أى عن الزنا واتخاذ الأخذان، وما كانوا عليه في الجاهلية من نحو نكاح زوجة الأب، حيث أنهم كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل منهم وخلّف أولادا كبارا وصغارا، فالكبار يتزوجون بزوجة أبيهم. وبالجملة فهو صلّى الله عليه وسلّم مبرّأ عمّا كانت تستعمله العرب في الجاهلية من أنواع السفاح التى لا تعدّ في الإسلام نكاحا. فقد كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء: الأوّل: نكاح كنكاح الناس اليوم، أى إيجاب وقبول. الثاني: نكاح البغايا، وهو أن يطأ البغيّ جماعة متفرقون، واحدا بعد واحد، فإذا حملت وولدت ألحقت الولد بمن غلب عليه شبهه منهم. الثالث: نكاح الاستبضاع، وذلك أن المرأة كانت في الجاهلية إذا طهرت من حيضها يقول لها زوجها: «أرسلى إلى فلان استبضعى منه» ويعتزلها زوجها، ولا يمسّها أبدا حتّى يتبين حملها، فإذا حملت أصابها زوجها إذا أحب. الرابع: نكاح الجمع وهو أن تجمع جماعة دون العشرة، ويدخلون على امرأة من البغايا ذوات الرايات، كلهم يطئونها فإذا حملت ووضعت ومرّ عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل أن يمتنع حتّى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: «قد عرفتم الذى كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان» ، تسمّى من أحبت منهم فيلحق به ولدها، فلا يستطيع أن يمتنع منه الرجل، وإن لم يكن شبهه عليه. فنكاح اباء النبى صلّى الله عليه وسلّم وأمهاته كان من قبيل القسم الأوّل، ومنزها عما عداه، فقد طهره الله من أدناس الجاهلية، ومنحه الأخلاق الجميلة العليّة، حتى إنه ما كان يدعى في قومه إلا بالأمين، وكيف لا وهو حبيب الله وخليله المختار من العالمين المسدّد المعصوم في البداية والنهاية، وكم قد ذكر له في الصغر وقبل النبوة وبعدها من اية، وهذا من أعظم العناية به صلّى الله عليه وسلّم، حيث أجرى الله سبحانه وتعالى نكاح ابائه عليه الصلاة والسلام إلى أن أخرجه صلّى الله عليه وسلّم من بين أبويه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 نمط واحد وفق شريعته، ولذلك قال الإمام السبكي: «إن الأنكحة الواقعة في نسبه صلّى الله عليه وسلّم كلها مستجمعة لشروط الصحة كأنكحة الإسلام، قال: فاعتقد هذا بقلبك وتمسّك به، ولا تزلّ عنه فتخسر» . وما نقل عن أبى المنذر أنه قال: بلغنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر العزّى يوما فقال: «لقد أهديت للعزّى شاة عفراء، وأنا علي دين قومي» فكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وافتراء عليه؛ حيث قد أطبق الإجماع على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يتدنس هو ولا اباؤه مما كانت عليه الجاهلية، وما أقبح من يروم التصنيف ويجعل في مصنفه مثل هذا الكذب القبيح، فإنه ينادى على نفسه بعدم المعرفة والاتصاف بالجهالة والسفه، ولم يكن شيء مثل ذلك إلا لكفار قريش، حيث كانوا يطوفون بالكعبة ويقولون: واللات والعزّى ومناة الثالثة الاخري، فإنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي، ولم يثبت شيء من ذلك في حق أحد من ابائه صلّى الله عليه وسلّم على عمود النسب. وقد فسر العلماء قوله تعالى: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 218، 219] أى يرى تقلبك وأنت نور في أظهر الساجدين، بمعنى في أصلاب وأرحام المؤمنين من لدن ادم وحواء إلى عبد الله وامنة، فعلى هذا جميع أصوله- رجالا ونساء- مؤمنون. ثم أورد على هذا ازر أبو إبراهيم فإنه على دين قومه بمقتضى الايات!؟ وأجابوا عنه بجوابين: أحدهما: أنه كان عم إبراهيم لا أباه، وتسميته أبا علي عادة العرب من تسمية العم أبا. وثانيهما: أن اباءه صلّى الله عليه وسلّم لم يدخلهم الشرك ذكورا وإناثا ما دام النور المحمدى في الذكر والأنثي، فإذا انتقل منه لمن بعده أمكن أن يعبد الله وغيره، وازر ما عبد الأصنام إلا بعد انتقال النور منه لإبراهيم عليه السلام، وأما قبل فلم يعبد غير الله، وهذا الجواب الثانى المفيد لتنزه النور المحمدى عن أن يكون قد حلّ فى أصل غير طاهر ما دام ساكنا فيه، فهو وإن استحسنه بعض العلماء إلا أنه لا يخلو من إخلال بالنسب؛ إذ كيف يسكن النور المحمدى في صلب طاهر ورحم نقي، ثم يخبث الأصل بانتقال النور، فهذا مما لا يليق بلفظ «الساجدين» الذى عبر به عن المؤمنين بكمال البلاغة في التجوّز عن (المؤمنين) إلى (المصلين) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ثم إلى (الساجدين) ، ولو فسّر قوله: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ بما مشى عليه بعض المفسرين بقوله: إنه أراد تعالى تقلبك في أصلاب الأنبياء من نبى إلى نبى حتي أخرجك في هذه الأمة، لما ورد على هذا القول كفر ازر، وإنما يكون المراد بالساجدين اباؤه من الأنبياء فقط، مع أن القصد التعميم، ولكن لا مانع من أن يكون المراد بالاباء الساجدين الذين أولهم إبراهيم عليه السلام صاحب الملّة الحنيفية، ويؤيده مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ «1» مِنْ قَبْلُ [الحج: 78] وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم: 35] وقوله تعالى: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [إبراهيم: 40] فلن يزال من ذرية إبراهيم ناس على الفطرة يعبدون الله. وورد عن ابن عباس ومجاهد وقتادة في قوله تعالى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: 28] قال: الإخلاص والتوحيد، لا يزال في ذريته من يواحد الله ويعبده. انتهى. وهذا كله إذا فسرنا الاية بهذا التفسير المعقول المعنى، الذى نسبه الفخر الرازى عنتا للشيعة، مع أنه منقول عن أهل السنة، كما يعلم ذلك من اطلع على التفاسير الاخرى القرانية، ويا ليت ذلك الإمام عضّد تفسير الاية بخبر: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات» بل قال: إنه خبر احاد، فلا يعارض القران، فالذي يجب اعتقاده: طهارة نسبه صلّى الله عليه وسلّم. ولا يرد على ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم لعمه أبى طالب الذي نزل فيه قوله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] الاية: «يا عمّ قل لا إله إلا الله: كلمة أحاجّ لك بها عند الله تعالى، فقال: يا ابن أخي قد علمت إنك لصادق، ولكن أكره أن يقال: جزع عند الموت، ولولا أن يكون عليك وعلي بني أبيك غضاضة بعدي   (1) وكثير من الناس يعتقد أن المسمّى لنا «المسلمين» هو سيدنا إبراهيم عليه السلام، وواقع الاية- والله أعلم- لا يفيد ذلك؛ فإن الضمير «هو» يعود إلى الله تعالى، يتضح هذا من قوله تبارك وتعالى بعدها: وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ فحرف الإشارة «هذا، هذا يعود إلى القران الكريم، وقوله تعالى «من قبل» يفيد ما نزل قبل القران، وهما التوراة الصحيحة والإنجيل الصحيح. فالله هو الذى سمانا مسلمين في التوراة والإنجيل والقران، وليس خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فافهم ترشد (انظر تفسير ابن كثير 5/ 452) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 لقلتها، ولأقررت بها عينيك عند الفراق، لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك» ثم أنشد: ولقد علمت بأنّ دين محمّد ... من خير أديان البريّة دينا لولا الملامة أو حذار مسبّة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا ودعوتني وعرفت أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت فيه أمينا لكن سوف أموت على ملة أشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف» . انتهي. لأنه لا يبعد أن تكون ملة عبد المطلب وهاشم وعبد مناف هى ملة إبراهيم، حيث هم من أصوله. وحكى عن هشام بن الكلبى أنه قال: «لما احتضر أبو طالب جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه» إلى أن قال: «وإنى أوصيكم بمحمد خيرا؛ فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان وأنكره اللسان، مخافة الشنان، وأيم الله كأنى أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الوبر والأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدّقوا كلمته، وأعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصفت له فؤادها، وأعطته قيادها. يا معشر قريش: كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلّا سعد، ولو كان لنفسى هذه مدة، ولأجلى تأخّر لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي» ثم مات. وكان موته قبل الهجرة بثلاث سنين وأربعة أشهر، قبل موت خديجة رضى الله عنها بثلاثة أيام، وله من الولد: طالب، ومات على دين قومه، وعقيل، وجعفر، وعليّ، ومن الإناث ثنتان: أم هانيء (واسم هانيء فاختة وقيل هند وقيل فاطمة) ، وجمانة، أسلموا ولهم صحبة، وأمهم جميعا: فاطمة بنت أسد بن هاشم، والعقب من أبى طالب في ثلاثة أبطن، وهم: العلويون أولاد علي، والجعفريون أولاد جعفر، والعقيليون أولاد عقيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وعلى كل حال فالحذر كل الحذر من ذكر أبوي النبى) بما فيه نقص؛ فإن ذلك قد يؤذى النبى) ؛ لأن العرف جار بأنه إذا ذكر أبو الشخص بما ينقصه تأذّى ولده بذلك عند المخاطبة، كيف وقد روى ابن منده وغيره عن أبى هريرة قال: «جاءت سبيعة بنت أبى لهب إلى النبى) فقالت: يا رسول الله إن الناس يقولون: أنت بنت حطب النار. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مغضب، فقال: ما بال أقوام يؤذوننى في قرابتي، ومن اذانى فقد اذى الله!» وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات» «1» ولا ريب أن إيذاءه كفر، يقتل فاعله إن لم يتب، خصوصا وأن أبويه، ناجيان «2» لأنهما من أهل الفترة، وأهل الفترة ناجون ولو عبدوا الأصنام، إلا أفرادا علم الله فيهم أمرا فحكم عليهم بالكفر كحاتم الطائي «3» وامرئ القيس. (والفترة ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام) ، وقد دلّت القواطع على أنه لا تعذيب حتّى تقوم الحجة لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] أو بإحيائهما له عام حجة الوداع حتي امنا بالله ورسوله. ونفع الإيمان بعد الموت من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم، وليس بممتنع عقلا وشرعا؛ فقد ورد في الكتاب العزيز إحياء قتيل بنى إسرائيل،   (1) وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تسبّوا الأموات فتؤذوا الأحياء؛ إن البذاء لؤم» (رواه الخرائطي في «مساويء الأخلاق، عن أم سلمة) . (2) وقد نظرت أمه إليه عند موتها وهو عند رأسها. ثم قالت: بارك الله فيك من غلام ... يا ابن الذى من حومة الحمام نجا بعون الملك العلّام ... فودى غداة الضرب بالسهام بمائة من إبل سوام ... إن صحّ ما أبصرت في المنام فأنت مبعوث إلى الأنام ... من عند ذى الجلال والإكرام تبعث في الحلّ وفي الحرام ... تبعث بالتوحيد والإسلام دين أبيك البر إبراهام ... فالله أنهاك عن الأصنام ألاتواليها مع الأقوام ثم قالت: «كل حي ميت، وكل جديد إلى بلي، وكل كبير يفني، وأنا ميتة وذكري باق، وقد تركت خيرا، وولدت طهرا، ثم ماتت. رواه أبو نعيم اهـ. من (موكب ربيع للحلواني ص 154) وهذا خبر ثابت في كل كتب السير. أليس هذا هو الإسلام بعينه؟ (3) لا نعرف للمؤلف مصدرا في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وإخباره عن قاتله، وقصته مشهورة وفي الكتب مسطورة. وكان عيسى عليه السلام يحيى الموتى بنص القران، فأحيا عازر بعد موته بثلاثة أيام، وابن العجوز وهو محمول على نعشه، وابنة العاشر، فعاشوا مدة وولد لهم. وكذلك نبينا صلّى الله عليه وسلّم أحيا الله علي يديه جماعة من الموتي «1» ، ولا غرو فهو أحق بذلك، والظن بالله جميل، وليس تعجز قدرته عن ذلك، فإذا ثبت هذا فما يمتنع المدّعى أى إيمانهما بعد إحيائهما، وبكون ذلك زيادة في كرامته وفضله- فقول من قال: «إنهما ماتا كذا لأن الإيمان بعد الموت غير نافع» مردود بما روى في الخبر أن الله تعالى ردّ الشمس على نبيه صلّى الله عليه وسلّم بعد مغيبها، فلو لم يكن رجوع الشمس نافعا، وأنه لا يتجدد الوقت لما ردّها عليه، فكذلك يكون إحياء أبويه نافعا لإيمانهما وتصديقهما بالنبى صلّى الله عليه وسلّم، ولا بدع أن يكون الله كتب لأبوي النبى صلّى الله عليه وسلّم عمرا، ثم قبضهما قبل استيفائه، ثم أعادهما- أى أحياهما- لاستيفاء تلك اللحظة الباقية بالمدة الفاصلة بينهما؛ لاستدراك الإيمان من جملة ما أكرم الله به نبيه عليه الصلاة والسلام. وقال بعض الأفاضل في حل هذه المسألة ما ملخصه: إن أهل الفترة ثلاثة أقسام: الأوّل: من أدرك التوحيد ببصيرته، ومن هؤلاء من لم يدخل في شريعة كقسّ بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، ومنهم من دخل في شريعة حقّ قائمة الرسم كتبّع وقومه من حمير، وأهل نجران، وورقة ابن نوفل، وعمه عثمان بن الحويرث. القسم الثانى من أهل الفترة: من بدّل وغيّر فأشرك ولم يوحّد، وشرّع لنفسه، فحلّل وحرم، وهم الأكثر كعمرو بن لحي، وهو أوّل من سنّ للعرب عبادة   (1) من ذلك أن زيد بن خارجة خرّ ميتا في بعض أزقة المدينة، فرفع وسجّي، إذ سمعوه بين العشاءين- والنساء يصرخن حوله- يقول: أنصتوا، فحسر عن وجهه، فقال: «محمد رسول الله، النبى الأمي، وخاتم النبيين، كان ذلك في الكتاب الأوّل» ، ثم قال: «صدق، صدق» ، وذكر أبا بكر وعمر وعثمان، ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم عاد ميتا كما كان. (راجع الشفاء للقاضى عياض وغيره تجد من ذلك كثيرا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الأصنام وشرّع الأحكام فبحّر البحيرة وسيّب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحام، وتبعته العرب في ذلك. القسم الثالث من أهل الفترة: وهم من لم يشرك ولم يوحّد، ولا دخل في شريعة نبيّ ولا ابتكر لنفسه شريعة ولا اخترع دينا، بل بقى طول عمره على حال غفلة من هذا كله، وفي الجاهلية من كان على ذلك. وحيث انقسم أهل الفترة إلى ثلاثة أقسام، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة ما يدل على تعذيب أهل الفترة، كحديث «رأيت عمرو بن لحيّ يجر قصبه في النار، «1» ونحو ذلك، فيحمل على القسم الثانى من أهل الفترة لكفرهم بما تعدّوا به من الخبائث؛ حيث أن الله سبحانه وتعالى سمى جميع هؤلاء من هذا القسم كفارا ومشركين، فإنّا نجد القران كلما حكى حال أحد منهم سجّل عليهم بالكفر والشرك، كقوله تعالى ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة: 103] ثم قال: وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. وأما أهل القسم الأوّل كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل، فقد قال عليه الصلاة والسلام في كل منهما: «إنه يبعث أمّة واحده» . وأما عثمان بن الحويرث وتبّع وقومه وأهل نجران: فحكمهم كحكم أهل الدين الذى دخلوا فيه، ما لم يلحق أحد منهم بالإسلام الناسخ لكل دين. وأما أهل القسم الثالث الذين هم أهل الفترة حقيقة، فهم غير معذبين، وقال الجلال السيوطي «2» : إن أبوى النبى صلّى الله عليه وسلّم كانا على التوحيد ودين إبراهيم، كما كان كذلك طائفة من العرب، كزيد بن عمرو بن نفيل، كما يدل عليه قوله: أربّا واحدا أم ألف ربّ ... أدين إذا تقسمّت الأمور تركت اللات والعزّي جميعا ... كذلك يفعل الرجل البصير   (1) ورواية مسلم: «رأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف بن كعب وهو يجر قصبه في النار» ورواه الدار قطنى في الأفراد. (2) له في ذلك رسالة خاصة اسمها «الفوائد الكامنة في إيمان السيدة امنة» وله كذلك «التعظيم والمنة فى أن أبوى النبى صلّى الله عليه وسلّم في الجنة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وقسّ بن ساعدة، وورقة بن نوفل، وعمير بن حبيب الجهني، وعمرو بن عنبسة وجماعة اخرين. وهذه طريقة الفخر الرازي، وزاد: «إن اباء النبى صلّى الله عليه وسلّم كلهم إلى ادم على التوحيد، لم يكن فيهم شرك» ، وقال الجلال السيوطى أيضا: «إنى لم أدّع المسألة إجماعية، بل هى مسألة ذات خلاف، فحكمها كحكم سائر المسائل المختلف فيها، غير أنى اخترت أقوال القائلين بالنجاة لأنه أنسب بهذا المقام» . جديث إحياء الله أبويه: وما أحسن كلام الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين بن عبد الله بن محمد الدمشقى المولود سنة سبع وسبعمائة 707 هـ، حيث قال في كتابه «مورد الصادى بمولد الهادي» بعد أن أخرج الحديث في إحياء أمه من طريق الخطيب، فصرّح بضعف الحديث، ولم يلتفت لزعم وضعه، وكفى به حجة: حبا الله النبي مزيد فضل ... علي فضل، وكان به رؤوفا فأحيا أمّه وكذا أباه ... لايمان به فضلا منيفا فسلّم فالقديم بذا قدير ... وإن كان الحديث به ضعيفا وقد ردّ بعضهم علي هذه الأبيات بقوله: أيقنت أنّ أبا النبي وأمّه ... أحياهما المولي الكريم الباري حتى له شهدا بصدق رساله ... سلّم فتلك كرامة المختار هذا الحديث ومن يقول بضعفه ... فهو الضعيف، عن الحقيقة عاري ولئن سلّم أنه من قسم الضعيف، فهو الذى تجوز روايته في الفضائل والمناقب، لا بمعنى الموضوع، وقال أبو القاسم السهيلى في أوائل كتابه «الروض الأنف» بعد إيراد حديث أنه صلّى الله عليه وسلّم سأل ربه أن يحيى أبويه فأحياهما له فامنا به ثم أماتهما: «والله تعالى قادر على كل شيء، ونبيه صلّى الله عليه وسلّم أهل لأن يخصه بما شاء من إكرامه» . انتهي. وقد أيّد بعضهم هذا الحديث بالقاعدة التى اتفق عليها الأئمة: أنه ما أوتى نبيّ معجزة إلا أوتى نبينا صلّى الله عليه وسلّم مثلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولا يبعد على من أنجى به الثقلين «1» أن ينجى به الأبوين، ولا عبرة باحتجاج المنكر في هذا المقام العظيم، بأنه نزل فيهما: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ [البقرة: 119] فقد تقرر في علوم الحديث أن سبب النزول حكمه حكم الحديث المرفوع، لا يقبل منه إلا الصحيح المتصل الإسناد، لا الضعيف ولا المقطوع، وسبب النزول لا يعرف له (كما قال السيوطي) إسناد صحيح متصل، ولا ينكر ذلك أحد من المحدثّين، مع ما ينضم إلى ذلك من بلاغة الخطاب، وأن الايات من قبل ومن بعد كلها في أهل الكتاب، فدلّت الاية علي أن المراد بأصحاب الجحيم كفار أهل الكتاب، ويؤيد ذلك أن السورة مدنية، خوطب فيها من بنى إسرائيل الذرية، وأكثر ما خوطب فيها اليهود الناقضون ما في التوراة من العهود، على أنه قد قيل بصحة الأحاديث الدالّة على أن العرب لم يكفر منهم أحد من عهد إبراهيم إلى عهد عمرو بن لحيّ الخزاعيّ، فهو أوّل من عبد الأصنام وغيّر دين إبراهيم عليه السلام، وراه النبى صلّى الله عليه وسلّم بسبب ذلك يجرّ قصبه فى النار، أى أمعاءه. وقد أخرج ابن حبيب في تاريخه عن ابن عباس قال: «كان عدنان ومعد وربيعة ومضر وخزيمة وأسد على ملة إبراهيم؛ فلا تذكروهم إلا بخير» . وفي الروض الأنف «لا تسبّوا إلياس فإنه كان مؤمنا» وفي دلائل النبوة لأبى نعيم أن كعب بن لؤى أوصى ولده بالإيمان بالنبي، قاله السيوطي، وقال أيضا: «وأما كلاب وقصىّ وعبد مناف وهاشم فلم أظفر فيهم بنقل جازم» . وأما عبد المطلب ففيه خلاف «2» والأشبه أنه من أهل الفترة، وممن لم تبلغه الدعوة، وقد استشهد القبيل القائل بإيمانه بقوله في قصة أصحاب الفيل: لا همّ إنّ المرء يمنع ... حلّه فامنع حلالك لا يغلبنّ صليبهم ومح ... الهم غدوا محالك جرّوا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك إن كنت تاركهم وكع ... بتنا فأمر ما بدا لك   (1) الإنس والجن. (2) جاء عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يبعث جدى عبد المطلب في زى الملوك وأبهة الأشراف» كذا من السيرة الحلبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وقوله «حلالك» قال الخشني: بكسر الحاء المهملة جمع حلة وهي جماعة البيوت، والذى في النهاية «الحلال» بالكسر: القوم المقيمون المتجاورون، يريد بهم سكان الحرم، وقوله «ومحالهم» بكسر الميم: القوة والشدة، وقوله «غدوا» بالغين المعجمة: هو أصل الغد، وهو اليوم الذى يأتى بعد يومك، فحذفت لامه، ولم يستعمل تامّا إلا في الشعر، ولم يرد عبد المطلب الغد بعينه، وإنما أراد القريب من الزمان. ولا يشكل علي ذلك قصة الذبيح؛ فإنّ النذر لا يقتضى عدم الإيمان، ولا عدم نجاة أهل الفترة، وكذلك إرادة الذبح عند الأصنام الموجودة في الكعبة، فإنّ هذه محض عوائد لا عقائد، كما سيأتى ذكره. وبيانها أن عبد المطلب لما أراد حفر زمزم منعته قريش منه، واذاه بعض سفائهم، ولم يكن له ولد إلا الحارث، فنذر لئن جاء له عشرة بنين وصاروا له أعوانا ليذبحن أحدهم قربانا لله تعالى عند الكعبة. وقيل: سبب ذلك إنّ عدى بن نوفل بن عبد مناف (أبو المطعم) قال: يا عبد المطلب أتستطيل علينا وأنت فذّ لا ولد لك؟! فقال عبد المطلب: أتقول هذا، وإنما كان نوفل أبوك في حجر هاشم! فقال عدي: فأنت أيضا كنت عند أخوالك من بنى النجار حتّى ردّك عمك المطلب، قال: أبا لقلة تعيّرنى!؟ فو الله لئن اتانى الله عشرة من الولد ... إلى اخره. واحتفر عبد المطلب زمزم هو والحارث، فكانت له فخرا وعزّا، وكثر أولاده. واختلف في عدد أولاد عبد المطلب؛ فقيل: ثلاثة عشر، وقيل اثنا عشر، وقيل عشرة، وقيل تسعة. فمن قال ثلاثة عشر، قال هم: الحارث، وأبو طالب، والزبير، وعبد الكعبة، وحمزة، والعباس، والمقوّم، وحجل، وضرار، وقثم، وأبو لهب، والغيداق، فهؤلاء اثنا عشر، وعبد الله أبو النبى صلّى الله عليه وسلّم الثالث عشر. ومن جعلهم عشرة: أسقط عبد الكعبة وقال: هو المقوّم، وجعل الغيداق وحجلا وضرارا واحدا، ومن جعلهم تسعة أسقط قثم أيضا، وقد أسلم حمزة والعباس، وأن أبا لهب وأبا طالب أدركا النبوة فمات أبو لهب على دين قومه، وذهب الأكثرون إلى أن أبا طالب مات أيضا علي دين قومه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ولما حفر عبد المطلب زمزم ودلّه الله عليها وخصّه بما زاده بها خطرا وشرفا فى قومه، وعطلت كلّ سقاية كانت بمكة حين ظهرت، وأقبل الناس عليها لالتماس بركتها، ومعرفة فضلها لمكانها من البيت، وأنها سقاية الله عز وجل لإسماعيل عليه السلام، وتكامل بنوه عشرة، وقرّت عينه بهم، نام ليلة عند الكعبة فرأى في المنام قائلا يقول: يا عبد المطلب أوف بنذرك لرب هذا البيت. فاستيقظ فزعا، وأمر بذبح كبش وأطعمه للفقراء والمساكين، ثم نام فرأي: أن قرّب ما هو أكبر من ذلك، فانتبه وقرّب جملا وأطعمه للمساكين، ثم نام فنودي أن قرّب ما هو أكبر من ذلك، فقال: وما هو أكبر من ذلك؟ فقيل له: أحد أولادك الذى نذرته، فاغتمّ غما شديدا، وجمع أولاده وأخبرهم بذلك، وطلب منهم الوفاء بالنذر، فأطاعوه، وقالوا: كيف نصنع قال: ليأخذ كل واحد منكم قدحا (بكسر القاف أى سهما بغير نصل) وليكتب اسمه عليه ثم ليأتنى به، ففعلوا، ثم أتوه فدخل بهم على هبل، فدفع عبد المطلب القداح إلى القيّم، فلما أخذ ليضرب قام عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله، ويقول: اللهم إنى نذرت لك نحر أحدهم، وإنى أقرع بينهم، فأصب بذلك من شئت. ثم ضرب السادن القدح فخرج القدح علي عبد الله، وكان أحبّ ولده إليه، فقبض عبد المطلب يده عليه وأخذ الشفرة وأقبل به إلى إساف ونائلة (صنمين عند الكعبة تذبح عندهم الهدايا) فقام إليه سادة قريش من أنديتها، وقالوا له: ما تريد أن تصنع؟ قال: أو في بنذري، فقالوا: لا ندعك تذبحه حتّى تعذر فيه إلى ربك، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل يأتى بابنه فيذبحه ويكون سنّة، ولكن انطلق به إلى قطية الكاهنة (والكاهنة التى تخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان وتدّعى معرفة الأسرار) وقيل: اسمها سجاح (على ما ذكر ابن إسحاق) ، فلعلها أن تأمرك بأمر فيه فرج لك. فانطلقوا حتّى أتوها بخيبر، وقصّ عبد المطلب عليها القصة، فقالت لهم: كم الدية فيكم؟ فقالوا: عشرة من الإبل، فقالت: فارجعوا إلى بلادكم، ثم قرّبوا صاحبكم، وقرّبوا عشرة من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها القداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا في الإبل عشرة أخرى، وهكذا حتّى يرضى ربكم ويخلص صاحبكم، فإذا خرجت علي الإبل فانحروها، فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم. فرجع القوم إلى مكة وقرّبوا عبد الله وعشرة من الإبل، وقام عبد المطلب يدعو فقال: اللهم أهو أحب إليك أم مائة من الإبل؟ والذى في «الإمتاع» : اللهم أهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أحب إليك أم مائة من تلاد إبلى؟ (وتليد المال وتلاده: قديمه ونفيسه) فخرجت القداح على عبد الله، ولم يزل يزيد عشرا عشرا حتّى بلغت الإبل مائة، فخرجت القداح على الإبل، ففداه بمائة من الإبل، ولذلك صارت الدية مائة من الإبل، فنحرت المائة كلها، وتركت لا يصدّ عنها إنسان ولا طائر ولا سبع، وأوّل من سنّ الدية مائة من الإبل عبد المطلب، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «أنا ابن الذبيحين» «1» ويعني بهما والده عبد الله وجدّه إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وروى الحاكم أنّ أعرابيا قال للنبى صلّى الله عليه وسلّم: «يا ابن الذبيحين» فتبسم ولم ينكر عليه «2» . فدخول عبد المطلب بالقداح على هبل ودفعها إلى القيّم، وإقباله على إساف ونائلة قصدا للتذكية والذبح، كل هذا لا يقدح في تبرئته من عبادة الأصنام، فهذه الحركات الصادرة من قبيل العوائد لا العقائد، بدليل قوله: «اللهم إنى نذرت لك نحر أحدهم، وإنى أقرع بينهم فأصب بذلك من شئت» فإن هذا أدلّ دليل على اعترافه بالألوهية مع ما ينقل عنه أنه كان مجاب الدعوة، محرّم الخمر على نفسه، وأنه أوّل من تحنّث بحراء، وكان إذا استهل رمضان صعده وأطعم المساكين، وكان يرفع من مائدته للطير والوحوش في رؤوس الجبال. وذكر ابن اسحق أن عبد المطلب وجد في زمزم غزالين من ذهب، وهما الغزالان اللذان دفنتهما جرهم حين خرجت، ووجد فيها أسيافا قلعية «3» وأدراعا، فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق، قال: لا، ولكن هلموا إلى أمر نصف بينى وبينكم، يضرب عليها القداح، قالوا: وكيف تصنع؟ قال: أجعل للكعبة قدحين، ولى قدحين، ولكم قدحين، فمن خرج قدحاه على شيء كان له،   (1) أورده الزمخشرى في الكشاف في تفسير قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ. (2) انظر المقاصد الحسنة للسخاوى ص 14 حديث رقم 13، والسيرة الحلبية. ومما يؤيد أن الذبيح إسماعيل قوله تعالى في سورة الصافات بعد سرد قصة الذبح وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ فالواو تفيد المغايرة، أى تفيد أن الذى حدثت له قصة الذبح أحد اثنين، والمبشر بنبوته وصلاحه هو الاخر. وكلام بعض المفسرين الذين ذهبوا إلى أن الذبيح إسحاق يخالف اللغة التى هي أصل من أصول التفسير، والله تعالى أعلم. (3) القلعية نسبة للقلعة، وهى بلد بالهند ينسب إليها الرصاص والسيوف (هامش الأصل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ومن تخلّف قدحاه فلا شيء له. فقالوا: أنصفت. فجعل قدحين أصفرين للكعبة، وقدحين أسودين لعبد المطلب، وقدحين أبيضين لقريش، ثم أعطوها صاحب القداح الذى يضرب بها عند هبل، وقام عبد المطلب يدعو وصاحب القداح يضرب بها، فخرج الأصفران على الغزالين، وخرج الأسودان على الأسياف والأدراع، وتخلف قدحا قريش، فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين، فكان أوّل ذهب حلّيته الكعبة. و «هبل» بضم الهاء وفتح الباء: صنم اتخذته قريش علي بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئر هى التى تجمع فيها ما يهدى للكعبة، وكان عنده قداح سبعة، كل قدح منها فيه كتاب: قدح فيه العقل «1» إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة، فإن خرج العقل، فعلى من خرج حمله. وقدح فيه: «نعم» للأمر، إذا أرادوه، يضرب به في القداح، فإن خرج قدح: نعم، عملوا به. وقدح فيه «لا» إذا أرادوا الأمر ضربوا به في القداح؛ فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه «منكم» ، وقدح فيه «ملصق» ، وقدح فيه «من غيركم» ، وقدح فيه المياه، إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح فحيثما خرج عملوا به، وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما أو ينكحوا منكحا أو يدفنوا ميتا أو شكّوا في نسب أحدهم، ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب القداح الذى يضرب بها، ثم قرّبوا صاحبهم الذى يريدون به ما يريدون، ثمّ قالوا: يا إلهنا، هذا فلان ابن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج لنا الحقّ فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فإن خرج عليه «منكم» كان منهم وسيطا، وإن خرج عليه «من غيركم» كان حليفا، وإن خرج عليه «ملصق» كان على منزلته فيهم؛ لا نسب له ولا حلف، وإن خرج في شيء مما سوى هذا ممّا يعملون به «نعم» عملوا به. وإن خرج «لا» أخّروه عامه ذلك، حتى يأتوا به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. هذا ما ذكره ابن هشام. والذى ذكره غيره، أنهم كانوا إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على   (1) هو ما تدفعه قبيلة القاتل دية للمقتول، وسمى عقلا لأنه يعقل أى يمنع القبائل عن أن يعتدى بعضها على بعض، والقبيلة تسمّى عاقلة لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 أحدها «أمرنى ربي» ، وعلى الاخر «نهانى ربي» والثالث غفل؛ فإن خرج الامر مضوا علي ذلك، وإن خرج الناهى تجنبوا عنه، وإن خرج الغافل أجالوها ثانيا اهـ. والقداح جمع قدح (بكسر القاف وسكون الدال) هو السهم الذى كانوا يستقسمون به، يقال للسهم أوّل ما يقطع: قطع (بكسر القاف وسكون الطاء) ، ثم ينحت ويبرى فيسمّى بريا، ثم يقوّم قدحا، ثم يراش ويركّب نصله فيسمى سهما، والقدّاح: صانعها، وهى الأزلام المذكورة في قوله عز وجل: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ [المائدة: 3] جمع (زلم كجمل) ، و (زلم) كصرد. اهـ. * وأما عبد الله فكان أيضا صاحب أمانة وصيانة، كما يفهم ذلك من واقعته مع الخثعمية؛ وذلك أنه مرّ بامرأة من خثعم- بعد انصرافه مع أبيه عبد المطلب من نحر الإبل- يقال لها فاطمة بنت مرّة، وكانت من أجمل النساء وأعفهن، وكانت كاهنة قد قرأت الكتب، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله، فقالت له- حين نظرت إلى وجهه- وكان أحسن رجل رؤي في قريش- «لك مثل الإبل التى نحرت عنك وقع عليّ الان» لما رأت في وجهه من نور النبوة، ورجت أن تحمل بهذا النبى الكريم صلّى الله عليه وسلّم، فأجابها بقوله: أمّا الحرام فالممات دونه ... والحلّ: لا حلّ فأستبينه فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه وفي لفظ: «فالحمام دونه» بكسر الحاء المهملة بمعناه، وقيل: هو قدر الموت وقضاؤه، من قولهم: حمّ كذا أي: قدر بالبناء للمفعول، والمعنى: الموت أيسر من فعل المحرم. وقوله: أما الحرام، سماه حراما وإن لم يكونوا أهل شرع؛ لأن الزنا مما علموا حرمته من بقايا دين إبراهيم عليه السلام، إذ يحتمل أن حرمة الزنا وحل النكاح من الأحكام التى كانت باقية من شريعة إبراهيم عليه السلام ولم تغيّر، وقد صرّح بذلك السهيلي. وقوله: «يحمى الكريم» إلى اخره، أي لو لم يكن فى هذا الفعل مؤاخذة، فالمروءة تمنع منه، وكرم الكريم وعرضه يمنعانه من مثل ذلك. ويقال: إن التى عرضت عليه من بنى أسد بن عبد العزّي، واسمها قتيله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 (بضم القاف وفتلله المثنّاة الفوقية) ، وقيل «رقيقة» (بضم الراء وفتح القاف بعدها مثناة تحتية ثم قاف أخرى بعدها تاء تأنيث تقلب في الوقف هاء) تكني: أم قتال، وهى أخت ورقة بن نوفل رضى الله عنه، ويقال: إن التى عرضت عليه «ليلى العدوية» . والجمع ممكن لاحتمال أن يكون مرّ عليهن كلهن ودعوته؛ لما رأين من النور في وجهه، كما لا يخفي. والجمهور على أنها قتيلة. [زواج أبيه بأمه] : ولما أراد الله إظهار السر المصون الساري في الظهور والبطون من عالم الخفاء إلى عالم الظهور، ليتمّ بذلك كمال الصفا ومزيد السرور، ألهم عبد المطلب أن يذهب إلى وهب بن عبد مناف، وهو سيد بنى زهرة يومئذ نسبا وشرفا، فخطب منه ابنته امنة أفضل امرأة في قريش حسبا ونسبا وجمالا لولده عبد الله، فزوّجه إياها ودخل بها مكانه، فحملت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ليلتها، ثم ذكر فاطمة الخثعمية وجمالها وما عرضت عليه ودعته نفسه؛ فأتاها فقال لها: هل لك فيما كنت عرضت علي وليس المراد أنها دعته إلي طلب الزنا والميل ألبتة، فقد علم انتفاء ذلك من قوله: «يحمى الكريم عرضه» ، وإنما المراد أن نفسه دعته ليختبر السبب الحامل لها على أن طلبت منه ما طلبت؛ مع جعل المائة من الإبل في ذلك الطلب. فقالت: لا تطلبنّ الأمر إلا مقبلا ... قد كان ذاك مرة؛ فاليوم لا فذهبت (أى الجملة) مثلا، أى سارت مثلا؛ وهو كلام شبّه مضربه بمورده؛ ويقال لكل من أذن له في شيء لنيل غرض منه، ففوّت المأذون له الغرض؛ فامتنع الاذن من تمكين المأذون له من فعل المأذون فيه. وقالت: أي شيء صنعت بعدي قال: وقعت على زوجتى امنة، فقالت: والله لست بصاحبة ريبة، ولكنى رأيت نور النبوة في وجهك فأردت أن يكون ذلك فيّ، فأبى الله إلا أن يجعله حيث جعله. فكان يرضى الخلّاق، ويتمسك بمكارم الأخلاق، ويدل على ذلك كله، واستمرار التوحيد في ذرية إبراهيم وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم: 35] فقد تحققت دعوته لا سيما في اباء النبى صلّى الله عليه وسلّم: حفظ الإله كرامة لمحمد ... اباءه الأمجاد صونا لاسمه تركوا السفاح فلم يصبهم عاره ... من ادم وإلى أبيه وأمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 * ومات أبوه صلّى الله عليه وسلّم وله سنتان، وقيل غير ذلك، ودفن بالأبواء على الراجح. وكفلته أمه امنة، وماتت بالأبواء (محل بين مكة والمدينة) وتقدم نسبها من جهة الأب في أوّل الفصل. وأما نسبها من جهة الأم فهى بنت برّة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصى بن كلاب، فتلتقى هى وزوجها وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب: فى كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر، ويفترقان في ولد كلاب، فبرّة من ولد قصى بن كلاب، ثم من ولد عبد الدار، فهى قرشية عبدرية، وزوجها من ولد زهرة بن كلاب، فهو قرشى زهري. ولما ولدت السوداء بنت زهرة بن كلاب، وهى عمة وهب أبى امنة، أرسل بها أبوها من يئدها، فخرج الوائد حتي أتي بها الحجون، فحفر لها ووضعها في حفرتها، فصاح صائح من الجبل: «يا وائد الصبية: ربّ فرس ردود، ومطعم يجود، فى السنة الجلمود، من الصبية الوئيد» فرفع رأسه فلم ير أحدا، فعاد لأن يئدها، فصاح به «يا وائد الصبية، امض ودعها عنك في البرية؛ إنّ لها علما في الأنسية» . فرجع بها إلى أبيها فأخبره الخبر، فقال: دعها فإن لها شأنا. فعمّرت. وكانت تقول: يا بنى زهرة: إن فيكم لنذيرة، أو والدة نذير، فاعرضوا عليّ نساءكم. فعرضن عليها حتّى مرت بها الشفّاء أم عبد الرحمن ابن عوف، فقالت: ليست بها، ولتلدنّ، فولدت عبد الرحمن. وعرضت عليها بنت عبد الحارث، أم عبد الله بن مسعود، فقالت: ليست بها، ولتلدنّ، فولدت عبد الله بن مسعود، وعرضت عليها هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة، فقالت: ليست بها، ولتلدن، فولدت حمزة وصفية والمقوّم بنى عبد المطلب، وعرضت عليها امنة بنت وهب، فقالت: إنها لنذيرة، ولتلدن نذيرا، فولدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولم يتزوج عبد الله غير امنة لا قبلها ولا بعدها، كما أنها لم تتزوج بغير عبد الله لا قبله ولا بعده، ولم تلد غير النبي، فهو بكر أبويه صلّى الله عليه وسلّم. ولمّا مات أبوه لم يترك له صلّى الله عليه وسلّم سوى جاريته أم أيمن (بركة الحبشية) مع أمه؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وبعد أمه زوّجها لحبه زيد ابن حارثة، فولدت لزيد أسامة الذى قال فيه صلّى الله عليه وسلّم: «أسامة أحبّ الناس إليّ» . * وكفله جده عبد المطلب وأكرمه غاية الإكرام وأجلّه لعلمه أنه سيصير له إقبال عظيم يحقق. * ثم كفله عمه أبو طالب، وكان موظفا بوظيفة الرفادة؛ وهي إطعام الطعام لسائر الحجاج أيام الموسم، فكانت تمد لهم الأسمطة حيث هم ضيوف بيت الله الحرام، وكان أبو طالب يحبه حبا شديدا زائدا على أولاده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج معه متى خرج، وجاءت قريشا سنة شديدة القحط، فخرج أبو طالب ومعه النبى صلّى الله عليه وسلّم يستسقى به، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ بأصبعه صلّى الله عليه وسلّم، فأقبل السحاب متراكما، ونزل المطر كأفواه القرب، فأخصب الوادى والنادي، وفي ذلك يقول أبو طالب: وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامي عصمة للأرامل وهى أكثر من ثمانين بيتا ذكرها ابن إسحاق، والثمال (بكسر المثلاثة: الملجأ) ، وعصمة الأرامل: أي يمنعهم من الضياع والحاجة، والأرامل: المساكين من الرجال والنساء، ويقال لكل واحد من الفريقين علي انفراده: أرمل، وهو بالنساء أخص وأكثر استعمالا، والواحد أرمل وأرملة، وأنشأ أبو طالب في مدح النبى صلّى الله عليه وسلّم أبياتا منها هذا البيت: وشقّ له من اسمه ليجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمد وحسان بن ثابت ضمّن شعره هذا البيت فقال: ألم تر أنّ الله أرسل عبده ... باياته، والله أعلي وأمجد أغرّ عليه للنبوّة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد وضمّ الإله اسم النبي إلي اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد وشقّ له من اسمه ليجلّه ... فذو العرش محمود وهذا محمد نبيّ أتانا بعد يأس وفترة ... من الدين والأوثان في الأرض تعبد وأرسله ضوا منيرا وهاديا ... يلوح كما لاح الصقيل المهند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 [تعبده صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة] : وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبغض حضور الأصنام مع قومه، ولم يأكل مما ذبح على النّصب، وما عبد غير الله، وما شرب خمرا، وكذلك الأنبياء لم يعبدوا سوى الله قبل أن يوحى إليهم؛ فإنهم معصومون عن الكبائر والصغائر، وعن الكفر قبل البعثة بالاتفاق. واختلف في تعبده صلّى الله عليه وسلّم: هل كان بشريعة من قبله أو لا؟ فقيل: إنه كان متعبدا بشريعة موسي، وقيل بشريعة عيسي، وقيل بشريعة إبراهيم، وقيل بشريعة نوح عليهم السلام، وقيل إنه لم يكن متعبدا، والمختار أنه كان متعبدا قبل البعث؛ لأنه ثبت أنه كان متعبدا في غار حراء، والتعبد لا يكون إلا بشريعة؛ لأن الحاكم هو الشرع عند أهل الحق، وعلى مذهب المعتزلة (القائلين بحكم العقل) الأمر أظهر؛ إذ العبادة لا تتوقف على هذا التقدير على شريعة. [رضاعه] : وأرضعته أمه سبعة أيام، ثم أرضعته ثويبة الأسلمية بلبن ابنها مسروح، وكانت أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وكان أسنّ من النبى صلّى الله عليه وسلّم بأربع سنين علي الصحيح، وقيل بسنتين، فهو عمه من النسب، وأخوه من الرضاع، وأمه بنت عم أمه؛ لأن حمزة أمه هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وامنة هى بنت وهب بن عبد مناف، وكان عبد المطلب تزوج هالة أم حمزة بعد نحر الإبل فداء لعبد الله قبل عام الفيل بخمس سنين، فلم يكن حمزة داخلا في القرعة، فلا يبعد كون حمزة أسن من النبى صلّى الله عليه وسلّم بأربع سنين وأنه أرضعته ثويبة قبله لجواز أن تكون أرضعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في اخر رضاع ابنها، وأرضعت حمزة فى أوله، وأما على القول بأن حمزة رضى الله تعالى عنه أسن من النبى صلّى الله عليه وسلّم بسنتين، فلا إشكال في الرضاع. وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم يبعث إلى ثويبة من المدينة بصلة وكسوة. واختلف في إسلامها، وأثبته ابن منده. وكذلك أرضعته ثويبة مع أبى سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى القرشى المخزومى زوج أم سلمة، أسلم بعد عشرة أنفس، وهاجر مع امرأته أم سلمة إلى أرض الحبشة، وهو أوّل من هاجر إليها وشهد بدرا واستخلفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة فى غزوة العشيرة، وتوفى سنة ثلاث من الهجرة، وقال لما احتضر: «اللهم اخلفنى في أهلى بخير» ، فخلفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على زوجه أم سلمة رضى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 عنها، وله من الولد: سلمة، وعمرو، ودرة، وزينب أمهم أم سلمة. وكانت ثويبة جارية أبى لهب، فأعتقها حين بشرته بولادته صلّى الله عليه وسلّم عتقا منجزا، ثم جعلها ترضعه بعد ولادته أياما. وذكر عروة بن الزبير أن أبا لهب رؤى في النوم بشرّ حيبة «1» فقيل له: ماذا لقيت فقال له: لم ألق بعدكم رخاء، غير أنّى سقيت في هذه منى بعتاقتى ثويبة، (وأشار إلى النقيرة التي بين الإبهام والتى تليها من الأصابع) . (وفي رواية أن الرائى كان من أهله، وأنه أخوه العباس بن عبد المطلب، قال: مكثت حولا بعد موت أبى لهب لا أراه في نوم، ثم رأيته في شر حال، فقال: «ما لقيت بعدكم راحة، إلا أن العذاب يخفّف عنى كل يوم اثنين» وذلك أن رسول صلّى الله عليه وسلّم ولد يوم الاثنين «2» ، وكانت ثويبة مولاته قد بشرته بمولده، وقوله: (بعتاقتي) ، بفتح العين أحد مصادر عتق العبد الذى هو فعل لازم) فالحكمة في التعبير به دون التعبير بالإعتاق، وإن كان هو الأنسب؛ لأن العتاقة أثر الإعتاق، فلذلك أضافها لنفسه. قال ابن بطال: ومعنى قوله (سقيت في هذه الخ) : أن الله سقاه ماء في مقدار نقرة إبهامه، لأجل عتقه ثويبة. قال ابن حجر: واستدل به على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة، وهو مردود بظاهر قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «3» [الفرقان: 23] لا سيما والخبر مرسل، أرسله عروة، ولم يذكر من حدّثه به، وعلى تقدير أن يكون موصلا فلا يحتجّ به؛ إذ هو رؤيا منام لا يثبت به حكم شرعي. لكن يحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبى صلّى الله عليه وسلّم مخصوصا بذلك، بدليل التخفيف عن أبى طالب «4» المرويّ في الصحيح. وعلى هذا جرى جمع؛ قال البيهقي: ما ورد من بطلان الخير للكفار   (1) الحيبة: الحالة. اهـ (من هامش الأصل) . (2) هذا خبر مشهور جدا، وقد كان يصومه صلّى الله عليه وسلّم. (3) وبقوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف: 20] . (4) حديث عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلى منهما دماغه، صحيح مسلم 1/ 196 كتاب الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 معناه أنهم لا يكون لهم التخلّص من النار، ولا دخول الجنة، ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذى يستوجبونه على ما ارتكبوه من الجرائم ثمّ سوى الكفر، بما عملوه من الخيرات. والذى قاله القاضى عياض: [انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض. قال الحافظ: وهذا لا يردّ الاحتمال الذى ذكره البيهقي؛ فإن جميع ما ورد من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر، وأمّا ذنب غير الكفر، فما المانع من تخفيفه؟] وقال القرطبي: [هذا التخفيف خاصّ بهذا، وبمن ورد النص فيه] ، وقال ابن المنيّر: [هما فضيلتان إحداهما محال، وهى اعتبار طاعة الكافر مع كفره؛ لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وهذا مفقود من الكافر، وإثبات ثواب على بعض الأعمال: تفضل من الله تعالى، وهذا لا يحيله العقل، فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبى لهب لثويبة قربة معتبرة، ويجوز أن يتفضل الله عليه بما شاء كما تفضل على أبى طالب، والمتبّع في ذلك التوقيف نفيا وإثباتا قال الحافظ: فوقوع التفضيل المذكور إنما هو إكرام لمن وقع البرّ من الكافر لأجله، وهو النبى صلّى الله عليه وسلّم] انتهي. قال ابن الجوزي: فإذا كان هذا حال أبى لهب الذى مات على دين قومه، ونزل القران بذمه: جوزي بعد موته جزاء بفرحه بمولد محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ فما حال المسلم المواحد من أمته يفرح ويسرّ بمولده صلّى الله عليه وسلّم، ويبذل ما تصل إليه قدرته في محبته صلّى الله عليه وسلّم من الصدقات لعمرى إنما يكون جزاؤه من المولى الكريم أن يدخله بفضله وكرمه جنات النعيم. ولله درّ حافظ الشام: شمس الدين محمد بن ناصر الدمشقي، حيث قال: إذا كان هذا كافرا جاء ذمّه ... وتبّت يداه في الجحيم مخلّدا أتي أنه في يوم الاثنين دائما ... يخفّف عنه للسرور بأحمدا فما الظنّ بالعبد الذي كان عمره ... بأحمد مسرورا؛ ومات موحّدا مات أبو لهب بداء «العدسة» فى مكة على دين قومه بعد بدر بسبعة أيام، وكان قد بلغه خبر بدر ولم يشهدها. والعدسة: بثر كانت تخرج على الناس، تزعم العرب أنها تعدي، شبيهة بالطاعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 * وعلى ذكر الطاعون؛ فقد ورد النهى عن دخول بلد فيها الطاعون؛ لأن الدخول إلى موضع النّقم تعرّض للهلكة، فالمقام بالموضع الذى لا طاعون فيه أسكن للقلب، فليتأدب الشخص بأدب الحكمة، وهى الفرار من الهلاك ولا يعارضها بالقدر الذى تضمنته اية: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا (51) [التوبة: 51] . ولهذا قال عمر لأبى عبيدة رضى الله عنهما حين قال: أتفرّ من قدر الله!؟: يا أبا عبيدة، لو غيرك قالها!؟ جواب الشرط محذوف يدل عليه السياق «1» : ... نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله. ولما رمى أبو لهب بالعدسة تباعد عنه بنوه، فبقى ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يدفن، فلما خافوا السبّة دفعوه بعود في حفرته، ثم قذفوه بالحجارة من بعد حتّى واروه. وذكر أن عائشة كانت إذا مرت بموضعه غطت وجهها. وله من الولد ثلاثة: عتبة، وعتيبة، ومعتب، ومن الإناث: درة، وسبيعة، أسلم منهم اثنان يوم فتح مكة ولم يهاجرا من مكة حتّى ماتا ولهما بها عقب. ودرة وسبيعة أسلمتا، وكان عتبة ومعتب قد هربا من الإسلام، فأرسل إليهما عمهما العباس، فقدما وأسلما، فسرّ بذلك عليه السلام، وشهدا معه حنينا والطائف. وأما عتيبة فإنه لما أسلمت أم كلثوم ابنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فارقها، وقال: يا محمد فارقت ابنتك وتركت دينك، فلا تحب لى خيرا أبدا. فدعا عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسلط الله عليه كلبا من كلابه، فخرج إلى الشام تاجرا، فلما كان في بعض الطريق جاءه الأسد ففزع وقال: أترى ابن أبي كبشه «2» قاتلى وهو بمكة وأنا بالشام! فأدخله أصحابه بينهم وتوسّطوا به جميعهم، فلما كان في بعض الليل أتاهم الأسد فتعدّاهم رجلا رجلا، حتى أتى إليه فشدخه من بينهم، وفيه قال حسان: من يرجع العام إلي أهله ... فما أكيل السبع بالراجع وأما أبوهما أبو لهب، وأمهما أم جميل، حمّالة الحطب، فيكفيهما ما أنزل الله   (1) السياق يقتضى «لقبلته منه» أو «لعاقبته» . (2) اسم كان يطلقه مشركو مكة علي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أصله أن أبا كبشه رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان وعبد كوكبا يدعى الشعري. فسمى المشركون النبى صلّى الله عليه وسلّم بهذا الاسم تشبيها به. انظر اللسان (5: 1812) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فيهما من قوله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ السورة، وقال بعض العلماء في أولاد أبى لهب: كرهت عتيبة إذ أجرما ... وأحببت عتبة إذ أسلما كذلك معتب اسلم فاح ... ترز أن تسبّ فتى مسلما ومثل عتبة وعتيبة في الصلاة والفحش: عبد الله وعبيد الله ابنا جحش؛ فإنّ عبد الله تبيّن وتبصّر فأسلم، وعبيد الله افتتن وتنصّر فأجرم، وإن الأكبر هو الأفضل والأصغر هو الأرذل. * ثم أرضعت النبى صلّى الله عليه وسلّم حليمة السعدية بنت أبى ذؤيب (تصغير ذئب) واسمه عبد الله بن الحارث، ومن سعادتها توفيقها للإسلام «1» هى وزوجها الحارث بن عبد العزّى بن رفاعة السعدى وبنوها: عبد الله، والشيماء، وأنيسة، وقد ألّف الحافظ أبو سعيد علاء الدين بن مغلطاى في إسلامها جزا وسماه (التحفة الجسيمة في إسلام السيدة حليمة) وقال في سيرته: «وبقيت حليمة حتّى قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة، وقد تزوج خديجة، فشكت إليه جدب البلاد وهلاك الماشية، فكلّم لها خديجة فأعطتها أربعين شاة وبعيرا، وانصرفت إلى أهلها. وقدمت عليه أيضا في يوم حنين، فقام لها وبسط لها رداءه، فجلست عليه وقضى حاجتها، فلما توفى صلّى الله عليه وسلّم قدمت على أبى بكر الصديق فصنع لها مثل ذلك، ثم عمر، ففعل ذلك. وأنشد في اخر الجزء المذكور: أضحت حليمة تزدهي بمفاخر ... ما نالها في عصرها ذو شان منها الكفالة والرضاع وصحبة ... والغاية القصوي: رضي المنّان ومضمون قصتها مع اختصار: أنها قدمت مكة من البادية في سنة قحط شديدة لم تبق لهم شيئا صحبة عشر نسوة من قومها يلتمسن الرضعاء، ومعها ابن لها رضيع مجهود، وزوجها أبو أولادها الحارث، وكلاهما من بنى سعد بن   (1) حديث إرضاع السيدة حليمة رضى الله عنها للنبى صلّى الله عليه وسلّم رواه عنها عبد الله بن جعفر، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، وصرّح فيه بالتحديث بين عبد الله بن جعفر وحليمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 بكر بن هوازن، فلم يبق منهن امرأة إلا وقد عرض المبارك عليها فتأباه إذا قيل لها: إنه يتيم، ثم أخذته هي «1» إذ لم تجد غيره، فرأته مدرجا في ثوب صوف أبيض يفوح منه المسك، وكان راقدا على قفاه، فهابت أن توقظه، فوضعت يدها على صدره فتبسّم ضاحكا، وفتح عينيه فقبّلته وأعطته ثديها الأيمن فقبله، وحوّلته إلى الأيسر فأبي؛ لأن الله ألهمه العدل وأعلمه أن له شريكا هو ابنها فترك له ثديها الأيسر، وكانت هى وناقتها في أشد الجوع والهزال وعدم اللبن، فبمجرد أن وضعته في حجرها أقبل (أى درّ عليه) ثديها فروى وروى أخوه، ودرت ناقتهم فأشبعتهم تلك الليلة لبنا، فلمّا أصبحت ودّعت أمه امنة وركبت أتانها، فلما خرجت مع قومها سبقت أتانها الكلّ بعد أن كانت لا تنهض بها، فأنكر صويحباتها أنها هي، فلمّا علمنها قلن: إن لها شأنا عظيما. ولما وصلوا منازلهم كانت أجدب أرض الله، فكانت غنم حليمة ترجع ملاى، بخلاف غنمهم، مع أنها كلها بمحلّ واحد، فلله درّها من بركة كثرت بها مواشي حليمة ونمت وارتفع قدرها به وسمت، ولم تزل حليمة تتعرف الخير والسعادة، وتفوز منه بالحسنى وزيادة، وقيل: لقد بلغت بالهاشميّ حليمة ... مقاما علا في ذروة العز والمجد وزادت مواشيها وأخصب ربعها ... وقد عمّ هذا السعد كلّ بني سعد ولا يخفى أن قدوم نساء بنى سعد للرضعاء إنما كان لطلب الأجر على الرضاع. قال السهيلى رحمه الله تعالى: والتماس الأجر على الرضاع لم يكن محمودا عند أكثر العرب، حتى جرى المثل «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها» «2» أى ولا   (1) حديث الرضاعة حديث مشهور، روته أغلب كتب السنة، منها أبو يعلي، وابن حبان في صحيحه. (2) قال الميدانى في مجمع الأمثال بعد كلام وقصة طويلة: « ... ثم ارتحل بها (أى بالزباء بنت علقمة بن خصفة الطائي) ، وهى من أجمل بنات العرب انذاك- إلى قومه؛ فبينما هو ذات يوم جالس- أى زوجها الحارث بن سليل؛ وكانوا قد زوّجوها له وهى كارهة؛ لأنه رجل مسنّ- وهى إلى جانبه، إذ أقبل إليه شباب يعتلجون؛ فتنفست صعداء، ثم أرخت عينيها بالبكاء، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: ما لى وللشيوخ الناهضين كالفروخ! فقال لها: ثكلتك أمك «تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها» . فذهبت مثلا اهـ. ملخصا من مجمع الأمثال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 تهتك نفسها وتبدى منها ما لا ينبغى أن تبدي. وتعقبه في «الزهر» أن المثل غير مسوق لذلك، وكان «1» عند بعضهم لا بأس به. فقد كانت وسيطة في بنى سعد، كريمة من كرائم قومها، بدليل اجتباء الله تعالى إياها برضاع نبيه صلّى الله عليه وسلّم، كما اختار له أشرف البطون والأصلاب. والرضاع كالنسب، ويحتمل أن تكون حليمة ونساء قومها طلبن الرضاع اضطرارا للأزمة التى أصابتهم، والسنة الشهباء التى أقحمتهم؛ فلما تم له صلّى الله عليه وسلّم عند حليمة سنتان عادت به إلى أمه، ثم فطمته. قال بعضهم: وتجوز الزيادة على الحولين والنقص عنهما. لكن قال الحناطى فى فتاويه: يستحب قطع الرضاعة عند الحولين إلا لحاجة، وقال ابن كثير في تفسيره: ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرّت الولد في بدنه وعقله. ومما ينسب إلى حليمة مما كانت ترقّص به النبى صلّى الله عليه وسلّم: يا ربّ إذ أعطيته فأبقه ... واعله إلى العلى ورقه وادحض أباطيل العدا بحقه ويظهر أنه مفتعل، وإن كان معناه جيدا. * وروى أنه أرضع النبى صلّى الله عليه وسلّم ثمان نسوة غير امنة: ثويبة، وحليمة، وخولة بنت المنذر، وأم أيمن، (والمعروف أنها من الحواضن) ، وامرأة سعدية غير حليمة، وثلاث نسوة اسم كل واحدة منهن عاتكة، فى قوله صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين. «أنا ابن العواتك من سليم «2» » والعواتك ثلاث نسوة كنّ أمهات النبى صلّى الله عليه وسلّم «3» : إحداهن: عاتكة بنت هلال، وهى أم عبد مناف بن قصي. والثانية: عاتكة بنت مرّة بن هلال، وهى أم هاشم بن عبد مناف. والثالثة: عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، وهى أم وهب أبى امنة أم النبى صلّى الله عليه وسلّم. فالأولى من العواتك عمة الثانية، والثانية عمة الثالثة، وبنو سليم تفتخر بهذه الولادة، ولم يرد صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «أنا ابن العواتك» الفخر، وإنما أراد به تعريف منازل   (1) أى الإرضاع. (2) رواه الطبراني، وسعيد بن منصور عن شبابة بن عاصم. (3) هنا بمعنى جدّاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 المذكورات ومراتبهن، كرجل يقول: كان أبى فقيها، ولا يريد الفخر، وإنما يريد به تعريف حاله دون ما عداه، وقد يكون أراد به التحدث بنعمة الله تعالى في نفسه وابائه وأمهاته على وجه الشكر، وليس ذلك من الاستطالة والفخر في شيء. ولبنى سليم مفاخر أخرى منها: أنها ألّفت معه يوم فتح مكة، أى شهده منهم ألف، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدّم لواءهم يومئذ على الألوية، وكان أحمر، ومنها أن عمر كتب إلى أهل الكوفة والبصرة ومصر والشام أن ابعثوا إليّ من كل بلد أفضله رجلا. فبعث أهل الكوفة عتبة بن فرقد السلمي، وبعث أهل البصرة مجاشع بن مسعود السلّمي، وبعث أهل مصر معن بن يزيد السلمي، وبعث أهل الشام الأعور السلمى. وسبب دفع أمه إياه لمن ترضعه أن هذا كان عادة قريش وأشراف العرب في أولادهم، ولو كانت الأم حيّة ولها لبن؛ لأن نساءهم كنّ يرين إرضاع أولادهن عارا «1» عليهن، وأيضا إذا نشأ الرضيع غريبا كان أنجب له، مع ما يضاف إلى ذلك من تفرّغ النساء للأزواج، وإن كان هذا منتفيا هنا؛ لأن أباه صلّى الله عليه وسلّم توفى وهو حمل على الصحيح. والأولى في التعليل أن ينشأ غريبا، على أن هذه العادة عادة أشراف الدنيا قديما وحديثا، لا سيما بالأقطار الحجازية بالنسبة للحواضر؛ فإنهم يبعثون بأبنائهم إلى البوادى للتربية بها مع ما ينضم إلى ذلك من خاصية فصاحة العربية العريقة بالبادية القليلة المخالطة بما يفسد اللغات، فهذه هى حالته صلّى الله عليه وسلّم حيث منّ الله على حليمة السعدية فأرضعته مع ابنها الذى شرب النبى صلّى الله عليه وسلّم من لبنه، وهو عبد الله بن الحرث. وكان له صلّى الله عليه وسلّم أختان: أنيسة والشيماء بنتا الحرث، الشيماء واسمها حذاقة، وإنما غلب لقبها فلا تعرف في قومها إلا به، وسبيت يوم حنين، فقالت «يا قوم اعلموا أنى أخت نبيكم» فلما أتوا بها النبى صلّى الله عليه وسلّم قالت له: «إنى أختك، وكنت عضضتنى وأنا أحضنك مع أمي» . فعرف ذلك وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، ودمعت   (1) بل لأن أهل مكة بالذات كانوا حريصين على إرضاع أولادهم في البادية حفاظا على اللغة الفصحى من أن تختلط في لسان الولد، وذلك لأن مكة مركز تجارى يأتى إليها العربى وغير العربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 عيناه، وقال لها: «إن أحببت فأقيمى عندى مكرمة محبّبة، وإن أحببت أن ترجعى إلى قومك وصلتك» . قالت: بل أرجع إلى قومي. فأسلمت «1» ، وأعطاها النبى صلّى الله عليه وسلّم جارية وغلاما اسمه مكحول، فزوجت الجارية من الغلام، وكانت تحضنه صلّى الله عليه وسلّم وترقصه وتقول: هذا أخ لى لم تلده أمى ... فديته من مخول معم فأنمه اللهمّ فيما تنمي ولعل هذا الرجز مصطنع بعد، أو كان مما يرقّص به الأطفال في ذلك الزمن. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عرض على كثير من النساء فلم يرضين رضاعه ليتمه وفقره؛ ويقلن: ماذا عسى أن يكون من أمه وجدّه إلينا لله إنما يكون الإحسان من الأب. فأخذته حليمة السعدية، وقالت: لعل الله أن يجعل لنا فيه البركة. فحقق الله رجاءها. واليتم والفقر نقص في حق الخلق؛ فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام مع هذين الوصفين أكرم الخلق، كان ذلك قلبا للعادة، فكان من جنس المعجزات، وقد قيل لجعفر الصادق: لم يتم صلّى الله عليه وسلّم من أبويه؟ قال: لئلا يكون عليه حق لمخلوق، وأيضا لينظر صلّى الله عليه وسلّم) إذا وصل إلى مدارع «2» عزه لأوائل أمره، ليعلم أن العزيز من أعزّه الله تعالى: وأنّ قوّته ليست من الاباء والأمهات، ولا من المال، بل قوتّه من الله تعالى، وأيضا ليرحم الفقراء والأيتام، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «ارحموا اليتامي، وأكرموا الغرباء؛ فإني كنت في الصغر يتيما وفي الكبر غريبا» «3» .   (1) انظر ترجمتها في «الإصابة في تمييز الصحابة» لابن حجر؛ قال: وذكر محمد بن المعلى الأزدى في كتاب الترقيص قال: وقالت الشيماء ترقّص النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو صغير: يا ربنا أبق لنا محمدا ... حتى أراه يافعا وأمردا ثم أراه سيدا مسوّدا ... واكبت أعاديه معا والحسّدا وأعطه عزا يدوم أبّدا قال: فكان أبو عروة الأزدى إذا أنشد هذا البيت يقول: «ما أحسن ما أجاب الله دعاءها» اهـ. من الإصابة. (2) مدارع عزه: منتهاه. (3) قال ابن حجر الهيتمى المكى المتوفى سنة 974 هـ بعد ذكر جملة من الأحاديث منها هذا الحديث: «ارحموا اليتامى ... » الخ قال: «هذه الأحاديث كلها كذب موضوعة، لا يحل رواية شيء منها إلا لبيان أنها كذب مفترى على النبى صلّى الله عليه وسلّم، كما أفاد ذلك الحافظ السيوطى شكر الله سعيه» انتهي. من الفتاوى الحديثية ص 174 طبع الحلبى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 * وبعد ذلك مضت حليمة «1» به إلى بلادها عند سعد بن بكر، فأتاه الملكان هناك وشقّا صدره الشريف وأخرجا قلبه فغسلاه بماء الثلج في طست من ذهب، وملاه حكمة وإيمانا، واستخرجا حظ الشيطان منه (وهى مضغة سوداء) وفي رواية علقة، فلما علمت حليمة بذلك رجعت به إلى مكة لأهله بعد أن أقام نحو أربعة أعوام، فردّته إلى أمه. وشقّ صدره الشريف أيضا وهو ابن عشر سنين، ثم عند مبعثه، ثم عند الإسراء، والشق الأوّل الذى عند حليمة كان في السنة الثالثة من مولده صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: كان في الرابعة. ولكلّ من الثلاث حكمة، فالأولى التى كانت في زمن الطفولية؛ لتطهيره عن حالات الصبا حتّى يتصف في سن الصبا بأوصاف الرجولية، ولذلك نشأ عليه السلام على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان. والتى عند المبعث زيادة في الكرامة؛ ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوى في أكمل الأحوال من التطهير. والتى عند إرادة العروج إلى السماء؛ ليتأهب للمناجاة. وسكت عن حكمة شق صدره وهو ابن عشر سنين، فيحتمل أن يقال: لمّا كان العشر قريبا من سن التكليف شق صدره عليه السلام وقدس حتّى لا يتلبس بشيء مما يعاب على الرجال، وقد نظم بعضهم المواطن التى شق صدره فيها صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أيا طالبا نظم الفرائد في عقد ... مواطن فيها شقّ صدر لذي رشد لقد شقّ صدر للنبي محمد ... مرارا لتشريف، وذا غاية المجد فأولي له التشريف فيها مؤثّل ... لتطهيره من مضغة في بني سعد وثانية كانت له وهو يافع ... وثالثة للمبعث الطيب النّد ورابعة عند العروج لرّبّه ... وذا باتفاق، فاستمع يا أخا الرشد وخامسة فيها خلاف تركتها ... لفقدان تصحيح لما عند ذي النقد والحكمة في غسله بماء الثلج والبرد هى مع ما فيهما من الصفاء وعدم التكدر   (1) وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم يكرمها، فقد روى أبو داود، وأبو يعلى «أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان بالجعرانة يقسم لحما فأقبلت امرأة بدوية؛ فلما دنت من النبى صلّى الله عليه وسلّم بسط لها رداءه فجلست عليه، قال الطفيل راوى الحديث: فقلت: من هذه؟ قالوا: هذه أمه التى أرضعته» يعنى حليمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 بالأجزاء الترابية التي هى محل الأرجاس وعنصر الأكدار: الإيماء إلى أن الوقت يصفو له ولأمته، ويروق لشريعته الغرّاء وسنته، والإشارة إلى ثلوج صدره، أى انشراحه بالنصر على أعدائه والظفر بهم، والإيذان ببرودة قلبه (أى طمأنينته على أمته بالمغفرة لهم والتجاوز عن سيئاتهم) . وقال ابن دحية: «إنما غسل قلبه بالثلج؛ لما يشعر به الثلج من ثلج اليقين إلى قلبه» . وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يقول بين التكبير والقراءة: «اللهم اغسلنى من خطاياى بالثلج والبرد» «1» خصّهما بالذكر تأكيدا للطهارة ومبالغة فيها، لأنهما ما ان مفطوران على خلقتهما لم يستعملا ولم تنلهما الأيدي، ولم تخضهما الأرجل كسائر المياه التي خالطت التراب وجرت في الأنهار وجمعت في الحياض، فكانا أحقّ بكمال الطهارة. وأراد تعالى أن يغسل قلبه بماء حمل من الجنة، وطست مليء حكمة وإيمانا؛ ليعرف قلبه طيب الجنة ويجد حلاوتها؛ فيكون في الدنيا أزهد، وعلى دعوة الخلق إلى الجنة أحرص، ولأنه كان له أعداء يتقوّلون عليه، فأراد الله تعالى أن ينفى عنه طبع البشرية من ضيق الصدر وسوء مقالات الأعداء، فغسل قلبه ليورث ذلك صدره سعة ويفارقه الضيق كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الحجر: 97] ؛ فغسل قلبه غير مرة، فصار بحيث إذا ضرب أو شجّ رأسه وشظيت رباعيته كما في يوم أحد يقول: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» «2» . ولما أكمل ست سنين توجّهت أمه مع أم أيمن حاضنته عليه الصلاة والسلام لزيارة أخوال أبيه بنى النجار، وأقاموا شهرا ورجعوا ذاهبين إلى مكة، فلما نزلوا بالأبواء (محل بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب) ماتت أمه، فدخلت به أم أيمن مكة، وكان يقول لها: «أنت أمّى بعد أمي» أى في الاحترام؛ لأنها قامت مقام أمه في تربيته. فضمّه جده عبد المطلب، وكان يرقّ عليه ويعلى منزلته ويقول: إن لولدى هذا شأنا عظيما. وكان أبوه عبد الله مات وله سنتان، وقيل وهو حمل، لأن عبد المطلب كان يبعثه إلى غزة من الشام يمتار لهم طعاما مع تجار من قريش، فلما رجعوا مرض عبد الله؛ فلما دخلوا إلى المدينة تخلّف بها عند أخواله بنى النجار،   (1) جزء من حديث طويل رواه الترمذي، والنسائي وابن ماجه. (2) رواه الطبراني في الكبير عن سهيل بن سعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ثم مات بها، وله ثلاثون سنة. ولما بلغت وفاته عبد المطلب وجد عليه وجدا شديدا، والصحيح أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كانت وفاة أبيه بعد شهرين من حمل أمه به، وخلّف عبد الله جاريته أم أيمن وخمسة أجمال، وقطعة غنم، فورث ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أبويه، وكفله جده عبد المطلب حتّى مات والمصطفى صلّى الله عليه وسلّم ابن ثمانى سنين، ولا خلاف أن جده المذكور وأبويه ماتوا في الجاهلية؛ فإنه ما جاء الإسلام ونبيء حتّى بلغ الأربعين، وكان الناس قبل بعثته كما قال تعالى: لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1» [ال عمران: 164] وقد أشار إلى ذلك العراقى صاحب السيرة بقوله: مات أبوه وله عامان ... وثلث، وقيل بالنقصان عن قدر ذا، بل صحّ كان حملا ... وأرضعته حين كان طفلا مع عمّه حمزة ليث القوم ... ومع أبى سلمة المخزومي ثويبة، وهى إلى أبى لهب ... أعتقها وأنه حين انقلب هلكا: رئي يوما بشرّ حيبه ... لكن سقي بعتقه ثويبه وبعدها حليمة السعديه ... فظفرت بالدرّة السنيه نالت به خيرا وأيّ خير ... من سعة ورغد ومير أقام في سعد بن بكر عندها ... أربعة الأعوام تجنى سعدها وحين شقّ صدره جبريل ... خافت عليه حدثا يئول ردّته سالما إلى امنه ... وخرجت به إلى المدينة تزور أخوالا له فمرضت ... راجعة فقبضت وتوفيت هناك بالأبواء وهو عمره ... ستّ سنين مع شئ يقدره ضابطه بمائة أياما ... وقيل: بل أربعة أعواما وحين ماتت حملته بركه ... لجدّه بمكة المباركه كفله إلى تمام عمره ... ثمانيا ثم مضى لقبره   (1) ( ... وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين) . [ال عمران: 164] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الفصل الثانى فى ذكر عمل مولده الشريف، وإشهاره كلّ سنة وفيما جرى في مولده وفيما بعده من الوقائع فى الأخبار المشهورة أن الليلة التي ولد فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ارتجّ إيوان «1» كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرّافة إشارة إلى أنه لم يبق من ملوكهم المستبدين بالملك إلا أربعة عشر ملكا؛ فهلك عشرة في أربع سنين، وهلك أربعة إلى زمن عثمان رضى الله عنه، وزال ملكهم بالكلية. ورأى في تلك الليلة أنوشروان رؤيا أفزعته، فجمع الكهنة والسحرة والمنجمين فقصها عليهم، فدلّوه على (سطيح) الكاهن ليعبرها له، وكان مشهورا بالكهانة، فأرسل كسرى إليه وزيره، وكان سطيح يخرجه قومه على رأس كل سنة مستلقيا، فيتكلم بأحكام السنة الاتية، فلمّا خرج بدأ الكلام بالرؤيا قبل القصّ عليه، فقال: «إن كسرى رأى رؤيا هالته، رأى خيولا عربية ملأت مدينته، تسوق إبل العراق وتخرجها من البلاد؛ فالخيول العربية أصحاب النبى القرشى الهاشمى المكيّ المدنيّ الخاتم، الذى يختم الله به الأنبياء، ويأتيه الوحى من الملك الواحد الأحد الفرد الصمد، وسيفتح له البلاد والمدائن بالعراقين وغيرهما، على عدد شرّافات بقين من الإيوان حين سقوطه ليلة ميلاده، الحذر الحذر من مخالفته، من كل من وصل إلى زمن دعوته!» ثم بكى سطيح وقال: «ما بقي من عمرى إلا قليل، لا أدرك بعثة النبى الجليل» قال: فرجع وزير كسرى القهقري، فأخبر الملك بما أخبر به سطيح، فوقع ما قال مما قدّره القادر المتعال. [الاحتفال بالمولد] : وقد سبق لنا في الفصل الأوّل من الباب الأوّل: أن (ثويبة) جارية أبى لهب لمّا بشّرته بولادته صلّى الله عليه وسلّم أعتقها عتقا منجزا، ثم جعلها ترضعه بعد ولادته أياما، فخفّف الله عنه العذاب كل يوم اثنين الذى هو يوم مولده، ولعل تخفيف عذابه   (1) الإيوان: مجلس كبير على هيئة صفّة واسعة، لها سقف محمول من الأمام على عقد يجلس فيها كبار القوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 بالنّظر لذنب غير الكفر، حيث لا مانع من تخفيفه، أو هذا التخفيف خاص به وبمن ورد فيه النص، وهذا إكرام لمن وقع البرّ لأجله، وهو النبى صلّى الله عليه وسلّم، فلا غرابة فى أنّ مولده الشريف على تداول الأيام صار متّبعا من جميع الناس، أكابر وأصاغر، وإن كان بدعة فهو من البدع المحمودة، وابتداعه مبنى على قاعدة الشكر للمولى في إيجاده، والواقع أن الأصل في حسن البدعة وقبحها أن تعرض على قواعد الشريعة: فما تدخل في قواعده من الأحكام الخمسة «1» تنسب إليه، وكم من سنن ابتدعت على طريق القرب إلى الله تعالى وصارت ملحقة بالسنّة الشريفة، والمولد النبوى منها، إذ لا ضرر ولا ضرار في فعله لمن أراد ذلك في ربيع الأوّل أو غيره، بل نصّ ابن الجوزى أنه مما جرّب أنّ فعله يورث الأمان التام في ذلك العام، كما سيأتي، وإن قال ما قال فيه تاج الدين الفاكهانى المالكى من الإنكار، وتعقّبه الجلال السيوطى وردّ عليه الردّ التام بسلوك طريق الاستدلال والاستظهار، وحكم بينهما «2» العلّامة الشيخ عبد السلام اللقانى المالكي، وقضى بينهما بقول فصل وحكم عدل يشهد له بالفضل، أشبع في مقاله بالنصوص القاطعة والحجج الدّاحضة بما يقنع من الدليل ويشفى الغليل، ويكشف عن وجوه البدع قناع التأويل، فلنذكر كلامه في هذا المعنى برمّته مع بعض تصرف في العبارة، وإن كان فيه تكرار شيء مما سبق، حيث هو مؤكد له ومزيل الغطاء عن غمته. ونصّ عبارة الشيخ عبد السلام اللقافي: المنقولة من مسودّة حاشية له على بعض السير النبوية: «وقد أردت إيراد بعض فوائد تتعلق بالمولد الشريف مما ذكره النجم «3» وغيره فأقول مستعينا به سبحانه: اعلم أن الناس اختلفوا في عمل المولد واجتماع الناس له، والذى صرّح به العلّامة تاج الدّين الفاكهانى المالكى- رحمه الله- أنه بدعة مذمومة، وألّف فى ذلك كتابا صدّر ديباجته بقوله بعد البسملة والحمدلة وما يطلب له الإتيان به:   (1) أى الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهية، والتحريم. (2) أى بين الفاكهانى والسيوطي. (3) هو النجم الغيطى- كما سيأتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 «أما بعد: فقد تكرر سؤال جماعة عن الاجتماع الذى يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأوّل ويسمّونه المولد، هل له أصل في الشرع؟ أو هو بدعة حدثت في الدين؟ وقصته والجواب عن ذلك مبينا، والإيضاح عنه معينا: «قلت، وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولم ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدّين، المستمسكون باثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطّالون، وشهرة اعتنى بها الأكّالون، بدليل أنّا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجبا، أو مندوبا، أو مباحا، أو مكروها، أو محرّما. وليس بواجب إجماعا، ولا مندوبا؛ لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشارع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع ولا فعله الصحابة، ولا التابعون المتدينون فيما علمت، وهذا جوابى عنه بين يدى الله إن سئلت عنه، ولا جائز أن يكون مباحا؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين، فلم يبق إلا أن يكون مكروها أو حراما، وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بين حالين، أحدهما أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئا من الاثام، وهذا الذى وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمى أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام، سرج الأزمنة وزين الأمكنة، والثانى أن تدخله الجناية وتقوى به العناية حتّى يعطى أحدهم الشيء ونفسه تتبعه وقلبه يؤلمه ويوجعه، لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء: اخذ المال بالحياء كاخذه بالسيف، لا سيما إن انضاف إلى ذلك الغناء من البطون الملأى بالات الباطل كالدفوف والشبابات، واجتماع الرجال مع الأحداث والنساء الفاتنات، والرقص بالتثنى والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف، وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهتّك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 14] ، وهذا هو الذى لا يختلف في تحريمه إنسان، ولا يستحسنه ذوو المروءة والفتيان، وإنما يحلو ذلك بنفوس موتى القلوب وغير المستقلين من الاثام والذنوب، وأزيدك أنهم يرونه من العبادات، لا من الأمور المنكرات المحرمات، فإنّا لله وإنا إليه راجعون «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ» ، ولقد أحسن الإمام أبو عمرو بن العلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 حيث يقول: «لا يزال الناس بخير ما تعجّب من العجب» ، هذا مع أن الشهر الذى ولد فيه صلّى الله عليه وسلّم، وهو ربيع الأوّل هو بعينه الشهر الذى توفّى فيه، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه، وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى حسن القبول» . وتعقّبه العلّامة الجلال السيوطى مؤلّف هذا الكتاب في فتاويه، فقال: أما قوله: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة؛ فيقال عليه: نفى العلم لا يلزم منه نفي الوجود، وقد استخرج له العلامة ابن حجر العسقلانى رحمه الله أصلا من السنة، وهو ما ثبت في الصحيحين من «أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم، فقالوا: هذا يوم أغرق الله فيه فرعون ونجّى موسي، فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فقال: أنا أحق بموسى منكم» «1» فصامه وأمر بصيامه، قال: فيستفاد منه فعل الشكر لله تعالى على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله تعالى يحصل بأنواع العبادات، كالسجود والصيام والتلاوة، وأيّ نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبى نبيّ الرحمة صلّى الله عليه وسلّم في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغى أن يتحرّى الوقت بعينه، فإن كان ولد ليلا فليقع الشكر بما يناسب الليل كالإطعام، وإن كان ولد نهارا (وهو الأصح) فبما يناسبه كالصيام والصدقة، ولا بد أن يكون ذلك اليوم بعينه من عدد أيام ذلك الشهر بعينه حتّى يطابق قصة موسى عليه الصلاة والسلام في يوم عاشوراء. ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالى بعمل المولد في أى يوم من الشهر، بل توسّع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة، وفيه ما فيه، وينبغى أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما ذكروا، أما السماع واللهو وغيرهما، فما كان مباحا لعين السرور بذلك اليوم، فلا بأس به، وما كان حراما أو مكروها فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى. اهـ. فيفهم من ذلك: أن أصل ابتداع عمل المولد الشريف مبنى على قاعدة الشكر، وعلي النعمة بإيجاد الذات المحمدية، الواسطة في خيرى الدنيا والآخرة، فلهذا خالفت هذه السنّة الحسنة اتخاذ يوم عاشوراء مأتما ومظهرا للحزن كما يفعله بعض الأعاجم، لأجل قتل الحسين بن الإمام على رضى الله تعالى عنهما،   (1) وفي رواية لأحمد وابن ماجه والبخارى ومسلم: «نحن أحق بموسى منكم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فكانت هذه من البدع السيئة، ومن عمل الذين- ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا- إذ لم يأمر الله سبحانه ولا رسوله صلّى الله عليه وسلّم باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما، فكيف بمن دونهم؟! والقاصّ الذى يذكر للناس قصة القتل يوم عاشوراء، ويخرق ثوبه ويكشف رأسه ويأمرهم بالقيام والتشنيع تأسّفا على المصيبة يجب أن يمنع، والمستمعون له لا يعذرون فى الاستماع. قال الإمام الغزالى وغيره: «يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين رضى الله عنه، وحكاية ما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم، فإنه يهيّج على بغض الصحابة والطعن فيهم، وهم أعلام الدين الذين تلقّى عنهم أئمة الدين، وتلقينا عنهم، والطاعن فيهم طاعن في نسبه ودينه» . وقال الإمام الشافعى وجماعة من السلف: «تلك دماء طهّر الله منها أيدينا، فلنطهّر منها ألسنتنا» «1» . انتهي فليس لاتخاذ يوم عاشوراء مأتما مستند يتخرّج عليه، بخلاف المولد الشريف، فقد فهمت مستنده، بل هو متعدّد، فقد قال الحافظ الجلال السيوطى رحمه الله: «وقد ظهر لى تخريجه (يعنى عمل المولد) على أصل اخر (يعنى غير ما ذكره الحافظ ابن حجر) وهو ما أخرجه البيهقى عن أنس أن النبى صلّى الله عليه وسلّم عقّ عن نفسه بعد النبوة مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن هذا الذى فعله النبى صلّى الله عليه وسلّم إظهار للشكر على إيجاد الله إيّاه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته، كما كان يصلى على نفسه لذلك، فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرّات» . انتهى. قال شيخ مشايخنا النّجم الغيطى رحمه الله: «وما ذكره الحافظ ابن حجر من التخريج أنسب وأظهر مما ذكره الحافظ الجلال، كما هو الظاهر؛ لأن فعل صوم عاشوراء يتكرر كل عام، وهو في وقت معين، فكان عمل المولد المذكور مثله، بخلاف العقيقة فإنها لا تتكرر، وليست مختصه بوقت معين، ولا تتقدم عليه ولا   (1) وقال ذلك عمر بن عبد العزيز رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 تتأخر، ولأن ما فعله جده عبد المطلب من العقيقة لم يقع عنه؛ لأن ذلك كان قبل الشرع، فلا يتعلق به حكم، والعقيقة التى فعلها النبى صلّى الله عليه وسلّم عنه بعد النبوة (على تقدير صحتها) كانت بعد الشّرع، فهى المشروعة والواقعة عنه؛ لأنه بعد ولادته لم يقع عنه عقيقة مشروعة، وقد قال أئمتنا: إن من بلغ ولم يعقّ عنه فحسن أن يعقّ عن نفسه، على أن ما ورد من أنه صلّى الله عليه وسلّم عقّ عن نفسه بعد النبوة حديث منكر، كما قاله ابن حجر وغيره، بل قال النووى في شرحه المهذّب: إنه حديث باطل، فعليه يسقط التخريج المذكور أيضا بالأولى، والله سبحانه وتعالى أعلم. قلت: وما ذكره النجم من أن العقيقة لا تتكرر، إنما هو للمولود الواحد، أمّا إذا تعدد فإنها تتعدد أيضا كما هو مذهبنا، وما ذكره أيضا من أنها ليست مختصة بوقت معين، فليس مذهبنا، بل المذهب أنها مختصة به، فتكون في سابع الولادة لا قبله اتفاقا، ولا بعده، فإن فات فاتت علي المشهور، كما علمته انفا. قال الجلال: وأما قول الفاكهانى «بل هو بدعة أحدثها البطّالون الخ» يقال عليه: إنه أحدث من غير نكير منهم، وارتضاه ابن دحية، وصنّف من أجله كتابا، فهؤلاء علماء متدينون رضوه وأقرّوه، ولم ينكروه. وقوله «ولا مندوبا لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع» يقال عليه: إن الطلب فى المندوب تارة يكون بالنص، وتارة يكون بالقياس، وهذا وإن لم يرد فيه نص ففيه القياس علي الأصلين، يعنى السابقين في التخريج، وقد علمتهما، وقوله «ولا جائز أن يكون مباحا؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين» كلام غير مستقيم؛ لأن البدعة لم تنحصر في الحرام والمكروه، بل قد تكون أيضا مباحة ومندوبة وواجبة أهـ. وحاصل القول في البدعة أنها لغة: ما كان مخترعا على غير مثال سابق، وشرعا: ما أحدث على خلاف أمر الشارع ودليله الخاصّ أو العامّ، بل يكون الحامل عليه مجرد الشهوة والإرادة، أما ما أحدث مما له أصل في الشرع إما بحمل النظير على النظير، أو بغير ذلك، فإنه حسن؛ إذ هو سنة الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين، ومن ثمّ قال عمر- رضى الله عنه- فى التراويح: «نعمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 البدعة هي» «1» وليس ذلك مذموما بمجرد لفظ محدث أو بدعة؛ فإن القران باعتبار لفظه وإنزاله وصف بالمحدث أوّل سورة الأنبياء «2» ، وإنما منشأ الذم ما اقترن به من مخالفة السنّة ودعايته إلى الضلالة. والبدعة من حيث هى منقسمة إلى خمسة أقسام: واجب: وهو ما تناولته قواعد الوجوب وأدلّته من الشرع، كتدوين القران والشرائع إذا خيف عليها الضياع؛ فإن التبليغ لمن بعدنا من القرون واجب إجماعا، وإهمال ذلك حرام إجماعا، زاد بعض المتأخرين: ومن البدع الواجبة علي الكفاية الاشتغال بالعلوم العربية المتوقف عليها فهم الكتاب والسنة، كالنحو والصرف والمعانى والبيان واللغة، بخلاف العروض والقوافي ونحوهما، وكالجرح والتعديل، وتمييز صحيح الأحاديث من سقيمها، وتدوين نحو الفقه وأصوله والاته، والرد على نحو القدرية والجبرية والمرجئة والمجسمة؛ لأن حفظ الشريعة فرض كفاية فيما زاد علي المتعين، كما دلّت عليه القواعد الشرعية، ولا يتأتّى حفظها إلا بذلك، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب. وحرام: وهو كل بدعة تناولتها قواعد التحريم وأدلته من الشريعة، كالمحدثات من المظالم التى اخترعتها الأهواء بغيا، ولا ينبغى أن تلتبس هذه البدع بالحقوق التى تقرّرها الحكام على الرعايا بمقتضيات الأحوال عند تعطيل أموال الزكاة لإقامة شعائر الممالك. زاد بعضهم من البدع المحرمة: الاشتغال بمذاهب سائر أهل البدع المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة. ومندوب إليه: وهو ما تناولته قواعد النّدب وأدلته كصلاة التراويح، وإقامة أبّهة الأئمة والقضاة والحكام، على خلاف ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، بسبب أن المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل إلا بعظمة الولاة في نفوس الناس، وكان تعظيم الناس في زمن الصحابة رضوان الله عليهم إنما هو بالدين وسابق الهجرة، ثم اختل النظام وذهب ذلك القرن، وحدثت قرون أخر، لا   (1) كان الصحابة يصلّون التراويح متفرقين، كل جماعة اتخذوا لهم إماما يصلّى بهم، فقال: «أراهم اتخذوا القران مغاني، والله لأجمعنهم على إمام واحد» ، فلما جمعهم وراهم قال ذلك. (2) قوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء: 2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 يعظّمون إلا بالصور، فتعيّن تفخيم الصور حتّى تحصل المصالح، وقد كان عمر رضى الله عنه يأكل خبز الشعير والملح، ويفرض لعامله نصف شاة في كل يوم، لعلمه بأن الحالة التى هو عليها لو عملها غيره لهان في نفوس الناس، ولم يحترموه، وتجاسروا عليه بالمخالفة؛ فاحتاج إلى أن يضع غيره في صورة أخرى لحفظ النّظام، ولذلك لما قدم الشام ووجد معاوية بن أبى سفيان قد اتخذ الحجّاب وأرخى الحجاب، واتخذ المراكب النفيسة والثياب الهائلة العليّة، وسلك ما يسلكه الملوك، سأله عن ذلك، فقال له: إنّا بأرض نحن فيها محتاجون لهذا، فقال له: «لا امرك ولا أنهاك» ، ومعناه أنت أعلم بحالك، هل أنت محتاج إلى هذا، فيكون حسنا أو غير محتاج إليه فلا يسوغ لك التخلّق به؟ فدلّ ذلك من عمر رضى الله عنه وغيره على أن أحوال الأئمة وولاة الأمور تختلف باختلاف الأمصار والأعصار والقرون والأحوال، فكذلك يحتاجون إلى تجديد زخارف وسياسات لم تكن قديما، وربما وجبت في بعض الأحوال. زاد بعض المتأخرين: ومن البدع المندوبة إحداث نحو الرّبط والمدارس، وكل إحسان لم يعهد في العصر الأوّل، والكلام على دقائق التصوّف والجدل، وجمع المحافل، والاستدلال فى المسائل العلمية إن قصد بذلك وجه الله تعالى. ومكروه: وهو ما تناولته أدلة الكراهة من الشريعة وقواعدها، كتخصيص الأيام الفاضلة أو غيرها بنوع من العبادة، وكذلك في الصحيح* خرّجه مسلم وغيره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصيام أو ليلتها بقيام، ومن هذا الباب الزيادة في المندوبات المحدودات، كما ورد في التسبيح عقب الفريضة ثلاثة وثلاثين، فيفعل مائة، وورد صاع في زكاة الفطر فيجعله عشرة أصوع، بسبب أن الزيادة فيها إظهار الاستظهار على الشارع، وقلة أدب معه «1» ، بل شأن العظماء إذا حدّدوا شيئا وقف عنده وعدّ الخروج عنه قلة أدب، والزيادة في الواجب أو عليه أشد في المنع؛ لأنه يؤدى إلى أن يعتقد أن الواجب هو الأصل   * أى الحديث صحيح. (1) لأن الشارع كريم ورحيم، فكأن الفاعل لذلك يقول بلسان حاله: أنا أكرم من الله. تعالى الله عن ذلك، وكذلك في كل ما حدّده الشارع: لا تجوز الزيادة فيه ولا النقصان عنه، لأنه ورد بنص صريح، والله تعالى أرحم بعباده من أنفسهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 والمزيد عليه، ولذلك نهى مالك رحمه الله عن اتصال صيام ستة أيام من شوال برمضان، لئلا يعتقد أنها من رمضان «1» . وخرّج أبو داود أنّ رجلا دخل إلى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلّى الفرض، وقام ليصلى ركعتين، فقال له عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «اجلس حتّى تفصل بين فرضك ونفلك؛ فبذا هلك من كان قبلنا» فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أصاب الله بك يا ابن الخطاب» «2» . يريد عمر أنّ من قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض فاعتقدوا الجميع واجبا، وذلك تغيير للشرائع، وهو حرام إجماعا. زاد بعضهم: ومن البدع المكروهة زخرفة المساجد وتزويق المصاحف. انتهى «3» ولكن قياسا على ما ذكره القليوبى من أن الاحتفال بالجنائز كان بدعة، ثم بعد أن دل على التعظيم صار مقبولا، فلا مانع أن يقاس عليه زخرفة المساجد والمصاحف، والمدار على النية وتحكيم الأحوال. واعلم أنّ حكمنا على الزائد علي التسبيح بالكراهة إنما هو من حيث زيادته، فلا ينافى قول النووى وغيره إنه يثاب عليه، يعنى من حيث أنه ذكر، والله أعلم. ومباح: وهو ما تناولته الإباحة وقواعدها من الشريعة؛ كاتخاذ المناخل للدقيق، ففى الاثار «أول شيء أحدثه الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اتخاذ المناخل»   (1) وفي الحديث: «باب المناهى من الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير» «نهى- أى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- عن صيام يوم قبل رمضان؛ والأضحي؛ والفطر؛ وأيام التشريق، رواه البيهقى عن أبى هريرة، وفي حديث اخر: «نهى عن صوم يوم الفطر والنحر» رواه البخارى ومسلم عن عمر، وأبى سعيد. وروى الأربعة «إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتّى رمضان، ومن مثل هذا نعرف أن أصحاب المذاهب لم يأتوا من عندهم بشيء، وإنما كله مأخوذ من السنة الشريفة، وأنه لا رأى لأحد منهم في دين الله، وإنما علينا نحن أن ننقب ونبحث، ولا نتهم أحدا منهم بريبة، كيف وهم السادة الذين شرفهم الله بحفظ دينه ورسالة نبيه صلّى الله عليه وسلّم؟! (2) رواه أبو داود، والطبراني، والحاكم عن أبى رمئة. (3) بل هى من علامات الساعة إذا كانت للمباهاة، كما قال عليه الصلاة والسلام: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمى، وأبو يعلى، وابن حبان، والطبراني، والضياء المقدسى والبيهقى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 لأن لين العيش وإصلاحه من المباحات، فوسائله مباحة، زاد بعضهم: ومن البدع المباحة التوسع في لذيذ الماكل والمشارب والملابس وتوسيع الأكمام، وبما تقرر علم أن قوله صلّى الله عليه وسلّم «إياكم ومحدثات الأمور» عامّ أريد به خاص؛ إذ سنّة الخلفاء الراشدين منها، مع أنّا أمرّنا باتباعها لرجوعها إلى أصل شرعى «1» . قال بعض المتأخّرين: وكذلك سنتهم عامّ أريد به خاص، إذ لو فرض خليفة راشد في عامّة أمره سنّ سنة لا يعضدها دليل شرعي، امتنع اتباعها، ولا ينافى ذلك رشده؛ لأنه قد يخطيء المصيب ويزيغ المستقيم «2» يوما ما، ففى الحديث: «لا حليم إلا ذو عثرة ولا حكيم إلا ذو تجربة» «3» . ولنا قاعدة، وهي: كل حكم أجازه الشارع أو منعه وأمكن ردّه إلى أحدهما فهو واضح، فإن أجازه مرة ومنعه أخرى: فالثانى ناسخ للأوّل، وإن لم يرد عنه إجازته ولا منعه ولا أمكن ردّهما إليه بوجه: ففيه الخلاف قبل ورود الشرع، والأصح ألاحكم فلا تكليف فيه بشيء، وقيل: يرجع فيه إلى المصلحة والسياسة، فما وافقهما منه: أخذ به، وما لا: ترك، كذا قال بعض المتأخرين، ولا شك في حسنه. وقد تكلم الإمام أبو عبد الله بن الحاج في كتابه «المدخل» على عمل المولد، فأتقن الكلام فيه جدا، وحاصله: مدح ما كان فيه من إظهار شعار وشكر، وذم ما احتوى عليه من محرمات ومنكرات. وقال الحافظ: «أصل عمل المولد بدعة، لم ينقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدّها، فمن تحرّى فى عمله المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، ومن لا فلا» .   (1) قال عليه الصلاة والسلام: «الزموا سنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» رواه ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله ص 484، فأنت بهذا مأمور بما فعله أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لا خيار لك في تركه. (2) لكنهم لم يستنوا شيئا يخالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكيف وقد وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] ، وعلى هذا فكلام بعض المتأخرين هذا ساقط ونسأل الله السلامة والعافية. (3) رواه الإمام أحمد والترمذى وابن حبان والحاكم عن أبى سعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وقال العلّامة صدر الدين موهوب بن عمر الجزرى الشافعي: «هذه بدعة لا بأس بها، ولا تكره البدع إلا إذا راغمت «1» السنة، وأما إذا لم تراغمها فلا تكره، ويثاب الإنسان بحسب قصده في إظهار السرور والفرح بمولد النبى صلّى الله عليه وسلّم» . وقال فى موضع اخر: «هذه بدعة لا بأس بها، ولكن لا يجوز له أن يسأل الناس، بل إن كان يعلم أو يغلب على ظنه أن نفس المسئول تطيب بما يعطيه فالسؤال لذلك مباح، أرجو ألاينتهى إلى حد الكراهة» . وقال العلامة نصير الدين المبارك الشهير بابن الطبّاخ: «ليس هذا من السنن، ولكن إذا أنفق المنفق في هذا اليوم أو تلك الليلة، وأظهر السرور فرحا بمولده صلّى الله عليه وسلّم ودخوله في الوجود، وجمع جمعا أطعمهم ما يجوز، واتخذ السماع الخالى عن اجتماع الأحداث، وإنشاد ما يثير نار الشهوة من العشقيات والمشوقات للشهوات الدنيوية، كالقد والخد والعين والحاجب، وأنشد ما يشوّق إلى الآخرة ويزهّد في الدنيا، ودفع للمسمع ملبوسا، فهذا اجتماع حسن جائز يثاب قاصد ذلك وفاعله عليه إذا أحسن القصد، ولا يختص ذلك بالفقراء دون الأغنياء إلا أن يقصد مواساة الأحوج، فالفقراء أكثر ثوابا، إلا أنّ سؤال الناس ما في أيديهم لذلك فقط بدون ضرورة وحاجة مكروه، واجتماع الصلحاء فقط ليأكلوا ذلك الطعام، ويذكروا الله تعالى، ويصلّوا على رسوله صلّى الله عليه وسلّم يضاعف القربات والمثوبات، أما إذا كان الاجتماع مما ينهى عنه شرعا فإنه مجمع اثام» . وقال الحافظ أبو الخير في فتاويه: «عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعد، ثم لا زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن الكبار يحتفلون في شهر مولده صلّى الله عليه وسلّم بعمل الولائم البديعة المشتملة على الأمور البهيجة الرفيعة، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور ويزيدون في المبرات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم. اهـ. وقال العلامة أبو الخير ابن الجزرى المقريء: «من خواصه أنه أمان في ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام، ولو لم يكن في ذلك إلا إرغام الشيطان وسرور أهل الإيمان لكفي، وإذا كان قوم عيسى اتخذوا ليلة مولده عيدا أكبر؛ فكذلك أهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر. وأكثر الناس عناية بذلك أهل مكة   (1) راغم فلانا: أي هجره وعاداه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 المشرفة، ثم أهل المدينة المنورة، ثم أهل مصر في السنين المتقدمة والمتأخرة، ثم غيرهم، تقبّل الله عملهم. وأوّل من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين به، وبه اقتدى في ذلك السلطان الملك المظفر صاحب «إربل» فى الجامع المظفرى الذى للحنابلة بصالحية دمشق ( «وإربل» مدينة بقلعة على مرحلتين من الموصل) ، فكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأوّل، ويحتفل به احتفالا هائلا. يكثر فيه من الصدقات والمعروف وإظهار الزينة والسرور، مما يجلّ عن الوصف، وإنفاقه بسببه ألوفا من المال الطيّب الحلال، وكان يحضر عنده في المولد أعيان العلماء والصوفية، فيخلع عليهم ويطلق لهم (يعنى الأعطية) وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار. ولما اجتاز الحافظ ابن دحية بإربل، ووجد ملكها المظفر يعتنى بالمولد الشريف عمل له كتاب «التنوير في مولد البشير النذير» وقرأه عليه بنفسه، فأجازه على ذلك بألف دينار» . وقال الشيخ جلال الدين المعروف بالمخلّص: «مولده صلّى الله عليه وسلّم مجمّل مكرّم، قدّس يوم ولادته وشرف وعظم، وكان وجوده مبدأ سبب النجاة لمن اتبعه، وتقليل حظ جهنم ممن أعدّ لها لفرحه بولادته صلّى الله عليه وسلّم. وتمت بركاته على من اهتدى به، فشابه هذا اليوم الجمعة من حيث إن يوم الجمعة لا تسعّر فيه جهنم «1» هكذا ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم) ، فمن المناسب إظهار السرور، وإنفاق الميسور. قال العلامة الشمس ابن الجوزى في اخر كتابه «التعريف بالمولد الشريف» : «فإن قيل: فلم لم تتخذ أمته صلّى الله عليه وسلّم مولده عيدا كما اتخذت أمة عيسى عليه السلام ليلة مولده عيدا؟ فالجواب أنه لما كان يوم مولده صلّى الله عليه وسلّم هو يوم وفاته، تكافأ السرور بالعزاء، وهذا أحسن ما خطر لى في ذلك، وقد يقال: إنه لما اختلف فيه لم يتعين، أو يقال   (1) ولفظه كما جاء في الإحياء: «إن الجحيم تسعر في كل يوم قبل الزوال عند استواء الشمس في كبد السماء، فلا تصلوا في هذه الساعة، إلا يوم الجمعة فإنه صلاة كله وإن جهنم لا تسعر فيه» رواه أبو داود. وروى أبو داود أيضا عن قتادة: «إن جهنم تسجّر، إلا يوم الجمعة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الأعياد توقيفية، ولم يشرع غير هذين اليومين (1) ، أو يقال سدا للذريعة، وما أشرت إليه أوّلا ألطف، وإلا ففى الحقيقة مولده صلّى الله عليه وسلّم عيد وأيّ عيد، يشمل القريب من أمته والبعيد. وبالجملة فالاعتناء بوقت مولده الشريف صلّى الله عليه وسلّم، والإنشاد للمدائح النبوية والزهدية والعرفانية، وإطعام الطعام والصدقات السنية أمر حسن منيف، يثاب فاعله الثواب الجزيل، بقصده الجميل، وإن كان عمله لم ينقل عن أحد من السلف الصالح والقرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعدها، فلذلك كان بدعة حسنة عند من تحقّق العلم وأتقنه، ثم لا زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن العظام يحتفلون في شهر مولده خصوصا في ليلته، بعمل المولد بما ذكر، وإظهار السرور بذلك والحبور بتلك المسالك، وبعضهم يزيد على ذلك بقراءة ما صنف في المولد الشريف وما ورد فيه من الخير الثابت المنيف، على أنه ليس قيدا في استحباب عمل المولد المذكور، وإنما هو لزيادة الأجور. وقد جرت العادة أنه إذا ساق الوعّاظ والمدّاح مولده صلّى الله عليه وسلّم وذكروا وضع أمّه له صلّى الله عليه وسلّم: قام أكثر الناس عند ذلك تعظيما له صلّى الله عليه وسلّم، وهذا القيام بدعة لا أصل لها، لكن لا بأس به لأجل التعظيم، بل هو فعل حسن ممن غلب عليه الحب والإجلال لذلك النبى الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، وما أحسن قول الإمام أبى زكريا يحيى الصرصرى الحنبلى في بعض قصائده النبوية: قليل لمدح المصطفي الخطّ بالذهب ... علي فضة من خطّ أحسن من كتب وأن ينهض الأشراف عند سماعه ... قياما صفوفا أو جثيا علي الرّكب أما الله تعظيما له كتب اسمه ... علي عرشه يا رتبة سمت الرّتب وقد اتفق أن منشدا أنشد هذه القصيدة في ختم درس شيخ الإسلام تقيّ الدين أبى الحسن عليّ بن السبكى رحمه الله، وكان القضاة والأعيان مجتمعين عنده، فلما وصل المنشد في قوله: * وأن ينهض الأشراف عند سماعه* إلى اخر البيت، قام الشيخ في الحال على قدميه امتثالا لما ذكره الصرصري، وقام الناس كلهم وحصلت ساعة طيبة. ذكر ذلك ولده التاج السبكى في ترجمته من طبقاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 * قال أبو أمامة ابن النقاش رحمه الله: وليلة مولده صلّى الله عليه وسلّم أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة: أحدها: أن ليلة المولد ليلة ظهوره صلّى الله عليه وسلّم، وليلة القدر معطاة له، وما شرف بظهور ذات المشرّف من أجله أشرف مما شرف بسبب ما أعطيه، ولا نزاع في ذلك، فكانت ليلة المولد بهذا الاعتبار أفضل. الثاني: أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها، وليلة المولد شرفت بظهوره صلّى الله عليه وسلّم فيها، ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت بهم ليلة القدر على الأصح المرتضى من تفضيل الأنبياء على الملائكة، فتكون ليلة المولد أفضل. الثالث: أن ليلة القدر وقع التفضيل فيها على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وليلة المولد الشريف وقع التفضيل فيها على سائر الموجودات، فهو الذى بعثه الله رحمة للعالمين، فعمّت به النعمة على جميع الخلائق، فكانت ليلة المولد أعم نفعا، فكانت أفضل، كذا قيل. وقوله في الوجه الأوّل «ولا نزاع في ذلك» يوهم أن ما ذكر قاعدة متفق عليها، قال أستاذنا: ولا أعلم من قالها، ويمكن دفع الفساد عنها بأن المراد ما كان شرفه لإعطائه، أعنى فقط، فلا يرد القران والنبوّة والإيمان والإسلام مثلا؛ لأن شرفها لذاتها لا لإعطائها فقط، والمراد ما كانت جهة شرفه محصورة في الإعطاء. وقوله في الوجه الثالث: «وقع التفضيل فيها على سائر الموجودات» ، أى فساوتها وزادت عليها، والأزيد بالتفضيل فيه أزيد فضلا من غيره. وقد يقال: إن المراد أمة الدعوة لا أمة الإجابة، وغير المكلّفين لا نظر إليهم لا إعطاء ولا منعا لتعذّر ظهور الثمرة فيهم. واعلم أن المراد من ليلة المولد خصوص تلك الليلة مع خصوص ليلة القدر التى نزل فيها القران. * وأما النظائر فينبغى أنّ نظائر ليلة القدر أفضل من نظائر ليلة الولادة من جميع الأعوام، ويبقى النظر في ليلة الولادة وليلة الإسراء، وينبغى على القول بأن ليلة القدر أفضل منها أن تكون ليلة المولد أفضل منها، وانظر على القول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 بأنها أفضل من ليلة القدر وحرّره؛ فإنّي لا أعلم من سبقنى إلى هذا المبحث بالخوض والتحرير: (يكفى في تفضيل ليلة المولد على ليلة الإسراء أنه لم يقع مفاضلة بينها وبين ليلة الإسراء، وإنما وقع التفضيل بين ليلة الإسراء وليلة القدر، وبين ليلة المولد وليلة القدر، حتى لو قيل بتفضيل ليلة الإسراء على ليلة القدر، لا ينتج منه فضل ليلة الإسراء على ليلة الولادة، وسيأتى في كلامه ما يؤيد ذلك في الكلام على تفضيل الليل على النهار. وسيأتى أيضا فى كلام الشيخ ما يؤيده، ثم هاهنا تنبيه وهو أنهم لم يتكلموا على ليلة حمله صلّى الله عليه وسلّم بحسب المفاضلة، مع أنها أوّل زمان ظهوره الخارجي، وتنبيه اخر: وهو أنهم لم يخصوا ذلك باللحظة التى خرج فيها من الرحم، مع أنه ينبغى أن يقصر عليها لأنها لحظة الظهور، وباقى الليلة خال عنه، فحكمه حكم باقى أيام وجوده، وأما ليلة القدر فجميعها ظرف لنزول القران وقسم الأرزاق ونزول الملائكة ومحق الذنوب وإعطاء المطلوب. وانظر على القول بأنه ولد نهارا، وينبغى أن تلك اللحظة أو جميع اليوم أفضل من ليلة القدر، ومن يوم ليلة القدر، وإن كان العمل في يومها كالعمل في ليلتها، فإن قلت: فما معنى أفضلية ما ذكر من الليل وغيره لكونه خصّ بما وجد فيه دون غيره أو في نفسه؟ وما معنى أفضليته في نفسه، والزمان لا يفضّل بعضه على بعض؟ فقد قال إمام العلماء العز بن عبد السلام: «إن الأزمنة والأمكنة كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما، لا بصفات قائمة بهما، ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل الله العباد فيهما، وإن التفضيل الذى فيهما أن الله يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما» قلت: بل الأزمنة والأمكنة يفضل بعضها على بعض بتفضيل الله تعالى، ولا مانع أن يخص الله تعالى بعض مخلوقاته من زمان أو مكان بفضل ليس في الاخر، كما خصّ الله بعض الادميين والملائكة. وقال الإمام تقى الدين السبكى عقب حكايته لكلام ابن عبد السلام: «وأنا أقول: قد يكون التفضيل لذلك، وقد يكون لأمر اخر فيهما، وإن لم يكن عملا؛ فإن القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند الله من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس ذلك لمكان غيره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فكيف لا يكون أفضل الأمكنة؟ وليس محل عمل لنا، فهذا معنّى غير تضعيف الأعمال فيه. انتهى ولكن تفضيل الزمان والمكان إنما يظهر أثره غالبا باعتبار ما يقع فيه، ذكره النجم الغيطى في بعض تعاليقه. انتهي. قال الشيخ الرحمانى في حاشيته على التحرير: «أفضل الليالى ليلة المولد، ثم ليلة القدر، ثم ليلة الإسراء، فعرفة، فالجمعة، فنصف شعبان، فالعيد. وأفضل الأيام يوم عرفة، ثم يوم نصف شعبان، ثم الجمعة، والليل أفضل من النهار» . وعلى ذكر المولد الشريف فقد ذكر الإمام العلامّة عبد العزيز الزمزمى في همزيته المفتوحة، التى عارض بها همزية البوصيرى المضمومة التى أولها: كيف ترقي رقيّك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء وهمزية القيراطي المكسورة، التي أولها: ذكر الملتقى على الصفراء ... فبكاه بدمعة حمراء ذكر الزمزمى المولد الشريف، فناسب أن نذكر من هذه القصيدة طرفا، قال فى المطلع: أثغور منها الصباح أضاء ... أم بروق علي النّقا تتراءى إلى أن قال: يوم ميلاده وليلة مسرا ... هـ ازدهى الليل والنهار ازدهاء وسما القدر منهما بفخار ... طبّق الأرض سوددا والسماء ملئت مكة سرورا ولم ... لا يملأ البشر قطرها سراء وهي أرض بها الولادة والمو ... لود فيها منها ابتدا الإسراء كان ترداده ومرباه فيها ... فجلا نور شمسه البطحاء وعلا الأنس والوقار جبالا ... راسيات بها خصوصا حراء كان مبدا ظهوره من حراء ... حين أنهي الخلوّ فيه خفاء شقّ صدر له هناك وشقّ ... البدر، فالشرط كان ثمّ جزاء أرضعته حليمة بلباها ... فغدا الحلم وصفها والحياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وعلا جدّها وأسعد سعد ... إذ سقت بنته النبيّ الغذاء فتعجّب لجدها ولها، كي ... ف حكى الوصف منهما الأسماء تتعاطى رضاعه وهو في ... كلّ قليل ينمو بذاك نماء خلوبا من جزالة البدو ... ما حيّر مبداه عربها العرباء فبنى قوله على حسن وضع ... رفع اللفظ رتبة علياء أفصح الناطقين بالضاد لما ... أن يجارى من نطقها الفصحاء إلى أن قال: جاء في محكم الكتاب مديح ... بالغ فيه: أخرس البلغاء حسدته أهل الكتابين من ... «فاتحة» الأمر فامتلت شحناء «بقرت» عن جحود من ساد قدما ... «ال عمران» ، قومهم و «النساء» فغدت بالضلال «مائدة» الر ... أس تحاكى «أنعامهم» والشاء أنكرته «أعرافهم» فأباح ... السيف «أنفالهم» له والدماء منه نلنا «براءة» من لظى النا ... ر بها «يونس» الغريق النجاء شيّبته «هود» و «يوسف» ... تحكيه مع الشيب منظرا وبهاء خفق «الرعد» فى قلوب الأعادي ... فرقا منه، فانثنوا أصدقاء أظهر المصطفى إلى دين «إبر ... اهيم» فى «الحجر» والمقام الدعاء إن يلاقى أذى «فللنّحل» لسع ... لم يضر من أراد منه اجتناء همّ قوم به «فسبحان» مولى ... صرف السوء عنه والفحشاء لم نخف قط إذ أوينا إليه ... نعم «كهفا» منه لنا وإواء إن تسد «مريم» بعيسى، «فطه» ... ساد عيسى والرسل و «الأنبياء» شرع «الحجّ» فاجتلى «المؤمنون» ... «النّور» إذ تمّ نورهم والضياء قام يتلو «الفرقان» فى حسن نظم ... جمعه اللفظ حيّر «الشعراء» نطق «النمل» مفصحا عن معاني ... «قصص» فيه أسكت الخطباء قصد المصطفى العدا فكسته ... نسجها «العنكبوت» منهم وقاء غلب «الروم» فارسا مثل ما قا ... ل وحاشاه أن يقول الخطاء حكم تاه فهم «لقمان» عنها ... عند ما فات سرّها الحكماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أوجب الشكر «سجدة» فى المصلي ... حين سيل «الأحزاب» صار جفاء صيّرتهم أيدى «سبأ» نفخة من ... «فاطر» العالمين جلّ ثناء حاط «يس» بالملائكة «الصا ... فات» ممن أراده الأسواء صادهم «نصره» وأهلك منهم ... «زمرا» أظهروا له البغضاء أفسدت ذات بينهم حيلة المؤ ... من فيهم فخالفوا الخلفاء أجمل المخبر القضية لكن ... «فصّلت» حين أظهروا الأنباء حيلة بيّتت من الليل «شوري» ... زادها «زخرف» الحديث انطلاء أضمرت نارها بغير «دخان» ... زعزع تملأ المعى أقذاء أكفأت في القدور «جاثية ... الأحقاف» ريح تكافيء الأكفاء فكفاه القتال ربّ البرايا ... ثم «بالفتح» بعد ذلك جاء ليت شعرى أرى له «حجرات» ... خلفها حرّم الإله النداء كل «قاف» سبيله ليس يخشي ... «ذاريات» الضلال والأهواء «طور» مرقاه قاب قوسين يهوي ... دونه «النجم» لو أراد ارتقاء طاعة في السما له «القمر» انشقّ ... لنصفين ثم عاد سواء قد حباه «الرحمن» فى هذه «الوا ... قعة» السؤل منه والإرضاء «بالحديد» اقتضت «مجادلة» القو ... ل له أن يجالد الأعداء أحكم الرعب «حشرهم» فى حصون ... حكم الامتحان فيه الجلاء يقدم «الصفّ» إن أتى الرجف ... و «الجمعة» ثبتا أعظم به إيتاء خادعته «المنافقون» فصاروا ... في نهار «التغابن» الأشقياء حين بتّ «الطلاق» من زهرة الد ... نيا بتحريمها استتمّ التقاء ما ارتضى «الملك» بل تواضع حتي ... خال ذا النون قد حكاه اعتلاء ترفع «الحاقة» المعارج إذ نو ... ح ينادى نفسى ويغدو «براء» امن الجن بالنبى وألقوا ... لاستماع «المزمّل» الإصغاء سوف يأتى مدّثرا بالمزايا ... وتميز القيامة الإيتاء نال هذا الإنسان كلّ كمال ... نشرت مرسلاته الالاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 نبأ جاءه عظيم، رمى الأع ... داء في النّازعات والبغضاء عبس المقتفى العمى منه لما ... كوّرت شمس نوره إطفاء كبتت عصبة النّفاق به، ... وانفطرت وانتكت أشد انتكاء طفّفوا كيلهم له فغدا الويل ... غدا للصفين جزاء فزعوا لانشقاق إيوان كسري ... والبروج التى أشيدت بناء استعذ بالنبى من طارق الليل ... وسبّح لربك الأسماء هديه كم أزال غاشية عن ... ذى ضلال والفجر يجلو الغشاء كسيت منه هذه البلد الأنو ... ار والشمس توضّح البطحاء للحبيب: الإله بالليل الى ... والضحيي، ما نوى له بغضاء رفع الله ذكره في ألم نشرح ... وأعلى به مكان حراء فتمنّى مناله جبل التين ... وطور الكليم من سيناء علق منه برفع القدر ممن ... لم يكن قط يعرف استعلاء زلزلت من خيوله الأرض لما ... ميّلت عادياتها الأرجاء كم بدت من سطاه قارعة في ... من حباه التكاثر الإلهاء طيّب العصر ذكره والعداكم ... همزة باغتيابهم مشّاء زدّت الطير عن أقاربه الفيل ... وجيشا له يسدّ الفضاء أودع الله سرّه في قريش ... فوعوا سرّه: فصان وعاء أرأيت الذى يكذب في تفضيلهم ... كيف أعظم الافتراء كوثر المصطفى غدا وردهم إذ ... يصدر الكافرون عنه ظماء جاءه النصر والفتوح فتبّت ... يدا من عاندت يداه الفضاء نور إخلاصنا بخير البرايا ... فلق الصبح من سناه أضاء بك صرنا يا خاتم الرسل ... للرسل علي الناس بالأدا شهداء إلى أن قال: فاز بالرفع مفلق لك وشّى ... (كيف ترقى) وأفحم الشعراء وبخفض الجناب جوزى منشى ... (ذكر الملتقى) جزاء وفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 جئت من بعد ذا وذاك أخيرا ... فلهذا نظمى على الفتح جاء ركضت حلبة السباق فكانا ... سابقيها وخلفا الأكفاء لهما تاليا أتيت وإن لم ... أك ممّن يرى لذاك كفاء وبفكرى في بحر شعرهما غص ... ت وإن كان الغوص ليس سواء بهما قد شرفت إذ صرت اسما ... ثالث اثنين أعجز النظراء أمنا أن يعززا منذ حين ... بمثيل تفردا واعتلاء فهما النيّران ما خال طرف ... لهما ثالثا يحلّ السماء بعد دلويهما رميت بدلوى ... علّ لى حمأة تجيء وماء وبزعمى زاحمت هذين أبغى ... بهما اليمن، لا الرّيا والمراء سعدا فارتجيت أسعد لمّا ... سرت في الأثر أقتفى السعداء حركات الهجاء عكس لسعدي ... فغدا الفتح مبتداها انتهاء فلعلى أجاز منك بفتح ... حين أنهى الإنشاد والإنشاء فأنلنى مناى واشمل قريضي ... بقبول يكسو القريض السناء وأجزنى على الصراط إذا ما ... صاح هول الجواز: ألانجاء يا ملاذى إذا الموازين رازت ... عملي، وهو لا يوازى الهباء يا عياذى إذا تطايرت الصحف ... يمينا ويسرة ووراء وبدت لى يوم الحساب أمور ... ضلّ عنّى حسابها وتناءى وتلوّت قوائمى عند ما الأو ... صال صارت من رعدتى أشلاء يا أماني من خيفتى هدّ روعي ... إنّ روعى أغرى بها العرواء «1» يا غياثى إذا دنا لهب الشمس ... وأذكى لعابها الرّمضاء أنت لى جنّة هناك ودرع ... سابغ نتّقّى به اللأواء يا عزيز الجناب دعوة عبد ... لك في الرّقّ يستحق الولاء كيف عبد العزيز عبدك يلقى ... ذلة أو إضاقة أو شقاء أو يخاف الظما غدا وهو منسو ... ب لسقيا أبيك نعمت سقاء   (1) العرواء بضم ففتح: قوة الحمّي ومسها في أوّل رعدتها اهـ. (من هامش الأصل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 إنه قارف الذنوب وأخطا ... وبك الله عنه يمحو الخطاء فيك ظنّى ألاتخيّب ظني ... وبهذا اكتفيت نعم اكتفاء فسلام عليك ثم صلاة ... بقضاء الفروض قامت أداء وسلام عليك ثم صلاة ... تمنح النفس من رضاك الرّضاء وعلى الك الذين ولا هم ... من يد الكرب ينقذ الأولياء عدّتى عند شدتى وملاذي ... عند ما ترسل الخطوب البلاء عقد دينى ودادهم وهواهم ... منه قلبى امتلا أتمّ امتلاء هم إلى جودك الوسيلة إن ردّ ... نى الذنب دونه إقصاء وعلى صحبك الجميع خصوصا ... من حوى السبق وابتدا الخلفاء الذى جيّش الجيوش وقوّي ... عزمه يوم أمّر الأمراء الصدّيق الصديق أفضل من ا ... من بالله ما عدا الأنبياء ثم من بعده على مقتفيه «1» ... سننا ينتهى إليك انتماء ترجمان المحدّثين فكم فا ... هـ بكشف فوافق الإيحاء ثم من طال في بناء المعالى «2» ... عند ما شاد بابنتيك البناء الحييّ الذى استحت منه أملا ... ك السما مذ سما وزاد حياء وعلى المرتضى وليّك وابن العمّ ... من حاز بالخصوص الإخاء خير صهر وعاصب زوّجته ... خيرة الله: بنتك الزهراء أصل ريحانتيك «3» بورك أصلا ... طاب فرعاه مغرسا ونماء أيّ سبطين قد علا بك جدا ... لهما طيب النّماء والزكاء خير نجلين ينميان لأمّ ... أنجبت من كليهما الشرفاء سادت الأمّ في الجنان وسادا ... فأعزّوا شبّانها والنساء   (1) عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (2) عثمان بن عفان رضي الله عنه. (3) هم «علي، وفاطمة، والحسن، والحسين» رضي الله عنهم أجمعين، جمعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كساء واحد، ثم قال: «اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فطهرهم تطهيرا» . وهو حديث مشهور جدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وسلام عليك ثم عليهم ... وعلى كل من تسجّى الكساء «1» وعلي عمّك «2» الذى طيّب الله ... بأنفاس روحه الشهداء وعلى صنوه «3» الذى بك أبقي ... لبنيه الخلافة القعساء وسلام عليك ثمّ على أز ... واجك اللاء نلن منك الحياء وسلام عليك ثم صلاة ... بشذا المسك يختمان الثناء ما ابتدا مدحك امرؤ عند كرب ... فانجلى حين وافق الانتهاء ولما بلغ صلّى الله عليه وسلّم اثنتى عشرة سنة عرض لأبى طالب شخوص إلى الشام في تجارة، وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم يألفه، فسأله إخراجه معه، فأبى عليه صيانة له، فاغتم وبكي، فأخرجه، فراه راهب من الأحبار يقال له «بحيرا» وقد أظلته غمامة، فقال لأبى طالب: من هذا منك؟ قال: ابن أخي، قال: «أما ترى هذه الغمامة كيف تظله وتنتقل معه؟ والله إنه لنبى كريم، وإنى لأحسبه الذى بشّر به عيسى عليه السلام، فإنّ زمانه قد قرب، وينبغى أن تتحفظ به خشية أن تقتله اليهود» فردّه أبو طالب إلى مكة. ولما جاوز سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العشرين قال له أبو طالب: يا ابن أخي إن خديجة بنت خويلد امرأة موسرة ذات تجارة عريضة، وهى محتاجة إلى مثلك فى أمانتك وطهارتك ووفائك، فلو كلّمناها فيك فوكلتك ببعض أمرها وتجارتها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: افعل يا عمّ ما رأيت. فسعى أبو طالب إليها فكلّمها في توكيل النبى صلّى الله عليه وسلّم ببعض تجارتها، فسارعت إلى ذلك ورغبت فيه، ووجّهته إلى الشام ومعه غلام لها قيّم يقال له «ميسرة» ، فلما فرغ مما توجّه إليه، وقدم مكة أخبرها ميسرة بأمانته وطهارته ويمن طائره، وما يقول أهل الكتاب فيه، وما ظهر له من البركة وكثرة الأرباح وسهولة الأمور، وكانت خديجة امرأة حازمة عاقلة برزة «4» مرغوبا فيها لشرفها ويسارها، فدسّت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عرض عليه أن يتزوجها، فرغب في ذلك.   (1) الحسن والحسين ابنا علي رضي الله عنهم. (2) حمزة بن عبد المطلب. (3) العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه. (4) في القاموس: امرأة برزة: بارزة المحاسن، أو متجاهرة، كهلة جليلة، تبرز للقوم يجلسون إليها ويتحدثون وهي عفيفة. اهـ. (من هامش الأصل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الفصل الثالث فى زواجه بخديجة بنت خويلد رضى الله تعالى عنها وما رزقه الله من الذرية منها ولما كانت خديجة رضى الله تعالى عنها رئيسة شريفة، وهى يومئذ من أزكى قريش نسبا وأعظمهم شرفا وأكثرهم مالا، كان كلّ من قومها حريصا على الزواج بها لو يقدر عليه، إلا أنها اجتمعت به صلّى الله عليه وسلّم وقالت له: «يا ابن العم إنى قد رغبت فيك لقرابتى منك وشرفك في قومك وأمانتك فيهم وحسن خلقك وصدق حديثك، فاخطبنى من عمى عمرو بن أسد (وكان شيخا كبيرا) . فذكر صلّى الله عليه وسلّم ذلك لأعمامه، فخرج معه حمزة بن عبد المطلب حتّى دخل على عمرو بن أسد فخطبها إليه، فقبل، فأمرت بشاة فذبحت واتخذت طعاما ودعت عمّها عمرا، وبعثت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتى ومعه حمزة بن عبد المطلب وأبو طالب، ورؤساء مضر، فأكلوا، فخطب أبو طالب فقال: «الحمد (الذى جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضيء (أى أصل) معدّ، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته وشوكة حرمه، وجعل لنا بيتا محفوظا وحرما امنا، وجعلنا الحكام على الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح، وإن كان في المال قلّ، فالمال ظلّ زائل وأمر حائل، ومحمد ممن قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما اجله وعاجله كذا من مالي، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل جسيم» . فتروجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال في المنتقي: «فلما أتم أبو طالب خطبته تكلم ورقة بن نوفل «1» فقال: «الحمد لله الذى جعلنا كما ذكرت، وفضّلنا على ما عددت، فنحن سادة العرب وقادتها، وأنتم أهل ذلك كله، لا تنكر العشيرة فضلكم، ولا يردّ أحد من الناس فخركم وشرفكم، وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم وشرفكم فاشهدوا عليّ معاشر قريش، بأنّى قد زوّجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله على أربعمائة   (1) ورقة هذا هو الذى قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تسبّوا ورقة بن نوفل فإني قد رأيت له جنة (أو جنتين) » رواه الحاكم وابن عساكر عن عائشة رضى الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 دينار» . ثم سكت ورقة وتكلّم أبو طالب، وقال: قد أحببت أن يشركك عمها. فقال عمها: اشهدوا عليّ يا معشر قريش أنى قد أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد، وشهد على ذلك صناديد قريش» . وقال في السمط الثمين: «وأصدقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشرين بكرة، ويمكن الجمع بتقويم الثمن بذلك، أو أنّ أحد الشيئين مهر والاخر هدية من عمه لخديجة رضى الله تعالى عنها، أو أنه صلّى الله عليه وسلّم زاد ذلك في صداقها على صداق أبى طالب، فكان الكل صداقا اهـ. وهذه الخطب بهذه المثابة تدل على أن قريشا في ذلك الزمن كانت على حظ وافر من التأنس، ولها نصيب جسيم من المهابة. ولما تزوج خديجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحر جزورا أو جزورين وأطعم الناس، وهى أول وليمة أولها صلّى الله عليه وسلّم. وقال في المنتقي: «فأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن بالدفوف. وعاشت خديجة بعد النكاح أربعا وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية أيام؛ خمس عشر سنة قبل الوحي، والباقية بعده، وكانت وفاتها في السنة العاشرة من النبوة، وكان تزوّجه بها بعد قدومه من الشام بشهرين وأيام، وكان سنّه صلّى الله عليه وسلّم يومئذ نحو خمس وعشرين سنة، وسنها أربعون سنة، فكان زواجها بأشرف العرب على الإطلاق، زواج كفاءة جليلة وحسن تراض ووفاق، وولدت له صلّى الله عليه وسلّم، وبقي الخلف منهما ما تكون منه المجد في الافاق. [أولاده من خديجة] : ولما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ قبل الإسلام، ولدت منه القاسم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبه كان يكني، وقد مشى وهو ابن سنتين. وهل يجوز أن يكنى غيره صلّى الله عليه وسلّم بأبى القاسم أو لا؟ خلاف. وإليه أشار بعضهم بقوله: في كنية بقاسم خلف وقع ... فالشافعى مطلقا لها منع ومالك جوّز، والنّهى حمل ... على الحياة، والنواوىّ جعل هذا هو الأقرب، أما الرافعى ... منع من سمّى محمدا، فع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وقد روى الشيخان عن أنس رضى الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمشى بالبقيع، فسمع قائلا يقول: يا أبا القاسم، فردّ رأسه «1» إليه، فقال الرجل: يا رسول الله إنى لم أعنك إنما دعوت فلانا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسمّوا باسمى ولا تكنوا بكنيتي، فإني جعلت قاسما أقسم بينكم» «2» ويكنى أيضا بأبى إبراهيم، وأبى الأرامل، ذكره ابن دحية، وأبى المؤمنين من قراءة أبيّ بن كعب النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [وهو أب لهم] «3» [الأحزاب: 6] . وولدت له أيضا زينب، وهى أكبر بناته صلّى الله عليه وسلّم، تزوجها أبو العاص بن الربيع، واسمه لقيط بن الربيع، وهو ابن خالتها، وأمه هالة بنت خويلد بن أسد، وكان تزويجه إياها قبل الإسلام، فلما أكرم الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالرسالة أسلمت خديجة «4» كما سيأتى وبناته، وصدّقته زينب، وثبت أبو العاص على دين قريش، وكان من معدودى قريش ورجال مكة مالا وأمانة وتجارة، فمشت إليه وجوه قريش، فقالوا: اردد على محمد بنته، ونحن نزوّجك أية امرأة أحببت من قريش، فقال: لا، والله إذن لا أفارق صاحبتى فإنها خير صاحبة. وكانت هاجرت قبله وتركته على شركه. وقد أسلم أبو العاص بعد أمور طويلة، فردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب عليه   (1) فى الأدب المفرد للبخارى رضى الله عنه: «عن أبى هريرة يصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كان ربعة وهو إلى الطول أقرب، شديد البياض، أسود شعر الرأس، حسن الثغر، أهدب أشفار العينين، بعيد ما بين المنكبين، مفاض الخدين، يطأ بقدميه جميعا، ليس لها إخمص، يقبل جميعا ويدبر جميعا، لم أر مثله قبل ولا بعده» . فمسألة رد الرأس هذه خطأ، وإنما يلتفت بجسمه الشريف كله، وهذه معروفة عنه صلّى الله عليه وسلّم. (2) فى الأدب المفرد عن أنس بن مالك: كان النبى صلّى الله عليه وسلّم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت إليه النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله إنما دعوت هذا، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «تسموا باسمى ولا تكنوا بكنيتي» . وفي حديث اخر: «تسموا ولا تكنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم» وفي ثالث: « ... والله يعطى وأنا أقسم» . وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن عدم التسمية تحرم في حياته فقط، لئلا يلتبس به أحد، أما بعده فقد أمن اللبس، فلذلك لا يحرم. والله تعالى أعلم. (3) نسخ هذا اللفظ فيما نسخ من القران في حياة النبى صلّى الله عليه وسلّم. (4) فى الأصل (هاجرت خديجة) وهو خطأ طباعى واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 بنكاح جديد، ويقال بل ردّها بالنكاح الأوّل بعد سنتين، وقيل قبل انقضاء العدة، وكان ذلك في المحرم سنة سبع من الهجرة. ولما أسلم أبو العاص أتى مكة ثم رجع إلى المدينة، فكان بها، فلما فتحت مكة أقام بها ولم يقاتل مع النبى صلّى الله عليه وسلّم، وتوفى سنة اثنتى عشرة، وأوصى إلى الزبير ابن العوام وهو ابن خاله. وكان لأبى العاص بن الربيع من زينب: عليّ وأمامة؛ فأما عليّ فمات وهو غلام، ولم يعقب، وأما أمامة فتزوجها علي بن أبى طالب بعد وفاة فاطمة رضى الله تعالى عنها فولدت له محمدا الأوسط «1» ، وقتل رضى الله عنه وهى عنده، فحملها ابن همها عبد الرحمن بن محمد إلى المدينة، وكتب معاوية رضى الله عنه إلى مروان بن الحكم يأمره أن يخطبها عليه، ففعل، فجعلت أمرها إلى المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وهو الذى كان الحسين بن علي استخلفه على الكوفة حين سار إلى المدائن، فأشهد المغيرة عليها برضاها بكل ما يصنع، فلما استوثق منها قال: «قد تزوجتها وأصدقتها أربعمائة دينار» فكتب مروان بذلك إلى معاوية، فكتب إليه: هى أملك بنفسها فدعها وما اختارت «2» . ثم إنه بعد ذلك سيّر المغيرة إلى الصفراء فمات وماتت بالصفراء، وولدت للمغيرة ولدا اسمه يحيى كان يكنى به ولم يعقب، وتوفيت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة ثمان من الهجرة بالمدينة، وصلّى عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونزل في قبرها ومعه أبو العاص، وجعل لها نعشا، فكانت أوّل من اتّخذ لها النعش، والتى أشارت باتخاذه أسماء بنت عميس، رأته بالحبشة وهى مع زوجها جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه. * وولدت خديجة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم رقيّة (وهى أكبر بناته بعد زينب) ، تزوجها عتبة بن أبى لهب، فلما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ قالت أمه (أم جميل) حَمَّالَةَ الْحَطَبِ: «هجانا محمد» ، وعزمت على ابنها عتبة أن يطلّق رقية، وعزم عليه أبوه أيضا، ففعل. فزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عثمان بن عفان   (1) فى الأصل «محمد بن الحنفية» وهو خطأ واضح؛ قال المسعودى في مروج الذهب: محمد بن الحنفية، هو: محمد بن علي بن أبى طالب، وأمه خوله بنت إياس (من بنى حنيفة) وقيل ابنة جعفر بن قيس بن مسلمة الحنفي. اهـ. ملخصا والله تعالى أعلم. (2) رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلى رضى الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 بمكة، فولدت له بأرض الحبشة عبد الله، وبه كان يكني، مات عبد الله سنة أربع في جمادى الأولى وهو ابن ست سنين، نقر عينه ديك فورم وجهه، فمرض من ذلك ومات، وصلّى عليه النبى صلّى الله عليه وسلّم وقبره أبوه، ولمّا مات عبد الله ابن عثمان وضعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجره ودمعت عليه عيناه، وقال: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء» «1» ، وتوفيت رقية في أيام بدر، وهى عند عثمان، ودفنت بالبقيع، وصلّى عليها عثمان وغسلتها أم أيمن، ولم يحضرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكونه كان غائبا ببدر، ولما عزّى بها قال: «الحمد لله دفن البنات من المكرمات» . * وولدت خديجة رضى الله تعالى عنها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أم كلثوم، ولا يعرف لها اسم، وإنما تعرف بكنيتها، تزوجها عتيبة بن أبى لهب، فلما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ أمر ابنه بفراقها ففعل، فلما توفيت رقية زوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم كلثوم من عثمان أيضا، فلم تزل عنده حتّى توفيت في سنة تسع، وصلّى عليها أبوها) ، ولم تلد من عثمان، فبكى عثمان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما يبكيك؟ قال: انقطاع صهرى منك يا رسول الله، فقال: «كلا إنه لا يقطع الصهر الموت إنما يقطعه الطلاق، ولو كانت عندنا ثالثة لزوّجناك» «2» . * وولدت خديجة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فاطمة، وهى أصغر بناته، ولدت قبل النبوة بخمس سنين «3» أيام بناء البيت، وتوفيت بعده عليه السلام بستة أشهر، وتلقّب بالبتول من البتل: وهو القطع لانقطاعها عن نساء الأمة، فضلا ودينا وحسبا ونسبا، وتلقب أيضا بالزهراء «4» ، وسمّاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة بإلهام من الله تعالى؛ لأن الله تعالى «فطمها وذريتها من النار» «5» وكانت أحبّ أولاده صلّى الله عليه وسلّم،   (1) رواه الخطيب عن عبد الله بن عمر. (2) وفي أسد الغابة: «لو كان لنا ثالثة لزوّجناك» . وعن أمير المؤمنين علي بن أبى طالب رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لو أن لى أربعين بنتا لزوجت عثمان واحدة بعد أخرى، حتى لا تبقى منهن واحدة» . (3) وفي الإصابة لابن حجر أنها ولدت عام 41 من ميلاد النبى صلّى الله عليه وسلّم. (4) البيضاء المشرقة الوجه. وقيل: لأنها لم تحض كما تحيض النساء. والله أعلم. (5) يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن فاطمة أحصنت فرجها فحرّمها الله وذريتها على النار» رواه البزار وأبو يعلي، والطبراني، والحاكم عن ابن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فكانت إذا دخلت عليه صلّى الله عليه وسلّم قام لها إجلالا، والأحاديث في فضلها كثيرة، ولما بلغت خمس عشرة سنة تزوجها علي بن أبى طالب بالمدينة، فولدت له: الحسن والحسين رضى الله عنهما ومحسن، درج «1» صغيرا، وولدت له من البنات: زينب، وأم كلثوم، ورقية. وسيأتى الكلام عليهن. وقد اختص ولداها السبطان بمزايا لا توجد في غيرهما، فنسبوا إليه صلّى الله عليه وسلّم خصوصية لهم، فلم تكن الأشرفية المطلقة إلا لعقب الحسن والحسين فقط؛ لاختصاص ذريتهما بشرف النسب، وقد انقرض نسبه صلّى الله عليه وسلّم إلا من فاطمة رضى الله عنها، طاب أصلها أمّا وأبا، وانتشر نسله الشريف منها من جهة السبطين، ويقال لأولهما حسنى، وللثانى حسيني، وانعقد الإجماع بأن المراد بال البيت في الاية الشريفة: على وفاطمة والحسن والحسين وذريتهما، وهم أهل العباءة. وعن عائشة رضى الله تعالى عنها: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات غداة وعليه مرط مرجّل من شعر أسود (المرط بالكسر كساء من صوف أو خز والجمع مروط وربما أطلق على ما نسج من الشعر، قال بعضهم وهو خاص بالإزار والخمار) فجاء الحسن، فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة، ثم علي، ثم قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] وقال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتى وخاصتى أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا «2» ثم قال: أنا حرب لمن حاربهم وسلّم لمن سالمهم، وعدوّ لمن عاداهم «3» » . وهذه الاية دلّت على منبع فضائل أهل البيت النبوي؛ لاشتمالها على غرر من ماثرهم والاعتناء بشأنهم، حيث ابتدئت بإنما المفيدة لحصر إرادته تعالى في   (1) درج: مات. (2) وأخرج الترمذى والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم. قالت أم سلمة لما نزلت: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى فاطمة وعلى والحسن والحسين فقال: هؤلاء أهل بيتي» . وقال يزيد ابن زريع عن روح بن القاسم عن عمرو بن دينار: قالت عائشة: «ما رأيت قط أحدا أفضل من فاطمة غير أبيها» أخرجه الطبراني فى ترجمة إبراهيم بن هاشم (من المعجم الأوسط وسنده صحيح على شرط الشيخين إلى عمرو) . (3) وأخرج الترمذى من حديث زيد بن أرقم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «على وفاطمة والحسن والحسين أنا حرب لمن حاربهم وسلّم لمن سالمهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 إذهاب الرجس أى الإثم عنهم، وتطهيرهم من سائر الأخلاق والأحوال المذمومة، وتحريمهم علي النار الذى هو فائدة ذلك التطهير وغايته؛ إذ منه الإلهام والإنابة إلى الله وإدامة الأعمال الصالحة، ومن ثمّ لما ذهبت عنهم الخلافة الظاهرة لكونها صارت ملكا عضوضا ولم تتم للحسن، عوّضوا عنها الخلافة الباطنة، وهى القطبية، فلم يكن قطب إلا منهم في كل زمان، وهو المختار خلافا للمرسي. ومن تطهيرهم أيضا تحريم الصدقة عليهم فرضا بالإجماع. ونفلا على قول للإمام مالك؛ لأنها أوساخ الناس، مع كونها تنبئ عن ذل الاخذ وعز المأخوذ منه، وعوّضوا عنها خمس الخمس من الفيء والغنيمة المنبىء عن عز الاخذ وذل المأخوذ منه، فاختصوا بمشاركته صلّى الله عليه وسلّم في تحريم الصدقات، ولما أخذ الحسن ابن علي رضى الله عنهما تمرة من تمر الصدقة ووضعه في فيه قال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «كخّ كخ ارم بها أما علمت أنّا لا نأكل الصدقة» «1» وفي رواية «إنّ ال محمد لا يأكلون الصدقة» وحكمة ختم الاية «2» به المبالغة في وصولهم لأعلاه، ودلت هذه الاية أيضا على نبوته صلّى الله عليه وسلّم، وعلى فضل أهل الكساء رضى الله تعالى عنهم. وقد قيل في ذلك: إنّ النبيّ محمدا ووصيّه ... وابنيه وابنته البتول الطاهره أهل العباءة إنّني بولائهم ... أرجو السلامة والنّجا في الاخره وقال غيره: هم القوم من أصفاهم الودّ مخلصا ... تمسّك في أخراه بالسبب الأقوي هم القوم فاقوا العالمين مناقبا ... محاسنها تحكى واياتها تروي موالاتهم فرض، وحبّهم هدي ... وطاعتهم حزم، وودّهم تقوي فلا خفاء أن من انتسب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأم أو أب ففيه سريان لحمه ودمه الكريمين، فالمنتمى إليه هو بعضه في وجوب الإجلال والتعظيم والتعزيز   (1) متفق عليه عن أبى هريرة، وفي الفتح الكبير «أما شعرت» بدل «أما علمت» . (2) أى بقوله يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 والتوقير والبر والنصيحة؛ فبعضه صلّى الله عليه وسلّم كجميعه، كما قيل في مدح شريف: هو بعض النبي والله قد صا ... غ جميع النبىّ والبعض طهرا وتوضيح ذلك أن فاطمة رضى الله عنها بضعته صلّى الله عليه وسلّم، وأولادها بضعة منها، فهم بضعة من تلك البضعة، فيكونون بضعة بواسطة تلك البضعة، وهكذا بنوهم وبنو بنيهم وهلم جرا، فكل من يوجد منهم في كل زمان بضعة منه بالواسطة؛ فأقيم وجودهم مقام وجوده صلّى الله عليه وسلّم، وفي هذا من مزيد الكرامة والتشريف ما لا يخفي، وحرمته صلّى الله عليه وسلّم ميتا كحرمته حيا، وقد قال تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشوري: 23] أى أن تودوا قرابتي. ويطلق أهل البيت إطلاقا اخر على كل حسنى وحسيني، وعلويّ من ذرية محمد ابن الحنفية أو غيره من أولاد علي بن أبى طالب أو جعفر، أو عقيلىّ أو عباسيّ فيطلق عليه اسم الشريف، ولذلك تجد تاريخ الحافظ الذهبى مشحونا في التراجم بذلك، يقول: الشريف العباسى، الشريف العقيلي، الشريف الجعفرى، الشريف الزينبي، فلما ولى الخلافة الفاطميون بمصر قصروا اسم الشريف على ذرية الحسن والحسين فقط؛ لكونهم علويين، فاستمر بذلك إلى الان. قال الحافظ ابن حجر في كتاب «الألقاب» : «الشريف ببغداد لقب لكل عباسي، وبمصر لقب لكل علوي» . اهـ. قال العلامة الصبّان: «ولا شك أن المصطلح القديم أولي؛ وهو إطلاقه على كل علوى وجعفرى وعقيلى وعباسى كما صنعه الذهبي، وكما أشار إليه الماوردي، ومثله قول ابن مالك في الألفية: * واله المستكملين الشّرفا* وقد يقال على اصطلاح أهل مصر: الشرف أنواع: عامّ: لجميع أهل البيت، وخاصّ: بالذرية فيدخل فيه الزينبيون وجميع أولاد بناته، وأخصّ منه: وهو شرف النسبة، وهذا مختص بذرية الحسن والحسين.» انتهي. وبالجملة فيجب تعظيم الجميع؛ لأنهم جميعا قربى وأشراف بالمصطلح العام. وقد أراد بعض العلماء أن يقبّل يد بعض كبار الأشراف، فمنعه من ذلك، فأنشده: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 أتمنعني اللثم من راحة ... نماها إلى الهاشمي الكرام كأنّي إذا أنا قبّلتها ... لثمت يديه عليه السلام وحسب أهل البيت من الكرامة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وعدنى ربى في أهل بيتي: من أقرّ منهم بالواحدانية، ولى بالبلاغ: ألايعذّبه» «1» . ومن الاثار الواردة عن سيدنا الحسين بن علي رضى الله عنهما أنه قال: «الزموا مودتنا أهل البيت؛ فإنّ من لقى الله عز وجل وهو يودّنا دخل الجنة بشفاعتنا» . ولنا أبيات في ذلك وهي: انتمائي لكم بصفو صفاتي ... يا ال بيت الزهراء أزهي صفاتي جدّكم في الوجود شمس وأنتم ... أنجم زهر غير منكسفات أنتم بضعة النبيّ نشأتم ... عن صفيّ من بضعة مصطفاة سيّد الكونين أصلا وفرعا ... في شعاب علي العلي مشرفات أبطحيّ، لولاه ما فاح من م ... كة عرف التعريف في عرفات لا ولا كان أهل بدر بدورا ... يتبوأن في علي الغرفات لسواكم ما رمت قطّ التفاتا ... وإليكم صرفت كلّ التفاتى حاش لله أن أضام وأنتم ... ملجأ اللائذين كهف العفاة ويقينى أرجو به أن يقينى ... من عظيم الأهوال والافات كم مجير منكم حمي مستجيرا ... وأغاث الملهوف بالمرهفات كم لكم بالنّوال دنيا وأخرى ... من أياد علي الوري عاطفات بخلوص المديح أرجو خلاصى ... من مساوي أيامي السالفات إن نظمتم رفاعة في ولاكم ... حاز أمنا من سطوة المرجفات فأمانى من حادثات زمانى ... انتمائي لكم بصفو صفاتى   (1) رواه الحاكم عن أنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ومن خصوصيات السيدة فاطمة رضى الله تعالى عنها أنه يحرم التزوج عليها؛ مخافة إيذائها بالغيرة التى هى من طبع النساء، للأحاديث الدالة على تحريم النكاح عليها حتّى تأذن، ولقوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: 53] وليس ذلك شاملا لجميع بناته صلّى الله عليه وسلّم بل هو خاصّ كما استصوبه الحافظ ابن حجر بفاطمة الزهراء؛ لأنها أصيبت بأمها وأخواتها واحدة واحدة، ولم يبق لها من تستأنس به ممن يخفّف عنها ألم الغيرة «1» . وتوفيت رضى الله عنها في ثالث رمضان ولها من العمر تسع وعشرون سنة، بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم بستة أشهر، وصلّى عليها العباس رضى الله عنه «2» . * وولدت السيدة فاطمة رضى الله عنها زينب وأمّ كلثوم ورقيّة. فأما زينب فقد تزوجها ابن عمها عبد الله بن جعفر بن أبى طالب فولدت له عليا وعونا الأكبر وعباسا ومحمدا، وأمّ كلثوم. وأما أم كلثوم فإنه تزوجها عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فولدت له زيدا ورقية، ولم يعقبا، وقتل عمر بن الخطاب عنها، ثم تزوجها بعده ابن عمها عون ابن جعفر بن أبى طالب فمات عنها، ثم تزوجها بعده أخوه محمد فمات عنها، ثم تزوجها بعده أخوه عبد الله فماتت عنده، ولم تلد لأحد من الثلاثة شيئا،   (1) روى النسائى في كتابه (خصائص أمير المؤمنين علي بن أبى طالب) عن المسور بن مخرمة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن بنى هشام بن المغيرة استأذنونى أن ينكحوا ابنتهم عليّ بن أبى طالب (رضى الله عنه) فلا اذن، ثم لا اذن، إلا أن يريدابن أبي طالب أن يطلق ابنتى وينكح ابنتهم؛ فإنما هى بضعة مني، يريا بنى ما رابها، ويؤذينى ما اذاها، ومن اذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد حبط عمله، وذلك أنهم أرادوا أن يزوّجوه بنت أبى جهل لعنه الله، وكان أعدى أعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومن هنا نعرف أن عدم إباحة الرسول) الزواج لعلي، إنما كان لئلا يجتمع تحت سقف واحد بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبنت عدو الله. والمسألة دينية بحتة لا دخل لها في الغيرة وغيرها من أمور الدنيا. غفر الله لنا وله. (والحديث متفق عليه، ورواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه) بلفظ النسائى تقريبا. (2) وروى الواقدى من طريق الشعبى قال: «صلى أبو بكر رضى الله عنه على فاطمة رضى الله عنها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وتوفيت أم كلثوم وابنها زيد في يوم واحد «1» وصلّى عليهما عبد الله بن عمر رضى الله عنهما. وأما رقية فماتت قبل البلوغ. وولدت السيدة خديجة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عبد الله، وهو الملقب بالطيّب والطاهر، سمى بهذين الاسمين لأنه ولد بعد المبعث وتوفى بمكة؛ فقال العاص بن وائل: قد انقطع ولد محمد فهو أبتر، فأنزل الله عز وجل: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 3] وانكسفت الشمس* يوم موته، فقالوا: كسفت لموته، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الشمس والقمر ايتان من ايات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة» «2» وسبب ذلك أنه إذا أراد الله أن يرى عباده اية يخوّفهم بها أظهر لهم شيئا من عظمته وسلطانه. ولما مات بكى عليه صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان» «3» ، وقال: «من لا يرحم لا يرحم» «4» . ورأى صلّى الله عليه وسلّم خللا في قبر إبراهيم فقال: «إن الله يحب من العبد إذا عمل عملا أن يتقنه» 5 «5» .   (1) ولم يعرف من السابق منهما في الوفاة حتّى يرث الاخر. * المعروف أن حادثة كسوف الشمس كانت في وفاة إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مارية القبطية. (2) رواه الطبراني عن عقبة بن عامر، والإمام أحمد عن محمود بن لبيد، والبخارى وأحمد والنسائى عن جرير، وابن حبان عن أبى بكرة، وأحمد والبخارى ومسلم والنسائى وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود الأنصاري، وأحمد والبخارى ومسلم والنسائى عن ابن عمر، وأحمد، والبخارى ومسلم عن المغيرة بن شعبة، وأبو داود عن جابر، والنسائى عن أبى هريرة، والنسائى وابن ماجه عن عائشة، والطبراني عن ابن مسعود، ولفظ الفتح الكبير: «إن الشمس والقمر ايتان من ايات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبّروا وصلوا وتصدقوا، يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزنى أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، اللهمّ هل بلغت» . (رواه مالك وأحمد وأبو داود والنسائى عن عائشة، وهو حديث متفق عليه) . (3) رواه ابن عساكر عن بكير بن عبد الله الأشج: مرسلا. (4) متفق عليه، ورواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذى عن أبى هريرة، والبخارى ومسلم عن جرير. وروى الإمام أحمد قوله) : «من لا يرحم لا يرحم ومن لا يغفر لا يغفر له» وروى الطبراني عن جرير: «من لا يرحم لا يرحم ومن لا يغفر لا يغفر له، ومن لا يتب لا يتاب عليه» . (5) وروى عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن» (رواه البيهقى في شعب الإيمان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فهؤلاء أولاده صلّى الله عليه وسلّم، كلهم من خديجة الكبرى أم المؤمنين رضى الله عنها. وأما ابنه إبراهيم فمن مارية بنت شمعون القبطية «1» . ومات جميع أولاده صلّى الله عليه وسلّم في حياته إلا فاطمة فبعده بستة أشهر، ولم يكن له صلّى الله عليه وسلّم أولاد من غيرهما، وقيل: إن عائشة أسقطت سقطا ولم يثبت. توفى إبراهيم صغيرا مرضعا، وكان مولده في ذى الحجة سنة ثمان من الهجرة بالعالية، وهى مال من أموال بنى النضير كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعقّ عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشاة، وفي رواية بكبشين يوم سابعه، وحلق رأسه وتصدّق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الأرض، وسمّاه يومئذ، ودفعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أم بردة خولة بنت المنذر زوج البراء بن أوس أحد بنى النجار، فكانت ترضعه. والعقيقة هذه إحدى الولائم. الثانية: وليمة العرس. الثالثة: الخرس (بضم الخاء المعجمة ويقال بالصاد المهملة) طعام الولادة وهى غير العقيقة. الرابعة: الإعذار (بكسر الهمزة وبالعين المهملة والذال المعجمة) للختان. الخامسة: الوكيرة «2» لبناء الدار. السادسة: النقيعة للمسافر «3» من النقع، وهو الغبار، وقيل: إن المسافر يصنع الطعام، وقيل يصنعه له غيره، السابعة: الوضيمة «4» بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة: طعام عند المأتم. الثامنة: المأدبة بضم الدال وفتحها (طعام يتخذ ضيافة بلا سبب) ونظمها العلّامة بهرام المالكى رحمه الله فقال: ثمانية أسماء أطعمه أتت ... عن العرب نقلا لا تري بقياس وليمة عرس، ثم إعذار خاتن، ... نقيعة سفر، ثم خرس نفاس ومأدبة في دعوة، ووكيرة ... لأجل بناء محكم بأساس عقيقة مولود، كذاك حذاقه «5» ... إذا حذقه حاذي وقيت من الباس   (1) القبط: قومية لا ديانة. (2) الوكيرة: طعام يعمل لفراغ البنيان. (3) النقيعة: طعام الرجل ليلة يملك، والنقيع أيضا: ما ينقع في الماء من الدواء والنبيذ، والنقيع: البئر الكثيرة الماء. (4) الوضيمة: حرم من الناس فيهم مائتا إنسان أو ثلاثمائة، والقوم القليل ينزلون على قوم، وطعام المأتم. (5) الحذافة: حذق الصبى القران: تعلّمه كله ومهر فيه، وحذق الشيء يحذقه حذقا: قطعه أو مدّه ليقطعه بمنجل ونحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 لكنه جعل الحذاق بدل الوضيمة، فهى حينئذ تسعة، وزيد أيضا الإملاك: للعقد، والعتيرة: ذبيحة لأوّل شهر رجب، وعلى هذا فأسماء الأطعمة أحد عشر. وذيّل الشمس التتائى بالثلاثة: وتاسعة الإملاك للعقد قد أتت ... عتيرة ذبح للأصبّ مواسي وحادية للعشر فعل وضيمة ... بميت حماك الله شرّ أناس وقد ورد في حديث أنس عن البيهقي: أنه صلّى الله عليه وسلّم عقّ عن نفسه بعد النبوةّ، فلو كان ما ذبحه جده في سابع ولادته صلّى الله عليه وسلّم عقيقة، لم يعيدها النبى صلّى الله عليه وسلّم ويعق عن نفسه؟ وأجيب عنه بأن ما فعله النبى صلّى الله عليه وسلّم بعد النبوّة ليس إعادة للعقيقة، وإنما هو إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان صلّى الله عليه وسلّم يصلّى على نفسه كذلك. والجواب المشهور أن ما فعله جده عبد المطلب من العقيقة لم يقع عنه؛ لأن ذلك كان قبل الشرع، فلا يتعلق به حكم، والعقيقة التى فعلها صلّى الله عليه وسلّم عنه بعد النبوّة- على تقدير صحتها- كانت بعد الشرع؛ فهي المشروعة والواقعة عنه؛ لأنه بعد ولادته لم يقع عنه عقيقة مشروعة، على أن ما ورد من أنه صلّى الله عليه وسلّم عقّ عن نفسه بعد النبوّة إنما هو حديث منكر كما قاله بعضهم. وقد نظم بعضهم عدة أولاد النبى صلّى الله عليه وسلّم بقوله: فأوّل ولد المصطفي القاسم الذي ... به كنية المختار فافهم وحصّلا وزينب تتلوه، رقيّة بعدها ... وفاطمة الزهراء جاءت علي الولا كذا أم كلثوم تعدّ، وبعدها ... في الاسلام عبد الله جاء مكمّلا وكلّهم كانوا أتوا من خديجة ... وقد جاء إبراهيم في طيبة تلا وتوفيت السيدة خديجة رضى الله تعالى عنها في سنة عشر من المبعث «1» قبل الهجرة بثلاث سنين، وبعد مضى عشر سنين من مبعثه صلّى الله عليه وسلّم، ودفنت بالحجون، وهى ابنة خمس وستين سنة وستة أشهر، وللنبى صلّى الله عليه وسلّم عند وفاتها تسع وأربعون   (1) فى رمضان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 سنة وثمانية أشهر وأربعة عشر يوما، وذلك قبل موت أبى طالب بثلاثة أيام، فعظمت المصيبة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بموتهما، وقال «ما نالتنى قريش بشيء أكرهه حتّى مات أبو طالب» «1» وذلك أن قريشا وصلوا من إيذائه بعد موت أبى طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته. وكان عليه الصلاة والسلام يسمى ذلك العام عام الحزن. ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قبر السيدة خديجة. وكانت خديجة قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند أبى هالة هند بن زرارة بن النباش فولدت له هند بن أبى هالة، سمى باسم أبيه، ثم خلف عليها بعده عتيق بن عائذ ابن عبد الله، فطلقها، فتزوجها النبى صلّى الله عليه وسلّم كما تقدّم «2» ، وكانت مسمّاة لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤى وهو ابن عم خديجة لأنها بنت خويلد بن أسد، فاثر الله عز وجل بها نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وكانت خديجة ولدت لعتيق السابق ذكره جارية فتزوجها صيفى بن أمية، فولدت له محمدا؛ فيقال لبنى محمد بن صيفى بالمدينة بنو الطاهرة. قالت عائشة رضى الله عنها: «إنّى لأغار على خديجة وإن كنت بعدها؛ لما كنت أسمع من ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لها، ولقد سمعته يقول «كانت خديجة خير نساء العالمين» «3» وقال «إن لخديجة بيتا في الجنة من قصب (أى قصب اللؤلؤ) لا صخب فيه ولا نصب (الصخب: الضجة واضطراب الأصوات للخصوم، ولا نصب: أي لا تعب) وإنّى لأعرف فصلها رحمها الله» «4» .   (1) السيرة الحلبية ج 1 ص 391 طبع التجارية. وفي سيرة ابن هشام: قال ابن إسحاق: فحدثنى هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال: لما نثر ذلك السفية على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم التراب، دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهى تبكى ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لها: لا تبكى يا بنية؛ فإن الله مانع أباك، قال: ويقول بين ذلك: ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتّى مات أبو طالب» . (2) ويقال: أول من تزوجها عتيق ثم أبو هالة. انظر ترجمتها في الإصابة لابن حجر. (3) ولهذا قال العلماء- توفيقا بين هذا الحديث وحديث تفضيل السيدة فاطمة رضى الله عنها: «إن فاطمة أفضل من أمها من ناحية أنها بضعة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والسيدة خديجة أفضل من جهة الأمومة ... والله تعالى أعلم. (4) وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب» . (رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن جعفر. والحديث متفق عليه عن عبد الله بن أبى أوفى وعن عائشة رضى الله عنها) . وورد فيها أيضا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خديجة خير نساء عالمها، وفاطمة خير نساء عالمها» . رواه الحارث عن عروة: مرسلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 * قال بعض الصوفية: إن أربعة من النساء أحببن أربعا من الأنبياء عليهم السلام فوجدن بذلك المغفرة: أولاهنّ خديجة بنت خويلد: أحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجدت بذلك المغفرة والقربة والإسلام والنجاة من عبادة الأصنام، وكانت أوّل امرأة أسلمت من نساء عصرها، وبشّرها جبريل بقصرها. والثانية: اسية بنت مزاحم: أحبت موسى الكليم، فأوردها حبّه جنة النعيم، وبنى الله لها بيتا في الجنة وأعظم لها المنّة. والثالثة بلقيس: أحبت سليمان بن داود عليهما السلام، فكان حبها إياه سببا لدخولها في الإسلام، وكانت تعبد الشمس من دون الخالق، حتى بانت لها الحقائق، ووصل إليها كتاب كريم إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) [النمل: 30، 31] ولما صحّ عندها ما يدعو إليه سليمان من الإيمان خالفت رأي قومها الظالمين، وقالت بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [النمل: 44] . والرابعة: زليخا، أحبت يوسف الصدّيق فبانت لها أبواب التحقيق، وال أمرها أن دعاها إلى الإسلام فأسلمت بين يديه، ودخلت في حظيرة أنسه، فكان دخولها فى الملة سببا للدنوّ والوصلة. * وكان صلّى الله عليه وسلّم محترما في قومه، معظما في عشيرته، رئيس قبيلته، وأرادوا تجديد بناء الكعبة؛ لكونها كانت قصيرة البناء، فأرادوا رفعها وسقفها، فهدمتها قريش ثم بنوها، فلمّا وصلوا في البناء إلى الموضع الذى يوضع فيه الحجر الأسود اختلفوا في وضعه، وقالت كل قبيلة: نحن أحق بوضعه، حتى هموا بالقتال، ومكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا انقطع الخلاف بينهم برضا قريش بحكمه، وكان قد بلغ خمسا وثلاثين سنة، وذلك أنهم اجتمعوا وتشاوروا، فقال أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو ابن مخزوم، وكان يومئذ أسنّ قريش: يا معشر قريش اجعلوا بينكم حكما فيما تختلفون فيه أوّل من يدخل من باب الحرم ليقضى بينكم. ففعلوا، فكان أوّل داخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، هذا محمد، رضيناه، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال صلّى الله عليه وسلّم: «هلمّوا إليّ ثوبا» فأتى به، فأخذ الحجر فوضعه فيه بيده، ثم قال: «لتأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 كل قبيلة بطرف من الثوب، ثم ارفعوه جميعا» ، ففعلوا ذلك، فلما بلغوا به موضعه وضعه النبى صلّى الله عليه وسلّم بيده الشريفة، ثم بنى عليه حتّى أتموا بناء الكعبة، فأرضى الكلّ صلوات الله عليه. وكانت قريش تسمّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن ينزل عليه الوحى «الأمين» ، وفي الجامع الصغير عن الطبراني عن أبى رافع أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «أما والله إنّى لأمين في السماء وأمين في الأرض» . وكان بناء الكعبة قبل الهجرة بثمانى عشرة سنة، وفي قضية التحكيم قال هبيرة بن وهب المخزومي: تشاجرت الأحياء في فصل خطّة ... جرت بينهم بالنّحس من بعد أسعد تلاقوا بها بالبعض بعد مودة ... وأوقد نارا بينهم شرّ موقد فلما رأينا الأمر قد جدّ جدّه ... ولم يبق شيء غير سلّ المهنّد رضينا وقلنا العدل أوّل طالع ... يجئ من البطحاء من غير موعد ففاجأنا هذا الأمين محمد ... فقلنا رضينا بالأمين محمّد بخير قريش كلّها أمس شيمة ... وفي اليوم مع ما يحدث الله في غد فجاء بأمر لم ير الناس مثله ... أعمّ وأرضي في العواقب والبد أخذنا بأطراف الرداء وكلّنا ... له حصّة من رفعها قبضة اليد فقال ارفعوا حتّى إذا ما علت به ... أكفّهم وافى به غير مسند وكلّ رضينا فعله وصنيعه ... فأعظم به من رأى هاد ومهتدى وتلك يد منه علينا عظيمة ... يروح بها هذا الزمان ويغتدى وكانت كسوة الكعبة في زمن الجاهلية المسوح والأنطاع؛ فإنّ أوّل من كساها الأنطاع تبّع الحميري؛ ثم كساها الثياب الحبرة، وفي رواية: كساها الوصائل، وهى برود حمر فيها خطوط خضر تعمل باليمن، وكانت قريش تشترك في كسوة الكعبة، حتى نشأ أبو ربيعة بن المغيرة، فقال لقريش: أنا أكسو الكعبة سنة واحدي، وجميع قرش سنة، واستمر يفعل ذلك إلى أن مات، فسمّته قريش الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 العدل «1» لأنه عدل قريشا واحده في كسوة الكعبة، ويقال لبنيه بنو العدل. وكانت كسوتها لا تنزع، فكان كلما تجدّد كسوة تجعل فوق، فاستمر ذلك إلى زمنه صلّى الله عليه وسلّم، ثم كساها النبى صلّى الله عليه وسلّم الثياب اليمانية، وكساها أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم القباطي «2» ، وكساها معاوية رضى الله عنه الديباج يوم عاشوراء، والقباطي في اخر رمضان، وكساها المأمون الديباج الأحمر والديباج الأبيض والقباطى أيضا، فكانت تكسى الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطى يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان. قال بعضهم: وهكذا كانت تكسى في زمن المتوكّل العباسي، ثم في زمن الناصر العباسي، كسيت السواد من الحرير، واستمر ذلك إلى الان في كل سنة، وكانت كسوتها من غلة قريتين «3» يقال لهما «بسوس» و «سندبيس» «4» من قرى القاهرة بإرصاد الملك الصالح بن الناصر محمد بن قلاوون في سنة سبعمائة وإحدى وخمسين، إلى أن صارت الكسوة من القاهرة المعزية، على طرف الخزينة المصرية الخديوية. وقد سئل الإمام البلقيني: هل يجوز كسوة الكعبة بالحرير المنسوج بالذهب؟ ويجوز دورانها في المحمل الشريف؟ فأجاب بجواز ذلك، قال: لما فيه من التعظيم لكسوتها الفاخرة، التى يرجى لمن يكسوها الخلع السنية في الدنيا والآخرة، ويجوز إظهارها في دوران المحمل الشريف؛ فإن في ذلك من التفخيم المناسب للحمل المنيف ما يليق بالحال. هذا كلامه. وأوّل من حلّى بابها بالذهب جدّه صلّى الله عليه وسلّم: عبد المطلب؛ فإنه لما حفر بئر زمزم وجد فيها الأسياف والغزالين من الذهب، فضرب الأسياف بابا، وجعل في ذلك الباب الغزالين، فكان أوّل ذهب حلّيت به الكعبة، وقد سبق ذلك في حفر زمزم فى الفصل الأوّل من الباب الأوّل. وأوّل من ذهّب الكعبة في الإسلام عبد الملك بن مروان، وقيل عبد الله بن   (1) العدل: النظير، ومنه قوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً. (2) القباطي: ثياب كانت تصنع في مصر. (3) وقف كسوة الحرمين الشريفين. (4) وهى وقف على خدام الحجرة الشريفة. وهذه القرية وما قبلها من أعمال محافظة القليوبية. اهـ. من «التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الزبير رضى الله عنهما، جعل على أساطينها صفائح الذهب، وجعل مفاتيحها من الذهب، وجعل الوليد بن عبد الملك الذهب علي الميزاب، يقال إنه أرسل لعامله على مكة ستة وثلاثين ألف دينار، يضرب منها على باب الكعبة وعلى الميزاب، وعلى الأساطين التى داخلها، وعلى أركانها من داخل. وذكر أن الأمين بن هارون بن الرشيد أرسل إلى عامله بمكة ثمانية عشر ألف دينار، ليضربها صفائح الذهب على باب الكعبة، فقلع منها ما كان على الباب من الصفائح، وزاد عليها ذلك، وجعل مساميرها وحلقتى الباب والعتبة من الذهب، وأن أم المقتدر (الخليفة العباسي) أمرت غلامها لؤلؤا أن يلبس جميع أسطوانات البيت ذهبا، ففعل، وقد سبق التنويه إلى ذلك في الفصل الثانى من الباب الثالث من المقالة الرابعة من كتابنا «أنوار توفيق الجليل» «1» . ولما بلغ صلّى الله عليه وسلّم الأربعين وأرسل بخصوصه إلى الإنس والجن أجمعين أتاه جبريل من الله بالوحي، وهو بغار حراء (الجبل المشهور بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها) الذى كان يخلو فيه للمجاورة والعبادة، وخاطبه بالرسالة الاتية بالشريعة المطهرة والحنيفية السمحة إلى كافة الخلق، فكان ذلك سببا لإسعادهم، وموجبا لصلاح معاشهم ومعادهم، وكان ذلك على فترة من الرسل؛ ليس للناس شرائع ولا أحكام، ولا علم بالتوحيد، ولا أمر شرعى يحفظ دماءهم وأموالهم، فجاءت شريعته جامعة للأحكام والحكم التى لا تحصي، والنعم التى لا تستقصي، فيا له من بعث محا الضلالة والوعث «2» .   (1) هو كتاب في تاريخ مصر القديمة طبع عام 1285 هـ. (2) الوعث: كل أمر شاق من تعب وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الباب الثانى فى مبعثه صلّى الله عليه وسلّم، ودعائه الناس إلى الدين الحق. وهجرة المسلمين* إلى الحبشة، وخروجه إلى الطائف الفصل الأوّل فى رسالته صلّى الله عليه وسلّم على رأس الأربعين إلى كافة الناس بشيرا ونذيرا كان صلّى الله عليه وسلّم له الرياسة المؤثلة على قومه الذين أصابوا الملك وأطاعتهم العرب واجتمع لهم ما لم يجتمع لغيرهم من مناصب الشرف في ذلك الوقت، وهي: الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء، والقيادة. فالحجابة هي: سدانة البيت الشريف، أى تولية مفتاح بيت الله تعالى. والسقاية: إسقاء الحجيج كلهم الماء العذب، وكان نادرا بمكة يجلب إليها من الخارج ليسقى الحجّاج منه، بل وينتبذ لهم التمر والزبيب للشراب أيضا. والرفادة هي: إطعام الطعام لسائر الحجاج، فكانت تمدّ لهم الأسمطة في أيام الحج. والندوة هي: المشورة، وكان يجتمع فيها من قريش ومن غيرهم من سنّه أربعون سنة فلا يعقد عقد نكاح الرجل من قريش إلا فيها. وأما اللواء: فراية معقودة على رمح ينصبونه علامة لاجتماع الجيش لحرب الأعداء، فيجتمعون تحت هذه الراية ويقاتلون عندها. والقيادة. إمارة الجيش ورياسة الحرب. فكان صلّى الله عليه وسلّم شهير الاسم شريف النعت في مكة المشرّفة التى هى أم القري «1» ، وكان له صلّى الله عليه وسلّم محاسن سنية؛ كقضائه حين حكّموه في بناء الكعبة، وكإعانته صلّى الله عليه وسلّم على إبطال ما كان نواه عثمان بن حويرث لمّا تنصّر وأراد أن يجعل الكعبة تحت   * فى الأصل «وهجرته إلى الحبشة وإلى الطائف» وهذا خطأ مطبعى واضح لأنه عليه الصلاة والسلام لم يهاجر إلى الحبشة. (1) سماها القران: «أم القري» فقال: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام: 92] ، وأم الشيء: أصله ومادته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ولاء الروم؛ فببركته صلّى الله عليه وسلّم وبتوسطه في المنع خاب سعي الحويرث. ومن محاسنه أيضا ومكارم أخلاقه كفالته ابن عمه عليّ بن أبى طالب. ومنها فديته زيدا القضاعى بن حارثة بن شرحبيل الذى وقع أسيرا عند أعدائه، فاشتراه صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه، فظهر لقريش حكمه وكرمه، وأنه فاق في ذلك اباءه وأجداده. قريش خيار بني ادم ... وخير قريش بنو هاشم وخير بني هاشم كلهم ... نبيّ الإله أبو القاسم وكان صلّى الله عليه وسلّم أمّيا لا يكتب ولا يقرأ، وفي وجوده بهذه الصفة تنبيه على أنّ كمال علمه مع حالة الأمية من معجزاته، ونسبته إلى الأم كأنه على حاله التى ولد عليها، لا يعرف كتابة ولا قراءة، وفي الحديث: «إنّا أمّة أميّة لا نحسب ولا نكتب» «1» . وكانت الأمية في حقه صلّى الله عليه وسلّم معجزة، وإن كانت في حقّ غيره غير ممدوحة، قال القاضى عياض: «لأن معجزته العظمى القران العظيم، إنما هى متعلقة بطريقة المعارف والعلوم، مع ما منح صلّى الله عليه وسلّم وفضّل به من ذلك، ووجود مثل ذلك ممن لم يقرأ ولم يكتب ولم يدارس ولم يلقّن مقتضى العجب ومنتهى العبر ومعجز للبشر؛ فليس فيه إذ ذاك نقيصة؛ إذ المطلوب من القراءة والكتابة المعرفة، وإنما هى الة وواسطة موصّلة إليها، غير مرادة في نفسها، فإذا حصلت الثمرة والمطلوب استغنى عن الواسطة» . وقال أيضا: «إنّ من وصفه صلّى الله عليه وسلّم بالأمية أو نحوها من اليتم وما جرى عليه من الأذي؛ فإن قصد بذلك مقصده من التعظيم والدلالة على نبوته ونحو ذلك كان حسنا، ومن أراد ذلك على غير وجهه، وعلم منه سوء مقصده لحق بالسّابّ، فيقتل أو يؤدّب بحسب حاله» . انتهي.   (1) متفق عليه ورواه أبو داود والنسائى عن ابن عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وكان صلّى الله عليه وسلّم يختلى في كل سنة شهرا عن* أهل بيته في غار حراء «1» بقرب مكة، فيتعبد فيه الليالى ذوات العدد، غريقا في بحار الأفكار ملازما للصمت اناء الليل وأطراف النهار، حتى أتاه الوحى على رأس الأربعين سنة في محل العبادة بالنبوة، فأوّل ما بديء به من الوحى الرؤيا الصادقة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فكانت تلك المنامات الصادقة مقدّمات للوحي، قيل مدتها ستة أشهر، ابتداؤها شهر ربيع الأوّل، ثم فجأه جبريل وهو بالغار المذكور فى شهر رمضان، فقال له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فغطّه «2» حتى بلغ منه الجهد، ثم قال له: اقرأ «3» ، فقال: ما أنا بقاريء، فغطّه كذلك، ثم أعاد جبريل فقال له: اقرأ، وأعاد محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما أنا بقاريء، فقال له جبريل بعد المرة الثالثة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حتى بلغ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ فقرأها. و «ما» فى قوله «ما أنا بقاريء» نافية في الكل، أو الأولى للامتناع، والثانية للإخبار بالنفى المحض، والثالثة استفهامية، وكرر عليه الغطّ ليقبل بكلّيته ويتم توجهه لما سيلقى عليه. ولما عاد إلى خديجة وأخبرها الخبر «4» قالت: «والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرّحم وتقرى الضيف وتحمل الكلّ وتعين على نوائب الدهر» ثم انطلقت به حتّى أتت ابن عمها ورقة بن نوفل فأخبرته خبر ما رأي، فقال له ورقة: هذا الناموس الذى أنزله الله على موسي، يا ليتنى فيها جذعا، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أو مخرجيّ هم؟ قال:   * فى الأصل «مع أهل بيته» وهو خطأ ظاهر. (1) «حراء» المقيم فيه تجتمع له ثلاث عبادات: الخلوة، والتعبد، والنظر إلى البيت. وقيل كانت قريش تفعله. وأوّل من فعل ذلك من قريش: عبد المطلب، وتبعه على ذلك من كان يتأله (أى يعبد الله تعالى) وكان صلّى الله عليه وسلّم يخلو بمكان جده. (العمدة) ج 20 ص 5. (2) غطه: أي عصره عصرا شديدا (المعجم الوسيط: 680) . (3) وما الذى أراد بقوله «اقرأ» ؟ قلت: هو المكتوب الذى في النمط، (كذا في رواية ابن إسحاق) فلذلك قال: ما أنا بقاريء، يعنى أنا أمى لا أحسن قراءة الكتب انتهى. ما قاله العينى ج 20 ص 6 من العمدة طبع الحلبي. (4) وفي السيرة الحلبية ما نصه: « ... فما زلت واقفا، ما أتقدم أمامى وما أرجع ورائى حتّى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكانى، ثم انصرف عني، وانصرفت راجعا إلى أهلى، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها، مضيفا إليها ... » إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن توفي. وفتر الوحى نحو ثلاث سنين «1» . وإنما كان بدء الوحى بالرؤيا الصادقة لئلّا يفجأ الملك ويأتيه بصريح النبوّة بغتة فلا تقبلها القوى البشرية، فبديء بأول تباشير النبوة وخصال الكرامة تأنيسا وتمرينا له. فلما تمرن على ذلك في المنام جاءه الملك في اليقظة بصريح النبوة والكلام، ثم بعد ذلك فتر الوحي نحو ثلاث سنين فيما جزم به ابن إسحاق، وقيل سنتين ونصفا «2» ليذهب عنه ما وجده من الرّوع وليزيد تشوّقه إلى العود، ومن ثم حزن لذلك حزنا شديدا. * ثم نزل عليه جبريل بعد ذلك بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ.. وتتابع الوحي، فهى أوّل ما نزل عليه بعد فترة الوحي «3» ، ونزولها ابتداء رسالته صلّى الله عليه وسلّم، فهى متأخرة عن نبوته بثلاث سنين، وقيل مقارنة لنبوته، وأما اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فهى أوّل ما نزل مطلقا، والقول بأن أوّل ما نزل مطلقا يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ باطل كما قاله النووي. وظهر من نزول اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أولا ونزول يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ بعد فترة الوحى أن نبوته صلّى الله عليه وسلّم كانت متقدمة على رسالته، كما صرّح به أبو عمر وغيره «4» ، وعلى ذلك يحمل قول صاحب جامع الأصول:   (1) هذا هو الرأى السائد بين المؤرخين، وهو الأقرب إلى الصواب. (2) ذكره الحافظ أبو القاسم السهيلى، قال: وقد جاء في بعض الأحاديث المسندة أن مدة هذه الفترة كانت سنتين ونصفا، وجاء عن ابن عباس أنها كانت أياما. (3) قال صاحب السيرة الحلبية: « ... ثم رأيت في فتح البارى: ليس المراد بفترة الوحى المقدرة بثلاث سنين بين اقْرَأْ ويا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ عدم مجىء جبريل عليه الصلاة والسلام إليه، بل تأخر نزول القران عليه فقط ... » ثم قال صاحب السيرة: فكان جبريل يأتى إليه بغير قران بعد مجيئه إليه باقرأ، ولم يجىء إليه بالقران الذى هو يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ إلا بعد الثلاث سنين. (4) وفي الحديث المتفق عليه: لما علّمهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم الدعاء بقوله: «اللهم أسلمت نفسى إليك ووجّهت وجهى إليك وألجأت ظهرى إليك؛ رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، امنت بكتابك الذى أنزلت ونبيك الذى أرسلت» قال رجل من الحاضرين: «ورسولك الذى أرسلت» فضرب النبى صلّى الله عليه وسلّم على صدره وقال: «كنت نبيا قبل أن أكون رسولا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الصحيح عند أهل العلم بالأثر أنه بعث على رأس ثلاث وأربعين سنة، فكان فى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ نبوته، وفي يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ رسالته بالنذارة والبشارة والتشريع، والاقتصار على الإنذار في هذه السورة مع أنه صلّى الله عليه وسلّم بعث مبشّرا أيضا؛ لأن ذلك كان في أوّل الإسلام؛ فتعلّق الإنذار محقق، فلما أطاع من أطاع أنزل الله قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً فانقطعت الفترة بدعوته صلّى الله عليه وسلّم عموم الناس للإيمان «1» . * ثم أوّل شيء فرض الله عليه من شرائع الإسلام بعد الإنذار بالتوحيد والبراءة من الأوثان: الصلاة. أتاه جبريل فعلّمه الوضوء والصلاة ركعتين، ثم فارقه. وعاد النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى خديجة فأخبرها، فغشي عليها من الفرح، ثم أخذ بيدها وعلّمها الوضوء فتوضأت، ثم قام فصلّى ركعتين وصلّت معه، فكان ذلك أوّل فرضها ركعتين، ثم إن الله تعالى أقرّها في السفر وأتمّها في الحضر، قال النووي: أول ما وجب الإنذار والدعاء إلى التوحيد، ثم فرض الله من قيام الليل ما ذكر في أوّل سورة المّزمّل بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ثم نسخه بما في اخرها بقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ إذ المراد صلّوا ما تيسر لكم، وفرض عليه ركعتين بالغداة* وركعتين بالعشيّ، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء بمكة. انتهي. * وقد اختلف العلماء في أوّل من أسلم: والصحيح: خديجة، ثم أبو بكر، ثم على   (1) وأشهر ما قيل في يوم البعثثة حين فجأه جبريل صلّى الله عليه وسلّم بالوحى: كان يوم الاثنين نهار سبعة عشر من رمضان وهو الأشهر. كان يوم الاثنين نهار أربعة عشرة منه. كان يوم الاثنين نهار سبعة عشر من شهر رجب. كان يوم الاثنين نهار أوّل شهر ربيع الأوّل. كان يوم الاثنين نهار يوم الثامن من ربيع الأوّل. * الغداة: ما بين الفجر وطلوع الشمس. والعشى: الوقت من زوال الشمس إلى المغرب أو من صلاة المغرب إلى العتمة (المعجم الوسيط: 625) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وكان عمره إحدى عشرة سنة، ثم زيد بن حارثة. قال الثعلبي: إجماع العلماء أن أوّل من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالى زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان قد تبناه وصار يقال له: زيد بن محمد، ولم يذكر في القران أحد من الصحابة باسمه إلا هو، كما أنه لم يذكر امرأة باسمها في القران إلا مريم. وأوّل من أسلم من العبيد الباقين على الرق: بلال المؤذن، فأول فائز بالإسلام من الرجال الصدّيق على التحقيق، وإن قال شيخ الإسلام السراج عمر البلقينى وتبعه الحافظ العراقي: إن أول من امن به من الرجال ورقة بن نوفل؛ لنزول الوحى على النبي صلّى الله عليه وسلّم في حياته، وإيمانه بالنبى وتصديقه برسالته صريحا «1» أى بعدها بناء على أنهما متقارنان، أو قبلها لعلمه من الكتب القديمة كما جاء في أحاديث قصة بدء الوحى وغيرها في الصحيح وغيره، وإن مشى على ذلك أيضا جماعة من الأئمة، وعدّوه في الصحابة. واتسع الإسلام بعد أن أسلم أبو بكر: فأسلم عثمان بن عفان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، فهؤلاء الخمسة دعاهم أبو بكر فأجابوا، ثم أسلم أبو عبيدة (عامر بن الجراح) ، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزي، وهو ابن عم عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعمّار بن ياسر، فهؤلاء هم الذين سبقوا الناس إلى الإسلام. وأوّل ما وجب الإنذار والدعاء إلى الله بالتوحيد بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ، أقام صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك ثلاث سنين يدعو إلى الله سرّا- لعدم الأمر بالإعلان، وكان لا يظهر دعوته إلا لمن يثق به، وتبعه ناس عامّة ضعفاء من الرجال والنساء، كما يشير إلى ذلك حديث: «إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» «2» حتى أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه   (1) قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «رأيت القسّ في الجنة عليه ثياب حرير» يعنى ورقة. رواه الديلمى في مسند الفردوس. (2) رواه ابن عساكر بلفظ: «بدأ الإسلام غريبا ثم يعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء الذين يصلحون عند فساد الناس ... » إلخ الحديث، وهو حديث طويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 علي بن أبى طالب مستخفيا من عمه أبى طالب، ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصلّيان الصلوات، فإذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا ابن أخي ما هذا الدين الذى أراك تدين به؟ قال «أي عمّ هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم، بعثنى الله رسولا إلى العباد، وأنت أي عمّ أحقّ من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدي، وأحقّ من أجابنى إليه وأعاننى عليه» ، فقال أبو طالب: «أى ابن أخي، إنى لا أستطيع أن أفارق دين ابائى وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت» . كفالته عليّا: وكان مما أنعم الله به على عليّ بن أبى طالب رضى الله عنه وأراده من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للعباس، وكان من أيسر بنى هاشم: يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه فلنخفّف من عياله؛ اخذ من بنيه رجلا وتأخذ رجلا فنكفيهما عنه» ، قال العباس: نعم. فانطلقا حتّى أتيا أبا طالب فقالا له: إنّا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لى عقيلا فاصنعا ما شئتما، ويقال: «عقيلا وطالبا» ، وكان لأبى طالب: عليّ، وجعفر، وعقيل، وطالب، وكان عليّ أصغر من جعفر بعشر سنين، وجعفر أصغر من عقيل بعشر سنين، وعقيل أصغر من طالب بعشر سنين. أسلم منهم عليّ وجعفر وعقيل، ومات طالب على دين قومه. فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليّا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل عليّ مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى بعثه الله نبيا فاتّبعه وامن به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتّى أسلم واستغنى عنه. * واختلف العلماء في مقامه بمكة بعد أن أوحى إليه؛ فقيل عشر سنين، وقيل ثلاث عشرة سنة وهو الصحيح، ولعل الذى قال عشر سنين أراد بعد إظهار الدعوة؛ فإنه بقى ثلاث سنين يسرّها، ثم نزل عليه صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك الأمر بالإعلان، وذلك في قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فأعلن صلّى الله عليه وسلّم بالدعوة، وجاهره قومه بالعداوة واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين حتّى أذن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 لهم في الهجرة إلى الحبشة كما سيأتي. ولما نزل قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] دعا عليّا فقال: اصنع لنا صاعا من طعام، واجعل لنا عليه رجل شاة، واملأ لنا عسّا (أي قدحا عظيما) من لبن، واجمع لى بنى المطلب حتّى أكلّمهم وأبلغهم ما أمرت به» ففعل، ودعاهم، وهم أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس، وأحضر عليّ الطعام فأكلوا حتّى شبعوا، قال عليّ: لقد كان الرجل الواحد منهم ليأكل جميع ما شبعوا كلهم منه «1» ، فلما فرغوا من الأكل وأراد النبى صلّى الله عليه وسلّم أن يتكلم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: «سحركم محمد صاحبكم» ، فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ثم قال: يا عليّ قد رأيت كيف سبقنى هذا الرجل إلى الكلام فاصنع لنا في غد كما صنعت اليوم واجمعهم ثانيا. فصنع عليّ في الغد كذلك، فلما أكلوا وشربوا اللبن، قال لهم صلّى الله عليه وسلّم: «ما أعلم إنسانا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرنى الله أن أدعوكم عليه، فأيكم يؤازرنى على هذا الأمر ويكون أخى ووصيّى وخليفتى فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعا، قال علي: فقلت وإنى أحدثهم سنا، وأرمضهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم «2» ساقا: أنا يا نبى الله أكون وزيرك عليهم، قال: فأخذ برقبتى ثم قال: «إن هذا أخي ووصيّى وخليفتى فيكم فاسمعوا وأطيعوا» ، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبى طالب: قد أمرك أن تسمع لعلّى وتطيع. واستمرّ صلّى الله عليه وسلّم على ما أمره الله تعالى لم يبعد عنه قومه، ولم يردّوا عليه، حتى سبّ الهتهم وعابها، ونسب قومه واباءهم إلى الكفر والضلال، فأجمعوا على عداوته إلا من عصمه الله بالإسلام. وذبّ عنه عمّه أبو طالب، فجاء أبا طالب رجال من أشراف قريش فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد عاب ديننا وسفّه أحلامنا «3» وضلّل «4» اباءنا؛ فانهه عنا أو خلّ بيننا وبينه. فردّهم أبو طالب ردّا حثيثا. واستمر صلّى الله عليه وسلّم على ما هو عليه، فعظم عليهم، وأتوا أبا طالب ثانيا، وقالوا:   (1) هذا من بركته صلّى الله عليه وسلّم بكفاية الطعام القليل العدد الكسر. (2) أنحفهم وأدقهم. (3) عقولنا. (4) وصفهم بالضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 إن لم تنهه وإلا نازلناك وإياه حتّى يهلك أحد الفريقين. فعظم عليه، وقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا ابن أخي إن قومك قالوا لى كذا وكذا. فظنّ صلّى الله عليه وسلّم أنّ عمّه خاذله، فقال: «يا عمّ لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في شمالى ما تركت هذا الأمر» ، ثم استعبر «1» فبكي، وقام صلّى الله عليه وسلّم، فناداه أبو طالب: أقبل يا ابن أخي وقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء أبدا. فأخذت كل قبيلة تعذّب كلّ من أسلم منها؛ فمن لا عشيرة له تمنعه يعذبونه بأنواع التعذيب، ويقال له: «لا تزال هكذا حتّى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّي» ومن المسلمين من مات من تعذيب المشركين، وكان بعض المشركين يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقولهم: إنّ ما جاء به من الايات سحر يؤثر، ومن قول البشر، وأساطير الأولين. ومنع الله رسوله بعمّه أبى طالب، ومع ذلك فلا زال أذاهم شديدا عليه صلّى الله عليه وسلّم حتى أسلم عمّه حمزة، فقلّ أذاهم، وكان إسلامه سنة خمس من النبوة، قبل إسلام عمر بن الخطاب بثلاثة أيام. وفي «المواهب اللدنية» «2» قال حمزة حين أسلم: خمدت الله حين هدى فؤادي ... إلي الإسلام والدين الحنيف لدين جاء من ربّ عزيز ... خبير بالعباد بهم لطيف إذا تليت رسائله علينا ... تحدّر دمع ذى اللّب الحصيف رسائل جاء أحمد من هداها ... بايات مبيّنة الحروف وأحمد مصطفى فينا مطاع ... فلا تغشوه بالقول العنيف فلا والله نسلمه لقوم ... ولمّا نقض فيهم بالسيوف وفي هذه السنة أعز الله الإسلام أيضا بإسلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه كما سيأتى.   (1) هو استفعل من القبرة، وهى تحلّب الدمع. (2) للقسطلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وسبب إسلام حمزة أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان عند الصفا، فمرّ به أبو جهل بن هشام، فشتم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلم يكلمه، وكان حمزة في القنص*، وكان على دين قومه، فلما حضر أنبأته مولاة لعبد الله بن جدعان بشتم أبى جهل لابن أخيه صلّى الله عليه وسلّم، فغضب حمزة وقصد البيت ليطوف به وهو متوشح قوسه، فوجد أبا جهل بن هشام قاعدا مع جماعة، فضربه حمزة بالقوس فشجه، ثم قال: «أتشتم محمدا؟! أنا على دينه» . فكان إسلامه ببركته صلّى الله عليه وسلّم، فقامت رجال من بنى مخزوم لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوه فإني سببت ابن أخيه سبّا قبيحا. ودام حمزة على إسلامه، وعلمت قريش أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قد عزّ وامتنع بإسلام حمزة، فكفّوا عن بعض ما كانوا يتناولون منه، وبقيت عداوتهم له، وكانوا يسمونه صابئا؛ لكونه خرج عن دين قومه؛ لأن الصابيء عند العرب من مال عن دين قومه إلى غيره. حكى ابن الجوزى في بعض مجالس وعظه فقال: «ما خلق الله رئيسا في الخير إلا وله مقابل من أهل الشر: خلق الله ادم وإبليس، والخليل والنمروذ «1» ، وموسى وفرعون، ومحمدا صلّى الله عليه وسلّم وأبا جهل، وهكذا أبدا» . وكانت كنية أبى جهل أبا الحكم، فكناه النبى صلّى الله عليه وسلّم أبا جهل، وهو عمرو بن هشام، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكل أمة فرعونا، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل» «2» . ويحكى بمناسبة ذلك أن السلطان محمود الأوّل «3» الغازى ذهب إلى قطب الأقطاب أبى الحسن الخرقاني «4» ليزوره، فقال: حدّثنا حديثا عن أبى يزيد (5) لنسمعه منك، فقال الشيخ: كان أبو يزيد رجلا من أبصره نجا، ومن نظر إليه اهتدي، فقال السلطان محمود: أهو أعظم من حضرة محمد صلّى الله عليه وسلّم؟! فقد كان أبو   (1) الخليل: هو إبراهيم عليه السلام، والنمروذ: هو الفرعون الذى حاج إبراهيم في ربه. * رحلة صيد. (2) وعن قتادة قال: إن لكل أمة فرعونا، وفرعون هذه الأمة أبو جهل قتله الله شر قتله» . السيرة الحلبية ص 184 ج 2. (3) أحد سلاطين العثمانيين، ولد 1108 هـ، 1696 م وتوفى 1168 هـ، 1754 م حكم 25 سنة واتصف بالعدل وكثرة الفتوحات، وكان محبا للعلم. (4) كلاهما من أولياء الله الصالحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 جهل وغيره من الكفار يبصرونه وينظرون إليه، كمال النظر، ولم ينجوا، بل ماتوا على الكفر؟! فأجابه الشيخ- قدّس سرّه- بأنّ هؤلاء كانوا لا يبصرون تلك الحضرة، بل كانوا يبصرون محمد بن عبد الله، وينظرون إليه بالنظر إلى أنه رجل من بنى ادم، حتى لو كانوا أبصروه بوصف كونه محمدا رسول الله لفازوا بالسعادات ونجوا من الشبهات وتنحوا عن الضلالات، ومصداق ذلك قوله جل ذكره: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [الأعراف: 198] وتحقيق ذلك أن الجثة الإنسانية والصورة البشرية الجسمانية يشترك فيها الأنبياء والأولياء والعلماء، وتستوى فيها الخاصة والعامة، وإنما الذى يناط به مراتب الرجال، ويظهر تفاوت الأقدار هو المعانى والكمالات الحاصلة للإنسان، مع تفاوتها وتكثّرها المتعلقة بالقرب الإلهي، ولا يعرف صاحب هذه الأوصاف إلا الكاملون، فمن غرق في بحار الضلالات وانغمس في تيه الجهالات كيف يعرف كنه المتصف بصفات الكمالات؟! فكيف يدرك في الدنيا حقيقته ... قوم نيام تسلّوا عنه بالحلم! [اهـ.] * [اشتداد الأذى عليه صلّى الله عليه وسلّم] : فغير الاستمرار على الإيذاء لجسمه الشريف تعرضوا دائما لرميه بالسحر والكهانة والجنون، بعد ما سبق منهم قبل النبوة أنهم كانوا ينظرون إليه نظر كمال وإجلال، حتى سموه بالأمين قبل النبوة، واشتهر عندهم بهذا العنوان، ولم يجربوا عليه بعد إشهاره بذلك خللا ولا نقصا؛ فتناقض أمرهم فيه، واختل اعتقادهم بعد النبوة لعمى بصيرتهم، ورجعوا وصفوه بالجنون مثلا، ولم يكن لهم شبهة في ذلك إلا ما رأوه منه عند نزول الوحى من الاستغراق لتلقّيه، ومن خمرة الوجه وكثرة الغطيط، فعميت قلوبهم عن إدراك الفرق بين حالة نزول الملك وحالة الجنون، مما لا يخفى على أدنى عاقل، فكانوا ينظرونه كأنه رجل من بنى ادم، ولا يلتفتون إلى أمانته ولا إلى وصف النبوة. فالمبالغة في أذى قريش للمسلمين هى التى أوجبت الهجرة إلى الحبشة مرتين، كما أن المبالغة- خصوصا في إيذائه- صلّى الله عليه وسلّم- هى التى أوجبت الخروج إلى الطائف ثم الهجرة إلى المدينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الفصل الثانى فى الهجرتين إلى الحبشة * الهجرة الأولى إلى الحبشة: ولما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء والتعذيب في الإسلام، والفتنة، ورأى ما هو فيه من العافية من الله تعالى، ثمّ من عمه أبى طالب، وأنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، أذن صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة في رجب سنة خمس من النبوة، وقال لهم: «إن بها ملكا لا يظلم الناس ببلاده، فتحوّزوا «1» عنده حتّى يأتيكم الله بفرج منه» . وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش، فخرجوا متسللين سرا وعدّتهم اثنا عشر رجلا وأربع نسوة، وكان فيهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلوا بسفينتين للتجارة كانتا مسافرتين لذلك، حتى وصلوا للنجاشى ملك الحبشة، فكانت هذه هى أوّل هجرة في الإسلام. وكان قد خرج أثر المهاجرين جعفر بن أبى طالب مع أصحابه وزوجته أسماء بنت عميس، فتتابع المسلمون إلى الحبشة؛ فمنهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه، ولهذا صحّ للمسلمين قديما وحديثا الهجرة من ديار الكفر إلى ديار الإسلام، ومن ديار الفسق إلى ديار الطاعة «2» ؛ فعلى المسلم أن ينتقل إلى الأرض التى يخفّ فيها الفسق أو الكفر إذا لم يجد دارا محضة لأهل الإسلام والتقوي، ويشهد لذلك هجرة المسلمين من مكة، وهى إذ ذاك دار كفر وجاهلية إلى أرض الحبشة، وهى دار كفر وأهل كتاب.   (1) يقال: تحوّز الرجل: تمكّث وتلبّث. (2) قول غير صحيح على إطلاقه؛ لأن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» وذلك لأن المسلمين في وقت الدعوة في مكة لم يكن أمامهم إلا الهجرة، أما وقد فتحت مكة، فقد فتحت الأرض بعدها سهولها وجبالها وأوديتها للمسلمين ينشرون فيها الإسلام، وأصبحت بلاد المسلمين واسعة الأطراف، فإذا كان في بلد من بلاد المسلمين بدعة من البدع، فالثبات هو الفرض على كل مسلم لإزالة هذه البدعة، والخروج من هذه البلاد فرار يعاقب عليه. والهجرة نفسها لم تكن هروبا، وإنما كانت بحثا عن أرض تصلح للدعوة، فلما أمروا بالمدينة رجعوا إليها واستقرت بها الأمور، وكان الفتح المبين، ونصر الله دينه وأعزه، فلا هجرة بعد ذلك ولكن جهاد ونية. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وإنما تجب المهاجرة من أرض البدعة ما لم يتمكن المقيم بها من وظيفة حسنة كالإرشاد والهداية، فالمقام بهذا القصد أولي؛ لأن الخروج سلامة، والمقام كرامة، ولهذا لم يهاجر إلى الحبشة إلا البعض ممن حسنت هجرته، لا سيما المستضعفين «1» . * وفي أثناء مكث المهاجرين بالحبشة في الهجرة الأولى أسلم عمر بن الخطاب رضى الله عنه سنة خمس من النبوة بعد إسلام حمزة رضى الله عنه بثلاثة أيام. قال ابن عباس: لما أسلم عمر بن الخطاب قال جبريل للنبى صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر، فإن المشركين قالوا: قد انتصف القوم اليوم منا، وأنزل الله تعالى على المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] وكان أمر المسلمين قبله على غاية من الخفاء، وبعده على غاية من الظهور. وسبب إسلامه أنه وجد مع أخته بعض ايات من القران من سورة الأنبياء، وكانت خبّأتها عنه، فسلبها من يدها غصبا، فقرأها، فحلت في قلبه محل الإعجاب، وأفحمه لفظها ومعناها، فذهب إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم وأسلم على يديه، وكان ذلك إجابة لدعوة النبى صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: عمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام» (اسم أبى جهل) فكان أحبهما إليه عمر بن الخطاب، فكان عز الإسلام بعمر بن الخطاب. وذكر الدار قطنى أن عائشة قالت: إنما قال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أعزّ عمر بالإسلام» لأن الإسلام يعزّ ولا يعز، وكان دعاؤه صلّى الله عليه وسلّم بذلك يوم الأربعاء، فأسلم عمر يوم الخميس، وكان عمر لا يرام ما وراء ظهره، فامتنع به وبحمزة الصحابة. وفي البخاري: «لما أسلم عمر اجتمع الناس عند داره وقالوا: صبأ عمر، فبينما هو في داره خائفا إذ جاءه العاص بن وائل، وقال له: ما لك؟ قال: زعم قومى أنّهم يقتلوننى إن أسلمت، قال: أمنت؛ لا سبيل إليك. فخرج العاص فلقى الناس   (1) هم الذين كانوا يعذّبون في مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد عمر بن الخطاب الذى صبأ، فقال: لا سبيل إليه فأنا له جار» ، فكرّ الناس وتصدّعوا عنه» *. وكان ابن مسعود يقول: ما كنّا نقدر أن نصلّى عند الكعبة حتّى أسلم عمر رضى الله عنه. وقال أيضا: كان إسلامه فتحا، وهجرته نصرا، وإمامته رحمة. وروى ابن شريح بن عبيد عنه أنه قال: خرجت أتعرّض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجدته قد سبقنى إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح سورة «الحاقة» فجعلت أعجب من تأليف القران، قال: فقلت هذا والله شاعر كما قالت قريش. قال: فلما قرأ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ قال: قلت كاهن، كأنه علم ما فى نفسى فقرأ: وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) [الحاقة: 42، 43] إلى اخر السورة، فوقع الإسلام في قلبى كل موقع» . ولعل واقعة سماع القران تعددت قبل إسلامه. [مسألة الغرانيق وما سمّوه الايات الشيطانية] : ولما قرأ صلّى الله عليه وسلّم سورة «والنجم» (وكان يرتل قراءته) فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (30) [سورة النجم 19: 20] ارتصده الشيطان فى سكتة من سكتاته، فألقى عندها: [تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي] محاكيا نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنّها من قول النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأشاعها، فوقعت في قلب كل مشرك بمكة، وذلت منها ألسنتهم وتباشروا بها، وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى ديننا. فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اخر سورة النجم «1» سجد وسجد معه كل مشرك غير الوليد بن المغيرة، كان شيخا كبيرا لا يقدر على السجود، ملأ كفه ترابا سجد عليه، فعجب الفريقان كلاهما في السجود بسجود النبى صلّى الله عليه وسلّم، وعجب المسلمون بسجود المشركين معهم، ولم يكن المسلمون سمعوا ما ألقى الشيطان، كما قاله موسى بن عقبة، وأما المشركون فاطمأنوا إلى رسول الله   * انظر فتح البارى باب إسلام عمر: ح 3864 ص 224 ج 72. وفي سيرة ابن هشام خبر قريب مع اختلاف القصة وهو أن قتالا وقع بين عمر وقريش في الكعبة فتكاثروا عليه، فأجاره خاله العاص بن وائل (وانظرها في سيرة ابن هشام) (إسلام عمر بن الخطاب) . (1) الاية 62 قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وأصحابه، وفشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان حتّى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين، ثم بعد مكثهم هناك دون ثلاثة أشهر رجع كثير منهم عند ما بلغهم عن المشركين بسجودهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند قراءته سورة «والنجم» ، وظنوا إسلامهم. ولما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلك الكلمة التى فشت في الناس ساءه ذلك؛ فأنزل الله عز وجل: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أى قرأ أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] (أى قراءته) كما قال الفراء. ويؤيده ما رواه ابن جرير: «وإلقاء الشيطان فيها أن يتكلم بذلك رافعا صوته، بحيث يظن السامعون أنه من قراءة النبى صلّى الله عليه وسلّم» . وعلّقه البخارى في صحيحه عن ابن عباس رضى الله عنهما فى قوله تعالى: إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] قال: إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه «1» فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [الحج: 52] وَاللَّهُ عَلِيمٌ بإلقاء الشيطان ما ذكر، حَكِيمٌ فى تمكينه منه، يفعل ما يشاء» . ويؤيد ذلك ما سبق في الفصل الأوّل من هذا الباب من أن كفار قريش لما كانوا يطوفون بالكعبة كانوا يقولون: «واللات والعزّى ومناة الثالثة الاخري، فإنهن غرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي» ، فكانت هذه العبارة مركوزة في أذهانهم، هاجسة في خواطرهم، يخيّل لهم سماعها، وأن الشيطان نطق بها عند انقطاع نفس النبى صلّى الله عليه وسلّم في التلاوة، فحاكى بها صوته. واللّات والعزّى ومناة: أصنام من حجارة كانت في جوف الكعبة يعبدونها، وقيل غير ذلك. والغرانيق هى في الأصل: الذكور من طير الماء الأبيض الطويل العنق، وقيل أسود كالكركي، وقيل: إنه الكركي، ويتجوّز به عن الشاب الناعم، والمراد بها الأصنام، حيث كانوا يزعمون أن الأصنام تقرّبهم من الله وتشفع لم، فشبّهت بالطيور التى تعلو في السماء وترتفع. والفرق بين الصنم والوثن أن الصنم الصورة بلا جثة، والوثن كل ما له جثة   (1) نص ما قاله البخارى كاملا: «وقال ابن عباس: فِي أُمْنِيَّتِهِ إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقى الشيطان، ويحكم آياته» . اه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 معمولة من جواهر الأرض أو من الخشب والحجارة كصورة الادمي، تعمل وتنصب وتعبد، ومنهم من لم يفرّق بينهما وأطلقهما على المعنيين، وقد يطلق الوثن على غير الصورة. وقد اختلف المفسرون في المراد بالنجم على أقوال: أحدها: أنه الجملة من القران إذا نزلت، وكلما نزل منه شيء في وقت فهو نجم. ثانيها: أنه عنى بالنجم الثّريّا «1» ، والعرب تطلق اسم النجم على الثريا خاصة، فلا يذكرونه في الإطلاق إلا لها، قائلهم: طلع النّجم عشيا ... ابتغي الراعى كسيا وقال أيضا: طلع النجم غديّه ... ابتغي الراعى شكيّه يعنى الثريا، وهى تطلع العشا في الثلث الأخير من فصل الخريف، قبل الشتاء بشهر، وذلك مباديء قوة البرد، لأن اخر كلّ فصل شبيه بالذى بعده، فلهذا طلب الراعى الكساء، وتطلع بالغداة في الصيف وقت أوان اللبن، فلهذا طلب الشّكية: تصغير شكوة، وهى جلد الرضيع يتخذ للبن، أصغر من الوطب، الذى هو جلد الجذع. وفي الحديث: «ما طلع النجم قطّ وفي الأرض من العاهة شيء إلا ارتفع» رواه الإمام أحمد. قال ابن دريد: الثريّا سبعة أنجم؛ ستة أنجم منها ظاهرة، وواحد خفيّ، يمتحن الناس به أبصارهم. وعلى قول ابن دريد قول الشاعر: خليليّ إنّى للثريّا لحاسد ... وإنّي على ريب الزمان لواجد أيبقي جميعا شملها «2» وهى سبعة ... وأفقد من أحببته، وهو واحد وذكر القاضى عياض في «الشفاء» أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يرى في الثريا أحد عشر نجما.   (1) الثريا: مجموعة من النجوم في صورة الثور، وكلمة النجم علم عليها. (2) السمل: القذيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وذكر السهيلي: أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يرى فيها اثنى عشر نجما، والقول بأن المراد بالنجم الثريا قاله ابن عباس ومجاهد في رواية عنهما، واختاره ابن جرير والزمخشري، وقال السمين: إنه الصحيح. اهـ. وهى أشبه شيء بعنقود العنب. ومن شعر سيدى عبد العزيز الديرينى رحمه الله: وصغّرت ثرية لكثره ... والخصب في طلوعها واليسره وقال ابن قتيبه في كتاب «الأنواء» : جاءت، أى الثريا، مصغرة لاجتماعها ولم يتكلم بها إلا كذلك، وأصلها من الثروة، وهى كثرة العدد، وهى ستة أنجم ظاهرة، فى خلالها نجوم كثيرة خفية، ويسمونها نجما وأنواء. ومع ما قيل في هذه الاية وهى قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «1» [الحج: 52] وأنه حين قرأ سورة «النجم»   (1) كل الذى جرى في هذا الموضوع خبط وهوس من وضع الوضّاعين أصحاب المذاهب الهدّامة، وقع فيه كثير من الناس- رزقنا الله العافية من البلاء. وقد ذكر البغوى رحمه الله في تفسيره أجوبة منها: أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك، فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان، لا عن رسول الرحمن صلّى الله عليه وسلّم. وقال القاضى عياض رحمه الله: «اعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: فى توهين أصله. والثاني: على تسليمه. أما المأخذ الأوّل: فيكفيك أن هذا حديث لم يخرّجه أحد من الصحاح، ولا روى بسند سليم متصل ثقة، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. وقال أبو بكر البزار: «وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبى صلّى الله عليه وسلّم بإسناد متصل يجوز ذكره» . (انظر القرطبى ص 82 ج 12 طبع دار الكتب) . ثم قال القرطبى رحمه الله: الثالث: «الأحاديث المروية في نزول هذه الاية: ليس منها شيء يصح» .. إلى أن قال: قال النحاس: «وهذا الحديث منقطع، وفيه الأمر العظيم» . ا. هـ. -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وبلغ فيها وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ارتصده الشيطان في سكتة من سكتاته فألقى عندها [تلك الغرانيق العلي، وإن شفاعتهن لترتجي] محاكيا نغمته إلى اخره، فقد ردّ بعضهم هذا كله وقال: إنه موضوع وضعه الزنادقة، ولا أصل له؛ لأن الشيطان لا يلقى على الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام شيئا؛ حيث هم معصومون. وحلّ هذه المسألة يفهم مما كتبه البيضاوى والشهاب الخفاجى والشيخ زاده في هذا المحل، يعنى قوله تعالى: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ؛ فإنه يفهم من كلام البيضاوى أنه هيأ في نفسه ما يهواه أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أى في تشهّيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إنه ليغانّ على قلبى فأستغفر الله سبعين مرة» «1» قال الشهاب: حديث صحيح، والغين قريب من الغيم لفظا، والمعنى أنه يعرض لقلبى أن يغشاه بعض أمور من أمور الدنيا والخواطر البشرية مما يلزم للتبليغ، لكنها لإشغالها عن ذكر الله يعدّها كذنوب، فيفزع إلى الاستغفار منها، و (سبعين) للتكثير لا للتخصيص. (انتهى كلام الشهاب) .   - والذى يميل إليه القلب ويسكن من الفزع هو: أنّ أيّ نبيّ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما يتمنى أن يؤمن قومه جميعا، فيلقى الشيطان في هذه الأمنية ويدعثر قوما من قومه، ويلقى في أدمغتهم وقلوبهم الخبال، ويشنون على النبى الحرب حتّى لا يؤمن قومه. ولو أن الشيطان تمكن من أن يلقى على لسان نبى من الأنبياء لضاعت رسالته من أولها إلى اخرها، ويكفى شاهدا ودليلا وضاحا قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42] . والأنبياء أخص الخاصة من عباد الله تعالى. (1) أغان الغين السماء: ألبها. والحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائى وأحمد عن الأغرّ المزنى رضى الله عنه بلفظ: «إنه ليغان على قلبي، وإنى لأستغفر في اليوم مائة مرة» . ويروى أن الإمام أبا الحسن الشاذلى رضى الله عنه رأى حضرة النبى صلّى الله عليه وسلّم في المنام فسأله عن الحديث. فقال له: «غين أنوار لا غين أغيار يا مبارك» . وقال الإمام العينى رحمه الله: وإنما كان يستغفر هذا المقدار مع أنه معصوم ومغفور له لأن الاستغفار عبادة، أو هو تعليم لأمته، أو استغفار من ترك الأولى.. إلى أن قال: اشتغاله بالنظر فى مصالح الأمة ومحاربة الأعداء وتأليف المؤلفة قلوبهم ونحو ذلك شاغل عن عظيم مقامه، من حضوره مع الله عز وجل، وفراغه مما سواه، فيراه ذنبا بالنسبة إليه، وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات وأفضل الأعمال، فهو نزول عن عالى درجته، فيستغفر لذلك. وقيل: كان دائما في الترقى في الأحوال، فإذا رأى ما قبلها دونه استغفر منه، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 قال البيضاوى في قوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ: «فيبطله ويذهب به، بعصمته عن الركون إليه، والإرشاد إلى ما يريحه» . (انتهى كلام البيضاوي) . فقوله (بعصمته عن الركون إليه) إلى اخره هو محل الإشارة إلى الجواب كما يفهم بالتأمل ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ قال البيضاوي: ثم يثبّت آياته الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس حَكِيمٌ بما يفعله بهم، قال البيضاوي: «حدّث نفسه بزوال المسكنة فنزلت، وقيل تمنى لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقرّبهم إليه، واستمر به ذلك حتّى كان في ناديهم، ونزلت عليه سورة «والنجم» فأخذ يقرأها فلما بلغ وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 20] وسوس إليه الشيطان حتّى سبق لسانه سهوا إلى أن قال: «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي» ، ففرح به المشركون حتّى تابعوه بالسجود لمّا سجد في اخرها أى اخر سورة النجم، بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد، ثم نبّأه جبريل عليه السلام، فاغتمّ لذلك، فعزّاه أى سلاه الله بهذه الاية. وهو (أى ما ذكر من قوله سبق لسانه سهوا وقوله تلك الغرانيق.. إلخ) مردود عند سائر المحققين «1» . وإن صحّ فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه، وقيل: تَمَنَّى أى قرأ؛ كقول حسان رضى الله عنه: تمنّي كتاب الله أوّل ليلة ... تمنّي داود الزبور علي رسل [الرّسل: الترتيل في القراءة بتؤدة وسكينة من غير سرعة، وضمير «تمني» فى البيت لعثمان رضى الله عنه، وأمنيته: قراءته] . وإلقاء الشيطان فيها أن يتكلم بذلك رافعا صوته بحيث يظن السامعون أنه من قراءة النبى صلّى الله عليه وسلّم. وقد ردّ أيضا بأنه يخلّ بالوقوف على القران، ولا يندفع بقوله: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [الحج: 52] لأنه أيضا يحتمله، وبأن الاية على   (1) وهذا هو الصحيح، وما قيل فهو كذب وزور وبهتان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه مرسل لهدم هذه الغرانيق والأصنام، وهو من ضلال المضللين وافتراء الكذابين كما سبق أن قلنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 هذا التفسير تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرّق الوسوسة إليهم سيأتى ردّه فى عبارة الشهاب لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ [الحج: 53] علة لتمكين الشيطان منه، وذلك يدل على أن الملقى أمر ظاهر عرفه المحقّ والمبطل فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك ونفاق وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ المشركين وَإِنَّ الظَّالِمِينَ يعنى الفريقين، فوضع الظاهر موضع ضميرهم، قضاء عليهم بالظلم لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ عن الحق، أو عن الرسول والمؤمنين. (انتهى كلام البيضاوي) . قال الشهاب: قوله «سبق لسانه سهوا» هذا غير صحيح؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم محفوظ عن السهو بما يخالف الدين والشرع؛ لأن التكلم بما هو كفر سهوا أو نسيانا لا يجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ وإذا سها صلّى الله عليه وسلّم في صلاة ونحوها كان تشريعا، حتى قال بعض العلماء: إن سجدة السهو في حقه صلّى الله عليه وسلّم سجدة شكر، وقول البيضاوى في عبارته المتقدمة: «وهو مردود عند المحققين» ، قال الشيخ زادة: يعنى أن جماعة من المفسرين وإن قالوا إن هذه الايات نزلت تسلية له عليه الصلاة والسلام في اغتمامه بما سبق لسانه سهوا من حديث الغرانيق، إلا أنّ رؤساء أهل السنة والجماعة ردّوا هذا القول، وقالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة، واحتجوا عليه بالقران العظيم والسنة والمعقول: أما القران فمنه قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ [الحاقة: 44] أى النبى صلّى الله عليه وسلّم بأن كلّف نفسه أن يقول مرة في الدهر كذبا عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ أى التى لم نقلها، أو قلناها ولم نأذن له فيه، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي: بالقوة والقدرة، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ أى نياط القلب، وهو يتصل من الرأس، إذا انقطع مات صاحبه. ومنه أيضا قوله تعالى: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ. [يونس: 15] ومنه قوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) [النجم: 3، 4] . فلو أنه عليه الصلاة والسلام قرأ عقيب هذه الاية قوله: [تلك الغرانيق العلي] لما ظهر صدق الله تعالى في جميع ذلك، وذلك لا يقول به مسلم. وأما السنة: فهو أنه روى عن محمد بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا من وضع الزنادقة، وصنّف فيه كتابا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: «هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، وإن رواة هذه القصة مطعونون، وأيضا فقد روى البخارى في صحيحه «أنه صلّى الله عليه وسلّم قرأ سورة النجم وسجد المسلمون والمشركون والإنس والجن» وليس فيه حديث الغرانيق. وأما المعقول: فما ذكره الإمام النسفى في تفسيره بقوله: «والصحيح المعتمد عليه أن النبى صلّى الله عليه وسلّم لم يتكلم بها، فلا يخلو الأمر من أحد ثلاثة أوجه: إما أن يجرى ذلك على لسانه عمدا باختياره، وهذا لا يجوز؛ لأنه كفر، وهو صلّى الله عليه وسلّم جاء داعيا إلى الإيمان ناهيا عن الكفر طاعنا في الأصنام، فكيف يمدحها ويعظّمها باختياره؟!. وإما أن يجرى الشيطان ذلك على لسانه صلّى الله عليه وسلّم جبرا بحيث لم يقدر على الامتناع عنه، وهذا أيضا لا يجوز؛ لأن الشيطان لا يقدر على ذلك في حق غيره صلّى الله عليه وسلّم لقوله تبارك وتعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42] وقوله تعالى حكاية عن الشيطان وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] فكيف يقدر على ذلك في حقه صلّى الله عليه وسلّم؟!. وإما أن يقع ذلك على لسانه صلّى الله عليه وسلّم سهوا وغفلة من غير قصد، وهو أيضا مردود؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان أعقل الخلق وأعلمهم، فكيف تجوز عليه هذه الغافلة؟! خصوصا في حالة تبليغ الوحي، ولو جاز ذلك لبطل الاعتماد على قوله والثقة به، لقيام احتمال الغلط والخطأ في كل واحد من الأحكام والشرائع، فلما بطلت هذه الوجوه كلها لم يبق إلا احتمال واحد، وهو أنه عليه الصلاة والسلام وقف وسكت عند قوله: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) [النجم: 20] والشيطان حاضر عنده، فتكلّم الشيطان بهذه الكلمات متصلا بقراءته صلّى الله عليه وسلّم، ووقع عند بعضهم أنه صلّى الله عليه وسلّم هو الذى تكلم بهذا، وتكون هذه إلقاء في قراءة النبى صلّى الله عليه وسلّم، وكان الشيطان يتكلم في زمن الوحي، كما ذكر أنه ظهر في صورة شيخ نجدى على المشركين الذين اجتمعوا في دار الندوة على قضية المكر بالنبى صلّى الله عليه وسلّم، وتكلم في شوّارهم «1» ، واستصوب رأى بعضهم وخطّأ اخرين، وذكر أيضا أنه نادى يوم أحد أن محمدا   (1) مشيروهم بالرأي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 قد قتل، وقال يوم بدر لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ [الأنفال: 48] . وهذا الاحتمال غير مستحيل عقلا وشرعا، فتنة من الله وابتلاء لعباده، لكنه إنما يجوز في غير مقام تبليغ الوحى وأداء الرسالة له، لأننا لو جوّزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه، ولجوّزنا في كل ما بلّغه إلينا عن الله تعالى أن ينضم إليه غيره بخلط الشيطان، فظهر مما ذكرنا أن هذه القصة موضوعة، غاية ما في الباب أن جمعا من المفسرين رحمهم الله ذكروها، لكنهم ما بلغوا في الكثرة حدّ التواتر، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية والمتواترة، فلذلك قال البيضاوى في تفسير الاية: «ألقى الشيطان في تشهّيه ما يوجب اشتغاله في الدنيا، ولم يقل ما يوافق تشهيه من الكلام» . ثم قال البيضاوي: «وإن صحّ فالظاهر أن مبنى الصحة أن يتكلم به الشيطان عند سكوته عليه الصلاة والسلام عند قوله تعالى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى. فإنه أقرب الاحتمالات المذكورة إلى الصحة؛ فيكون المعنى: ما من رسول ولا نبى قبلك إلا مكّنا الشيطان أن يلقى في قراءتهم مثل ما ألقى في قراءتك عند ما تمنيت، فلا تهتم بذلك؛ فإنا نجعل ذلك لإضلال قوم وهداية اخرين، والتمييز بين الثابت على الإيمان والمتزلزل عنه» انتهى كلام البيضاوي. وعبارة العلّامة الشهاب الخفاجى في قوله «وهو مردود عند المحققين وإن صحّ ... » قد ذكرنا فيها ما قاله الشيخ زادة، وقال الشهاب الخفاجى فيها قوله: «وهو مردود عند المحققين، وإن صح ... » إشارة إلى عدم صحته: رواية ودارية: أما الأوّل (عدم صحته دارية) ؛ فلما قاله القاضى عياض: إنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة بسند صحيح معتمد عليه. وبالغ بعضهم فقال: إنه من وضع الزنادقة، وأكثر المحدّثين على عدم صحّته. وأما الثانى (عدم صحته رواية) فلما مرّ، فعلى تقدير صحته يكون خرج مخرج الكلام الوارد على زعمهم أو على الإنكار لا غير، أو المراد بالغرانيق: الملائكة، وإجماله للابتلاء به. وأما كونه ابتلاء من الله ليختبر به الناس، كما ذكره البيضاوى رحمه الله تعالى، فلا يليق به؛ لأنه إن كان بسهو منه فقد علمت أنه محفوظ عن مثله، وإن كان بتكلم الشيطان وإسماعه لهم، فكذلك لما يلزمه من عدم الوثوق بالوحي» انتهى كلام الشهاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 قال الشيخ زاده عند قوله فيما تقدم «وقيل تَمَنَّى قرأ، كقول حسان ... » إلخ. «إن التمنّى في اللغة بمعنيين: تمنّى القلب، والقراءة، قال الله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [البقرة: 78] ، أى إلا قراءة، لأن الأمى لا يعلم القران من المصحف، وإنما يعلمه قراءة، وقال رواة اللغة: الأمنية القراءة، واحتجوا عليه ببيت حسان رضى الله عنه: * تمنّى كتاب الله أوّل ليلة* وقيل: الأولى في تأويل الاية أن يقال: التمنى بمعنى القراءة، فقوله تعالى: أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] أى عند تلاوته القران في قلوب المشركين ما يجادلون به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويحاجّون به ويوقعون به شبهة في قلوب أتباعه ليمنعوهم عن اتّباعه كقولهم عند سماع قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «حرّم عليكم الميتة» إنه يحل ذبيحة نفسه ويحرّم ذبيحة الله تعالى. فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فى قلوب المشركين بإنزال قوله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام: 121] وقوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 118] فبيّن به أنّ ما أحلّ هذا بذكر اسم الله عليه، وحرّم الاخر بعدم ذكر اسم الله عليه، وكقولهم عند سماع إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] : إنّ عيسى عليه الصلاة والسلام والملائكة عبدوا من دون الله تعالى مع أنه تعالى لا يخزيهم يوم القيامة، فنسخ قولهم هذا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] فبين الله تعالى استثناء عيسى والملائكة من قوله: وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وذلك لأن «ما» لغير العاقل، وأن المراد الأصنام فقط، انتهى (عبارة الشيخ زاده) . وهذا زبدة ما قيل في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ.. إلى اخره. وقد سبق أنّ من جملة المنكرين قصة ما في «النجم» القاضى عياض، فإنه قال: [هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به المفسرون والمؤرخون] «1» . انتهى. ولا ينظر لردّ ابن حجر على القاضى عياض بأنه لا فائدة فيما قاله، ولا   (1) انظر هامش 2 ص 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 يعوّل على كلامه، لا سيما مع قول البيهقي: «إن رواة هذه القصة كلهم مطعون فيهم» ، ومع قول النووى نقلا عن البيهقى ونصه: «وأما ما يرويه الأخباريون والمفسرون أن سبب سجود المشركين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما جرى على لسانه من الثناء على الهتهم فباطل لا يصح منه شيء، لا من جهة النقل ولا من جهة العقل؛ لأن مدح إله غير الله كفر، ولا يصح نسبة ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا أن يقوله الشيطان على لسانه صلّى الله عليه وسلّم، ولا يصح تسليط الشيطان على ذلك، ولا يلزم عدم الوثوق بالوحي. * وقال الفخر الرازي: «هذه القصة باطلة موضوعة لا يجوز القول بها، قال الله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى (4) [النجم: 3، 4] والشيطان لا يجتريء أن ينطق بشيء من الوحي. * وفي كتاب «الإبريز» للعارف بالله تعالى سيدى عبد العزيز الدباغ ما يفيد تصحيح «1» قول القاضى عياض من أن حديث الغرانيق لا أصل له، ورد قول ابن حجر المحتاج للتأويلات في تفسيره الاية، ثم فسّرها صاحب الإبريز بتفسير بديع وأقرب للعقول، وعبارته: «إن الله تعالى ما أرسل من رسول ولا بعث نبيّا من الأنبياء إلى أمة من الأمم إلا وذلك الرسول يتمنى الإيمان لأمته، ويحبه لهم ويرغّب فيه، ويحرص عليه غاية الحرص، ويعالجهم عليه أشد المعالجة، ومن جملتهم في ذلك نبينا صلّى الله عليه وسلّم الذى قال له الرب سبحانه فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف: 6] ، وقال تعالى وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] . إلى غير ذلك من الايات المتضمّنة لهذا المعنى، ثم الأمة تختلف كما قال تعالى: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [البقرة: 253] ، فأما من كفر فألقى إليه الشيطان الوساوس القادحة له في الرسالة الموجبة لكفره، وكذا المؤمن أيضا لا يخلو من وساوس القادحة؛ لأنها لازمة للإيمان بالغيب في الغالب، وإن كانت تختلف في الناس بالقلة والكثرة، وبحسب المتعلقات، إذا تقرر هذا فمعنى تمنّي: أنه يتمنى الإيمان لأمته، ويحب لهم الخير والرشد والصلاح والنجاح، فهذه أمنية كل رسول ونبي، وإلقاء الشيطان فيها يكون بما يلقيه في   (1) أى اعتباره هو الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 قلوب أمة الدعوة من الوساوس لكفر بعضهم، ويرحم الله المؤمنين فينسخ ذلك من قلوبهم، ويحكم الايات الدالة على الواحدانية والرسالة، ويبقى ذلك عز وجل في قلوب المنافقين والكافرين، ليفتتنوا به. فخرج من هذا أن الوساوس تلقى أوّلا في قلوب الفريقين معا، غير أنها لا تدوم على المؤمنين وتدوم على الكافرين. وهذا التفسير من أبدع ما يسمع؛ لأنه يوفى بثلاثة أمور: العموم الذى في أولها، والتعليل الذى في اخرها، ويعطى الرسالة حقها» . انتهى كلام صاحب الإبريز «1» . ومنه يفهم أن إلقاء الوسوسة إنما هو في المتمنّى للأمة من أنبيائهم لهم، وهو إيمانهم وطاعتهم وتوفيقهم مما هو وصفهم، وليست الوسوسة متوجهة على الأنبياء المعصومين، الذين خاتمهم وأكملهم صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنّ من عرف ما يجب للرسل وما يستحيل عليهم وما يجوز لهم علم وجوب العصمة واستحالة ضدها. * وبيان ذلك: أنه يجب في حقّهم الأمانة، والصدق، والتبليغ، والفطانة: فأما الأمانة: فهى عصمة ظواهرهم وبواطنهم من التلبّس بمنهيّ عنه، ولو نهي كراهة أو خلاف الأولي؛ فهم محفوظون من منهيات الظاهر ومن منهيات الباطن، كالحسد والكبر والرياء وغير ذلك، والمراد المنهيّ عنه ولو صورة، فيشمل ما قبل النبوة، ولو في حال الصغر حتّى أن المباح أو المكروه إذا وقع منهم كان صورة للتشريع، فيصير واجبا أو مندوبا في حقهم؛ فأفعالهم دائرة بين الواجب والمندوب، بل ومن الأولياء الذين هم أتباعهم من يصل منهم لمقام تصير حركاته وسكناته طاعات بالنيات، فقد ثبت أنّه صلّى الله عليه وسلّم توضأ مرة أو مرتين وشرب قائما. وأما المحرّم: فلم يقع منهم إجماعا، وما أوهم المعصية فمؤوّل من باب (حسنات الأبرار سيئات المقربين «2» ولا يجوز النطق به في غير مورده إلا في مقام البيان. ودليل وجوب الأمانة لهم أنهم لو خانوا بفعل محرم أو مكروه أو   (1) وهذا هو الذى ترتاح إليه قلوب المؤمنين. (2) لأن مقام المقرّب أعلى من مقام البار، فلا يقبل منه ما يقبل من البار. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 خلاف الأولى لكنّا مأمورين به؛ لأن الله تعالى أمرنا باتباعهم في أقوالهم وأفعالهم، وهو تعالى لا يأمر بمحرم ولا مكروه إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الأعراف: 28] . وأما الصدق: فهو مطابقة خبرهم للواقع في دعوى الرسالة والأحكام الشرعية والأخبار العادية؛ لأنهم لو لم يصدقوا لما كان معنى لتصديقه تعالى لهم بالمعجزة النازلة منزلة قوله تعالى: «صدق عبدى في كل ما يبلغ عني» ، وأيضا صدقهم في الأخبار العادية دليله داخل في دليل الأمانة. وأما التبليغ فهو: تأدية ما أتوا به مما أمروا بتبليغه للخلق بخلاف ما أمروا بكتمانه، وما خيّروا فيه. ودليله: أنهم لو كتموا شيئا مما أمروا بتبليغه للخلق لكنا مأمورين بكتمان العلم؛ لأن الله تعالى أمرنا بالاقتداء بهم، وكاتم العلم ملعون «1» . ولو جاز عليهم الكتمان لكتم رئيسهم الأعظم صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: 37] . وأصحّ محامله ما نقله من يعوّل عليه في التفسير عن علي بن الحسين من أن الله تعالى كان أعلم نبيّه أن زينب ستكون من أزواجه، فلما شكاها إليه زيد قال صلّى الله عليه وسلّم: «أمسك عليك زوجك واتق الله» ، وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به من أنّه سيتزوجها، والله مبد ذلك بطلاق زيد لها وتزويجها صلّى الله عليه وسلّم، ومعنى الخشية: استحياؤه صلّى الله عليه وسلّم من النّاس أن يقولوا: تزوّج زوجة ابنه، أى من تبناه، فعاتبه الله تعالى على هذا الاستحياء، لعلوّ مقامه. وما قيل من أنه صلّى الله عليه وسلّم تعلّق قلبه بها وأخفاه، فلا يلتفت إليه، وإن جلّ ناقلوه؛ فإنّ أدنى الأولياء لا يصدر عنه مثل هذا الأمر، فما بالك به صلّى الله عليه وسلّم «2» ؟!.   (1) لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كاتم العلم يلعنه كل شيء، حتى الحوت في البحر، والطير في السماء» رواه ابن الجوزى في العلل عن أبى سعيد. (2) ومما قيل أيضا، وهو مرضيّ: إنه كان يخفى في نفسه إبطال عادة التبنّى هذه، فكيف يبطلها؟ وكيف يواجه الناس بإبطال هذه العادة الفاسدة؟ أما ما قيل من غير هذه الأشياء، وما يدور في فلكها من عدم مراعاة مقام النبوة ومكان الرسالة، فهو من قول المستشرقين ومن حذا حذوهم قديما وحديثا، وهو باطل ومردود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وأما الفطانة فهي: التيقظ لإلزام الخصوم وإبطال دعاواهم الباطلة، ودليلها الايات كقوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ [الأنعام: 83] ، والإشارة ب «تلك» عائدة على ما احتج به على قومه من قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام: 76] إلى قوله وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82] . وكاية قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هود: 32] . وكاية وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] أى بطريق تشتمل على نوع من الإرفاق بهم، ومن لم يكن فطنا لا تمكنه الحجة ولا المجادلة، وما ثبت لبعضهم من الكمال ثبت لغيره؛ فتثبت الفطانة لجميعهم. ويستحيل في حقهم ضدّ هذه الصفات الأربعة؛ فضدّ الأمانة الخيانة، وضد الصدق الكذب، وضد التبليغ كتمان شيء مما أمروا به، وضد الفطانة الغافلة. * وأما الجائز في حقهم فهو سائر الأعراض البشرية التى لا تؤدى إلى نقص في مراتبهم العلية؛ كالأكل والشرب والنوم، وما يكون من توابع الصحة أو مما لا يستغنى عنه كالجماع للنساء حلالا، سواء كان بالنكاح أو بالملك، فيجوز لهم الوطء بالنكاح لما عدا الكتابية والمجوسية، ونحوهما، وما عدا نكاح الأمة ولو مسلمة؛ لأنها إنما تنكح لخوف العنت، ولعدم المهر، وكلّ منهما منتف؛ أما الأوّل فللعصمة، وأما الثانى فلأنه يجوز للنبى أن يتزوج بدون مهر. ويعلم من تقييد النكاح بالحلال أنهم لا يطأون صائمات صوما مشروعا، ولا معتكفات كذلك، ولا حائضات ولا نفساء ولا محرمات بحج ولا عمرة. ولا يجوز الاحتلام كما صححه النووي؛ لأنه من الشيطان، وقد ورد: «ما احتلم قط» . وأما جواز وطئهم لملك، فيكون للأمة الكتابية معلّلا بأنه صلّى الله عليه وسلّم شريف عن أن يضع نطفته في رحم غير مسلمة، وبأنها تكره صحبته، وأما الأمة المسلمة بالملك فجائز باتفاق. ويجوز عليهم المرض غير المنفّر، والإغماء غير الطويل، بخلاف الجنون قليله وكثيره، وأما سحر لبيد ابن الأعصم له صلّى الله عليه وسلّم في مشط سنة سبع من الهجرة بإغراء اليهود لبيد على ذلك بإعطائهم دنانير جعلتها له في مقابلة ذلك، فلم يؤثّر هذا السحر إلا في بعض جوارحه صلّى الله عليه وسلّم لا في عقله، فلم يكن قادحا في منصبه النبوي، وأما ما في بعض الروايات من أنه صلّى الله عليه وسلّم صار يخيل إليه أن يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الشيء ولا يفعله، فقال أبو بكر بن العربي: «لا أصل له» «1» . وأما السهو فممتنع عليهم في الأخبار البلاغية، كقولهم: الجنة أعدّت للمتقين، وعذاب القبر حق، وغير البلاغية: كقام زيد وقعد عمرو، وهكذا، وجائز عليهم السهو في الأفعال البلاغية وغيرها كالسهو في الصلاة للتشريع، لكن لم يكن سهوهم ناشئا عن اشتغالهم بغير ربهم، ولذلك قال بعض الشعراء: يا سائلي عن رسول الله كيف سها ... والسهو عن كل قلب غافل لا هى قد غاب عن كل شيء سرّه فسها ... عمّا سوى الله، فالتعظيم لله ومن السهو الفعلى حديث ذى اليدين لمّا قال له: «أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟» حين سلّم من ركعتين، فقال: «كلّ ذلك لم يكن» . فقال ذو اليدين: بل بعض ذلك كان» فقوله صلّى الله عليه وسلّم «كل ذلك لم يكن» لم يخل عن مطابقة الخبر للواقع بحسب اعتقاده صلّى الله عليه وسلّم، وقول ذى اليدين: «بل بعض ذلك كان» فيه مطابقة الخبر للواقع بحسب ما راه، وكل ذلك للتشريع وتعريف سجود السهو. وأما النسيان فهو ممتنع في البلاغيات قبل تبليغها قولية كانت أو فعلية؛ فالقولية كالجنة أعدت للمتقين، والفعلية كصلاة الضحي، إذ أمر بها ليقتدى به فيها، فلا يجوز نسيان كل منهما قبل تبليغ الأولى بالقول، والثانية بالفعل، وأما بعد التبليغ فيجوز نسيان ما ذكر من الله «2» . وأما نسيان الشيطان فيستحيل عليهم؛ إذ ليس للشيطان عليهم سبيل، وقول يوشع: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ [الكهف: 63] فكان قبل نبوته وعلمه بحال نفسه، وإلا فهو رحماني. وبالجملة فيجوز على ظواهر الأنبياء ما يجوز على البشر، مما لا يؤدى إلى نقص، وأما بواطنهم فمنزهة عن ذلك، متعلقة بربهم؛ هذا تحقيق المقام، فالتأويل   (1) الواقع أن هذا الحديث صحيح: رواه أئمة الحديث، وعلى رأسهم الإمام البخارى رضى الله عنه وعنهم، وليس في هذا مطعن فيه صلّى الله عليه وسلّم؛ فإن الذى حدث خيال وليس بحقيقة، وللحديث شاهد من قصة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، في قوله تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: 66] وشتان بين الخيال والواقع، والله تعالى أعلم. (2) يحكم كل ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «إنى لا أنسي، ولكنى أنسّى لأسنّ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 اللائق بمقامهم هو الجدير بالقبول والمطابق للحق عند المحققين في فن الكلام من المتكلمين، كالإمام شرف الدين التلمساني، وكالإمام السنوسى المغترف من بحر الله. وقد سبق الكلام على أنّ مدح أصنام المشركين لا ذكر له في سورة «والنجم» ، وأن هذا إلقاء من الشيطان في قلوبهم ليجادلوا به. * وأما الهجرة الثانية: فإنه لما تبيّن للمشركين عدم ذكر الهتهم، غضبوا ورجعوا إلى العداوة أشد من الأوّل، فلما بلغ ذلك القادمين حين دنوهم من مكة، وكانوا قد خرجوا في رجب إلى الحبشة، وأقاموا بها شعبان ورمضان، وقدموا في شوّال كما سبق، لم يدخل أحد منهم إلا بجوار مجير أو مستخفيا، إلا عبد الله بن مسعود، فإنه دخل بدون جوار أحد، ثم خرج وهاجر. وممن دخل في الجوار عثمان بن مظعون؛ فإنه دخل بجوار الوليد بن المغيرة، وكان قد اشتد الحال على من قدم مكة ولم يدخل في الجوار، حتى أن عشائره تفعل به الأذى الشديد، فلما وجد عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من البلاء، وهو يغدو ويروح في أمان الوليد بن المغيرة، قال: والله إنّ غدوّى ورواحى امنا بجوار رجل من أهل الشرك، وأصحابى وأهل دينى يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيا بني، لنقص كبير في نفسي» . فمشى إلى الوليد فقال: يا أبا عبد شمس، وفت ذمّتك، وقد رددت إليك جوارك، قال: لم يا ابن أخي، لعله اذاك أحد من قومى وأنت في ذمتى فأكفيك ذلك؟ قال: لا والله ما اعترض لى أحد، ولا اذاني، ولكنى أرضى بجوار الله عز وجل، ولا أريد أن أستجير بغيره. قال: انطلق إلى المسجد فاردد لى جوارى علانية كما أجرتك علانية. فانطلقا حتّى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يرد عليّ جواري، فقال عثمان: صدق، قد وجدته وفيّا كريم الجوار، ولكنى لا أستجير بغير الله عز وجل، قد رددت عليه جواره. فقال الوليد: أشهدكم أنّى بريء من جواره إلا أن يشاء. ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة بن مالك في مجلس من قريش ينشدهم قبل إسلامه، فجلس عثمان معهم، فقال لبيد: * ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل* فقال عثمان: صدقت، فقال لبيد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 * وكلّ نعيم لا محالة زائل* فقال عثمان: كذبت؛ نعيم الجنة لا يزول. فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذيكم جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟! فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه، فمن سفاهته فارق ديننا، فلا تجدنّ في نفسك من قوله. فردّ عليه عثمان، فقام ذلك الرجل فلطم عينه، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا ابن أخي إن كانت عينك عمّا أصابها لغنية؛ ولقد كنت في ذمّة منيعة فخرجت منها، وكنت عن الذى لقيت غنيّا. فقال عثمان رضى الله عنه: بل كنت إلى الذى لقيت فقيرا، والله إن عينى الصحيحة التى لم تلطم لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله عز وجل، ولى فيمن هو أحب إليّ منكم أسوة، وإنى لفى جوار من هو أعزّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس. فقال له الوليد: هلم يا ابن أخي إن شئت إلى جوارك فعده. فقال: لا. وصار الأمر يشتد على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القادمين لقصد مكة من الهجرة الأولى وغيرهم، وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدا، فأذن لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الهجرة إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فخرج ابن مسعود ومعه عدد كثير من الناس، فكانت خرجتهم الثانية أعظم مشقة، ولقوا من قريش تعنيفا شديدا، ونالوهم بالأذي، واشتدّ على قريش ما بلغهم عن النجاشى من حسن جواره للمهاجرين، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة، ولست معنا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: أنتم مهاجرون إلى الله وإليّ، لكم هاتان الهجرتان جميعا، قال عثمان: فحسبنا يا رسول الله. وبهذه الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة، كانت عدة من بأرض الحبشة من المهاجرين مائة نفس وواحدا، إن حسب عمار بن ياسر فيهم؛ الذكور منهم ثلاثة وثمانون، والإناث ثمان عشرة. وخرج أبو بكر رضى الله عنه مهاجرا إلى الحبشة حتّى بلغ موضعا يقال له: «برك الغماد» (بفتح الباء وكسرها، والغماد بكسر الغين المعجمة وضمها: محل فى أقاصى هجر أو باليمن، ويقال: هو مدينة الحبشة) . ثم رجع أبو بكر في جوار سيد القارة (اسم قبيلة، ومنهم مسعود بن ربيعة القاري) مالك بن الدغنة. فلما رأت قريش استقرار المهاجرين في الحبشة وأمنهم أرسلوا فيهم إلى النجاشى عمرو بن العاص وعبد الله بن أبى ربيعة بهدايا وتحف من بلادهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 والتمسوا منه ردّ من هاجر إلى بلاده من المسلمين، فأبى ذلك وردّهما خائبين. ثم بعد ذلك وقع من الحبشة تعصّب على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا له: إنّ هؤلاء لهم دين غير ديننا. فأرسل وراءهم وقال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟ فقالوا: نؤمن به ونصدّقه فيما جاء به، فقال للحبشة: ما تقولون في نبيهم؟ فلم يؤمنوا به، فقال النجاشى لهم: هؤلاء يؤمنون بنبيكم وأنتم لا تؤمنون بنبيهم! فأنتم الان ظلمة، فكلّ منكم على دينه، ولا أحد منكم يعارض هؤلاء» . فاستمروا في بلاده مدة، وعادوا إلى أوطانهم. وكان إسلامه في سنة سبع من الهجرة، ويدلّ على صحة إسلامه أنه لما توفى في رجب سنة تسع من الهجرة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم «مات اليوم رجل صالح، فصلّوا على أخيكم أصحمة» «1» فصلّى عليه النبى صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه صلاة الغائب، ولما صلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طعن المنافقون في ذلك، فنزلت هذه الاية وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ (199) [ال عمران: 199] إلى اخرها، قال ابن جريج: وقال اخرون: نزلت في عبد الله بن سلام. وسيأتى بيان ما صنعه النجاشى من كلام المهاجرين وغير ذلك مما يتعلق به في الفصل السابع في ظواهر السنة السابعة من الهجرة، عند ذكر قدوم جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه من الحبشة، وذلك الفصل المذكور من الباب الثالث. ولما رأت قريش عزة النبى صلّى الله عليه وسلّم بمن معه، وعزة أصحابه بالحبشة، وإسلام عمر بن الخطاب، وإسلام عمه حمزة رضى الله عنهم، اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على معاداة بنى هاشم وبنى المطلب: ألاينا كحوهم ولا يبايعوهم، ويقطعوا عنهم الأسواق، ولا يقبلوا منهم صلحا ولا تأخذهم بهم رأفة حتّى يسلموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للقتل. وكان اجتماعهم وتحالفهم في خيف بنى كنانة (بالأبطح) ويسمّى محسبا، بأعلى مكة عند المقابر، وكتبوا بذلك صحيفة بخط منصور بن عكرمة، وقيل بخط بغيض بن عامر، وعلّقوا الصحيفة في جوف الكعبة الشريفة هلال المحرم سنة سبع من مبعثه صلّى الله عليه وسلّم، فانحاز الهاشميون إلى أبى طالب مسلمهم وكافرهم، حتى أنّ كافرهم فعل ذلك حمية على عادة   (1) هذا حديث ثابت في الصحيحين وغيرهما، من حديث أبى هريرة وجابر بن عبد الله رضى الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الجاهلية، فدخلوا معه في شعبه، وخرج من بنى هاشم أبو لهب بن عبد العزى ابن عبد المطلب إلى قريش مظاهرا إليهم، وكانت امرأته أم جميل بنت حرب (أخت أبى سفيان) على رأيه في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (كانت تحمل الشوك فتضعه في طريقه صلّى الله عليه وسلّم، فسمّاها الله تعالى حمالة الحطب) . وأقام بنو هاشم في الشعب ومعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحو ثلاث سنين، وكان بنو هاشم محصورين في الشعب لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم، حتى جاهدوا، وكان لا يصل إليهم ممن أراد صلتهم إلا سرا، هذا، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقبل على شأنه من الدعاء إلى الله، والوحي عليه يتتابع. ثم إن النبى صلّى الله عليه وسلّم أخبر عمه أبا طالب بأن الله سلط الأرضة على الصحيفة فلم تدع فيها غير اسم الله تعالى الذى كانت قريش تستفتح به كتابها، وهو لفظ: «باسمك اللهم» ، ونفت منها الظلم وقطع الرحم. فانطلق أبو طالب في عصابة حتى أتوا المسجد، فلما رأتهم قريش ظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلّموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو طالب: إنما أتيت في أمر هو نصف «1» فيما بيننا وبينكم: إنّ ابن أخي أخبرنى بأمر «2» فإن كان الحديث كما يقول فلا والله لا نسلمه حتّى نموت عن اخرنا، وإن كان الذى يقول باطلا دفعنا لكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم. وأخبرهم الخبر، فقالوا: قد رضينا الذى تقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما قال، فقالوا: هذا سحر ابن أخيك، وزادهم ذلك بغيا. ثم مشى في نقض الصحيفة قوم من قريش، وأخرجوا بنى هاشم وبنى المطلب من الشعب، وذلك في السنة العاشرة من مبعثه صلّى الله عليه وسلّم. ثم قدم الطفيل بن عمرو الدوسي «3» وكان شريفا في قومه، فأسلم، ثم استأذن   (1) النصف: أي: إعطاء الحق. (2) أى أكل الأرضة للصحيفة. (3) هو الطفيل بن عمرو بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس. استشهد رضى الله عنه في وقعة اليمامة. بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ذى الكفين- صنم عمرو بن حممة- فأحرقه بالنار. قدم مع أبى هريرة إلي النبى صلّى الله عليه وسلّم. أسلم بمكة، ثم عاد إلى بلاد قومه، ثم وافى النبى صلّى الله عليه وسلّم في عمرة القضاء وشهد فتح مكة. ولما وفد على النبى صلّى الله عليه وسلّم قال له: اجعل لى اية، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: اللهمّ نوّر له» فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا مثلة، فتحوّل النور إلى طرف سوطه. فكان يضيء له في الليلة المظلمة، فلذلك سمى ذا النور. أسلم أبوه على يديه، وأسلم على يديه أبو هريرة الصحابى الجليل، وجندب بن عمرو بن حممة ومعه خمسة وسبعون رجلا. اهـ. (مختصرا من الإصابة لابن حجر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ورجع إلى قومه، فأسلم منهم على يده ناس قليل، فرجع إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم فشكا ذلك إليه وسأله أن يدعو عليهم، فقال: «اللهم اهد دوسا» ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم. قال الطفيل: فلم أزل أدعوهم حتّى مضى الخندق، ثم قدمت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس بخيبر، فأسهم لنا مع المسلمين. وقدم عليه صلّى الله عليه وسلّم عشرون رجلا من نصارى نجران (مدينة بالحجاز، من شق اليمن معروفة، سميت بنجران بن زيد بن يشجب بن يعرب، وهو أوّل من نزلها) وقال في النهاية: (موضع معروف بين الحجاز والشام واليمن) حين بلغهم خبر من هاجر من المسلمين إلى الحبشة، فوجدوه صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، فجلسوا إليه وسألوه وكلموه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة ينظرون إليهم، فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أرادوا، دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الله تعالى، وتلا عليهم القران، فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به، وعرفوا منه ما هو موصوف به في كتابهم. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل فى نفر من قريش، فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون (أى تنظرون) الأخبار لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتّى فارقتم دينكم فصدّقتموه بما قال! لا نعلم ركبا أحمق منكم. فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه. ويقال: نزل فيهم قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إلى قوله: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: 52: 55] . ونزل قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة: 83] . وكان من القادمين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أميرهم العاقب عبد المسيح (من كندة) . ثم خرج صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف. قال الحافظ ابن عبد البرّ وغيره: أوّل موروث في الإسلام عديّ بن نضلة، وأوّل وارث نعمان بن عدي، وكان عدى قد هاجر إلى أرض الحبشة فمات بها، فورثه ابنه نعمان، واستعمله عمر على ميسان، ولم يستعمل من قومه غيره، فراود امرأته على الخروج فأبت، فكتب إليها يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 فمن مبلغ الحسناء أنّ حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنّتنى دهاقين قرية ... وصنّاجة تحذو على كل ميسم إذا كنت ندمانى فبالأكبر اسقنى ... ولا تسقنى بالأصغر المتثلم لعلّ أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم [والحنتم واحدة الحناتم: وهو في الأصل جرار مدهونة خضر، كانت تحمل فيها الخمر إلى المدينة، ثم اتّسع فيها، فقيل للخزف كله حنتم، والصنّاجة: الة لهو، وهى الطبل المعروف المذكور، فى قول الحريري: * أحسنت بالعيش يا صنّاجة الجيش*] . فبلغ ذلك «1» عمر رضى الله عنه فكتب إليه يقول: بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر: 1] . أما بعد.. فقد بلغنى قولك: «لعل أمير المؤمنين يسوؤه..» إلى اخره. وأيم الله لقد ساءني» . ثم عزله. فلما قدم عليه سأله، فقال: ما كان من هذا شيء، وما كان إلا فضل شعر وجدته، وما شربتها قط. فقال عمر: أظن ذلك، ولكن لا تعمل لي عملا أبدا. فنزل البصرة ولم يزل يغزو مع المسلمين حتّى مات، وشعره فصيح تستشهد به أهل اللغة على «ندمان» بمعنى «نديم» . وهذه الحادثة مصداق قوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ... [الشعراء: 224] . قال الشاعر: «يقولون ما لا يفعلون» مذمّة ... من الله مذموم بها الشعراء وما ذاك فيهم واحده بل زيادة ... يقولون ما لا يفعل الأمراء   (1) أى الشعر الذى قاله نعمان بن عديّ بن نضلة. (1) فى مراصد الاطلاع: «كانت تسمى قديما «وجّ» وسميت بالطائف: لمّا أطيف عليها الحائط» ثم قال: «وهى على ظهر جبل غزوان، وبها عقبة مسيرة يوم للطالع من مكة، ونصف يوم للهابط إلى مكة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الفصل الثالث فى خروجه صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف قبل هجرته إلى المدينة المشرّفة لما توفى عمه أبو طالب في السنة العاشرة من البعثة، بعد ما خرج من الحصار بالشعب بثمانية أشهر وأحد وعشرين يوما، وله بضع وثمانون سنة، نالت قريش من النبى صلّى الله عليه وسلّم ما لم تكن نالته في حياته، فهاجر إلى الطائف «1» فى شوال سنة عشر من البعثة، وهو مكروب مشوّش الخاطر مما لقى من قريش، ومن قرابته وعترته، خصوصا من أبى لهب وزوجته حمالة الحطب من الهجو والسب والتكذيب، فكانت تتجاذبه قريش وتقول له: أنت الذى جعلت الالهة إلها واحدا!! فخرج إلى الطائف مع مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف الإسلام، رجاء أن يسلموا، وأن يناصروه على الإسلام ويقوموا معه على من خالفه من قومه؛ لأنهم كانوا أخواله، فلم يجد منهم ذلك. ومن خروجه صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف عند ضيق صدره وتعب خاطره جعل الله الطائف مستأنسا لأهل الإسلام ممن بمكة إلى يوم القيامة. ولما انتهى صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف عمد إلى سادات ثقيف وأشرافهم، وكانوا إخوة ثلاثة أولاد عمرو بن عمير ابن عوف الثقفي، وهم: عبد ياليل واسمه كنانة، وعبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام، ولم يعرف لهما إسلام، وحبيب، قال الذهبي: وفي صحبته نظر «1» . وجلس صلّى الله عليه وسلّم إليهم وكلمهم فيما جاءهم به من نصرة الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه، فلم يجيبوه إلى شيء من ذلك، فقام صلّى الله عليه وسلّم من عندهم وقد أيس، وقال لهم: اكتموا عليّ، وكره أن يبلغ قومه ذلك فيشتد أمرهم عليه، وقالوا له: «اخرج من بلدنا والحق بمنجاتك من الأرض» ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويرمونه بالحجارة، حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فلما دخل الحائط رجعوا عنه. فلما راه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما، فدعوا غلاما لهما نصرانيا   (1) أى شك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 يقال له «عدّاس» معدود في الصحابة، مات قبل الخروج إلى بدر، فقالا: خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه. فأقبل عداس بالطبق حتّى وضعه بين يدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال له: كل. فلما وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه يده الشريفة، قال: بسم الله، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، وقال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: من أيّ البلاد أنت؟ وما دينك يا عداس؟ فقال: نصراني، وأنا من أهل نينوي، فقال صلّى الله عليه وسلّم: أنت من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال عداس: وما يدريك ما يونس بن متّي؟ فإني خرجت والله من نينوى وما فيها عشرة يعرفون ما متّي! فمن أين عرفت ابن متى وأنت أمّي وفي أمة أميّة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذلك أخي، كان نبيّا وأنا نبى أميّ. فقام عداس وأكبّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقبّل رأسه ويديه وقدميه، فقال أحد الأخوين عتبة وشيبة للاخر: أمّا غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما عداس قال له أحدهما: ويلك، ما لك تقبّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟! فقال: يا سيدى ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أعلمنى بأمر لا يعلمه إلا نبي، فقال: ويحك يا عداس ليصرفنك عن دينك وليفتننك عن نصرانيتك؛ فإنه رجل خدّاع، ودينك خير من دينه! فأقام صلّى الله عليه وسلّم بالطائف عشرة أيام وشهرا، لا يدع أحدا من أشرافهم (أى زيادة على عبد ياليل وأخويه) إلا جاء إليه وكلّمه، فلم يجبه أحد، ثم ذهب إلى نخلة «1» وهى موضع على ليلة من مكة، أقام بها أياما. وحضر إليه سبعة من جن نصيبين «2» ، وهى مدينة بالشام بوادى نخلة (موضع على ليلة من مكة) وهو يصلى بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القران استمعوا له، فحين رجعوا إلى قومهم قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) [الجن: 1، 2] فأوحى الله إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم ما قالوه لقومهم.   (1) فى المراصد: نخلة محمود: موضع بالحجاز قريب من مكة- نخلة اليمانية: بها مسجد للنبى صلّى الله عليه وسلّم ما قالوه لقومهم. (1) فى المراصد: نخلة محمود: موضع بالحجاز قريب من مكة- نخلة اليمانية: بها مسجد للنبى صلّى الله عليه وسلّم- نخلة الشامية، ذات عرق. اهـ. ملخصا. (2) من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من موصل إلى الشام، وقرية من قرى حلب، ومدينة على شاطيء الفرات تعرف بنصيبين الروم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وعن ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: أمرت أن أتلو القران على الجن؛ فمن يذهب؟ فسكتوا، ثم قال الثانية فسكتوا، ثم قال الثالثة، فقلت: أنا أذهب معك يا رسول الله، قال: فانطلق حتّى إذا جاء الحجون عند شعب ابن أبي ذئب خطّ عليّ خطّا، فقال «لا تجاوزه» ، ثم مضى إلى الحجون، فانحدروا عليه أمثال الحجل «1» ، كأنهم رجال الزطّ، [قال ابن الأثير في النهاية: «والزط قوم من السودان والهنود، كأن وجوههم المكاكي، يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفهن] حتى غشوه، فغاب عن بصرى، فقمت، فأومأ إليّ بيده أن اجلس، ثم تلا القران، فلم يزل صوته يرتفع ولصقوا بالأرض حتّى صرت لا أراهم، فلما عاد إليّ قال: أردت أن تأتينى؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: «ما كان ذلك لك؛ هؤلاء الجن أتوا يستمعون القران ثم ولّوا إلى قومهم منذرين، فسألونى الزاد فزوّدتهم العظم والبعر، فلا يستطيبنّ أحدكم بعظم ولا بعر» . وذكر في كتاب «القرى لقاصد أم القرّي» أن بأعلى مكة مسجدا يقال له مسجد الجن ومسجد البيعة أيضا يقال: إن الجن بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هناك. ولما أراد الدخول إلى مكة قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل على قريش وهم السبب في خروجك لتستنصر فلم تنصر؟! فقال: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه. فسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حراء «2» ثم بعث إلى الأخنس بن شريق «3» رضى الله عنه ليجيره، وكان ذلك قبل إسلامه، وليدخل صلّى الله عليه وسلّم مكة في جواره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير. فبعث صلّى الله عليه وسلّم إلى مطعم بن عدى الذى مات على دين قومه قبل بدر بنحو سبعة أشهر يقول له: إنى داخل مكة في جوارك. فأجابه إلى ذلك، فدخل صلّى الله عليه وسلّم مكة، ثم تسلح المطعم بن عدى وأهل بيته وخرجوا حتّى أتوا المسجد، فقام المطعم بن عدى على راحلته ونادي: يا معشر قريش إنى قد أجرت محمدا فلا يؤذيه أحد   (1) الحجل: صغار الإبل تسير مندفعة جماعات، أو طيور تندفع كذلك. (2) حراء جبل من جبال مكة، على ثلاثة أميال. (3) الأخنس بن شريق: فى الإصابة: الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبى سلمة ابن عبد العزى بن غيرة بن عوف بن ثقيف الثقفي، أبو ثعلبة، حليف بنى زهرة، واسمه «أبيّ» . أسلم الأخنس، وكان من المؤلفة قلوبهم. - شهد حنينا ومات في خلافة سيدنا عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 منكم. ثم بعث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أن ادخل. فدخل صلّى الله عليه وسلّم المسجد وطاف بالبيت وصلّى عنده، ثم انصرف إلى منزله، والمطعم بن عدى وولده مطيفون به صلّى الله عليه وسلّم، وأقبل أبو سفيان على المطعم فقال: إذن قد أجرّنا من أجرت. ولا بدع في دخوله صلّى الله عليه وسلّم في أمان مشرك؛ لأن حكمة الحكيم القادر قد تخفي، وهذا السياق يدل على أن قريشا كانوا أزمعوا على عدم دخوله صلّى الله عليه وسلّم لسبب ذهابه إلى الطائف ودعائه أهله. ولما بعث الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأنزل عليه الوحى وأمره بإظهار دينه وأيّده بالمعجزات الظاهرات والايات الباهرات، أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس من إيلياء «1» ، وقد فشا الإسلام في قريش وفي القبائل كلها. وكان الإسراء به صلّى الله عليه وسلّم والمعراج ليلة سبع وعشرين من رجب، وقال بعضهم: إنهما كانا يوم الاثنين، فهما موافقان للمولد والمبعث والهجرة والوفادة؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم ولد يوم الاثنين، وبعث يوم الاثنين، وهاجر من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفى يوم الإثنين.   (1) إيلياء: اسم لمدينة بيت المقدس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الفصل الرابع في الإسراء به صلّى الله عليه وسلّم ليلا من المسجد الحرام وعروجه من المسجد الأقصي إلى السموات العلى ولما بلغ صلّى الله عليه وسلّم إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر (قبل الهجرة بسنة) أسرى به من حجر مكة المعظّم ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وهو أوّل القبلتين، وثانى المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشدّ الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر «1» بعد الموطنين إلا عليه؛ فقد روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدى هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصي» «2» ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى السماوات العلي، إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام «3» . قال الماوردى: كل موضع ذكر الله فيه المسجد الحرام فالمراد به الحرم، إلا فى قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 149] ، فإنه أراد به الكعبة، ولم يرد في أحاديث المعراج الثابتة أنه صلّى الله عليه وسلّم عرج به إلى العرش تلك الليلة، بل لم يرد في حديث أنه صلّى الله عليه وسلّم جاوز سدرة المنتهى، بل انتهى إليها. وقد سئل الشيخ رضى الدين القزوينى رحمه الله عن وطء النبى صلّى الله عليه وسلّم العرش بنعله، وقول الرب جل جلاله «لقد شرف العرش بنعلك يا محمد» هل ثبت ذلك أم لا؟ «4» فأجاب بما نصه: «أما حديث وطء النبى صلّى الله عليه وسلّم العرش بنعله فليس بصحيح، وليس بثابت، بل وصول النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى ذروة العرش لم يثبت في خبر صحيح ولا حسن ولا ثابت أصلا، وإنما صحّ في الأخبار انتهاؤه إلى سدرة   (1) الخنصر: الإصبع الوسطي، وهو كناية عن شدة التمسك. (2) الحديث متفق عليه، ورواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائى وابن ماجه عن أبى هريرة، والإمام أحمد والترمذى وابن ماجه. وهو متفق عليه عن أبى سعيد. (3) صريف الأقلام: صريرها. اهـ (من هامش الأصل) . (4) قوله قبل: «إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام» يردّ ما قاله القزويني، فليتأمل؛ فإن هذا المستوى أعلى من سدرة المنتهى، وأما صعوده على العرش فالله أعلم بصحته. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 المنتهى فحسب، وأما إلى ما وراءها فلم يصحّ، وإنما ورد ذلك في أخبار ضعيفة أو منكرة» . قال النجم الغيطى رحمه الله: «وقد رأيت بخط بعض المحدّثين- بعد نقله كلام الشيخ رضى الدين رحمه الله-: هو الصواب، وقد وردت قصة الإسراء والمعراج مطوّلة ومختصرة عن نحو أربعين صحابيّا، وليس في حديث أحد منهم أنه صلّى الله عليه وسلّم كان تلك الليلة في رجله نعله، وإنما وقع ذلك في نظم بعض القصّاص الجهلة» إلى أن قال: «وهذا باطل لم يذكر في شيء من الأحاديث بعد الاستقراء التام، ولم يرد في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، أنه رقى العرش، وما وقع في بعض الأحاديث التى افتراها بعضهم لا يلتفت إليه، ولا أعلم خبرا ورد فيه أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى العرش إلا ما رواه ابن أبي الدنيا عن ابن أبي المخارق أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «مررت ليلة أسرى بى برجل مغيّب في نور العرش، قلت: من هذا، أملك؟ قيل: لا، قلت؟ نبي؟ قيل: لا، قلت: من هو؟ قيل: هذا رجل كان في الدنيا لسانه رطبا من ذكر الله وقلبه معلق بالمساجد ولم يستسبّ لوالديه» «1» ، وهو خبر مرسل لا تقوم به الحجة في هذا الباب، وما ذكر في السؤال (يعنى المتقدم من أنه صلّى الله عليه وسلّم رقى العرش بنعله) فقاتل الله من وضعه؛ ما أعدم حياءه وأدبه، وما أجرأه على اختلاق الكذب على سيد المتأدبين ورأس العارفين صلّى الله عليه وسلّم. [شقّ صدره] : وحدّث صلّى الله عليه وسلّم عن ليلة أسرى به كما رواه البخارى ومسلم وغيرهما، فقال: «بينما أنا في الحطيم «2» (وربما قال في الحجر) مضطجع، (وفي رواية: بين النائم واليقظان) إذ أتانى ات، قال: فسمعته يقول: فشقّ ما بين هذه إلى هذه (يعنى من ثغرة نحره إلى عانته) فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة حكمة وإيمانا فغسل قلبى ثم حشي» . والحديث فيه اختصار، والأصل: فاستخرج قلبه ثم شق واستخرج منه علقة، وقيل: «هذا حظ الشيطان منك» . ثم غسل بماء زمزم، كما يدل عليه حديث اخر، وفي رواية «علقتين سوداوين» وفي لفظ: «مضغة» .   (1) أى لم يكن سببا في سب والديه (هامش الأصل) . (2) الحطيم: ما بين الحجر الأسعد والباب، إلى مقام إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وقد اختلف في تفسير الحكمة، فقيل: هى العلم المشتمل على معرفة الله تعالى مع نقاء البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق للعمل به والكف عن ضده، والحكيم من حاز ذلك. قال الإمام النووى في شرح مسلم: «وليس في هذا ما يوهم جواز استعمال الذهب لنا؛ فإن هذا فعل الملائكة واستعمالهم، وليس بلازم أن يكون حكمهم حكمنا، ولأنه كان قبل تحريم أوانى الذهب والفضة، والتحريم إنما وقع بالمدينة، كما نبه عليه الحافظ ابن حجر» . قال الشيخ محمد بن أبى جمرة: «الحكمة في شق صدره مع القدرة على أن يمتليء قلبه صلّى الله عليه وسلّم إيمانا وحكمة بغير شق: الزيادة في قوة اليقين؛ لأنه أعطى برؤية شق بطنه وعدم تأثره بذلك ما أمن معه من جميع المخاوف العاديّة، فلذلك كان أشجع الناس حالا ومقالا، ولذلك وصف بقوله تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) [النجم: 17] ، اهـ. وكل هذه الأمور يجب الإيمان بها، والقدرة «1» صالحة لذلك، وقد انخرقت العادات لكثير من أولياء الله تعالى المتطفلين على جناب هذا السيد العظيم المحبوب الأكبر، فكيف به عليه الصلاة والسلام؟ وقد سئل الإمام تقى الدين السبكى رحمه الله عن العلقة السوداء التى أخرجت من قلبه صلّى الله عليه وسلّم حين شقّ فؤاده، وقول الملائكة «هذا حظ الشيطان منك» ، فأجاب رحمه الله بأن تلك العلقة خلقها الله تعالى في قلوب البشر، قابلة لما يلقيه الشيطان فيها، فأزيلت من قلبه صلّى الله عليه وسلّم، فلم يبق فيه مكان لأن يلقى الشيطان فيه شيئا، وهذا معنى الحديث. قيل له: فلم خلق الله تعالى هذا القابل «2» فى هذه الذات الشريفة، وكان يمكنه ألايخلقه الله تعالى فيه؟ فقال: إنه من جملة الأجزاء الإنسانية، فخلقه تكملة للخلق الإنساني، ولا بد منه، ونزعه كرامة ربانية طرأت. وقال غيره: لو خلق نبيه صلّى الله عليه وسلّم سليما منها لم يكن للادميين اطّلاع على   (1) أى القدرة الإلهية. (2) أى القابل لوسوسة الشيطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 حقيقته، فأظهره الله تعالى على يد جبريل عليه السلام ليتحققوا كمال باطنه بإخباره صلّى الله عليه وسلّم عمّا شاهده في نفسه، كما برز لهم مكمل الظاهر. انتهي. وفي غسل قلبه بماء زمزم دون غيره أنه أفضل المياه بعد النابع من أصابعه الشريفة، ويليه: ماء الكوثر، ثم نيل مصر، ثم باقى الأنهر، ونظم السبكى ذلك بقوله: وأفضل المياه ماء قد نبع ... بين أصابع النبيّ المتّبع يليه ماء زمزم فالكوثر ... فنيل مصر، ثم باقى الأنهر وقيل: لأن ماء زمزم يقوّى القلب، ويسكن الرّوع. وقال الحافظ الزين العراقي: ولذلك غسل قلبه عليه السلام ليلة الإسراء ليقوى على رؤية الملكوت، وقيل: لأنه لما كان ماء زمزم أصل حياة أبيه إسماعيل صلّى الله عليه وسلّم، وقد ربّي عليها ونما عليه قلبه وجسده، وصار هو صاحبه وصاحب البلدة المباركة، ناسب أن يكون ولده الصادق المصدوق كذلك، ولما فيه من الإشارة إلى اختصاصه بذلك؛ فإنه قد صارت الولاية إليه في الفتح «1» ، فجعل السقاية للعباس ولولده، وحجابة البيت لعثمان بن شيبة وعقبه إلى يوم القيامة. روى الطبراني من حديث ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم، فيه طعام طعم وشفاء سقم» وصحّحه ابن حبان، وروى مرسلا من حديثه أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ماء زمزم لما شرب له» ورجاله ثقات. قال ابن عباس رضى الله عنهما: «كنا نسميها، (يعنى زمزم) ، «شباعة» «2» ، ونجدها نعم العون على العيال» . وروى فيه «إنه شراب الأبرار» كما عند الأزرقي، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يتحف الرجل بتحفة سقاه من ماء زمزم، كما رواه في الحلية، وقال عباد بن   (1) فتح مكة. (2) فى المراصد: «شباعة» بالضم من أسماء زمزم في الجاهلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 عبد الله بن الزبير: لما حجّ معاوية حججنا معه، فلما طاف بالبيت صلّى عند المقام ركعتين، ثم مر بزمزم وهو خارج إلى الصفا، فقال: انزع لى منها دلوا يا غلام، قال: فنزع له منه دلوا فأتى به فشرب وصبّ على وجهه ورأسه، وهو يقول: «زمزم شفاء، وهى لما شرب له» قال الحافظ: إسناده حسن، وهو أحسن من كل إسناد وقفت عليه لهذا الحديث، وقد جرّبه جماعة من العلماء والأئمة فوجدوه صحيحا. وأما ما يذكر على بعض الألسنة من أن فضيلته ما دام في محله فإذا نقل تغيّر، فقال الحافظ السخاوي: إنه شيء لا أصل له؛ فقد كتب النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى سهيل بن عمرو: «إن جاءك كتابى ليلا فلا تصبحن، أو نهارا فلا تمسين حتّى تبعث إليّ بماء زمزم» ، فبعث له بمزادتين، وكان حينئذ بالمدينة قبل أن تفتح مكة. وحملته عائشة رضى الله عنها في القوارير، وقالت: حمله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الأداوى والقرب، وكان يصبّ منه على المرضى ويسقيهم، وكذا حمله الحسن والحسين رضى الله عنهما، ونقله جائز بإتفاق الأئمة الأربعة «1» . وفي ماء زمزم خواص منها: أنه لا يرفع ولا يغور إذا رفعت المياه وغارت قبل يوم القيامة، ومنها أنه يذهب الصداع ويبرد الحمّي. قال القسطلاني: «وقد وقع في شق صدره الشريف من الخوارق ما يدهش السامع؛ فسبيلك الإيمان والتسليم من غير أن تتكلف إلى التوفيق بين المنقول والمعقول، للتبرّى مما يتوهم أنه محال من: شق البطن، وإخراج القلب المؤديين إلى الموت لا محالة، ونحن بحمد الله لا نرى العدول عن الحقيقة إلى المجاز في خبر الصادق، إلا في الأمر المحال على القدرة» . انتهي. * ثم بعد طهارة باطنه وظاهره بالوضوء، لمناسبة شهود الحضرة القدسية، أتى بالبراق مسرجا ملجما، (وهو دابة أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، وهو مأخوذ من البرق لسرعة سيره، أرسله الله تعالى من الجنة إجلالا وتعظيما، على عادة الملوك إذا استدعوا عظيما بعثوا إليه النجيب «2» مهيّا مع أعز خواصهم للحضور، فهو من عالم الغيب: لا   (1) انظر المقاصد الحسنة للسخاوى ص 358 ففيه تفصيل أوسع. والله أعلم. (2) فى اللغة: الفاضل على مثله النفيس في نوعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 يوصف بذكورة ولا أنوثة، كالملائكة) فحمل عليه فانطلق به جبريل عليه السلام حتّى أتى السماء الدنيا فاستفتح «1» ، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به فنعم المجيء جاء ... » «2» الحديث بطوله، ورأى الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم وصلّى بهم. واختلف في صلاته) ليلة الإسراء بالأنبياء، قيل: قبل عروجه، وقيل: بعده، والأوّل استظهره ابن حجر، وصحّح «3» الثانى ابن كثير، قال بعضهم: ولا مانع من أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى بهم قبل العروج وبعده. وكانت صلاته بهم ركعتين، والظاهر أنها كانت فريضة «4» ؛ لأنها كانت بأذان وإقامة، وهل كانت بالفاتحة أو غيرها؟ لم يثبت ذلك. وفي «الإتقان» (5) ما يفيد أنه قرأ فيها بأم القران. قال النووي: واختلف في هذه الصلاة، فقيل: إنها اللغوية، وهى الدعاء والذكر، وقيل: الصلاة المعهودة، وهذا أصح؛ لأن اللفظ يحمل على الحقيقة الشرعية قبل اللغوية، وإنما يحمل على اللغوية إذا تعذّر حمله على الشرعية، ولم يتعذر هنا، فوجب الحمل على الصلاة الشرعية. وهل صلّى بأرواحهم متشكلة بصور أجسادهم، أو هى وأجسادهم؟ احتمالان. وفي الحديث ما يدلّ لكل منهما. وأما ما راه في السماوات؛ فأرواحهم متشكلة بصور أجسادهم إلا عيسى وإدريس، وصلّى أيضا بالملائكة عند سدرة المنتهي، ورأى من ايات ربه الكبري، ثم دنا فتدلّي، فكان قاب قوسين أو أدني، فأوحى إلى عبده ما أوحي. قال أبو بكر: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) [النجم: 10] ؟ قال: «فقال الله عز وجل: «لولا أنى أحب العتاب لم أحاسب أمتك» . قال: وذكر عن أمتى خصالا: أولها: قال: لم أكلفهم عمل الغد، وهم يطلبون منى رزق الغد.   (1) أى طلب فتح الأبواب. (2) الحديث طويل ومروى في كتب الصحاح. (3) عدّه صحيحا. (4) أى من الفرائض لا من النوافل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وثانيها، قال: لا أدفع أرزاقهم إلى غيرهم، وهم يدفعون عملهم إلى غيري. وثالثها، قال: إنهم يأكلون رزقي، ويشكرون غيري، ويحرنون «1» معي، ويصالحون خلقي. ورابعها، قال: أنا المعزّ، وهم يطلبون العزّ من سواي. وخامسها قال: إنّى خلقت النار لكل كافر، وهم يجتهدون أن يوقعوا أنفسهم فيها» . وفرض الله عليه وعلى أمته تلك الليلة كل يوم وليلة خمسين صلاة في أوّل الأمر، فما زال يراجع حتّى صارت خمسا في الفعل وخمسين في الأجر. والحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء: أنه صلّى الله عليه وسلّم لما عرج به إلى السماء، رأى تلك الليلة تعبّد الملائكة؛ منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله تعالى له ولأمته تلك العبادات في ركعة واحدة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص. وفي اختصاص فرضها في السماء دون سائر الشرائع فإنها فرضت في الأرض، فللتنبيه على مزيتها على غيرها من الفرائض. وفي فرضها تلك الليلة (كما قال السهيلي) التنبيه على فضلها حيث لم تفرض إلا في الحضرة المقدّسة المطهّرة، ولذلك كانت الطهارة من شأنها ومن شرائطها، والتنبيه على أنها مناجاة الرب عزّ وجلّ، وأن الله تبارك وتعالى يقبل بوجهه على المصلى يناجيه ويقول: حمدنى عبدي، أثنى عليّ عبدي، إلى اخر سورة الفاتحة، وهو المشاكل لفرضها عليه فوق السماء السابعة حين سمع كلام الرب عز وجل، وناداه. ولم يعرج به حتّى طهّر ظاهره وباطنه بماء زمزم، كما يتطهر المصلى للصلاة، وأخرج عن الدنيا بجسده كما يخرج المصلى عن الدنيا بقلبه، ويحرم عليه كل شيء إلا مناجاة ربه وتوجهه إلى قبلته في ذلك الحين، وهو بيت المقدس، ورفع إلى السماء كما يرفع المصلّى يديه إشارة إلى القبلة العليا، وهو البيت المعمور وإلى جهة عرش من يناجيه ويصلى له سبحانه وتعالى.   (1) يعاندون ويعصون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 * قال بعض المفسرين: الأفعال التى كلّفنا الله بها على قسمين: منها ما يعقل معناه ووجه حكمته فيه؛ كالصلاة والصوم والزكاة؛ فإن الصلاة تضرّع محض، وتواضع وتذلل للخالق، والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير، والصوم سعي في كسر الشهوة. ومنها ما لا يعقل معناه ولا يعرف وجه الحكمة فيه كأفعال الحج؛ فإنّا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمى الجمار، والسعى بين الصفا والمروة والرّمل. ثم اتّفق المحققون على أنه كما يحسن منه تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأوّل، فكذا يحسن منه الأمر بالنوع الثاني؛ لأن الإطاعة في النوع الأوّل لا تدل على كمال الانقياد؛ لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه، بخلاف الطاعة في النوع الثاني؛ فإنها لا تدل إلا على كمال الانقياد، وكمال نهاية التسليم؛ لأنه لمّا لم يعرف منه وجه المصلحة إليه لم يكن وجه إتيانها إلا محض الانقياد والتسليم، وهذا معنى قولهم: يجب علينا الإيمان والتصديق بكل ما جاءت به الرسل وإن لم نفهم حكمته، كذلك يجب علينا الإيمان والتصديق بكلام الأئمة وإن لم نفهم علّته حتّى يأتينا عن الشارع ما يخالفه. ومن شعائر الإسلام الصلوات، والجماعات، وقراءة القران. والمساجد والمحاريب في زماننا أكثر؛ إذ النبى صلّى الله عليه وسلّم خرج من الدنيا والإسلام لم يبلغ غير جزيرة العرب. * ولما أصبحّ صلّى الله عليه وسلّم قصّ على قريش ما رأي، فقال له المطعم بن عدي: «كلّ أمرك قبل اليوم كان أمما (يعنى خفيفا) ، أنا أشهد أنك كاذب؛ نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا وتزعم أنك أتيته في ليلة! واللات والعزّى لا أصدّقك» . فقال أبو بكر رضى الله عنه: «يا مطعم، بئس ما قلت لابن أخيك، جبهته وكذبته، وأنا أشهد أنه صادق» . فقالوا: «يا محمد صف لنا بيت المقدس، كيف بناؤه؟ وكيف هيئته؟ وكيف قربه من الجبل؟ (وفي القوم من سافر إليه) ، فذهب ينعت لهم: بناؤه كذا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وهيأته كذا، وقربه من الجبل كذا. وسألوه أمارة، فأخبرهم بالعير وأنهم يقدمون يوم الأربعاء، فلما كان ذلك اليوم لم يقدموا حتّى كادت الشمس أن تغرب، فدعا صلّى الله عليه وسلّم الله، فحبس الشمس، وكان كما وصف صلّى الله عليه وسلّم. واختلف في حبس الشمس، فقيل وقوفها عن السير (عن الحركة) بالكلية، وقيل بطء حركتها. (وقيل غير ذلك) . فما زال ينعت لهم حتّى التبس عليه النعت، فكرب كربا ما كرب مثله، فجيء بالمسجد وهو ينظر إليه حتّى وضع دون دار عقيل أو عقال، فقالوا له: كم للمسجد من باب؟ ولم يكن عدّها، فجعل ينظر إليها ويعدّها بابا بابا، وأبو بكر رضى الله عنه يقول: «صدقت، صدقت، أشهد أنك رسول الله» ، فقال القوم: أما النعت فو الله لقد أصاب، ثم قالوا لأبى بكر: أتصدّقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: «نعم، إنى لأصدّقه فيما هو أبعد من ذلك؛ أصدّقه بخبر السماء في غدوة أو روحة» . فلذلك سمى أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه. وحكمة تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصي: أن قريشا تعرفه، فيسألونه عنه، فيخبرهم بما يعرفونه، مع علمهم أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يدخل بيت المقدس قط، فتقوم الحجة عليهم، وكذلك وقع. * وقد اختلف الناس في كيفية الإسراء: فالأكثرون من طوائف المسلمين متفقون على أنه بجسده صلّى الله عليه وسلّم، والأقلّون قالوا بروحه، فالإسراء بالروح محكي عن حذيفة وعائشة ومعاوية رضى الله عنهم، فقد قالوا: إن ذلك كله كان رؤيا، وهناك قول ثالث: إن الإسراء كان بجسده إلى بيت المقدس، وبروحه من بيت المقدس إلى السموات السبع. والصحيح عند الجمهور أن الإسراء والمعراج كانا يقظة لا رؤيا؛ لأنه قد صح أن قريشا كذّبته، وارتدّ جماعة ممن كان أسلم، وسألوه أمارة فأخبرهم بقدوم العير يوم الأربعاء؛ فلما كان ذلك اليوم لم يقدموا حتّى كادت الشمس أن تغرب، فدعا الله تعالى فحبس الشمس حتّى قدموا كما وصف. وكذلك تجلّى البيت المقدس له ونظره إليه وإخبار قريش، فهذا يدل على أن ذلك كله لم يكن رؤيا، ولو قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «رأيت رؤيا» لما كذّب ولا أنكر ذلك على غيره، فضلا عن إنكاره عليه، لأن احاد الناس يرون في منامهم أنهم ارتقوا إلى السموات، وليس ذلك بعجيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وأيضا الظاهر من قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ أنه يقظة؛ فإن العبد (كما في المحكم) «1» الإنسان: حرّا كان أو عبدا لأنه مملوك لربه، وهو في الأصل صفة، لكنه استعمل استعمال الأسماء، والمراد به هنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، ففى قوله بِعَبْدِهِ دليل على أن الإسراء كان بروحه وجسده، لا بروحه فقط؛ إذ العبد اسم للجسد والروح. وتعجّب قريش من ذلك لاستحالتهم إياه مدفوع «2» كما قال أهل الهيئة «3» إن الفلك الأعظم في مقدار ما يتلفظ الإنسان بلفظة واحدة يقطع ألفا واثنين وثلاثين فرسخا، وكما قاله البيضاوى بما ثبت في الهندسة أنّ ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضعها الأعلى في أقل من ثانية «4» وهى جزء من ستين جزا من الدقيقة. وقد برهن في كتاب «الإحكام» أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض، فالله قادر على كل الممكنات، فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي، أو فيما يحمله، والتعجب من لوازم المعجزات. اهـ. قال محشّيه «5» : وأيضا كما يستبعد في العقل صعود الجسم الكثيف من مركز العالم إلى ما فوق العرش، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحانى من فوق العرش إلى مركز العالم. فإن كان معراجه صلّى الله عليه وسلّم في ليلة واحدة ممتنعا، كان نزول جبريل من العرش إلى مكة في لحظة واحدة ممتنعا، ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنا في نبوة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والقول بثبوت المعراج متفرع على نحو تسليم جواز أصل النبوة، فثبت أن القائلين بامتناع صعود حركة جسمانية سريعة إلى هذا الحدّ يلزمهم القول بامتناع نزول جبريل فى لحظة واحدة من العرش إلى مكة، وإن كان ذلك باطلا كان ما ذكر أيضا   (1) كتاب المحكم لابن سيده وهو العمدة في المعاجم. (2) أى مردود عليه. (3) علماء الطبيعة (الفيزياء) . (4) لأنها نجم سيار، فالمكان الذى يكون فيه طرفها الأعلى يصله طرفها الأسفل في هذه المدة، والله هو الأعلم والأدرى بخلقه. (5) أى صاحب الحاشية أى الهامش على الكتاب المذكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 باطلا. فإن قالوا: نحن لا نقول إن جبريل جسم ينفصل من مكان إلى مكان، وإنما نقول: المراد من نزوله هو زوال الحجب الجسمانية عن روحه صلّى الله عليه وسلّم حتّى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضرا متجليا في ذات جبريل، قلنا: تفسير الوحى بهذا الوجه هو قول الحكماء «1» . وأما جمهور المفسرين فيقرون بأن جبريل جسم، وأن نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأملاك إلى مكة، وإذا كان كذلك كان الإلزام المذكور قويا، وهذا تقرير ما ذهب إليه الأكثرون من المسلمين، وإن ذهب الأقلّون إلى أنه عليه الصلاة والسلام ما أسرى إلا بروحه. انتهي. فقد ذهب أهل التحقيق أنه تعالى أسرى بروح محمد صلّى الله عليه وسلّم وجسده من مكة إلى المسجد الأقصي. انتهي. قال بعضهم في هذا المعنى مخاطبا له صلّى الله عليه وسلّم: أسرى إلى الأقصى بجسمك يقظة ... لا في المنام فيقبل التأويلا إذ أنكرته قريش قبل ولم تكن ... لترى المهول من المنام مهولا وقال اخر: ألم تر أنّ الله أسرى بعبده ... إلى المسجد الأقصى من البيت ذى الحجر وطاف به الكونين في ليلة السري ... وعلّمه ذو مرّة كلّ ما يجرى دنا فتدلّى قاب قوسين فاتلها ... وعلّمه ما لم يكن قبله يدرى خليل، ولم يعلم كليم، ولم ينل ... مسيح، ولا خلق إلى منتهى الحشر وقوله: «وعلّمه ما لم يكن قبله يدرى خليل» إلى اخره إشارة إلى أنّ معراجهم لم يكن كمعراجه مشتملا على تعليم كتعليمه؛ وذلك لأن المعراج كان لستة من الأنبياء: خليفة الله تعالى ادم أبو البشر، وإدريس، وإبراهيم، وموسي، وعيسي،   (1) الحكماء هنا هم: الفلاسفة، والفلاسفة لا دين لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وصفوتهم نبينا صلّى الله عليه وسلّم فمعراج ادم كان إلى الجنة، ومعراج إدريس إلى السماء السادسة، ومعراج إبراهيم إلى ملكوت السموات والأرض، ومعراج موسى إلى الطور، ومعراج عيسى إلى سماء الدنيا، ومعراج المصطفى صلّى الله عليه وسلّم إلى العرش، وقد اشتركت الستة في أصل المعراج، ولكن «ما كلّ بيضاء شحمة» «1» . وفي الخبر عنه صلّى الله عليه وسلّم «أعطيت تفاحة ليلة المعراج فأكلتها فصارت ماء في ظهري، فلما رجعت واقعت خديجة فحملت بفاطمة، فإذا هي: حورية إنسية سماوية أرضية» . وفي وقوع الإسراء ليلا فوائد. منها: ليزداد الذين آمنوا إيمانا بالغيب، ويفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، ومنها أنه وقت الخلوة والاختصاص عرفا؛ فإن بين جليس الملك نهارا وجليسه ليلا فرقا واضحا، ولله درّ القائل: الليل لى ولأحبابى أنادمهم ... قد اصطفيتهم كى يسمعوا ويعوا وقول الاخر: قلت: يا سيدى أتوثر الليل ... عن بهجة النهار المنير قال: لا أستطيع تغيير رسمى ... هكذا الرسم في طلوع البدور إنما زرت في الظلام لكيما ... يشرق الليل من أشعة نورى ولأنه وقت الصلاة التى كانت مفروضة عليه، فى قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ، وليكون أبلغ للمؤمن في الإيمان بالغيب- كما تقدم- وفتنة للكافر. وقال بعض أهل الإشارات: لما محا الله اية الليل وجعل اية النهار مبصرة انكسر الليل، فجبر «2» بأن أسرى فيه بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن دحية: «أكرم نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم بأمور، منها: انشقاق القمر «3» ، وإيمان   (1) مثل يضرب لعدم تطابق الأشياء وإن كانت من جنس واحد. (2) فجبر: أي أرضى. (3) رواه ابن جرير عن أنس، وقال إنه انشق مرتين. ورواه أيضا عن عبد الله بن مسعود وجبير، وعبد الله بن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الجن به، وخروجه إلى الغار ليلا» . والليل أصل، ولهذا كان أوّل الشهر، وسواده يجمع ضوء البصر، ويستلذ فيه بالسمر، وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر أسفاره ليلا، وقال: «عليكم بالدلجة؛ فإنّ الأرض تطوى بالليل» «1» ، والليل وقت الاجتهاد للعبادة، فلما كانت عبادته ليلا أكرم بالإسراء فيه، وليكون أجر المصدّق به أكثر ليدخل فيمن امن بالغيب دون من عاينه نهارا، وصحّ أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حتّى يبقى الثلث الأخير، فيقول: من يدعونى فأستجيب له؟ ومن يسألنى فأعطيه؟ ومن يستغفرنى فأغفر له؟» الحديث. وهذه الخصوصية لم تجعل للنهار، نبّه بها صلّى الله عليه وسلّم لما في ذلك الوقت من الليل من سعة الرحمة ومضاعفة الأجر، ولإبطال كلام الفلاسفة: «إن الظلمة من شأنها الإهانة والشر» . وقد ذكر صلّى الله عليه وسلّم بعد عوده الأنبياء الذين راهم في بيت المقدس والسماء، وذكر الجنة والنار، وسدرة المنتهي، والأنهار الأربعة، وفرض الصلوات الخمس، وأنه رأى ربه عز وجل بعيني رأسه بلا كيف ولا أين ولا زمان. [مسألة رؤية الله] : ولنذكر هنا مسألة الرؤية على وجه الاختصار فنقول: أجمع العلماء على أن رؤية الله تعالى بالأبصار يقظة في الدنيا جائزة عقلا؛ إذ كل موجود رؤيته جائزة، وليس ثمة دليل قاطع على استحالتها شرعا؛ فرؤية النبى صلّى الله عليه وسلّم الله ليلة المعراج ببصره جائزة عقلا، بمعنى أن العقل إذا خلّى ونفسه لم يحكم بامتناع رؤيته تعالى بالبصر. ورؤية الله تعالى في الدنيا من خصوصياته صلّى الله عليه وسلّم، مستحيلة شرعا على غيره، وإنما اختلاف الصحابة في وقوعها لا في إمكانها وجوازها، ومما يدلّ على جوازها في الدنيا، سؤال موسى عليه السلام إياها، إذ لا يجوز على نبى جهل شىء مما يجوز لربه أو يمتنع   (1) رواه أبو داود، والحاكم، والبيهقى عن أنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 عليه أو يجب له. وكيفية الخلاف في وقوعها: كما حكاه عنه القشيرى، وهو قول عائشة رضى الله عنها بإنكار رؤيته صلّى الله عليه وسلّم ربه ليلة الإسراء حين قالت لمسروق* وكان متكئا عندها: «يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله، فقال: ما هن؟ فقالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، فجلس، وقال: انظرينى يا أم المؤمنين ولا تعجلينى، ألم يقل الله وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23] ، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 13] ؟ فقالت أنا أوّل هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التى خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض، ثم قالت: أولم تسمع أن الله تعالى يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] أولم تسمع أن الله يقول: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى: 51] إلى قوله: عَلِيٌّ حَكِيمٌ. قالت: ومن زعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة: 67] قالت: «ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] كما رواه مسلم، ووافقها أبو هريرة وجماعة، وهو المشهور عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه. والذى جزم به صاحبه «التحرير» ، كما نقله عنه النووى وأقرّه: إثبات رؤيته صلّى الله عليه وسلّم ريّه ببصره، قال: والحجج في هذه المسألة، وإن كانت كثيرة، ولكنّا لا نتمسك إلا بالأقوى منها، وهو حديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما:   * مسروق بن الأجذع الهمذانى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 «أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم، والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلّى الله عليه وسلّم؟!» وعند الطبراني من حديثه: انظر محمد إلى ربه. قال عكرمة فقلت له: نظر محمد إلى ربه؟ فقال: قد جعل الكلام لموسى، والخلة لإبراهيم، والنظر لمحمد صلّى الله عليه وسلّم» . وأخرجه البيهقى بلفظ: «إن الله اصطفى إبراهيم بالخلّة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمدا بالرؤية» . وعن عكرمة «سئل ابن عباس: هل رأى محمد ربه» ؟ قال: نعم» . وقد روى بإسناد لا بأس به عن شعبة عن قتادة عن أنس. قال: رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم ربّه» . والأصل في الباب حديث ابن عباس حبر الأمة، والرجوع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة، وراسله: هل رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم ربه؟ فأخبره أنه راه، فالعقيدة على مذهب ابن عباس رضى الله تعالى عنه. وأما ما قاله الإمام مالك رضى الله عنه من أن الله سبحانه وتعالى لم ير في الدنيا؛ لأنه باق، والباقى لا يرى بالفانى، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقى بالباقى، ومقتضاه أنه يقول بعدم رؤيته لأحد في الدنيا، فيكون مذهبه مذهب من قال: إن محمدا لم ير ربّه، فقد تأوله بعض المتأخرين بقوله: هو كلام حسن مليح، ليس فيه دلالة على استحالة الرؤية في الدنيا إلا من حيث ضعف القوة الباصرة، فإذا قوّى الله من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية في أى وقت كان، فلا مانع من ذلك، وهو الحق، فيجوز أن يقال: إن الله تعالى أودع البصر الشريف قوة أقدر بها على رؤيته تعالى، كما كان صلّى الله عليه وسلّم يرى جبريل، والصحابة عنده لا يرونه: للقوة التى أمدّه «1» الله بها دونهم.. قال الحافظ ابن حجر: ووقع في صحيح مسلم ما يؤيد التفرقة في الرؤية بين الدنيا والآخرة في حديث مرفوع، فيه: «واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتّى تموتوا» .   (1) فى الأصل: للقوة التى أمدها الله دونهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وأخرجه أيضا ابن خزيمة من طرفين، وهذا ظاهر في انتفاء الرؤية عنه صلّى الله عليه وسلّم، والجواب عن ذلك ممن أثبتها له صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا ما قاله ابن حجر: إن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه، يعنى أن النبى صلّى الله عليه وسلّم نفاها عن غيره. وأما ما تمسكت به عائشة رضى الله عنها، فقد أجاب عنه صاحب «التحرير» ، كما نقله عنه النووى وأقره من قوله بعد نقله حديث ابن عباس وأنس السابقين، ولا يقدح في هذا حديث عائشة؛ لأن عائشة لم تخبر أنها سمعت النبى صلّى الله عليه وسلّم يقول: لم أر ربى، وإنما ذكرت ما ذكرت متأوّلة لقول الله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى: 51] ، ولقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] ، والصحابى إذا قال قولا خالفه غيره من الصحابة لم يكن قوله حجة اتفاقا، وإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها؛ فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن، وإنما تتلّقى بالسماع، ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد، وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس أثبت شيا نفاه غيره، والمثبت مقدّم على النافى. هذا كلام صاحب التحرير. قال النووى: «والحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى ربّه بعينى رأسه ليلة الإسراء، لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم، وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مما لا ينبغى أن يشك فيه «1» . ثم إن عائشة رضى الله تعالى عنها لم تنف الرؤية بحديث عن رسول   (1) الواقع الذى لا نشك فيه: أن صلّى الله عليه وسلّم لم يره بالعين المجردة، وأن ما قاله ابن عباس والسيدة عائشة رضى الله عنهما لا خلاف فيه، فالسيدة عائشة كلامها- فيما ندرى- عن العين المجردة، وابن عباس عن عين القلب، وقد حسم القضية كلها من أولها لاخرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفسه فيما رواه ابن أبي حاتم عن أبى ذر لما سأله عن ذلك فقال: «إنه راه بقلبه ولم يره ببصره» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط من الايات، فأما احتجاجها بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فجوابه ظاهر؛ فإن الإدراك هو الإحاطة، والله تعالى لا يحاط به، وإذا ورد النص بنفى الإحاطة لا يلزم منه نفى الرؤية بغير إحاطة، وأما احتجاجها بقوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ الاية، فالجواب عنه من أوجه: أحدها: أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية، فيجوز وجود الرؤية من غير كلام. الثانى: أنه عامّ مخصوص بما تقدّم من الأدلة. الثالث: ما قاله بعض العلماء: إن المراد بالوحى الكلام من غير واسطة، وإن كان مذهب الجمهور أن المراد بالوحى هنا الإلهام، أو الرؤيا في المنام، وأما قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: 51] فقال الواحدى وغيره: معناه غير مجاهر لهم بالكلام، بل يسمعون كلامه سبحانه وتعالى من حيث لا يرونه، وليس المراد أن هناك حجابا يفصل موضعا من موضع، ويدلّ على تحديد المحجوب، فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب، حيث لم ير المتكلم. وما قدّمناه من أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه بعينى رأسه هو قول أنس وعكرمة والحسن والربيع وجماعة من المفسرين. وقال ابن عباس وأبو ذر وإبراهيم التيمى: راه بقلبه. قال ابن عطية: وعلى هذا رأى ربّه بقلبه رؤية صحيحة، وهو أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده، أو خلق لفؤاده بصرا حتّى رأى ربه رؤية صحيحة. أخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس أنه كان يقول: «نظر محمد إلى ربه مرتين؛ مرة ببصره ومرة بفؤاده، وعليه فلابن عباس مذهب كون الرؤية بالبصر وبالفؤاد. وما قاله ابن عطية في الرؤية بالفؤاد أقرّه النووى وارتضاه ابن حجر، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 قال: وليس المراد برؤية الفؤاد مجرد حصول العلم؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان عالما بالله على الدوام، فليس المراد بالرؤية المعرفة؛ لأن غيره صلّى الله عليه وسلّم من الأولياء إذا أطلقوا الرؤية والمشاهدة وأسندوا ذلك لأنفسهم إنما يريدون بها المعرفة فقط، فقال بعضهم: دنا ليلة الإسراء ممن أحبّه ... وثانيه روح القدس والناس هجّد دنوّ اصطفاء لا دنوّ مسافة ... وإن كان في حالاته ليس يبعد وقال أيضا: نجىّ لربّ العالمين مقرّب ... حبيب فيدنو كل حين ويستدنى نأى ليلة الإسراء عنّا ترقيا ... فكان دنوا قاب قوسين أو أدنى فقلنا له عن صحة ألف اية ... وهل تنكر الأزهار في الروضة الغنا ولم تثبت الرؤية في الدنيا لغيره صلّى الله عليه وسلّم، حتى لموسى عليه السلام، كما قال: ولو قابلت لفظة «لن ترانى» ... ب «ما كذب الفؤاد» فهمت معنى خلافا لمن قال غير ذلك: والحاصل في أنه «على القول بوقوع الرؤية في الدنيا» لم تحصل لبشر غير نبينا صلّى الله عليه وسلّم، ومن ادّعاها في الدنيا يقظة فهو ضال بإطباق العلماء، بل قيل بتكفيره. وقد نقل جماعة الإجماع على أنها لا تحصل للأولياء في الدنيا، والصواب أنه مختلف فيها وأن المنع أرجح قولى الأشعرى، وذهب ابن الصلاح وغيره إلى تكذيب مدّعيها يقظة في الدنيا، فإن صح عن أحد من المعتبرين وقوع ذلك يؤوّل بأن تقلبات الأحوال تجعل الغائب كالمشاهد، حتى إذا كثر اشتغال السرّ بشيء واستحضاره له صار كأنه حاضر بين يديه، كما هو معلوم بالوجدان لكل أحد، وعليه يحمل ما نقل عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه كان يطوف حول البيت فسلّم عليه إنسان فلم يردّ عليه، فشكاه إلى عمر رضى الله عنه، فقال: «كنا نرى الله في ذلك المكان» ، وهذا يدل على أنه قد تتفق في زمان دون زمان، ومكان دون زمان، ومكان دون مكان، وسيأتى قريبا لذلك بعض تحقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ولم يستدل القوم بايتى النجم لاحتمالهما رؤية وجبريل، وقد وردت الاثار بمستند كلّ من الاحتمالين في الايتين، وإنما الراجح كما قاله بعض المتأخرين: أن الرؤية بالبصر وأن المرثى هو الله تعالى لا جبريل «1» ، وقد ذهب جماعة إلى الوقف في هذه المسألة ولم يجزموا بنفى ولا إثبات لتعارض الأدلة، ورجّحة أبو العباس القرطبى في «المفهم» «2» وعزاه لجماعة من المحققين، وقوّاه بأنه ليس فى الباب دليل قاطع، وغالب ما ساتدل به الطائفتان ظواهر متعارضة قابلة للتأويل. قال القرطبى: وليست المسألة من العلميات «3» حتى يكتفى فيها بالأدلّة الظنية، وإنما هى من المعتقدات التى يطلب فيها الدليل القطعى. وردّه السبكى في «السيف المسلول» بأنه ليس من شرط جميع مسائل الاعتقاد الثبوت بالدليل القطعى، بل متى كان حديثا صحيحا، ولو ظاهرا، وهو من رواية الاحاد جاز أن يعتمد عليه في بعض تلك المسائل، حيث لم يكن من مسائل الاعتقاد التى يشترط فيها القطع، على أنّا لسنا مكلفين بذلك «4» . وقد اختلف في رؤيته في المنام، ومعظم المثبتين للرؤية في الدنيا على جوازها من غير كيفية وجهة، ونقل عن القاضى عباس اتفاق العلماء على جواز رؤية الله تعالى في المنام، وصحتها إن ادّعاه من هو أهله، كولىّ يوثق به، ويكون ذلك تخصيصا للعموميات، كقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وأما إن ادعاه من ليس من أهله كالعاصى والمقصّر، فإنا نكذبه، ومع ذلك فالرؤية المنامية ليست من قبيل المشاهدة البصرية الحقيقة، وإنما هى من قبيل نوع مشاهدة بالقلب دون العين، وهى أيضا غير الرؤية القلبية التى في اليقظة؛ فرؤيته صلّى الله عليه وسلّم لربه ليلة الإسراء كانت يقظة بصرية أو قلبية، يعنى رؤية صحيحة،   (1) لا نوافق على هذا أبدا، لأن قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [تحديد مكان، والله تعالى لا يحل في مكان، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا؛ إذ المكانية صفة للمخلوق. (2) كتاب المفهم لشرح صحيح مسلم للإمام القرطبى. (3) فى الأصل «العمليات» . (4) نعم لسنا مكلفين بالبحث في الأمور التى لا تحيط بها العقول «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 حيث جعل الله تعالى بصره صلّى الله عليه وسلّم في فؤاده، أو خلق لفؤاده بصرا حتّى رأى ربه رؤية صحيحة كما سبق، لا في جهة ولا بانحصار، منزها عن صفات الحوادث. والمحققون على أنه راه بعينه وبقلبه، وإسراؤه ومعراجه صلّى الله عليه وسلّم كان يقظة أيضا على الصحيح كما قيل: أعلمت من ركب البراق عتيما ... وتلاء جبريل الأمين نديما حتى سعا فوق السماء قدوما ... ودنا فكلّم ربّه تكليما أم من على الرسل الكرام تقدّما ... ونوى الصلاة بهم، وكبّر محرما وسرى إلى ذى العرش فرّدا بعد ما ... بلغ الأمين «1» مكانه المعلوما أم من كتاب القوس اية قربه ... بعلوّه ودنوه من ربه ورأى الإله بعينه وبقلبه ... وحوى من الغيب الخفىّ علوما ولذلك لما أفحم قريشا بالدلائل القوية التى تفيد اليقين، من وصف بيت المقدس، ووصف العير التى مرّ بها في طريقه، وأنها تصل إليهم وقت كذا، فكان كما أخبر، لم يجدوا طريقة إلا أن رموه بالسحر، وقالوا: صدق الوليد. ولوقوع الإسراء ليلا فوائد، منها: ليزيد الذين آمنوا إيمانا بالغيب. ويفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، وقد قال تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ [الإسراء: 60] أى التى شاهدتها ليلة الإسراء إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أى امتحانا واختبارا، لأنه لما ذكر لهم قصة الإسراء كذّبوه، وكفر به كثير ممن كان قد امن به، وازداد المخلصون إيمانا، فلهذا السبب كانت امتحانا. والمراد «بالرؤية» فى الاية الرؤية البصرية، حيث أن الإسراء كان في اليقظة بجسمه الشريف، وأنه وقع ذلك ليلا وكان خارقا للعادة أشبه الرؤيا المنامية، فعبّر عنه بالرؤيا مجازا، وأدلّ دليلّ على أن الرؤيا كانت بصرية، قوله تعالى: فِتْنَةٌ   (1) هنا جبريل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 النَّاسَ كما ذهب إليه ابن عباس والمحققون وأرباب البصائر، إذ لو كانت منامية لما حصل افتتان كما سبق، إذ العاقل لا يستبعد الرؤيا المنامية، ولا ينازع، ولا يستعظم ذلك خصوصا مع إنسان لم يعهد عليه إلا الصدق من صغره إلى كبره صلّى الله عليه وسلّم. * وأما رؤية المؤمنين للنبى صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا، فقد ورد: «من رانى في المنام فقد رانى حقا؛ فإن الشيطان لا يتمثل بى» رواه الإمام أحمد، والبخارى، والترمذى عن أنس، وهو متواتر، وفي رواية: «من رانى فقد رأى الحق؛ فإن الشيطان لا يتزيابى» رواه الإمام أحمد، والبخارى، ومسلم عن أبى قتادة صلّى الله عليه وسلّم. وفي رواية: «من رانى في المنام فسيرانى في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بى» رواه البخارى ومسلم، وأبو داود عن أبى هريرة. أى أن رؤيته صلّى الله عليه وسلّم في المنام حق، ولو راه الرائى على غير صفته الحقيقية التى هو عليها، خلافا للحكيم الترمذى؛ لأن إدراكه على صفته الأصلية إدراك لذاته، وإدراكه على غير صفته الأصلية إدراك لمثاله. وعدم تمثّل الشيطان به لئلا يجعل ذلك وسيلة للكذب عليه في النوم، وقوله «فسيرانى في اليقظة» أى فى الآخرة رؤية خاصة بصفة القرب والشفاعة، وفيه بشرى بموته على الإيمان، وهذا عامّ في أهل الطاعة، محتمل في أهل العصيان، فقد تخرق لهم العادة إغراء. وقولنا فيما تقدم «رؤية خاصة» أى وإلا فجميع أمته يرونه في الآخرة، أو هذا قبل موته صلّى الله عليه وسلّم، أى من راه في المنام فسيوفقه الله تعالى للهجرة إليه ويراه بعينى رأسه، أو فسيراه في الدنيا حقيقة كرامة له، كما وقع لكثير من الأولياء وسألوه فأرشدهم. وردّ هذا بأنه يلزم بقاء الصحبة، وبأن جمعا ممن رأوه مناما لم يروه يقظة، وخبره لا يتخلّف، وأجيب بأن شرط الصحبة أن يراه في عالم الدنيا قبل موته، وبأن من لم يبلغ درجة الولاية يراه قرب موته عند الاحتضار، ورؤيته في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 اليقظة نصّ جمع من الأئمة على إمكانها ووقوعها، وقيل المرثىّ مثاله لا حقيقة جسده الشريف. ثم اعلم أن الرائين للنبى صلّى الله عليه وسلّم مختلفون في الدنوّ منه والبعد؛ فمنهم من يدنو منه حتّى لا يبقى بينه وبينه حجاب، ومنهم من يراه على بعد بعد رفع الحجاب رفعا غير تام، وهذا الدنوّ معنّوى لا حسّى، بحيث إن النبى صلّى الله عليه وسلّم ينتقل إلى الرائى بأن يجىء إليه راجلا أو راكبا أو نحو ذلك؛ إذ لا دليل عليه. انتهى. وقد رفع سؤالّ للعلامة كمال الدين بن أبى شريف صورته: «رؤيا النبى صلّى الله عليه وسلّم فى النوم هل هى صحيحة؟ ولو كانت على أى خال من الأحوال، حتى لو رؤى على لون أسمر أو رؤى بلا لحية أو نحو ذلك؟ أم كيف الحال؟ وهل يشترط لصحة الرؤيا شىء أم لا؟ وما معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم «من رانى فقد رانى حقا فإن الشيطان لا يتمثل بى» «1» أو كما قال؟ وما حكم الله في ذلك؟. فأجاب رحمه الله بأن قوله صلّى الله عليه وسلّم «من رانى في المنام فقد رانى حقا فإن الشيطان لا يتمثل بى» ورد في الصحيحين وغيرهما من رواية غير واحد «2» من الصحابة، بألفاظ المعنى، ويتعلق البحث فيه بقوله صلّى الله عليه وسلّم «من رانى في المنام» هل هو قاض بمن راه صلّى الله عليه وسلّم بحليته وصفته؟ أو هو كمن راه على أى صفة راه؟ ويقول صلّى الله عليه وسلّم «فقد رانى» هل هو على ظاهره؟ بمعنى فقد رأى ذاتى حقيقة، أو هو مؤوّل؟ فذهب جمع منهم ابن سيرين إمام أهل التعبير إلى اختصاصه بمن راه صلّى الله عليه وسلّم على صفته. ثم من هؤلاء من ضيّق فقال على صفته التى توفى عليها، حتى راعى عدد الشعرات البيض في رأسه ولحيته صلّى الله عليه وسلّم. ومنهم من اكتفى بما تصدق عليه صفته صلّى الله عليه وسلّم في وقت من أوقاته، كحال شبابه، أو رجولته، أو كهولته، أو ما بعد ذلك؛ فهؤلاء يشترط عندهم في رؤياه صلّى الله عليه وسلّم أن يرى على   (1) وفي رواية للترمزى «من رانى فإني أنا هو؛ فإنه ليس للشيطان أن يتمثل بى» . (2) أى أكثر من واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 صفته، على اختلاف قولهم في المراد بالصفة، وذهب اخرون منهم القاضى أبو بكر الباقلانى إلى أنه لا يختص بذلك، وإلى أن المعنى في قوله: «فقد رانى» على التأويل، فقال القاضى أبو بكر المذكور كما نقله عنه الماوردى وغيره: يعنى «فقد رانى» فرؤياه حق ليست أضغاث أحلام، ولا من شبهات الشيطان بل مما له تعبير صحيح، أى وليس المعنى أنه رأى ذاته حقيقة، قال: فقد يراه الرائى على خلاف صفته المعروفة، كمن راه أبيض اللحية، وقد يراه شخصان في زمن واحد في مكانين مختلفين، فيراه أحدهما بمنزله، وهو بالمشرق، والاخر بمنزله وهو بالمغرب، وعلى هذا التأويل مشى الغزالي أيضا، فقال: ليس معناه: فقد رأى جسمى وبدنى، قال: بل المرئىّ مثال حقيقة روحه المقدسة التى هى محمل النبوة، لا نفس روحه ولا شخصه. وذهب طائفة إلى أن الحديث على ظاهره من أن المرئى حقيقة ذاته، إذ لا مانع من ذلك، والعقل لا يحيله «1» ليحتاج إلى تأويله؛ إذ الرؤية أمر يخلقه الله تعالى في الحىّ، ولا يتوقف على مقابلة، ولا تحديق بصر، ولا كون المرئى ظاهرا، بل الشرط كونه موجودا فقط، وقد دلت الأحاديث الصحيحة على بقاء جسمه الشريف، وأنه لا يبلى؛ ففى حديث أوس بن أوس عند أبى داود والنسائى، وغيرهما أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله حرّم على الأرض أجساد الأنبياء» ، وعند أبى داود من حديث أبى هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من أحد يسلم عليّ إلّا ردّ الله علىّ روحى حتّى أردّ عليه السلام» . وقد نصر القرطبىّ مذهب القاضى الباقلانى، وشنّع على القول برؤية الذات الشريفة حقيقة بأنه يلزم عليه أمور منها: أنه لا يراه أحد على غير صفته التى مات عليها، وألايراه رائيان في ان واحد في مكانين متباعدين، مع أن ذلك واقع لا مانع منه عقلا ولا عادة، وقد أجيب من طرف القاتل عن ؤيته على غير صفته وفي مكانين مختلفين بأن ذلك من غلط الرائى، وأن كلا من الصفة   (1) أى لا يراه مستحيلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 والمكان متخيّل غير مرئى، وذلك التخيل بحسب حال الرائى، يستدل به على التعبير بالنسبة إليه. وقد نصر النووى في شرح مسلم القول بأن الرؤية للذات حقيقة، وحكى مذهب القاضى أبى بكر الباقلانى أولا، ثم حكى مذهب القائل بأن الرؤية للذات غلى ظاهرها، ثم حكى عن القاضى عياض أنه يحتمل أن يكون معنى الحديث إذا راه على صفته المعروفة له في حياته، فإن رؤى على خلافها كانت رؤيا تأويل لا رؤيا حقيقة، ثم قال النووى: وهذا الذى قاله القاضى ضعيف، بل الصحيح أنه يراه حقيقة، ثم قال النووى: سواء على صفته المعروفة أو غيرها، كما ذكره البارزى، انتهى كلام النووى. وقد تعقّبه العلامة ابن حجر في «فتح البارى» بأن الذى قاله القاضى توسّط حسن يمكن الجمع بينه وبين ما قاله البارزى، بأن تكون رؤياه على الحالين حقيقة، لكن إذا كانت على غير صورته كان النقص؛ لتخيله الصفة على غير ما هى عليه، ويحتاج ما يراه في ذلك المنام إلى التعبير. أهـ. * وبمناسبة ليلة الإسراء وليلة القدر ونحوهما، ذكر العلماء اختلافا في التفضيل بين الليل والنهار، وممن ذهب إلى تفضيل الليل «النيسابورى» لوجوه: أحدها أن الليل راحة والنهار تعب، وأيضا فالليل حظ الفراش والنهار حظ المعاش، ولأن الله تعالى سمّى ليلة القدر خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وليس في الأيام مثلها. وقيل: النهار أفضل لأنه نور نافع للمعاد والمعاش. قال الحافظ السيوطى رحمه الله: وقد وقفت على تأليف في التفضيل بين الليل والنهار لأبى الحسين بن فارس اللغوى صاحب المجمل، فذكر فيه وجوها فى تفضيل هذا ووجوها في تفضيل هذا، فمما ذكره في تفضيل الليل: أن الله تعالى ذكر فيه سورة مسماة بسورة الليل، ولم ينزل في النهار سورة تسمى بسورة النهار، وأن الله تعالى قدّم ذكره على النهار في أكثر الايات، كقوله وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: 1، 2] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 آيَتَيْنِ [الإسراء: 12] هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس: 67] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً [القصص: 71] ، وأن الله خلقه قبل النهار، وأن ليالى الشهر سابقة على أيامه وأن في الليالى ليلة خيرا من ألف شهر، وليس في الأيام مثلها، وأن في كل ليلة إجابة وليس ذلك في النهار إلا في يوم الجمعة خاصة، وأنه وقت الخلوة والاختصاص عرفا، فإن بين جليس الملك نهارا وجليسه ليلا فرقا واضحا، وأن النهار فيه أوقات تكره فيها الصلاة» «1» وليس في شىء من ساعات الليل وقت كراهة، والصلاة من أشرف العبادات، وأن فيه التهجد والاستغفار بالأسحار، وهما أفضل من صلاة النهار واستغفاره، وأنه أصحّ لتلاوة الذكر، قال الله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] وقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ [الزمر: 9] . وأن الإسراء وقع بالليل، قال الله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] ، وقال الله تعالى: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشمس: 3، 4] . وقال أهل العلم: فى الليل تنقطع الأشغال، وتجمّ الأذهان، ويصحّ النظر، وتؤلّف الحكم، وتدرّ الخواطر، ويتّسع مجال القلب. ومؤلفو الكتب يختارونه على النهار؛ لأن القلب بالنهار طائر وبالليل ساكن، وكذلك مدبر والملوك، وقديما كان يقال: الليل نهار الأريب. وقال القائل: ولم أر مثل الليل جنّة «2» فاتك ... إذا همّ أمضى «3» ، أو غنيمة ناسك وعارضه صاحب النهار بأن الله قدّم ذكره في قوله وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (3)   (1) أوقات كراهة الصلاة عند طلوع الشمس، وبعد العصر إلى المغرب. (2) ستر ووقاية. (3) إذا عزم على خطة أنفذها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشمس: 3، 4] وبأن التقديم لا يدل على فضيلة، فقد قدّم الله الموت على الحياة، والجنّ على الإنس، والأعمى والأصمّ على البصير والسميع، فى قوله: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك: 2] ، وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] ، مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ [هود: 24] ، والمتأخر مما ذكر أفضل من المتقدم قطعا، وبأن النور قبل الظلمة، قال الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] ، وبأن الناس والشعراء ما زالوا يذمّون الليل ويشكونه كقول امرئ القيس: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علىّ بأنواع الهموم ليبتلى فقلت له لما تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل فيا لك من ليل كانّ نجومه ... بكلّ مغار الفتل شدّت بيذبل وقد استعاذوا بالله من الأبهمين، ويقال الأعميين: السيل والليل. وبالليل تدبّ الهوام وتثور السباع وتنتشر اللصوص وتشن الغارات وترتكب المعاصى، ولذلك قيل «الليل أخفى للويل» . وقد قال صلّى الله عليه وسلّم «أقلّوا الخروج إذا هدأت الرّجل؛ فإن لله دوابّ ينشرها «1» وقد شبه الله تعالى به وجوه أعدائه، فقال كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً [يونس: 27] ، وكان الحسن يقول: ما خلق الله خلقا أشد سوادا من الليل. وقال تعالى: وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ [الفلق: 3] . قيل: هو الليل إذا أظلم وتقول العرب للمكثار: حاطب ليل؛ لما يخشى عليه من نهش الهوام. ونهى النبى صلّى الله عليه وسلّم عن صوم الليل، وأمر بغلق الأبواب وكفّ الصبيان بالليل.   (1) رواه أحمد، وأبو داود، والنسائى عن جابر، وبلفظه: «أقلوا الخروج بعد هدأة الرجل؛ فإن لله دواب يبثهن في الأرض في تلك الساعة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وافتخرت العرب بالأيام دون الليالى، فقالوا «يوم ذى قار» ويوم كذا. والأسبوع أيامه مسمّاة دون الليل، وإنما تذكر بالإضافة إلى الأيام، فيقال: ليلة الأحد، وليلة كذا، وليس المضاف كالمضاف إليه. والأيام النبيهة أكثر من الليالى كيوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم عاشوراء، والأيام المعلومات، والمعدودات، وليس في الليل إلا ليلة القدر، وليلة نصف شعبان. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم بارك لأمتى في بكورها» «1» ولم يقل ذلك في شىء من الليالى. هذا ما ذكره الحافظ السيوطى ببعض رسائله. * وأما أفضلية ليلة الإسراء على ليلة القدر فقد قال أبو أمامة بن النقاش رحمه الله: «إن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر في حق النبى صلّى الله عليه وسلّم، وليلة القدر أفضل في حق الأمة لأنها لهم خير من عمل أكثر من ثمانين سنة ممن كان قبلهم، وأما ليلة الإسراء فلم يأت في أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف» ، والمأخوذ من كلام البلقينى رحمه الله أن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، ولعل الحكمة في ذلك كما قاله في «الاصطفاء» «2» اشتمالها على رؤيته سبحانه التى هى أفضل من كل شىء، ولذا لم يجعلها ثوابا من عمل من الأعمال مطلقا، بل منّ بها على عباده المؤمنين يوم القيامة تفضلا منه تعالى، وهذا مما يؤيد القول بتفضيل الليل على النهار، وظواهر كلامهم أن الخلاف بين الليلة المعينة التى أسرى فيها بالنبى صلّى الله عليه وسلّم، وبين ليلة القدر التى أنزل فيها القران. وأما الليلة المعينة التى أسرى به صلّى الله عليه وسلّم فيها وليلة القدر في كل عام فينبغى أن يكون فيها قول أبى أمامة بن النقاش السابق، وأما نظائر الليلة المعينة في كل عام فلا شك في أن ليلة القدر أفضل منها، كما لا يخفى، وبالجملة فما أحسن قول ابن الفارض: وخير الليالى ليلة القدر إن دنت ... كما أنّ أيام اللقا يوم جمعة   (1) رواه الإمام أحمد والأربعة، وابن حيان عن صخر الغامدى. (2) اسم كتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فالأزمان متكافئة في حدّ ذاتها، والفضل إنما هو بالخصوصيات المنسوبة إليها؛ فقد ذهب العز بن عبد السلام إلى أن التفضيل إنما هو بين العقلاء، ولا يجرى في غيرهم من الأماكن والأزمان إلا باعتبار ما يقع فيها من الأعمال والعبادات، لا في ذواتها. ومذهب غيره أن التفضيل يكون بالذات: كتفضيل العلم على الظن، وبالصفة: كتفضيل القادر على العاجز، وبالطاعة: كتفضيل الولىّ عى غيره من المؤمنين، وبالثواب: كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود، وبما حل فيه: كتفضيل مزاره صلّى الله عليه وسلّم على سائر البقاع، وبالإضافة: كبيت الله، وحزب الله، وبالانتساب: كزوجاته صلّى الله عليه وسلّم وزريته، وبالثمرة والجدوى: كتفضيل الرسالة على النبوة، وبتفاوت الثمرة وتحققها: كما في العلوم المدوّنة، وبما يفيضه الله تعالى على الأماكن والأزمان بفيضه وكرمه: كاختصاص عرفة بالوقوف. فلا عبرة بمذهب من سوّى بين الأعيان والأزمان والأماكن، وزعم أنه لا مزية لشىء، وإنما هو مجرد ترجيح بلا مرجّح؛ فإن قوله باطل، ويكفى في فساده أنه يقتضى أنّ ذوات الرسل كذوات أعدائهم، وأن البيت الحرام كغيره من البيوت، والحجر الأسود كغيره من الأحجار من غير فرق، ولا قائل بذلك، بل التفضيل له معان وأسباب، ومن هذا يعلم أيضا أن التفضيل بين العقلاء ليس بكثرة الثواب والعمل فقط، وهو الحق، فالتفضيل للأنبياء بقرب المنزلة من الله وعلوّ المرتبة وكثرة الخصائص والمعجزات، كخاصة الإسراء لنبينا صلّى الله عليه وسلّم وإضافته إليه في قوله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ قال أبو سلمان القاسم الأنصاري: لما وصل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعارج، أوحى الله إليه: بم أشرّفك؟ فقال: يا رب بنسبتى إلى نفسك بالعبودية، فأنزل الله تعالى فيه سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ولذلك قيل: يا قوم قلبى عند أسماء ... يعرفه السامع والرائى لا تدعنى إلّا بيا عبدها ... فإنّه اشرف أسمائى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقال الشيخ أحمد الغزالى: وهان عليّ اللوم في حبّ حبّها ... وقول الأعادى: إنه لخليع أصمّ إذا نوديت باسمى، وإنّنى ... إذا قيل لى يا عبدها لسميع وقال القاضى عياض: ومما زادنى شرفّا وتيها ... وكدت بأخمصى أطأ الثريا دخولى تحت قولك «يا عبادى» ... وأن صيّرت أحمد لى نبيّا وقال اخر وكنت قديما أطلب الوصل منهم ... فلمّا أتانى العلم وارتفع الجهل تيقنت أنّ العبد لا طلبا له ... فإن وصلوا فضل وإن هجروا عدل وإن أحسنوا لم يحسنوا غير وصفهم ... وإن بخلوا فالبخل من أجلهم يحلو ثم أقام عليه الصلاة والسلام بعد الإسراء بمكة على الأذى صابرا، وعلى نصح الأمة مثابرا، يوافى موسم الحج فيعرض نفسه الشريفة حتّى بايعه بمنى الأنصار، على أن يؤوه إذا أتاهم، وينصروه على الكفار. ثم أذن له في الهجرة إلى المدينة، ثم في القتال، فقابل ذلك بالقبول والامتثال، وأقام بالمدينة عشر سنين كوامل، وفيها أنزل بقية القران، وشرع غالب الأحكام التى بهرت الأواخر والأوائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الباب الثالث فى هجرته صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وما ترتب على ذلك من المظاهر الإسلامية والظواهر التعليمية. وفيه فصول الفصل الأوّل فى الأسباب الباعثة علي هذه الهجرة والتمهيد لها قد أخفى صلّى الله عليه وسلّم رسالته ثلاث سنين، كما تقدم في الفصل الأوّل من الباب الثاني، ثم أعلن بها في الرابعة، ودعا إلى الإسلام عشر سنين، يوافى الموسم كل عام يتبع الحجاج في منازلهم بمنى والموقف، ويسأل عن القبائل قبيلة قبيلة، ويسأل عن منازلهم، ويأتى إليهم في أسواق المواسم، وهى: عكاظ، ومجنة، وذو المجاز. وقد تقدم الكلام على سوق عكاظ في الفصل الثالث من الباب الثانى من المقالة الرابعة من الجزء الأوّل، وأن العرب كانت إذا حجّت تقيم بعكاظ شهر شوال، ثم تجيء إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما من ذى القعدة، ثم تجيء سوق ذى المجاز فتقيم به إلى أيام الحج. وكان صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى أن يمنعوه ويناصروه حتّى يبلّغ رسالة ربه، فكان يقول بمني: يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وكان وراءه أبو لهب يقول: يا أيها الناس إن هذا يأمركم أن تتركوا دين ابائكم. وقد عرض على بنى حنيفة، وبنى عامر بن صعصعة المبايعة، فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال: الأمر إلى الله يضعه حيث شاء، فقال له ذلك الرجل: أنقاتل العرب دونك، فإذا أظفرك الله كان الأمر لغيرنا!! لا حاجة لنا بأمرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وأبوا عليه. فلما رجعت بنو عامر إلى منازلهم، وكان فيهم شيخ أدركه السن، حتى لا يقدر أن يوافى معهم الموسم، فقدموا عليه، سألهم عمّا كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، أحد بن عبد المطلب، يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج إلى بلادنا. فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال: يا بنى عامر، هل لها من تلاف؟ هل لها من مطّلب؟ والذى نفسى بيده ما يدّعى النبوة كاذبا أحد من بنى إسماعيل قط، وإنها لحق، وإن رأيكم غاب عنكم. وقد بشّر بظهوره وهجرته [من ملوك حمير الملك الحارث الرايش أبو التبابعة فى أبيات يقول فيها: أنا الملك المتوّج ذو العطايا ... جلبت الخيل من أوطان شام لنوطنها البلاد إلى بلاد ... تداولها الملوك من ال رام لأنّا الأغلبون إذا بطشنا ... وأنّا المنقمون لكل دام وأنّا يوم نغضب أو نسامي ... تكاد الأرض ترجف بالأنام ولن ترضى تقرّ بمن عليها ... ويشرق وجهها بعد الظلام وفينا الملك والأملاك منّا ... ونحن الأكرمون بنو الكرام أبونا يعرب، وبه نسامي ... فنقهر من يفاخر أو يسامي فإن أهلك فقد أمّلت ملكا ... لكم يبقى إلى وقت التّهامي «1» ويملك بعدنا منّا ملوك ... يديمون الأنام بغير دام ويخرج بعدهم رجل عظيم ... نبيّ لا يرخّص في الحرام يفارق أهله، وله كتاب ... يوافق خطّه رجع الكلام «2» وأحمد اسمه، يا ليت أنّي ... أؤخّر بعد مخرجه بعام ويخلف بعده خلفاء برّ ... وتملك بعده أولاد عام   (1) هو النبى صلّى الله عليه وسلّم، نسبة إلى تهامة بكسر التاء. وفي المراصد: «تهامة تساير البحر، ومنها مكة» وأصل البلاد: تهامة، والحجاز، ونجد، وإنما سمي الحجاز حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد. (2) الرجع: الصدي، والترجيع: الترديد في الحلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 [قوله أولاد عام: أي أولاد عامر، وهو سبأ الأكبر] فبينما كان صلّى الله عليه وسلّم في بعض المواسم، عند عقبة الجمرة سنة إحدى عشرة من النبوة، إذ لقى رهطا من الخزرج، وكانوا ستة، وقيل ثمانية، اراد الله بهم خيرا، فقال لهم: من أنتم؟ فقالوا: نفر من الخزرج، قال: أفمن موالى يهود «1» ؟ قالوا: لا، قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلي. فجلسوا معه صلّى الله عليه وسلّم، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام، ورأوا أمارات الصدق عليه صلّى الله عليه وسلّم، فقال بعضهم لبعض: والله إنه للنبى الذى يوعدكم به يهود، فلا يسبقنّكم إليه. فأجابوه وصدّقوه وأسلموا، وقالوا له: إنّا تركنا قومنا الأوس والخزرج بينهم من العدواة والشر ما بينهم، فإنّ الله يجمعهم عليك، فلا رجل أعز منك. وكان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم، فوقعت بينهما العداوة، وتطاولت بينهم الحروب، فمكثوا على المحاربة والمقاتلة نحو عشرين ومائة سنة «2» . ولما آمنوا به صلّى الله عليه وسلّم وصدّقوه، قالوا: إنا نشير عليك أن تمكث على حالك بسم الله حتي نرجع إلي قومنا، فنذكر لهم شأنك وندعوهم إلى الله عز وجل ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولعل الله يصلح ذات بينهم، ونواعدك الموسم من العام المقبل. فرضى بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ويسمّى هذا ابتداء إسلام الأنصار؛ فإنهم أجابوه وانصرفوا راجعين إلى بلدهم من غير مبايعة، ويقال: «هم أهل العقبة «3» الأولي» فلما كان العام المقبل قدم من الأوس والخزرج اثنا عشر رجلا، فاجتمعوا به صلّى الله عليه وسلّم عند العقبة أيضا، منهم خمسة من أهل العقبة الأولى، فبايعهم وعاهداهم، وهذه المبايعة في   (1) أى من الموالين لهم. (2) فى الأصل: «مائة وعشرين سنة» وهو خطأ فجعلناها هكذا؛ لأن الأعداد لا تنطق بالعربية إلا هكذا: أي من اليمين إلي اليسار- جعلنا الله من أصحاب اليمين بفضله ومنّه وكرمه. (3) العقبة: منزل في طريق مكة: بعد واقصة وقبل لمن القاع لمن يريد مكة، وهو ماء لبنى عكرمة، من بكر بن وائل. اهـ. مراصد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الحقيقة يقال لها: العقبة الأولي، وإن كانت هي الثانية، فلما انصرفوا راجعين إلي بلادهم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم ابن أم مكتوم، وهو ابن خال خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضى الله عنها، وكذلك بعث مصعب بن عمير رضى الله تعالى عنه، يعلّمان من أسلم منهم القران، ومن أراد أن يسلم الإسلام، ويفقّهانهم في الدين، ويدعوان من لم يسلم منهم إلى الإسلام، وكان مصعب يؤمّ الأوس والخزرج، وجمّع بهم أوّل جمعة جمعت في الإسلام حين بلغ المسلمون منهم أربعين رجلا، بإرساله صلّى الله عليه وسلّم إليه بالتجميع قبل قدومه صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وتسمية الأنصار إياها بيوم الجمعة لاجتماعهم فيه، هداية من الله تعالى، وإلا فكانت تسمى في الجاهلية يوم العروبة، أي الرحمة، ولم يجمّع صلّى الله عليه وسلّم بمكة، مع فرض الجمعة وهو بها؛ لعدم التمكن من فعلها هناك، ولم يأمر بها مصعبا عند إرساله إلى المدينة لعدم وجود شرطها من العدد المذكور حينئذ. وفشا الإسلام بالأنصار، وأسلم سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج. وفي سنة اثنتى عشرة من النبوة أسرى بالنبى صلّى الله عليه وسلّم، وقيل سنة إحدى عشرة من النبوة كما سبق. وهناك عقبة ثالثة، وهو: أنه خرج جماعة من الأنصار المسلمين إلي الموسم مع حجاج قومهم غير المسلمين، حتي إذا قدموا على مكة فواعدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العقبة من أوسط أيام التشريق «1» ، فلما مضى ثلث الليل اجتمعوا في الشّعب، وهم ثلاثة وتسعون رجلا وامرأتان: أمّ عمارة إحدى بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدي، فجاءهم النبى صلّى الله عليه وسلّم ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو علي دين قومه، إلا أنه أحب أن يظهر على أمر ابن أخيه ويتوثّق به، فلما جلس كان أوّل متكلم، فقال: «يا معشر الخزرج، إن محمدا منّا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا، فمن هو علي مثل ما رأينا فيه فهو في عزّ قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبي الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحمّلتم من ذلك، وإن كنتم ترون   (1) أيام التشريق هى ثلاثة أيام بعد يوم النحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 أنكم مسلّموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الان فدعوه؛ فإنه في عز ومنعة في قومه وبلده. فقالوا: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. فتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القران، ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام، ثم قال: «أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم» . فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: والذى بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا «1» ، فبايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال بعضهم: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا «2» ، وإنّا قاطعوها (يعنى اليهود) ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلي قومك وتدعنا؟. فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «بل الدم الدم والهدم الهدم «3» أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتمم وأسالم من سالمتم، أخرجوا إليّ منكم اثنى عشر نقيبا، يكونون علي قومهم بما فيهم» ، فأخرجوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، وانتهت البيعة في العقبة. فهذه بيعة العقبة الثالثة التى هى في الحقيقة بيعة ثانية؛ لأن الأولى لم تكن بيعة كما تقدم، ولعل من عدّ البيعات ثلاثا اعتبر أن العقبة الأولى التي اجتمع فيها الخمسة من الخزرج كانت بيعة سكوتية؛ لأنها كالبيعتين الأخيرتين، لم يصدر مما حصل فيها مخالفة حيث إن أهل الأولى عادوا في العقبة الثانية وبايعوا مع من حضر معهم من الأنصار علي نصرته صلّى الله عليه وسلّم على عدوه والإيمان بما جاء به، وهذا من أعظم درجات الإيمان، فبهذا استحق أهل العقبة الأولى الستة فضل المبايعة، وعدّت مبايعة العقبات ثلاثا. قيل: أحسن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ظنّهم بالله، وبايعوا نبيهم صلّى الله عليه وسلّم علي   (1) أزر: جمع مفرده إزار والإزار: ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن. (2) أى علائق وعهود. (3) قوله الهدم، يروى بسكون الدال وفتحها، فالهدم بالتحريك: القبر، يعني أنى أقبر حيث تقبرون، وقيل هو: المنزل، أى منزلكم منزلي، والهدم بالسكون وبالفتح أيضا هو: إهدار دم القتيل، يعنى إن طلب دمكم فقد طلب دمي، وإن أهدر دمكم فقد أهدر دمى؛ لاستحكام الألفة بيننا، كما يؤخذ من النهاية (اهـ. هامش الطهطاوى] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الموت، فعوجلوا بالأمن والسلامة من الفوت، ولهذا قيل: ليس في خصال الخير وإن جلّت، ولا في أنواع البر وإن عظمت أعلى من حسن الظن بالله تعالى. الهجرة إلى المدينة: * ولما تمّ أمر البيعة بين النبى صلّى الله عليه وسلّم وبين أهل المدينة، وبقى أصحابه في ضنك من إيذاء المشركين، شكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم استأذنوه في الهجرة، فمكث أياما وخرج إلى أصحابه وهو مسرور، وقال: قد أخبرت بدار هجرتكم، ألا وهو يثرب، فمن أراد منكم الخروج فليخرج. فصار القوم يتجهزون ويترافقون، ثم صاروا يرحلون من مكة أرسالا (أى قطائع) سرا، إلا عمر بن الخطاب، فإنه أعلن بالهجرة ولم يمنعه أحد من المشركين ولا قصده بسوء. فلما قدموا المدينة أنزلهم الأنصار في دورهم وواسوهم، ولم يبق بمكة إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعلي رضى الله عنهما، وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذنه في الخروج، فيقول له: «لا تعجل؛ لعل الله أن يجعل لك صاحبا» ، فرجا أبو بكر أن يكون ذلك الصاحب، وترصّد رفاقته وانتظر صحبته صلّى الله عليه وسلّم. وورد في حق أبى بكر حديث عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رحم الله أبا بكر، زوّجنى ابنته، وحملنى إلى دار الهجرة، وصحبنى في الغار، وأعتق بلالا من ماله، وما نفعنى مال في الإسلام ما نفعنى مال أبى بكر» «1» . ولما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام إظهارا كليّا.   (1) والحديث بتمامه: «رحم الله أبا بكر: زوّجنى ابنته، وحملنى إلي دار الهجرة، وأعتق بلالا من ماله، وما نفعنى مال في الإسلام ما نفعنى مال أبى بكر. رحم الله عمر: يقول الحق وإن كان مرّا، لقد تركه الحق وما له من صديق، رحم الله عثمان تستحييه الملائكة، وجهّز جيش العسرة، وزاد في مسجدنا حتّى وسعنا. رحم الله عليّا: اللهم أدر الحق معه حيث دار» . (رواه الترمذى عن على) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 [التامر على الرسول صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة] : ثم لما رأت قريش أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد صارت له شيع وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج شيعته وأصحابه «1» من المهاجرين إليهم تحدّوا خروجه صلّى الله عليه وسلّم، فاجتمعت قريش في دار الندوة للمشاورة في إخراجه أو حبسه أو قتله، وهي دار قصى بن كلاب، وهو أوّل من بناها، وكانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها، ومنعوا الناس من الدخول إليهم، لئلا يدخل أحد من بنى هاشم، فيطّلع علي حالهم، فلما قعدوا للتشاور تزيّا* لهم إبليس بصورة شيخ نجدى متطيلس» «2» فوقف علي الباب، فلمّا رأوه قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا منى رأيا ونصحا قالوا: ادخل. فدخل، وكان قد اجتمع فيها أشراف قريش من كل قبيلة. فزعم ابن دريد في «الوشاح» «3» أنهم كانوا خمسة عشر رجلا، وقال ابن دحية فى «مولده» : إنهم كانوا مائة رجل. ثم شرعوا في الكلام فقال بعضهم: إن هذا الرجل- يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم- قد كان من أمره ما كان، وإنّا لا نأمن منه الوثوب علينا بمن اتبعه، فأجمعوا فيه رأيا، فقال بعضهم: رأيى أن تحبسوه في بيت وتشدّوا وثاقه، وتسدّوا بابه، غير كوّة تلقون إليه طعامه وشرابه منها وتربصوا به ريب المنون حتي يهلك فيه، كما هلك من الشعراء من كان قبله، كزهير والنابغة. فصرخ الشيخ النجدى (عدو الله ورسوله) فقال: بئس الرأي؛ والله لو حبستموه لخرج أمره من وراء الباب إلى أصحابه فوثبوا وانتزعوه من أيديكم،   (1) فى الأصل: «شيعة أصحابه» وبهذا يكون المعنى أصحاب أصحابه، وهو غير مستقيم المعنى، فأصلحناه إلى ما تري. (2) متطيلس: أي يلبس طيلسانا وهو ضرب من الأوشحة يحيط بالبدن أو يلبس على الكتف، خال من التفصيل والحياكة. (3) من كتب ابن دريد المفقودة. راجع كتاب ابن دريد حياته وتراثه، للدكتور السنوسى نشر مكتبة الاداب ص 122- 131. * أى ظهر لهم في زى شيخ نجدى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 قالوا: صدق الشيخ، وقال بعضهم: رأيي أن تحملوه علي جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضرّكم ما صنع، واسترحتم. فقال الشيخ: والله ما هذا لكم برأي؛ ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال مما يأتى به، فو الله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حى من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتّى يبايعوه، ثم يسير بهم حتّى يطأكم بهم. فقالوا: صدق الشيخ، فقال أبو جهل: أرى أن يعطى خمسة رجال من خمس قبائل سيفا فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في هذه البطون، فلا يقدر بنو هاشم على حرب قومهم جميعا، فصوّب الشيخ النجدى قول أبى جهل. فتفرقوا على رأيه مجمعين على قتله، فأخبر جبريل بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان مما أنزل عليه في ذلك اليوم وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الاية 3 سورة الأنفال] وقوله عز وجل أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الاية 30 سورة الطور] . * ولما استقر رأي قريش بعد المشاورة على قتله صلّى الله عليه وسلّم، أتاه جبريل وأخبره بذلك، وقال: لا تبت هذه الليلة علي فراشك الذى كنت تبيت عليه، وقال له: إن الله يأمرك بالهجرة إلى المدينة، ثم سأل جبريل عمّن يهاجر معه، قال: «أبو بكر الصدّيق» ، فمن ذلك سمّاه الله صديقا، وقد سبق أن سبب تسميته صدّيقا في المعراج بقوله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صدقت في كل ما تخبر به» ، فلعل هذا سببا ثانيا لتأكيد التسمية بالصدّيق وتحقيقها. فلما كان الليل اجتمعوا علي بابه يرصدونه حتي ينام، فيثبوا، أى ينهضوا ويقوموا عليه، وهو إذ ذاك داخل الدار، فأمر عليه الصلاة والسلام عليا فنام مكانه، وغطّى ببرد أخضر، وكان أول من شرى نفسه، ونزل فيه قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [الاية: 207 سورة البقرة] . وذكر الغزالى في «الإحياء» بأن الله تعالى أمر جبريل وميكائيل أن يهبطا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الأرض ويحفظاه من عدوه، فنزلا، فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه. وأنشد علي بن أبى طالب رضى الله عنه قصة مبيته على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: وقيت بنفسى خير من وطئ الثرى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجّاه ذو الطّول الإله من المكر وبات رسول الله في الغار امنا ... موقّى وفي حفظ الإله وفي ستر وبتّ أراعيهم وما يثبتوننى ... وقد وطّنت نفسى عن القتل والأسر وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرصدوا له، وقد أخذ الله على أبصارهم، فلم يره أحد، ونثر عيي رؤسهم كلهم ترابا في يده وهو يتلو يس إلى قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: 9] كما قيل: وقريش إذ عزم الرحيل مهاجرا ... ملأوا المسالك راصدا ومشاجرا فمضى لحاجته ولم ير حاجرا ... والقوم يقظى والبصائر نوّم نثر التراب علي رؤوس الحسّد ... وسري وقد وقفوا له بالمرصد قولوا لأعمى العين مغلول اليد ... أنف الشّقي ببعض أحمد مرغم ثم انصرف حيث أراد، فأتاهم ات ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون هنا؟ قالوا: محمدا، قال: قد خيّبكم الله، والله قد خرج محمد عليكم ما ترك منكم رجلا إلا وضع عليه ترابا وانطلق لحاجته، فما ترون ما بكم!» فوضع كل رجل يده علي رأسه فإذا عليه تراب. فقال أبو بكر: الصحبة بأبى أنت وأمى يا رسول الله. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 نعم. فجهزت أسماء بنت أبى بكر وال أبى بكر «1» جهاز السفر أحسن جهاز، وصنعن لهم «2» سفرة (أى زادا في جراب) ، وكان في السفرة أى في الزاد شاة مطبوخة، فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت به فم الجراب المشتمل علي الزاد، وأبقت الاخرى نطاقا لها، فبذلك سميت ذات النطاقين، كما روى في صحيح مسلم عن أسماء بنت أبى بكر الصدّيق زوّج الزبير بن العوام من كبار الصحابة، روي عنها ابناها عبد الله وعروة وجماعة، أسلمت قديما بمكة وهاجرت إلي المدينة، وتوفيت بمكة بعد ابنها عبد الله بيسير سنة ثلاث أو أربع وسبعين، وقد جاوزت المائة. ويروى أنها قالت للحجّاج: بلغنى أنك تعيّر ابنى عبد الله بن الزبير بابن ذات النطاقين! أنا والله ذات النطاقين؛ أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطعام أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وأما الاخر فنطاق المرأة التى لا تستغنى عنه عند أشغالها. وفي حديث أم إسماعيل: «أول ما اتخذ الناس النّطق من قبل: أم اسماعيل اتخذت منطقا» المنطق: النطاق، وجمعه مناطق، وهو أن تلبس المرأة ثوبها، ثم تشدّ وسطها بشئ وترفع وسط ثوبها وترسله علي الأسفل عند معاناة الأشغال؛ لئلا تعثر في ذيلها، ومنه سميت أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنها «ذات النطاقين» ؛ لأنها كانت تطارق نطاقا فوق نطاق، وقيل: كان لها نطاقان تلبس أحدهما وتجعل في الاخر الزاد إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر وهما في الغار، وقيل: شقت نطاقها نصفين فاستعملت أحدهما وجعلت الاخر شدادا لزادهما.   (1) فى الأصل: «فجهز زوجات النبى صلّى الله عليه وسلّم وغيرهن جهاز السفر» وهو خطأ فاحش، إذ لم يكن للنبى صلّى الله عليه وسلّم زوجات في ذاك الوقت- فخديجة رضى الله عنها انتقلت إلي رضوان الله تبارك وتعالى قبل الهجرة بمدة، ولم يتزوج بأحد من زوجاته رضى الله عنهن إلا بعد الهجرة والاستقرار بالمدينة، ولعل هذا من التحريف المطبعى أو سبق قلم، وجلّ من لا يسهو سبحانه وتعالى. (2) لأنهم كانوا أربعة: سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسيدنا أبو بكر، وعامر بن فهيرة، مولى أبى بكر- وعبد الله بن أريقط. أما أبو بكر رضى الله عنه فكان صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حله وترحاله، وأما عامر بن فهيرة فكان راعى غنم يخرج بغنمه فيعفى اثارهما ليضلل المشركين، وأما عبد الله ابن أريقط فكان الدليل لهما في شعاب الجبال؛ لأنه كان يعرفها جيدا. وعن عائشة أنه لم يكن يعرف مكانهما في الغار إلا عبد الله بن أبى بكر وأسماء بنت أبى بكر وعامر بن فهيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة ووقف علي الحزورة «1» ونظر إلي بيت الله الحرام، وقال حين خروجه من أم القري: «والله إنك لأحبّ أرض الله إليّ وإنك خير بقعة علي وجه الأرض وأحبّها إلى الله تعالى، ولولا أهلك أخرجونى لما خرجت منك» «2» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن خير بلدة علي وجه الأرض وأحبّها إلى الله مكة» . وسميت أمّ القري «3» لأنها قبلة أهل الدنيا، فصارت هي كالأصل وسائر البلاد تبعا، وأيضا الناس يجتمعون إليها للحج والتجارة كما يجتمع الأولاد للأم، وقيل: لأن الكعبة أوّل بيت وضع للناس. وما أحسن ما قاله بعض الشعراء: لا تنكرنّ لأهل مكة قسوة ... والبيت فيهم والحطيم وزمزم اذوا رسول الله وهو نبيّهم ... حتى حمته أهل طيبة منهم خاف الإله على الذى قد جاءه ... سلبا فلا يأتيه إلّا محرم أى خاف الله أن يسلب أهل مكة القادم إلى الحرم، فصار يقصد مكة الناس بالإحرام. وأما حديث: «اللهم كما أخرجتنى من أحب البقاع إليّ، فأسكنّى أحبّ البقاع إليك» «4» فلم يصح عنه صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن مكة أفضل من غيرها بوجوه:   (1) الحزورة: ضبطها صاحب المراصد بسكون الزاى وفتح الواو: سوق كانت بمكة، ودخلت في المسجد الحرام لمّا زيد فيه. (2) وفي لفظ اخر «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» رواه الإمام مالك والترمذى وابن ماجه وابن حبان، والحاكم عن عبد الله بن عديّ ابن الحمراء. (3) سماها الله تعالى «أم القري» يي قوله تعالى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الاية: 92 الأنعام] . (4) التحقيق في هذا الحديث أنه صحيح. قال محب الدين الطبرى في كتابه «القرى لقاصد أم القرى» ص 677 ما نصه: « ... ثم اختلفوا في أيهما أفضل، فذهب عمر وبعض الصحابة إلى تفضيل المدينة، وهو قول مالك وأكثر المدنيين، وحملوا الاستثناء في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إلا المسجد الحرام على أن مسجدى يفضله» بدون الألف. وذهب أهل الكوفة إلى تفضيل مكة، وبه قال ابن وهب وابن حبيب من أصحاب مالك، وإليه-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 منها أنه تعالى أوجب قصدها للحج والعمرة الواجبين، وقصد المدينة سنّة، وإن فضّلت بإقامة النبى صلّى الله عليه وسلّم بعد النبوة فمكة أفضل؛ لأنه أقام بها ثلاث عشرة أو خمس عشرة، وبالمدينة عشرا، فإن فضّلت بكثرة الطارقين فمكة أفضل؛ لكثرة من طرقها من الأولياء والصالحين والأنبياء والمرسلين، فما من نبي إلا حجّها؛ وهى متبوّأ إبراهيم وإسماعيل، ومولد سيد المرسلين، وليست المدينة كذلك، وإن ذهب إلي تفضيلها علي مكة الإمام مالك. ولو صحّ الحديث السابق فهو مجاز لوصف المكان بما يقع فيه، كبلد امن، أو خائف، فوصف بأنه محبوب لما فيه مما يحبه الله من إقامة الرسول به إلي القيامة، وتكميل إرشاد الأمة والدين به، وأحسن من هذا أن يكون المعنى: كما أخرجتنى من أحب البقاع إليّ في أمر معاشى فأسكنّى الأحب إليك في أمر معادي، وهو ظاهر؛ فإنه لم يزل في زيادة من دينه وبلوغ أمره إلى إلي أن تكامل، وبشّر بذلك في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... [المائدة: 3] الاية. وسيأتى قريبا بيان ذلك على وجه أوضح.   - ذهب الشافعي. وزيادة أبى حاتم وغيره تردّ ما ذهبوا إليه من التأويل. وما احتجوا به من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أخرجتنى من أحب البقاع إليّ فأسكنّى في أحب البقاع إليك» محمول على أنه أراد أحب البقاع بعد مكة، بدليل حديث النسائى وابن حبان في فضل مكة، فإنه دلّ على أنه أحب أرض الله إلى الله، علي أن الحديث نفسه لا دلالة فيه؛ لأن قوله «فأسكنى في أحب البقاع» ، هذا السياق يدل في العرف على أن المراد به بعد مكة؛ فإن الإنسان لا يسأل ما أخرج منه، فإن قوله «أخرجتني» «فأسكنى» يدل على إرادة غير المخرج منه، وتكون مكة مسكوتا عنها في الحديث» اهـ. بحروفه. ونص حديث النسائى وابن حبان، وأخرجه الترمذى أيضا، «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» ولكن في «الفتح الكبير» ورد هذا الحديث بلفظ: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ، ولولا أنى أخرجت منك ما خرجت» رواه الإمام أحمد والترمذى وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن عدى ابن الحمراء. وكلا الحديثين وارد وصحيح. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الفصل الثانى فى سيره مهاجرا إلى المدينة مع صاحبه: صدّيقه رضى الله تعالى عنه وهو ابتداء التاريخ الإسلامى لما بايعت الأنصار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي ما ذكر، أمر أصحابه فهاجروا إلي المدينة، وبقي هو وأبو بكر وعليّ، فخرج هو وأبو بكر مستخفيين من قريش، فلما فقدت قريش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طلبوه بمكة، أعلاها وأسفلها، فلم يجدوه، فشقّ عليهم خروجه، وجعلوا مائة ناقة لمن يردّه. ولما خرج أبو بكر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متوجها إلي الغار جعل طورا يمشى أمامه وطورا يمشى خلفه، وطورا عن يمينه، وطورا عن شماله، فقال عليه الصلاة والسلام: ما هذا يا أبا بكر؟ فقال: يا رسول الله أذكر الرصد فأحب أن أكون أمامك، وأتخوّف الطلب فأحب أن أكون خلفك، وأحفظ الطريق يمينا وشمالا، فقال: لا بأس عليك يا أبا بكر؛ الله معنا. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير لابس شيئا في رجليه، فحفي*؛ لأنه لم يتعوّد الحفاء، فحمله أبو بكر رضى الله تعالى عنه على كاهله حتّى انتهي إلى الغار، فلما أراد النبى صلّى الله عليه وسلّم أن يدخل، قال أبو بكر: والذى بعثك بالحق نبيّا لا تدخله حتي أدخله فأسبره «1» قبلك. فدخل أبو بكر رضى الله عنه، فجعل يلتمس الغار بيده في ظلمة الليل مخافة أن يكون فيه شئ يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا لم ير فيه شيئا دخل صلّى الله عليه وسلّم الغار، وجعل رأسه في حجره «2» ونام، ورأى أبو بكر رضى الله عنه جحرا فألقمه عقبه، فلدغ أبو بكر رضى الله عنه في رجله، فلم يتحرّك، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ما هذا؟ قال له: لدغت، فتفل   * حفى: رقّت قدمه من كثرة المشى حافيا (المعجم الوسيط 193) . (1) السير: معرفة الغور، من قولك: سبر فلان الشئ أى عرف غوره، ومنه المسبار: مقياس الحرارة. والمقصود أنه يتعرف علي ما فيه خشية الأذي. (2) أى في حجر أبى بكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 عليه صلّى الله عليه وسلّم فذهب ما يجده. وباتا في الغار، وأمر الله العنكبوت فنسجت على فم الغار، وأمر حمامتين فعشّشتا وباضتا. وما أحسن ما قيل: وخافت عليك العنكبوت من العدا ... فأرخت بباب الغار مكرا بها سترا ووافقها في الذّبّ عنك حمائم ... أتين سراعا فابتنين به وكرا فلمّا أتي الكفّار طرن خديعة ... فحيّا الحيا «1» تلك الخديعة والمكرا وأقبل فتيان قريش بسهامهم وسيوفهم، ومعهم من يقصّ الأثر، حتي انتهى إلى الغار فقال لهم: إلي هنا انتهى أثره، فما أدرى بعد ذلك أصعد إلى السماء أم غاص في الأرض! فقال لهم قائل: ادخلوا الغار، فقال أميّة بن خلف: ما تنظرون إلى الغار، وإن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد؟ فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديثهم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ اعم بصرهم» فجعلوا يترددون حول الغار، لا يرون أحدا، ويقولون: لو دخلا هذا الغار تكسّر بيض الحمام وتفسّخ بيت العنكبوت. فعلما أن الله تعالى حمي حماها بالحمام، وصرف عنهما كيد الأعداء بالعنكبوت، ولقد حصل للعنكبوت الشرف بذلك. روى ابن وهب أنّ حمام مكة أظلت النبى صلّى الله عليه وسلّم يوم فتحها، فدعا لها بالبركة. ونهى عن قتل العنكبوت. وقال: «هى جند من جنود الله» . إلّا أن البيوت تطهّر من نسجها لأنه يورث الفقر «2» .   (1) حيّا من التحيّة، والحيا: المطر والخصب، وهو دعاء للعنكبوت والحمامتين؛ لأنهما فعلا شيئا لم يفعله بنو ادم. (2) فى الأسلوب ركاكة، ولعل سقطا حدث في الكلام أوجب هذه الركاكة. وأسند الثعلبى وابن عطية عن الإمام على رضى الله عنه وكرّم الله وجهه أنه قال: «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت؛ فإن تركه في البيت يورث الفقر» . وقد نسجت العنكبوت على الغار الذى دخله «عبد الله بن أنيس» لما بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قتل خالد بن نبيح بالعرنة، فقتله واحتمل رأسه، وطارده الكفار، فدخل غارا، فنسجت عليه العنكبوت، وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا، فرجعوا. ونسجت على سيدنا داود عليه الصلاة والسلام حين طلبه عدوّ الله جالوت، ونسجت على عورة الإمام زيد بن علي بن الحسين، لما قتل، وصلبوه عريانا رضى الله عنه عام 121 هجرية، لعن الله كل من اشترك في قتله ولو بحرف من كلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وإلى ذلك يشير صاحب البردة بقوله: وما حوى الغار من خير ومثن كرم ... وكلّ طرف من الكفار عنه عمى فالصدّق في الغار والصدّيق لم يرما ... وهم يقولون ما بالغار من أرم ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم وقيل في هذا المعنى: والعنكبوت أجادت حوك حلّتها ... فما تخال خلال النسج من خلل وما أحسن قول ابن النقيب: ودودة القزّ إن نسجت حريرا ... يجمل لبسه في كل شئ فإنّ العنكبوت أجلّ منها ... بما نسجت على رأس النبى «1» وروى لما اطّلع المشركون فوق الغار، وأشفق أبو بكر رضى الله عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما ظنّك باثنين الله ثالثهما» ؟!. وقال حسان ابن ثابت: وثانى اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدوّ به إذ صاعد الجبلا وكان حبّ رسول الله- قد علموا- ... من الخلائق لم يعدل به بدلا   (1) ومن الطرائف أن رجلا يقال له ياقوت، قال: ألقنى في لظى فإن أحرقتنى ... فتيقن أن لست بالياقوت جمع النسج كلّ من حاك لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت نسج داود: الدروع وما يتقى به في الحروب فرد عليه يعقوب بن جابر: أيها المدّعى الفخار دع الفخ ... ر لذى الكبرياء والجبروت نشج داود لم يفد ليلة الغا ... ر، وكان الفخر للعنكبوت وبقاء السمندل في لهب السنا ... ر مزيل فضيلة الياقوت وكذا النعام يلتقم الحم ... حر، وما الحمر للنعام بقوت والسمندل: طائر يبيض ويفرخ في النار في بلاد الهند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 قال أبو بكر- كما في الصحيحين-: «نظرت إلى أقدام المشركين من الغار على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصارنا، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» . وكان مكثه صلّى الله عليه وسلّم وأبى بكر في الغار ثلاث ليال، وقيل بضع عشرة يوما*، وروى أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه لما رأى القافة**- جمع القائف- قال: إن قتلت فإنما أنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، قال صلّى الله عليه وسلّم: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا أى بالمعونة والنصرة فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أى علي أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه، لا علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن السكينة لا تفارقه؛ وهى أمنة تسكن عندها القلوب، وَأَيَّدَهُ أي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِجُنُودٍ أى ملائكة يصرفون أبصار الكفار عنه. وروى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأبى بكر: «أنت صاحبى في الغار، وصاحبى على الحوض» «1» . قال الحسن بن الفضيل: من قال إن أبا بكر رضى الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو كافر؛ لإنكار نص القران، وفي سائر «2» الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا لا كافرا. قال بعض النقاد ما معناه: ولما غار الحقّ تعالى علي نبيّه وصاحبه من أعدائهما، أدخلهما غار الحفظ والأمان، وأذهب عنهما الهموم بجميل رعايته والأحزان، كما صرّح بذلك القران: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ [التوبة: 40] فكشف في تلك الخلوة لصدّيقه الحجاب، ودعا له بالبركة من عقبه إلى يوم الحساب، وكان الله معهما في هاتيك الخلوة، والمتجلّى عليهما في تلك الجلوة «3» ، فصحبهما اسم الجلالة لفظا ومعنى؛ فإنه من حيث اللفظ يقال رسول رسول الله، وخليفة رسول الله، ولم يكن ذلك إلا للصدّيق رضى الله عنه، ومن حيث المعنى   * الصواب: بضعة عشر. ** القافة: الذين يتبعون الأثر. (1) ورواه الترمذى، والحاكم عن عمر بن الخطاب. (2) أى بقية الصحابة. (3) موضع تجلّى الله أى ظهور عظيم فضله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فإنه معهما بالإمداد والإسعاد. واستأجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وأبو بكر رضى الله عنه عبد الله بن أريقط دليلا، وهو علي دين كفار قريش، ولم يعرف له إسلام، فدفعا إليه راحلتهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فساروا علي طريق السواحل، ونزل صلّى الله عليه وسلّم بقديد «1» علي أم معبد: عاتكة بنت خالد، فمسح ضرع شاة مجهودة، وشرب من لبنها، وسقى أصحابه، واستمرت تلك البركة فيها، فلما جاء زوجها أكتم بن الجون، ورأي ما بالشاة من اللبن، سألها فقالت: «رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، متبلّج الوجه، حسن الخلق» ، وصارت تصفه بأوصافه إلي أن قالت: له رفقاء يحفّون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر يبادرون إلى أمره، فقال: والله هذا صاحب قريش. ثم هاجرت بعد ذلك هى وزوجها، فأسلما، وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك، ولمّا مرّت قريش سألوها عنه ووصفوه. فقالت: ما أدرى ما تقولون، قد ضافنى حالب الحائل «2» ، فقالوا: ذاك الذي نريد. وبعد أن خرج من مكة سمع صوت لا يرى صاحبه: جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتى أم معبد هما نزلا بالهدى واهتديا به ... وقد فاز من أمسى رفيق محمد فما حملت من ناقة فوق رحلها ... أبرّ وأوفى ذمة من محمد فيال قصى «3» ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسؤدد ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت ... به من صريح ضرّة الشّاة مزيد فغادرها رهنا لديها لحالب ... تزوّدها في مصدر ثم مورد فعرف الناس توجهه إلى المدينة.   (1) فى المراصد «قديد» تصغير «قد» موضع قرب مكة. (2) الحائل: فى الأصل: كل أنثى لا تحبل، وبالتالى لا تدرّ لبنّا، والمقصود هنا الشاة المجهودة. (3) يا أل قصى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 ولما سمع حسان بن ثابت قال في جوابه هذه الأبيات: لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... وقدّس من يسرى إليهم ويغتدى ترحّل عن قوم فزالت عقولهم ... وحلّ على قوم بنور مدّد هداهم به بعد الضلالة ربّهم ... وأرشدهم: من يتبع الحقّ يرشد وهل يستوى ضلال قوم تسفّهوا ... همّى وهداة يهتدون بمهتد لقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلّت عليهم باعد نبىّ يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد ثم تعرّض للنبى صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر رضى الله عنه سراقة بن مالك المدلجي، وعلم أنهما اللذان جعلت فيهما قريش ما جعلت لمن أتى بهما، فركب فرسه وتبعهما بزعمه، فبكى أبو بكر وقال: «يا رسول الله أتينا «1» ، قال: كلا» فلما دنا سراقة صاح وقال: يا محمد من يمنعك مني اليوم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يمنعنى العزيز الجبار، الواحد القهار. ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بدعوات، وقال: «اللهم اكفنا أمر سراقة بما شئت وكيف شئت» فساخت* قوائم فرسه، فطلب الأمان، وقال: أعلم أن قد دعوتما عليّ فادعوا لي، ولكما أن أردّ الناس عنكما ولا أضرّكما. قال سراقة: فوقفا لي، ثم ركبت فرسى حتّى جئتهما، قال: فوقع في نفسى حين لقيت ما لقيت أن سيظهر أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرتهما بما يريد الناس منهما، وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يقبلا. وأنشد بعضهم لأبى بكر رضى الله عنه قصيدة مطلعها: قال النبىّ ولم يجزع بوقر بى ... ونحن في سدف من ظلمة الغار «لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا ............... ............... ... إلي اخر القصيدة المذكورة في بعض السير.   (1) فى الأصل «أوتينا» وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه. * أى غاصت في الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 قال: ومع أن مثل هذه القصيدة الساقطة لا يسمح الذوق السليم بنسبتها إلي أبى بكر رضى الله تعالى عنه- علي فرض كونه يقول الشعر- فقد ذكر ابن عبد البر في ترجمة الصدّيق رضى الله عنه ما لفظه: روى سفيان بن حسين عن الزهرى قال: سألنى عبد الملك بن مروان، قال: رأيت هذه الأبيات التي تروى عن أبى بكر رضى الله عنه؟ فقلت له: حدثنى عروة عن عائشة رضى الله عنها أن أبا بكر لم يقل شعرا في الإسلام حتي مات. انتهي. فحينئذ يحتمل أن تكون هذه الأبيات نظمت علي لسانه، وأنه أنشدها، كما قيل فيما نسب إليه من قوله بعض أبيات، منها قوله: كلّ امرئ مصبّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله وعن عائشة رضى الله عنها قالت: «إن أبا بكر لم يقل شعرا في الإسلام، أى ولا في الجاهلية» كما في رواية عنها، أي لم ينشئ الشعر حتي مات. وأما ما روى عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أنه قال: كان أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه إذا رأى النبى صلّى الله عليه وسلّم يقول: أمين مصطفى بالخير يدعو ... كضوء البدر زايله الظلام «1» فمحمول علي أنها لم تسمع ذلك منه، علي فرض أنه من إنشائه، وكذلك ما ذكره صاحب «الينبوع» «2» في قوله: ليس عمل الشعر رذيلة؛ فقد كان الصدّيق وعمر وعلى رضوان الله عليهم يقولون الشعر، وعليّ كرم الله وجهه أشعر من أبى بكر وعمر، ولو أنه بظاهره مناف لقول عائشة، إلا أنه يحمل على الإنشاد كثرة وقلة، فإن عليا رضى الله عنه دوّن باسمه ديوان، ولا مانع أن يكون كله مما تمثل به إن لم يثبت عنه إنشاد الشعر» . ولما بلغ أبا جهل أمر سراقة أنشد يقول:   (1) المزايلة: المفارقة، ومنه قوله تعالى: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ [يونس: 28] .. (2) ربما كان كتاب ينابيع المودة لسلمان بن خوجة كيلان البلخنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 بنى مدلج أنّى أخال سفيهكم ... سراقة يستغوى بنصر محمد عليكم به ألايفرّق جمعكم ... فيصبح شتّى بعد عزّ وسؤدد فأجابه سراقة: أبا حكم «1» : واللات لو كنت شاهدا ... بأمر جوادى حيث ساخت قوائمه علمت ولم تشكك بأن محمدا ... نبى وبرهان، فمن ذا يكاتمه عليك بكفّ الناس عنه فإننى ... أرى أمره يوما ستبدو معالمه بأمر تودّ النّضر فيه بأنه ... لو أنّ جميع الناس طرّا تسالمه وأسلم سراقة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين انصرف من حنين والطائف، وكان شاعرا مجيدا رضى الله عنه. فلما بلغ خروج النبى صلّى الله عليه وسلّم حييّ بن ضمرة الجعدى قال: «لا عذر لى في مقامى بمكة» وكان مريضا، فأمر أهله فخرجوا به إلى التنعيم «2» فمات، فأنزل الله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100] . فلمّا رأى ذلك من كان بمكة ممن يطيق الخروج خرجوا؛ فطلبهم أبو سفيان وغيره من المشركين، فردّوهم وسجنوهم، فافتتن منهم ناس، وأقام عليّ رضى الله عنه بعد مخرجه عليه الصلاة والسلام بمكة ثلاثة أيام حتّى أدّى ما كان عنده من الودائع، وأدركه بقباء، وقد نزل على كلثوم بن الهدم (وقيل سعد بن خيثمة) يوم الاثنين سابع، وقيل ثامن ربيع، وكانت مدّة مقام عليّ هناك مع النبى صلّى الله عليه وسلّم ليلة أو ليلتين. مبدأ التأريخ الإسلامى: وأمر عليه الصلاة والسلام بالتأريخ من الهجرة لدولة الإسلام، قال ابن   (1) كنية أبى جهل في الجاهلية. (2) موضع خارج الحرم على طريق المدينة- على ثلاثة أميال من مكة-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الجزار: ويعرف بعام الإذن، وقيل: إن عمر رضى الله عنه أوّل من أرّخ وجعله من المحرّم، وقيل: يعلى بن أمية إذ كان باليمن، وقيل بل أرّخ بوفاته صلّى الله عليه وسلّم «1» . ومن فوائد التأريخ معرفة الاجال وحلولها، وأوقات التواليف، ووفيات الشيوخ، ومواليدهم، والرواة عنهم، فيعرف بذلك كذب الكذّابين وصدق الصادقين، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282] . وأخرج البخارى في «الأدب» ، والحاكم عن ميمون بن مهران قال: رفع إلى عمر صكّ محله شعبان، فقال: أيّ شعبان: الذى نحن فيه، أو الذى مضي، أو الذى هو ات؟ ثم قال أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلّم: ضعوا للناس شيئا يعرفونه من التاريخ، فقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الروم، فقال: إن الروم يطول تاريخهم يكتبون من ذى القرنين، فقال: اكتبوا على تاريخ فارس، فقال: إن فارس كلما قام ملك طبع من كان قبله. فاجتمع رأيهم أن الهجرة كانت عشر سنين، فكتبوا التاريخ من هجرة النبى صلّى الله عليه وسلّم. * وكانت الأنصار لمّا بلغهم خروج النبى صلّى الله عليه وسلّم يخرجون كل يوم لتلقّيه، فإذا اشتدّت الهاجرة (ويقال الهجير، وهو اشتداد الحر نصف النهار، وهو المراد بالعليّا، والهاجرة السفلى هى التى بعد الضحى وقبل الزوال) رجعوا. فلما كان يوم قدومه فعلوا ذلك، فراه رجل من يهود، فنادى بأعلى صوته: «يا بنى قيلة هذا جدّكم- أى حظكم ومطلوبكم- قد أقبل» فخرج إليه بنو قيلة، وهم الأنصار: الأوس والخزرج بسلاحهم، فتلقوه ونصروه على أعدائه واووه، وواسوه، واووا أصحابه وواسوهم، وهم الذين قال تبارك وتعالى   (1) قال ابن الصلاح: وقفت على كتاب في الشروط للأستاذ الزيادى، ذكر فيه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرّخ حين كتب الكتاب لنصارى نجران، وأمر عليا أن يكتب فيه: إنه كتب لخمس من الهجرة. وقال الجلال السيوطى في كتابه «الشماريخ في علم التأريخ» إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بالتأريخ يوم قدم المدينة في شهر ربيع الأوّل. وقال ابن عساكر: «هذا أصوب» . ومن هذا نعرف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو المؤرخ الأوّل بالهجرة، وعمر تبعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 فيهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ. [الحشر: 9] الاية. وقال صلّى الله عليه وسلّم في حقهم: «اية الإيمان حبّ الأنصار، واية النفاق بغض الأنصار» «1» . وقال صلّى الله عليه وسلّم للأنصار: «أنتم شعار والناس دثار» «2» [والشعار: الثوب الذى يلى الجسد، والدثار الثوب الذى يكون فوق ذلك الثوب، فهم ألصق به وأقرب إليه صلّى الله عليه وسلّم من غيرهم. والأنصار لقب إسلامى لهم لنصرتهم النبى صلّى الله عليه وسلّم، وإنما كانوا يسمّون أولا: أولاد قيلة، والأوس والخزرج.] إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة الواردة في فضلهم وفضل المهاجرين الذين اثروا رضوان الله ورضوان رسوله صلّى الله عليه وسلّم على حظوظ أنفسهم، فتركوا بلادهم ومهادهم، وهاجروا مع المصطفى من مكة إلى المدينة التى هى مهاجره. وقال حسان رضى الله عنه في مدح الأنصار: سمّاهم الله أنصارا بنصرهم ... دين الهدى وعوان الحرب تستعر وسارعوا في سبيل الله واقترفوا ... للنائبات، وما خافوا وما جروا وكان خروج النبى صلّى الله عليه وسلّم من مكة يوم الاثنين، ومعه أبو بكر الصديق رضى الله عنه، وله صلّى الله عليه وسلّم من العمر ثلاث وخمسون سنة، فأقام بقباء (موضع بالمدينة فى بنى عمرو بن عوف على فرسخ من المسجد النبوي) أربعة أيام: يوم الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وأسّس مسجد قباء «3» الذى نزل فيه: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ... [التوبة: 108] الاية. وهو أوّل مسجد صلّى فيه صلّى الله عليه وسلّم جماعة ظاهرا، وأوّل مسجد بنى لجماعة المسلمين عامة، وإن كان قد تقدّم بناء غيره من المساجد، لكن لخصوص الذى بناه. ثم خرج صلّى الله عليه وسلّم من «قباء» ضحى يوم الجمعة، فأدركته صلاة الجمعة في الطريق، فى بنى   (1) رواه أحمد والنسائى عن أنس. (2) وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الأنصار شعار والنا دثار، ولو أن الناس استقبلوا واديا أو شعبا، واستقبلت الأنصار واديا لسلكت وادى الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرا من الأنصار، رواه ابن ماجة، عن سهل بن سعد. (3) قباء: بالضم قرية قرب المدينة، سميت باسم بئر بها- وهى مساكن بنى عمرو بن عوف- من الأنصار- على ميلين من المدينة، على يسار القاصد إلى مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 سالم بن عوف، فصلّاها في مسجدهم الذى في بطن وادى «نونا» (بنون مضمومة وأخرى بعدها ألف ممدودة، وهو مسجد صغير مبنى بحجارة قدر نضف القامة) بمن كان معه من المسلمين، وهم مائة، فكانت هذه الجمعة أوّل جمعة صلّاها بالمدينة وخطب بها، وهى أوّل خطبة خطبها في الإسلام. وكان صلّى الله عليه وسلّم يخطب قائما، وكان إذا خطب احمرّت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول «صبّحكم ومسّاكم» «1» ، ولعل اشتداد غضبه كان عند إنذاره أمرا عظيما، ويقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين» «2» ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى ويقول: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار» «3» . وكان إذا قام أخذ عصا فتوكأ عليها، وكان أحيانا يتوكأ على قوس، ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف. وعند الإمام أحمد وغيره من حديث سعد بن عائذ وسعد القرظ مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا. وفي وفي حديث عائشة رضى الله عنها، قالت: «كان لرسول الله [ثوبان يلبسهما يوم الجمعة، فإذا انصرف من الجمعة طواهما ورفعهما» . وفي حديث عمرو بن أمية عند النسائى قال: كأنى أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المنبر وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه. ومن جملة خطبته صلّى الله عليه وسلّم: «فمن استطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإنها تجزئ: الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة» . ثم توجه بعد صلاة الجمعة على راحلته متوجّها إلى المدينة، فلما أشرف عليها قال: «هذه طابة أسكننيها ربّي، تنفى خبث أهلها كما ينفى الكير خبث الحديد، من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله عز وجل، وعليه لعنة الله   (1) رواه ابن ماجه، وابن حبان، والحاكم عن جابر رضى الله عنه. (2) رواه أحمد، والترمذى، عن أنس، ورواه الإمام أحمد عن سهل بن سعد. (3) رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائى، وابن ماجه عن جابر، والبيهقى مطولا في الدلائل، وابن عساكر عن عقبة بن عامر والسجزى في الإبانة، وابن أبي شيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 والملائكة والناس، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» «1» . وكيف لا تطيب بالحبيب حسّا ومعنّي، وهى معمورة أيضا بالطيبين ملائكة وإنسا وجنا، ولا يدخلها ببركته الطاعون، ولم يصب عليه الصلاة والسلام قط بالطاعون، ولا بذات الجنب، ولا جنّ نبيّ، ولا سلب، ولا احتلم، ولا تثاءب؛ لأن هذا من الشيطان، وقد عصمهم الله من ذلك، ولا تسمى مدينته الشريفة العلية فى الإسلام يثرب، كما كانت تسمى في الجاهلية لكراهة لفظ التثريب، الذى كالتعنيف والتعبير والاستقصاء في اللوم، ومنه- التثريب عليكم- قال صلّى الله عليه وسلّم «يقولون يثرب، وهى المدينة» «2» . قال النووى في شرح مسلم: يعنى أن بعض الناس من المنافقين وغيرهم يسمونها يثرب، وإنما اسمها المدينة. انتهي. ومع ذلك فمادحوه كثيرا ما يذكرون يثرب في مديحهم، كقول سيدى عبد الرحيم البرعي: يا ساكن القبر المنير بيثرب ... يا منتهى أملى وغاية مطلبى فلعل قرائن المديح يحسن معها هذا التعبير، والعبرة في مثل هذا بالنية. وعن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت؛ فإني أشفع لمن يموت بها» «2» ، لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه تعالى   (1) وقال عليه الصلاة والسلام: «من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنى» رواه أحمد عن جابر. (2) وفي الحديث الشريف: «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله: هى طابة، هى طابة» رواه الإمام أحمد عن البراء. والتثريب: المؤاخذة، ومنه قوله تعالى: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ أى لا مؤاخذة ولا معاقبة عليكم، ولذلك نهى النبى صلّى الله عليه وسلّم عن تسميتها «يثرب» لأن الماكث فيها يكون كما قال: «تنصح عليها» وتنصح الطيب أى تجلوه، وتزيده إيمانا. ولذلك سماها الله تبارك وتعالى «الإيمان» فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [الحشر: 9] وفي حديث اخر رواه مسلم في فضل المدينة يأتى على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلم إلى الرخاء، هلم إلى الرخاء، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، والذى نفسى بيده لا يخرج منها أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خبيرا منه، ألا إن المدينة كالكير تخرج الخبيث لا تقوم الساعة حتّى تنفى المدينة شرارها كما ينفى الكير خبث الحديد» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ذوب الملح في الماء» «1» . وكان عليه الصلاة والسلام كلما مرّ على دار من دور الأنصار يدعونه إلى المقام عندهم يقولون: يا رسول الله هلم إلينا، إلى القوة والمنعة. فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خلّوا سبيل الناقة فإنها مأمورة من قبل الله تعالى» وقد أرخى زمامها وما يحرّكها، وهى تنظر يمينا وشمالا، حتى إذا أتت دار مالك بن النجار بركت حيث مسجده الشريف الان، ثم سارت وهو صلّى الله عليه وسلّم عليها، ومشت حتّى بركت على باب أبى أيوب الأنصارى رضى الله عنه، من بنى مالك بن النجار، من كبار الصحابة، شهد بدرا والمشاهد، ثم قامت ومشت والتفتت خلفها، ثم رجعت إلى منزلها أوّل مرة بمحلّ باب المسجد، وبركت فيه، ثم تجلجلت (بجيمين) أى تحركت وألقت عنقها بالأرض وصوّتت من غير أن تفتح فاها، فنزل عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «هذا المنزل إن شاء الله تعالى، اللهم أنزلنا منزلا مباركا» . ولما بركت الناقة على باب أبى أيوب خرج جوار من بنى النجار يضربن بالدفوف يقلن: نحن جوار من بنى النجار ... يا حبذا محمد من جار فقال صلّى الله عليه وسلّم: أتحببنني؟ قلن: نعم يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «الله أعلم أنّ قلبى يحبكم» ، وفي هذا دليل لسماع الغناء على الدف من المرأة لغير العرس «2» . وسيأتى بسط الكلام على السماع في اخر فصل في الكتاب.   (1) رواه الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه. (2) ليس هذا دليلا، لأنه لم يكن قد نزل تشريع بعد، وقد نزل التشريع بعد ذلك بتحريم الغناء واللهو كله، قليله وكثيره، تحريما قاطعا، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل» (رواه ابن أبي الدنيا، والبيهقى، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لست من دد ولا الدد منى» رواه البخارى في الأدب، والبيهقى عن أنس والطبراني عن معاوية، أوضحها إيضاحا تاما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لست من دد ولا الدد منى، ولست من الباطل ولا الباطل منى» (رواه ابن عساكر عن أنس) . وفي الحديث: «نهى النبى صلّى الله عليه وسلّم عن الغناء والاستماع إلى الغناء، وعن الغيبة والاستماع إلى الغيبة، وعن النميمة والاستماع إلى النميمة» (رواه الطبراني والخطيب عن عبد الله بن عمر) . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يسمع الروحانيين في الجنة» (رواه الحكيم عن أبى موسى) وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من استمع قينة صبّ في أذنيه الانك يوم القيامة، والأحاديث في هذا الباب لا تكاد تقع تحت حصر، فليتق الله الذين يطلقون الفتاوى بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فإن الله تعالى سائلهم يوم القيامة عمّا افتوا، على أن الشيخ رحمه الله لا يقصد قطعا هذه القاذورات التى نتعاطاها اليوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 قال البيهقى رحمه الله: ولهذا يذكره بعضهم عند مقدمه صلّى الله عليه وسلّم المدينة من مكة «1» لا أنه عند مقدمه المدينة من تبوك. هذا كلامه، ولا مانع من تعدد ذلك. واحتمل أبو أيوب (خالد بن زيد الأنصارى رضى الله عنه) رحله بإذنه صلّى الله عليه وسلّم، وأدخله بيته ومعه زيد بن حارثة، وكانت دار بنى النجار أوسط دور الأنصار وأفضلها، وهم أخوال عبد المطلب جدّ النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأراده قوم في النزول عليهم، فقال: «المرء مع رحله» فأقام صلّى الله عليه وسلّم عند أبى أيوب حتّى بنى مسجده ومساكنه، وكان بناؤه من اخر ربيع الأوّل إلى شهر صفر من السنة القابلة، أى وذلك اثنا عشر شهرا، وقيل: مكث ببيت أبى أيوب سبعة أشهر، وكان قبله يصلى حيث أدركته الصلاة، وبناه هو والمهاجرون والأنصار رضوان الله عليهم أجمعين، وكان موضع المسجد مربدا- أى محلا لتجفيف التمر- لسهل وسهيل ابنى عمرو (يتيمين في حجر أسعد بن زرارة أو معاذ بن عفراء) فدعا الغلامين فساومهما المريد ليتخذه مسجدا فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله منهما هبة حتّى ابتاعه منهما بعشرة دنانير أدّاها من مال أبى بكر الصديق رضى الله عنه، ولعل إطلاق اليتم عليهما باعتبار ما كان ان صدور البيع منهما، وقيل: بل كان الموضع لبنى النجار، وكان فيه قبور المشركين وخرب ونخل، فأراد النبى صلّى الله عليه وسلّم أن يشتريه من بنى النجار، فقال لهم: «ثامنونى حائطكم، فقالوا: لا نطلب ثمنه إلا إلى الله» فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقبور المشركين فنبشت، وبالخرب فسوّيت، وبالنخل فقطع، فصفّوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتاه* حجارة، ثم بناه باللّبن، وسقفه بالجريد، وجعل عمده من خشب النخل «2» . [مسألة: الرسول صلّى الله عليه وسلّم والشّعر] وكان صلّى الله عليه وسلّم ينقل اللّبن** معهم في ردائه حتّى اغبرّ صدره الشريف، وصار يقول: هذا الجمال لا جمال خيبر ... هذا أبرّ- ربّنا- وأطهر   (1) وهو الحق الذى لا ريب فيه. (2) قال عليه الصلاة والسلام: «عريشا كعريش موسى، وخشيبات، والأمر أعجل من ذلك» (رواه المخلّص في فوائده، وابن النجار عن أبى الدرداء) . * الصواب: عضادتيه. ** أى الطوب اللبن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 أى هذا المحمول من الطين أبرّ وأطهر يا ربّنا، لا ما يحمل من خيبر من نحو التمر والزبيب. وعمل فيه المسلمون. والمحرّم عليه صلّى الله عليه وسلّم من الشعر إنما هو إنشاؤه: (أى الإتيان بالكلام الموزون عن قصد وزنه) وهذا هو المعنىّ بقوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [يس: 69] فإن فرض وقوع الكلام موزونا منه صلّى الله عليه وسلّم لا يكون ذلك شعرا متعارفا؛ لعدم قصد وزنه، فليس من الممنوع منه، والغالب عليه صلّى الله عليه وسلّم أنه إذا أنشد بيتا من الشعر متمثلا أو مسندا لقائله، لا يأتى به موزونا. وعن عائشة رضى الله عنها لمّا قيل لها: هل كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتى بشيء من الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه الشعر، غير أنه كان يتمثّل ويجعل أوّله اخره، واخره أوّله، أى غالبا، كأن يقول: * ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار* ويقول: * كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا* أى وذلك قول سحيم عبد بنى الحسحاس، شاعر مشهور مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام: * كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا* ولما غيّر ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له الصدّيق رضى الله عنه: إنما قال الشاعر كذا، فأعاد صلّى الله عليه وسلّم كالأوّل، فقال الصدّيق: أشهد أنّك رسول الله (وما علّمناه الشعر) . وقد قيل له صلّى الله عليه وسلّم: من أشعر الناس؟ قال: الذى يقول: ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها وإن لم تطّيّب طيبا الأصل: [وجدت بها طيبا وإن لم تطّيّب] وعن الخليل: كان الشعر أحبّ إليه صلّى الله عليه وسلّم من كثير من الكلام، وهذا لا يخالف قول عائشة رضى الله عنها: «كان أبغض الحديث إليه صلّى الله عليه وسلّم الشعر» ، لأن المراد بالشعر الذى يحبه ما كان مشتملا على حكمة أو وصف جميل من مكارم الأخلاق، والذى يبغضه ما كان مشتملا على ما فيه هجنة أو هجو، ونحو ذلك، ومن ثم قيل: «الشعر كلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح» . وقد كان له صلّى الله عليه وسلّم شعراء مثل: عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ثابت، وفي الجامع الصغير: «الشعر بمنزلة الكلام؛ فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام» . وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يسمع الشعر ويستنشده، فقد ذكر بعضهم أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يستنشد الخنساء (أخت صخر لأمه) ، ويعجبه شعرها، فكانت تنشده وهو يقول: «هيه يا خناس» ، ويوميء بيده. وكذلك سمع الشعر من النابغة الجعدى حين دخل عليه، وأنشده: ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا ولا خير في جهل «1» إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد القوم أصدرا «2» فقال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: «لا فضّ الله فاك» . وسماعه صلّى الله عليه وسلّم قصيدة كعب بن زهير، وإجازته عليه بالبردة الشريفة أدلّ دليل على عدم كراهته للشعر المباح. وقال بعضهم: أجمع أهل العلم بأنه لم تكن امرأة قبل الخنساء ولا بعدها أشعر منها، ومن شعرها في أخيها المذكور: أعينيّ جودا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر النّدي طويل النجاد عظيم الرّماد ... وساد عشيرته أمردا وللجلال السيوطى كتاب سمّاه: «نزهة الجلساء في أشعار الخنساء» . وقال ابن عباس رضى الله عنهما: «إذا خفى عليكم شيء من غريب القران فالتمسوه في الشعر؛ فإن الشعر ديوان العرب» ، وفي كلام عمر رضى الله عنه: «أفضل صناعات الرجل نعم الأبيات من الشعر يقدّمها في صدر حاجته، فيستعطف بها قلب الكريم، ويستميل بها لؤم اللئيم» .   (1) غضب. (2) أورد: أحضر إبله إلى الماء ليسقيه. أصدر: انصرف عن الماء بعد أن سقى إبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وفي كتاب «تحقيق النصرة» للزين المراغي: قيل: وضع صلّى الله عليه وسلّم رداءه وهو في يثرب، فوضع الناس أرديتهم وهم يقولون: لئن قعدنا والنبيّ يعمل ... ذاك إذن للعمل المضلّل واخرون يقولون: لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائما وقاعدا * ومن يرى عن التراب حائدا* ويروى عن عثمان بن مظعون رضى الله عنه أنه كان رجلا متنظفا- أى مترفّها- فكان إذا حمل اللبنة يجافى بها عن ثوبه لئلا يصيبه التراب، فإن أصابه شيء من التراب، نفضه، فنظر إليه علي بن أبى طالب رضى الله عنه، وأنشد يقول: - أي مباسطة مع عثمان بن مظعون، لا طعنا فيه-: * لا يستوى من يعمر المساجدا* يدأب فيها إلخ ...... * وكان عثمان هذا ممن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية، وقال: «لا أشرب شرابا يذهب عقلى ويضحك بى من هو أدنى منّي» . وجعل صلّى الله عليه وسلّم قبلة المسجد لبيت المقدس إلى أن حوّلت في السنة الثانية، وجعل طوله مما يلى القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه، وجعل أساسه قريبا من ثلاثة أذرع بالحجارة، وجعل له أربعة أبواب من جهتي المشرق والمغرب؛ فمن جهة المشرق باب جبريل، وباب النساء، ومن جهة المغرب باب السلام وباب الرحمة، وبنى بيتين إلى جنبه باللبن، وسقفهما بجذوع النخل والجريد. ثم تحوّل عليه الصلاة والسلام من دار أبى أيوب إلى مساكنه التى بناها. هجرة بقايا المسلمين من مكة: وبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة وأبا رافع ببعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فقدما بفاطمة، وأم كلثوم، وسودة بنت زمعة، وأسامة بن زيد «1» ، وأم بركة المكناة «أم أيمن» ، وخرج عبد الله بن أبى بكر رضى الله تعالى عنه معهم بعيال أبيه، وأمّا علي بن أبى طالب رضى الله عنه فكان أقام بعد خروج النبى عليه الصلاة والسلام بثلاثة أيام، ثم أدركه بقباء، قال علي بن أبى طالب رضى الله عنه، كما أخرجه عنه ابن عساكر: «ما علمت أحدا هاجر إلا مختفيا، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همّ بالهجرة تقلد سيفه وتنكّب قوسه، وانتضى في يده سهما، وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها، فطاب سبعا، ثم صلّى ركعتين عند المقام، ثم أتى خلفهم، وقال: شاهت الوجوه، من أراد أن تثكله أمه، ويؤتّم ولده، وترمّل زوجته، فليلقنى وراء هذا الوادي، فما تبعه منهم أحد؛ لأنهم كانوا يردّون من أراد الهجرة ويسجنونه. وكان صحيح الإيمان يجتهد في اللحاق بالنبى صلّى الله عليه وسلّم، كما وقع ليحيى بن ضمرة الجندعى لما بلغه خروج النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: لا عذر لى في مقامى بمكة، وكان مريضا، فأمر أهله فخرجوا به إلى التنعيم، فمات، فأنزل الله تعالى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100] وأوّل كلمة سمعت منه صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة: «أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» «2» . وكان صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة إلى جذع نخلة، وفي لفظ «يسند ظهره إليه إذا تكلم يوم الجمعة أو حدث أمر يريد أن يكلّم الناس فيه» فقال له الناس: يا رسول الله، قد كثر الناس (يعنى المسلمين) وإنهم يحبون أن يروك فلو اتخذت منبرا لقدر قيامك تقوم عليه فيراك الناس، قال: نعم، قال: من يجعل لنا هذا المنبر؟ فقام إليه رجل، فقال: أنا، قال: تجعله؟ قال: نعم (ولم يقل إن شاء الله) ، قال: ما اسمك؟ قال: فلان، قال: اقعد، فقعد، ثم عاد فقال: من يجعل لنا هذا المنبر؟ فقام إليه رجل فقال: أنا، قال: تجعله؟ قال: نعم (ولم يقل إن شاء الله) ، قال: ما   (1) فى الأصل «وأسامة بنت زيد» ، والذى في السيرة الحلبية: «وأم أيمن حاضنته صلّى الله عليه وسلّم زوج زيد بن حارثة وابنها أسامة بن زيد» . (انظر ص 85 ج 2) (2) وورد بالإفراد: «أفش السلام، وأطعم الطعام، وصل الأرحام، وصلّ بالليل والناس نيام، وادخل الجنة بسلام» رواه أحمد، والحاكم، وابن حبان، وللحديث ألفاظ أخرى ورواة اخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 اسمك؟ قال: فلان، قال: اقعد، فقعد، ثم عاد فقال: من يجعل لنا هذا المنبر؟ فقام إليه رجل، فقال: أنا، فقال: تجعله؟ قال: نعم، إن شاء الله، قال: ما اسمك؟ قال: باقوم، وكان قبطيا، قال: اجعله. فجعله، فصنع له المنبر ثلاث درجات بينه وبين الحائط ممر «1» الشاة. فلما كان أيام معاوية جعل المنبر ست درجات، وحوّله عن مكانه، فكسفت الشمس يومئذ. وحنين الجذع الذى كان يخطب عليه صلّى الله عليه وسلّم حديث متواتر، رواه من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجمع الكثير، وإلى حنين الجذع أشار الإمام السبكى في تائيته بقوله: وحنّ إليك الجذع حين تركته ... حنين الثّكالي عند فقد الأحبّة وأشرقت المدينة بقدومه صلّى الله عليه وسلّم فيها، وسرى السرور بحلوله صلّى الله عليه وسلّم. قال أنس بن مالك رضى الله عنه: لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شيء. وعن البراء بن عازب قال: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء كفرحهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصعدت ذوات الخدور على الأسطحة لقدومه «2» صلّى الله عليه وسلّم يقلن: طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع «3» وجب الشّكر علينا ... ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع   (1) أى قدر مرور شاة حوالى نصف متر. (2) فى الأصل: «من قدومه» . (3) ثنية الوداع: موضع، وهى ثنية مشرفة على المدينة- والثنية في الأصل: كل عقبة مسلوكة في جبل- دخلها النبى صلّى الله عليه وسلّم عند خروجه من قباء. ولما أراد بناء المسجد الشريف- مسجد قباء- قال: يا أهل قباء. إيتونى بأحجار من الحرّة، فجمعت عنده أحجار كثيرة، فخطّ القبلة وأخذ حجرا فوضعه، ثم قال: يا أبا بكر خذ حجرا، فضعه إلى جنب حجري، ثم قال: يا عمر خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر أبى بكر، ثم قال: يا عثمان خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر عمر. فسئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: «أمر الخلافة» (رواه الحاكم وصحّحه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وسمّيت «ثنية الوداع» لأن المسافر من المدينة كان يشيّع إليها، ويودّع عندها قديما، وهى موضع بين مكة والمدينة. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم حبّب لنا المدينة كحبنا مكة أو أشدّ، اللهم بارك لنا في صاعها ومدّها «1» » . والبركة حاصلة لها؛ لأنها النموّ والزيادة في نفس المكيل بحيث يكفى المدّ بها ما لا يكفى في غيرها، وهذا محسوس لمن سكنها. ولمسلم: «اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدّنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين» . وله أيضا: «اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإنه دعا لمكة، وأنا أدعو للمدينة بمثل ما دعاك لمكة» . وعن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه: كان صلّى الله عليه وسلّم يؤتى بأول التمر فيقول: «اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي ثمارها، وفي مدّنا، وفي صاعنا بركة مع بركة. ثم يعطيه أصغر من يحضر من الولدان» . وجاء: «إنّ الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها «2» (ويأرز بكسر الراء أى ينضم ويجتمع بعضه إلى بعض) وفي رواية «إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، يأرز كما تأرز «3» الحية إلى جحرها» . ومكة أفضل من المدينة؛ لأن مكة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيه مرجوحة، وهذا قول الجمهور، وعند الإمام الشافعى مكة أفضل من المدينة، وحكى عن مالك ومطرف وابن حبيب- من أصحابه- لكن   (1) وردت في هذا عدة أحاديث، منها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم إن إبراهيم حرّم مكة فجعلها حراما، وإنى حرّمت المدينة- ما بين مأزميها- ألا يراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدّنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين. والذى نفسى بيده ما في المدينة من شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا» رواه مسلم. (2) فى الأصل: «إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها ويأزر بكسر الزاي، ولفظ الحديث الشريف كما أثبتناه: «يأرز» من الأرز» ، وهو الانضمام والاجتماع بعضه إلى بعض كما فى المختار، والحديث متفق عليه، ورواه الإمام أحمد وابن ماجه عن أبى هريرة. (3) أصلحناه أيضا كما مر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 المشهور عن مالك وأكثر أصحابه تفضيل المدينة، وقد رجع عن هذا القول أكثر المصنفين من المالكية، واستثنى القاضى عياض البقعة التى دفن فيها النبى صلّى الله عليه وسلّم، فحكى الاتفاق على أنها أفضل بقاع الأرض. وأنشد بعضهم: جزم الجميع بأنّ خير الأرض ما ... قد حاط ذات المصطفي وحواها ونعم لقد صدقوا بساكنها علت ... كالنفس حين زكت زكا مأواها وزاد بعضهم بعد هذين البيتين: وبهذه ظهرت مزيّة طيبة ... فغدت وكلّ الفضل في مغناها حتي لقد خصّت بروضة جنة ... الله شرّفها بها وحباها ما بين قبر للنبىّ ومنبر ... حيّا الإله رسوله وسقاها ورجّح بعضهم المدينة؛ لأن ميل كل نفس حيث حلّ حبيبها «1» كما قال بعضهم: عليّ لربع العامرية وقفة ... ليملي عليّ الشوق والدمع كاتب ومن مذهبي حبّ الديار لأهلها ... وللناس فيما يعشقون مذاهب ولما هاجر صلّى الله عليه وسلّم وأكثر اليهود يستقبلون بيت المقدس، وأمره الله أن يستقبل بيت المقدس، فرحت اليهود، فاستقبل بيت المقدس ستة عشر شهرا، وكان يحب أن يستقبل قبلة إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فنزلت الاية، قَدْ نَرى   (1) ولأن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال- فيما رواه ابن عساكر عن أبى سعيد: «الناس تبع لكم يا أهل المدينة في العلم» وبطبيعة الحال لا يكون التابع أفضل من المتبوع، ذلك لأن المدينة انتشر منها العلم وفتوحات الإسلام، والله سمّاها الإيمان في قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ. على أن في مذهبى وعقيدتى أن المفاضلة بين مكة والمدينة متعذرة، فهذه فيها مولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتلك فيها وفاته، وكلا البلدين حرم امن. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة: «إنها حرم امن، إنها حرم امن» رواه الإمام أحمد ومسلم عن سهل بن حنيف، وقال الله في مكة المشرفة: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] وليس وراء المفاضلة ما يفيد الناس، وإن كان المتفق عليه من جميع أهل العلم أن البقعة التى ضمت جسد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هى أفضل بقعة في الأرض والسماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 144] . [فرق اليهود] : ثم إن اليهود افترقوا فرقا كثيرة، ولكن المشهور من فرقهم ثلاث: الربّانيون، والقراؤون، والسامريون، وهؤلاء مجمعون على نبوة موسى وهارون ويوشع عليهم السلام، وعلى التوراة وأحكامها، وإن كان فيها تحريف الكلم عن مواضعه، لكنهم يستخرجون منها ستمائة وثلاث عشرة فريضة يتعبدون بها. وينفرد الربّانيون والقرّاؤون عن السامرة بنبوّات أنبياء غير الثلاثة المذكورة، وينقلون عنهم تسعة عشر كتابا، ويضيفونها إلى خمسة أسفار التوراة، ويعبرون عن الأربعة وعشرين كتابا بالنبوات، وهى على مراتب: الأولى: التوراة، وهى خمسة أسفار. الأوّل: يذكر فيه بدء الخليقة والتاريخ من ادم إلى يوسف عليهما السلام. والثاني: يذكر فيه استخدام المصريين لبنى إسرائيل، وظهور موسى عليه السلام وهلاك فرعون، ونصب قبة الزمان، وأحوال التيه، وإمامة هارون عليه السلام، ونزول العشر كلمات، وسماع القوم كلام الله سبحانه وتعالى. والثالث: يذكر فيه تعليم القرابين بالإجمال. والرابع: يذكر فيه عدد القوم، وتقسيم الأرض عليهم بالقرعة، وأحوال الرسل الذين بعثهم موسى عليه السلام إلى الشام، وأخبار المنّ والسلوى والغمام. والخامس: إعادة أحكام التوراة بتفصيل المجمل، وذكر وفاة هارون، ثم موسي، وخلافة يوشع عليه وعليهما السلام. المرتبة الثانية: أربعة أسفار: تدعى الأولي: أولها: ليوشع عليه السلام، يذكر فيه ارتفاع المنّ وأكلهم الغلال بعد تقريب القربان، ومحاربة يوشع الكنعانيين، وفتحه البلاد، وتقسيمها بالقرعة، ووفاته. وثانيها: يعرف بسفر الحكّام، فيه أخبار قضاة بنى إسرائيل في البيت الأوّل. وثالثها: لشمويل عليه السلام، فيه نبوّته وملك طالوت وقتل داود جالوت. ورابعها: يعرف بسفر الملوك، فيه أخبار ملك داود وسليمان عليهما السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وغيرهما، وانقسام الملك بين الأسباط، والملاحم، والجلاء الأوّل، ومجيء بختنصر وخراب بيت المقدس. المرتبة الثالثة: أربعة أسفار تدعى: الأخيرة: فأوّلها: لشعيا عليه السلام يذكر فيه توبيخ الله تعالى لبنى إسرائيل، والإنذار بما يقع، وبشرى الصابرين، وإشارة إلى البيت الثاني، والخلاص على يد كورش الملك. وثانيها: لأرميا عليه السلام، يذكر فيه خراب البيت بالتصريح، والهبوط إلي مصر. وثالثها: لحزقيل عليه السلام، ويذكر فيه حكم طبيعية وفلكية ومرموزة، وشكل بيت المقدس، وأخبار يأجوج ومأجوج. ورابعها: اثنا عشر سفرا: فيها إنذارات بجراد، وزلازل وغيرها، وإشارة إلى المنتظر والمحشر، ونبوة يونس عليه السلام، وغرقه وابتلاع الحوت له، وتوبة قومه، ومجئ عدوّه، وصلاة حبقوق، ونبوّة زكريا عليه السلام، وإشارات إلى اليوم العظيم، وبشارة بورود الخضر عليه السلام. المرتبة الرابعة: تدعى: الكتب، وهى أحد عشر سفرا: أولها: تاريخ من ادم إلى البيت الثاني، ونسب الأسباط وقبائل العالم. وثانيها: مزامير داود عليه السلام، وعدّتها مائة وخمسون مزمورا، ما بين طلبات وأدعية عن موسى عليه السلام وغيره. وثالثها: قصة أيوب عليه السلام، وفيه مباحث كلامية. ورابعها: أمثال حكمية عن سليمان عليه السلام. وخامسها: أخبار الحكام قبل الملوك. وسادسها: نشائد عبرانية لسليمان عليه السلام: مخاطبات بين النفس والعقل. وسابعها: يدعى جامع الحكمة لسليمان عليه السلام، فيه الحث علي طلب الذات العقلية الباقية، وتحقير الجسمية الفانية، وتعظيم الله تعالى والتخويف منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وثامنها: يدعى النّواح لأرميا عليه السلام، وفيه خمس مقالات، علي حروف المعجم، وندب على البيت. وتاسعها: فيه ملك ذي النون. وعاشرها: لدانيال عليه السلام، فيه تفسير منامات بختنصّر وولده، ورموز علي ما يقع في الممالك، وحال البعث والنشور. والحادى عشر: لعزير عليه السلام؛ فيه صفة عود القوم من أرض بابل إلي البيت الثاني وبناؤه. وينفرد الربانيون بشروح لفرائض التوراة وتفريعات عليها، ينقلونها عن موسي عليه السلام. ولله درّ ابن سهل الإسرائيلى الأسلمى حيث يقول: تسلّيت عن موسى بحبّ محمّد ... هديت، ولولا الله ما كنت أهتدي وما عن قلي قد كان ذاك وإنما ... شريعة موسي عطّلت بمحمد * ثم لما استقر صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، وأظهرت أحبار اليهود العداوة للنبى صلّى الله عليه وسلّم بغيا وحسدا، وانضم إلى اليهود جماعة من الأوس والخزرج منافقون منهم «عبد الله بن أبيّ بن سلول» رئيس المنافقين، واجتمع عليه أصحابه) وقاموا بنصرته، وصارت المدينة لهم دار إسلام، شرع الله جهاد الأعداء، ومن هذا الوقت ظهرت الغزوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الفصل الثالث في ذكر الظواهر الحادثة بعد الهجرة إجمالا [الإذن بالقتال:] ولما مكث صلّى الله عليه وسلّم بضع عشرة سنة يدعو إلي الله بغير قتال، صابرا على إيذاء العرب بمكة، واليهود بالمدينة له ولأصحابه؛ لأمر الله له بالصبر، ووعده له بالفتح، أذن له بالقتال لكن لمن قاتله بقوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج: 39] ... الاية ولما نزلت أخبر صلّى الله عليه وسلّم بقوله «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلا الله» المراد مع «محمد رسول الله» ، وقد يكتفى بالجزء الأوّل عن كلمتى الشهادة، أي عن التعبير بجميعهما؛ لأنه صار شعارا لجميعهما، فحيث قيل «كلمة الشهادة» ، أو «كلمة الإخلاص» أو «قول لا إله إلا الله» فهو «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، وفي لفظ: «حتى يشهدوا ألاإله إلا الله وأنى محمد رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم علي الله تعالى» ، قيل. وما حقها؟ قال: «زنا بعد إحصان، وكفر بعد إسلام، أو قتل نفس» «1» . وهي الكلمة العالية والشريعة الغالبة، من استمسك بها فقد سلم، ومن اعتصم بعصمتها فقد عصم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ... » هذا توقيع العصمة الدنيوية، وأما توقيع العصمة الاخروية ف «من قال لا إله إلا الله دخل حصني، ومن دخل حصنى أمن من عذابي» «2» . والأمر الذى أخبر عنه) هو قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج: 39] . قال بعضهم: وهي أوّل اية نزلت في شأن القتال. وظاهر هذا السياق يقتضى أن الاية فيها الأمر له صلّى الله عليه وسلّم بالقتال المذكور، وقد   (1) رواه البخارى، ومسلم، والنسائي، وأبو داود عن أبى هريرة، والبخارى ومسلم عن ابن عمر، والنسائى عن أبى بكرة، والحاكم وابن ماجه عن أبي هريرة. وللحديث ألفاظ مختلفة بمعنى واحد. وهو حديث متواتر. (2) الحديث القدسى عن الله سبحانه وتعالى: رواه ابن النجار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 يتوقف في ذلك، ولعله أمر بذلك بغير الاية المذكورة؛ لأن الاية ظاهرها الإباحة، والمباح ليس مأمورا به، ثم أبيح الابتداء بالقتال حتّى لمن لم يقاتل، لكن في غير الأشهر الحرم التى هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] . ثم أمر به وجوبا بعد فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة مطلقا من غير تقييد بشرط ولا زمان، بقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: 36] أي جميعا في أي زمن، فعلم أن القتال كان قبل الهجرة وبعدها إلي صفر من السنة الثانية محرّما؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان في أثناء ذلك مأمورا بالتبليغ، وكان التبليغ إنذارا بلا قتال؛ لأنه نهى عنه، قيل في نيف وسبعين اية، ثم صار مأذونا في قتال من قاتل، ثم أبيح قتال من لم يبدأ بالقتال في غير الأشهر الحرم، ثم أمر بالقتال مطلقا لمن قاتل ومن لم يقاتل في أىّ زمن، سواء في الأشهر الحرم وغيرها، وقيل: إن القتال في الحالة الثانية كان مأمورا به، لا مباحا، كالحالة الأولي. ثم استقر أمر الكفار مع صلّى الله عليه وسلّم) بعد نزول «براءة» * علي ثلاثة أقسام: الأوّل: محاربون له صلّى الله عليه وسلّم، وهؤلاء المحاربون إذا كانوا ببلادهم يجب قتالهم علي الكفاية في كل عام مرة، أي يكفى ذلك في إسقاط الحرج كإحياء الكعبة، واستدل لذلك بقوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 122] أي فهّلا نفر، وقيل: فرض كفاية «1» فى حق الأنصار، وفرض عين «2» في حق المهاجرين. الثاني: أهل عهد، وهم المؤمّنون من غير عقد الجزية، أى الذين صالحهم ووادعهم على ألايحاربوه ولا يظاهروا عليه عدوّه، وهم على كفرهم، امنون علي دمائهم وأموالهم وأنفسهم؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ظلم معاهدا أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة» «3» .   * سورة التوبة. (1) فرض الكفاية: هو الذي إذا قام به البعض سقط عن الاخرين. (2) فرض العين: هو الفرض علي كل المسلمين لا يسقط بأداء البعض له. (3) وقال صلّى الله عليه وسلّم: من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» رواه الإمام أحمد وكثيرون غيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الثالث: أهل ذمة، وهم من عقدت لهم الجزية. وهناك قسم اخر، وهو: من دخل في الإسلام تقيّة من القتل، وهم المنافقون، وكان صلّى الله عليه وسلّم يأمر أن تقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، فكان معرضا عنهم، إلا فيما يتعلق بشعائر الإسلام الظاهرة، كالصلاة؛ فلا يخالف ما رواه الشيخان: «لقد هممت أن امر بالصلاة فتقام، ثم امر رجلا فيصلّى بالناس، ثم أنطلق ومعي رجال معهم حزم من حطب إلي قوم لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار» . فإن هذا الحديث ورد في قوم منافقين يتخلفون عن الجماعة، ولا يصلّون أصلا، بدليل السياق؛ لأن صدر الحديث: «أثقل الصلاة علي المنافقين صلاة العشاء والفجر، (أي جماعتهما) ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، ولقد هممت ... إلى اخره» «1» . وكان الجهاد في عهده صلّى الله عليه وسلّم فرض عين، وقيل فرض كفاية، وكان إذا غزا بنفسه يجب على كل أحد الخروج معه لقوله تعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة: 120] ، ومن ثمّ وقع لمن تخلّف عنه في غزوة تبوك ما وقع. وقد غزا صلّى الله عليه وسلّم بنفسه. وأما بعده «2» صلى الله عليه وسلّم فللكفار حالان مذكوران في كتب الفقه.   (1) ورواه أيضا أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن أبي هريرة. (2) أى بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الباب الرابع فى تفاصيل الظواهر التى حدثت بعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى وفاته صلّى الله عليه وسلّم، وفيه فصول الفصل الأوّل فى ظواهر السنة الأولى من الهجرة وما فيها من الغزوات قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة لاثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الأولي، ظهر يوم الاثنين، فنزل قباء، وأقام بها الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وأسّس مسجد قباء الذي نزل فيه: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى [التوبة: 108] . وخرج من قباء يوم الجمعة، فما مر علي دار من دور الأنصار إلا قالوا: «هلمّ يا رسول الله إلى العدد والعدّة» ، ويعترضون ناقته، فيقول: «خلّوا سبيلها فإنها مأمورة» ثم سارت حتي انتهت إلي موضع مسجده؛ فبني مسجده الشريف ومساكنه كما سبقت الإشارة إلي ذلك انفا، فلم يزد فيه أبو بكر في أيام خلافته شيئا، وزاد فيه عمر، وبناه علي بنائه في عهده عليه الصلاة والسلام. ثم غيّره عثمان بن عفان في خلافته، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جدرانه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة منقوشة أيضا، وسقفه بالسّاج «1» . ثم لما صارت الخلافة إلي الوليد بن عبد الملك الذي عمّر جامع دمشق: استعمل علي المدينة عمر بن عبد العزيز، وكتب إليه في سنة سبع وثمانين من الهجرة يأمره بعمارة مسجده صلّى الله عليه وسلّم، وبإدخال بيوت أزواجه فيه، حتي تصير مساحة المسجد مائتى ذراع «2» في مائتي ذراع، فأجابه أهل المدينة إلى ذلك، ففعل عمر بن عبد العزيز كذلك.   (1) الساج: ضرب من الشجر من الفصيلة الأرثدية يعظم جدا، ويذهب طولا وعرضا، وله ورق كبير، وخشبه صلب جدا. (2) الذراع: 64 سنتيميترا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وقد عمّر المسجد الشريف جماعة من ملوك الإسلام، وقد احترق هذا المسجد في زمن الملك الأشرف قايتباى الظاهرى، فعمّره ووضع الدرابزينات حول الحجرة الشريفة، وعمل فيه منبرا، وسقّفه وذهّب سقفه. ثم في سنة ست وثمانين وثمانمائة، وقعت صاعقة بالليل علي منارة المسجد النبوي، احترق منها سقوف المسجد الشريف النبوي، وجميع ما فيه من المصاحف والكتب، وغير ذلك، ولم يبق سوي الجدران، ووردت الأخبار بذلك إلي السلطان المذكور، فجدّد عمارته، فجاءت في غاية الحسن. ولمّا تمت العمارة التي صرف عليها أكثر من مائة ألف دينار، أرسل إلى المدينة المنورة خزانة كتب، وجعل مقرها بمدرسته التى عمرها هناك، وأرسل عدة مصاحف وأوقف عليها ما يلزم وقفه، والمدرسة باقية عامرة، علي يسار الداخل للحرم النبوي، وينزل بها أمير الحاج المصري. وقد اعترض أهل الزيغ والشقاق، ومن في قلبه مرض ونفاق بحلول هذه الحادثة بالحرم الشريف، وإن لم يصب الحجرة الشريفة ما يخلّ بالمقام المنيف، فكان الردّ على المنافقين، وعصبة الضّلال الفاسقين، بأنه ليس في هذا أدنى نقص في حقه صلّى الله عليه وسلّم، وأنّ حرمه لم يزل عند الله تعالى، وعند أهل الإيمان في أعلى درجات المقام الأعظم، وإنما لمّا مال من مال من أهل طيبة عن سنته، رماهم الله تعالى بهذا الأمر، فتلقاها عنهم صلّى الله عليه وسلّم بمسجده؛ لكمال رحمته بهم ورأفته. قال الشريف السمهودي: وفي ذلك عبرة تامة، وموعظة عامة، أبرزها الله تعالى للإنذار فخص بها النذير الأعظم صلّى الله عليه وسلّم، وقد ثبت أن أعمال أمته تعرض عليه «1» فلما ساءت الأعمال المعروضة، ناسب ذلك الإنذار بإظهار النار المجازى بها يوم القيامة والعرض، قال الله تعالى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء: 59] وقال تعالى: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [الزمر: 16] . وقال الشاعر في هذا المعنى:   (1) للحديث الصحيح: «حياتى خير لكم؛ تحدثون ويحدث لكم؛ ومماتى خير لكم؛ تعرض عليّ أعمالكم، فإن وجدت خيرا حمدت، وإن وجدت شرا استغفرت لكم» رواه الحارث وابن سعد وغيرهما وهو حديث صحيح ثابت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 لم يحترق حرم النبي لريبة ... يخشي عليه ولا هنالك عار لكنّما أيدي الروافض لامست ... ذاك البناء، فطهّرته النار * وفي هذه السنة دخل بعائشة رضى الله تعالى عنها بعد ثمانية أشهر من الهجرة، وهي بنت تسع، وتوفي عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة، وكان قد عقد عليها قبل الهجرة بعد وفاة خديجة. [المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار] وفيها اخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، وكانوا تسعين رجلا، من كل طائفة خمسة وأربعون، وقيل مائة، فاتخذ صلّى الله عليه وسلّم عليّا أخا له «1» واخى بين أبى بكر وخارجة بن زيد الأنصاري، وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ الأنصاري، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك الأنصاري، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري، وبين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت الأنصاري، وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك الأنصاري، وبين سعيد بن زيد وأبيّ بن كعب الأنصاري. وأوّل مولود للمهاجرين بعد الهجرة عبد الله بن الزبير، وأوّل مولود للأنصار النعمان بن بشير رضى الله تعالى عنهم أجمعين. وكان المقصود من المؤاخاة أن يكون بعضهم معظما لبعض، مهتما بشأنه، مخصوصا بمعاونته ومناصرته ومواساته، حتى يكونوا يدا واحدة علي الأعداء بالنسبة للهيئة الاجتماعية، وأن يكون حبّ كلّ أحد لأخيه جاريا مجرى حبه لنفسه، حتى قال بعضهم: إن هذه المؤاخاة كان فيها حكم التوارث، وإنهم كانوا كذلك إلي أن نزل بعد غزوة بدر وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [اخر سورة الأنفال] . وقبل الهجرة اخى صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين بلا توارث. فالمؤاخاة وقعت مرتين. * وفي هذه السنة الأولى من الهجرة كانت غزوة الأبواء، وهي أوّل غزواته عليه الصلاة والسلام، ثم غزوة بواط، ثم غزوة العشيرة، موضع بناحية ينبع، وكانت بعد بواط بأيام قلائل، وقيل: إن هذه الغزوات كانت في السنة الثانية.   (1) قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنت أخي في الدنيا والآخرة» رواه الترمذى والحاكم عن عبد الله بن عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وغزوة الأبواء تسمي غزوة ودّان، بفتح الواو وتشديد الدال المهملة اخره نون «1» ، وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج غازيا حتي بلغ «ودّان» وهي قرية كبيرة بينها وبين الأبواء نحو ثمانية أميال، و «الأبواء» قرية بين مكة والمدينة، وكان خروجه صلّى الله عليه وسلّم بالمهاجرين يتعرض عير قريش، ويريد بني ضمرة، وكان عدد من معه سبعين رجلا من أصحابه، وفي هذه الغزوة صالح بنى ضمرة، فعقد الصلح مع سيدهم حينئذ، وهو مجدى بن عمرو الجهني، علي ألايغزوهم ولا يغزونه، ولا يكثروا عليه جمعا، ولا يعينوا عليه عدوا، وكتب بينه وبينهم كتابا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم: «هذا كتاب من محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لبني ضمرة بأنهم امنون علي أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصرة علي من رامهم، إلا أن يحاربوا في دين الله ما بلّ بحر صوفة (أى ما بقى فيه ما يبل الصوفة) ، وأن النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا دعاهم لنصره أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله (أي أمانهما) » انتهي. وكان لواؤه أبيض مكتوبا عليه «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، وكان اللواء مع عمه حمزة، واستعمل علي المدينة سعد بن عبادة، وانصرف إلي المدينة، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة. هذا ما قاله بعض أهل السير. والصحيح: أنها كانت في الثانى عشر من شهر صفر من السنة الثانية من الهجرة. * وأما غزوة بواط «2» (بضم المواحدة وفتحها وتخفيف الواو اخرها طاء مهملة) فالصحيح أيضا أنها كانت في شهر ربيع الأوّل، وقيل في ربيع الاخر من السنة الثانية. وبواط جبل بالينبع. وسبب هذه الغزوة أن النبى صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن عير قريش نحو ألفين وخمسمائة بعير، ومائة رجل من قريش، معهم أمية بن خلف، ذاهبة إلى مكة، فخرج صلّى الله عليه وسلّم لاعتراضها في مائتين من أصحابه، وحمل   (1) قرية جامعة في نواحى الفرع، وبينها وبين هرشى ستة أميال، وبينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال، قريب من الجحفة. وهرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة: تري من البحر. (2) بواط: جبل من جبال جهينة بناحية رضوي، به غزوة للنبى صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 اللواء- وهو العلم الذى يحمل في الحرب، يعرف به موضع أمير الجيش، وكان أبيض- سعد بن أبي وقاص واستعمل علي المدينة السائب بن عثمان بن مظعون، وقيل سعد بن معاذ، فانتهى إلى بواط فلم يلق كيدا أى حربا، فرجع إلى المدينة بدون حرب. * وأما غزوة العشيرة- بالعين المهملة والشين المعجمة وبالمهملة أيضا، على صيغة التصغير، موطن ببطن الينبع (وهو منزل الحاجّ المصري) - لبنى مدلج، فكانت علي الصحيح في جمادى الأولى سنة اثنين، لقصد إدراك عير قريش المتوجّهة إلي الشام، وذلك أن قريشا جمعت أموالها في تلك العير، ولم يبق بمكة قرشى ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في تلك العير، إلا حويطب بن عبد العزي. ويقال: إن في تلك العير خمسين ألف دينار، وألف بعير، وكان قائدها أبا سفيان، وكان معه سبعة وعشرون رجلا، وقيل: تسعة وثلاثون رجلا منهم مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص، وهي العير التي خرج إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رجعت من الشام، وكانت سببا لوقعة بدر الكبري، خرج صلّى الله عليه وسلّم في مائتين من المهاجرين خاصة، حتي بلغ العشيرة- بالتصغير- (وأما التى بغير تصغير العشيرة فهي غزوة تبوك) واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وحمل اللواء عمّه حمزة بن عبد المطلب؛ وكان اللواء أبيض، خرجوا على ثلاثين بعيرا يعتقبونها «1» ، فوجدوا العير قد مضت قبل ذلك بأيام، ورجع ولم يلق حربا، ووادع صلّى الله عليه وسلّم فيها بنى مدلج، وكنّي فيها عليّا بأبى تراب حين وجده نائما هو وعمار بن ياسر وقد علق به التراب الذي سفّته عليه الريح، فأيقظه عليه الصلاة والسلام برجله، وقال له: «قم أبا تراب» فلما قام قال له: «ألا أخبرك بأشقى الناس أجمعين: عاقر الناقة، والذى يضربك علي هذا» ووضع يده علي قرن رأسه «فيخضب هذه» ووضع يده على لحيته. وفي السنة الأولى من الهجرة وادع صلّى الله عليه وسلّم يهود، وعاهداهم وأقرّهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم.   (1) أي يركبونها واحدا بعد الاخر، وفي الأصل «يتعقبونها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الفصل الثانى في ظواهر السنة الثانية من الهجرة، وما فيها من الغزوات * وفي هذه السنة تحويل القبلة من صخرة بيت المقدس إلي المسجد الحرام. وعن ابن عباس أنه قال: «أول ما نسخ من القران القبلة» ، وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يصلون بمكة إلي الكعبة، فلما هاجروا إلي المدينة أمره الله تعالى أن يصلى نحو صخرة بيت المقدس، ليكون أقرب إلي تصديق اليهود إياه إذا صلي إلي قبلتهم، مع ما يجدون من نعته في التوراة، وصلّى بعد الهجرة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا إلي بيت المقدس، وكان يحبّ أن يوجّه إلي الكعبة؛ لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، فأنزل الله قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] . وروى الليث عن يونس عن الزهرى قال: «لم يبعث الله منذ هبط ادم إلى الأرض نبيا إلا جعل قبلته صخرة بيت المقدس» . وقد سبق التنويه إلى ذلك قريبا. فلما حوّلت القبلة كان النبى عليه الصلاة والسلام في مسجد القبلتين، في بني سلمة، فكان يصلى فيه الظهر إلي بيت المقدس، وقد صلّى بأصحابه ركعتين من الظهر، فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب «1» ، وحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فوقع نصفها إلي بيت المقدس ونصفها إلي الكعبة، فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين. وفيها «في شعبان» فرض صوم رمضان، وأمر الناس بإخراج زكاة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثي، وصاع من تمر أو من زبيب أو من بر، وقال: «أغنوهم- يعنى المساكين- عن ذلك السؤال في هذا اليوم» «2» . قال ابن حجر: «وثواب الصوم الناقص كالكامل «3» فى الفضل المرتب علي رمضان من غير نظر لأيامه، أمّا ما يترتب علي صوم الثلاثين من ثواب واجبه   (1) الميزاب: مسيل الماء والمزراب. (2) أخرجه البيهقى والدار قطنى من حديث ابن عمر. (3) الناقص: تسعة وعشرون يوما، والكامل: ثلاثون يوما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 (أي فرضه) ومندوبه عند سحوره وفطوره، فهو زيادة يفوق بها الناقص، وكأن حكمته أنه عليه الصلاة والسلام لم يكمل له رمضان إلا سنة واحدة، والبقية ناقصة: زيادة طمأننية نفوسهم علي مساواة الناقص للكامل» . وقوله: «من غير نظر لأيامه» ، تعقّبه ابن قاسم بقوله: قد يقال الفضل المرتب علي رمضان ليس إلا مجموع الفضل المرتب على أيامه، وأجيب بمنع الحصر، وأن لرمضان فضلا من حيث هو، بقطع النظر عن مجموع أيامه، كما هو في مغفرة الذنوب لمن صامه إيمانا واحتسابا «1» ، والدخول من باب الجنة المعد لصائمه، وغير ذلك مما ورد أنه يكرم به صوّام رمضان، وهذا لا فرق فيه بين كونه ناقصا أو تاما. وأما الثواب المرتّب علي كل يوم بخصوصه فأمر اخر؛ فلا مانع أن يثبت للكامل بسببه ما لا يثبت للناقص. وقوله: «وكأن حكمته إلخ» قال الشوبري: كذا وقع لابن حجر هنا، ووقع له في محلين اخرين أنه قال: لم يصم شهرا كاملا إلا سنتين، وجرى عليه المنذرى في سننه، وقال: فما وقع له هنا غلط، سببه اعتماده علي حفظه، انتهي. أقول: لا يلزم أنّ ما هنا غلط، بل يحتمل أن ما قال المنذرى مقالة لم يعرج عليها لشيء ظهر له، ثم رأيت العلّامة الأجهورى استوعب ما ذكر فقال: وفرض الصيام ثاني الهجرة ... فصام تسعة نبيّ الرّحمة أربعة تسع وعشرون، وما ... زاد علي ذا بالكمال اتّسما كذا لبعضهم، وقال الهيتمي ... ما صام كاملا سوي شهر اعلم وللدميري أنّه شهران ... وناقص سواه خذ بياني * وفي هذه السنة أري عبد الله بن زيد صورة الأذان في النوم، وورد الوحى   (1) وللحديث الشريف ألفاظ منها: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له من ذنبه» رواه أحمد، والأربعة عن أبى هريرة، وروى الخطيب عن ابن عباس: ما تقدم «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» ومعنى قوله صلّى الله عليه وسلّم (ما تأخر) أن الله تعالى يوفقه إلى عدم المعاصى، والحديث صحيح، والله أعلم بحقيقة مراد رسوله صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 بذلك، والذي قاله النووى في الروضة: إن الأذان شرع في السنة الأولى من الهجرة. وقيل: كان ذلك- أي الأذان- فى السنة الثانية عند ما شاور عليه الصلاة والسلام أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة؛ إذ كان اجتماعهم بمنادى «الصلاة جامعة» . والأذان علي المنائر من خصائص هذه الأمة، وليس لمن سواهم منائر يؤذنون عليها، بل ولا هذا الأذان المخصوص. وفيها تزوج عليّ فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «إن الله تعالى عقد على فاطمة لعليّ في السماء» «1» فنزل الوحي بذلك. * ولما قدم صلّى الله عليه وسلّم من غزوة العشيرة لم يقم بالمدينة إلا ليال* حتي غزا غزوة «سفوان» فى السنة الثانية، ويقال لها غزوة «بدر الأولي» فخرج خلف كرز بن جابر الفهرى وقد أغار (قبل أن يسلم) علي سرح المدينة (أى على النعم والمواشى التى تسرح بالغداة) ، فسعى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طلبه حتّى بلغ وادى سفوان من ناحية بدر، ولذا قيل لها «بدر الأولي» ، وفاته كرز بن جابر ولم يدركه. وكان صلّى الله عليه وسلّم قد استعمل علي المدينة زيد بن حارثة، وحمل علي بن أبى طالب رضى الله عنه اللواء وكان أبيض. وفي هذه السنة أيضا بعث عبد الله بن جحش في ثمانية أنفس إلى «نخلة» بين مكة والطائف؛ ليتعرفوا أخبار قريش، فمرّ بهم عير لقريش فغنموها وأسروا اثنين، وحضروا بذلك إليه صلّى الله عليه وسلّم، وهي أوّل غنيمة غنمها المسلمون. * وفي سنة اثنتين من الهجرة كانت غزوة بدر الكبري، وبدر اسم للوادى أو لغيره، وكان المسلمون ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وعدة المشركين ألف رجل معهم مائة فرس وسبعمائة بعير، وهي أفضل غزواته صلّى الله عليه وسلّم؛ لأنهم بذلوا في نصرته الأرواح والأجسام، وقاموا علي قدم الإخلاص، فاستحقوا مزيد   (1) ذكر العلامة محب الدين الطبرى في كتابه «ذخائر العقبي» عن على رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أتانى ملك: فقال: يا محمد، إن الله تعالى يقرأ عليك السلام ويقول لك: إنّى قد زوّجت فاطمة ابنتك من علي بن أبى طلب في الملأ الأعلى فزوّجه منها في الأرض» . خرّجه الإمام علي بن موسى الرضا فى مسنده. * الصواب: ليالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الإكرام، وظفروا بالشهادة الكبرى والمنزلة الرفيعة في الدنيا والاخرى، ونطق بفضلها أشرف الكتاب، فكان الدعاء بذكرهم يستجاب، وعدّت تلاوة أسمائهم لتدفع كل مهمة، رضى الله عنهم وعن جميع الأمة. وليس في غزواته ما يعدل بها في الفضل ويقرب منها إلا غزوة الحديبية، حيث كانت بيعة الرضوان. ويقال لها: بدر القتال «1» ، وبدر الفرقان «2» ؛ لأن الله تعالى فرّق فيها بين الحق والباطل، وأظهر الله بها الدين من يومئذ، وقتل فيها صناديد قريش، وذلك أن العير التي خرج صلّى الله عليه وسلّم في طلبها حتّى بلغ العشيرة ووجدها سبقته بأيام، لم يزل مترقبا قفولها من الشام، فلما سمع برجوعها من الشام دعا المسلمين، وقال: «هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها» فانتدب ناس للإجابة واخرون لم يجيبوا لظنهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يلق حربا، ولم يحتفل لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا اهتم بها، بل قال: «من كان ظهره حاضرا فليركب معنا» . فكان أبو سفيان حين دنا بالعير من أرض الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقى من الركبان تخوّفا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبلغه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد استنفر أصحابه للعير، وأنه تركه مقيما ينتظر رجوع العير، فخاف خوفا شديدا، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفارى بعشرين مثقالا ليستنفر قريشا، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم هو وأصحابه، فخرج ضمضم سريعا إلى مكة، وقال: «يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة [أى أدركوا اللطيمة، وهى العير التى تحمل الطيب والبزّ*] أموالكم مع أبى سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها» . فتجهز الناس سراعا حيث أقام أشراف قريش يحضّون الناس علي الخروج، ولم يتخلف من أشرافهم إلا أبو لهب، وبعث مكانه العاص بن هاشم ابن المغيرة، استأجره بأربعة الاف درهم كانت له عليه دينا أفلس بها، وكانوا خمسين وتسعمائة، وقيل ألفا، وقادوا مائة فرس عليها مائة درع سوى دروع   (1) سميت بدر القتال؛ لأن الموقعة حدثت بها، وبدر الفرقان لأن الله فرق بها بين الحق والباطل، وسماها الله تعالى «الفرقان» فى قوله تعالى: يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الأنفال: 41] . (2) سميت بدر القتال؛ لأن الموقعة حدثت بها، وبدر الفرقان لأن الله فرق بها بين الحق والباطل، وسماها الله تعالى «الفرقان» فى قوله تعالى: يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [الأنفال: 41] . * البزّ: نوع من الثياب، والسلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 المشاة، ومعهم القينات* يضربن بالدفوف، ويغنين بهجاء المسلمين، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة في ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر؛ من المهاجرين سبعة وسبعون، وباقيهم من الأنصار، وما فيهم سوى فارسين: المقداد بن عمرو الكندي، والزبير بن العوام، ونزل صلّى الله عليه وسلّم في بدر، وبنى له عريش، وجلس فيه ومعه أبو بكر رضى الله عنه. وكان صلّى الله عليه وسلّم قد بعث طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد يتحسسان خبر العير، فرجعا بخبر العير إلى المدينة، على ظن أنه صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فلما علما أنه ببدر خرجا إليه، فلقياه منصرفا من بدر، وأسهم «1» لكل منهما، ولو لم يحضرا القتال. ودفع صلّى الله عليه وسلّم اللواء وكان أبيض إلى مصعب بن عمير، وكان أمامه صلّى الله عليه وسلّم رايتان سوداوتان، إحداهما مع علي بن أبى طالب، ويقال لها: «العقاب» ، والاخرى مع بعض الأنصار، قيل هو سعد بن معاذ، وقيل الحباب بن المنذر. ولبس صلّى الله عليه وسلّم درعه «ذات الفضول» وتقلد سيفه «العضب» . ولما سار وادى دفران «2» (بكسر الفاء وهو واد قريب من الصفراء) أتاه الخبر عن سفر قريش ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبى صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، وأخبرهم الخبر وقال لهم: إن القوم قد خرجوا من مكة مسرعين، فماذا تقولون؟ فقال طائفة منهم: العير أحبّ إلينا من لقاء العدو، فهلّا ذكرت لنا القتال حتّى نتأهب له إذ خرجنا للعير! فعند ذلك تغيّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال بعضهم: وهذا سبب نزول قوله تعالى: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ [الأنفال: 5] فعند ذلك قام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن الأسود، فقال: «يا رسول الله امض لما أمرك الله به، فنحن معك، فو الله لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسي: «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون» ولكنا نقول: إنا معكما مقاتلون» ، فلما سمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك تابعوهم، فأشرق عند ذلك وجهه صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال:   * القينة: الأمة صانعة وغير صانعة، وغلب على المغنية. (1) أى جعل لهما سهما في الغنائم. (2) فى المراصد «دقران» بالقاف واد بالصفراء أو: شعب ببدر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 اشيروا عليّ، فقال عمر: يا رسول الله إنها قريش، والله ما ذلّت منذ عزّت، ولا امنت منذ كفرت، والله لتقاتلنّك، فتأهّب لذلك أهبته، وأعدّ لذلك عدّته. ثم استشارهم ثالثا، فقال: أشيروا عليّ أيها الناس، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم؛ لأنهم أكثر الناس عددا، فقال له سعد بن معاذ «سيد الأوس» : لعلك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله؟ فقال: أجل، قال: فقد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، وإنى أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت منّا كان أحبّ إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمرنا فأمرنا تبع لأمرك، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك؛ والذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنّا لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، فنحن عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك» فسرّ النبى صلّى الله عليه وسلّم وأشرق وجهه بقول سعد، ونشّطه ذلك، وقال: «أبشروا فإن الله تعالى قد وعدنى إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم (والطائفتان: العير، ونفير قريش، والعير: هو المعبر عنه في الاية بغير ذات الشوكة، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، وأما الشوكة فهى في النفير لعددهم وعدتهم، فقوله تعالى وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال: 7] يعنى تتمنون أن يكون لكم العير؛ لأنها الطائفة التى لا شوكة لها، أى لا حدّة لها ولا شدة، ولا تريدون الطائفة الاخري، ولكن الله يريد الطائفة الاخرى وهى نفير قريش الذى يريد حماية تلك العير، وهى المرادة من قوله تعالى يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ [الأنفال: 7] الاية، ومعنى إحقاق الحق: تنجيز الوعد من النصر والظفر بالأعداء، ومعنى إحقاق الحق الثاني: تقوية القران والدين، ونصرة هذه الشريعة؛ لأن الذى وقع من المؤمنين يوم بدر بالكافرين كان سببا لعزة الدين وقوته، ولهذا السبب قرنه بقوله وَيُبْطِلَ الْباطِلَ [الأنفال: 8] الذى هو الشرك، وذلك في مقابلة الحق الذى هو الدّين والإيمان، فقد أعلمه الله تعالى بعد وعده بالظفر بالطائفة الثانية، وأراه مصارعهم، فعلم القوم أنهم ملاقو القتال، وأنّ العير لا تحصل لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ثم ارتحل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى نزل قريبا من بدر، فلمّا أمسى بعث عليّا بن أبى طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص في نفر من أصحابه إلى بدر يلتمسون الخبر، فأصابوا راوية «1» لقريش معها غلام لبنى الحجاج وغلام لبنى العاص، فأتوا بهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم يصلي، فقالوا: لمن أنتما؟ وظنوا أنهما لأبى سفيان، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فضربوهما، فلما أوجعوهما ضربا، قالا: نحن لأبى سفيان، فتركوهما. فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من صلاته قال: «إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما! صدقا والله، إنهما لقريش، أخبرانى عن قريش» . قالا: هم وراء هذا الكثيب الذى يرى بالعدوة القصوى- أى جانب الوادى المرتفع- فقال لهما رسول الله: كم القوم؟ قالا: هم والله كثير عددهم، شديد بأسهم، قال: ما عدّتهم؟ قالا: لا ندري. وجهد النبى صلّى الله عليه وسلّم أن يخبراه كم هم، فأبيا. قال: كم ينحرون من الجزر كل يوم؟ قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «القوم ما بين التسعمائة والألف» ، أي لكل جزور مائة، ثم قال لهما: «فمن فهيم من أشراف قريش؟» فعدّا له من فيهم من الأشراف، وهم كثير، وفيهم أبو جهل، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الناس، فقال: «هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها- أى أشرافها وعظماءها-» ثم بعث صلّى الله عليه وسلّم عديّا وبسبس رضى الله عنهما، إلى بدر يتحسسان الأخبار (التحسس للأخبار بالحاء المهملة: أن يفحص الشخص عن الأخبار بنفسه، وبالجيم: أن يفحص عنها بغيره» وجاء: «تحسّسوا ولا تجسسوا» «2» ) قبل وصوله صلّى الله عليه وسلّم، وقبل وصول قريش إليها أيضا، فنزلا قريبا من بدر، عند تل هناك، ثم أخذا شنّا لهما يستقيان فيه، وكان مجدى بن عمرو على الماء، وإذا جاريتان تتخاصمان وتمسك إحداهما الاخرى على الماء، والممسكة الملزمة تقول لصاحبتها: إنما يأتى العير غدا أو بعد غد، فأعمل لهم وأقضيك الذى لك. فقال مجدى بن عمرو الذى على الماء: صدقت، ثم خلّص بينهما. فلما سمع بذلك عدى وبسبس، جلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتّى أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبراه بما سمعا. ثم إن أبا سفيان   (1) الرواية: الناقة المعدة عليها القرب. (2) فى القاموس: الحاسوس: الجاسوس، أو بالحاء في الخير وبالجيم في الشر، والجس: المس باليد، وتفحّص الأخبار، ومنه الجاسوس والجسيس لصاحب سر الشر» أ. هـ مختصرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 تقدم على العير حذرا حتّى ورد الماء، فلقى ذلك الرجل الذى على الماء، فقال له: هل أحسست أحدا؟ قال: ما رأيت أحدا أنكره، إلا أنى قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شنّ لهما، ثم انطلقا، فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما شيئا ففتته، فإذا فيه كسيرات النوي، فقال: «والله علائف يثرب» . فرجع إلى أصحابه سريعا فصرف وجه عيره عن الطريق، وترك بدرا بيسار، وانطلق حتّى أسرع، فلما علم أنه قد أحرز عيره أرسل إلى نفير قريش، وكان قد بلغه مجيئهم ليحرزوا العير، وكانوا حينئذ بالجحفة، [فقال أبو سفيان] «1» : «إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجّاها الله تعالى فارجعوا» ، فقال أبو جهل: «والله لا نرجع حتّى نحضر بدرا فنقيم عليه ثلاثة أيام، فلا بد أن ننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان- أى تضرب بالدفوف- وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها» . وأراد بنو هاشم الرجوع، فاشتد عليهم أبو جهل، وقال: «لا تفارقنا هذه العصابة حتّى نرجع» ، ثم لم يزالوا سائرين حتّى نزلوا بالعدوة القصوي، قريبا من الماء، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعيدا من الماء بينه وبين الماء مسافة، فظميء المسلمون وأصابهم ضيق شديد، وأجنب «2» غالبهم، فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا، وكان الوادى لينا كثير التراب، تدخل فيه الأقدام، فأمطرت السماء ببركة النبى صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وتلبدت الأرض، وزال غبارها وشدتها، وشربوا وملأوا الأسقية، وسقوا الركائب، واغتسلوا من الجنابة، وطابت نفوسهم، فذلك قوله تعالى وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: 11] ، وأصاب قريشا «3» منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا منه ويصلوا إلى الماء، فكان المطر نعمة وقوة للمؤمنين، وبلاء ونقمة للمشركين. وأصاب المسلمين تلك الليلة نعاس شديد، وبات النبى صلّى الله عليه وسلّم من بينهم يصلّى تحت شجرة، وقد حصل النعاس لهم، وهو دليل على الطمأنينة، فلما أن طلع الفجر نادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الصلاة عباد الله» ، فجاء الناس من تحت الشجر والجحف، «4»   (1) ليست في الأصل، وإنما وضعناها ليستقيم الكلام. (2) أجنب: أي صار جنبا بخروج المنى باحتلام أو غيره الموجب للغسل. (3) فى الأصل «قريش» على أنها فاعل، والصحيح «قريشا» لأنها مفعول. (4) قرون الفلاة ورؤسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فصلى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحرّض على القتال في خطبة خطبها، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «أما بعد: فإني أحثكم على ما حثكم الله عليه ... » إلى أن قال « ... وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرّج الله به الهمّ وينجى به من الغم» . ولما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا وقد أقبلت بالدروع الساترة، والجموع الوافرة، والأسلحة البارقة، قال: «اللهم إن هذه قريش قد أقبلت بخيلائها (أى بكبرها وعجبها وفخرها) تجادلك، وتخالف أمرك، وتكذّب رسولك، اللهم فنصرك الذى وعدتنى به، أنجزه اللهم، أمرتنى بالثبات ووعدتنى إحدى الطائفتين، وإنك لا تخلف الميعاد» . وكان من حكمة الله تعالى أن جعل المسلمين قبل أن يلتحم القتال في أعين المشركين قليلا استدراجا لهم ليقدموا، ولما التحم القتال جعلهم في أعين المشركين كثيرا ليحصل لهم الرعب، وجعل الله المشركين عند التحام القتال في أعين المسلمين قليلا، ليقوي جانبهم على مقاتلتهم، وأنزل الله تعالى وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال: 44] ومن ثمّ قال الله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [ال عمران: 13] وحين رأى المسلمون نار القتال قد شّبت عجّوا «1» بالدعاء إلى الله تعالى، فأنزل الله تعالى عند ذلك: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9] (أى متتابعين) ، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر رضى الله عنه، وميكائيل عليه السلام في خمسمائة على الميسرة، وفيها عليّ رضى الله عنه، فى صور الرجال، عليهم عمائم بيض وثياب بيض، قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم، وعلى جبريل عليه السلام عمامة صفراء أرسلها من خلفه. وعن عروة بن الزبير: كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء، فأمدّه الله تعالى بالملائكة؛ ألف مع جبريل وألف مع ميكائيل، وقيل أيضا: أمدّه بألف مع إسرافيل فزيد في الوعد بثلاثة الاف لقوله تعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [ال عمران: 125] فوقع الوعد   (1) عجوا بالدعاء: رفعوا أصواتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 بإكمالهم خمسة الاف، وكان ذلك معلّقا على شرط، وهو الصبر والتقوى عن حوز الغنائم، فلم يصبروا، ففات الإمداد مما زاد على الثلاثة الاف، وقيل: كان الإمداد يوم بدر بالخمسة الاف، وإنما كان الملائكة شركاء لهم في بعض الفعل، ليكون الفعل منسوبا للنبى صلّى الله عليه وسلّم ولأصحابه، وأن الملائكة مدد على عادة مدد الجيوش، رعاية لصورة الأسباب التى أجراها الله تعالى في عباده، وإلا فجبريل واحده قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه، وليهابهم العدوّ بعد ذلك، فاتضح أن الملائكة قاتلت يوم بدر، ولم تكن لتكثير السواد فقط «1» . وعند ابتداء الحرب نادى منادى قريش: يا محمد أخرج لنا أكفاءنا من قومنا، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي» ، أو قال: «قوموا يا بنى هاشم، فقاتلوا» ، فلما قدم عبيدة ابن الحارث وحمزة وعلى دنوا منهم، وقالوا: من أنتم؟ لأن هؤلاء الثلاثة كانوا ملتبسين لا يعرفون من السلاح، قال عبيدة: عبيدة، وقال حمزة: حمزة، وقال عليّ: عليّ، قالوا: نعم أكفاء كرام، فبارز عبيدة ابن الحارث: عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة: شيبة، وبارز عليّ الوليد، فأما حمزة فلم يمهل أن قتل شيبة، وأما على فلم يمهل أن قتل الوليد، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما طعن صاحبه، وكرّ حمزة وعليّ بسيفيهما على عتبة فذفّفا «2» عليه، واحتملا صاحبهما فجرّاه إلى أصحابه، وأضجعوه إلى جنب موقعه صلّى الله عليه وسلّم، فأفرشه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قدمه الشريف، فوضع خدّه عليها، فقال له عبيدة: ألست شهيدا يا رسول الله؟ فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أشهد أنك شهيد. قيل: هذه أوّل مبارزة وقعت في الإسلام. وفي الصحيحين عن أبى ذرّ أنه كان يقسم قسما أن اية هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج: 19] نزلت في حمزة وصاحبيه يوم بدر.   (1) قال الربيع بن أنس: «كان الناس يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق، وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به. وعن ابن عباس: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر. وكذلك روى ابن إسحاق: لم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر. وإنما كان نزولهم في غير بدر لتثبيت المؤمنين، لا للقتال. (2) قوله «فذففا عليه» : أي أسرعا قتله وتمما عليه أ. هـ (من هامش الأصل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ثم تزاحم الناس ودنا بعضهم من بعض، وقد كان عدّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صفوف أصحابه بقدح في يده (أى سهم) ، فمرّ بسواد بن غزية (حليف بنى النجار) وهو خارج من الصف فطعنه «1» صلّى الله عليه وسلّم بالقدح في بطنه، وقال: استو يا سواد، فقال: يا رسول الله أوجعتنى وقد بعثك الله بالحق والعدل، فأقدنى من نفسك (أى مكّنّى من القصاص من نفسك) فكشف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نفسه، وقال: استقد: أي اقتصّ، فاعتنقه وقبّل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ فقال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون اخر العهد بك أن يمسّ جلدى جلدك» «2» ، فدعا له صلّى الله عليه وسلّم بخير. ثم لما عدّل الصفوف، قال لهم: «إن دنا القوم منكم فادفعوهم عنكم بالنبل، واستبقوا نبلكم: لا ترموهم على بعد، (لأن النبل مع البعد يخطيء) ولا تسلّوا السيوف حتّى يغشوكم» ثم رجع صلّى الله عليه وسلّم إلى العريش يناشد ربّه ما وعده به من النصر، ويقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في الأرض» وأبو بكر يقول: «دع بعض مناشدتك ربك؛ إن الله منجز لك ما وعدك» فكان المصطفى فى مقام الخوف، وهو هنا أعلي، والصدّيق في مقام الرجاء، وهو هنا دونه. ولما اصطفّ الناس للقتال رمى قطبة بن عامر حجرا بين الصفين، وقال: لا أفرّ إن فرّ هذا الحجر. وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر: «قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» ، فقال عمير بن الحمام «3» - بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم- ابن الجموح الأنصاري: بخ بخ (كلمة تقال لتعظيم الأمر   (1) وكزه وكزة خفيفة. (2) من الإصابة لابن حجر: «سواد بن غزيّة الأنصاري: من بنى عدى ابن النجار. هو الذى أسر خالد بن هشام المخزوميّ. روى عبد الرزاق أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان يتخطى بعرجون، فأصاب به سواد بن غزية الأنصاري، فقال: أقدني ... » وساق القصة ورواه البغوى أيضا. (3) هو عمير بن الحمام بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمة الأنصاري. كان أوّل قتيل فى سبيل الله في الحرب، واتفقوا على أنه استشهد يوم بدر لا يوم أحد، كما زعم بعضهم أ. هـ. باختصار من الإصابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 والتعجب منه مع التنوين وعدمه) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا، والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها؟ قال: فإنك من أهلها. قال: فأخرج تمرات من جعبته فجعل يأكل منهن، ثم قال: «لئن أنا حييت حتى اكل تمراتى هذه إنها لحياة طويلة» ، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل حتى قتل. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اخى بينه وبين عبيدة بن الحرث المطلبي، فقتلا يوم بذر جميعا. وقال ابن إسحاق: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر: لا يقاتل أحد في هذا اليوم فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر: إلا دخل الجنة؟ وكان عمير واقفا في الصف بيده تمرات يأكلهن، فسمع ذلك فقال: «بخ بخ، ما بينى وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلنى هؤلاء» وألقى التمرات من يده وأخذ السيف وقاتل القوم وهو يقول: ركضا إلى الله بغير زاد ... إلا التّقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد ... إنّ التّقى من أعظم السّداد وخير ما قاد إلى الرشاد ... وكلّ حيّ فإلى نفاد وبعد تعديل الصفوف كان أوّل من خرج من المسلمين «مهجع» - بكسر الميم وإسكان الهاء فجيم مفتوحة فعين مهملة- مولى عمر بن الخطاب، فقتله عامر بن الحضرمى بسهم أرسله إليه، فقيل: إنه أوّل من يدعى من شهداء هذه الأمة، وإنه صلّى الله عليه وسلّم قال يومئذ: «مهجع سيد الشهداء «1» » . وقاتل في ذلك اليوم المؤمنون، ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حفنة من الحصباء ناولها له عليّ رضى الله عنه، فاستقبل بها قريشا، ثم قال: «شاهت وجوه القوم» أى قبحت وذلّت- ثم نفخهم بها فلم يبق من المشركين رجل إلا ملئت عينه   (1) مهجع العكى- مولى عمر بن الخطاب- أصله من عكّ، فأصابه سباء، فمنّ عليه عمر فأعتقه. كان من السابقين إلى الإسلام. شهد بدرا واستشهد بها. وكان ممن نزل فيهم قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وأنفه وفمه، فلا يدرى أين يتوجه، يعالج التراب لينزعه من عينه، وقال لأصحابه: «شدّوا عليهم» فكانت الهزيمة على المشركين، وردفهم المسلمون يقتلون ويأسرون، وأنزل الله (تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] . وقد ورد عن عمر رضى الله عنه أنه لما كان يوم بدر، وانهزمت قريش، نظرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في اثارهم مصلتا السيف يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 45] . وكان من جملة من خرج مع المشركين يوم بدر: عبد الرحمن بن أبى بكر، وكان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة، فسماه النبى صلّى الله عليه وسلّم عبد الرحمن، وكان من أشجع قريش، وأسنّ ولد أبيه، فلما أسلم في هدنة الحديبية وهاجر إلى المدينة قال لأبيه: لقد هدفت «1» لى يوم بدر مرارا فأعرضت عنك، فقال أبو بكر: لو هدفت لى لم أعرض عنك. وكان حرسه صلّى الله عليه وسلّم ببدر: سعد بن معاذ، وذكوان بن عبد الله، ويوم أحد حرسه: محمد بن مسلمة الأنصاري. وحرسه يوم الخندق: الزبير بن العوام، وسعد ابن أبى وقاص، وعباد بن بشر. وحرسه ليلة خيبر: أبو أيوب الأنصارى. وحرسه بلال بوادى القرى «2» ، فلما أنزل الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] ترك الحرس. وفي يوم بدر قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه وكان مشركا، وأنزل الله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ... الاية [المجادلة: 22] . وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من له علم بنوفل بن خويلد؟ فقال علي: أنا قتلته. فكبّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: الحمد لله الذى أجاب دعوتى فيه» ؛ فإنه لما التقى الصفان نادى نوفل بصوت رفيع: يا معشر قريش: اليوم يوم الرفعة والعلا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اكفنى نوفل بن خويلد» .   (1) أى كنت هدفا لى أستطيع قتلك. (2) واد بين المدينة والشام، من أعمال المدينة، كثير القري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأبى جهل أن يلتمس في القتلي، وقال: إن خفي عليكم انظروا إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت يوما وهو على مائدة لعبد الله بن جدعان، ونحن غلمان، وكنت أسنّ منه، فدفعته فوقع على ركبتيه، فجحش جحشا على إحديهما (أى خدش خدشا لم يزل أثره به) فحمل عبد الله بن مسعود رأس أبى جهل بن هشام إليه صلّى الله عليه وسلّم، فسجد شكرا لله تعالى؛ لراحة المسلمين من هذا الفاجر، وكان يكنى أبا الحكم فكناه النبى صلّى الله عليه وسلّم أبا جهل، وهو عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وأمه أسماء بنت مخرمة «1» بن نهشل. استطراد: كان المغيرة بن عبد الله بن المعرض: الملقّب بالأقيشر، تزوّج بابنة عم له يقال لها الرباب، على أربعة الاف درهم، فأتى قومه فسألهم فلم يعطوه شيئا، فأتى ابن رأس البغل، وهو دهقان الصين وكان مجوسيا فسأله فأعطاه الصداق كاملا، فقال: كفانى المجوسيّ بمهر الرّباب ... فدى للمجوسى خال وعم شهدت عليك بطيب الأروم ... فإنك بحر جواد خضم وإنك سيد أهل الجحيم ... إذا ما ترديت في من ظلم تجاور هامان في قعرها ... وفرعون والمكتنى بالحكم «2» فقال المجوسي: ويحك سألت قومك فلم يعطوك شيئا، وجئتنى فأعطيتك فجزيتنى هذا القول! فقال: أما ترضى أن جعلتك مع الملوك وفوق أبى جهل!. واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا؛ ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار، وقتل من المشركين سبعون، وأسر سبعون، وانهزم الباقون، وغنم عليه الصلاة والسلام متاعهم، وكان من جملة الأسري: العباس عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.   (1) هي أسماء بنت مخرمة (فى الأصل: «مخزومة» ) . (2) يقصد أبا جهل لعنه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ولما انقضى القتال أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسحب القتلى إلى القليب «1» ، وكانوا أربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش*، فقذفوا فيه، ثم وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أهل القليب، بئس عشيرة النبى كنتم لنبيكم، كذّبتمونى وصدّقنى الناس، وأخرجتمونى واوانى الناس، وقاتلتمونى ونصرنى الناس، يا أهل القليب هل وجدتم ما وعد ربّكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدنى ربى حقا. فقال له أصحابه: أتكلّم قوما موتي؟ قال: لقد علموا أنّ ما وعدهم ربهم حق» . وعاد النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وكانت غيبته تسعة عشر يوما، وأرسل زيد بن حارثة بشيرا، فوصل إلى المدينة وقد نفضوا أيديهم من تراب رقية بنت النبى عليه الصلاة والسلام، وكان عثمان تخلّف في المدينة بأمره صلّى الله عليه وسلّم لسببها. وفيها «2» هلك أبو لهب. وكانت وقعة بدر المذكورة صبيحة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، فى السنة الثانية من الهجرة. مقتل النضر ورثاء أخته له: لما وصل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الصفراء راجعا من بدر، وأمر عليا بضرب عنق النضر بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى القرشى العبدري، وكان شديد العداوة للنبى صلّى الله عليه وسلّم، وإذا تلا صلّى الله عليه وسلّم قرانا، يقول لقريش: ما يأتيكم محمد إلا بأساطير الأولين. فلما قتل النضر أنشدت أخته النبيّ صلّى الله عليه وسلّم- واسمها قتيلة- هذه الأبيات: يا راكبا إنّ الأثيل مظنّة ... من صبح غادية وأنت موفق أبلغ بها ميتا بأن تحية ... ما إن تزال بها النجائب تعنق منّى إليه وعبرة مسفوحة ... جادت بواكفها وأخرى تخنق هل يسمعنّى النضر إن ناديته ... إن كان يسمع ميت لا ينطق ظلّت سيوف بنى أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقّق قسرا يقاد إلى المنية متبعا ... رسف المقيد وهو عان موثق   (1) أى البئر. (2) أى في السنة الثانية. * واضح أنهم لم يستحبوا كلّ القتلى، فقد سبق أن عددهم كان سبعين رجلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 أمحمّد، ولأنت صنو نجيبة ... في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرّك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق فالنضر أقرب من تركت* وسيلة ... وأحقّهم إن كان عتق يعتق أو كنت قابل فدية فليفدين ... بأعز ما يغلى به من ينفق ذكر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو سمعت شعرها قبل ذلك لما قتلته» . وقيل: إن الذى أمر بقتله المقداد بن الأسود، وقال بعضهم: إن الزبير بن بكار قال: سمعت بعض أهل العلم يغمز في أبيات قتيلة بنت الحارث، ويقول إنها مصنوعة. أ. هـ. وقال بعضهم: الصحيح أن قتيلة ابنة النضر هى جدة الثريا ابنة علي بن عبد الله بن الحارث الموصوفة بالجمال، وهى صاحبة عمر بن عبد الله بن أبى ربيعة بن المغيرة بن عمرو بن مخزوم- الشاعر المشهور- لم يكن في قريش أشعر منه، وكان يتغزّل في شعره بالثريا المذكورة، فتزوجها سهيل بن عبد الرحمن الزهري، ونقلها إلى قصره، فقال عمر المذكور في زواجهما، مورّيا بالثريا وسهيل النجمين المعروفين ببيتين يضرب بهما المثل في تعذّر الاجتماع: أيّها المنكح الثّريّا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان؟! هى شامّيّة إذا ما استقلّت ... وسهيل إذا استقلّ يماني ثم بعد قتل النضر بن الحارث أمر بضرب عنق عقبة بن أبى معيط بن أمية. ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن رواحة بشيرا لأهل العالية- محلّ قريب من المدينة على عدّة أميال- وزيد بن حارثة بشيرا لأهل السافلة بما فتح الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، فجعل عبد الله بن رواحة يقول في أهل العالية: يا معشر الأنصار، أبشروا بسلامة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقتل المشركين وأسرهم، ونادى زيد بن حارثة في أهل السافلة بمثل ذلك، ويقولون: قتل فلان وفلان، وأسر فلان وفلان من أشراف قريش.   * الرواية المشهورة: أقرب من قتلت قرابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وصار عدوّ الله كعب بن الأشرف «1» يكذّبهما ويقول: إن كان محمد قتل هؤلاء القوم، فبطن الأرض خير من ظهرها. [إسلام عمير بن وهب] : قال ابن إسحاق: وجلس عمير بن وهب الجمحى مع صفوان بن أمية بعد مصاب قريش في بدر تجاه الكعبة، فتذاكرا قومهما وما نزل بهم من القتل والأسر، وكان عمير بن وهب ممن يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بمكة قبل الهجرة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فقال صفوان: والله ما في الحياة بعد اليوم خير، فقال له عمير: صدقت، أما والله لولا دين عليّ ليس له عندى قضاء، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد حتّى أعمل الحيلة وأقتله وأفتكّ ابنى من أيديهم. وكان عمير شجاعا، وكان صفوان ذا مال كثير، فانتهز الفرصة صفوان، وقال له: أمّا دينك فعليّ قضاؤه، وأما عيالك فهم مع عيالى أواسيهم ما بقوا، ولا يكون في يدى شئ فيحرمون منه. فعاهده عمير على ذلك، وقال: اكتم شأنى وشأنك، فقال صفوان: أكتم ذلك. ثم إن عميرا شحذ سيفه وسمّمه، وانطلق حتّى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب- رضى الله تعالى عنه- فى نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، وما أكرمهم الله تعالى فيه، وما فعل بأعدائهم، ويشكرون الله تعالى، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب حين أناخ على باب المسجد ناقته متوشحا سيفه، فقال: هذا عدو الله عمير ابن وهب ما جاء إلا بشرّ. ثم دخل عمر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد فقال: يا نبيّ الله، هذا عدو الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحا سيفه، قال: أدخله عليّ. فأقبل عمر بن الخطاب- رضى الله تعالى عنه- إلى عمير، فأخذ بحمائل سيفه، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار: ادخلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث؛ فإنه غير مأمون. ثم دخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما راه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعمر اخذ بحمائل سيفه في عنقه، قال: أرسله يا عمر، ادن يا عمير، فدنا عمير، وقال للنبى صلّى الله عليه وسلّم: أنعم صباحا- وكانت   (1) هو أعدى أعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من اليهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 هذه تحية العرب في الجاهلية- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير؛ أكرمنا بالسلام تحية أهل الجنة، ما جاء بك عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذى عندكم، قال: فما للسيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت شيئا، قال: أصدقنى يا عمير، ما الذى جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال: يا عمير قعدت أنت وصفوان بن أمية تجاه الكعبة فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين عليّ وعيال لى لخرجت حتّى أقتل محمدا، فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلنى له، والله تعالى حائل بينك وبين ذلك. قال عمير: أشهد أنك رسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذّبك بما يأتى من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يعلمه أحد ولم يحضره إلا أنا وصفوان، وو الله إنى لأعلم أنه ما أتاك إلا من الله تعالى، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام، وساقنى هذا المساق. ثم شهد شهادة الحق- رضى الله تعالى عنه- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقّهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القران وأطلقوا له أسيره، ففعلوا ذلك، ثم قال: يا رسول الله إنى كنت جاهدا في إطفاء نور الله شديد الأذى لمن كان على دين الله، وأنا أحب أن تأذن لى فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله تعالى- إلى الإسلام- لعل الله يهداهم؟ فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فلحق «1» بمكة وأظهر الإسلام، وأسلم ولده أيضا- رضى الله تعالى عنهما. قال ابن إسحاق: وأسلم بعد فك الأسر جماعة منهم: أبو وداعة السهمي، وعبد الله بن خلف الجمحي، ووهب بن عمير الجمحي، وقيس بن السائب المخزومي، وأسلم السائب بن عبيد، وهو الأب الخامس للإمام الشافعى- رضى الله عنه- وكان صاحب راية بنى هاشم يوم بدر من كفار قريش، وكان صاحب الراية أبو سفيان، لكن لغيبته في العير حملها السائب لشرفه، وأما الأب الرابع، فهو شافع بن السائب الذى ينسب إليه الإمام الشافعى رضى الله عنه، لقى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو مترعرع فأسلم. فإن الإمام الشافعى- رضى الله عنه- هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد   (1) فى الأصل فألحق، وهو خطأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 مناف جد النبى صلّى الله عليه وسلّم، فيجتمع الإمام الشافعى- رضى الله تعالى عنه- مع النبى صلّى الله عليه وسلّم في جد الإمام الشافعى التاسع الذى هو جد النبى صلّى الله عليه وسلّم الثالث، وهو عبد مناف. ولما قدم عليه الصلاة والسلام المدينة وكانت وقعة بدر، وأسر فيها من أسر من أهل مكة، قال عليه الصلاة والسلام لأهل بدر: «إن بكم عيلة «1» ، فلا يفلت منهم- يعنى الأسارى- أحد إلا بفداء أو ضربة عنق» ، وقال: «استوصوا بهم خيرا» . وكان فداؤهم أربعين أوقية عن كل إنسان، إلا العباس عم النبى صلّى الله عليه وسلّم؛ فإن فداءه كان مائة أوقية، فكان من لا مال له من الأسارى يقبل منه أن يعلّم عشرة من غلمان أهل المدينة الكتابة، فإذا حذقوه كان فداءه، فيومئذ تعلّم زيد بن ثابت الكتابة في جماعة من الأنصار. ومن هنا تعلم أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان حريصا على تعليم «2» الكتابة التى هى التمدن الأوّلى للنوع البشري، وسيأتى بيان الوظائف والتعليمات التى كانت جارية في عهده صلّى الله عليه وسلّم. وقد منّ النبى صلّى الله عليه وسلّم على نفر من أسراء بدر، وخلّى سبيلهم من غير شيء، ولما طلب صلّى الله عليه وسلّم من العباس أن يفدى نفسه، قال: علام يؤخذ منى الفداء، وقد كنت أسلمت أنا وأم الفضل وبقية ال بيتي، ولكن القوم أكرهونى على الخروج؟ فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: كان ظاهر أمرك أنك كنت علينا، ولكنّ الله تعالى يجزيك عما أخذ منك. وأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) «3»   (1) أى فقر. (2) أى حريصا على أن يتعلم المسلمون الكتابة والقراءة. وفي الأصل الذى راجعنا عليه «تعلم» وهو خطأ واضح، وذلك أن النبى صلّى الله عليه وسلّم لو كان حريصا على تعلم القراءة لأعطى العدو سلاحا للطعن فى الرسالة، نسأل الله العصمة من الزلل، وهو خطأ طباعى لا محالة. (3) قال ابن كثير: قال محمد بن إسحاق: حدثنى العباس بن مغافل عن بعض أهله عن عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم بدر: «إنى قد عرفت أن أناسا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى منكم أحدا منهم فلا يقتله، ومن لقى أبا الخترى بن هشام فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنما أخرج مستكرها» . فقال أبو حذيفة بن عتبة: أنقتل اباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس؟! والله لئن لقيته لألجمنّه بالسيف. - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 [الأنفال: 70] ، وقد أعطى الله العباس خيرا مما أخذ منه، وفي هذه الاية بشرى عظيمة للعباس؛ إذ أخذ أكثر مما أعطي، وغفر له ما أخطأ، ولما نزلت قال العباس: يا رسول الله وددت أنك أخذت منى أضعافا. وفي البخارى أنه أتي بمال من البحرين (أى خراجها وهو أوّل خراج حمل إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم) وكان مائة ألف، فأمر بصبه في المسجد. وكان أكثر مال أتى به: فخرج إلى المسجد ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس فسأله، فقال: خذ، فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقلّه فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مرّ بعضهم يرفعه إليّ، فقال: لا، فقال: ازفعه أنت عليّ، فقال: لا. فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال كالأوّل، فقال: لا. ثم نثر منه، ثم احتمله، فأتبعه صلّى الله عليه وسلّم بصره عجبا من حرصه. وذكر السهمى في «الفضائل» أن أبا رافع لما بشّر النبى) بإسلام العباس أعتقه. ولما فدى العباس نفسه، ورجع إلى مكة وأظهر إسلامه، وجمع أمواله، هاجر إلى المدينة، ولازمه صلّى الله عليه وسلّم في غزواته، كان صلّى الله عليه وسلّم يكرمه ويعظمه «1» ، ووصفه عليه الصلاة والسلام فقال: «أجود الناس كفا، وأحناه عليهم» ، وروى السهمى من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ألا أبشرك يا عم؟ قال:   - فبلغت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لعمر بن الخطاب: يا أبا حفص، (قال عمر: والله إنه لأوّل يوم كنانى فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا حفص) أيضرب وجه عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسيف؟! فقال عمر: يا رسول الله ائذن لى فأضرب عنقه، فو الله لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك: والله ما امن من تلك الكلمة التى قلت، ولا أزال منها خائفا إلا أن يكفّرها الله تعالى عنى بشهادة. فقتل- رضى الله عنه- يوم اليمامة شهيدا. انظر تفسير ابن كثير بتوسع عند تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) [الأنفال: 70] . (1) كان النبى صلّى الله عليه وسلّم يقول: «العباس منى وأنا منه» رواه الترمذى والحاكم عن ابن عباس. «العباس عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإن عم الرجل صنو أبيه» رواه الترمذي. وروى ابن عساكر عن عليّ: «العباس عمى وصنو أبى فمن شاء فليباه بأبيه» . وقد ذكر له محب الدين الطبرى فصلا خاصا به في كتابه «ذخائر العقبي» وهو فصل ممتاع، فانظره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 بلى بأبى أنت وأمي، فقال عليه الصلاة والسلام: «إن من ذريتك الأصفياء، وعترتك الخلفاء» «1» . وكان الذى أسر العباس أبو اليسر، واسمه كعب بن عمرو، وكان قصيرا دميما، وكان العباس عظيم الخلق طويل القامة من مقبّلى الظعن- يعنى أنه كان يدرك فم الظعينة وهى راكبة على البعير، وهو على قدميه في الأرض. وفي مسند البزار: قيل للعباس: كيف أسرك أبو اليسر ولو أخذته بكفك لوسعته؟! فقال: ما هو إلا أن لقيته فظهر في عينى كالخندمة- والخندمة جبل حول مكة- وذكر أبو عمر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد أعانك عليه ملك كريم» . ولما فدى العباس نفسه وابن أخيه عقيل بن أبى طالب قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لقد تركتنى أتكفف قريشا فقيرا معدما، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فأين ما دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: ما أدرى ما يصيا بني، فإن حدث بى حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم؟ فقال العباس: وما يدريك يا ابن أخي؟ قال: أخبرنى به ربي، فقال العباس: أشهد أنك صادق، وأشهد ألاإله إلا الله وأنك عبده ورسوله والله لم يطّلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابا في أمرك، فأما إذ أخبرتنى بذلك فلا ريب. ا. هـ. وأم الفضل هذه «لبابة الكبري» بنت الحارث الهلالية، أخت ميمونة زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم، وأختها «لبابة الصغري» أم خالد بن الوليد، وولدت أم الفضل للعباس سبعة نجباء: عبد الله بن عباس صاحب التفسير الذى قال فيه عليه الصلاة والسلام: «اللهم فقّهه في الدين وعلّمه التأويل» . وإخوته الستة: عبيد الله، وعبد الرحمن، والفضل، وقثم، ومعبد، وكثير، (واختلف في كثير فقيل: إن أمه رومية) ، وأختهم أم حبيب.   (1) عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المسجد فوجد العباس بن عبد المطلب ساجدا، فوقف حتّى رفع رأسه، فلما انفتل من صلاته قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن من ذريتك الأصفياء، ومن عترتك الخلفاء» (ذكره صاحب ذخائر العقبى) محب الدين الطبرى- رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وفي أم الفضل يقول الشاعر: ما ولدت نجيبة من فحل ... بجبل نعرفه وسهل كسبعة من بطن أمّ الفضل ... أكرم بها من كهلة وكهل عمّ النبيّ المصطفى ذى الفضل ... وخاتم الرسل وخير الرسل وكان له أيضا سوى هؤلاء ثلاثة من غير أم الفضل: عون، والحارث، وتمام، وكان أصغرهم تمام، وأمه رومية تسمى «سبا» ويقال شقيقه «كثير» المتقدم الذكر، وكان العباس يحمل «تماما» هذا ويقول: تمّوا بتمّام فصاروا عشره ... يا رب فاجعلهم كراما برره واجعل لهم ذكرا وأنم الثمره وقد أجاب الله دعاء العباس في بنيه الأكياس، كانوا كما أراد أبوهم واشتهي، كلهم له رواية ونهى. ومع ذلك فيقال: ما رؤيت قبور أشد تباعدا بعضها من بعض من قبور بنى العباس بن عبد المطلب؛ ولدتهم أمهم أم الفضل في دار واحدة، استشهد الفضل بأجنادين، ومات معبد وعبد الرحمن بإفريقية، وتوفى عبد الله بالطائف، وعبيد الله باليمن، وقثم بسمرقند، وكثير وأمه سبأ المذكورة أخذته الذبحة بينبع- رضى الله عنهم أجمعين. وخرّج محمد بن يزيد في «الكامل» أن العباس كان إلى منكب عبد المطلب، وكان عبد الله بن عباس إلى منكب العباس، وكان علي بن عبد الله إلى منكب أبيه عبد الله. وطاف عليّ هذا بالبيت، وهناك عجوز قديمة، وعليّ قد فرع «1» الناس كأنه راكب والناس مشاة، فقالت: من هذا الذى فرع الناس؟ فقيل: هو علي بن عبد الله ابن العباس، فقالت: لا إله إلا الله، إن الناس ليرذلون «2» ؛ عهدى بالعباس وهو يطوف بالبيت كأنه قرطاس أبيض. انتهى.   (1) أى فاقهم طولا. (2) هو كناية عن أن أفاضل الناس يذهبون ويبقى الأقل فضلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وقال بعضهم: أدرك الإسلام من العرب عشرة أنفار طوال جدّا، منهم عبادة ابن الصامت. ومن جملة الأسارى أيضا نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، تأخر إسلامه إلى غام الخندق، وقيل: بل أسلم حين أسر، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: افد نفسك بأرماحك التى بجدّة، قال: والله ما علم أحد أن لى بجدة أرماحا غير الله، أشهد أنك رسول الله. ثم شهد معه حنينا، وأعانه عند الخروج إليها بثلاثة الاف رمح، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كأنى أنظر إلى أرماحك هذه تقصف ظهور المشركين. توفى نوفل بالمدينة سنة خمس عشرة، وصلّى عليه عمر بن الخطاب- رضى الله تعالى عنهما. وقيل: إن العباس أسلم قبل وقعة بدر، وكان يخفى إسلامه لمّا طلب منه صلّى الله عليه وسلّم أن يفدى نفسه، قال: علام يؤخذ منى الفداء وقد كنت أسلمت أنا وأم الفضل وبقية ال بيتي، ولكن القوم أكرهونى على الخروج «1» ؟!، وقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: كان ظاهر أمرك أنك كنت علينا، ولكنّ الله تعالى يجزيك على ما أخذ منك، وأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً، [الأنفال: الاية 70] ولما نزلت قال العباس: يا رسول الله لوددت أنك كنت أخذت منى أضعافا، والمأخوذ منه مائة أوقية من الذهب، كما سبق انفا. وقد منّ النبى صلّى الله عليه وسلّم على نفر من أسراء بدر، وخلّى سبيلهم من غير شئ، وفدى نفرا كالعباس- رضى الله تعالى عنه-. ولما فدى العباس نفسه رجع إلى مكة وأظهر إسلامه، وجمع أمواله وهاجر إلى المدينة، ولازمه صلّى الله عليه وسلّم في غزواته، وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم يعظمه، وكانت الصحابة تعظمه وتقدمه وتشاوره وتأخذ برأيه، ولما قيل له: أيّما أكبر أنت أو النبى صلّى الله عليه وسلّم) ؟ قال: هو أكبر مني، وأنا ولدت قبله «2» . قال ابن إسحاق: ولما بلغ النجاشىّ نصرة النبى صلّى الله عليه وسلّم ببدر فرح فرحا شديدا، قال جعفر بن أبى طالب- رضى الله عنه- وكان جعفر إذ ذاك بأرض الحبشة: فأرسل إليّ النجاشى وإلى أصحابى ذات يوم، فدخلنا عنده فوجدناه جالسا على   (1) أى أنه لم يأت محاربا، وإنما جاء مكرها. (2) فى هذا اللفظ من الاداب ما فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 التراب لابسا أثوابا خلقة، فقال: إنّى أبشّركم بما يسرّكم، إنه قد جاءنا من نحو أرضكم عين لي، فأخبرنى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أعدائه بمحلّ يقال له بدر، فكانت النصرة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له جعفر: ما لك جالس على التراب وعليك هذه الثياب؟ قال: «إنا نجد فيما أنزل الله تعالى على عيسى عليه السلام أن حقا على عباد الله تعالى أن يحدثوا له تواضعا إذا أحدث لهم نعمة» قال: ولما أوقع الله تعالى بالمشركين يوم بدر، واستأصل رؤساءهم قالوا: إنّ ثأرنا بأرض الحبشة، فلنرسل إلى ملكها ليدفع إلينا من عنده من أتباع محمد فنقتلهم بمن قتل منا. فأرسلوا عمرو بن العاص، وعبد الله ابن ربيعة- رضى الله تعالى عنهما، (فإنهما أسلما بعد ذلك) ، ومعهما طائفة من كفار قريش إلى النجاشى ليدفع إليهما من عنده من المسلمين، وأرسلوا معهما هدايا وتحفا للنجاشي، فلما وصلا إليه ردّهما خائبين، ولما بلغ صلّى الله عليه وسلّم ذلك بعث إلى النجاشى عمرو بن أمية الضمرى رضى الله تعالى عنه- بكتاب يوصيه فيه على المسلمين الذين عنده بالحبشة. وقد سبق التنويه إلى ذلك (فى الفصل الثانى من الباب الثانى في الهجرتين إلى الحبشة) . وسيأتى الكلام على ذلك في قدوم جعفر من الحبشة في غزوة خيبر. ويقال: إن عمرو بن العاص أسلم حينئذ على يد النجاشي، ولهذا يلغز، ويقال: من هو الصحابى الذى أسلم على يد تابعي؟ ومنشأ هذا ما قاله بعض أهل السير حكاية عن عمرو بن العاص عن نفسه من أنه قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله إنى أرى أمر محمد يعلو الأمور علوّا منكرا، وإنى قد رأيت أمرا، فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشى فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، قالوا: إن هذا الرأي، قلت: فاجمعوا ما نهدى له، وكان أحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ما يهدى إليه من أرضنا الادم» ، فجمعنا له أدما كثيرا، ثم خرجنا حتّى قدمنا عليه، فو الله إنّا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل إليه ثم خرج من عنده، قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري، لو قد دخلت على النجاشى وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أنى قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد. قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقي، أهديت إليّ من بلادك شيئا؟ قال: قلت: نعم أيها الملك، قد أهديت لك أدما كثيرا، قال: ثم قرّبته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت: أيها الملك، إنى قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدوّ لنا فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا. قال: فغضب، ثم مدّ يده فضرب به أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لى الأرض لدخلت فيها فرقا «2» منه، ثم قلت له: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألنى أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذى كان يأتى موسى عليه السلام لتقتله؟! قال: قلت: أيها الملك، أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو، أطعنى واتّبعه؛ فإنه والله لعلى الحق، وليظهرنّ على من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قال: قلت: أفتبايعنى له على الإسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابى وقد حال رأيى عما كان عليه، وكتمت أصحابى إسلامي، ثم خرجت عامدا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة فقلت: أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام الميسم «3» ، وإن الرجل لنبيّ، أذهب والله أسلم، فحتى متى؟ قال: قلت: والله ما جئت إلّا لأسلم، قال: فقدمنا المدينة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتقدّم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله إنى أبايعك على أن يغفر لى ما   (1) الادم: هو ما يصلح الطعام ويطيبه. (2) أى جزعا وخوفا. (3) جاء في الروض الأنف للسهيلى ج 3 ص 304: «من رواه «الميسم» بالياء فهى العلامة، أى قد تبين الأمر واستقامت الدلالة، ومن رواه (المنسم) بفتح الميم والنون، فمعناه: استقام الطريق ووجبت الهجرة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 تقدّم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا عمرو، بايع فإن الإسلام يجبّ ما كان قبله، وإن الهجرة تجبّ ما كان قبلها. قال: فبايعته ثم انصرفت ا. هـ. قال ابن إسحاق: وحدثنى من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبى طلحة كان معهما، أسلم حين أسلما. واختلفت الصحابة فيما يفعل بالأساري؛ فمنهم من أشار بقتلهم، ومنهم من أشار بفدائهم. قال في المواهب: وقد استقر الحكم في الأسارى عند الجمهور من العلماء: أن الإمام يخيّر فيهم، إن شاء قتل، كما فعل النبى صلّى الله عليه وسلّم ببنى قريظة، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسارى بدر، وإن شاء استرقّ من أسر، وإن شاء من وأطلق من غير شيء، وهذا مذهب الشافعى وطائفة من العلماء. ولما أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعا إلى المدينة، وخرج من مضيق الصفراء «1» ، قسم النقل (أى الغنيمة) وكانت إبلا وأفراسا ومتاعا، وسلاحا وأنطاعا، وثيابا وأدما كثيرا، كان قد حمله المشركون للتجارة في صحبة قريش، ونادى النبى صلّى الله عليه وسلّم «من قتل قتيلا فله سلبه» «2» ، وأنزل الله تعالى في أصحاب بدر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ... [الأنفال: 1] الاية. وأوّل من حل له أكل الغنائم واتخذها حرفة: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت الأنبياء من قبل يجاهدون ويقاتلون ويسترقون الأرقاء، ولكن ما كانت الغنائم يحل أكلها لهم، وإذا غنموا من أموال المجاهدة شيئا كانت تنزل نار فتحرقه، وكان ذلك علامة قبولهم. وفي الطبراني بسند جيد عن أبى هريرة- رضى الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اطّلع الله على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» أو   (1) الصفراء: من ناحية المدينة، وهو واد كثير النخل والزرع في طريق الحاج، بينه وبين «بدر» مرحلة (2) وفي لفظ اخر «من قتل كافرا فله سلبه» متفق عليه من البخارى ومسلم، ورواه الإمام أحمد وأبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 قال: «فقد وجبت لكم الجنة» . ويضرب بأهل بدر المثل في عدم المؤاخذة، قال بعض الشعراء: يا بدر أهلك جاروا ... وعلّموك التّجرّي وقبّحوا لك وصلي ... وحسّنوا لك هجري فليصنعوا كيف شاؤا ... فإنّهم أهل بدر وقال ابن الفارض: فليصنع القوم ما شاؤا لأنفسهم ... هم أهل بدر، فلا يخشون من حرج [غريب الاتفاق] وأوّل أبيات الشاعر السابق فيها من المحسّنات البديعية- غير التلميح- نوع يقال له: «غريب الاتفاق» لا سيما إذا كان المخاطب اسمه «بدر» ، وهو أن يتفق للشاعر أو الناثر وقعة أو نكتة يستخرجها من الكلام، أو من الوقائع، وهو عزيز الوقوع، وإن حصل للشاعر أو الناثر في ذلك قران سعد، سارت الركبان بقوله، كما اتفق لابن أبى حصينة المصرى في حسام الدين لؤلؤ صاحب الملك الناصر يوسف حين غزا الفرنج الذين قصدوا الحجاز من بحر القلزم، وظفر الحاجب بهم، فقال ابن أبي حصينة يخاطب الفرنج: عدوّكم لؤلؤ والبحر مسكنه ... والدرّ في البحر لا يخشى من الغير ومنه قول الصفيّ الحلّى في بديعيته: ومن غدا اسم أمّه نعتا لأمّته ... فتلك امنة من سائر النّقم ومنه قول ابن الساعاتي، وقد قصد الملك الناصر يوسف- المتقدم ذكره- «بيت يعقوب» من حصون الشأم مخاطبا للإفرنج: * دعوا بيت يعقوب فقد جاء يوسف* ومن غريب الاتفاق ما قيل من أن المأمون صنع تابوتا بديعا، يحمله حسان الغلمان على أكتافهم، ويطوفون به في خلال البستان، والمأمون جالس فيه، ومعه جوارى أبيه هارون الرشيد وجدّه موسى الهادي، فدعا الشعراء ذات يوم ليقولوا في ذلك شيئا، فأنشدوا ما عندهم إلا أبا نواس، فسأله المأمون، فتلا قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة: 248] فلمّح بالسكينة لهيبة الخليفة المأمون، وبالبقية للجواري، وبموسى وهارون لأبيه وجدّه، وهذا وإن كان من غريب الاتفاق إلا أنه لا يخلو عن التهور والخروج عن اللائق «1» . والمراد بأهل بدر في الحديث: الذين حضروا وقعتها مع النبى صلّى الله عليه وسلّم، استشهدوا فيها أم لا؛ لأنهم ارتقوا إلى مقام يقتضى الإنعام عليهم بمغفرة ذنوبهم السابقة واللاحقة، فلا يؤاخذهم بها لبذلهم مهجهم في الله ونصرهم دينه، والمراد إظهار العناية بهم لا الترخيص لهم في كل فعل، والخطاب لقوم منهم على أنهم لا يقارفون ذنبا، وإن قارفوه لم يصرّوا، وقال القرطبي: «هذا خطاب إكرام وتشريف، تضمّن أن هؤلاء حصلت لهم حالة غفرت بها ذنوبهم السالفة، وتأهلوا لأن يغفر لهم ما يستأنف من الذنوب اللاحقة، ولا يلزم من وجود الصلاحية لشيء وقوعه، ولقد أظهر الله تعالى صدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم في كل ما أخبر عنه بشئ من ذلك؛ فإنهم لم يزالوا على أعمال أهل الجنة إلى أن فارقوا الدنيا، وإن قدر صدور شئ من أحدهم بادر إلى التوبة» . والشهداء ثلاثة أقسام: الأوّل: شهيد في حكم الدنيا والآخرة في ترك الغسل والصلاة عليه، وهو من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا. والثاني: شهيد في الدنيا دون الآخرة، وهو من قاتل رياء وسمعة وقتل، فلا يغسل ولا يصلى عليه. والثالث: شهيد في الآخرة فقط وهو المطعون والمبطون والغريق والحريق والمحموم وطالب العلم إذا مات على طلبه، والمرأة تموت بسبب الولادة، ومن قتله مسلم أو ذمّيّ أو باغ في غير القتال، فكل هؤلاء يغسلون ويصلّى عليهم، وهم شهداء في الدار الآخرة لا في الدنيا، قاله الإمام الرافعى لأن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان غسّلا، وهما شهيدان بالإجماع.   (1) من شروط التشبيه أن يكون بين الطرفين وجه شبه، وليس كذلك هنا؛ إذ لا وجه للمشابهة بين الشياطين والملائكة، أخزى الله من قاله، ما أجرأه على القران! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 استطراد لمناسبة: قال عمر بن عبد العزيز: كان أبى إذا خطب ونال من عليّ يلجلج في كلامه، فقلت: يا أبت إنك تمضى في خطبتك، فإذا أتيت إلى ذكر عليّ عرفت منك تقصيرها، قال: أو فطنت لذلك؟ قلت: نعم، قال: يا بنى إن الذين حولنا لو يعلمون من عليّ ما نعلم لتفرّقوا عنّا إلى أولاده. فلما ولى عمر الخلافة لم يكن عنده من الرغبة في الدنيا ما يرتكبه في هذا الأمر العظيم لأجله، فكتب بتركه، وقرأ عوضه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... [النحل: 90] فحل هذا الأمر عند الناس محلا عظيما، وأكثروا مدحه حتّى قال كثير في أبياته في حق عمر بن عبد العزيز: وليت ولم تشتم عليا ولم تخف ... بريّا، ولم تتبع مقالة مجرم وقيل: إنه قال: إن سبب محبتى عليا أنى كنت بالمدينة أتعلم العلم، وكنت ألزم عبيد الله بن عبد الله ابن مسعود، فبلغه عنى شىء من ذلك، أى في سب بنى أمية لعلي، فأتيته يوما وهو يصلى فأطال الصلاة، فقعدت أنتظر فراغه، فلما فرغ التفت إليّ وقال: متى علمت أن الله غضب على أهل بدر وبيعة الرضوان بعد أن رضى عنهم؟! قلت: ولم أسمع بذلك، قال: فما الذى بلغنى عنك في علي؟ فقلت: «معذرة إلى الله وإليك، والله لا أعود» ، فما سمع بعد ذلك يذكر عليّا إلا بخير. أ. هـ. ولا مانع أن يقال: إنه لحسن سريرته السرية، وسيرة عدله العمرية، لما رأى الحق للإمام عليّ أبطل من نفسه مثلبة سبّه على المنابر، وهذا ما يقضى به حسن الظن في حق هذا الخليفة الموصوف بالعدل في الباطن والظاهر، بدليل استبدال ذلك بالاية الشريفة وهى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، فمن جملة ذلك الأمر بعدم السب والنهى عنه، إذ هو من الفحشاء والمنكر، لا سيما وأن الغالب في الخلفاء والسلاطين والملوك إنما يأمرون بما يأمرون به من تلقاء أنفسهم، كأمر الخليفة المعتضد العباسى بسب معاوية على المنابر، كما حكاه ابن جرير عنه، وإن صح أنه أمسك عن ذلك بعد أن أنشأ كتابا ليقرأ على المنبر فيه مثالب معاوية ومعايبه، حيث قيل له: إن أهل بيت عليّ منهم الخارجون عليك في كل ناحية؛ فإذا سمعوا سبّ معاوية مال إليهم كثير من الناس، وخرجوا عن طاعة العباسية، فيكون عمر بن عبد العزيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 بادر بإزالة المنكر من بداية الأمر به، بدون أن ينتظر نصح ناصح، وهذا بفضله أكمل. روى أنه لما سئل عن على ومعاوية، قال: «دماؤهم قد طهّر الله منها سيوفنا، أفلا نطهّر من الخوض فيها ألسنتنا؟!» . * وفي منتصف شوال من هذه السنة الثانية، كانت غزوة بنى قينقاع (بفتح القاف وإسكان الياء وتثليث النون) بطن من يهود المدينة لهم شجاعة وصبر، وكانوا حلفاء عبادة بن الصامت- رضى الله تعالى عنه- وعبد الله بن أبى بن سلول الخزرجى المنافق، وحلفاء للخزرج، فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغى والحسد، ونبذوا العهد الذى كان صلّى الله عليه وسلّم عاهداهم به وعاهد بنى قريظة والنضير: أن لا يحاربوه ويظاهروا عليه عدوّه، وقيل: على ألايكونوا معه ولا عليه، وقيل: على أن ينصروه صلّى الله عليه وسلّم على من دهمه من عدوه. فكانوا أوّل من غدر من يهود، وتبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم، وتشبث به عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وفيه نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 51] ، فجمعهم صلّى الله عليه وسلّم، وقال لهم: «يا معشر يهود احذروا من الله أن ينزل عليكم مثل ما نزل بقريش من النقمة (أى ببدر) ، أسلموا فإنكم قد عرفتم أنى مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله تعالى إليكم» ، فقالوا: يا محمد إنك تظننا مثل قومك، ولا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت لهم فرصة، إنّا والله لو حاربناك لتعلمنّ أنك لم تقاتل مثلنا. وقد قالوا ذلك لأنهم كانوا أشجع اليهود وأكثرهم أموالا وأشدّهم بغيا، فأنزل الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [ال عمران: 12] ، فبينما هم على بغيهم ومجاهرتهم بكفرهم، إذ جاءت امرأة كانت تحت رجل من الأنصار إلى سوق بنى قينقاع، فجلست عند صائغ منهم في أمر حليّ لها، فجاء رجل من بنى قينقاع فجلس من ورائها وهى لا تشعر، فحلّ درعها إلى ظهرها بشوكة، فلما قامت تكشّفت، فضحكوا منها، فقام إليه رجل من المسلمين فاتبعه فقتله، فقتل اليهود المسلم، ونبذوا العهد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل فيهم: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً [الأنفال: 58] ، فتحصّنوا في حصونهم، فسار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ولواؤه كان أبيض بيد حمزة بن عبد المطلب رضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الله تعالى عنه- وحاصرهم خمس عشرة ليلة أشد الحصار، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وكانوا سبعمائة نفس: أربعمائة حاسر «1» ، وثلاثمائة دارع «2» ، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخلى سبيلهم وأن يجلوا من المدينة، وأن لهم نساءهم والذرية، وله صلّى الله عليه وسلّم الأموال والسلاح، فخمّست «3» أموالهم، وأمر صلّى الله عليه وسلّم أن يجلوا من المدينة، ووكل بإجلائهم عبادة بن الصامت رضى الله تعالى عنه، وطلبوا أن يمهلهم فوق الثلاث فقال: «ولا ساعة واحدة» ، وتولّى إخراجهم بنفسه. وذهبوا إلى أذرعات- بلدة بالشام- ولم يدر الحول عليهم حتّى هلكوا أجمعين بدعوته صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال لابن أبيّ بن سلول: «لا بارك الله لك فيهم» . ووجد صلّى الله عليه وسلّم في منازلهم سلاحا كثيرا، وأخذ صلّى الله عليه وسلّم من سلاحهم ثلاث قسي، منها القوس «الكتوم» التى لا يسمع لها صوت إذا رمى بها، وهى التى رمى بها صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وأخذ صلّى الله عليه وسلّم درعين منهما الدرع المسماة «بالسغدية» بسين مهملة وغين معجمة، ويقال: إنها درع داود التى لبسها حين قتل جالوت، وأخذ صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أرماح وثلاثة أسياف، وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أموالهم، وكانوا صاغة لا أرض لهم، وكان خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة أبا لبابة. * وفي هذه السنة: الثانية من الهجرة كانت غزوة السويق: لما أصاب قريشا «4» فى بدر ما أصابهم، نذر أبو سفيان ألايمس النساء والطيب حتّى يغزو محمدا، ويثار منه ومن أصحابه بمن أصيب من المشركين يوم بدر، فخرج في مائتى راكب من قريش لوفاء نذره، حتى نزل بمحل بينه وبين المدينة نحو بريد «5» ، ثم أتى لبنى النضير، وهم حيّ من يهود خيبر ينسبون إلى هارون بن عمران «6» ، تحت الليل «7» فأتى حيىّ بن أخطب، وهو من رؤساء   (1) بلا درع. (2) يرتدى درعا. (3) أى قسمت خمسة أقسام. (4) فى الأصل «قريش» وهو خطأ. (5) البريد: فرسخان، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل يقدّر بحوالى 1609 من الأمتار. (6) وهو هارون أخو موسى عليهما السلام. (7) أى في ظلام الليل الشديد، وعبر بتحت؛ لأنه جعل الليل رداءه فهو تحته والليل فوقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 بنى النضير- وهو أبو صفية أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها- ليخبره من أخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما أحبّ معرفته، فضرب عليه بابه، فأبى أن يفتح له؛ لأنه خافه، وجاء إلى سلّام بن مشكم سيد بنى النضير، وصاحب كنزهم (أى المال الذى كانوا يجمعونه ويدخرونه للنوائب وما يعرض لهم، وكان حليّا يعيرونه لأهل مكة) «1» فاستأذن عليه، فأذن له واجتمع به وسقاه خمرا، فلما كان السحر خرج أبو سفيان ومن معه فلقي رجلا من الأنصار في حرث له، فقتله وقتل أجيرا كان معه، وحرق حرثهما، ورأى أنّ يمينه قد حلّت فمضى هاربا، وقد خاف الطلب. وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبره، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مائتين من المهاجرين والأنصار في طلبهم، وكان خروجه لخمس من ذى الحجة من السنة الثانية من الهجرة، وجعل أبو سفيان وأصحابه يخففون للهرب، فيلقون جرب السويق من قمح أو شعير مطحون، وهو عامة أزوادهم، فيأخذه المسلمون، ولم يلحقوا بهم. وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راجعا إلى المدينة، وكانت غيبته خمسة أيام، ولإلقاء السويق من رحالهم لتخفيفها وأخذ المسلمين لذلك، سميت غزوة السويق، ولم يلق فيها كيدا. * وفي هذه السنة مات عثمان بن مظعون رضى الله تعالى عنه. * وفيها أيضا هلك أمية بن أبى الصلت- من رؤساء الكفار- قرأ الكتب «2» ، واطّلع على البعثة، فكفر حسدا؛ لأنه رجا أن يكون هو المبعوث، ونزل في حقه قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها [الأعراف: 175] ، وكان سافر إلى الشام ورجع عقيب وقعة بدر السابقة، فمرّ بالقليب وفيه قتلى   (1) كانوا يعطون الناس ويأخذون منهم إلى أن يتمكنوا مما يريدون. ومن أحداث اليهود أن جماعة منهم استعاروا ذهب المصريين- وقت خروجهم مع سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام- بحجة أو بأخرى- وذهبوا بها ولم يردّوها لأصحابها- استحلوا هذا النهب بحجة أنهم شعب الله المختار، وهى دعوى عريضة لم يقم على صحتها دليل، بل قام الدليل على كذبها ألف مرة ومرة. وقد حكى القران عنهم أنهم قالوا «نحن أبناء الله وأحباؤه» فردّ عليهم هذه الفرية بقوله تعالى: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة: 18] ، وصوّروا العجل الذى عبدوه من دون الله من هذه الأموال التى سرقوها من مصر. (2) أى التوراة والإنجيل والزبور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 بدر، وكان ممن في القليب عتبة وشيبة ابنا خالي أمية، فجدع أذني ناقته، وقال قصيدة: هلّا بكيت على الكرا ... م بنى الكرام أولى الممادح كبكا الحمام على فرو ... ع الأيك في الغصن الجوانح يبكين حزنى مستكي ... نات يرحن مع الروائح أمثالهن الباكي ... ات المعولات من النوائح ماذا ببدر والعقن ... قل من مرازبة جحاجح «1» شمط وشبّان بهالي ... ل مناوير دحادح «2» أن قد تغيّر بطن مكّ ... ة فهى موحشة الأباطح «3» وهى قصيدة نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن روايتها؛ لأن أمية كان يحرض قريشا بعد وقعة بدر على المسلمين. ومع ذلك فله أشعار يفهم منها ميله إلى اعتقاد أن دين الإسلام حق، فمن ذلك قوله: كلّ دين يوم القيامة عند ... الله إلا دين الحنيفة زور ولما أنشد لدى النبى صلّى الله عليه وسلّم قوله: الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبّحنا ربّى ومسّانا ربّ الحنيفة لم تنفد خزائنها ... مملوءة طبق الافاق سلطانا ألا نبيّ لنا يأتى فيخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس محيانا بينا يربّوننا اباؤنا هلكوا ... وبينما نقتنى الأولاد أفنانا وقد علمنا لو أنّ العلم ينفعنا ... أن سوف يلحق أخرانا بأولانا قال النبى صلّى الله عليه وسلّم «إن كاد أمية ليسلم» «4» . ويروى أن أمية بن أبى الصلت-   (1) الجحجاح: السيد. (2) الدحداح: القصير. (3) الأبطح: مسيل واسع، فيه حصى دقاق. (4) ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «امن شعر أمية بن أبى الصلت وكفر قلبه» رواه أبو بكر بن الأنبارى فى «المصاحف» والخطيب وابن عساكر عن عبد الله بن عباس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 واسم أبى الصلت: عبد الله بن ربيعة بن عوف الثقفى- لما مرض مرضه الذى مات فيه جعل يقول: «قد دنا أجلى وهذه المرضة منيتي، وأنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلنى في محمد» . ولما دنت وفاته أغمى عليه قليلا حتّى ظن من حضره من أهله أنه قد قضي، ثم أفاق وهو يقول: «لبيكما لبيكما، ها أنا ذا لديكما، لا برئ فأعتذر، ولا قوى فأنتصر» . ثم إنه بقى يحدّث من حضره ساعة، ثم أغمى عليه ثانيا، حتى يئسوا من حياته، وأفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما. إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا ... وأيّ عبد لك لا ألمّا ثم أقبل على القوم فقال: «قد جاء وقتي، فكونوا في أهبتي» . وحدثهم قليلا حتى يئس القوم منه. وكان أمية يتعبد في الجاهلية، ويؤمن بالبعث، وأدرك الإسلام ولم يسلم، وإنه لما غشي عليه وأفاق قال: كلّ عيش وإن تطاول دهرا ... صائر أمره إلى أن يزولا ليتنى كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا «1» إنّ يوم الحساب يوم عظيم ... شاب فيه الوليد يوما ثقيلا اجعل الموت نصب عينك واحذر ... غولة الدهر إنّ للدهر غولا ثم قضى نحبه، ولم يؤمن بالنبى صلّى الله عليه وسلّم، وذكر عن سهل أن النبى صلّى الله عليه وسلّم لما سمع قول أمية: لك الحمد والنعماء والفضل ربّنا ... فلا شيء أعلى منك حمدا وأمجدا قال: «امن شعره وكفر قلبه» . وكفر قلبه: عدم إيمانه بالنبى صلّى الله عليه وسلّم، وما سلف ذكره- من عدّه ممن امن به صلّى الله عليه وسلّم «كقس بن ساعدة» فالقصد منه اعتقاد نبوته صلّى الله عليه وسلّم قبل مبعثه، لا الإذعان بعد المبعث، حيث حمله على عدم الإيمان الحسد والحمية الجاهلية وغلبة الشقاء.   (1) الوعل: تيس الجبل، وهو جنس من المعز الجبلية له قرنان قويّان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وكان خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غيبته أبا لبابة، كما في غزوة بنى قينقاع. وفي هذه السنة الثانية من الهجرة كانت وقعة «ذى قار» «1» بين بكر بن وائل وبين جيش كسرى أبرويز، والغلبة على الهرمزان، وانهزمت الفرس، وقتل الهرمزان. وسبب هذه الوقعة المشهورة في أيام العرب «بيوم ذى قار» أن كسرى أبرويز غضب على النعمان بن المنذر وحبسه، فهلك في الحبس، وكان النعمان قد أودع حلقته- وهى السلاح والدرع- عند هانئ بن مسعود البكري، فأرسل أبرويز يطلبها من هانئ المذكور، فقال: «هذه أمانة، والحرّ لا يسلم أمانته» ، وكان أبرويز لما أمسك النعمان قد جعل موضعه في ملك الحيرة: إياس بن قبيصة الطائي، فاستشار أبرويز إياسا المذكور، فقال إياس: المصلحة التغافل عن هانئ بن مسعود المذكور حتّى يطمئن ونتبعه فندركه. فقال أبرويز: إنه من أخوالك ولا تألوه تصحا، فقال إياس: رأي الملك أفضل. فبعث أبرويز الهرمزان في ألفين من الأعاجم وبعث ألفا من «بهرا» (قبيلة) ، فلما بلغ بكر بن وائل خبرهم أتوا مكانا من «بطن ذى قار» فنزلوه، فوصلت إليهم الأعاجم واقتتلوا ساعة، وانهزمت الأعاجم هزيمة قبيحة، وأكثرت العرب الأشعار في ذكر هذا اليوم، وقيل: إن هذه الوقعة كانت في سنة أربعين من مولد النبى صلّى الله عليه وسلّم، ولم تكن في عام وقعة بدر، وهذا القول هو الأقوى والأصح. وفي هذه السنة كانت غزوة «قرقرة الكدر» «2» :   (1) ذو قار: ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة، بينها وبين واسط، وفيها كانت الوقعة المشهورة بين العرب والفرس. (2) قرقرة الكدر، قيل بناحية المعدن، قريبة من الأرحضية- أو الرّحضية من نواحى المدينة قرية لبنى سليم والأنصار من نجد، وبها ابار عليها زرع كثير ونخل، وحذاءها قرية يقال لها الحجر- بينها وبين المدينة ثمانية برد، وقيل ماء لبنى سليم، به غزوة للنبى صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وهى أرض مما يلى جادّة العراق إلى مكة، بها طيور في ألوانها كدرة، عرف بها ذلك الموضع. سببها: وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن قوما من بنى سليم وغطفان يريدون الإغارة على المدينة، فسار إليهم في مائتين من أصحابه، وحمل اللواء عليّ بن أبى طالب- رضى الله تعالى عنه- فوصل إلى ذلك الموضع فلم يجد به أحدا منهم، وأرسل نفرا من أصحابه إلى أعلى الوادي، واستقبلهم في بطن الوادي، فوجد خمسمائة بعير مع رعاة لهم، فخمّس «1» الإبل، فخصّ كلّ واحد بعيران، ورجع إلى المدينة. وقيل: كانت هذه الغزوة في المحرم سنة ثلاث، ويمكن أن يجمع بين القولين بأنها ابتدأت في أواخر شهر ذى الحجة، وبقيت إلى أوّل المحرم سنة ثلاث. وفي هذه السنة ولد عبد الله بن الزبير. وكان خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة ابن أم مكتوم.   (1) جعلها خمسة أقسام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الفصل الثالث في ظواهر السنة الثالثة من الهجرة وما فيها من الغزوات وفي هذه السنة الثالثة من الهجرة كانت غزوة إمرّ «1» : ويقال لها غزوة «غطفان» «2» وغزوة «أنمار» . و «إمر» بكسر الهمزة وفتح الميم وتشديد الراء: اسم ماء. وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن رجلا يقال له «دعثور» (بضم الدال وسكون العين ثم ثاء مضمومة) ابن الحارث الغطفانى (من بنى محارب) جمع جمعا من ثعلبة ومحارب بموضع من ديار غطفان، يسمى ب «ذى إمر» باسم الماء الذى فيه، يريدون الإغارة على أطراف المدينة، فخرج إليهم صلّى الله عليه وسلّم في أربعمائة وخمسين رجلا من أصحابه، لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل، فى السنة الثالثة من الهجرة، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان، فلما سمعوا بمسير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هربوا في رؤوس الجبال. وفي هذا المحل أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المطر الكثير، فبل ثيابه وثياب أصحابه، فنزع صلّى الله عليه وسلّم ثوبيه ونشرهما على الشجرة ليجفا، واضطجع بمرأى من المشركين، فبعث المشركون دعثورا الذى هو سيد القوم وأشجعهم المجمّع لهم، قالوا له: قد انفرد محمّد، فعليك به. فجاء ومعه سيفه حتّى قام على رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال: من يمنعك منى اليوم؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: الله. ودفعه جبريل في صدره فوقع على ظهره، فوقع السيف من يده، فأخذ السيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: من يمنعك منى اليوم يا دعثور؟ قال: لا أحد، كن خير اخذ. فتركه وعفا عنه، فقال: أشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والله لا أجمّع الناس لحربك أبدا. فدفع له النبى صلّى الله عليه وسلّم سيفه، فقال دعثور: والله إنك لخير مني، ثم أتى قومه فجعل يدعوهم إلى الإسلام، وأخبرهم أنه رأى رجلا طويلا دفعه في صدره، فوقع على ظهره، فقال: علمت أنه ملك، فأسلمت، فنزلت هذه الاية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... الاية [المائدة: 11] ، ثم أقبل رسول   (1) ذو إمر: موضع بئر، غزوة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قيل: هو من ناحية النخل بنجد، من ديار غطفان، والأمر: حجارة تجعل كالأعلام. كذا من المراصد بلفظه. (2) غطفان: اسم لقبيلة من قبائل العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، ولم يلق حربا، وكانت مدة غيبته إحدى عشرة ليلة. وفي هذه السنة (فى شهر رمضان) ولد الحسن بن علي رضى الله عنهما، وكانوا قد سموه حربا، فسماه النبى صلّى الله عليه وسلّم الحسن، وحنّكه «1» بتمر. وفيها قتل محمد بن مسلمة الأنصارى كعب بن الأشرف اليهودي. وفيها تزوج النبى صلّى الله عليه وسلّم حفصة بنت عمر- رضى الله عنهما- وذلك أن عثمان ابن عفان خطب حفصة بنت عمر منه بعد وفاة رقية، فردّه عمر، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا عمر؛ أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خير له منك؟ قال: نعم يا نبى الله، قال: «تزوّجنى ابنتك وأزوّج عثمان ابنتي» . فكان ذلك؛ حيث تزوج صلّى الله عليه وسلّم بحفصة، وتزوج عثمان بأم كلثوم. * وفي هذه السنة كانت غزوة بحران: (بفتح الباء المواحدة، وقيل بضمها، ثم حاء مهملة ساكنة، وهو موضع بالحجاز بينه وبين المدينة ثلاثة برد) وتسمى هذه الغزوة بغزوة بنى سليم. [سببها] : لما بلغه صلّى الله عليه وسلّم أن بحران اجتمع فيه كثير من بنى سليم، خرج في ثلاثمائة من أصحابه، لستّ خلون من جمادى الأولى من السنة الثالثة من الهجرة، أحثّ السير حتّى بلغ بحران، وكان قبل أن يصل إلى ذلك بليلة لقي رجلا من بنى سليم، فأخبره أنّ القوم تفرّقوا، فحبسه إلى أن وصل، فوجدهم كذلك قد تفرقوا ورجعوا إلى مياههم، فأقام صلّى الله عليه وسلّم ولم يلق حربا، وكانت غيبته عشر ليال، وكان قد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم. * وفي هذه السنة كانت غزوة أحد: وكانت في شوال سنة ثلاث من الهجرة باتفاق الجمهور، وأحد (بضمتين ومهملتين) جبل من جبال المدينة، على نحو ميلين منها، يقصد لزيارة مشهد سيدنا حمزة ومن معه من الشهداء، ويقال: إنه أفضل الجبال. لما أصاب قريشا «2» يوم بدر ما أصابها، مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن   (1) حنكة: دلّك حنكه. والحنك: باطن أعلى الفم من الداخل. (2) فى الأصل «قريش» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أبى جهل وصفوان بن أمية رضى الله تعالى عنهم (فإنهم أسلموا بعد ذلك) ورجال اخرون «1» من أشراف قريش إلى أبى سفيان- رضى الله تعالى عنه- (فإنه أسلم بعد ذلك أيضا) وإلى من كان له تجارة في تلك العير التى كان سببها وقعة بدر، وكانت تلك العير موقوفة في دار الندوة لم تعط لأربابها، فقالوا: إن محمدا قد وتركم (أى قتل رجالكم ولم تدركوا دماءهم) وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا عمن أصابه منا، وقالوا: نحن طيّبوا النفوس أن تجهزوا بأرباح تلك العير جيشا إلى محمد، فقال أبو سفيان: وأنا أول من يجيب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي، فجمع لأهل العير رؤس أموالهم، وكانت خمسين ألف دينار، وأخرجوا أرباحها، وكان الربح لكل دينار دينارا، وقيل نصف دينار، وأنزل الله في تلك الحادثة اية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال: 36] ، وتجهّزت قريش ومن والاهم من قبائل كنانة وتهامة، وكان عددهم ثلاثة الاف، فيهم سبعمائة دارع ومائتا فارس، وقائدهم أبو سفيان بن حرب، وساروا من مكة حتى نزلوا بذى الحليفة «2» مقابل المدينة، يوم الأربعاء لأربع مضين من شوال، وذو الحليفة هو ميقات أهل المدينة الذى يحرمون منه. وقد أخرج أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال يوم أحد: «رأيت كأنى في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر، فأوّلت أن الدرع المدينة فإن شئتم أقمنا بالمدينة؛ فإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها» ، فقالوا: «والله ما دخلت علينا في الجاهلية، أفتدخل علينا في الإسلام!» قال: فشأنكم إذا. فذهبوا. فلبس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمته، فقالوا: ما صنعنا؟ رددنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأيه! فجاؤا فقالوا: شأنك يا رسول الله، قال: «الان!! ليس لنبى إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» . وأخرج أحمد والبزار والطبراني والبيهقى في دلائل النبوّة عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: لمّا جاء المشركون يوم أحد، كان رأي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم   (1) فى الأصل «أخر» . (2) بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، منها ميقات أهل المدينة، وهى مياه بنى جشم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أن يقيم بالمدينة، يقاتلهم فيها، فقال له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا: «لتخرج بنا يا رسول الله نقاتلهم بأحد» ، ورجوا أن يصيبوا من الفضيلة ما أصابه أهل بدر، فما زالوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى لبس أداته، ثم ندموا، فقالوا: يا رسول الله: أقم، فالرأى رأيك. فقال: «فما ينبغى لنبى أن يضع أداته إذا لبسها حتّى يحكم الله بينه وبين عدوه» أ. هـ. واستخلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المدينة ابن أم مكتوم. وخرج صلّى الله عليه وسلّم في ألف من الصحابة، وصار بين المدينة وأحد، ونزل الشّعب من أحد، وجعل ظهره إلى أحد، ثم كانت الوقعة يوم السبت لسبع مضين من شوال، ويقال عدّة أصحابه صلّى الله عليه وسلّم تسعمائة، وفيهم مائة دارع، ولم يكن معهم من الخيل سوى فرسين؛ فرس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفرس لأبى بردة، ولواء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع مصعب بن عمير (من بنى عبد الدار) ، وعلى ميمنة المشركين خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبى جهل، ولواؤهم مع بنى عبد الدار. وجعل صلّى الله عليه وسلّم الرماة (وهم خمسون) وراءه. فالتقى الناس ودنا بعضهم من بعض، وقامت هند بنت عتبة زوج أبى سفيان رضى الله تعالى عنها (فإنها أسلمت بعد ذلك) وأمّ حكيم بنت طارق زوج عكرمة- رضى الله تعالى عنها- فى النسوة المصاحبات لجيش المشركين يضربن بالدفوف خلف الرجال، يحرّضن المشركين على القتال لحرب المسلمين، ويقلن: نحن بنات طارق ... نمشى على النّمارق إن تقتلوا نعانق ... أو تدبروا نفارق فراق غير مالق يردن: نحن بنات الكوكب، وإنه لا ينال. ويقال إن رملة بنت طارق، وأم حكيم بنت طارق قالتا ذلك، وقاله النساء معهن. وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا سمع قولهن هذا قال: «اللهم إنى بك أجول وأصول وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل» . واستمر القتل في أصحاب لواء المشركين، ورأى النساء برجالهن أمرا عظيما، حتى ولولن وتركن ما كنّ فيه، وانهزم المشركون، حتى انهزمت هند بنت عتبة وصواحبها متحيرات ما دونهن مانع ولا دافع، حتى لو شاء المسلمون لأخذوهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 ودخل المسلمون عسكر المشركين. وقاتل حمزة عمّ النبى صلّى الله عليه وسلّم يومئذ قتالا شديدا، وقتل أرطاة حامل لواء المشركين- إلى أن قتل؛ ضربه وحشي عبد جبير بن مطعم، وكان حبشيا، بحربة فقتله، وكان حمزة مشغولا عنه بقتال سباع بن عبد العزّي، وفي قتل وحشيّ حمزة، يقول حسان: ما لشهيد بين أرماحكم ... شلّت يدا وحشيّ من قاتل وقتل أيضا مصعب بن عمير حامل لوائه صلّى الله عليه وسلّم، فظنّ قاتله أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لقريش: إنى قتلت محمدا، وشاع ذلك، وانتهى النضر بن أنس إلى جماعة من الصحابة، وقد دهشوا وقالوا: قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: فما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه. فاجتهدوا في القتال، ثم إن كعب ابن مالك الشاعر عرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنادى بأعلى صوته يبشر الناس، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول له: أنصت؛ فاجتمع عليه المسلمون، ونهضوا معه نحو الشعب، فيهم أبو بكر وعمر وعلى والزبير والحارث بن الصمة الأنصاري، وغيرهم، وأدركه أبيّ بن خلف في الشعب، فتناول صلّى الله عليه وسلّم الحربة من الحارث بن الصمّة، وطعنه بها في عنقه، فكرّ أبيّ بن خلف منهزما، وقال له المشركون: ما بك من بأس؟ فقال: «والله لو بصق عليّ لقتلني» فمات بسرف «1» وهم قافلون، وقال المصطفى صلّى الله عليه وسلّم «اشتدّ غضب الله على رجل قتل نبيا أو قتله نبي» «2» فمات عدو الله في مرجعهم إلى مكة. وكان أبو عزة الجمحيّ- أحد رؤساء حزب المشركين- وقع أسيرا في بدر، فمنّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأحلفه ألايكثر عليه جمعا، وأرسله بغير فدية، فلما كانت غزوة أحد طلبه رؤساء قريش ليتوجه معهم للحرب فامتنع من النفوذ لما وجّهوه إليه، وقال: إن بلاء محمد عندى حسن، أطلقنى يوم بدر. فلم يزالوا به   (1) بالفتح، ثم بالكسر واخره فاء: موضع على ستة أميال من مكة، من طريق «مرو» بنى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بميمونة بنت الحارث، وفيه ماتت رضى الله تعالى عنها وأرضاها. (2) وفي رواية: «أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي، أو رجل أفتى الناس بغير علم، أو مصور يصور التماثيل» رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 حتى خرج معهم، فأسر يوم أحد فضرب عنقه. وكان معاوية بن المغيرة بن أبى العاص الذى جدع أنف حمزة، ومثّل به، فيمن مثّل، قد انهزم يوم أحد، فمضى على وجهه فبات قريبا من المدينة، فلما أصبح دخلها، فأتى منزل عثمان بن عفان بن أبى العاص فضرب بابه، فقالت له امرأته أم كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس هو ههنا، فقال: ابعثى إليه؛ فإن له عندى ثمن بعير ابتعته منذ عام الأوّل، وقد جئته به. فأرسلت إليه وهو عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما جاء قال لمعاوية: أهلكتنى ونفسك، ما جاء بك؟ قال: يا ابن عم لم يكن أحد أقرب إليّ ولا أمسّ رحما بى منك، فجئتك لتجيرني، فأدخله عثمان داره وصيّره في ناحية منها، ثم خرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليأخذ له منه أمانا، فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن معاوية بالمدينة، وقد أصبح بها، وقال: اطلبوه، فقال بعضهم: «ما كان ليعدو منزل عثمان، فاطلبوه به» فدخلوا منزل عثمان فأشارت أم كلثوم إلى الموضع الذى صيّره عثمان فيه، فاستخرجوه من تحت دارة لهم، فانطلقوا به إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال عثمان حين راه: والذى بعثك بالحق ما جئت إلا لأطلب له الأمان، فهبه لي، فوهبه له، وأجّله ثلاثا، وأقسم لئن وجد بعدها بشئ من أرض المدينة وما حولها ليقتلن، وخرج عثمان فجهّزه واشترى له بعيرا، وقال: ارتحل. وسار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد، وأقام معاوية إلى اليوم الثالث ليعرف أخبار النبى صلّى الله عليه وسلّم، ويأتى بها قريشا، فلما كان اليوم الرابع قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن معاوية قد أصبح قريبا لم ينفد، فاطلبوه واقتلوه» . وأصابوه على ثمانية أميال من المدينة، وقد أخطأ الطريق، فأدركوه، وكان اللذان أسرعا في طلبه زيد بن حارثة وعمّار بن ياسر، فرمياه بالنبل حتّى مات. ومعاوية هذا أبو عائشة بنت معاوية أم عبد الملك بن مروان. ولما قتل مصعب أعطى النبي صلّى الله عليه وسلّم الراية لعلى بن أبى طالب، وانهزم المشركون، فطمعت الرماة في الغنيمة، وفارقوا المكان الذى أمرهم النبى صلّى الله عليه وسلّم بملازمته، فأتى خالد مع خيل المشركين من خلف، وصرخ ابن قميئة: إن محمدا قتل، وانكشف المسلمون وأصاب فيهم العدو، وكان يوم بلاء المسلمين، وصليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر يومئذ قاعدا، وكان عدة الشهداء منهم سبعين رجلا، وعدة قتلى المشركين اثنان وعشرون رجلا، ووصل العدو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصابته حجارتهم حتّى وقع، وأصيبت رباعيته وشجّ في وجهه وكلمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 شفتاه. والذى كسر رباعيته عتبة بن أبى وقاص، والذى شجّ وجهه عبد الله بن شهاب الزهري في جبهته، وجعل الدم يسيل على وجهه الشريف وهو يقول: «كيف تفلح أمة خضّبت وجه نبيها! اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» وإلى ذلك أشار من قال: وأهلك قومه في الأرض نوح ... بدعوة «لا تذر ربّي» فأفني ودعوة أحمد ربّ اهد قومي ... فهم لا يعلمون كما علمنا فنزل في ذلك قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) [ال عمران: 128] وضرب بالسيف على شقه الأيمن فجرح وجنته، ودخلت حلقتان من المغفر «1» فى وجهه الشريف من الشّجّة، ونزع أبو عبيدة (عامر بن الجراح) إحدى الحلقتين من وجهه صلّى الله عليه وسلّم فسقطت ثنية» أبى عبيدة الواحدة، ثم نزع الاخرى فسقطت ثنيته الاخري. ومثّلت هند وصواحبها بالقتلى من الصحابة؛ فجدعن الاذان والأنوف، وبقرت هند عن كبد حمزة ولاكتها «3» ، وصعد زوجها أبو سفيان فوق الجبل وصرخ بأعلى صوته «الحرب سجال يوم بيوم: يوم أحد بيوم بدر، اعل هبل» أى زد علوّا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: قم يا عمر فأجبه، فقال: «الله أعلى وأجل: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار» . وفي الصحيح: أن أبا سفيان قال: «لنا العزّى ولا عزّى لكم» فقال النبي: قولوا له: «الله مولانا ولا مولى لكم» . ثم نادى أبو سفيان عند منصرفه. «إن موعدكم بدر العام المقبل» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لرجل من أصحابه: «قل: نعم بيننا وبينكم موعد» ثم التمس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمه حمزة فوجده وقد بقر بطنه، وجدع أنفه وأذناه، فقال: لئن أظهرنى الله عز وجل على قريش لأمثّلن بثلاثين منهم «4» ، فلما رأى المسلمون حزنه وغيظه   (1) المغفر: زرد ينسج من الدروع علي قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة. (2) الثنيّة: إحدى الأسنان الأربع التي في مقدم الفم، ثنتان من فوق وثنتان من تحت. (3) ولكنها لم تستطع ابتلاعها فلفظتها. (4) هذه رواية محمد بن إسحاق، وقد ذكرها ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ اخر سورة النحل، وفي رواية البزار: «بسبعين» بدل «بثلاثين» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 على ما فعل بعمه، قالوا: لنمثلن بهم إن أظهرنا الله عليهم مثلة ما يمثّل بها أحد، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126] ، فكفّر عن يمينه، ونهى عن المثلة. وروى ابن شاذان عن ابن مسعود: «ما رأينا المصطفى باكيا قط أشد من بكائه على حمزة، وصعد في القبلة، ثم وقف على جنازته وبكى حتّى كاد يغشى عليه، يقول: «يا حمزة يا عم، يا أسد الله وأسد رسوله، يا حمزة يا فاعل الخيرات، يا حمزة يا كاشف الكربات» «1» . وليس هذا نوح ولا تعدّد* بشمائل، بل إخبار بفضائله وشمائله. ثم أمر فسجّي ببرده، ثم أتي بالقتلى يوضعون إلى حمزة، فصلّى عليهم وعليه، وهذا دليل لأبى حنيفة؛ فإنه يرى الصلاة على الشهيد، خلافا للشافعى وأحمد رحمهم الله تعالى. ثم أمر بحمزة فدفن، واحتمل أناس من المسلمين إلى المدينة فدفنوا بها، ثم نهاهم صلّى الله عليه وسلّم عن مثل ذلك، وقال: «ادفنوهم حيث صرعوا» ، ويقال دفن معه «2» فى قبره عبد الرحمن بن جحش. وأصيبت عين قتادة فردّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، فكانت بعد ذلك أحسن عينيه، وكانت إصابتها بسهم خرجت بحدقتها على وجنته، وهو يقى السهام بوجهه عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. واستشهد أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك، وقد أبلى بلاء حسنا، وفيه نزلت: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ... [الأحزاب: 23 وما بعدها] . ونزل في شهداء أحد- كما رواه الحاكم- (وكانوا سبعين رجلا؛ أربعة من المهاجرين: حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وعثمان بن شاس، وعبد الله ابن جحش، وسائرهم من الأنصار) قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي   (1) لأنه طالما فرّج الكربات عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، وهذا من باب ذكر الحسنات التى أسداها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما قال الشيخ فيما بعد. (2) أى مع حمزة- رضى الله عنه. * هكذا جاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 سَبِيلِ اللَّهِ أى لأجل دينه، والخطاب للنبى صلّى الله عليه وسلّم، أو لكل أحد أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «1» أى من ثمار الجنة. قال البيضاوي: وقيل نزلت في شهداء بدر، وكانوا أربعة عشر رجلا: ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين. قال القاضى زكريا: وهو غلط، إنما نزل فيهم اية البقرة «2» . وعن عائشة- رضى الله عنها- أنها قالت للنبى صلّى الله عليه وسلّم: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشدّ ما لقيته يوم العقبة، إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل، فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب «3» فرفعت رأسى فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إنّ الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثنى ربك إليك لتأمرنى بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين» . فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله واحده لا يشرك به» متفق عليه «4» .   (1) ال عمران: 169 وما بعدها. (2) أي الاية 154: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ. (3) قرن الثعالب: هو قرن المنازل، ميقات أهل نجد، تلقاء مكة، كذا في المراصد- وبينه وبين مكة يوم وليلة. (4) فى الصحيح عن عائشة- رضى الله عنها- أنها قالت للنبى صلّى الله عليه وسلّم: «هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن كلال فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسى فإذا أنا بالسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه الصلاة والسلام، فنادي، فقال: قد سمع الله قول قومك لك، وما ردوا عليك به، وقد بعثت إليك بملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم» . فناداه صلّى الله عليه وسلّم ملك الجبال وسلّم عليه وقال له: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت؟ قال النبى صلّى الله عليه وسلّم: بل أرجو أن يخرج الله تعالى من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا» . وفي رواية «بل أستأنى بهم» بدل «أرجو» فقال له ملك الجبال: «أنت كما سمّاك ربك رؤف رحيم» أ. هـ. (من السيرة الحلبية ص 395، 396 ج 1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 فكان دأبه صلّى الله عليه وسلّم الصفح الجميل، وكان يجعله شكرا للنصر والظفر، كما قال عند فتح مكة لأهلها، وكانوا قد أخرجوه منها، وهى أحب البقاع إليه: «أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين» . وكان ممن استشهد في أحد: سعد بن الربيع، وأخذ ميراثه أخوه، وكان لسعد بنتان، وكانت امرأته حاملا، وكانت المواريث على مواريث الجاهلية، ولم تكن الفروض نزلت، فنزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينئذ، فدعا أخا سعد، فقال: أعط ابنتى أخيك ثلثي الميراث، وادفع إلى زوجته الثمن، والباقى لك» ولم يورّث الحمل يومئذ، ثم ورّث بعد ذلك. قال النووى في «الروضة» : إن تحريم الخمر كان بعد غزوة أحد، وذكر أرباب السير أنه كان في حصار بنى النضير، فى ربيع الأوّل سنة أربع، ولم يباشر صلّى الله عليه وسلّم القتال في غزوة من الغزوات إلّا في أحد. ولم يقاتل معه صلّى الله عليه وسلّم من الملائكة إلا في بدر، وإلا في حنين «1» ، قيل: وأحد. ولم يرم صلّى الله عليه وسلّم بالحصباء في وجوه القوم في شئ من الغزوات، إلا في هذه الثلاث، على خلاف في الثالثة. ولم يجرح: أي لم يصبه صلّى الله عليه وسلّم جراحة في غزوة من الغزوات إلّا في أحد. ولم ينصب صلّى الله عليه وسلّم المنجنيق في غزوة من الغزوات إلا في غزوة الطائف، وفيه أنه نصبه على بعض حصون خيبر، ولم يتحصن بالخندق في غزوة إلا في غزوة الأحزاب «2» .   (1) من المتفق عليه أن الملائكة لم تقاتل إلا في بدر، وأما في حنين فقد نزلت الملائكة ولكن لم تقاتل. (2) الواقع أن الله سبحانه وتعالى أدّب الأمة كلها بهذا الدرس العملى المجيد، وعلمها أن مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيه الخطر كل الخطر على المسلمين أنفسهم؛ إذ فيه ضياعهم. ومن المعروف أن الصحابة- رضوان الله عليهم- لم ولن ولا يقصدون مخالفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن لما حدث منهم ما حدث- عن طريق التأويل لا القصد- لقنهم الله هذا الدرس العملى تربية لهم وللأمة فيما بعد. أما من قصد المخالفة من المسلمين من قريب أو بعيد فليعدّ نفسه للدواهي، وها نحن نرى بأعيننا ما نرى من مغبة هذه المخالفة، نسأل الله الستر والعفو والعافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وفي هذه السنة (الثالثة من الهجرة) كانت غزوة حمراء الأسد: وهو جبل بناحية العقيق، بينه وبين المدينة ثمانية أميال، وذلك أنه لما كان صبيحة «1» يوم أحد، وهو سادس عشر شوال من هذه السنة، أذّن مؤذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالخروج لطلب العدوّ، وألايخرج إلا من حضر معه بالأمس، فخرج، وخرجوا على ما بهم من الجهد والجراح- حتى كان بأسيد بن حضير تسع جراحات، يريد أن يداويها، فلما سمع النداء ترك المداواة سمعا وطاعة لله ورسوله- وسار عليه الصلاة والسلام متجلدا مرهبا للعدو، وانتهى إلى حمراء الأسد، وكان المشركون قد صاروا إليها من أحد، ودفع لواءه وهو معقود لم يحلّ، إلى عليّ، أو إلى أبى بكر، إظهارا للقوة وإرهابا للعدو، وأقام بها ثلاثا، ومر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمراء الأسد: سعيد بن أبى معبد الخزاعى سائرا إلى مكة، ولقي أبا سفيان وكفار قريش بالروحاء، فأخبرهم بخروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طلبهم، فقالوا: «لقد أجمعنا الكرّة على المسلمين لنستأصل بقيتهم» ، فقال سعيد الخزاعي: «إنى أنهاكم عن ذلك، فلا ترجعوا إلى المدينة» . فثبط عزم أبى سفيان عن الرجعة، وأكبر عليهم خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد قذف الله في قلوبهم الرعب، فانصرفوا سراعا على ظفر منهم، حيث لم يأمنوا أن تكون الدّولة «2» للمسلمين، حتى أتوا مكة، فلما بلغ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك قال- حسبنا الله ونعم الوكيل- فأنزل الله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ ... [ال عمران: 172: 174] الاية. وكان خليفته على المدينة ابن أم مكتوم.   (1) يقصد الصباح التالي لغزوة أحد. (2) الاستيلاء والغلبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الفصل الرابع في ظواهر السنة الرابعة من الهجرة وما فيها من الغزوات * وفي هذه السنة كانت غزوة بنى النضير: ونقل عن النووى في «الروضة» أن غزوة بنى النضير كانت سنة ثلاث، وأن تحريم الخمر كان بعد غزوة أحد «1» ، وكلامه يميل إلى أن تحريم الخمر كان سنة ثلاث، ورجّح الدمياطى أيضا في سيرته أن التحريم كان في السنة الثالثة. والقول بأن التحريم كان في السنة الرابعة مشهور، وهناك قول اخر راجح، وهو: أنها كانت في غزوة الحديبية سنة ست من الهجرة، بدليل أنّ أنسا كان ساقيا لها، ولما ورد النهي عن ذلك أراقها، ولو كان ذلك سنة أربع لكان أنس يصغر عن ذلك، ويرجحه قولهم: إن تحريم الخمر كان قبل الفتح، وربما يجمع بين الأقوال بما رواه أحمد عن أبى هريرة أنها حرّمت ثلاث مرات، قال: «قدم المصطفى صلّى الله عليه وسلّم المدينة وهم يشربونها، ويأكلون «2» الميسر، فسألوه عنهما، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... [البقرة: 219] ، قال الناس: ما حرّم علينا إنما قال «فيهما إثم كبير ومنافع للناس» . وكانوا يشربون الخمر حتّى صلّى يوما رجل من المهاجرين، وأمّ أصحابه في المغرب، فخلط في قراءته، فأنزل الله تعالى الاية التى في النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء: 43] ، فكان الناس يشربونها في وقت دون وقت، ثم نزلت الاية التى في المائدة، بالتأكيد، وهى قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90، 91] ، إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قالوا: انتهينا ربّنا. قال المفسرون: لما أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 87] ، وقوله: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً [المائدة: 88] ، وقوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً   (1) وذكر ابن هشام أنها كانت في ربيع الأوّل من السنة الرابعة. (2) انظر ابن كثير ص 92 ج 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 [النحل: 67] ، وكانت الخمر والميسر مما يستطاب عندهم، بيّن الله في هذه الاية «1» أن الخمر والميسر غير داخلين في جملة الطيبات والحلال، بل هما من جملة المحرمات. وروى أبو ميسرة أن عمر بن الخطاب- رضى الله تعالى عنه- قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الاية التى في سورة البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ، فدعي عمر فقرئت عليه، ثم قال: اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافيا، فنزلت الاية التى في النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ الاية. فدعي عمر فقرئت عليه ثم قال: «اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا» . فنزلت الاية التى في المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ، فَاجْتَنِبُوهُ إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، فدعى عمر فقرئت عليه، فقال: قد انتهينا. أخرجه الترمذى من طريقين، وقال رواية عن أبى ميسرة: هذا أصح، وأخرجه أبو داود والنسائي. وروى مصعب بن سعد عن أبيّ قال: صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فشربنا- وذلك قبل أن تحرّم الخمر- حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضل منكم، فقال سعد بن أبى وقاص: المهاجرون خير منكم، فأخذ رجل من الأنصار لحي «2» جمل فضرب رأس سعد فشجه شجة موضحة «3» ، فأتى سعد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فنزلت هذه الاية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ. وقال ابن عباس: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار، شربوا حتى ثملوا وعبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ولحيته، فيقول: فعل بى هذا أخي فلان، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فأنزل الله تحريم الخمر في هذه الاية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.   (1) المائدة: 90، 91. (2) لحى جمل: أي عظمة. (3) أى أبدت العظم واضحا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ لفظة استفهام «1» ، ومعناه الأمر، أى انتهوا، وهذا من أبلغ ما ينهى به؛ لأنه تعالى ذم الخمر والميسر وأظهر قبحهما للمخاطبين، كأنه قيل: قد تلى عليكم فيها من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم منتهون مع هذه الأمور؟ أم أنتم على ما كنتم عليه، كأنكم لم توعظوا، أولم تنزجروا؟ وفي هذه الاية دليل على تحريم شرب الخمر؛ لأن الله تعالى قرن شرب الخمر والميسر بعبادة الأصنام، وعدّد أنواع المفاسد الحاصلة بهما، ووعد بالفلاح عند اجتنابهما، وقال في اخر الاية: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ومعناه الأمر. وقال بعضهم: الحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب: أن القوم كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم به كثيرا، فعلم الله تعالى أنه لو منعهم دفعة واحدة لشقّ عليهم، فاستعمل في التحريم هذا التدريج والرفق. غزوة بنى النضير: وسبب تلك الغزوة- على بنى النضير- أنه صلّى الله عليه وسلّم ذهب إليهم ليستعين بهم في دية رجلين من بنى كلاب بن ربيعة- موادعين له- كان عمرو بن أمية الضمرى قتلهما غلطا في رجوعه من بئر معونة، ظانا أنهما حربيان، وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم عقد لهما أمانا، ولم يشعر به ضمرة، وكان صلّى الله عليه وسلّم قد تعاهد مع بنى النضير على ترك القتال، وعلى أن يعينوه في الديات، فحضر إليهم، وكان معه من أصحابه جماعة دون العشرة، منهم أبو بكر، وعمر، وأسيد بن حضير، فأجلسوهم بجانب دار من بيوتهم، وأرادوا الغدر به صلّى الله عليه وسلّم، وأمروا أن يصعد رجل إلى الجدار ويلقى عليه رحّي، فلما علم ذلك انصرف عنهم إلى المدينة حيث كان ذلك منهم نقضا للعهد، وأرسل إليهم أن اخرجوا من بلدي؛ لأن ضياعهم كانت من أعمال المدينة، فأبوا الخروج وأذنوا بالمحاربة، فتجهّز إليهم وغزاهم وحاصرهم في ربيع الأوّل، وبعد مضيّ ليال من الحصار سألوه صلّى الله عليه وسلّم أن يجليهم   (1) الاستفهام هنا تقريع وزجر في غاية القوة، إذ معناه، والله تعالى أعلم: هل أنتم منتهون أو أنزل عليكم الدواهى والقوارع، ولذلك لما سمعها عمر رضى الله عنه فزع منها وقال: انتهينا يا رب (ثلاث مرات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 إلى خيبر على أنّ لهم ثلث ما حملت الإبل من أموالهم، إلا السلاح، ولرسول الله صلّى الله عليه وسلّم نخلهم وأرضهم، فأجابهم إليه، فخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير تجلدا، فمضى من بنى النضير إلى خيبر ناس، وناس إلى الشام، وبقيت أموالهم فيئا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالصة له دون المسلمين؛ لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب، يقسّمها كيف شاء وحيث شاء، إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة فذكرا فقرا فأعطاهما منه شيئا. ويروى أن النبى صلّى الله عليه وسلّم لما ظهر على أموال بنى النضير، قال للأنصار: «إن إخوانكم من المهاجرين ليست لهم أموال، فإن شئتم قسّمت هذه الأموال بينكم وبينهم جميعا، وإن شئتم أمسكتم أموالكم، فقسمت هذه فيهم» ، قال السعدان (سعد بن معاذ وسعد بن عبادة) : «بل اقسم هذه فيهم، واقسم لهم من أموالنا ما شئت» فقال بقية الأنصار مثل ذلك تبعا للسعدين، ففرح صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» «1» . فأنزل الله فيهم قوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ «2» ، أى فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون، فلهذا قسم صلّى الله عليه وسلّم الأموال على المهاجرين بحسب ما اقتضته المصلحة، فعيّن لأبى بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وصهيب، وأبى سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ضياعا معروفة، ومن الأنصار أعطى سهل بن حنيف، وأبا دجانة شيئا لفقرهما. وفي بنى النضير نزلت سورة الحشر «3» التى سمّاها ابن عباس- رضى الله عنه- «سورة النضير» كما رواه سعد بن جبير. وفي سنة أربع قصرت الصلاة الرباعية إلى ركعتين في السفر، وهذا مبنيّ على أن هذه الصلاة أربعة تامة، ثم قصرت في السفر، وقيل إنها فرضت في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وهو قول ابن عباس- رضى الله عنه- قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين- رواه مسلم وغيره- كذا في «المواهب اللدنية» .   (1) رواه ابن ماجه عن عمرو بن عوف بلفظ «رحم ا (الأنصار» بدل «اللهم ارحم الأنصار» . (2) الحشر: 9. (3) هي السورة التاسعة والخمسون في ترتيب المصحف، واياتها 24 اية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وفي الوفا «1» : «الذى عليه الأكثر: أن الصلاة نزلت بتمامها من بدء الأمر» والله أعلم، وقد سبق التنويه إلى ذلك في مبعثه صلّى الله عليه وسلّم. وفي هذه السنة الرابعة نزلت اية التيمم: وهى قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [المائدة: 6] ، قال في معالم التنزيل «2» : «وكان بدء التيمم ما روى عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء ونزل الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبى بكر، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبالناس معه؟! فجاء أبو بكر- رضى الله عنه- ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واضع رأسه على فخذى قد نام، فقال: حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء! فقالت عائشة: فعاتبنى أبو بكر، ثم قال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعننى بيده، فلا يمنعنى من التحرك إلّا مكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فخذي. فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى أصبح على غير ماء، فأنزل الله عز وجل اية التيمم، فتيمّموا، فقال أسيد بن حضير- وهو أحد النقباء وكان رئيسا في الجاهلية والإسلام-: «ما هى بأوّل بركتكم يا ال أبى بكر» . قالت عائشة: فبعثنا البعير الذى كنت عليه فوجدنا العقد تحته، وقولها: فبعثنا البعير: أي أثرناه. والتيمم من خصائص هذه الأمة لتسهل عليهم أسباب العبادة، ويدل على ذلك ما روى عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فضّلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت الأرض كلها لنا مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» أخرجه مسلم «3» .   (1) كتاب الوفاء بأحوال المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. (2) للبغوى الشافعى المعروف بالفراء. (3) ولفظه كاملا- كما في الفتح الكبير- «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وتربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء، وأعطيت هذه الايات من اخر سورة البقرة، من كنز تحت العرش، لم يعطها نبى قبلي» رواه مسلم، والإمام أحمد، والنسائى عن حذيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 * [الرّجم] : وفي السنة الرابعة (فى ذى القعدة) كان رجم اليهوديين اللذين زنيا، ونزل قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) [المائدة: 47] . وفي العمدة: عن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- قال: إن اليهود جاؤا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون، فقال عبد الله ابن سلام: كذبتم إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على اية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها اية الرجم، فقالوا: صدقت يا محمد، فأمر بهما النبى صلّى الله عليه وسلّم فرجما، قال: فرأيت الرجل يحنى على المرأة يقيها الحجارة!. والذى وضع يده على اية الرجم: عبد الله بن صوريا. واختلف العلماء في أن الإسلام هل هو شرط في الإحصان «1» أم لا، فذهب الشافعى إلى أنه ليس شرطا، فإذا حكم الحاكم على الذمى المحصن رجمه. ومذهب أبى حنيفة أن الإسلام شرط في الإحصان، واستدل الشافعى بهذا الحديث، ورجم النبى صلّى الله عليه وسلّم اليهوديين. واعتذر السادة الحنفية عنه بأن قالوا: رجمهما بحكم التوراة، فإنه سألهم عن ذلك، وإن ذلك عند قدوم النبى صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وقالوا: إن حدّ الزنا نزل بعد ذلك، فكان ذلك الحديث منسوخا، وهذا يحتاج إلى تحقيق التاريخ، أعنى القول بالنسخ، وقوله: «فرأيت الرجل يحنى على المرأة الجيد» فى الرواية «يجنأ» بفتح المثناة تحت وسكون الجيم وفتح النون والهمز، أى يميل، ومنه الجنأ، وفي كلام بعضهم ما يشعر بأن اللفظة بالحاء المهملة، يقال: حنى الرجل يحنى حنوّا: إذا أكبّ على الشئ. فتحصّل من هذا أن السادة الحنفية يشترطون في الرجم الإسلام، وقد استدلوا على ذلك بما في البخارى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل من الناس وهو في المسجد فناداه: يا رسول الله إنى زنيت. فأعرض عنه النبى صلّى الله عليه وسلّم، فتنحّى لشقّ وجهه الذى أعرض قبله، فقال: يا رسول الله إنى زنيت، فأعرض عنه حتّى ثنّى ذلك أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبى   (1) الإحصان: الزواج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أبك جنون؟ قال: لا يا رسول الله، فقال: أحصنت؟ قال: نعم يا رسول صلّى الله عليه وسلّم، قال: اذهبوا به فارجموه. أ. هـ. والرجل: «ما عز بن مالك- رضى الله عنه» . ويروى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلّي، فلما أدلفته الحجارة «بالدال المهملة والفاء، أي: أجعته وأوهنته) هرب، فأدركناه بالحرّة، فرجمناه. ويستدل للرجم أيضا بما روى عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبى هريرة وزيد بن خالد الجهني، أنهما قالا: إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله تعالى. فقال الخصم الاخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله تعالى، وائذن لي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قل، قال: إن ابنى كان عسيفا* على هذا فزنى بامرأته، وإنى أخبرت أن على ابنى الرّجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبرونى أن ما على ابنى جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والذى نفسى بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: أما الوليدة والغنم فردّ عليك، وأما ابنك فإن عليه جلد مائة وتغريب عام، ثم قال لرجل من أسلم: أغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، قال: فغدا إليها، فاعترفت فرجمت. قوله «إلا قضيت بيننا بكتاب الله» - تطلق هذه اللفظة على القران خاصة، وقد يطلق كتاب الله على حكم الله مطلقا، والأولى حمل هذه اللفظة على هذا؛ لأنه ذكر فيه التغريب، وليس ذلك منصوصا فى كتاب الله، إلا أن يوجّه ذلك بواسطة أمر الله بطاعة الرسول واتباعه «1» ، وفي قوله: «ائذن لى» حسن الأدب في المخاطبة للأكابر، وقوله: «كان عسيفا» أى أجيرا، وقوله: «فافتديت منه» أى من الرجم، وقوله: ردّ عليك، أى مردود عليك، أطلق اسم المصدر على اسم المفعول.   * العسيف: الأجير المستهان به. (1) فى مثل قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا [المائدة: 92] ، وأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [ال عمران: 32] ، وغيرهما كثير في القران الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وقال في «التبيين» : وجه الرجم لأنه صلّى الله عليه وسلّم أمر برجم الغامدية وماعزا وكانا محصنين، وأخرج ماعزا إلى الحرّة، وقيل إلى البقيع ففرّ إلى الحرّة فرجم بالحجارة حتّى مات. ومما رواه الجماعة أنه عليه الصلاة والسلام رجم المرأة التى زنى بها العسيف، وقال عليه الصلاة والسلام «لا يحلّ دم امرئ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل النفس بغير حق» «1» . وقال عمر- رضى الله عنه- وهو على المنبر: مما أنزل في القران: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة» وسيأتى قوم ينكرون ذلك، ولولا أن الناس يقولون: إن عمر زاد في كتاب الله لكتبتهما في حاشية المصحف. وعليه إجماع الصحابة- رضى الله عنهم- فوصل إلينا إجماعهم بالتواتر، ولا معنى لإنكار الخوارج الرجم؛ لأنهم ينكرون القطع برجم النبى صلّى الله عليه وسلّم، فيكون مكابرة وعنادا. وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ عام في المحصن وغيره، إلا أنها نسخت في المحصن بما ذكر، فبقيت معمولا بها في غيره، ويزاد على المائة لغير المحصن بالسّنّة: تغريب عام، والرقيق على النصف مما ذكر، ولا رجم عليه؛ لأنه لا يتنصّف. وفي «البحر الرائق» قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ انتسخ في حق المحصن، فبقى في حق غيره معمولا به، ويكفينا في تعيين الناسخ القطع برجم النبى صلّى الله عليه وسلّم، فيكون من نسخ الكتاب بالسّنّة الفعلية لأنه صلّى الله عليه وسلّم رجم ما عزا، وكان قد أحصن، وثبوت الرجم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متواتر المعنى.   (1) وللحديث عدة ألفاظ، وممن رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائى وابن ماجه، والحاكم، والأربعة، ومن ألفاظه «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألاإله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس، بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة» متفق عليه، ورواه الإمام أحمد عن عبد الله ابن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وفي هذه السنة في جمادى الأولى كانت غزوة ذات الرقاع «1» : وقال النووى في «الروضة» إنها كانت لعشر خلون من المحرم سنة خمس، والرقاع بكسر الراء جبل سمّيت به؛ لأن فيه بقعا حمرا وسودا، أو لأن خيلهم كان بها سواد وبياض، أو لأنّ صلاة الخوف كانت بها، فسميت بذلك لترقيع الصلاة فيها، أو لأنها نقرت فيها أقدام الصحابة، وسقطت أظفارهم، حتى كانوا يلفّون على أرجلهم الخرق، ويقال للخرق رقاع، وتسمى غزوة الأعاجيب؛ لما وقع فيها من الأمور العجيبة، وغزوة بنى محارب، وبنى ثعلبة؛ وذلك أنه لما بلغه صلّى الله عليه وسلّم أن بنى محارب وبنى ثعلبة جمعوا جموعا من غطفان لمحاربته، خرج في أربعمائة من أصحابه- رضى الله عنهم- فغزا نجدا يريد بنى محارب وبنى ثعلبة، ولما بلغ صلّى الله عليه وسلّم نجدا، لم يجد بها أحدا غير نسوة، فأخذهن، وفيهن جارية وضيئة. ثم لقي جمعا من غطفان، فتقارب الجمعان، ولم يكن بينهما حرب حيث خاف المسلمون أن يغير المشركون عليهم وهم غافلون، حتى صلّى النبى صلّى الله عليه وسلّم بالناس صلاة الخوف، وكانت أوّل صلاة للخوف «2» ، فهمّ بهم المشركون، فقال قائلهم: دعوهم؛ فإن لهم صلاة التى هى الظهر» وهى أحب إليهم من أبنائهم، فنزل جبريل- عليه السلام- عليه صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فصلّى صلاة العصر (صلاة الخوف) ؛ صلّى بطائفة ركعتين وبالاخرى أخريين، ونزل بها القران، وهى قوله   (1) قيل: هى اسم شجرة في ذلك الموضع، وقيل لأن أقدامهم نقبت من المشي، فلفّوا عليها الخرق، وقيل: الرقاع كانت في ألويتهم، وقيل: هو اسم جبل فيه سواد وبياض وحمرة أ. هـ. من مراصد الاطلاع. والواقع أن ذلك كله اجتمع في هذه الغزوة. وفي السيرة الحلبية: «وتسمّى غزوة الأعاجيب، وقال ابن إسحاق: إنها بعد غزوة بنى النضير» : أي سنة أربع من الهجرة، وقال غيره: مضى ربيع الأوّل والثانى وبعض جماد من السنة الرابعة، ثم غزا نجدا، وبنى محارب، وبنى ثعلبة، وذكر البخارى أنها بعد خيبر واحتج بما رواه عن أبى موسى- رضى الله عنه- أنه شهد غزاه ذات الرقاع، ثم ساق الحديث. (2) نص ما في السيرة الحلبية: «وكانت أوّل صلاة للخوف صلّاها» . قال: وفي رواية: حانت صلاة الظهر، فصلاها صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه، فهمّ به المشركون فقال قائلهم: دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه هى أحب إليهم من أبنائهم، وهى صلاة العصر» ص 286 ج 2 (طبعة مصطفى محمد) . وروى أن أوّل صلاة صلاها للخوف كانت بعسفان في غزوة الحديبية. (3) وفي رواية أنها العصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ.. [النساء: 102] ، وكفى الله المؤمنين شرهم بعد أن تعرّض لهم من المشركين من يقتلهم فلم يقدروا، فمن ذلك أنه جاء رجل من غطفان وهو غورث- بالغين المعجمة والثاء المثلاثة- فقال: يا محمد أريد أن أنظر إلى سيفك هذا، وكان محلّى بفضة، فدفعه إليه فاستلّه وهمّ به، فكبته الله، ثم قال: يا محمد أما تخافني؟ فقال له: لا، ما أخاف منك. ثم ردّ سيفه إليه، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [المائدة: 11] ، والمفسرون على أن هذه الحادثة كانت في غزوة «أنمار» المتقدمة، ولا مانع من تعدد النزول لتعدد الأسباب، كما استظهره بعضهم. ورجع صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وكانت مدة غيبته خمس عشرة ليلة. * وفي هذه السنة كانت غزوة بدر الموعد: وتسمى غزوة بدر الصغرى، ويقال الصفراء بالفاء، وبدر الثانية والثالثة. وسميت «بدر الموعد» لأن أبا سفيان نادى يوم أحد: «الموعد بيننا وبينكم بدر العام المقبل» ، فخرج صلّى الله عليه وسلّم ومعه ألف وخمسمائة من أصحابه، فأقاموا ببدر ثمانية أيام، مدة الموسم، وكان أبو سفيان قد خرج من مكة في ألفين من قريش، حتى نزل خارج مكة، وقد قام به رعب من النبى صلّى الله عليه وسلّم، فجمع قريشا، وقال لهم: إنه لا يصلح هذا العام المجدب لقتال محمد، فارجعوا. ورجعوا، وباع المسلمون ما كان معهم من التجارة وربحوا ربحا كثيرا، وفيه نزل: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [ال عمران: 174] ، وانصرف صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة. * وفيها ولد الحسين- رضى الله عنه «1» . * وفي هذه السنة كانت «غزوة الخندق» ويقال لها: «غزوة الأحزاب» : وهى الغزوة التى ابتلى الله تعالى فيها عباده المؤمنين، وثبّت الإيمان في قلوب أوليائه المتقين، وأظهر ما كان يبطنه أهل النفاق والشقاق المعاندين، ولم   (1) ولد رضى الله عنه لخمس خلون من شعبان سنة 4 هجرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 تكن هذه الغزوة في شوال أو في ذى القعدة من السنة الخامسة كما ذكره أرباب السير، بل حقق النووى في «الروضة» أن الأصح أنها كانت في الرابعة، ويقوّيه أن ابن عمر رضى الله عنه يقول: «ردّنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة، ثم أجازنى يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة» ، فليس بينهما إلا سنة واحدة. وغزوة أحد كانت سنة ثلاث، فتكون غزوة الخندق سنة أربع، فهى قبل غزوة دومة الجندل. قال الحافظ بن حجر: ولا حجة فيه؛ لاحتمال أن يكون ابن عمر- رضى الله تعالى عنه- فى أحد كان أوّل ما طعن في الرابعة عشر، وكان في الأحزاب التى هى «غزوة الخندق» قد استكمل الخمسة عشر، وحينئذ يكون بين أحد والخندق سنتان، كما هو الواقع لا سنة واحدة، فعلى ذلك لا مانع أنها كانت في الخامسة. وسبب هذه الغزوة أنه لما وقع إجلاء بنى النضير من أماكنهم، سار منهم جمع من كبرائهم، منهم سيدهم حييّ بن أخطب- أبو صفية أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها- وعظيمهم سلّام بن مشكم، ورئيسهم كنانة بن أبى الحقيق، وهودة بن قيس، إلى أن قدموا مكة على قريش يدعونهم ويحرّضونهم ليحزّبوا الأحزاب على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت الأحزاب عشرة الاف، وكان المدبر لأمرها والقائم بشأنها أبو سفيان، وأنزل الله تعالى في ذلك صدر سورة الأحزاب. فلما بلغه صلّى الله عليه وسلّم ما أجمعوا عليه ندب الناس وأخبرهم خبر عدوّهم، وشاورهم في أمرهم، وقال لهم: هل ننزل من المدينة أو نكون فيها؟ فأشار عليه سلمان الفارسى- رضى الله تعالى عنه- بالخندق، حيث قال: «يا رسول الله إنّا كنا بأرض فارس إذا تخوّفنا الخيل، خندقنا عليهم» ، فأمر صلّى الله عليه وسلّم بحفر الخندق حول المدينة، وعند ذلك ركب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرسا له ومعه عدة من المهاجرين والأنصار، وأمرهم بالجدّ، ووعدهم النصر إن هم صبروا. فعمل الخندق من مكايد الفرس، لا من مكايد العرب، ولما نظر المشركون إلى الخندق، قالوا: والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها. وفي أمره صلّى الله عليه وسلّم بحفر الخندق حول المدينة بمعرفة سلمان الفارسي، وفي التماس عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- من أبى لؤلؤة غلام المغيرة أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 يعمل له رحى تطحن بالريح، دلالة على استحباب حصول الإسلام على أدوات الأشياء النافعة الموجودة بالممالك الأجنبية كما هو جار الان بالبلاد الإسلامية الراغبة في تجديد المنافع للحرب والسلم. وعمل صلّى الله عليه وسلّم بنفسه في حفر الخندق، ولما بدأ صلّى الله عليه وسلّم قال: بسم الله وبه بدينا «1» ... ولو عبدنا غيره شقينا يا حبّذا ربّا وحبّ دينا وقال صلّى الله عليه وسلّم متمثلا بقول ابن رواحة وهو ينقل التراب وقد وارى الغبار عن جلدة بطنه الشريف: لا همّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا والمشركون قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا «2» يمدّ بها صوته مكررا لها: «أبينا أبينا» . وروى أن حفر الخندق كان في زمان عسرة ومجاعة، حتى إن الأصحاب- رضى الله عنهم- كانوا يشدّون على بطونهم الحجر من الجهد والجوع الذى بهم، ولبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون زادا، وعن أبى طلحة: «شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر، فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بطنه حجرين. ذكره الترمذى في الشمائل، ولهذا أشار صاحب البردة بقوله: وشدّ من سغب أحشاءه وطوى ... تحت الحجارة كشحا مترف الادم وهذا منه صلّى الله عليه وسلّم تعليم للأمة للصبر على الجوع، وإلا ففى الحقيقة هو مطعم شبع من فيض مولاه؛ لأنه كان يطعم ويسقى من ربه، وإنما العادات الظاهرية قد تجرى مجراها، ولو في حق الأنبياء، حتى إنه صلّى الله عليه وسلّم في الصوم كان يصير   (1) بضم الباء وكسر الدال (الطهطاوي) . (2) وليس هذا من إنشاء النبى صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هو مردد، وكان من عادته أن يقلب البيت أو يكسره ليخرج من ميزان الشعر، وهكذا في كل ما ورد أنه ردّده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 كالطاعم الريّان، مكرمة له صلّى الله عليه وسلّم، وإذا حصل له في النادر إذاقة جوع، فإنما كان ذلك على وجه الابتلاء الذى كان يحصل لإخوانه من الأنبياء والمرسلين؛ تعظيما لثوابهم، وإظهارا لجواز الأعراض البشرية عليهم: صلوات الله وسلامه عليهم. وعن أنس- رضى الله عنه- خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار في غداة باردة، ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم، فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال: اللهمّ لا خير إلا خير الاخره ... فبارك في الأنصار والمهاجره وفي رواية: فأكرم الأنصار والمهاجرة «1» . فقالوا مجيبين له: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا وفي رواية: «ما حيينا أبدا» . ولما خطّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخندق، قطع لكلّ عشرة أربعين ذراعا، فاختصم المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلا قويا، فقال المهاجرون: سلمان منّا ونحن أحق به، وقال الأنصار: سلمان منا ونحن أحق به، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلمان منا أهل البيت» «2» . ولذلك يشير بعضهم: لقد رقى سلمان بعد رقّه ... منزلة شامخة البنيان وكيف لا والمصطفى قد عدّه ... من أهل بيته العظيم الشان وإنما وقع التخاصم في سلمان- رضى الله عنه- لأنه كان رجلا قويا، يعمل عمل عشرة رجال، وفي رواية: كان يحفر كل يوم خمسة أذرع من الخندق فى عمقها أيضا خمسة أذرع، فعانه «3» قيس بن صعصعة فصرع وتعطّل من   (1) وليس هذا من إنشاء النبى صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هو مردد، وكان من عادته أن يقلب البيت أو يكسره ليخرج من ميزان الشعر، وهكذا في كل ما ورد أنه ردّده. (2) رواه الطبراني والحاكم عن عمرو بن عوف. (3) أى حسده بالعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 العمل، فأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمر أن يتوضأ قيس لسلمان ويجمع وضوؤه فى ظرف ويغتسل سلمان بتلك الغسالة ويكفى الإناء خلف ظهره، ففعل، فنشط فى الحال كما ينشط البعير من العقال «1» . وهو أوّل مشهد شهده سلمان الفارسى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومكث صلّى الله عليه وسلّم في عمل الخندق خمسة عشر يوما، وجعل النساء والذرارى في الاطام، وعلى حصن بعض النساء حسان بن ثابت الأنصارى- رضى الله تعالى عنه- وكان من دأبه ألايقتحم المخاوف؛ إما لمانع حسّي، كأن تكون يداه لا تطيقان حمل القناة ومسك عنان الجواد؛ لأنه كان معدّا للتحريض على القتال بحماس شعره الذى هو أحدّ من الات النضال، وكانت وظيفته هجاء المشركين وتأييد الدين، ومع ذلك لم ينسبه أحد من أعدائه إلى الجبن «2» ، ولم يهجه به، كما قلت: حسّان كان هماما ... بطعنة الشّعر يوجع وكيف يجبن شهم ... وسط الحروب يشجّع فكان عليه مدار عظيم في الحروب وقوة الإسلام، وإن لم يخض في بحر المعامع، ولا كان له فيها اقتحام، ومما يدل على ذلك أنه في بعض الليالى وهو مع النساء اتفق أن يهوديا جعل يطوف بذلك الحصن، فقالت صفية لحسان: لا امن هذا اليهودى أن يدلّ على عورة الحصن، فيأتون إلينا، فانزل فاقتله. فقال حسان- رضى الله عنه-: يا بنت عبد المطلب قد عرفت ما أنا بصاحب هذا، (أى ليس دأبى الحرب) . فلما أيست منه أخذت عمودا ونزلت ففتحت باب الحصن وأتته من خلف فضربته بالعمود حتّى قتلته وصعدت الحصن فقالت: يا حسان انزل إليه فاسلبه؛ فإنه لم يمنعنى من سلبه إلا أنه رجل. فقال: يا ابنة عبد   (1) هذا هو الدواء الصحيح للحسد، وهو حديث صحيح. (2) فى الواقع أن وضع جميع الشعراء هو هكذا: الشاعر يكون دائما خلف الرجال لأن صفته التشجيع، وأما وصف سيدنا حسان بالجبن فهو اتهام باطل وإن انتحلوا له الأسباب، وقد عاش سيدنا حسان عشرين ومائة عام منها ستون في الجاهلية وستون في الإسلام، رضى الله عنه وأرضاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 المطلب ما لى بسلبه حاجة» يعنى أنه لم يقتله، فليس سلبه له، لا أنه جبن عن سلب قتيل كل إنسان يستطيع أن يسلب ما عليه. فمن سمع هذه الحكاية نسبه إلى الجبن الذى لا يليق بحال الصحابة- رضوان الله عليهم- مع أن هذا لا ينتج عن جبنه، وإنما لا يدل على شجاعته، وليست الشجاعة في الحروب صفة لكل إنسان. وعرض الغلمان وهو يحفر الخندق وكانوا بأجمعهم- من بلغ ومن لم يبلغ- يعملون فيه، فلما التحم الأمر: أمر من لم يبلغ خمس عشرة سنة أن يرجع إلى أهله، وأجاز من بلغ خمس عشرة سنة، فممّن أجازه: عبد الله بن عمر بن الخطاب- رضى الله عنهما- وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، والبراء بن عازب- رضى الله عنهم- وشبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية، فصارت كالحصن، وكان لواء المهاجرين بيد زيد بن حارثة، ولواء الأنصار بيد سعد بن عبادة- رضى الله عنهما. ولما فرغ منه صلّى الله عليه وسلّم أقبلت قريش ومن معها من بنى قريظة وقبائل العرب المشركين، واشتدّ البلاء حتّى ظن المؤمنون كلّ الظن، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمشركون بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب، إلا الرمى بالنبل والحصار، وكان جماعة من المنافقين مثل أوس القيظي، ومتابعيه ينفرون جيش الإسلام، ويقولون: ارجعوا إلى منازلكم، واعتلّوا بأن منازلكم عورة خالية عن المحافظة، فإنها خارج المدينة، ونحن نخاف أن يظفر بها جيش العدو، وكما أخبر عنه قوله تعالى: وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (13) [الأحزاب: 13] ، وكان المشركون يتناوبون الحرب، لكن الله تعالى لم يمكنهم عبور الخندق؛ فإن شجعان الصحابة كانوا يمنعونهم بالنبال والأحجار، وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم بنفسه في الليالى يحرس بعض مواضع. ثم نصر الله نبيه على المشركين، واختلفت كلمتهم، وهبّت ريح الصبا عاصفة في ليال شديدة البرد كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب: 9] ، فجعلت الريح تقطع أطناب خيامهم وتكفئ قدورهم وتقلبهم على بعض أمتعتهم ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 تجاوز عسكرهم، وسفت عليهم التراب ورمتهم بالحصا، وانقلبوا خاسئين، فكان نصره صلّى الله عليه وسلّم) بالصبا، وكان إهلاك عاد بالدبور «1» ، (وهى الريح الغربية) . ووقع بينهم الاختلاف، فرحلت قريش مع أبى سفيان، ورحلت غطفان وهم يقولون: الرحيل الرحيل، لا مقام لكم. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «الان نغزوهم ولا يغزونا» وكان كذلك حتّى فتح مكة. * وظهرت للنبى صلّى الله عليه وسلّم في حفر الخندق معجزات، منها: 1- أن كدية (أى صخرة) اشتدّت عليهم، فدعا بماء وتفل فيه ونضحه عليها فانهالت تحت المساحي «2» . روى البيهقى وغيره أنه صلّى الله عليه وسلّم لما خطّ الخندق، وقطع لكل عشر أربعين ذراعا، وأخذوا يحفرون، وظهر فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول، فوجّهوا سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخبره، فجاءه وأخذ المعول فضربها ضربة فصدعها، وبرق منها بريق أضاء ما بين لابتيها (أى لابتيّ المدينة) فكأن بها مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبّر وكبر المسلمون، وقال: «أضاءت لى منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب» أى في بياضها وصفرتها وانضمام بعضها إلى بعض. [واللابتان: حرّتان يكتنفانها، والحرّة: كل أرض ذات حجارة سوداء كأنها محترقة من الحر] . ثم ضرب الثانية، فقال: «أضاءت لى منها القصور الحمر من أرض الروم» . ثم ضرب الثالثة، فقال: «أضاءت لى قصور صنعاء، وأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة على كلها» أى الأراضى التى أضاءت «فأبشروا» فقال المنافقون: ألا تعجبون من محمد يمنيكم أيها المؤمنون ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب «3» (أى المدينة) قصور الحيرة، وأنها تفتح لكم، وإنكم إنما تحفرون الخندق   (1) كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» ، رواه الإمام أحمد. (2) المساحي: المعاول التى يحطمون بها الصخور. (3) قد نهى النبى صلّى الله عليه وسلّم عن تسمية المدينة «يثرب» وقال: «من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله هى طابة، هى طابة، رواه الإمام أحمد عن البراء؛ لأن التثريب: المؤاخذة والعقاب، ومنه قوله تعالى: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ، والمدينة دار الإيمان والأمان والمغفرة، جعلنا الله من أهلها بمنه وكرمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 من الفرق! أى الخوف» فنزل قوله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) [الأحزاب: 12] . 2- ومنها أن بنت بشير بن سعد أتت بقليل تمر إلى أبيها وخالها عبد الله بن رواحة، فمرت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعاها، وقال: هات ما معك يا بنية، فصبّته على كفّيه فما امتلأتا، ثم دعا بثوب فبسط له وبدّد ذلك التمر عليه، ثم قال لإنسان: اصرخ في أهل الخندق، أن هلمّوا إلى الغداء. فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر «1» أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب. ومنها ما رواه جابر، قال: كانت عندى شويهة غير سمينة، فأمرت امرأتى أن تخبز قرص شعير، وأن تشوى تلك الشاة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكنا نعمل في الخندق نهارا وننصرف إذا أمسينا، فلما انصرفنا من الخندق قلت: يا رسول الله صنعت لك شويهة ومعها شئ من خبز الشعير، وأنا أحب أن تنصرف إلى منزلي. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من يصرخ في الناس معه: إلى بيت جابر. وأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس معه، فقدّم له ذلك، فبرّك وسمّى الله، ثم أكل، وتواردها الناس كلما صدر قوم جاء قوم حتّى صدر أهل الخندق عنها «2» . وقال سلمان الفارسي: «كنت قريبا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا أعمل في الخندق، فتغلظ عليّ الموضع الذى كنت أعمل فيه، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شدّة المكان أخذ المعول وضرب بيديه ضربة لمعت تحت المعول برقة، ثم ضرب أخرى فلمعت برقة أخرى، ثم ضرب أخرى فلمعت برقة أخرى، قال: فقلت بأبى أنت وأمي، ما هذا الذى لمع تحت المعول؟ فقال: أرأيت ذلك يا سلمان؟ فقلت: نعم، فقال: أما الأولي: فإن الله فتح بها عليّ اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح بها عليّ الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح بها عليّ المشرق» . * وفرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من عمل الخندق، وأقبلت قريش في أحابيشها أى (حلفائها) ومن تبعها من كنانة في عشرة الاف، وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد، وكان بنو قريظة وكبيرهم كعب بن أسيد قد عاهدوه صلّى الله عليه وسلّم، فما زال   (1) أى رجعوا وانصرفوا منه. (2) رواه البخارى ومسلم وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 عليهم أصحابهم من اليهود حتّى نقضوا العهد، وصاروا مع الأحزاب، فعظم الخطب حتّى ظن المؤمنون كل الظن كما سبق، ونجم النفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتب بن قشير: «كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى قضاء الحاجة» . كما قال تعالى: إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) [الأحزاب: 10، 11] . وقال ابن عباس: كان الذين جاؤهم من فوقهم بنو قريظة، ومن أسفل منهم قريش وغطفان أ. هـ. والمراد من فوقهم: من جهة المدينة، ومن أسفل منهم: من جانب أسفل الوادي. وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة، ورسول الله مقابلهم، وليس بينهم قتال غير المراماة بالنبل والحصار كما سبق، ثم خرج عمرو بن عبد ودّ- من ولد لؤى بن غالب- يريد المبارزة، فبرز إليه عليّ- رضى الله عنه- فقال عمرو: يا ابن أخي، والله ما أحبّ أن أقتلك، فقال علي: لكننى والله أحب أن أقتلك. فحمي عمرو، ونزل من على فرسه وسلّ سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو عليّ مغضبا، ثم التقيا، فاستقبله عليّ بدرقته فضربه فقدّها وأثبت فيها السيف، وأصاب رأسه فشجّه، وضربه عليّ على حبل عاتقه فسقط وأثار العجاج «1» ، وسمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم التكبير، فعرف أن عليا قتله، وانكشفت الغبرة، وإذ علا عليّ صدر عمرو يذبحه، ثم أهبّ الله ريح الصبا، إلى اخر ما سبق ذكره. ثم أقبل عليّ ووجهه يتهلل، ولم يكن في العرب درع مثل درع عمرو، فخرجت خيولهم منهزمة، وألقى عكرمة بن أبى جهل رمحه يومئذ، وهو منهزم عن عمرو، وخرج في إثرهم الزبير وعمر فناوشوهم ساعة، وحمل الزبير على رجل منهم «2» فشقه نصفين، وقطع سرجه حتّى وصل إلى كاهل الفرس، فقيل له: ما رأينا مثل سيفك! فقال: ما هو السيف، إنه الساعد. ثم اتفق الكفار على أن يحملوا جميعا ولم يتخلف منهم أحد، فوافوا رسول الله عند طلوع الشمس وأحدقوا   (1) العجاج: الغبار. (2) هو هبيرة بن أبى وهب، زوج أم هانئ أخت الإمام على كرم الله وجهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 بالخندق من كل وجه، ووجّهوا نحو خيمته كتيبة عظيمة فيها خالد بن الوليد، فقاتلوهم يومئذ إلى هويّ «1» الليل حتّى كشفهم الله وتفرقوا، وشغل المصطفى عن العصرين «2» والعشاءين، فأقام لكلّ إقامة، وقال: «شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله قلوبهم نارا» «3» . ولم يكن لهم بعد ذلك قتال جميعا، وتفرّق الأحزاب بتخذيل نعيم بن مسعود الأشجعى الذى أتى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسلما، ولم يعلم قومه، وأمره صلّى الله عليه وسلّم بالتخذيل، حيث قال له: «خذّل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة «4» (بفتح الحاء وسكون الدال أى ينقضى أمرها بالمخادعة) . وقال ضرار بن الخطاب بن مرداس، أخو بنى محارب بن فهر في يوم الخندق، يمدح قومه، ويعتذر عن الهزيمة: ومشفقة تظن بنا الظنونا ... وقد قدنا عرندسة طحونا «5» كأنّ زهاءها أحد إذا ما ... بدت أركانه للناظرينا ترى الأبدان فيها مسبغات ... على الأبطال واليلب «6» الحصينا وجردا كالقداح مسوّمات ... نؤمّ بها الغواة الخاطئينا كأنهم إذا صالوا وصلنا ... بباب الخندقين مصافحونا أناس لا ترى فيهم رشيدا ... وقد قالوا: ألسنا راشدينا؟ وأحجرناهم شهرا كريشا «7» ... وكنّا فوقهم كالقاهرينا نراوحهم ونغدو كل يوم ... عليهم في السلاح مدجّجينا   (1) هوى الليل: تمامه واستواؤه. (2) العصرين: الظهر والعصر، والعشاءين: المغرب والعشاء. (3) وفي رواية: «ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة حتّى غابت الشمس» رواه أحمد، والأربعة والبيهقى عن علي، وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود. (4) «الحرب خدعة» قال البزار: فتح الخاء وسكون الدال لغة النبى صلّى الله عليه وسلّم ولغته أفصح اللغات. وقالوا: معناه أن من خدع مرة واحدة عطب وهلك ولا عودة له، وقال المطرز: الفتح أفصح لأنه لغة قريش: وقال ابن درستويه: ليست لغة قوم، إنما هى لغة الجميع؛ لأنها من الخداع فلذلك فتحت والله تعالى أعلم. (5) العرندس من الإبل: الشديد. (6) اليلب: محركة الترس، أو الدرع، أو جلد يخرز بعضه إلى بعض تلبس على الرؤس خاصة. (7) التكريش: تقطيب الوجه، وكرش الجلد: تقبض، والمقصود أنه صعب شديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 بأيدينا صوارم مرهفات ... نقدّ بها المفارق والشئونا «1» كأن وميضهنّ معريّات ... إذا لاحت بأيدي مصلتينا وميض عقيقة «2» لمعت بليل ... تري فيها العقائق مستبينا فلولا خندق كانوا لديه ... لدمّرنا عليهم أجمعينا ولكن حال دونهم وكانوا ... به من خوفنا متعوّذينا فإن نرحل فإنّا قد تركنا ... لدي أبياتكم سعدا رهينا إذا جنّ الظلام سمعت نوحا «3» ... علي سعد يرجّعن «4» الحنينا وسوف نزوركم عمّا قريب ... كما زرناكم متوازرينا بجمع من كنانة غير عزل ... كأسد الغاب قد حمت العرينا فأجابه كعب بن مالك- رضي الله عنه- فقال: وسائلة تسائل ما لقينا ... ولو شهدت رأتنا صابرينا صبرنا لا نري لله عدلا «5» ... علي ما نابنا متوكلينا وكان لنا النبيّ وزير صدق ... به تعلو البريّة أجمعينا نقاتل معشرا ظلموا وعقّوا ... وكانوا بالعداوة مرصدينا نعاجلهم إذا نهضوا إلينا ... بضرب يجعل المتسرّعينا ترانا في فضافض سابغات ... كغدران* الملا متسربلينا وفي أيماننا بيض خفاف ... بها نشفي مراح «6» الشاغبينا بباب الخندقين كأنّ أسدا ... شوابكهن «7» تحمين العرينا   (1) مفرق الرأس: مفترق الشعر الشئون: مجاري الدمع. (2) العقيقة هنا: ما يبقي في السحاب من شعاعه، وبه تشبّه السيوف، فتسمي عقائق- أ. هـ. (من القاموس المحيط) . (3) النائحات. (4) الترجيع: الترديد مرة بعد أخرى. (5) قوله عدلا بكسر العين أي معادلا أ. هـ. * الغدير: القطعة من الماء يغادرها السيل (بقية مياه السيل) . والملا: الصحراء. (6) المراح: الأشر والبطر، والمقصود: تذهب أشرهم وبطرهم. (7) الشوابك: الأنياب المتشابكة من أسد شابك: مشتبك الأنياب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 فوارسنا إذا بكروا وراحوا ... علي الأعداء شوسا معلمينا لننصر أحمدا والله حتي ... نكون عباد صدق مخلصينا ويعلم أهل مكة حين ساروا ... وأحزاب أتوا متحزّبينا بأنّ الله ليس له شريك ... وأنّ الله مولي المؤمنينا فإمّا تقتلوا سعدا سفاها ... فإنّ الله خير القادرينا سيدخله جنانا طيبات ... تكون مقامة للصالحينا كما قد ردّكم فلا «1» شريدا ... بغيظكم خزايا خائبينا خزايا لم تنالوا ثمّ خيرا ... وكدّتم أن تكونوا دامرينا» بريح عاصف هبّت عليكم ... فكنتم تحتها متكمّهينا «3» وكان شعار أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق وبنى قريظة «حم حم لا ينصرون» كذا في سيرة ابن هشام. * وفي شهر ذى القعدة وصدر* ذى الحجة من هذه السنة كانت غزوة بنى قريظة «4» : وهم قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس، وسيد الأوس حينئذ سعد بن معاذ- رضى الله تعالى عنه-. لما رجع صلّى الله عليه وسلّم من الخندق، وكان وقت الظهيرة ودخل بيت عائشة- رضى الله تعالى عنها- فبينما هو يغتسل، ودعا بالمجمرة ليتبخر، أتاه جبريل عليهما السلام بعد صلاة الظهر، فقال: أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال جبريل: ما وضعت ملائكة الله السلاح منذ نزل بك العدوّ «5» ؛ إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة، فإني عامد إليهم بمن معى من   (1) الفلّ: الكتيبة المنهزمة، وقوم فلّ: منهزمون. (2) دامرين: هالكين. (3) التكمه: التهدّم في البئر ونحوها، أو التندم على الأمر الغائب. * المراد أوّله وبدايته. (4) فى البخارى أنها كانت بعد رجوع النبى صلّى الله عليه وسلّم من الخندق ووضع السلاح. (5) وفي لفظ: قال: «يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أسرع ما حللتم، عذيرك من محارب، عفا الله عنك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الملائكة، فمزلزل بهم الحصون، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن في أصحابى جهدا فلو أنظرتهم أياما. فقال جبريل عليه السلام: انهض إليهم، فو الله لأدقّنهم كدقّ البيض على الصفا، (وكان جبريل على فرس أبلق) ، فقال: ولأدخلنّ فرسى هذا عليهم في حصونهم، ثم لأضعضعنّها. فأدبر جبريل عليه السلام ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم وهم طائفة من الأنصار، فأبرز «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا فأذّن في الناس: «من كان سميعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بنى قريظة» ، وأعطى صلّى الله عليه وسلّم الراية عليّ بن أبى طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، ونادى مناد بأمره صلّى الله عليه وسلّم: «يا خيل الله اركبي» «2» . ثم سار إليهم صلّى الله عليه وسلّم وقد لبس سلاحه وركب فرسه، والناس حوله قد لبسوا السلاح، وركبوا الخيل، وهم ثلاثة الاف، والخيل ستة وثلاثون فرسا، له صلّى الله عليه وسلّم منها ثلاثة، وقدّم صلّى الله عليه وسلّم عليّ بن أبى طالب كرم الله وجهه برايته إلى بنى قريظة، ومر صلّى الله عليه وسلّم بنفر من بنى النجار قد لبسوا السلاح، فقال: هل مرّ بكم أحد؟ قالوا: نعم دحية الكلبى مر على فرس أبيض عليه اللأمة، وأمرنا بحمل السلاح، وقال لنا: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلع عليكم الان، فلبسنا سلاحنا وصففنا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: ذلك جبريل عليه السلام بعث إلى بنى قريظة ليزلزل حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم، فلما دنا عليّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- من الحصن ومعه نفر من المهاجرين والأنصار، وغرز اللواء عند أصل الحصن، سمع من بنى قريظة مقالة قبيحة في حق النبى صلّى الله عليه وسلّم، فسكت المسلمون، وقالوا: السيف بيننا وبينكم، فلمّا رأى عليّ- رضى الله عنه- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقبلا، أسلم اللواء لأبى قتادة الأنصاري، ورجع إليه صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأجانب، قال: لعلك سمعت منهم أذي؟ فقال: نعم يا رسول الله، قال: لو رأونى لم يقولوا من ذلك شيئا. فكان كما قال صلّى الله عليه وسلّم، وحاصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى قريظة خمسا وعشرين ليلة، وقيل دون ذلك، وكان طعام الصحابة- رضى الله عنهم التمر، يرسل به إليهم سعد بن عبادة- رضى الله عنه- فلا زال يحاصرهم   (1) كذا بلفظ «أبرز» فى السيرة الحلبية وقال: إنها كذلك في سيرة الحافظ الدمياطى: بالأذان في البراز، ومعناه: أمره. (2) وهو من أحسن الكنايات، ومعناه: «يا فرسان الله» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 حتى جهداهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فلما أيقنوا أنه صلّى الله عليه وسلّم غير منصرف عنهم حتّى يقاتلهم، قال كبيرهم «كعب بن أسيد» : يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وأنا عارض عليكم خلالا ثلاثا أيها شئتم، قالوا: وما هي؟ قال: «نتابع هذا الرجل ونصدّقه، فو الله لقد تبين لكم أنه نبيّ مرسل، وأنه الذى تجدونه في كتابكم، فإذا امنتم به أمنتم على أموالكم ودمائكم ونسائكم وأبنائكم، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب، حيث لم يكن هذا النبى من بنى إسرائيل» . وكان يهود بنى قريظة يدرسون ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتبهم، وأنّ دار هجرته المدينة، بل كان هذا غير خاص ببنى قريظة؛ إذ غيرهم كان كذلك، فقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: «كانت يهود بنى قريظة، وبنى النضير، وفدك، وخيبر، يجدون في كتبهم صفة النبى صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث، وأن دار هجرته المدينة» . قال كعب: فإن أبيتم عليّ هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين* السيوف، ولم نترك وراءنا ثقلا حتّى يحكم الله بينا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا يخشى عليه، وإن نظفر فلعمرى لنجدن النساء والأبناء. قالوا: «نقتل هذه المساكين» ؟ فما خير العيش بعدهم» ؟ قال كعب: فإن أبيتم عليّ هذه، فإن الليلة ليلة السبت، وأن عسى أن يكون محمد وأصحابه قد آمنوا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرّة (أى غفلة) . فقالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن يحدث فيه من كان قبلنا؟ وقال لهم عمرو بن سعد: قد خالفتم محمدا فيما عاهدتموه عليه، ولم أشرككم في غدركم، فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهودية وأعطوا الجزية، فو الله ما أدرى أيقبلها أم لا، قالوا: نحن لا نقر للعرب بخراج في رقابنا يأخذونه، القتل خير من ذلك، قال: فإني برئ منكم. وبعد الحصار أرسلوا بنباش بن قيس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير، من أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة «أى الدرع» ، فأبى صلّى الله عليه وسلّم، فأرسلوه ثانيا بأنه لا حاجة لهم بشئ من الأموال، لا من الحلقة ولا من   * أى مجرّدين السيوف من غمدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 غيرها، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعاد نباش إليهم بذلك، ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ابعث إلينا أبا لبابة، وهو رفاعة بن المنذر، لنستشيره في أمرنا؛ لأنه كان من حلفاء الأوس وبنو قريظة (منهم) «1» وكان مناصحا لهم؛ لأن ماله وولده وعياله كانت في بنى قريظة، فأرسله صلّى الله عليه وسلّم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وأسرع إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه من شدّة المحاصرة وتشتيت مالهم، وقام كعب بن أسيد، فقال لأبى لبابة: قد عرفت ما بيننا، وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمد لا يفارق حصننا حتّى ننزل على حكمه، فلو زال عنا لحقنا بالشام أو خيبر، ولم نطأ له أرضا، ولم نكثر عليه جمعا أبدا، ما تري؟ قد اخترناك على غيرك، أننزل على حكم محمد؟ قال: نعم فانزلوا، وأشار بيده إلى حلقه إشارة إلى الذبح، ومعناه لا تفعلوا لئلا يذبحكم، قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماى من مكانهما حتّى عرفت أنى خنت الله ورسوله؛ لأن في قولى تنفيرا لهم عن الانقياد له صلّى الله عليه وسلّم. ومن ثم أنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [الأنفال: 27] الاية، وقيل: (وهذا أثبت) «2» أنه نزل في ذلك: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً [التوبة: 102] ، وسالت عين أبى لبابة بالدموع، وانطلق على وجهه، فلم يأت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وربط نفسه إلى عمود بالمسجد يقال له: «اسطوانة التوبة» كان أكثر نفله صلّى الله عليه وسلّم عنده، وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ مما صنعت. وعاهد الله ألايطأ أرض بنى قريظة أبدا ولا يرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدا. فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبره، وكان قد استبطأه، قال: أما لو جاءنى لاستغفرت له، وأما بعد أن فعل ما فعل فما أنا بالذى أطلقه حتّى يتوب الله عليه، فنزلت توبته، فتولى النبى إطلاقه بيده بعد أن أقام مرتبطا بالجذع ست ليال لا يحلّ إلا للصلاة. ثم إن بنى قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمر بهم فكتّفوا وجعلوا ناحية بين الستمائة والسبعمائة، وأخرج النساء والذرارى من الحصون، وجعلوا   (1) فى الأصل «وبنو قريظة من الأوس» وهو خطأ؛ لأن بنى قريظة كانوا من حلفاء الأوس، لا من الأوس. (2) فى الأصل (وهو أولا أثبت) أصلحناه من السيرة الحلبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ناحية، وكانوا ألفا، واستعمل عليهم عبد الله ابن سلام، فتواثبت الأوس، وقالوا: يا رسول الله موالينا وحلفاؤنا، وقد فعلت في موالى إخواننا بالأمس ما قد فعلت، (يعنون بنى قينقاع) ، لأنهم كانوا حلفاء الخزرج، ومن الخزرج عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وكانوا قد نزلوا علي حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكلّمه فيهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، فوهبهم له، على أن يجلوا، (فطلبت) «1» الأوس من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يهب لهم بنى قريظة كما وهب بنى قينقاع لإخوانهم من الخزرج، فلما كلمته الأوس أبى أن يفعل ببنى قريظة ما فعل ببنى قينقاع، ثم قال لهم: أما ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: نختار حكم سعد بن معاذ- رضى الله عنه- فرضى بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأذن لسعد بن معاذ، وليس إذنه صلّى الله عليه وسلّم لسعد بن معاذ في ذلك لكونه لا يجوز له صلّى الله عليه وسلّم الحكم بينه وبين محاربه، بل هو جائز له؛ فإنّ من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم لنفسه، فلأن يحكم بينه وبين محاربه من باب أولي، ومعنى الحكم بينه وبين محاربه أن يقول للمحارب: أترك قتالك على التزام كذا وكذا، أو على ما يقتضيه رأى فلان، ويحكم به فيك، ومن هذا القبيل تحكيم سعد بن معاذ في بنى قريظة بأمر النبى صلّى الله عليه وسلّم، فالتحكم في المحاربين من خصائص الإمام الأعظم «2» ، ومن حقوقه؛ فلا يجوز لأحد أن يفتات عليه، ولا أن يفعله بغير إذنه، فالحكم في الحقيقة حقه صلّى الله عليه وسلّم، وقد ردّه إلى سعد وفوّض له فيه. وكان سعد بن معاذ- رضى الله عنه- حين أصابه السهم بالخندق وضع في خيمة في المسجد تداوى فيها الجرحى من أصحابه، فأتاه قوم فحملوه على حمار وساروا به وهم يقولون: «يا أبا عمرو أحسن في مواليك؛ فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما ولّاك ذلك لتحسن فيهم، فقد رأيت عبد الله بن أبيّ ابن سلول وما صنع في حلفائه» ، كل ذلك وسعد بن معاذ ساكت، فلما أكثروا عليه قال- رضى الله عنه: «لقد ان لسعد ألاتأخذه في الله لومة لائم» ، فقال بعضهم:   (1) فى الأصل (فظنت) وهو خطأ. (2) وهو النبى صلّى الله عليه وسلّم فقط، أما الأئمة- الحكام- فلهم ذلك في حدود الكتاب والسنة، أما إذا خالف القران الكريم والسنة النبوية الشريفة: فضرب كلامه عرض الحائط أولي، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» رواه الإمام أحمد والحاكم، وروى النسائى قوله عليه الصلاة والسلام: «لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» وروى الإمام أحمد: «لا طاعة لمن لم يطع الله» والأحاديث في هذا الباب كثيرة اكتفينا منها بما أوردنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 «وا قوماه» ، فأتى سعد على حمار، فلما دنا قريبا من باب المسجد، وانتهى رضى الله عنه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى المسلمين وهم حوله جلوس، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للأنصار: قوموا إلى سيدكم «1» ، فقاموا صفين، كل رجل منهم يحيّى سعدا، حتى انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: احكم يا سعد، فقال: الله ورسوله أحقّ بالحكم، قال صلّى الله عليه وسلّم: قد أمرك الله أن تحكم فيهم، فقال سعد لبنى قريظة: أترضون بحكمي؟ قالوا: نعم، فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه أنّ الحكم ما حكم به سعد، قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسّم الأموال، وتسبي الذرارى والنساء، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات» «2» . وما أحسن قول من قال: ليت دهري حاكم لي ... في عدوّي ليغيظه وهو قد يحكم يوما ... حكم سعد في قريظة وأخرج أحمد عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال: دمي يوم الأحزاب سعد بن معاذ فقطع الجلد، فحسمه* رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنار، فانتفخت يده فنزف، فلما رأى ذلك قال: «اللهم لا تخرج نفسى حتّى تقرّ عينى من بنى قريظة» ، فاستمسك عرقه، فما قطر قطرة حتّى نزلوا على حكم سعد، فأرسل إليه، فحكم أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم ليستعين بهم المسلمون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أصبت حكم الله فيهم» ، فلما فرغ منهم انفتق عرقه فمات رضى الله عنه، كما سيأتى قريبا. وينسب لحسان بن ثابت في رثائه قوله: لقد سجمت «3» من دمع عينى عبرة ... وحقّ لعيني أن تفيض علي سعد قتيل ثوى في معرك فجعت به ... عيون ذراري «4» الدّمع دائمة الوجد على ملّة الرحمن «5» وارث جنّة ... مع الشهدا، وفدها أكرم الوفد فإن تك قد ودّعتنا وتركتنا ... وأمسيت في غبراء مظلمة اللّحد   (1) حديث ثابت في كثير من كتب السنة والمغازي، وفيه رد على طوائف المتفيهقة. (2) وفي رواية: «من فوق سبعة أرقعة» . * يقال: حسم العرق إذا قطعه وكواه لئلا يسيل دمه. (3) سال دمعها غزيرا. (4) ذرارى الدمع من ذر الحب والملح والدواء: فرقه، والمعنى أن دمعى متفرق ولكن قلبى دائم الوجد والحزن. (5) والمعنى أنه على ملة الرحمن، ومات مسلما شهيدا، رضى الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 فأنت الذى يا سعد بتّ بمشهد ... كريما وأثواب المكارم والحمد بحكمك في حيّى قريظة والذي ... قضى الله فيهم ما قضيت على عمد فوافق حكم الله حكمك فيهم ... ولم تعف إذ ذكرت ما كان من عهد فإن كان ريب الدهر أمضاك في الألى ... شروا هذه الدنيا بجنّاتها الخلد فنعم مصير الصادقين إذا دعوا ... إلى الله يوما للوجاهة والقصد ثم أمر صلّى الله عليه وسلّم أن يجمع ما وجد في حصونهم، فقسّمه صلّى الله عليه وسلّم، فجعل للفارس ثلاثة أسهم: سهما له، وسهمين لفرسه، وللراجل سهما؛ وكانت خيل المسلمين يومئذ ستة وثلاثين فرسا، ووقع في سهم النبى صلّى الله عليه وسلّم من سبيهم ريحانة بنت عمرو بن حذافة- من بنى عمرو بن قريظة- ويقال ريحانة بنت شمعون، فلم تزل في ملكه حتّى مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأمر بالأسارى أن يكونوا في دار زيد بن أسامة رضى الله عنه- والذرية في دار ابنة الحارث النجّارية؛ لأن تلك الدار كانت معدودة لنزول الوفود من العرب، وأمر بالمتاع أن يحمل، وترك المواشى هناك ترعى الشجر، ثم غدا صلّى الله عليه وسلّم سائرا إلى المدينة، ثم خرج إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، أى حفر فيها حفائر، ثم أمر بقتل كلّ من أنبت- أى بلغ- فجاؤا إليه أرسالا تضرب أعناقهم ويلقون في تلك الخنادق، وقتلت فيهم امرأة واحدة، وهى بنانة امرأة الحكم القرظي، وكانت طرحت على خلاد بن سويد بن الصامت رحى من فوق الحائط، فاستشهد واحده في هذه الغزوة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «له أجر شهيدين» وقتلها به قصاصا، لا لكونها كانت في قتال المشركين. ومما يستشهد به الفقهاء في كتب الفقه «1» فى قتال المشركين، على أن المرأة لا تقتل- كما قاله اليافعى- قول أبى الخطاب عمر بن أبى ربيعة القرشى المخزومي: إنّ من أكبر الكبائر عندي ... قتل بيضاء خودة عطبول كتب القتل والقتال علينا ... وعلي الغانيات جرّ الذيول   (1) ليس الشعر من أوجه الاستدلال، وإنما قد يكون ملحة من الملح، على سبيل التفكه، لا الاستشهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ثم أتى بكعب بن أسد: سيد بنى قريظة، فقال له كعب- بعد أن عرض عليه الإسلام-: «لولا أن تعايرنى يهود بالجزع من السيف لاتبّعتك» ، فأمر صلّى الله عليه وسلّم بضرب عنقه. وكان المتولى لقتل بنى قريظة عليّ بن أبى طالب، والزبير بن العوّام- رضى الله تعالى عنهما- وينسب لحسان بن ثابت قوله: لقد لقيت قريظة ما أساها «1» ... وما وجدت لذلّ من نصير غداة أتاهم يهوي إليهم ... رسول الله كالقمر المنير له خيل مجنّبة تغادي ... بفرسان عليها كالصقور تركناهم وما ظفروا بشئ ... دماؤهم عليهم كالغدير فهم صرعي يحوم الطير فيهم ... كذاك يدان ذو العند الفجور فأنذر مثلها نصحا قريشا ... من الرحمن إن قبلت نذيري وقوله: لقد لقيت قريظة ما أساها ... وحلّ بحصنها ذلّ ذليل وسعد كان أنذرهم بنصح ... بأنّ إلهكم ربّ جليل فما برحوا بنقض العهد حتي ... غزاهم «2» في بلادهم الرسول أحاط بحصنهم منّا صفوف ... له من حرّ وقعهم صليل* ولما انقضى شأن بنى قريظة، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا، ولكنكم تغزونهم» فكان كذلك. وانفجر جرح سعد بن معاذ الذى في يده، وسال الدم، واحتضنه صلّى الله عليه وسلّم، فجعلت   (1) ما أساها: ما أساءها: حذفت الهمزة للتسهيل، وفي ابن هشام (فى المطبوعة) ما ساها، بهمزة المد بعد السين. (2) فى سيرة ابن هشام «فلاهم» بدل «غزاهم» ومعناه قتلهم بالسيوف. * الصليل: صوت له رنين، وهو صوت قارعة السيوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الدماء تسيل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحمل إلى منزله، فمات سعد منه ولم يعلم «1» صلّى الله عليه وسلّم بموته، فأتى جبريل فقال: يا محمد، من هذا الميت الذى فتحت له أبواب السماء واهتزّ له العرش فرحا به؟ فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريعا إلى سعد بن معاذ فوجده قد مات، ولما دفن سعد- رضى الله عنه- وشيّعه النبى صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من الصحابة والملائكة، سبّح صلّى الله عليه وسلّم وسبّح الناس معه، فقالوا: يا رسول الله: لم سبّحت؟ قال: لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتّى فرّجه الله عنه، وسئل صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال: كان يقصّر في الطهور من البول بعض التقصير. * ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسبايا بنى قريظة إلى نجد أو الشام لتباع ويشترى بها سلاح. ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفرّق بين الأم وولدها في السبايا من بنى قريظة، وقال: لا يفرّق بين أمّ وولدها حتّى يبلغ. فكانت أمّ الولد تباع من المشركين هى وولدها، وهو محمل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من فرّق بين والدة وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» «2» . * وفي هذه السنة الرابعة في صفر قدم عليه صلّى الله عليه وسلّم) قوم من عضل والقارة (عضل بفتح المهملة والمعجمة بعدها لام: بطن من بنى الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر ينسبون إلى عضل بن الديش، والقارة بالقاف وتخفيف الراء: بطن من الهون أيضا ينسبون إلى الديش المذكور، وقال ابن دريد: القارة أكمة سوداء فيها حجارة، كأنهم نزلوا عندها فسمّوا بها، كذا في المواهب اللدنية) وطلبوا منه أن يبعث معهم من يفقّه قومهم في الدين، فبعث معهم ستة، وهم: ثابت بن أبى الأفلح، وخبيب بن عدي، ومرثد بن أبى مرثد الغنوي، وخالد بن البكير الليثي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق، وأمّر عليهم مرثد بن أبى مرثد، فلما وصلوا إلى الرجيع (ماء لهذيل على أربعة عشر ميلا من عسفان) غدروا بهم وقاتلوهم، فقتل ثلاثة وأسر ثلاثة، وهم: زيد،   (1) كانت الجملة «فمات سعد منه وحمل إلى منزله ولم يعلم صلّى الله عليه وسلّم» فأصلحناه إلى ما ترى حتّى ينتظم الكلام. (2) رواه الإمام أحمد والترمذي، والحاكم عن أبى أيوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وخبيب، وعبد الله بن طارق، فأخذوهم إلى مكة، فهرب عبد الله بن طارق في الطريق، وقاتل إلى أن قتلوه بالحجارة، فلما وصلوا إلى مكة في ذى القعدة حبسوا كلّ واحد منهما حتّى تخرج الأشهر الحرم، ولما انسلخ الأشهر الحرم أخرجوا خبيبا وزيدا من الحرم إلى التنعيم ليقتلوهما في الحلّ، واجتمع خبيب وزيد في الطريق فتواصوا بالصبر والثبات على ما يلحقهما من المكاره، قال لهم خبيب: دعونى أصلّي ركعتين، فتركوه، فصلّى ركعتين، وقال: والله لولا أن تحسبوا أنّ ما بى من جزع لزدت. وعند موسى بن عقبة أنه صلاهما في موضع مسجد التنعيم وقال: «اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا (يعنى متفرقين) «1» ولا تبق منهم أحدا» . فلم يحل الحول، ومنهم أحد حيّ، ثم أنشأ خبيب يقول: فلست أبالي حين أقتل مسلما ... علي أيّ شقّ كان في الله مضجعى وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك علي أوصال شلو* ممزّع إلي الله أشكو غربتى بعد كربتى ... وما أرصد الأحزاب لى عند مصرعى [الأوصال: جمع وصل، وهو العضو. والشلو: بكسر الشين المعجمة الجسد، ويطلق على العضو، لكن المراد بها هنا الجسد] . قال أبو هريرة: «كان خبيب أوّل من سنّ الركعتين عند القتل لكلّ مسلم قتل صبرا» ، لأنه فعلهما في حياته صلّى الله عليه وسلّم، فاستحسن ذلك من فعله وقرّرهما، واستحسنه المسلمون، فبقى سنة. والصلاة خير ما ختم به عمل العبد. * وفي هذه السنة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن ثابت بتعلّم «2» السريانية، وسيأتى ذلك موضحا في تراجمة النبى- عليه الصلاة والسلام. * وفي هذه السنة الرابعة، وقيل في الخامسة نزلت اية الحجاب، والمراد بالاية الطائفة من القران نزل فيها الأمر بالستر، وهى قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33] ، أى «الزمن بيوتكن» وَلا تَبَرَّجْنَ قيل: هو التكسّر والتبختر،   (1) والمعنى: أن يشتت الله شملهم. * الشلو الجسد والجلد من كل شيء. (2) فى الأصل «بتعليم» وهو خطأ واضح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وقيل: هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى قيل إن الجاهلية الأولي: بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقيل: هى زمن داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام، كانت المرأة تلبس قميصا من الدروع غير مخيط من الجانبين، فيرى خلفها منه، وقيل: الجاهلية الأولى ما قبل الإسلام، والجاهلية الاخرى يفعلون مثل فعلهم اخر الزمان، وقيل: قد تذكر الأولى ولا تستلزم أخرى كقوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) [النجم: 50] ، ولم تكن لهم أخرى، ونزل فيها أيضا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب: 53] ، قال أكثر المفسرين: نزلت هذه الاية في شأن وليمة زينب بنت جحش حين بنى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال أنس بن مالك رضى الله عنه: كنت ابن عشر سنين مقدم رسول الله) المدينة، فخدمته عشر سنين، وتوفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا ابن عشرين سنة، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أنزل، وكان أوّل ما نزل في مبتنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزينب بنت جحش، حين أصبح النبيّ بها عروسا فدعا القوم فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقى رهط عند النبى صلّى الله عليه وسلّم فأطالوا المكث، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخرج وخرجت معه، لكى يخرجوا، فمشى النبى صلّى الله عليه وسلّم ومشيت حتّى جاء عتبة حجرة عائشة- رضى الله تعالى عنها- وظن أنهم قد خرجوا، فرجع ورجعت معه، حتى إذا دخل على زينب، فإذا هم جلوس لم يقوموا، فرجع النبى صلّى الله عليه وسلّم ورجعت معه، حتى إذا بلغ عتبة حجرة عائشة، وظنّ أنهم خرجوا فرجع ورجعت معه، فإذا هم قد خرجوا، فضرب النبى صلّى الله عليه وسلّم بينى وبينه الستر، ونزلت اية الحجاب. قال أبو عثمان (واسمه الجعد) عن أنس قال: فدخل- يعنى النبى صلّى الله عليه وسلّم- البيت وأرخى الستر، وإنى لفى الحجرة وهو يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى قوله: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب: 53] ، وهذا أدب من الله أدّب به الثقلاء. قال ابن عباس: نزلت في ناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك «1» ، يأكلون ولا يخرجون، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتأذى بهم فنزلت الاية:   (1) أى ينضج الطعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى قوله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ أى سألتم نساء النبى صلّى الله عليه وسلّم حاجة فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أى من وراء ستر يستركم عنهن، فبعد اية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر* امرأة من نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: متنقبة كانت أو غير متنقبة، ونزل فيها أيضا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب: 59] ، والجلابيب جمع جلباب، وهى الملاءة التى تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار، وقيل: هى كل ما يستتر به من كساء وغيره، قال ابن عباس: أمر نساء المؤمنين أن يغطين رؤسهن ووجوههن بالجلابيب، إلا عينا، ليعلم أنهنّ حرائر، وهو قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب: 59] ، أى لا يتعرّض لهن، بخلاف الإماء فلا يغطّين وجوههن، وكان المنافقون يمشون في طرق المدينة يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيتبعون المرأة، فإن سكتت اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا عنها، ولم يكونوا يطلبون إلا الإماء، ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الأمة؛ لأن زى الكل واحد، تخرج الحرة والأمة فى درع وخمار، فشكون ذلك لأزواجهن، فذكروا ذلك للنبى صلّى الله عليه وسلّم، فنزل: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... الاية، ثم نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء «1» بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ ..... قال أنس: «مرّت بعمر بن الخطاب   (1) فى القاموس المحيط: «خدم، وخدام، وخدّم: موضع الخلخال، والسير، ورباط السراويل عند أسفل رجل المرأة» أ. هـ. بتصرف. والإماء: الخدم، والمغنيات: (يسرن مكشوفات الوجه وخدم الرجلين) ولذلك سمين بالخدم: من الخدمة، وكشف خدم الأقدام، وهن لا يستحيين من كشفها، فلذلك نهى الحرائر أن يتشبهن بالإماء. ولهذا نقول لنساء هذا الزمن: إنكن رجعتن إلى أرذل من خدم الجاهلية الأولى؛ إذ الحرة اليوم خلعت جلباب الحياء، مع خلعها جلباب الستر الذى تستر به جسدها: تشبها بالخدم (خدم الجاهلية الأولي) . والمرأة على هذه الوتيرة التى نراها لا يمكن أن تكون هى المرأة المسلمة التى يريد الإسلام إعزازها وتكريمها وإبعادها عن فحش القول، وعن الفاحشة، نسأل الله تعالى أن يسبل علينا ستر الدنيا والآخرة. * الانتظار، والبقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 جارية متقنعة، فعلاها بالدرّة، وقال: (يا لكاع أتتشبهين بالحرائر؟! ألقى القناع) ولكاع كلمة تقال لمن يستحقر به مثل: العبد، والأمة، والقليل العقل، مثل قولك: يا خسيس «1» . * وفي هذه السنة توفيت فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف- أم على ابن أبى طالب رضى الله عنه- أسلمت وتوفيت مسلمة بالمدينة.   (1) لأن الأمة إذا تشبهت بالحرة، لحق الحرة ما يلحق الأمة من استهزاء الرجال بها، كما نرى اليوم فى الشوارع، وأسواق الفجور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 الفصل الخامس فى ظواهر السنة الخامسة وما فيها من الغزوات * قد سبق أن غزوة ذات الرقاع، ولو ذكرت في ظواهر سنة أربع، إلا أنه كما تقدم صحّح بعضهم أنها كانت في سنة خمس. * وفي هذه السنة كانت غزوة دومة الجندل «1» : (بضم الدال المهملة وبعدها واو ساكنة فميم مفتوحة فهاء) مضاف إلى الجندل (بفتح الجيم وسكون النون وفتح الدال المهملة، اخره لام) بلد بين الحجاز والشأم، وهو أوّل غزوات الشأم، علي عشر مراحل» من المدينة، وعشرين من الكوفة، وثمان من دمشق، واثنتى عشرة من مصر، سميت بدومى بن إسماعيل، كان نزلها، وكانت بعد غزوة ذات الرقاع بشهرين وأربعة أيام، بناء علي ما صحح النووي من أن ذات الرقاع كانت في سنة خمسة، وصاحب دومة الجندل يسمى «أكيدر» ، ويقال: إن منزل أكيدر كان أولا في دومة الحيرة، وكان يزور أخواله من كلب، فخرج معهم للصيد فرفعت له مدينة متهدمة لم يبق إلا حيطانها مبنية بالجندل، فأعاد بناءها وغرس الزيتون وغيره فيها، وسمّوها دومة الجندل للفرق بينها وبين دومة الحيرة، وكان «أكيدر» يتردد بينهما. ويزعم بعضهم أن تحكيم الحكمين بين على ومعاوية كان بدومة الجندل. وسببها أنه صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن بها جمعا كثيرا يظلمون من مرّ بهم، وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة، فندب الناس واستخلف علي المدينة سبّاع بن عرفطة- بضم العين المهملة- الغفاري، وخرج إليها لخمس ليال بقين من ربيع الأوّل وفي ألف، يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل من بني عذرة يقال له «مذكور»   (1) في مراصد الإطلاع ما نصه: «دومة الجندل» بالضم والفتح، وأنكر ابن دريد الفتح، وعدّه من أغلاط المحدثين، وجاء في حديث الواقدي «دوما الجندل» قيل: هي من أعمال المدينة، حصن علي سبعة مراحل من دمشق، بينها وبين المدينة. قيل: هي غائط من الأرض «خمسة فراسخ» ومن قبل مغربه عين تثج فتسقي ما به من النخل والزرع، وحصنها مارد (أملس) ، وسميت «دومة الجندل» لأنها مبنية به، وهي قرب جبل طئ. (2) المرحلة: المسافة يقطعها السائر في نحو يوم، أو ما بين المنزلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 رضى الله عنه، فلما دنا منهم جاء إليهم الخبر فتفرقوا، فهجم علي مشاتهم ورعاتهم، فأصاب من أصاب، وهرب من هرب، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بساحاتهم فلم يلق بها أحدا، وبعث السرايا فرجعت ولم تلق منهم أحدا، ورجعت كل سرية بإبل، وأخذ محمد بن مسلمة رجلا منهم وجاء به إلي النبى صلّى الله عليه وسلّم، فسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم، فقال: هربوا حيث سمعوا أنك أخذت نعمهم. فعرض صلّى الله عليه وسلّم عليه الإسلام فأسلم. ورجع صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ولم يلق حربا. * وفي رجوعه وادع- أى صالح- عيينة بن حصن، واسمه حذيفة الفزاري: أن يرعى بمحل بينه وبين المدينة ستة وثلاثون ميلا؛ لأن أرضه كانت أجدبت، ولما سمن حافره وخفّه وانتقل إلى أرضه، عدا علي لقاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغابة، وقيل له «عيينة» لأنه أصابته لقوة «1» فجحظت عيناه، فسمى عيينة، وعيينة هذا أسلم بعد الفتح وشهد حنينا والطائف، وكان من المؤلّفة «2» ، ودخل علي النبى صلّى الله عليه وسلّم بغير إذن وأساء الأدب فصبر النبى صلّى الله عليه وسلّم علي جفوته، وقال فيه صلّى الله عليه وسلّم: «إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه» «3» ، وقيل إن ذلك إنما قيل في مخرمة بن نوفل، ولا مانع من تعدد ذلك. وقد ارتد عيينة بعد ذلك في زمن الصدّيق رضى الله عنه، فإنه لحق بطليحة بن خويلد حين تنبأ وامن به، فلما هرب طليحة أسره خالد بن الوليد رضى الله عنه، وأرسل به إلى الصدّيق في وثاق، فلما دخل المدينة صار أولاد المدينة ينخسونه بالحديد، ويضربونه، ويقولون: أي عدوّ الله كفرت بالله بعد إيمانك، فيقول: والله ما كنت امنت. فمنّ عليه الصديق، فأسلم، ولم يزل مظهرا للإسلام. * وفي غيبته صلّى الله عليه وسلّم في هذه الغزوة ماتت أم سعد بن عبادة (عمرة بنت مسعود) من المبايعات، وكان ابنها رضى الله عنه معه صلّى الله عليه وسلّم. ولما قدم صلّى الله عليه وسلّم المدينة صلّى   (1) اللّقوة: داء يعرض للوجه يعوجّ منه الشّدق. (2) هم جماعة من الصحابة كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يعطيهم من الأموال ليحببهم في الإسلام. (3) رواه أبو داود رضى الله عنه، والترمذى عن عائشة بلفظ: «إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 علي قبرها، وذلك بعد شهر، وقال له سعد: يا رسول الله أتصدّق عنها؟ قال: نعم، قال: أي الصدقة أفضل؟ قال: الماء. فحفر بئرا، وقال: هذه لأم سعد رضى الله عنها «1» . * وفي هذه السنة غزوة بنى لحيان بن هذيل بن مدركه: (بكسر اللام وفتحها) قبيلة من هذيل، لما وقعت وقعة عاصم بن ثابت وخبيب بن عدى وغيرهما من الصحابة الذين قتلتهم هذيل، وجد «2» النبى وجدا شديدا على أصحابه المقتولين بالرجيع، وأراد أن ينتقم منهم، فأمر أصحابه بالتهيؤ، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جمادى الأولى من السنة الخامسة لستة أشهر من فتح بني قريظة، فقصد بنى لحيان يطالب بثأر عاصم بن ثابت وخبيب بن غدى (أهل الرجيع «3» ) ، وذلك إثر رجوعه من «دومة الجندل» ، فسلك علي طريق الشأم أولا ليصيب من القوم غرّة، وعسكر في مائتى رجل، ومعهم عشرون فرسا، ثم أخذ ذات اليسار إلي صخيرات «4» اليمام ثم رجع إلي طريق مكة وأجدّ السير حتي نزل غران «5» (بضم المعجمة وفتح الراء وهي منازل بنى لحيان، وهو واد بين امج «6» وعسفان، وبينه وبين عسفان خمسة أميال) حيث كان مصاب أصحاب الرجيع، واستغفر لهم، وأقام هناك يوما أو يومين يبعث السرايا في كل ناحية، فوجد بنى لحيان قد حذروا وتمنّعوا في رؤس الجبال،   (1) وروى سعد بن عبادة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أفضل الصدقة سقى الماء» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، والحاكم. وفي هذا رد علي الذين يتعللون بإنكار نفع الصدقة بعد الوفاة، وليتقوا الله، وليحافظوا ألسنتهم. (2) وجد: أي حزن. (3) رجيع (بفتح أوله، وبالعين المهملة) علي فعيل، هو الموضع الذي غدرت عضل والقارة بالسبعة نفر الذين بعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، منهم عاصم بن ثابت «الذى حمته الدّبر» وهو ماء لهذيل قرب الهدّة، (بين مكة والطائف) وقد خفّف بعضهم داله. والرجيع: والله قرب خيبر. كذا في المراصد. (4) في هامش المراصد ما نصه: في الزبيدي: وضبطه ابن الأثير بالحاء المهملة «صحيرات» واحده «صحرة» وهي أرض لينة تكون في وسط الحرة. (5) غران: منازل بنى لحيان، بين أمج وعسفان. (6) امج: ضبطها في المراصد بهمزة القطع، لا بالمد: أمج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وفاتته الغرّة فيهم، فخرج في مائتى راكب إلى المدينة، ولم يلق كيدا، وكانت غيبته عن المدينة أربع عشرة ليلة. قال جابر رضى الله عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين وجه إلى المدينة يقول: «ايبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون، أعوذ بالله من وعثاء السفر (أي مشقته) ، وكابة المنقلب (أي حزن المنقلب) ، وسوء المنظر في الأهل والمال» . ومنها خرج لغزوة الغابة المعروفة ب «غزوة ذي قرد» «1» . واستعمل في غزوة بنى لحيان علي المدينة ابن أم مكتوم. وبعض أهل السير جعل غزوة «بنى لحيان» في شهر ربيع الأوّل سنة ست، والصحيح أنها كانت في جمادى الأولى من السنة الخامسة، علي رأس ستة أشهر من «فتح بنى قريظة» . * وفي هذه السنة لما رجع صلّى الله عليه وسلّم من بنى لحيان، وقف علي الأبواء وزار قبر أمه «2» . * وفيها فكّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلمان الفارسى رضى الله عنه عن الرق، وكان إسلامه في السنة الأولى من الهجرة. * وفيها انخسف القمر في جمادى الآخرة، فصلّى بهم النبى صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخسوف حتّى انجلي القمر.   (1) ستأتى هذه الغزوة بتفصيلها في بداية السنة السادسة. (2) زار قبر أمه صلّى الله عليه وسلّم في «ألف مقنّع» يعني ألف فارس مقنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الفصل السادس في ظواهر السنة السادسة وما فيها من الغزوات * وفي هذه السنة كانت غزوة «الغابة» وتعرف بذى قرد: والغابة: الشجر الملتف، وذى قرد بفتح القاف والراء، وبالدال المهملة، وقيل: بضم القاف وفتح الثاني: موضع علي ميلين من المدينة علي طريق خيبر. كانت هذه الغزوة في السنة السادسة من الهجرة، بعد غزوة بنى لحيان. وقال البخارى: كانت قبل خيبر بثلاثة أيام، وفي مسلم نحوه، ولكن إجماع أهل السير علي خلافهما «1» . وهى الغزوة التى أغار فيها عيينة بن حصن في خيل من غطفان وفزارة علي لقاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالغابة قبل خيبر، وكانت اللقاح عشرين لقحة، واللقحة: ذات اللبن القريبة من الولادة، وكان أوّل من علم بهم سلمة بن الأكوع الأسلمى رضى الله تعالى عنه؛ فإنه غدا يريد الغابة متوشحا قوسه، ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس لطلحة يقوده، فلقى غلاما لعبد الرحمن بن عوف، فأخبره أن عيينة بن حصن قد أغار علي لقاح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أربعين فارسا من غطفان، فخرج سلمة يقتفى أثر القوم كالسّبع، وكان يسبق الفرس جريا، حتى لحق بهم، فجعل يردهم بالنبل، ويقول إذا رمي: خذها وأنا ابن الأكوع ... اليوم يوم الرّضّع (أى يوم هلاك اللئام) فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا، وكانت إذا دخلت الخيل في بعض مضايق الجبل يعلو سلمة الجبل ويرميهم بالحجارة، حتى خففوا رحلهم بإلقاء كثير من الرماح والبرد «2» .   (1) الشيخان أصدق من أهل السير؛ لأنهما أخذا الرواية بالسند الصحيح. (2) جمع بردة: كساء أسود مربع فيه صغر، تلبسه الأعراب، والجمع برد. بفتح الراء (كذا في المختار) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 ولما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صياح ابن الأكوع صرخ بالمدينة: «الفزع الفزع! يا خيل الله اركبي» . فنادى صلّى الله عليه وسلّم بذلك، كما نادي في غزوة بنى قريظة. وأوّل من انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الفرسان المقداد بن الأسود رضى الله عنه، وعقد صلّى الله عليه وسلّم لهذا الأمير لواء في رمحه، ثم قال له: اخرج في طلب القوم، ثم عباد بن بشر، وسعد بن زيد رضى الله عنهما، ثم تلاحقت به الفرسان، وأمّر عليهم سعد بن زيد، وكان شعارهم (أي علامتهم التي يعرفون بها في ظلمة الليل، أو عند الاختلاط) : «يا منصور أمت» تفاؤلا بأنّ يحصل لهم النصر بعد موت عدوهم، واستخلف علي المدينة ابن أم مكتوم. وأقبل صلّى الله عليه وسلّم في المسلمين حتّى نزل بالجبل من ذى قرد، بناحية خيبر، وكان ابن الأكوع قد استنقذ من غطفان أكثر اللقاح، فنحر بلال رضى الله عنه ناقته حينئذ، وقسم صلّى الله عليه وسلّم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونه، وكانوا خمسمائة، وبعث سعد بن عبادة رضى الله تعالى عنه بأحمال تمر، وبعشر من الجزر، فوافت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذى قرد، فقال: «اللهم ارحم سعدا، وال سعد، نعم المرء سعد بن عبادة» . فقالت الأنصار: هو سيدنا وابن سيدنا، من بيت يطعمون في المحل «1» ويحملون الكلّ ويحملون «2» عن العشيرة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدين» «3» . ورجع صلّى الله عليه وسلّم وهو علي ناقته العضباء، وهي «القصوي» ، وهى «الجدعاء» ، ولم يكن بها عضب، ولا جدع، مردفا سلمة ابن الأكوع رضى الله عنه، وأعطى صلّى الله عليه وسلّم سلمة بن الأكوع سهمي الراجل والفارس جميعا مع كونه راكبا، وهذا استدل به من يقول: إن للإمام أن يفاضل فى الغنيمة، وهو مذهب الإمام أبى حنيفة، وإحدى الروايتين عن أحمد.   (1) أى يطعمون في الجدب. (2) فى الأصل «ويحمون» والتصحيح من السيرة الحلبية والمعنى: يتحملون الحمالات عن العشيرة لكرمهم. (3) ورواه البخارى عن أبى هريرة بلفظ «خياركم» بدل «خيار الناس» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وعند الإمام مالك والإمام الشافعى رضى الله عنهما: لا يجوز، ولعله لعدم صحة ذلك عندهما «1» . وروي عن سلمة قال: قلت يا رسول الله ابعث معى فوارس لندرك القوم. فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بعد أن ضحك: «إذا ملكت فأسجح» (بهمزة قطع، ثم سين مهملة، ثم جيم مكسورة، ثم حاء مهملة- أى فارفق وأحسن- من السجاحة وهى السهولة) . * وفي هذه السنة كانت غزوة بنى المصطلق ويقال لها المريسيع: (بميم مضمومة، فراء مهملة مفتوحة، فمثناة تحتية ساكنة، فسين مهملة مكسورة، فمثناة تحتية ساكنة، واخره عين مهملة) اسم ماء من مياههم. والمصطلق: بطن من خزاعة، وهم بنو جذيمة، وجذيمة هو المصطلق. وسببها أنه صلّى الله عليه وسلّم بلغه أن الحارث بن ضرار سيد بنى المصطلق وقائدهم رضى الله عنه- فإنه أسلم- قد جمع لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قدر عليه من قومه، ومن العرب، فدعاهم إلى حرب المصطفي، فأجابوه وتهيأوا للسير معه، فبعث المصطفى بريدة بن الحصيب- بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- يعلم علم ذلك، فلقى الحارث بن أبى ضرار وكلّمه، ورجع إلي المصطفى فأخبره بذلك، فأسرع الخروج إليهم حتي لقيهم علي ماء من مياههم يقال له: «المريسيع» «2» ، واستخلف علي المدينة زيد بن حارثة، وكان معه من أفراسه: لزاز، والظرب، ولما وصل إليهم عرض عليهم الإسلام فأبوا وحاربوا، فاستأصلهم قتلا وأسرا ونهبا «3» واستاق إبلهم وشياههم، وكانت الإبل ألفين، والشياه خمسة الاف، واستعمل عليهم مولاه شقران- بضم الشين المعجمة، وكان حبشيا، واسمه صالح، وكان السبى مائتى أهل بيت.   (1) ولم لا تكون خصوصية لسيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لسلمة رضى الله عنه. (2) المريسيع بالضم، ثم الفتح، وياء ساكنة، وسين مهملة مكسورة، وياء اخر الحروف، وعين مهملة، ورواه بعضهم بالغين المعجمة (مريسيغ) : ماء بناحية «قديد» إلى الساحل، به غزوة النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى بني المصطلق- من خزاعة- فقاتلهم واصطفى منهم «جويريه» فتزوجها صلّى الله عليه وسلّم ا. هـ. مراصد. (3) النهب هنا: الغنيمة، ولا يردّ الشرّ إلا مثله، وذلك لأنهم هم الذين بدأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 * وفي هذه الغزوة كانت قصة حديث الإفك في عائشة رضى الله عنها، وهي مشهورة في كتب السير والتفاسير، ويروى عن الزهرى عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أقبل من سفره حتّى إذا كان قريبا من المدينة، وكان معه عائشة رضى الله تعالى عنها في سفره ذلك، فقال فيها أهل الإفك ما قالوا، وقد برّأ الله عائشة أم المؤمنين في كتابه الكريم في عدة ايات أولها: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ إلي قوله: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور: من 11: 26] . قال أبو الفرج بن الجوزي: كان النبى صلّى الله عليه وسلّم قد تزوج أوّل نسائه خديجة، ثم عائشة، ثم حفصة، ثم أم سلمة، ثم أم حبيبة، ثم زينب بنت جحش، ثم جويرية، ثم صفية، ثم ميمونة، فلما كان في واجب القسمة يحتاج إلى مراعاة الوقت، وخاطره الكريم صلّى الله عليه وسلّم لا يحتمل، جاءه التخفيف بقوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ [الأحزاب: 51] ولم يكن عنده صلّى الله عليه وسلّم اثر من عائشة رضى الله عنها، ولا أعلى منزلة «1» منها ا. هـ. وجعله عائشة بعد خديجة بدون فاصل هو أحد الأقوال؛ فإن بعضهم يقول: إنه تزوج بسودة بن زمعة رضى الله عنها، ودخل عليها في مكة، وعقد عقده بعائشة رضى الله عنها بمكة، ولم يدخل بها إلا في المدينة «2» فلعل القائل بأنها بعد خديجة في العقد لا في الدخول، وحسبك من فضل عائشة رضى الله عنها أمور من أعظمها أنه قد أنزل الله القران الحكيم ببراءتها وتشريفها ا. هـ. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استشار الصحابة في ذلك فقال علي: «غيرها من النساء كثير» «3» وقال عمر: من زوّجكها يا رسول الله؟ قال: الله، قال: أفتظن أن ربك   (1) لأنها الصدّيقة بنت الصدّيق رضى الله عنهما. (2) إنه صلّى الله عليه وسلّم لم يدخل في مكة على أحد نسائه بعد خديجة رضى الله عنها، وقول بعضهم هذا لا دليل عليه. (3) أما سيدنا علي رضى الله عنه وكرم الله وجهه فإنما أراد أن يخفف عن النبى صلّى الله عليه وسلّم بعض ما يجد. لا طعنا في أم المؤمنين رضى الله عنها، وحاشاه أن ينوى ذلك. وكيف يطعن، وهي من خاصة قريش: حسبا ونسبا- يعني من أهله وعشيرته- وأبوها أحب الناس إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أما ما قيل غير ذلك أو ما يدور حوله، فهو محض افتراء وكذب، والله المستعان علي ما يصفون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 دلس «1» عليك فيها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! فنزلت الاية كذلك. وأما أهل الإفك وهم: مسطح بن عباد بن عبد المطلب وحسان بن ثابت وعبد الله بن أبيّ ابن سلول: فجلدهم صلّى الله عليه وسلّم ثمانين إلا عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين فلم يجلده. وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر الحافظ أن قوما أنكروا أن يكون حسّان خاض فى الإفك أو جلد فيه، روى عن عائشة أنها برّأته من ذلك. وكان عبد الله بن أبيّ بن سلول هو المقصود بمن تولى كبره فله عذاب عظيم في الآخرة، وهو أشد أهل الإفك إيذاء للنبى صلّى الله عليه وسلّم، بدليل أن النبى صلّى الله عليه وسلّم لما صعد المنبر قال: «يا معشر المسلمين من يعذرنى من رجل قد بلغنى أذاه في أهلى (يعنى عبد الله بن أبى بن سلول) فو الله ما علمت علي أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا (أي صفوان بن المعطّل صاحب الناقة) ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلى إلا معي» . فقام أسيد بن حضير (وهو ابن عم سعد بن معاذ) فقال: أعذرك يا رسول الله منه؛ إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج فما أمرتنا فعلناه. فقام سعد بن عبادة (وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا، ولكن أخذته الحمية) فقال لأسيد بن حضير: كذبت، والله لا تقدر علي قتله. فقام أسيد بن حضير، وقال: كذبت، لعمر الله لنقتلنه، وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين. فثار الحيّان؛ الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي المنبر، فلم يزل يخفضهم حتي سكتوا، فالمراجعة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقعت بين أسيد بن حضير وسعد بن عبادة سيد الخزرج، كما ذكره ابن إسحاق عن الزهرى عن عبيد الله بن عبد الله وغيره. وأما ما قيل من أن المراجعة في ذلك كانت بين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فهو وهم نبّه عليه ابن خالدون في السيرة، واستدل علي ذلك بأن سعد بن معاذ مات بعد فتح بني قريظة بلا شك في أثناء السنة الرابعة، وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة بعد عشرين شهرا من موت سعد بن معاذ، والملاحاة بين الرجلين (أى المنازعة والمخاصمة) كانت بعد غزوة بنى المصطلق بأزيد من خمسين ليلة اهـ.   (1) يقال: دلّس البائع إذا كتم عيب السلعة عن المشترى (أى غشه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 * وفي هذه الغزوة قتل رجل من الأنصار رجلا من المسلمين خطأ يظنه كافرا، والقتيل هشام من بني ليث بن بكر، وكان أخوه مقيس مشركا، فقدم المدينة، وأظهر الإسلام طالبا دية أخيه، فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها، وأقام قليلا، ثم عدا علي قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدّا، ومن قوله: حللت به وتري وأدركت ثورتي ... وكنت إلي الأوثان أوّل راجع وهو ممن أهدر النبى صلّى الله عليه وسلّم دمه يوم فتح مكة. * وفي هذه الغزوة أيضا ازدحم جهجاه الغفارى- أجير عمر رضى الله عنه- وسنان الجهنى- حليف الأنصار- علي الماء وتقاتلا، فصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين، وصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، فغضب عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم، فقال ابن أبي بن سلول: «أو قد فعلوها، قد كاثرونا في بلادنا، أما والله، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ» (يعنى بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم) ، ثم قال لمن حضر من قومه: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم علي أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا عنكم، فأخبر زيد بن أرقم ذو الأذن الواعية- وهو غلام حديث السن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله مر به عبد الله بن بشير فليقتله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: كيف يا عمر يتحدث الناس إذن أن محمدا يقتل أصحابه «1» ، ثم أمر بالرحيل في وقت لم يكن ليرحل فيه، ليقطع ما الناس فيه، فلقيه أسيد بن حضير وقال: يا رسول الله رحت في ساعة منكرة لم تكن لتروح فيها، (فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان لا يرحل إلا إن برد الوقت) فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بلغك ما قال عبد الله بن أبيّ بن سلول!؟ فقال: وماذا قال؟ فأخبره بمقاله، وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلي عبد الله بن أبيّ فأتاه، فقال: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني؟ فحلف عبد الله أنه لم يقل ذلك.   (1) ليس هذا من الصحابة رضى الله عنهم، وإنما هو رأس النفاق والمنافقين لعنه الله، وإنما خشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفترى الناس هذه الفرية فيما بعد، ويستدلوا عليها بهذا الصنيع، فلذلك أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدم قتله. والحديث رواه البخارى عن جابر بلفظ: «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لزيد بن أرقم: لعلك غضبت عليه؟ قال: لا، قال: فلعله أخطأ سمعك؟ قال: لا، قال: فلعله شبّه عليك؟ قال: لا، فنزلت اية لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ [المنافقون: 8] لتصديق زيد بن أرقم، فبادر أبو بكر وعمر إلى زيد رضى الله تعالى عنهم ليبشّراه، فسبق أبو بكر فأقسم عمر ألايبادره بعدها إلي شىء، وقال أسيد: أنت والله تخرجه إن شئت، أنت العزيز وهو الذليل، وبلغ ابن عبد الله بن أبيّ بن سلول- وكان حسن الإسلام، واسمه أيضا عبد الله، وكان تبرّأ من أبيه عند نزول سورة المنافقين- مقالة أبيه، فاعترض أباه عند المدينة، وقال: والله لا تدخل حتّى يأذن لك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأذن له، وحينئذ دخل، وقال: يا رسول الله، بلغنى أنك تريد قتل أبى عبد الله لما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرنى به، فأنا أحمل إليك رأسه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالديه مني، وإنى أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعنى نفسى أن أنظر إلي قاتل أبى عبد الله بن أبيّ يمشى في الناس فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر وأدخل النار، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» . * وكانت في جملة السبى برّة بنت الحارث بن ضرار: سيد بني المصطلق، وقعت في سهم ثابت بن قيس، وابن عم له، فجعل ثابت لابن عمه نخلات له بالمدينة في حصّته من برة، وكاتبها علي تسع أواق من ذهب، فدخلت عليه صلّى الله عليه وسلّم وأخبرته بإسلامها، وقالت له: إنى برة بنت الحارث سيد قومه، أصابنا من الأمر ما قد علمت، ووقعت في سهم ثابت بن قيس، وابن عم له، وخلّصنى ثابت من ابن عمه بنخلات في المدينة، وكاتبنى على مال لا طاقة لى به، وإنى رجوتك فأعنّى في مكاتبتي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أو خير لك من ذلك؟ قالت: ما هو؟ قال: أؤدى عنك كتابتك، وأتزوجك؟ قالت: نعم يا رسول الله. فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ثابت بن قيس رضى الله عنه فطلبها منه، فقال ثابت: هي لك يا رسول الله، وأدّى ما كان كاتبها عليه وأعتقها، وتزوجها وهي ابنة عشرين سنة، وسماها «جويرية» ، وكان اسمها «برة» كما سبق، وكذلك ميمونة، وزينب بنت جحش، كان اسم منهما «برة» فغيّره صلّى الله عليه وسلّم، وكذا كان اسم بنت أم سلمة «برة» فسماها «زينب» وكانت من أفقه نساء زمانها، كذا ذكره أبو عمر. وسبب ذلك لما في «برة» من تزكية النفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ويذكر أن عليّا كرّم الله وجهه هو الذى أسرها، ولا مانع من أن يكون عليّ رضى الله عنه أسرها، ثم وقعت في سهم ثابت بن قيس وابن عمه رضى الله عنهما عند القسمة؛ لأنه لم يثبت في هذه الغزوة أنه صلّى الله عليه وسلّم جعل الأسرى لمن أسرهم، كما وقع في غزوة بدر. وعن عائشة رضى الله عنها قالت: كانت «جويرية» امرأة على وجهها ملاحة، فجاءت تسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتابتها، فلما قامت على باب الخباء كرهت دخولها علي النبى صلّى الله عليه وسلّم (وإنما كرهت ذلك لما جبلت عليه النساء من الغيرة) وعرفت أن رسول الله سيرى منها مثل الذى رأيت، فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث «1» ، وكان من أمرى ما لا يخفي عليك، ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، وإني كاتبته علي نفسي، فجئت أسألك في كتابتي، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فهل لك فيما هو خير من ذلك؟ فقالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أؤدى عنك كتابتك وأتزوجك؟ قالت: قد فعلت ... قالت: فتسامع الناس (يعنى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تزوّج جويرية) فأرسلوا ما في أيديهم من السبي، فأعتقوهم، وقالوا: أصهار رسول الله لا ينبغي أن تسترق، قالت: فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة علي قومها منها، وأعتق بسببها مائة أهل بيت من بيت بني المصطلق «2» - خرّجه بهذا السياق أبو داود. وعن جويرية رضى الله عنها قالت: لما أعتقنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتزوجني، والله ما كلمته في قومى حتّى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم، وما شعرت إلا بجارية من بنات عمى تخبرني الخبر، فحمدت الله سبحانه وتعالى. وقد حدّث يزيد بن رومان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى بنى المصطلق بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبى معيط لأخذ صدقاتهم، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم «3» هابهم، فرجع إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره أن القوم قد همّوا بقتله   (1) ولذلك نقول: إن هذه الرواية غير صحيحة، لأن الذى سماها «جويرية» هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد تقدم أن اسمها قبل «برة» . (2) ولذلك نقول: إن أسرها كان خيرا وبركة علي قومها: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأعتق بسببها مائة أهل بيت، وأسلم جميع قومها. والحمد (رب العالمين.. (3) أى لما سمع الوليد بن عقبة بركوبهم إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ومنعوه من أخذ صدقتهم، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم، حتى همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن يغفروهم، فبينماهم علي ذلك إذ قدم وفدهم علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، سمعنا برسولك حين بعثه إلينا، فخرجنا إليه لنكرمه ونؤدّي إليه ما قبلنا من الصدقة، فانشمر راجعا، فبلغنا أنه زعم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّا خرجنا إليه لنقتله، والله ما جئنا لذلك، فأنزل الله فيه وفيهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات: 6] إلي اخر الاية. وكان شعار المسلمين: يا منصور أمت. * وفي هذه السنة كسفت الشمس. وأما ما قيل من أنّ اية التيمم نزلت في غزاة بني المصطلق، فقد قال النووى في الروضة: ان اية التيمم نزلت في سنة أربع. * وفي هذه السنة كانت غزوة الحديبية: وتخفف وتشدّد، وهى بئر قريب من مكة، بينها وبين المدينة تسع مراحل، سمي المكان باسمها، وقيل شجرة، وقيل قرية بقرب مكة علي سبعة أميال من مكة. وسبب هذه الغزوة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة بيده وطافوا واعتمروا وحلق بعضهم، وقصّر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك، فأخبر أصحابه أنه معتمر، فخرج من المدينة في ذى القعدة سنة ست لا يريد حربا بالمهاجرين والأنصار في ألف وأربعمائة، ليأمن أهل مكة ومن حولهم من حربه، وساق الهدي وأحرم بالعمرة من ذى الحليفة ولبّي، فاقتدى به جمهور أصحابه، واستعمل صلّى الله عليه وسلّم علي المدينة الشريفة ابن أم مكتوم، وقيل أبا رهم كلثوم بن الحصين، وقيل استخلف أبا رهم مع ابن أم مكتوم جميعا، فكان ابن أم مكتوم علي الصلاة، وكان أبو رهم حافظا للمدينة. وسار حتي وصل إلى ثنية المرار «1» مهبط الحديبية من أسفل مكة، وأمر   (1) ثنية المرار (بضم الميم) كذا في المراصد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 بالنزول، فقالوا: ننزل علي غير ماء! ووقع من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم نبع الماء في ذلك المكان حتّى صدر الناس عنه، وتأهبت قريش للقتال، وبعثوا رسولهم «عروة بن مسعود الثقفي» سيد أهل الطائف رضى الله عنه- فإنه أسلم بعد ذلك- إلي النبى صلّى الله عليه وسلّم، وقال: إن قريشا لبسوا جلود النمور (أى أظهروا العداوة والحقد) وقد نزلوا بذي طوي «1» وعاهدوا الله ألاتدخل عليهم مكة عنوة أبدا» . ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يكلمه، وهذه عادة العرب: أن الرجل يتناول لحية من يكلمه خصوصا عند الملاطفة، وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير، لكن كأنه صلّى الله عليه وسلّم إنما لم يمنعه من ذلك استمالة وتأليفا له، وكان المغيرة بن شعبة قائما علي رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه السيف، وعليه المغفر، وكلما أهوى عروة بيده إلي لحية النبى صلّى الله عليه وسلّم ضرب يده بنصل السيف، ويقول «كفّ يدك عن مس لحية رسول الله قبل ألاتصل إليك» فإنه لا ينبغى لمشرك ذلك، وإنما فعل ذلك المغيرة رضى الله عنه إجلالا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم ينظر لما هو عادة العرب، فلما أكثر عليه غضب عروة، وقال: «ويحك ما أفظّك وأغلظك» ، فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. ثم قام عروة من عنده وهو يرى ما يصنع أصحابه: لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا سقط من شعره شيء إلا أخذوه، وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدّون النظر إليه تعظيما له، فرجع عروة إلي قريش، وقال لهم: إنى جئت كسرى وقيصر في ملكهما، فو الله ما رأيت ملكا في قومه مثل محمد في أصحابه. وورد أيضا في حديث الحديبية أنه لما نزل صلّى الله عليه وسلّم علي الركية «2» جاءه بديل بن ورقاء الخزاعى في نفر من قومه من أهل تهامة، فقال: «تركت كعب بن لؤى وعامر بن لؤى نزلوا عداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل «3» وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت» .   (1) ذو طوي: موضع عند مكة (وقيل بالفتح، وقيل بالكسر، ومنهم من يضمها) واد بمكة، قيل: هو الأبطح «كذا في المراصد» . (2) الركية: البئر، جمعها ركّي، وركايا. (3) العوذ: الحديثات النتاج من الظباء وكل أنثي. والمطافيل: جمع مطفل، وهى ذات الطفل من الإنس والوحش وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 [والعوذ: جمع عائذ الناقة ذات اللبن، والمطافيل: ذوات الأطفال الصغار جمع مطفل أى أنهم حضروا مع الإبل، وهى كانت جلّ أموال العرب ليتزوّدوا بذلك، ولا يرجعون خوف الجوع، أو العوذ المطافيل: النساء معهن أطفالهن، أى أنهم خرجوا بنسائهم معهنّ أولادهن لإرادة طول المقام، ليكون أدعى لعدم الفرار] . ولما قال بديل بن ورقاء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، قال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤا ماددتهم مدّة ويخلّوا بيني وبين الناس، وإن شاؤا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد حموا، وإن هم أبوا فو الذى نفسى بيده لأقاتلنهم على أمرى هذا حتي تنفرد سالفتى (وهى أعلي العنق) أو لينفذنّ الله أمره. فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليبعثه إلى أبى سفيان وأشراف قريش يعلمهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا ومعظّما لهذا البيت، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا علي نفسي، وما بمكة من بني عدى بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عدوانى إياها وغلظتى عليها، ولكن أدلّك علي رجل أعزّ بها مني: عثمان بن عفان؛ فإن بنى عمه يمنعونه. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن عفان رضى الله عنه، فبعثه إلي أبى سفيان وأشراف قريش ليعلمهم بذلك، فخرج عثمان بن عفان رضى الله عنه إلي مكة، ودخل مكة من الصحابة عشرة أيضا بإذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليزوروا أهاليهم، فلما وصل إليهم عثمان عرّفهم ذلك، وهم يردّون عليه: «إن محمدا لا يدخل علينا أبدا» فلما فرغ عثمان من تبليغ رسالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالوا له: إن أحببت أن تطوف بالبيت فطف، فقال: ما كنت لأفعله حتي يطوف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فغضبت قريش، وأمسكوه وحبسوه ثلاثة أيام. ولما احتبس عثمان، بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عثمان رضى الله عنه قد قتل، وقتلوا معه العشرة رجال الذين دخلوا مكة أيضا، فحزن النبى صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون من سماع هذا الخبر حزنا شديدا، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم حين بلغه ذلك: لا نبرح حتّى نناجز القوم، (أى نقاتلهم) ودعا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلي بيعة الرضوان، فبايعهم علي أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا عنهم، وأنه إما الفتح وإما الشهادة. ولم يتخلف أحد، إلا الجد بن قيس، اختفى بإبط ناقته يستتر بها من الناس، وكان سيد بنى مسلمة (بكسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 اللام) فى الجاهلية، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم لبنى مسلمة: من سيدكم؟ قالوا: «الجد بن قيس، على بخل فيه» قال: «وأي داء أدوأ من البخل» ؟ ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: سيدكم عمرو بن الجموح. وكان صلّى الله عليه وسلّم جالسا تحت سمرة أو سدرة (وسمرة بفتح السين المهملة وضم الميم بعدها راء مفتوحة مهملة واخرها هاء: شجر الطلح) » وكان عدد المبايعين ألفا وثلاثمائة، وسميت هذه البيعة بيعة الرضوان؛ لأن الله تعالى ذكر في سورة الفتح الذين صدرت عنهم هذه البيعة، بقوله لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] . ثم أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر بأن ما ذكر من أمر عثمان باطل، فبايع عنه صلّى الله عليه وسلّم، ووضع يده اليمنى علي يده اليسري، وقال: «اللهم إنّ هذه عن عثمان؛ فإنه في حاجتك وحاجة رسولك» «2» وكانت يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم. وكان محمد بن مسلمة رضى الله عنه علي حرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعثت قريش أربعين (وقيل خمسين رجلا) عليهم مكرز بن حفص ليطوفوا بعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجاء أن يصيبوا منهم أحدا أو يجدوا منهم غرّة- أي غفلة- فأخذهم محمد بن مسلمة إلا مكرزا فإنه أفلت، وأتى بهم إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحبسوا، وبلغ قريشا حبس أصحابهم، فجاء جمع منهم حتي رموا المسلمين بالنبل والحجارة، فأسر المسلمون منهم اثني عشر رجلا، وعند ذلك بعثت قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمعا فيهم سهيل بن عمرو، فلما راه النبى صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: سهل أمركم، فقال سهيل: يا محمد إن الذى كان من حبس أصحابك عثمان والعشرة رجال، وما كان من قتال من قاتلك، فإنه لم يكن من رأى ذوي رأينا، بل كنا كارهين له حين بلغنا، وكان من سفهائنا، فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أولا وثانيا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنى غير مرسلهم حتي ترسلوا أصحابي. فقالوا: نفعل. فبعث سهيلا ومن معه إلى قريش بذلك، فبعثوا بمن كان عندهم، وهو عثمان رضى الله عنه والعشرة رجال رضى الله عنهم، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابهم. اهـ.   (1) هو شجر عظيم من شجر العضاه، وجمهور المفسرين على أن الطلح الوارد في القران هو: الموز. اهـ. مختار. (2) انظر الرياض النضرة في مناقب العشرة لمحب الدين الطبرى ص 29 و 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ولما علمت قريش بهذه البيعة خافوا، وأشار أهل الرأي بالصلح على أن يرجع ويعود من قابل فيقيم ثلاثا معه سلاح الراكب- السيوف في القرب «1» والقوس- فبعثوا سهيل بن عمرو ثانيا ومعه مكرز بن حفص وحويطب بن عبد العزّى إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصالحه، على أن يرجع في عامه هذا؛ لئلا تتحدث العرب بأنه دخل عنوة، وأنه يعود من قابل، فلما انتهى سهيل بن عمرو إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جثا علي ركبتيه بين يديه صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حوله، وتكلّم فأطال، ثم تراجعا «2» ، ومن جملة ذلك أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال له: تخلّوا بيننا وبين البيت فنطوف، فقال: له سهيل: «والله لا تتحدث بنا أننا أخذنا ضغطة (بالضم أي بالشدة والإكراه) ولكن ذلك من العام القابل» . ثم التأم الأمر بينهما علي الصلح علي ترك القتال، إلى اخر ما يأتي، ولم يبق إلا الكتاب بذلك، وعند ذلك وثب عمر حتي أتي أبا بكر فقال: أليس رسول الله؟ قال: بلى قال: ألسنا بالمسلمين وهم بالمشركين؟ قال: بلي، قال: فعلام نعطى الدنيّة (بفتح الدال وكسر النون وتشديد الياء: النقيصة والخصلة المذمومة) في ديننا؟ قال: يا عمر، الزم فأنا أشهد أنه رسول الله، قال: وأنا، ثم أتى رسول الله فقال له ذلك، فقال: أنا عبد الله ورسوله لن أخاف أمره، ولن يضيّعني. فأجاب النبى إلى ذلك، فقال سهيل: هات اكتب بيننا وبينكم كتاب صلح، فدعا النبى صلّى الله عليه وسلّم الكاتب، فقال له: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة، اكتب باسمك اللهم، فقال المسلمون: لا تكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: اكتب باسمك اللهم، فكتب، ثم قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله» ، فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «إنى لرسول الله، وإن كذّبتموني، وأنا محمد بن عبد الله، اكتب محمد بن عبد الله» . وفي رواية: كان الكاتب علي بن أبي طالب، وكان قد كتب محمد رسول الله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعليّ: امح رسول الله واكتب مكانه محمد بن عبد الله،   (1) القرب: جمع قراب وهو السيف في غمده. (2) هو ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي راجع بعضهم بعضا في الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 فقال علي: لا والله لا أمحوك أبدا، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: فأرنيه، فأراه إياه، فأخذ الكتاب بيده الكريمة ومحا «رسول الله» وكتب مكانه «محمد بن عبد الله» ، وكانت هذه معجزة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث كتب بيده الشريفة ولم يكن يكتب. وأقبل بوجهه صلّى الله عليه وسلّم علي عليّ بعد ما كتب في كتاب الصلح محمد بن عبد الله، فقال: «يا على سيكون لك يوم مثل هذه الواقعة» . ثم قال رسول الله بصلّى الله عليه وسلّم لعليّ: اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض، وعلي أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليه، وإن كان مسلما، وإن جاء قريش ممن مع محمد لم يردّوه عليه، وأنّ من أحب أن يدخل في عقد قريش وعهداهم دخل فيه، وأنك ترجع عنّا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل، خرجنا عنها فدخلتها أنت وأصحابك فأقمت فيها ثلاثا مع سلاح الراكب السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها» . وأشهدوا في ذلك الكتاب علي الصلح رجالا من المسلمين: أبا بكر، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبى طالب وهو كاتب الصحيفة- وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى وقاص، وأبا عبيدة بن الجراح، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، ورجالا من قريش: حويطب بن عبد العزّي، ومكرز بن حفص. ولما بلغ هذا الشرط أنّ من أتى محمدا من قريش ردّه إليهم وإن كان مسلما، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، تعجب المسلمون من هذا الشرط، فقالوا: سبحان الله، كيف نردّ من أتانا مسلما!! وقالوا: يا رسول الله، أتكتب هذا، قال: «نعم؟! إنه من ذهب إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا» . ونسخ الكتاب نسختين، فوضعت إحداهما عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخذ الاخرى سهيل بن عمرو، ولما فرغ من كتاب القضية وثب من كان هناك من خزاعة، فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد وعقده، وقال بنو بكر: نحن ندخل في عقد قريش وعهداهم. وقد كان للنبى صلّى الله عليه وسلّم علم أنّ هذا الصلح سبب لأمن الناس وظهور الإسلام، وأن الله يجعل فيه فرجا للمسلمين، وهو أعلم بما علّمه ربه، وإن كان أمر هذا الصلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 قد عظم علي المسلمين، حتي كادوا يهلكون، لمّا رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع من غير فتح، وقد كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خرجوا من المدينة لا يشكّون في فتح مكة للرؤيا التي راها النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الشروط الصعبة التي انضم إليها أمره صلّى الله عليه وسلّم لعليّ رضى الله تعالى عنه في كتب الصحيفة أن يمحو لفظ رسول الله، ولم يمحه، ومحاه النبى صلّى الله عليه وسلّم وكتب بدله «ابن عبد الله» بيده، فكان هذا من الخطب الجسيم الذى يوقع الريب في القلوب الضعيفة، حتى لمن لا يفهم الأسرار في الأزمان الحديثة، والحال أنها واردة وثابتة بالأحاديث الصحيحة، فما يقع في الوهم من أن هذه الكتابة قادحة في المعجزة باطل؛ لأن الكتابة إذا وقعت من غير معرفة بأوضاع الحروف ولا قوانين الخط وأشكالها بقيت الأمية علي ما كانت عليه، وكانت هذه الكتابة الخاصة من إحدى المعجزات وتمامها، كما كان من المعجزات في كتابة شروط الصلح إخباره صلّى الله عليه وسلّم عليّا أنه سيكون لك يوم مثل هذه الواقعة، وهو إشارة منه صلّى الله عليه وسلّم لما سيقع بين علي ومعاوية رضى الله عنهما؛ فإنهما في حرب صفّين وقعت بينهما المصالحة علي ترك القتال إلى رأس الحول، وصحّ ذلك وظهر يوم التحكيم لما قال حكم أهل الشأم حين كتب في الصلح: «هذا ما صالح عليه أمير المؤمنين علي بن أبى طالب» : «لو عرفنا أنك أمير المؤمنين ما خالفناك، كما سيأتى مبينا في خلافته. وأما ما ورد من أنه رضى الله تعالى عنه في عام الحديبية، وفي غزوة بني المصطلق قاتل الجن، وأن جبريل قال يوم غزوة أحد وهو صاعد إلي السماء: «لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي» فهذا من الموضوع- كما ذكره ابن تيمية «1» - يعني أنه موضوع لم يرد من طريق يعتدّ به، وإن كان المدح في عليّ لا يستكثر عليه وذلك للإجماع علي شجاعته وكرامته، والمراد بالفتي: الشجاع السيد، وفي الحديث: أن ملكا يقال له رضوان نادي يوم بدر من السماء: «لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار» وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنا الفتى ابن الفتي، أخو الفتي، ابن الفتى صلّى الله عليه وسلّم يعنى إبراهيم، وأخو الفتى يريد عليا كرّم الله وجهه» انتهى.   (1) ذو الفقار هو سيف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وابن تيمية ليس من رجال الحديث، حتي يحكم، وقد خرّجه له المحب الطبرى في «الرياض النضرة» ، وللحديث ترجمة طويلة في «المقاصد الحسنة» للسخاوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وقد علمت ما في هذا الكلام، وإن كان معناه لا يستكثر على عليّ رضى الله عنه. * وأتى أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيده من مكة في أثناء الكتاب، وكان قد أسلم، فقال سهيل بن عمرو: هذا أوّل ما أقاضيك عليه أن تردّه إليّ، فردّه صلّى الله عليه وسلّم إلى أبيه، وعظم ذلك علي المسلمين، وأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أبا جندل: أن الله سيجعل له فرجا ومخرجا، إننا قد عقدنا بيننا وبين القوم عقدا واصطلحنا، وأعطيناهم علي ذلك وأعطونا عهد الله، وإنّا لا نغدر بهم. ولما تمّ الصلح وكتابه أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينحروا ويحلقوا، فتوقفوا، فغضب حتي شكا إلي زوجته أمّ سلمة، فقالت: يا رسول الله، لا تلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت علي نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح، ولكن اخرج وانحر واحلق فإنهم تابعوك. فخرج ونحر وحلق رأسه حينئذ، وكان الحالق له صلّى الله عليه وسلّم خراش بن أمية الخزاعى رضى الله عنه، فلما راه الناس نحر وحلق فعلوا مثله. وقسم لحوم الهدايا في الفقراء الذي حضروا الحديبية، وبعث النبى صلّى الله عليه وسلّم عشرين بدنة مع ناجية «1» حتي نحروها بمروة «2» وقسّموا لحومها علي فقراء مكة، قال ابن عباس: حلق رجال يوم الحديبية وقصّر اخرون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اغفر للمحلّقين» وفي معالم التنزيل قال: «يرحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم اغفر للمحلّقين، قالوا: والمقصرين، وفي الثالثة أو الرابعة قال: والمقصرين» قالوا: لم ظاهرت (أى أظهرت) الترحم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: لأنهم لم يشكّوا (أي لم يرجوا أن يطوفوا بالبيت بخلاف المقصرين، أى لأن الظاهر من حالهم أنهم أخّروا بقية شعورهم رجاء أن يحلقوها بعد طوافهم بالبيت) . وكان صلح الحديبية فتحا قريبا، أمن الناس بعضهم بعضا، ورضا من الله   (1) هو ناجية بن جندب بن عمير بن يعمر بن إرم بن وائل بن سلامان بن أسلم الأسلمي، كان اسمه ذكوان، فسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ناجية» حين نجا من قريش، مات بالمدينة في خلافة معاوية. (2) نوع من الحجارة مسنون تصلح للذبح واسم للمكان المعروف بمكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 تعالى، قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الفتح: 18] كما سبق، وعن جابر أنهم كانوا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، فبايعوه صلّى الله عليه وسلّم وعمر اخذ بيده تحت الشجرة (وهى سمرة) غير الجدّ بن قيس اختفى تحت بطن بعيره. زادوا في رواية: وقيل عدد المبايعين خمس عشرة مائة فأكثر، وقيل غير ذلك. قال أهل السير: أقام النبى صلّى الله عليه وسلّم عشرين يوما بالحديبية، ثم رجع صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وما فتح من قبله فتح أعظم من هذا الفتح، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، التقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام أحدا إلا دخل فيه، فلقد دخل في مدة سنتين فى الإسلام مثل ما كان قبل ذلك، أو أكثر، ببركة مهادنته صلّى الله عليه وسلّم. ولما رجع صلّى الله عليه وسلّم إلي المدينة حتّى إذا كان بين مكة والمدينة (بكراع الغميم) نزل إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً* إلي اخرها، وسمّى فتحا لأنه كان مقدمة لفتوح كثيرة تتسع بها دائرة الإسلام، ولما نزلت قال لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: «أنزلت عليّ سورة هي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس» «1» . ثم إن أبا بصير «عتبة بن أسد بن حارثة» هرب ولحق بالنبى صلّى الله عليه وسلّم، وكان قد أسلم وحبسه قومه بمكة، وهو ثقفى، من حلفاء بنى زهرة، فبعث إليه الأزهر بن عبد عوف وعم عبد الرحمن بن عوف، والأخنس بن شريق سيد بني زهرة كتابا مع رجل من بني عامر بن لؤي، ومعه مولي لهم بطلب أبى بصير، فأسلمه النبى صلّى الله عليه وسلّم، فاحتملاه، فلما نزلوا بذى الحليفة أخذ أبو بصير السيف من أحد الرجلين، ثم ضرب به العامرى فقتله، وفرّ الاخر، وأتى أبو بصير إلي النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، قد وفت ذمتك حيث رددتنى إليهم، وأطلقنى الله منهم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ويلمه (أى ويل أمه) مسعر حرب، لو كان له رجال» ففطن أبو بصير من لحن هذا القول أنه سيرده، وخرج إلى سيف «2» البحر علي طريق   * الفتح: 1. (1) رواه الإمام أحمد بلفظ: «نزل عليّ البارحة سورة هى أحب إليّ من الدنيا وما فيها» ورواه البخارى والترمذى والنسائى من طرق عن مالك رحمه الله، وإسناده مدنى جيد، انظر بتوسع تفسير ابن كثير رحمه الله. (2) سيف البحر: ساحل البحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 قريش الذى كانوا يأخذونه إلي الشام، وبلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويلمه مسعر حرب لو كان معه رجال» ، فخرجوا إلى أبي بصير، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا منهم، وذكر موسى بن عقبة أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو الذي ردّ إلي قريش بالحديبية مكرها يوم الصلح والقضية هو الذي انفلت في سبعين راكبا، أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبي بصير، ونزلوا معه، وكرهوا أن يقدموا علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تلك المدة التي هى زمن الهدنة، خوف أن يردّهم إلي أهليهم حكم الشروط. واجتمع إلى أبى جندل أناس من غفار وأسلم وجهينة، وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل، وهم مسلمون، فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير، فقطعوا مادة قريش، لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمرّ بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها، وقال فى ذلك أبو جندل: أبلغ قريشا عن أبي جندل ... أنّا بذي المروة بالساحل في معشر تخفق أيمانهم ... بالبيض فيها والقنا الذابل يأبون أن تبقي لهم رفقة ... من بعد إسلامهم الواصل أو يجعل الله لهم مخرجا ... والحقّ لا يغلب بالباطل فيسلم المرء بإسلامه ... أو يقتل المرء ولا يأتل فأرسلت قريش أبا سفيان بن حرب إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسألونه ويتضرعون إليه ويناشدونه بالله والرّحم أن يرسل إلى أبي بصير «1» وأبي جندل «2» بن   (1) أبو بصير هو: «عتبة بن أسيد بن حارثة» ويقال هو: عبيد بن أسيد بن جارية، ويقال أيضا: عتبة بن أسيد بن جارية بن أسيد بن عبد الله بن سلمة بن غبرة بن عوف بن قيس (ثقيف) بن منبه بن بكر بن هوازن: حليف بني زهرة، هكذا ذكره خليفة عن أبى معشر. وقال ابن شهاب: هو رجل من قريش، وقال ابن هشام: إنه ثقفي. وله قصة لطيفة ذكرها صاحب الاستيعاب والحافظ ابن حجر، فارجع إليهما، وقد بني بجوار قبره مسجد في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم ينكر هذا أحد من السلف والخلف رضى الله عن الجميع. (2) أبو جندل بن سهيل بن عمرو القرشى العامري: كان من السابقين، أسلم أبوه أيضا، وجاهد هو وأبوه في فتوح الشام، وأتي مع المشركين في غزوة بدر فانحاز إلى المسلمين، ثم أسر بعد ذلك، أسره المشركون وعذب ليرجع عن دينه، وأخيرا لحق بأبى بصير على ساحل البحر، وكان هناك منهما ما كان. والحمد لله الذى نصر دينه وأعز جنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 سهيل، ومن معهم فيقدمون عليه، وقالوا: إنّا أسقطنا هذا الواحد من الشروط، فمن أتى محمدا فهو امن. وقيل: قالوا من خرج منا إليك فأمسك في غير حرج؛ فإنّ هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره. فلما كان ذلك من أمرهم، علم الذين كانوا أشاروا علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يمنع أبا جندل من أبيه يوم الصلح والقضية أنّ طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خير فيما أحبوا وفيما كرهوا، وأن رأيه أفضل من رأيهم، «1» وعلموا بعد ذلك أن مصالحته صلّى الله عليه وسلّم كانت أولي، لأنها كانت سببا لكثرة المسلمين؛ فإن المشركين لما أمنوا القتال اختلطوا بالمسلمين فأثّر فيهم الإسلام، فأسلم كثير منهم. وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر أبا بصير أن يقدم عليه بالمدينة هو وأبو جندل الذى كان اجتمع به مع رفاقه، ويأمر من معهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم، ولا يتعرضوا لأحد مرّ بهم من قريش، فلما قدم كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبى بصير، وكان حينئذ مشرفا علي الموت، مات وكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يده يقرأه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا. وقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أناس من أصحاب أبى جندل، ورجع سائرهم إلي أهليهم، وأمنت عيران قريش، وظاهر بعض الروايات يدلّ على أن قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ- نزلت في قصة أبى بصير. ولم يزل أبو جندل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشهد ما أدرك من المشاهد بعد ذاك، وشهد الفتح، ورجع مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقدم أبوه سهيل بن عمرو المدينة أوّل إمارة عمر بن الخطاب رضى الله عنهما، فمكث بها شهرا، ثم خرج إلي الشام يجاهد، وخرج معه ولده أبو جندل، فلم يزالا مجاهدين حتي ماتا هناك رضى الله تعالى عنهما. وهاجرت في مدة الصلح أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وجاء فيها   (1) ذلك لأنه: «لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى» وليس الرأى مع الوحى بشئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة حتي قدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسألانه أن يردّها عليهما بالعهد الذي بينه وبين قريش بالحديبية، فلم يفعل، وقال: أبى الله ذلك، وأنزل الله فيه علي رسوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ [الممتحنة: 10] الاية، وكان الامتحان أن تستحلف المرأة المهاجرة أنها ما هاجرت ناشزا ولا هاجرت إلا لله ورسوله، فكان في الاية بيان أن ذلك الرد في الرجال لا في النساء؛ لأن المسلمة لا تحل للكافر، فلما تعذّر ردّهن لورود النهى عنه، لزم ردّ مهورهن، فأمر النبى صلّى الله عليه وسلّم ألاترجع المؤمنات إلي الكفار لشرف الإسلام، وألاتكون كافرة في نكاح مسلم لقوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ «1» فمنع الله من ردّ النساء، وفسخ ذلك الشرط المكتتب، وحرّم الله حينئذ علي المسلمين إمساك الكوافر في عصمتهم، فطلّق الأصحاب كلّ امرأة مشركة في نكاحهم، وطلّق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين له مشركتين بمكة، وعن ابن عباس: يعنى من كانت له امرأة بمكة فلا يعدّها من نسائه؛ لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه. وفي غزوة الحديبية صار صلح مصر للروم حيث غلبت الروم فارسا، وأخرجوهم من الشام «2» . * وفي هذه السنة ماتت أم رومان بنت عامر بن عويمر، أم عائشة رضي الله عنهما، كانت أسلمت قديما، وكانت أولا تحت عبد الله بن سخبرة، فولدت له الطفيل، وهو أخو عائشة لأمها، ثم مات عنها فتزوجها أبو بكر، فولدت له عبد الرحمن وعائشة. * وفي السنة السادسة فرض الحج- علي ما عليه الجمهور- وقيل كان قبل الهجرة، حكاه إمام الحرمين في النهاية، وقيل غير ذلك.   (1) سورة الممتحنة: الاية 10. (2) وفيه تصديق لأبي بكر رضى الله عنه، فإنه حدث نقاش بين أبى بكر وجماعة من قريش إذ كان المؤمنون يحبون أن ينتصر الروم، وكان المشركون يحبون أن ينتصر الفرس، وقال لهم أبو بكر ما معناه: إن الروم سينتصرون في بضع سنين. انظر تفسير ابن كثير بتوسع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 * وفي هذه السنة نزل حكم الظّهار، وذلك أن أوس بن الصامت غضب على زوجته خوله بنت ثعلبة ذات يوم، وقال لها «أنت عليّ كظهر أمى» ، (وكان ذلك أوّل ظهار في الإسلام، وكان الظهار طلاقا في الجاهلية) ، ثم ندم على ما قاله: فأتت خولة النبى صلّى الله عليه وسلّم وعائشة تغسل رأسه، فقالت: يا رسول الله: إن زوجى أوس بن الصامت تزوجنى وأنا ذات مال وأهل، فلما أكل مالي وذهب شبابى وتفرّق أهلى، ظاهر منى. فقال صلّى الله عليه وسلّم: حرمت عليه. فبكت وصاحت، وقالت: أشكو إلى الله فقرى وفاقتى ووجدى وصبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا. فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما أراك إلا حرّمت عليه. فجعلت ترفع صوتها باكية، وتقول: اللهم إنى أشكو إليك. فبينما هى على تلك الحالة إذ تغيّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للوحى، فنزل جبريل عليه السلام بهذه الايات: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1] ، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوس بن الصامت، فتلا عليه الايات المذكورة، فقالت عائشة: تبارك الله الذى وسع علمه كل شىء إنى كنت أسمع كلام خولة ويخفى عليّ بعضه، وهى تحاور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما برحت حتّى نزل جبريل بهذه الايات. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأوس: أعتق رقبة، فقال: ما لى بهذا قدرة، قال: صم شهرين متتابعين، قال: إنى إذا لم اكل في اليوم مرتين كلّ بصرى، قال: فأطعم ستين مسكينا، قال: لا أجد إلا أن تعيننى منك بعون وصلة. فأعانه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخمسة عشر صاعا، وكانوا يرون أن عند أوس مثلها، وذلك لستين مسكينا، لكل مسكين نصف صاع، وهذا أوّل ظهار في الإسلام. * وفي رمضان هذه السنة استسقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما أجدب الناس، فمطروا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أصبح الناس مؤمنا بالله وكافرا بالكواكب» قاله مغلطاى. واستسقى في موضع المصلّى، وصلّى صلاة الاستسقاء: روى أنه قحط الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاه المسلمون، وقالوا: يا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 رسول الله قحط المطر، ويبس الشجر، وهلكت المواشى، وأسنت الناس «1» فاستسق لنا ربك. فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس معه، يمشى ويمشون بالسكينة والوقار، حتى أتوا المصلى، فتقدم وصلّى بهم ركعتين، يجهر فيهما بالقراءة، وكان صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في العيدين والاستسقاء في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [سورة الأعلى] وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ ... [سورة الغاشية] ، فلما قضى صلاته استقبل الناس بوجهه، وقلب رداءه لكى ينقلب القحط إلى الخصب، ثم جثا على ركبتيه، ورفع يديه، وكبّر تكبيرة قبل أن يستسقى، ثم قال: «اللهم اسقنا، وأغثنا غيثا مغيثا، وحياء ربيعا، وجدا طبقا غدقا مغدقا، عاما هنيئا مريئا، مريعا مرتعا، وابلا شاملا، مسبلا مجللا، دائما ودرا، نافعا غير ضار، عاجلا غير رائث، غيثا اللهم تحيى به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغا صالحا للحاضر والباد، اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل عليها سكينتها. اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورا تحيى به بلدة ميتا، واسقه مما خلقت أنعاما وأناسى كثيرا» . فما برحوا حتّى أقبل قزع «2» من السحاب، فالتأم بعضه إلى بعض، ثم أمطرت سبعة أيام بلياليهن، لا تقلع عن المدينة، فأتاه المسلمون وقالوا: يا رسول الله قد غرقت الأرض، وتهدّمت البيوت، وانقطعت السبل، فادع الله تعالى أن يصرفها عنا. فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو على المنبر حتّى بدت نواجذه، تعجبا لسرعة ملالة بنى ادم، ثم رفع يديه، ثم قال: «حوالينا ولا علينا، اللهم على رؤس الظراب، ومنابت الشجر، وبطون الأودية وظهور الاكام» ، فتصدعت عن المدينة حتّى كانت مثل ترس عليها، كالفسطاط «3» تمطر مراعيها، ولا تمطر فيها قطرة.   (1) أسن بفتح السين: تغير ألوانهم مثل الماء الاسن المتغير اللون. (2) الفزع: بفتحتين- قطع رقيقة من السحاب. (3) الفسطاط: بيت من شعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وفي رواية: لما صارت المدينة كالفسطاط، وضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى بدت نواجذه، ثم قال: «لله أبو طالب؛ لو كان حيّا لقرّت عيناه، من الذى ينشدنا قوله؟» . فقام علي بن أبى طالب رضى الله عنه فقال: يا رسول الله كأنك أردت: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال «1» اليتامى عصمة للأرامل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أجل.   (1) ثمال اليتامى: كافلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الفصل السابع في ظواهر السنة السابعة ما فيها من الغزوات * وفي هذه السنة من الهجرة كانت غزوة خيبر «1» ، فى منتصف المحرم: و «خيبر» بلد بينها وبين المدينة ثمانية برد، ذات حصون، أعظمها يسمى القموص «2» لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية مكث بالمدينة ذا الحجة وبعض المحرم «3» ، ثم خرج إليها غازيا، فدفع اللواء إلى على، وسار، فلما أشرف قال لأصحابه: قفوا، ثم قال: «اللهم ربّ السموات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها، وشر ما فيها، أقدموا بسم الله» . ونزلوا على خيبر ليلا، فلم يصح لهم تلك الليلة ديك، وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتّى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وإلا أغار، فبات لم يسمع أذانا، فلما أصبحوا خرجوا إلى أعمالهم بمساحيهم ومكايلهم لعدم علمهم، فلما رأوه صلّى الله عليه وسلّم عادوا وقالوا «محمد والخميس» (أى الجيش سمى به لأنه خمسة أخماس: ميمنة وميسرة ومقدمة، ومؤخرة، وقلب) فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المئذرين» ، وبهذا استدلّ على أن إيراد ايات القران على سبيل الاقتباس والاستشهاد لا بقصد التلاوة والقراءة جائز فيما يحسن ويجمل، لا في المدح ولغو الحديث، وبه قال النووى في شرح مسلم: وقد جاء لهذا نظائر كثيرة، كما ورد في فتح مكة أنه صلّى الله عليه وسلّم جعل يطعن في   (1) مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثير، بينها وبين المدينة ثمانية برد، سميت باسم رجل من العماليق، وهو أخو يثرب الذى كانت المدينة في الجاهلية مسماة باسمه. (2) القموص: جبل بخيبر، عليه حصن ابن أبي الحقيق اليهودى، كذا في المراصد وفي هامشه: وفي البكرى: حصن من حصون خيبر. (3) فى السيرة الحلبية: «ولما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية أقام شهرا وبعض شهر ذى الحجة ختام سنة ست، ومن المحرم افتتاح سنة سبع، وقال مالك: كانت سنة ست» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الأصنام ويقول- جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا- كما سيأتى، وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا رأى الهلال قال: «امنت بالذى خلقك فسواك فعدلك» ومما يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت: «كنت عند أبى فى وصيته، وهى: بسم الله الرحمن الرحيم ... هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبى قحافة، عند خروجه من الدنيا، حين يؤمن الكافر ويتّقى الفاجر، ويصدق الكاذب، إنى استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن يعدل فذلك ظنى فيه، ورجائى فيه، وإن يجر ويبدّل فلا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون» . وروى أن عثمان بن عفان يوم الدار أشرف من داره على الناس، وقد أحاطوا به فقال: وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ [هود: 89] ، يا قوم لا تقتلونى، كنتم هكذا، (وشبك بين أصابعه) » . فكلّ هذا كغزوة خيبر، وحديث فتح مكة يدل على جواز الاقتباس. انتهى. وفرّق صلّى الله عليه وسلّم الرايات- ولم تكن الرايات إلا بخيبر، وإنما كانت الألوية- وكانت رايته يومئذ سوداء تسمى العقاب، لكون لون العقاب أسود، ثم حاصرهم وضيّق عليهم وأخذ الأموال، وفتح الحصون حصنا حصنا حتّى انتهى إلى حصنهم «الوطيح» والسلالم، وكان اخر الحصون افتتاحا، وكان حصارهم بضع عشرة ليلة، وأخذ سبايا منهم صفية بنت كبيرهم حيىّ بن أخطب، اصطفاها صلّى الله عليه وسلّم لنفسه وتزوجها وجعل عتقها صداقها، وبهذا أخذ الإمام أحمد رضى الله عنه حكم مذهبه، وهو من مفردات مذهبه وقال غيره: إن هذا من خواصه صلّى الله عليه وسلّم، وكانت صفية رأت في المنام وهى عروس- بكنانة بن أبى الربيع بن أبى الحقيق- أن قمرا وقع في حجرها، فذكرته لزوجها فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمدا، ولطمها. وعرّس صلّى الله عليه وسلّم بها في الطريق في قبة، فبات أبو أيوب الأنصارى متوشحا بالسيف يحرسه، فلما أصبح راه النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ما لك؟ قال: خفت عليك من امرأة قتلت أباها وزوجها وقومها، وهى حديثة عهد. وكانت الراية مع أبى بكر رضى الله تعالى عنه، فكان يقاتل قتالا شديدا، ثم أخذها عمر فقاتل قتالا شديدا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أما والله لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرّارا غير فرّار، يأخذها عنوة» «1» فتطاول المهاجرون والأنصار إليها، يرجو كل واحد أن يكون هو صاحب ذلك، وكان علي بن أبى طالب رضى الله عنه قد تخلف بالمدينة لرمد لحقه، فلما أصبحوا جاء عليّ فتفل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في عينيه «2» فما اشتكى رمدا بعدها، ثم أعطاه الراية وعليه حلّة حمراء فنهض بها وأتى خيبرا، فأشرف عليه رجل من يهودها، وقال: من أنت؟ قال: علي بن أبى طالب، فقال اليهودى: غلبتم يا معشر اليهود. فخرج «مرحب» صاحب الحصن من الحصن، ولم يكن في أهل خيبر أشجع من مرحب، وعليه يمانى، وعلى رأسه بيضة «3» ، وله رمح سنانه ثلاثة أسنان، ونادى: من يبارز؟ وهو يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أنّى مرحب ... شاكى السلاح بطل مجرّب أطعن أحيانا، وحينا أضرب ... إذا الحروب أقبلت تلهّب إنّ حماى للحمى لا يقرب فخرج على كرم الله وجهه، وهو يقول: أنا الذى سمّتنى أمى حيدره ... أكيلكم بالسيف كيل السندزه ليث بغابات شديد القسورة [والسندرة: مكيال معلوم، ومعلوم أن حيدرة اسم من أسماء الأسد، وهو أشجعها أشار بذلك إلى أن أمه فاطمة لما ولدته سمّته باسم أبيها، وكان أبو   (1) حديث ثابت صحيح، انظر في «الرياض النضرة في مناقب العشرة» ص 197 و 198 ج 3. (2) حديث ثابت صحيح، انظر في «الرياض النضرة في مناقب العشرة» ص 197 و 198 ج 3. (3) البيضة: الخوذة تتخذ من حديد وقاء للرأس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 طالب حينئذ غائبا، فلما قدم سماه عليا، ولذلك قال عليّ رضى الله عنه يوم خيبر: أنا الذى سمتنى ... إلى اخره، فغلب عليه ما سماه أبوه] . فاختلفا بضربتين، فسبقه على رضى الله عنه فقدّ البيضة والمغفر ورأسه، فسقط عدو الله ميتا. وكان فتح خيبر في شهر صفر، على يد على رضى الله عنه بعد حصار بضع عشرة ليلة. وإلى ذلك يشير بعضهم: وشادن «1» أبصرته مقبلا ... فقلت من وجدى به: مرحبا قدّ فؤادى في الهوى قدّه «2» ... قدّ عليّ في الوغى مرحبا وفتح المسلمون حصون خيبر كلها عنوة، إلا حصن «الوطيح» «3» وجصن «سلالم» «4» - بضمّ السين المهملة- فإنهما فتحا صلحا، وكان أعظم حصون خيبر حصن «القموص» «5» كصبور من حصون الكتيبة «6» «الثلاثة» ، وكان منيعا حاصره المسلمون عشرين ليلة ثم فتحه الله على يد عليّ رضى الله عنه ومنه سبيت صفية رضى الله عنها، وقيل: إن اسمها قبل أن تسبى زينب، فلما صارت من الصفى سميت صفية، والصفىّ ما كان يصطفيه صلّى الله عليه وسلّم لنفسه من الغنيمة قبل أن تقسم، وكان في الجاهلية لأمير الجيش ربع الغنيمة، ومن ثم قيل له: المرباع «7» .   (1) الشادن: اغزال، إذا قوى وطلع واستغنى عن أمه. (2) «قدّه» الأولى بمعنى قسمه شطرين، و «قدّ» الثانية من القد، وهو الطول والعرض، و «قد» الثالثة: مبنية على الفتح خلف حركة الجر، أى كقدّ على رضى الله عنه مرحبا حين ضربه فقسم رأسه. (3) «الوطيح» : حصن من حصون خيبر، وهو بفتح الواو وكسر الطاء. (4) «السلالم» : حصن من حصون خيبر كان من أحصنها، وكان اخرها فتحها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (5) «القموص» : جبل بخيبر، عليه حصن ابن أبي الحقيق اليهودى. (6) الكتيبة: حصن من حصون خيبر، وفي كتاب الأموال لأبى عبيد: الكتيبة بالثاء المثلاثة. (7) المرباع: ما يأخذه الرئيس، وهو ربع المغنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 قال السهيلى رحمه الله: «كانت أموال النبى صلّى الله عليه وسلّم من ثلاثة أوجه: الصفى» ، والهدية، وخمس الخمس» هذا كلامه. ولا يخفى أنه يزاد على ذلك «الفىء» . وباقى حصون الكتيبة الثلاثة هو حصن «الوطيح» وحصن «سلالم» المتقدمين. وشهد خيبر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساء من النساء المسلمات، فرضخ لهنّ عليه الصلاة والسلام من الفىء، ولم يضرب لهنّ بسهم «2» ، وقيل «3» ضرب لهن أيضا بسهم كامل، وكانت قد خرجت معهم عشرون امرأة. وفي حديث ابن أبي الصلت عن امرأة غفارية سمّاها قالت: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نسوة من غفار، وهو يسير إلى خيبر فقلنا: يا رسول الله، قد أردنا الخروج معك لنداوى الجرحى ونعين المسلمين ما استطعنا، فقال: على بركة الله، قالت: فخرجنا معه، فلما افتتح خيبر رضخ لنا من الفىء. واستشهد بخيبر من المسلمين نحو من عشرين رجلا، منهم عامر بن الأكوع عم سلمة بن الأكوع- وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له في مسيره إلى خيبر: انزل يا ابن الأكوع فاحد «4» لنا من هنيهاتك «5» ، فنزل يرتجز برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا وقتل عامر بن الأكوع رضى الله عنه بسيف نفسه، رجع عليه وهو يقاتل فكلمه كلما* شديدا، فمات منه.   (1) الصفى: ما يصطفيه الرئيس من الغنيمة قبل القسمة. (2) فيه دلييل على أن المرأة ليست من أهل الحرب والقتال. وذلك لأن الجندى في جيش المسلمين يأخذ نصيبه من الغنائم قسمة، وغير الجندى يرضخ له رضخا إذا حضر القتال. والله تعالى أعلم. (3) إذا عبر بلفظ «قيل» فذلك لأنه ضعيف. (4) من حدا يحدو الإبل، أى ساقها وحثها على السير ... (5) من هينهاتك: أي من كلماتك ومن أراجيزك. * أى: جرحه جرحا شديدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 * وفي غزوة خيبر أهديت للنبى صلّى الله عليه وسلّم الشاة المسمومة، فأخذ منها قطعة وأكلها، وأكل القوم، فقال: «ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتنى أنها مسمومة» ، فمات بشر بن البراء، وكان بشر قد أساغ تلك اللقمة والمصطفى صلّى الله عليه وسلّم لم يسغها لكنها أثرت في فمه ولهواته قبل أن ينطق الله له ذراعها بالتحذير مما دسّ فيها من السم القاتل من ساعته، ودعا صلّى الله عليه وسلّم باليهودية فاعترفت، ثم قال لها: «ما حملك على ما صنعت؟ قالت: إن كنت نبيا لم يضرّك الذى صنعت، وإن كنت ملكا أرحت الناس منك، فقال: «ما كان الله ليسلطك على ذلك» ، ولم يعاقبها؛ لأنه كان لا ينتقم لنفسه، وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله: ثم سمّت اليهودية الشا ... ة وكم سام الشّقوة الأشقياء فأذاع الذراع ما فيه من ش ... رّ بنطق إخفاؤه إبداء وبخلق من النّبىّ كريم ... لم تقاصص بجرحها العجماء [أى ثم جعلت اليهودية السمّ القاتل في الشاة، ومرات كثيرة يطلب الشقوة ويتحلّى بها الاشقياء، الذين لا خلاق لهم، فأخبر ذلك الذراع النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بالنطق بما فيه من سم، وإخفاء ذلك النطق عن الحاضرين إبداء وإظهار له صلّى الله عليه وسلّم، وبسبب ما تحلى به صلّى الله عليه وسلّم من كمال الحلم والعفو، لم تقاصص تلك المرأة بجرحها، أى بجرح سمّها، لأن السم يجرح الباطن، كما يجرح الحديد الظاهر] . وما قيل: إنه أمر بها فقتلت به قصاصا، لعله هو عين ما يروى عن ابن عباس أنه دفعها إلى أولياء بشر بن البراء، بهذا يفسّر قول ابن إسحاق «أجمع أهل الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتل اليهودية التى سمّته» وقال النبى صلّى الله عليه وسلّم في مرض موته: «إن أكلة خيبر لم تزل تعاودنى، وهذا زمان انقطاع أبهرى» «1» [والأبهر عرق في الظهر وقيل: هو عرق مستبطن القلب، فإذا انقطع لم تبق بعده حياة، وقيل: الأبهر «2» عرق منشؤه من الرأس، ويمتد إلى القدم، وله   (1) قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما زالت أكلة خيبر تعاودنى كل عام حتّى كان هذا أوان قطع أبهرى» [رواه ابن السنى وأبو نعيم في الطب عن أبى هريرة] . (2) الأبهر: الظهر، عرق فيه، ووريد العنق، والأكحل، وهو: عرق في اليد، وهو عرق الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 شرايين تتصل بأكثر أطراف البدن؛ فالذى في الرأس منه يسمى «النأمة» «1» . وقولهم: أسكت الله نأمته أى حياته، ويمتد إلى الحلق ويسمّى فيه الوريد «2» ، ويمتد إلى الصدر فيسمى الأبهر، ويمتد إلى الظهر فيسمى الوتين «3» والفؤاد معلق به، ويمتد إلى الفخذين فيسمّى النّسا «4» ويمتد إلى الساق فيسمّى الصافن «5» . ولم يكتب ليهود خيبر كتابا بإسقاط الجزية عنهم، وإنما ساقاهم النبى صلّى الله عليه وسلّم على النصف من ثمارهم، ويخرجهم متى شاء. ثم في زمن خلافة القائم بأمر الله، ظهر يهودى رئيس الرؤساء ببغداد، وأظهر كتابا فيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بإسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادة الصحابة رضى الله عنهم، منهم: علي بن أبى طالب رضى الله عنه، فحمل الكتاب إلى رئيس الرؤساء، ووقع الناس منه في حيرة، فعرضه على الحافظ أبى بكر «6» خطيب بغداد، فتأمله وقال: إن هذا مزوّر، فقيل له: من أين ذلك؟ فقال: فيه شهادة معاوية رضى الله عنه، وهو أسلم عام الفتح سنة ثمان من الهجرة، وفتوح خيبر سنة سبع من الهجرة، ولم يكن مسلما في ذلك الوقت، ولا حضر ما جرى، وفيه شهادة سعد بن معاذ رضى الله عنه، ومات سعد يوم بنى قريظة بسهم أصابه، ذلك قبل فتح خيبر بسنتين «7» . انتهى. * وفي هذه السنة فتح «فدك» «8» ، وهى قرية بينها وبين مدينة النبى صلّى الله عليه وسلّم مرحلتان، وقيل ثلاث مراحل. قال أهل السير: لما أتى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم حوالى خيبر،   (1) ويقال: النامّة، بالتشديد. (2) فى القاموس: الوريدان: عرقان في العنق. (3) الوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه. (4) النسا: عرق من الورك إلى الكعب. (5) الصافن: صفن الفرس يصفن صفونا: قام على ثلاث قوائم وحرف الرابعة، ومنه قوله تعالى: الصَّافِناتُ الْجِيادُ وصفن الرجل: صفّ قدميه. (6) هو الخطيب البغدادى صاحب كتاب الكفاية في علم الرواية والله أعلم. (7) ومن مثل هذه القضية نعلم أن اليهودى لا يترك بضاعته أبدا وبضاعته التى لا يتركها: «الكذب، والزور، والدجل، وتلبيس إبليس» هذه بضاعتهم أخزاهم الله ولعنهم. (8) «فدك» بالتحريك، واخره كاف: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم. بها عين فوارة ونخل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 بعث محيصة بن مسعود الحارثى إلى فدك، يدعو أهلها إلى الإسلام، فدعاهم إليه، فخوّفهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاء إلى حربهم كما أتى إلى حرب أهل خيبر، وقالوا: «إن عامرا وياسرا وحارثا وسيد اليهود مرحبا في حصن نطاه معهم ألف مقاتل، وما نظن أن يقاومهم محمد» ، فمكث محيصة فيهم يومين، ولما رأى ألاميل لهم في الصلح، أراد أن يرجع، فقالوا له: اصبر نستشير أكابر قومنا ونبعث معك من يصالح محمدا، وبينما هم في ذلك الرأى إذ أتاهم خبر حصن «الناعم» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتحه، فوقع في قلوبهم خوف عظيم، فأرسلوا جماعة من يهود فدك إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم حتّى يصالحوه، فبعد القيل والقال الكثير، استقر الأمر على أن يعطوا النبى صلّى الله عليه وسلّم نصف أرض فدك، ولهم نصفها، فرضى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فصالحهم على ذلك. وكانوا يعملون على ذلك حتّى أخرجهم عمر وأهل خيبر إلى الشام، واشترى منهم حصّتهم «النصف» بمال بيت المال، كما سيأتى فكان خيبر للمسلمين، وفدك خالصة له؛ لأنها فتحت بغير إيجاف (أى تحريك وإتعاب في السير) ولا ركاب فلم يقسمها ووضعها حيث أمره الله، وانصرف صلّى الله عليه وسلّم عن خيبر إلى وادى القرى فحاصرها وافتتحها عنوة، وقسمها. وأصاب بها غلامه مدعما» سهم غرب (بفتح الراء والإضافة، وبتسكين الراء بلا إضافة: وهو الذى لا يعرف راميه) فقتله. وقال صلّى الله عليه وسلّم فيه لما شهد له أناس بالجنة: «كلا إن الشملة التى أخذها يوم خيبر من المغانم قبل القسم لتشتعل عليه نارا» ، فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «شراك من نار أو شراكان من نار» . وعن أبى حميد الساعدى، قال: استعمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من أسد على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدى لى، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: فهلا جلس فى بيت أمه أو في بيت أبيه فينظر أيهدّى إليه أم لا، فو الذى نفسى بيده لا يأخذ منها أحد شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، وإن كان شاة جاء بها تيعر (بفتح المثناة الفوقية وسكون المثناة التحتية بعدها مهملة مفتوحة، ويجوز كسرها) أى لها صوت شديد- ثم رفع يديه حتّى رؤيت صفرة إبطيه، ثم قال: «اللهم هل بلّغت، اللهم هل بلغت» . وروى أن النبى صلّى الله عليه وسلّم أمر فروة بن عمرو البياضى أن يجمع غنائم خيبر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 حصن «نطاه» ، فجمع، وكان في أثناء الغنائم صحائف متعددة من التوراة، فجاءت يهود تطلبها، فأمر النبى صلّى الله عليه وسلّم بدفعها إليهم، ويوم جمع غنائم خيبر وأخذ سباياهم أمر النبى صلّى الله عليه وسلّم مناديا ينادى: أنّ من امن بالله واليوم الاخر «أن لا يصيب أحد امرأة من السبى غير حامل حتّى يستبرئها» (أى حتّى تحيض) . وفي لفظ: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناديه ينادى: «أنّ من امن بالله واليوم الاخر لا يسق بمائة زرع الغير «1» ، ولا يطأ امرأة حتّى تنقضى عدتها (أى حتّى تحيض) » «2» . ولم يزل يهود خيبر وأهل فدك على شروطهم بعد الفتح إلى أن أجلاهم عمر رضى الله عنه منها، ومن غيرها من بلاد العرب، وهى الحجاز- مكة والمدينة واليمامة وطرقها وقراها كالطائف لمكة وخيبر للمدينة- حيث بلغه أن النبى «3» قال في مرضه الذى مات فيه: «لا يجتمعن دينان بأرض العرب» «3» ، وفي رواية «بجزيرة العرب» ا. هـ. والعرب أفضل الأجناس، وأعزهم نفسا، وأكرمهم أخلاقا، وأرقهم طباعا، وأكثرهم وفاء، وأجمعهم للخلال الكريمة، وأبعدهم عن الأخلاق الذميمة، وهم بحور الكرم والوفاء. قال الأصمعى: وخصّت العرب بإطعام الطعام والأنفة من الضيم. وقال المأمون: فضّلت العرب على سائر الأجناس يالسؤدد، ولو لم يكن فيهم إلا أنهم لا يصلحون للاسترقاق لكفى. وأرق العرب طبعا: قريش، وأهل الحرمين. وقال: اختصت العرب من بين الأنام بثلاث: العمائم تاجها، والسيوف سياجها، والشعر ديوانها. وإنما قيل الشعر ديوان العرب؛ لأنهم كانوا يرجعون   (1) كناية عن أنه لا يجوز له وطء امرأة حامل. (2) أو تضع حملها إن كانت حاملا. والله تعالى أعلم. (3) وفي لفظ لئن عشت إن شاء الله لاخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العربية رواه الترمذى والنسائى عن عمر، وفي لفظ اخر «لاخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتّى لا أدع إلا مسلما. رواه مسلم، وأبو داود، والترمذى عن عمر رضى الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 إليه عند اختلافهم في الأسباب والحروب ولأنه مستودع علومهم، وحافظ ادابهم، ومعدن أخبارهم، ولهذا قيل: الشعر يحفظ ما أودى الزمان به ... والشعر أفخر ما ينبى عن الكرم لولا مقال زهير «1» فى قصائده ... ما كنت تعرف جودا كان من هرم «2» وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم: «العمائم تيجان، فإذا وضعوها وضع الله عزتهم» «3» . ومن أعزّ العرب نفسا وأشرفهم همما الأنصار، وهم الأوس والخزرج، أبناء قيلة، لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب إليهم تبّع أبو كرب يدعوهم إلى طاعته ويتوعدهم إن لم ينقادوا له، فكتبوا إليه: العبد تبّع كم يوم قتالنا ... ومكانه بالمنزل المتذلل إنّا أناس لا ننام بأرضنا ... عض الرسول هنا لأم «4» المرسل فلما دنا لقتالهم كانوا يقاتلونه نهارا ويخرجون إليه القرى ليلا، فندم على «5» قتالهم، ورحل عنهم. وحسب الأنصار من الفضل ما يروى أنهم لما رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرض موته يزداد وجعا طافوا بالمسجد، فأشفقوا من موته صلّى الله عليه وسلّم، فدخل عليه الفضل فأخبره بذلك، ثم دخل عليّ رضى الله عنه فأخبره بذلك، ثم دخل عليه العباس فأخبره ذلك، فخرج صلّى الله عليه وسلّم متوكئا على عليّ والفضل، والعباس أمامه، والنبى صلّى الله عليه وسلّم معصوب الرأس يخطّ برجليه حتّى جلس على أسفل مرقاة من المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وخطب خطبة ختمها بقوله: «وأوصيكم بالأنصار خيرا؛ فإنهم الذين تبوّؤا الدار والإيمان من قبلكم، يحبون من هاجر إليهم، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسعوا لكم في الدنيا؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟» أ. هـ. وبالجملة فكلّ واحد من العرب يرى في نفسه العزة، وأنه سيّد حيّه وقبيلته،   (1) الشاعر زهير بن أبى سلمى. (2) هرم بين سنان من أجواد العرب، مدحه زهير بن أبى سلمى. (3) وفي لفظ رواه الديلمى في مسند الفردوس عن أبى عباس العمائم تيجان العرب فإذا وضعوا العمائم وضعوا عزهم» ورواه البيهقى بزيادة «واعتمّوا تزدادو حلما» ورواه القضاعى أيضا. (4) الهن: الفرج، وهو استهزاء به وشتم له، والمقصود بالرسول هنا: الرسول الذى جاءهم بخطاب التهديد. (5) فى الأصل «ندم من» والأصح «على» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وأكرمها، لا سيما رؤساؤهم الذين هم فيهم كالملوك، قال الشاعر: وإذا سألت عن الكرام وجدتنى ... كالشمس لا تخفى بكل مكان (رجع) ثم سار صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وكان قد كتب إلى النجاشى يطلب منه بقية المهاجرين، ويخطب أمّ حبيبة- رملة بنت أبى سفيان صخر بن حرب بن أمية ابن عبد شمس- فزوّجها للنبى صلّى الله عليه وسلّم ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بالحبشة، وأصدقها النجاشىّ عن النبى أربعمائة دينار، وبعثها مع شرحبيل بن حسنة في سنة سبع، وكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين أن يدخلوا الذين حضروا من الحبشة في سهامهم من مغنم خيبر، ففعلوا، فما أحسن زواج الحضرة النبوية بهذه الكريمة الزكية على يد هذا الملك الموفق، والتابعى «1» الذى طلع بدره على سنية الإيمان وأشرق، فقد فاق هذا الملك النجاشى بما له من حميد الخلال نجاشى كافور الخال، الذى هو ملك الجمال. وعلى ذكر الكافور فيحسن إيراد هذا الخبر المأثور، وهو: أنه لما جرح بعض الصحابة في بعض الغزوات، فعولج أن ينقطع دمه فلم ينقطع، فقال حسان: ائتونى بكافور، فجىء له به، فلما وضعه على الجرح انقطع دمه، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: ممّ أخذت هذا؟ قال: من قول امرئ القيس: فكّرت ليلة وصلها في هجرها ... فجرت مدافع مقلتى كالعندم فظفقت أمسح مقلتى بخدّها ... إذ عادة الكافور إمساك الدم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ من الشعر لحكمة» «2» . * وفي هذه السنة كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى جبلة بن الأيهم [اخر ملوك غسان] ودعاه إلى الإسلام، قال: فلما وصل إليه الكتاب أسلم وكتب جواب   (1) والنجاشى تابعى، لأنه لم ير النبى صلّى الله عليه وسلّم ولم يجتمع به. (2) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، عن أبىّ، والترمذى عن ابن مسعود، والطبراني عن عمرو بن عوف، وعن أبى بكر وأبو نعيم في الحلية، عن أبى هريرة والخطيب البغدادى عن عائشة وعن حسان بن ثابت، وابن عساكر عن عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأعلمه بإسلامه، وأرسل الهدية، وكان ثابتا على إسلامه إلى زمان عمر بن الخطاب، وفي خلافته قدم مكة للحج، وحين كان يطوف فى المطاف وطىء رجل من فزارة إزاره فانحلّ، فلطم الفزارى لطمة هشم بها أنفه وكسر ثناياه، فشكا الفزارى إلى عمر واستغاثه، فطلب عمر جبلة وحكم بأحد الأمرين: إما العفو وإما القصاص، قال جبلة: أتقتصّ له منّى سواء وأنا ملك وهو سوقى!! قال عمر: الإسلام سوّى بينكما لا فضل لك عليه إلا بالتقوى، قال: فإن كنت أنا وهذا الرجل سواء في هذا الدين فأنتصّر «1» ، قال عمر: إذا أضرب عنقك، قال: فأمهلنى إليه حتّى انظر في أمرى، فلما كان الليل ركب في بنى عمه وهرب إلى قسطنطينية وتنصّر هناك ومات مرتدا. وبعض أهل الإسلام على أن جبلة عاد إلى الإسلام ومات مسلما. * وفي هذه السنة اتخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخاتم؛ ثبت في صحاح الأحاديث أن النبى صلّى الله عليه وسلّم لما أراد أن يكتب إلى كسرى وقيصر والنجاشى وغيرهم من الملوك إلى الإسلام، قيل له: إنهم لا يقبلون كتابا إلا بخاتم، أو مختوما، فصاغ النبى صلّى الله عليه وسلّم خاتما من ذهب، واقتدى به ذوو اليسار من أصحابه، فصنعوا خواتيم من ذهب، فلما لبس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتمه، لبسوا أيضا خواتيمهم، فجاء جبريل عليه السلام من الغد، وقال: «لبس الذهب حرام لذكور أمتك» فطرح النبى صلّى الله عليه وسلّم خاتمه فطرح أصحابه أيضا خواتيمهم، ثم اتخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاتما حلقة وفصّه من فضة «2» ، ونقش فيه «محمد رسول الله» فى ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر. واقتدى به أصحابه فاتخذوا خواتيمهم من فضة.   (1) فى الأصل «فانتصر» وهو خطأ. (2) «كان خاتمه من فضة: فصه منه» رواه البخارى عن أنس. «كان خاتمه من ورق، وكان فصّه حبشيا» رواه مسلم عن أنس. «كان يتختم بالفضة في يساره» رواه مسلم عن أنس، وأبو داود عن ابن عمر، «كان يختم في يمينه» رواه البخارى والترمذى، ومسلم، والنسائى عن أنس وأحمد والترمذى، وابن ماجة، عن عبد الله بن جعفر. «كان يتختم في يمينه، ثم حوّله في يساره» رواه ابن عدى عن عبد الله بن عمر، وابن عساكر عن عائشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وفي هذه السنة بعث صلّى الله عليه وسلّم رسله إلى الملوك، وقيل: كان إرسال الرسل في اخر سنة ست، وجمع بعضهم بين القولين بأن إرسال الرسل كان في السنة السادسة، ووصولهم إلى المرسل إليهم كان في السنة السابعة، وقد سبق الكلام على بعث الرسل إلى الملوك في الفصل الرابع عشر من الباب الأوّل من المقالة الرابعة من الجزء الأوّل من هذا التاريخ، وسيأتى ذلك في الفصل الرابع من الباب السادس. * وفي هذه السنة- فى ذى القعدة في الشهر الذى صدّه المشركون- كانت عمرة القضاء، ويقال لها عمرة القضية. لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاضى قريشا أى صالحهم عليها، ومن ثمّ قيل لها: «عمرة الصلح» ويقال لها عمرة «القصاص» ؛ قال السهيلى رحمه الله وهذا الاسم أولى لقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ «1» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فتحصّل من أسمائها أربعة: «القضاء» ، و «القضية» ، و «الصلح» و «القصاص» لأنها كانت في شهر ذى القعدة من السنة السابعة، وهو الشهر الذى صده فيه المشركون عن البيت منها سنة ست، وليست قضاء عن العمرة التى صدّ عن البيت فيها، فإنها لم تكن فسدت بصدّهم له عن البيت، بل كانت عمرة تامة معدودة في عمرة صلّى الله عليه وسلّم التى اعتمرها صلّى الله عليه وسلّم بعد الهجرة، وهى أربعة: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، لما قسم غنائم حنين، والعمرة التى قرنها مع حجة فى حجة الوداع، بناء على ما هو الراجح من أنه كان قارنا، وكلها في ذى القعدة إلا التى كانت مع حجه. وخرج صلّى الله عليه وسلّم قاصدا مكة للعمرة على ما عاقد عليه قريشا في الحديبية من أن يدخل مكة في العام القابل معه سلاح المسافر، ولا يقيم بها أكثر من ثلاثة أيام، وأمر أصحابه أن يستمروا قضاء لعمرتهم التى صدهم المشركون عنها بالحديبية، وألايتخلف أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف منهم أحد، إلا من استشهد منهم بخيبر ومن مات. وخرج معه صلّى الله عليه وسلّم قوم من المسلمين عمارا غير الذين شهدوا الحديبية، وكانوا في عمرة القضاء ألفين، واستخلف على المدينة أبا رهم الغفارى، وقيل غيره، وساق ستين بدنة وقلّدها [أى جعل في عنق كل بعير قطعة جلد ليعلم أنها هدى] وجعل عليها ناجية بن جندب، وحمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم   (1) سورة البقرة: 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 السلاح والدروع والرماح، وقاد مائة فرس عليها محمد بن مسلمة رضى الله عنه، وعلى السلاح بشير «1» بن سعد، فلما انتهى إلى ذى الحليفة قدّم الخيل أمامه، فقيل: يا رسول الله حملت السلاح وقد شرطوا ألاتدخلها عليهم بسلاح إلا بسلاح المسافر!! [السيوف في القرب] فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا يدخل عليهم الحرم بالسلاح، ولكن يكون قريبا منّا، فإن هاجنا الهيج من القوم كان السلاح قريبا منه. ثم إن قريشا بعثت مكرز بن حفص في نفر من قريش إليه صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: «والله يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر وتدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت عليهم ألاتدخل إلا بسلاح المسافرا» [السيوف في القرب] فقال صلّى الله عليه وسلّم: إنى لا أدخل عليه بسلاح، فقال مكرز: هو الذى تعرف به: البر والوفاء، ثم رجع مكرر إلى مكة سريعا، وقال: إن محمدا لا يدخل بسلاح، وهو على الشرط الذى شرط لكم. فلما اتصل خروجه لقريش خرج كبراؤهم من مكة حتّى لا يروه صلّى الله عليه وسلّم يطوف بالبيت هو وأصحابه عداوة وبغضا وحسدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة راكبا ناقته القصوى، وأصحابه محدقون به قد توشحوا السيوف، يلبّون، ثم دخل من الثنية، وهى تنية كداء بفتح أوله والمد (وهى طلعة الحجون التى بأعلى مكة ينحدر منها إلى المقابر على درب المعلاة) على طريق الأبطح ومنى، وعبد الله بن رواحة اخذ بزمام راحلته، وهو يمشى بين يديه ويقول: خلوا بنى الكفّار عن سبيله ... خلّوا؛ فكلّ الخير في رسوله قد أنزل الرحمن في تنزيله ... بأنّ خير القتل في سبيله فاليوم نضربكم على تأويله ... كما ضربناكم على تنزيله وجعل صلّى الله عليه وسلّم السلاح في بطن بأجج (كيسمع وينصر ويضرب: موضع قريب من الحرم) وتخلّف عنده جمع من المسلمين من أصحابه، عليهم أوس بن   (1) هو: بشير بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس (بضم الجيم) الأنصارى الخزرجى، شهد بدرا، والعقبة، وأحدا، والخندق، والمشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قتل سنة 13 هـ (ثلاث عشرة هجرية) بعين النمر- (بلدة في طرف بادية على غربىّ الفرات، أكثر نخلها القسب- التمر اليابس- ويحمل منها إلى سائر الأماكن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 خولى، وقعد جمع من المشركين بجبل «قعيقعان» «1» ينظرون إليه صلّى الله عليه وسلّم وإلى أصحابه وهم يطوفون بالبيت، وقد قال كفار قريش: إن المهاجرين أوهنتهم حمى يثرب، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله امرا أراهم من نفسه قوة» فأمر أصحابه أن يرسلوا الأشواط الثلاثة، أى ليروا المشركين أن لهم قوة، فعند ذلك قال بعضهم لبعض: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد أوهنتهم؛ إنهم لينفرون نفر الظبى؟! وإنما لم يأمرهم صلّى الله عليه وسلّم بالرمل في الأشواط كلها رفقا بهم، واضطبع صلّى الله عليه وسلّم بأن جعل وسط ردائه تحت عضده الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، ففعلت الصحابة رضى الله عنهم كذلك، وهذا أوّل رمل واضطباع في الإسلام، فكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست سنّة عليهم، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما صنعها لهذا الحى من قريش، للذي بلغه عنهم حتّى حجّ حجة الوداع، فلزمها، فدلّ على أنها سنّة. ثم طاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند فراغه وقد وقف الهدى عند المروة، قال: «هذا المنحر، وكلّ فجاج مكة منحر» فنحر عند المروة وحلق هناك، وكذلك فعل المسلمون. وأقام صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أيام، فلما تمت الثلاثة التى هى أمد الصلح، جاءه حويطب بن عبد العزى ومعه سهيل بن عمرو رضى الله عنهما- فإنهما أسلما بعد ذلك- إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوانه إلى الخروج هو وأصحابه من مكة، فقالوا: نناشدك الله والعقد إلا ما خرجت من أرضنا، فقد مضت الثلاث. فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وأصحابه من مكة، وكان صلّى الله عليه وسلّم تزوّج ميمونة بنت الحارث الهلالية رضى الله عنها، وكان اسمها برّة، فسمّاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ميمونة، وهى أخت أم الفضل زوج العباس رضى الله عنها، وأخت أسماء بنت عميس لأمها- زوج حمزة رضى الله عنه- وكان تزوّجه بها صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يحرم بالعمرة وقيل: بعد أن حلّ منها، وقيل: وهو محرم. وبنى بها في عوده من مكة بمحل يقال له «سرف» ككتف، بقرب التنعيم، على ثلاثة أميال من مكة، واتفق فيما بعد أنها ماتت بسرف ودفنت فيه، وفي بعض السير أنها لما اعتلّت بمكة قالت: أخرجونى من مكة لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرنى أنى لا أموت بها، فحملوها حتّى أتوا بها سرف، إلى الشجرة التى بنى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحتها، فى موضع القبة، فماتت هناك سنة ثمان وثلاثين، وهناك عند قبرها سقاية.   (1) فى الأصل «قينقاع» وهو خطأ، وفي «المراصد» قعيقعان: جبل بمكة، الواقف عليه يشرف على الركن العراقى: (يعنى من الحرم الشريف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وفيها تحريم الحمر الأهلية، والنهى عن أكل كل ذى ناب من السباع، وفيها النهى عن متعة النساء بالضم والكسر، وهى أن يتزوج امرأة ليتمتاع بها مدة ثم يخلى سبيلها، وتحصل الفرقة بانقضاء الأجل بغير طلاق، ثم حلّلها يوم حنين، ثم حرّمها تحريما مؤبدا «1» . وفيها جاءته مارية القبطية بنت شمعون، أهداها له المقوقس ملك مصر وإسكندرية وأختها سيرين مع هدية من ذهب وقدح من قوارير، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشرب فيه، وهدية من عسل من بنها العسل، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعسل بنها بالبركة، وبغلته دلدل- بضم الدالين، ولم يكن في العرب غيرها، وهى أوّل بغلة رؤيت في الإسلام وكانت بيضاء، وقيل شهباء، أهداها له أيضا المقوقس، وكان يركبها في السفر، وعاشت بعده حتّى كبرت وسقطت أضراسها، وكان يحشّ لها الشعير، وقيل: كانت ذكرا لا أنثى، وكل ذلك مع حاطب بن أبى بلتعة. * وفي هذه السنة أيضا كان تزوّجه بأمّ حبيبة. وفيها أسلم أبو هريرة، وعلى أشهر الأقوال اسمه «عبد شمس بن عامر» ، فسمّى فى الإسلام عبد الله» ، وقيل له: لم كنوك بأبى هريرة؟ قال: كنت أرعى غنم قومى، وكانت لى هريرة صغيرة ألعب بها، فكنونى بأبى هريرة، وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم يكنيه أبا هرّ، وكان أحفظ أصحابه لأخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واثاره، ولم يشتغل بالبيع ولا بالغرس، ولزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاث سنين مختارا للعدم والفقر، ومروياته في كتب الأحاديث خمسة الاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثا. * وفي هذه السنة قدم جعفر بن أبى طالب وأصحابه من الحبشة، وكان قد خرج في أثر المهاجرين، الهجرة الأولى التى كان أميرها عثمان بن عفان رضى الله عنه، فهاجر جعفر بن أبى طالب مع أصحابه وزوجته أسماء بنت عميس، فتتابع المسلمون إلى بلاد الحبشة، منهم من هاجر بأهله، ومنهم من هاجر بنفسه، ثم بلغ المهاجرين أن المشركين قد لانوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجعوا إلى مكة، ثم   (1) قال صاحب «الروضة الندية» : «وهذا نهى مؤبد وقع في اخر موطن من المواطن التى سافر فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتعقبه موته بعد أربعة أشهر، فوجب المصير إليه» . وفي الصحيحن من حديث على: «أن النبى- صلّى الله عليه وسلّم- نهى عن متعة النساء يوم خيبر. (2) الأشهر أنه: عبد الرحمن بن صخر، ولم يختلف الناس في اسم كما اختلفوا في اسمه، لأنه اشتهر بكنيته رضى الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 بلغهم أنهم عادوا له بالشرّ، فرجعوا إلى الحبشة، ولم يدخل أحد منهم مكة إلا ابن مسعود فإنه دخل ثم خرج ومعه عدد كثير من المسلمين، وهذه هى الهجرة الثانية كما سبق التنويه إلى ذلك في الفصل الثانى في الهجرتين إلى الحبشة من الباب الثانى، وقد سبق أن المهاجرين يزيدون على مائة نفس. أحسن النجاشىّ جوارهم، ومكثوا امنين على دينهم، يعبدون الله كما يحبون، فلما هاجر صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة جمعت قريش مالا من كل ما يستطرف من متاع مكة، وأهدوه إلى النجاشى وبطارقته جميعا، وبعثوا به عمرو بن العاص وعمارة بن أبى معيط، فقدما على النجاشى والمهاجرون عنده بخير دار وأحسن جوار، فلما دخلا عليه سجدا له وقرّبا هداياهم إليه، فقبلها منهما، وقالا له: إن قومنا يحذرونك من هؤلاء الذين قدموا عليك؛ لأنهم قوم رجل خرج فينا يزعم أنه رسول الله، ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء، وقد كنا ضيّقنا عليهم فجاؤوا إليك؛ ليفسدوا عليك دينك وملكك فادفعهم إلينا لنكفيكهم. فغضب النجاشى عند ذلك، وقال: «والله لا أسلمهم إليكما حيث اختارونى على من سواى، حتى أدعوهم وأسألهم عمّا يقولون، فإن وجدت أنهم على خلاف ما تقولون أحسنت جوارهم ما جاورونى» . فأرسل إليهم ليجمعهم، فدخلوا عليه في مجلسه، وعمرو بن العاص عن يمينه وصاحبه عن يساره، والقسيسون والرهبان جلوس عنده، فلما انتهوا إليه قالوا لهم: اسجدوا للملك، فلم يسجدوا له، فلما سألهم النجاشى عن ذلك قالوا: ما نسجد إلا للذى خلقك وملّكك، وقد علّمنا نبيّنا الصادق تحية أهل الجنة، وهى: السلام. فعرف النجاشى أن ذلك حق، وأنه في التوراة والإنجيل، فقال: اختاروا من يتكلم عنكم، فقال جعفر: أنا أستأذن وأتكلم. فأذن له فقال جعفر للنجاشى: سل هذين الرجلين (يعنى عمرا وصاحبه) : أعبيد نحن أم أحرار؟ فقالا: بل أحرار كرام، فقال جعفر: سلهما هل أهرقتا دماء بغير حق فيقتص منا؟ فقال عمرو: لا، ولا قطرة، فقال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤه؟ فقال النجاشى: إن كان قنطارا فعلىّ قضاؤه، فقال عمرو: ولا قيراط، فقال النجاشى: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو: كنا وإياهم على دين واحد، وأمر واحد، على دين ابائنا، فتركوا ذلك واتبعوا غيره، فبعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من ابائهم وأعمامهم وعشائرهم لتدفعهم إلينا، فهم أعلم بما عابوا عليهم وعاينوه منهم. فقال النجاشى لجعفر وأصحابه: ما هذا الدين الذى اتبعتموه وفارقتم فيه دين قومكم، فلم تدخلوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ديتى ولا في دين أحد من الأمم؟ فقال جعفر: أيها الملك أمّا ما كنّا عليه فهو دين الشيطان؛ لأننا كنا قوما جاهلية، نكفر بالله ونأكل الميتة، ونأتى الفاحشة، ونقطع الأرحام، ونسىء الجار، ويأكل القوىّ منا الضعيف، وأما الدين الذى تحوّلنا إليه فدين الإسلام؛ فإن الله عز وجل بعث إلينا رسولا منا، نعرف صدقه وأمانته وعفافه، وهو الذى بشّر به عيسى ابن مريم عليه السلام فقال: (ومبشرا برسول يأتى من بعدي اسمه أحمد) ، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحّده ونعبده ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة، (وعدّد إليهم أمور الإسلام) ، وأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، وأن نخلع ما كنا نعبد نحن واباؤنا دونه من عبادة الأصنام من الحجارة والأوثان، فصدّقناه وآمنّا به، ومعه كتاب كريم مثل كتابكم الذى أنزل على عيسى بن مريم عليه السلام. فقال النجاشى: «تكلمات بأمر عظيم، فعلى رسلك» ، ثم أمر بضرب الناقوس، فاجتمع إليه كل قسيس وراهب، فلما اجتمعوا عنده، قال لهم: أنشدكم الله الذى أنزل الإنجيل على عيسى؛ هل تجدون بين عيسى وبين القيامة نبيا مرسلا؟ فقالوا: اللهمّ نعم، قد بشّرنا عيسى ابن مريم عليه السلام، وقال: من امن به فقد امن بى، ومن كفر به فقد كفر بى. فقال النجاشى: ماذا يقول لكم هذا الرجل؟ وما يأمركم به؟ وما ينهاكم عنه؟ قالوا: يقرأ علينا كتاب الله عز وجل، ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر، ويأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الجوار، وصلة الرّحم، وبرّ اليتيم، وكفّ الأذى، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل اليتيم وقذف المحصنات، فحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا، فعذّبونا وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله عز وجل، وأن نستحلّ من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشق علينا ذلك، وحالوا بيننا وبين ديننا؛ خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك، فأعجب النجاشى قوله، ثم قال له: هل عندك مما جاء به عن الله من شىء؟ قال جعفر: نعم، فقال النجاشى: اقرأه عليّ. فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت عين النجاشى وأصحابه من الدمع، وقالوا: زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب. فقرأ عليهم سورة الكهف، فقال النجاشى: إن هذا الكلام والذى أنزل على عيسى ليخرجان من مشكاة واحدة. ثم أقبل على جعفر وأصحابه، وقال: مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، وأنا أشهد أنه رسول الله الذى بشّر به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتّى أقبّل أعتابه، أمكثوا في أرضى ما شئتم. وأمر لهم بكسوة وطعام، وقال لعمرو بن العاص وصاحبه: انطلقا فو الله لا أسلمهم إليكما أبدا، ولا أكاد. فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لاتينهم غدا ولأعيبنّهم عنده بما استأصل به خفارتهم «1» ، فقال له صاحبه- وكان اتقى الرجلين-: لا تفعل؛ فإنهم أرحامنا، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن المسيح ابن مريم عبد، فلما كان الغد غدا إليه فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في المسيح قولا عظيما، فأرسل إليهم واسألهم. فأرسل إليهم، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ [عليه الصلاة والسلام] فقال له جعفر: نقول فيه الذى جاءنا به نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، هو عبد الله وروحه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. ثم قرأ عليهم صدرا من سورة مريم فبكى النجاشى حتّى اخضلت لحيته بدموعه، وبكا «2» أساقفته حتّى اخضلت مصاحفهم «3» حين سمعوا ما تلى عليهم، وقال: والله يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد فيما يقولون عن ابن مريم. ثم قال لجعفر وأصحابه: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضى (والسيوم: الامنون) من سبّكم أو اذاكم غرم، ثم من سبكم أو اذاكم غرّم [ثلاث مرات] وقال: أبشروا ولا تخافوا، فلا دهونة «4» اليوم على حزب إبراهيم، فقال عمرو: يا نجاشى: ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط، وصاحبهم الذى جاؤا من عنده ومن اتبعهم، فقال عمرو: بل نحن حزب إبراهيم، فاختصم الفريقان في إبراهيم، [فأنزل الله تعالى في ذلك اليوم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالمدينة قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [ال عمران: 68] ، فقال النجاشى: إنما هديتكم لى رشوة فاقبضوها، فو الله ما أخذ الله منى الرشوة حين ملّكنى. فخرجا من عنده خائبين مردودا عليهما ما جاا به، وأقام جعفر وأصحابه ثم في خير دار وأحسن جوار. ويفهم من فيض عين النجاشى وأصحابه بالدموع حين سمع قراءة جعفر رضى   (1) الخفارة: شدة الحياء، والخفير: المجاور، والمجير، والمعنى أنه يستفزه فلا يجيرهم بعد ذلك فيطردهم، وذلك يذهب بهاء وجوههم في زعه. (2) فى الأصل «وبكوا أساقفته» . (3) المصاحف: الصحف التى يقرؤن فيها، ومنه سمى المصحف مصحفا لأنه يكتب في صحائف. (4) أى لا تحريض ولا أذى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 الله عنه سورا من القران، أن له ولأصحابه معرفة بالعربية الفصيحة، فلعلّ بلاد هذا النجاشي المتملّك عليها هى الأراضى المجاورة لأرض اليمن، ويبعد أن تكون هذه السور ترجمت لهم من العربية بلسانهم، لأن الترجمة لا تؤثر في قلوبهم، حتى تفيض دموعهم، ويدلّ عليه فيض دموع الحبشة القادمين مع جعفر رضى الله عنه، لما تلا عليهم سورة يس، وقد تقدم في غزوة بدر أنّ غضب النجاشى على عمرو وأصحابه كان بحضور عمرو بن أمية الضمرى، وأن عمرو بن العاص طلب من النجاشى قتله! والخطب سهل؛ فلعل الواقعة تعددت، وبالجملة فالنتيجة واحدة: وهى أنه لم يقبل من عمرو بن العاص صرفا ولا عدلا في استجارة أصحابه صلّى الله عليه وسلّم. وروت أمّ سلمة- رضى الله عنها- إذ نزل بالنجاشى من ينازعه في ملكه، قالت أم سلمة رضى الله عنها: فو الله ما علمنا حزنا قط أشد حزن حزناه عند ذلك تحرزا أن يظهر ذلك على النجاشى، فيأتى رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشى يعرفه، قالت: وسار النجاشى وبينهما ما عرض النيل «1» ، قالت: فقال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يخرج حتّى يحضر وقعة القوم؟ فقال الزبير بن العوام: أنا، فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتّى خرج إليهم وحضرهم، ودعونا الله للنجاشى بالظهور على عدوه، والتمكن له في بلده، فظهر واستوثق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. * وفي سنة ست من الهجرة بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أمية الضّمرى- بفتح الضاد وسكون الميم- إلى النجاشى بكتاب يدعوه فيه إلى الإسلام، وكتب فيه ما صورته: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشى ملك الحبشة؛ أما بعد فإني أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أنّ عيسى ابن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة المطهّرة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخه كما خلق ادم بيده ونفخه، وإنى أدعوك إلى الله واحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن   (1) لأن النيل بينهم وبين بلاد من بلاد السودان فقد كانت الحرب هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 تتبعنى وتؤمن بى وبالذى جاءنى؛ فإني رسول الله، وقد بعثت إليكم ابن عمى جعفرا، ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤك فأقرهم «1» ودع التحيّر؛ فإني أدعوك وجنودك إلى الله تعالى، وقد بلّغت ونصحت، فاقبل نصيحتى. والسلام على من اتبع الهدى» . فلما وصل إليه الكتاب أخذه ووضعه على عينيه، ونزل عن سريره وجلس على الأرض تواضعا وقرأه، وقال: «أشهد بالله أنه النبى الأمى الذى ينتظره أهل الكتاب، وأن بشارة موسى براكب الحمار «2» كبشارة عيسى براكب الجمل «3» » . فأسلم وحسن إسلامه، وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإجابته وتصديقه وإسلامه على يد جعفر كتابا صورته: «بسم الله الرحمن الرحيم.. إلى محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النجاشى أصحمة بن أبحر: سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا الله الذى هدانى للإسلام ... أما بعد ... فقد بلغنى كتابك يا رسول الله، فما ذكرت من أمر عيسى فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت «ثفروقا» «4» ، وقد عرفت ما بعثت به إلينا، وقد قرّبنا ابن عمك وأصحابه، وإنى أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك يا نبى الله ابنى أريحا، وإن شئت أن اتيك بنفسى فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته» . [تنبيه] فتحصّل من ذلك أن النجاشى هذا هو أصحمة الذى هاجر إليه المسلمون في رجب سنة خمس من النبوة، وكتب إليه النبى صلّى الله عليه وسلّم كتابا يدعوه إلى الإسلام مع عمرو بن أمية الضمرى سنة ست من الهجرة، وأسلم على يد جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه، وتوفى في رجب سنة تسع من الهجرة، ونعاه النبى صلّى الله عليه وسلّم يوم توفى، وصلّى عليه بالمدينة، وأما النجاشى الذى ولى بعده وكتب إليه النبى صلّى الله عليه وسلّم يدعوه إلى الإسلام فكان كافرا لم يعرف إسلامه ولا اسمه، وقد خلط بعضهم ولم يميز بينهما.   (1) أى أحسن ضيافتهم. (2) عيسى عليه السلام. (3) محمد صلّى الله عليه وسلّم. (4) الثفروق (بضم الثاء) : قمع الثمرة أو ما يلتزق به قمعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ولما خرج جعفر رضى الله عنه من الحبشة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بعث النجاشى أريحا ابنه في ستين رجلا من الحبشة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه، حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا، والحكمة في ذلك- والله سبحانه وتعالى أعلم- لو أنهم جاؤا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووصلوا إليه، ربما كان الكفار والمنافقون يقولون: «إن محمدا ما به ملكة (أى قوة وسلطان) واشتد أزره بملك الحبشة وأصحابه» ، فأراد الله تعالى أن يظهر للناس كافة أن قوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قبله عز وجل، لئلا يشك في ذلك أحد أن قوته من ملك أو سلطان أو وزراء أو أعوان كما هو مصرّح به في بعض الكتب المعتبرة. ووافى جعفر وأولاده الثلاثة عبد الله، ومحمد، وعون، ومن دخل في الإسلام هناك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خيبر، فى سفينتين، وفيهم سبعون رجلا من الحبشة، عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة، وثمان من أهل الشام، فقرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة يس إلى اخرها، فبكوا حين سمعوا القران، وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل الله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى [المائدة: 82] ، يعنى وفد النجاشى الذين قدموا مع جعفر ابن أبى طالب، وكانوا من أهل الصوامع، وأما قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ «1» الاية. قال ابن عباس رضى الله عنهما (فى رواية عطاء) : يريد النجاشى وأصحابه، قرأ عليهم جعفر بالحبشة كهيعص [سورة مريم] ما زالوا يبكون حتّى فرغ جعفر من القراءة. كذا في تفسير البغوى رحمه الله تعالى. ولما أقبل عليه صلّى الله عليه وسلّم جعفر رضى الله عنه، قام صلّى الله عليه وسلّم إلى جعفر وقبّله بين عينيه، وقال: ما أدرى بأيهما أسرّ بقدم جعفر أم بفتح خيبر؟. وعن ابن عباس رضى الله عنهما لما قدم جعفر رضى الله عنه من أرض الحبشة، اعتنقه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم وقبّله بين عينيه. وجعل ذلك أصلا لاستحباب المعانقة، وقال بعضهم إنها مكروهة، وحديث جعفر يحتمل أن يكون قبل النهى عنها، ولم يجب بذلك الإمام مالك رضى الله عنه؛ فإنه لما قدم سفيان بن عيينة رضى الله   (1) سورة المائدة: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 عنه فصافحه الإمام مالك، وقال: لولا أنها بدعة لعانقتك، فقال له سفيان: قد عانق من هو خير منك ومنى؛ النبى صلّى الله عليه وسلّم، قال الإمام مالك: تعنى جعفر بن أبى طالب؟، قال نعم: قال: ذاك حبيب خاص، ليس بعام، أى فذلك من خصوصياته، فقال له سفيان: أتأذن لى أن أحدثك بحديثك؟ قال: نعم. فقال: حدثنى فلان عن فلان عن ابن عباس رضى الله عنهما، وذكر الحديث المتقدم عنه. وأما المصافحة فقد جاء أن أهل اليمن لما قدموا المدينة صافحوا الناس بالسلام، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: إن أهل اليمن قد سنّوا لكم المصافحة، وقال: من تمام محبتكم المصافحة «1» . ولما رأى جعفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجل، أى مشى على رجل واحدة، إعظاما لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن الحبشة يفعلون ذلك للتعظيم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول له: «أشبهت خلقى وخلقى» ، وفي لفظ «جعفر أشبه الناس بى خلقا وخلقا» وكان صلّى الله عليه وسلّم يسميه «أبا المساكين» لأنه رضى الله عنه كان يحب المساكين، ويجلس إليهم، ويحدّثثهم ويحدثونه، وذكر بعضهم أنه لما قال له صلّى الله عليه وسلّم: «أشبهت خلقى وخلقى» رقص من لذة هذا الخطاب، ولم ينكر عليه صلّى الله عليه وسلّم رقصه. وجعل ذلك أصلا لجواز رقص الصوفية عند ما يجدونه من لذة المواجدة في مجالس الذكر والسماع «2» .   (1) وفي رواية: «من تمام التحية الأخذ باليد» ، رواه الترمذى عن عبد الله بن مسعود. (2) لا لوم على المغلوب حقا، الذى سيطرت عليه لذة الذكر والسماع من وجد حقيقى لا ادعاء فيه، أما ما يتخذه شياطين اليوم من أدعياء التصوف فهو بدعة وضلالة، لا يرضاه الله ولا رسوله ولا المؤمنون، ولا من عنده ذرة من عقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الفصل الثامن في ظواهر السنة الثامنة وما فيها من الغزوات * وفي هذه السنة قدم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة فأسلموا. * وفيها (فى جمادى الأولى) غزوة مؤتة «1» وهى قرية من قرى البلقاء بالشام قبل الكرك، وهى أولى الغزوات بين المسلمين والروم، وكانت الروم والعرب المتنصرة في نحو مائة ألف. وسبب هذه الغزوة أنه أرسل صلّى الله عليه وسلّم الحارث بن عمير إلى ملك بصرى بكتابه، فعرض له بمؤتة عمرو بن شرحبيل الغسانى فقتله، ولم يقتل له صلّى الله عليه وسلّم رسول غيره، فبعث صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة الاف، وأمر عليهم زيد بن حارثة مولاه، وقال: «إن أصيب فأميركم جعفر بن أبى طالب، فإن أصيب فأميركم عبد الله بن رواحة الأنصارى، فإن أصيب فسيفتح الله على يدى رجل من المسلمين» وأشار بيده إلى خالد بن الوليد «2» . فلما التقوا مع الروم أخذ الراية زيد بن حارثة، حتى استشهد، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتّى قطعت يده اليمنى، فأخذها بشماله فقاتل حتّى قطعت شماله، فحضن الراية وقاتل حتّى قتل رضى الله عنه، وسمّى «ذا الجناحين» لأنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن له جناحين يطير بهما حيث شاء من الجنة» . ويحكى أنه وجد في مقدّمه أربعة وخمسون ما بين طعنة رمح وضربة سيف، وقتل في السنة الثامنة من الهجرة، وهو ابن نحو من أربعين سنة، وكان أسنّ، من أخيه علي بن أبى طالب رضى الله عنه، ودخلت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تبكى وتقول: واعمّاه، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «على مثل جعفر فلتبك البواكى» «3» ، ثم انصرف إلى أهله، وقال: «اتخذوا لال جعفر طعاما فقد شغلوا عن أنفسهم» وضمّ عبد الله بن جعفر إليه ومسح رأسه وعيناه تدمعان، وقال: «اللهم اخلف جعفرا في   (1) فى حدود الشام. (2) ولذلك أمر المسلمون خالدا حين قتل من ذكرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ائتمارا بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (3) ورواه ابن عساكر بلفظ: «على مثل جعفر فلتبك الباكية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ذريته بأحسن ما خلفت به أحدا من عبادك الصالحين» وكان لجعفر من الولد: عبد الله الجواد، وعون، ومحمد، استشهدوا بصفين، وقيل: إنهم قتلوا بالطفّ مع الحسين عليه السلام، وحمل ابن زياد رؤوسهم مع رأس الحسين إلى يزيد بن معاوية، ولم يكن لعون عقب. ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة الأنصارى، فاستشهد، وفي أثناء استشهاد هؤلاء الصحابة الكرام كان صلّى الله عليه وسلّم جالسا على المنبر وقد كشف الله له معتركهم، فكان يخبر باستشهاد كل واحد منهم ويصلى عليه، ويأمر أصحابه بالاستغفار له. وفي «الصفوة» عن محمد بن جعفر قال: «فلما تجهّز الناس وتهيأوا للخروج إلى مؤتة، قال للمسلمين: «صحبكم الله ودفع عنكم السوء وردّكم مسالمين غانمين» فلما فصلوا من المدينة سمع العدو بمسيرهم، فجمعوا لهم وتهيّئوا لحربهم، وقام فيهم شرحبيل بن عمرو، فجمع نحو مائة ألف، وقدّم الطلائع أمامه، ولما نزلوا «معان» «1» من أرض الشام بلغهم أن هرقل قد نزل «ماب» من أرض «البلقاء» «2» فى مائة ألف من الروم، وانضمت إليه المستعربة من: لخم، وجذام، والقين، وبلى، وبهراء، ووائل، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على «معان» ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنخبره بعدد عدونا، إما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا فنمضى له. فشجعهم عبد الله بن رواحة فقال: والله يا قوم إن الذى تكرهونه للذي خرجتم له تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدة ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به؛ فانطلقوا فإنما هى إحدى الحسنيين؛ إما الظهور وإما الشهادة، قال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، فمضوا لوجوههم. وفي «الاكتفاء» : ثم مضى الناس حتّى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء، يقال لها «مشارف» «3» ، وانحاز المسلمون إلى «مؤتة» التى سميت الغزوة باسمها، فالتقى الناس عندها فتعبّى لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بنى عذرة يقال له: قطبة بن قتادة،   (1) معان: بالفتح: مدينة في طرف بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحى البلقاء. (2) البلقاء: كورة من أعمال دمشق، بين الشام ووادى القرى، قصبتها عمان. (3) قرية قرب حوران تنسب إليها السيوف المشرفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له عبادة بن مالك، ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد براية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى شاط «1» فى رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل حتّى إذا لحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء، ثم عرقبها «2» ، ثم قاتل القوم حتّى قتل رضى الله تعالى عنه، وهو يقول: يا حبّذا الجنة واقترابها ... طيّبة وبارد ضرابها والروم روم، قد دنا عذابها ... علىّ إذ لاقيتها ضرابها وقد سبق ذكر هذه الغزوة عند الكلام على قيصر هرقل- فى الفصل الرابع عشر من الباب الأوّل من المقالة الرابعة من الجزء الأوّل من هذا التاريخ. * وفي هذه السنة- على ما في أسد الغابة- أو السابعة، أو التاسعة من الهجرة، اتخذ المنبر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أثل الغابة، وفي رواية: من طرفاء الغابة، للخطبة، وهى الكلام المنثور المسجع، وهو أوّل منبر عمل في الإسلام. * وفيها كان مولد إبراهيم ابن النبى صلّى الله عليه وسلّم، وهو ثالث أولاده. * وفيها وفاة زينب بنته صلّى الله عليه وسلّم، وهى أكبر بناته صلّى الله عليه وسلّم. * وفي هذه السنة كان نقض الصلح، وغزوة فتح مكة الذى هو أعظم الفتوح الإسلامية؛ لأن الله أعز دينه ورسوله وجنده وحرمه وبلده وبيته، واستبشر به أهل السماء، وضرب أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأشرق به وجه الدهر ضياء وابتهاجا، وأزال الله به الشرور، وزاد به المصطفى السرور، وذلك أن بنى بكر بن عبد مناف اعتدت على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له «الوتير» «3» وكان في صلح الحديبية أنه «4» لا يتعرض لمن دخل في عقد قريش، ولا يتعرضون لمن دخل في عقده، يعنى اصطلحوا على وضع الحرب بين الناس عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف   (1) شاط بمعنى «قتل» رضى الله عنه. (2) أى قطع عرقوبها وهو ما يوازى الركبة. وفعل ذلك حتّى لا تفرّ. (3) وقيل: هو ما بين عرفة إلى أدام، كذا في مراصد الإطلاع. (4) أى الرسول صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 بعضهم عن بعض، وأنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهداهم دخل فيه، وكانت خزاعة ممن دخل في عهد النبى صلّى الله عليه وسلّم وعقده، وبنو بكر ممن دخل في عهد قريش وعقدهم، وكانت بينهم حروب في الجاهلية، فكلمات بنى بكر أشراف قريش أن يعينوهم على خزاعة بالرجال والسلاح، فواعدوهم ووافوهم متنكرين، فبيّتوا خزاعة، أى جاؤا ليلا بغتة فقتلوا منهم عشرين، ثم ندمت قريش على ما فعلوا، وعلموا أن هذا نقض للعهد الذى بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخرج عمرو بن سالم الخزاعى في طائفة من قومه، حتى قدموا عليه صلّى الله عليه وسلّم المدينة مستغيثين، وكان ذلك مما هاج فتح مكة، فوقف عمرو على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في المسجد، وأنشده أبياتا، وهى: لاهم إنّى ناشد محمّدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا فوالدا كنّا وكنت الولدا ... وواحدا كنت وكنّا العددا إنّ قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكّدا وزعموا أن لست تدعو أحدا ... وهم أذلّ وأقلّ عددا هم بيّتونا بالوتير هجّدا ... وقتلونا ركّعا وسجّدا فانصر هداك الله نصرا أبدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فلما سأله بهذه الأبيات أن ينصره، قال له صلّى الله عليه وسلّم: «نصرت يا عمرو بن سالم» ودمعت عيناه صلّى الله عليه وسلّم، وقال «لا ينصرنى الله إن لم انصر بنى كعب مما أنصر به نفسى» ، وبنو كعب هم خزاعة. ثم قدم بديل بن ورقاء الخزاعى في نفر من خزاعة عليه صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه بما أصيب منهم، ومظاهرة قريش بنى بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للناس: «كأنكم بأبى سفيان، وقد جاء ليشدّد في العقد ويزيد في المدة، وقد وهبوا الذى صنعوا» فلما لقى أبو سفيان بديلا، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ فظن أنه رسول الله، قال: سرت إلى خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادى، قال: أو ما أتيت محمدا؟ قال: لا. فلما راح بديل مكة، قال أبو سفيان: لئن كان بالمدينة لقد علف بها. فعمد إلى منزل ناقته، فأخذ من بعرها ففتّه، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا، ثم خرج أبو سفيان حتّى قدم المدينة ليجدّد العهد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 فدخل على ابنته أم حبيبة (أم المؤمنين زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم) فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طوته عنه، فقال: يا بنية ما أدرى، أرغبت بى عن هذا الفراش، أم رغبت به عنى؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنت رجل مشرك نجس، وما أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: والله لقد أصابك بعدي يا بنية شرّ. ثم خرج وأتى النبى صلّى الله عليه وسلّم فكلمه، فلم يرد عليه شيئا، فذهب إلى أبى بكر، ثم إلى عمر، ثم إلى على رضوان الله عليهم على أن يكلموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمره، وتشفّع بهم، فلم يفعلوا، ثم قال لفاطمة أن تأمر ابنها الحسين (وهو غلام يدب بين يدى أبويه) حتى يجير له، فأبت، فقال لعلى كرم الله وجهه: يا أبا الحسن، إنى أرى الأمور قد اشتدت عليّ فانصحنى، فقال: والله لا أعلم شيئا يغنى عنك، ولكنك سيد بنى كنانة، فقم فأجر بين الناس (أى اطلب الأمان) ثم الحق بأرضك، قال له: أو ترى ذلك يغنى عنى شيئا؟ قال: لا والله، ما أظنه، ولكن لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: يا أيها الناس إنى قد أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره وانطلق، فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ فقص ما جرى له مع أبى بكر وعمر وعلى، وأنه قد أجار بين الناس، فقالوا: هل أجاز محمد ذلك؟ قال: لا، قالوا: والله إن الرجل (يعنون عليا) أراد اللعب بك، فما يغنى عنّا ما قلت، قال: لا والله ما وجدت غير ذلك. ثم أمر صلّى الله عليه وسلّم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهّزوه، ولم يعلموا به أحدا، ثم أعلم الناس بأنه يريد مكة، وقال: «اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتّى نبغتهم فى بلادهم» (أى نأخذهم بغتة أى على حين غفلة من قبل أن يعلموا به) ، فكتب حاطب بن أبى بلتعة كتابا إلى أهل مكة، وبعثه مع سارة مولاة بنى هاشم، يعلمهم بذلك، فأطلع الله رسوله على ذلك، وأرسل عليا والزبير، وأخذا منها الكتاب، فقال لحاطب: ما حملك على هذا؟ فقال: والله إنى مؤمن، ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ صحبتك، ولكن لى بين أظهرهم أهل وولد، وليس لى عشيرة، فصانعتهم، فقال عمر: دعنى يا رسول الله أضرب عنقه فإنه منافق، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله قد اطّلع على أهل بدر، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ففاضت عينا عمر، فأنزل الله عز وجل في حاطب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1] الاية، وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى من حوله من الأعراب فجلبهم، وهم: أسلم، وغفار ومزينة، وجهينة، وأشجع، فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من لحقه بالطريق، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وقد أهدر صلّى الله عليه وسلّم دم سارة حاملة كتاب حاطب بعد الفتح. ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة لعشرة مضت من رمضان ومعه المهاجرون والأنصار، عامدا إلى مكة، فكان جيشه عشرة الاف، فصام وصام الناس معه، حتى إذا كان «بالكديد» «1» وهو الماء الذى بين قديد «2» وعسفان «3» أفطر، فلم يزل مضطرا حتّى انسلخ الشهر، وبلغ ذلك قريشا، فخرج أبو سفيان ابن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار، وكان العباس رضى الله عنه أسلم قديما، وكان يكتم إسلامه، فخرج بعياله مهاجرا، فلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجة «4» وقيل بذى الحليفة، ثم حضر أبو سفيان بن حرب على يد العباس إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم بعد أن استأمن له، فأسلم معه حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء. وفي رواية عروة: لما دخل أبو سفيان مع العباس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صبيحة أسلم، قال أبو سفيان يا محمد إنى قد استنصرت إلهى واستنصرت أنت إلهك، فو الله ما لقيتك من مرة إلا ظهرت عليّ فلو كان إلهى محقّا وإلهك مبطلا لظهرت عليك» . فشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وممن أسلم يومئذ معاوية بن أبى سفيان وأخوه يزيد، وأمه هند بنت عتبة، وكان معاوية يقول: إنه أسلم يوم الحديبية، فكتم إسلامه عن أبيه وأمه، وقال العباس: يا رسول الله إن أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئا يكون في قومه،   (1) الكديد: موضع بالحجاز على اثنين وأربعين ميلا من مكة. بين عسفان وأمج. وفي هامش المراصد: «فى ياقوت: ويوم الكديد من أيام العرب» . (2) قديد: بضم القاف: قرب مكة. (3) عسفان: منهلة من مناهل الطريق، بين الجحفة ومكة. (4) كانت قرية كبيرة ذات منبر (أى مسجد جامع به منبر) على طريق مكة، على أربع مراحل، وهى ميقات أهل مصر والشام وسميت الجحفة لأن السيل جحفها، (أى أضر السيل بأهلها) وكان اسمها (مهيعة) بينها وبين البحر ستة أميال، وبينها وبين «غدير خمّ» ميلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 فقال صلّى الله عليه وسلّم: «من دخل دار أبى سفيان فهو امن، ومن دخل المسجد فهو امن، ومن أغلق عليه بابه فهو امن» فلما ذهب أبو سفيان لينصرف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: احبسه يا عباس بمضيق الوادى، حتى تمر به جنود الله تعالى فيراها، قال: فخرجت به حتّى حبسته حيث أمرنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومرّت به القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة كبّرت ثلاثا عند محاذاته، قال: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لى ولسليم، ثم تمر مرت القبيلة فيقول: من هؤلاء فأقول: مزينة، فيقول: ما لى ولمزينة، ثم مرت بنو غفار- بكسر الغين المعجمة- ثم أسلم، ثم بنو كعب، ثم جهينة، ثم كنانة، ثم أشجع، لا تمر قبيلة إلا سألنى عنها فإذا أخبرته، فيقول: ما لى ولبنى فلان؟ حتى مر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتيبته الخضراء. - وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد وظهوره فيها، والعرب تطلق الخضرة على السواد، كما تطلق السواد على الخضرة «1» - المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، لأن فيها ألفى دارع «2» ، فلما رأى ذلك أبو سفيان قال: سبحان الله، من هؤلاء يا عباس؟ قلت: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، قلت: ويحك يا أبا سفيان إنها النبوّة. قال: فنعم إذا، فقلت: الحق الان بقومك فحذّرهم. فخرج سريعا حتّى إذا جاءهم، فصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. قالوا: فمه؟ قال: فمن دخل دار أبى سفيان فهو امن، قالوا: ويحك وما تغنى دارك عنّا شيئا، قال: فمن أغلق عليه بابه فهو امن، ومن دخل المسجد فهو امن، ومن ألقى السلاح فهو امن. فتفرّق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، واستثنى صلّى الله عليه وسلّم جماعة أمر بقتلهم، وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، وبهذا استدلّ على أن مكة فتحت صلحا لا عنوة، وبه قال الإمام الشافعى. وفي بعض السير: لقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببعض الطرق بالأيواء أبا سفيان بن عمه الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة- ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب- فأعرض عنهما صلّى الله عليه وسلّم، فجاء إليه أبو سفيان وعبد الله بن أمية من   (1) فى مختار الصحاح: وربما سموا الأسود أخضر. وقوله تعالى: مُدْهامَّتانِ قالوا: خضراوان؛ لأنهما يضربان إلى السواد من شدة الرى. (2) أى حامل درع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 قبل وجهه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين» وقبل منهما إسلامهما، فأنشده أبو سفيان معتذرا إليه بأبيات، فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على صدره وقال: «أنت طردتنى كلّ مطّرد» . وكان أبو سفيان بعد ذلك ممن حسن إسلامه؛ فقيل: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منذ أسلم حياء منه، وكان صلّى الله عليه وسلّم يحبه ويشهد له بالجنة، ويقول: أرجو أن يكون خلفا من حمزة «1» ، وقال صلّى الله عليه وسلّم لأبى سفيان بن الحارث حين جاء مسلما بعد أن كان عدوا له كثير الهجاء: «كلّ الصيد في جوف الفرا «2» » (وهو بفتح الفاء حمار الوحش، والمعنى أن حمار الوحش من أعظم ما يصاد، وكل صيد دونه، كما أنك من أعظم أهلى وأمسّهم رحما بى، ومن أكرم من يأتينى وكلّ دونك) وكان أبو سفيان يشبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من جملة من يشبهونه، وهم ستة، والباقى: جعفر بن أبى طالب، والحسن بن على، وقثم بن العباس، والسائب بن عبيد بن عبد الله بن نوفل بن هشام بن عبد المطلب بن عبد مناف، وعبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب. ثم أمر صلّى الله عليه وسلّم أن تركز راية سعد بن عباد بالحجون «3» لما بلغه أنه قال: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الكعبة» فقال: «كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة» ، فمن هنا يعلم أنه صلّى الله عليه وسلّم كما سعى في العمار الحسى سابقا، سعى في العمار المعنوى لاحقا. ونعم ما قال سادة الأوّل: أوّل الفكر اخر العمل، فالساعى في التعمير يستحيل أن يكون سببا في التدمير، لا سيما البشير النذير، أو ليس أنه صلّى الله عليه وسلّم كان في بناء قريش للكعبة يشتغل في بنائها بنفسه معهم،   (1) وكان عليه الصلاة والسلام يقول فيه: «أبو سفيان بن الحارث خير أهلى» رواه الطبراني والحاكم عن أبى حبة البدرى. وروى الحاكم وابن سعد عن عروة مرسلا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أبو سفيان ابن الحارث سيد فتيان أهل الجنة» . (2) رواه الرامهرمزى في الأمثال عن نصر بن عاصم الليثى قال: «أذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقريش وأخّر أبا سفيان، ثم أذن له، فقال- أى أبو سفيان-: ما كدت تأذن لى حتّى كانت تأذن لحجارة الجلهمتين (بضم الجيم وسكون اللام وبضم الهاء: اسم مكان) قبلى؟ قال: وما أنت وذاك يا أبا سفيان، إنما أنت كما قال الأوّل: «كلّ الصيد في جوف الفرا» . ورواه العسكرى أيضا قريبا من هذا اللفظ، والله تعالى أعلم. (3) مكان بأعلى مكة عند مقبرتها. وقال الأصمعى: الحجون هو الجبل المشرف الذى بحذاء مسجد البيعة على شعب الجزارين- قاله ياقوت الحموى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وأنه لما اختير حكما حين اختصمت القبائل في رفع الحجر إلى موضعه، كان هو الاخذ بالثوب وواضعه بالركن، والامر للإصلاح بأخذ كل قبيلة طرفا من الثوب ورفعه إلى ما يحاذى موضعه، والمتناول للحجر من الثوب، والواضع له بيده الشريفة في محله، فحقّ على من يرفع بنيانها أن يرفع شأنها. ثم أمر صلّى الله عليه وسلّم أن يدخل الزبير ببعض الناس من كداء» ، وسعد بن عبادة سيد الخزرج ببعض الناس من ثنية كدّى «2» وأمر عليّا أن يأخذ الراية منه فيدخل بها لما بلغه من قول سعد: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، وأمر خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء في بعض الناس، وكل هؤلاء الجنود لم يقاتلوا؛ لأن النبى نهى عن القتل، إلا أن خالد بن الوليد لقيه جماعة من قريش فرموه بالنبل ومنعوه من الدخول فقاتلهم خالد وقتل من المشركين ثمانية وعشرين رجلا، فلما علم النبى صلّى الله عليه وسلّم بذلك قال: ألم أنهكم عن القتال؟ فقالوا له: إن خالدا قوتل فقاتل. وقتل من المسلمين رجلان، ودخل النبى صلّى الله عليه وسلّم مكة من كداء وهو على ناقته يقرأ سورة الفتح ويرجّع «3» . وكان دخوله صلّى الله عليه وسلّم مكة يوم الاثنين، ووضع الحجر يوم الاثنين، وخرج من مكة مهاجرا يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ونزلت عليه سورة المائدة يوم الاثنين. وعن عائشة رضى الله عنها: كان لواؤه يوم فتح مكة أبيض، ورايته سوداء تسمّى العقاب، وهى التى كانت بخيبر. وعنها رضى الله تعالى عنها أنها قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح من كداء [بفتح الكاف والمدّ والتنوين: جبل بأعلى مكة] وهذا هو المعروف، خلافا لمن قال: إنه دخل من أسفل مكّة، وهى ثنية كدّى [بضم الكاف والقصر والتنوين] وعند الخروج خرج صلّى الله عليه وسلّم من هذه، وبهذا استدل على أنه يستحب   (1) اسم مكان بأسفل مكة خرج منه النبى من مكة، وهى بضم الكاف. (2) اسم مكان ثنية بأعلى مكة، عند المحصب، وهو بفتح الكاف. (3) الترجيع: الترديد في القراء وإعادة الايات. أغلب العلماء على أن رجيعه إنما كان من أثر اهتزاز الناقة، ولكن الصحابة رضى الله عنهم كانوا يأخذون عنه كل شىء دون النظر إلى الأسباب. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 دخول مكة من الأولى والخروج منها من الثانية، واغتسل صلّى الله عليه وسلّم لدخول مكة، وبه استدل على استحباب الغسل لداخل مكة ولو حلالا، وكان شعار المهاجرين «يا بنى عبد الرحمن» وشعار الخزرج «يا بنى عبد الله» وشعار الأوس «يا بنى عبيد الله» أى شعارهم الذى يعرف به بعضهم بعضا في ظلمة الليل، عند اختلاط الحرب، لو وجد. وبعث النبى صلّى الله عليه وسلّم السرايا إلى الإصنام التى حول مكة فكسرها، ونادى مناديه بمكة: «من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره» ، وكذلك إلى الناس يدعوهم إلى الإسلام، ولم يأمرهم بقتال، وكانت بنو جذيمة قد قتلوا في الجاهلية عوفا أبا عبد الرحمن، وعم خالد- كانا أقبلا من اليمن- وأخذوا ما معهما، وكان من السرايا التى بعثها صلّى الله عليه وسلّم تدعو إلى الإسلام سرية مع خالد بن الوليد، فنزل على ماء لبنى جذيمة فأقبلوا بالسلاح، فقال لهم خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا، فوضعوه، فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فأمر بهم خالد فكتفوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل «1» منهم، فلما بلغ النبى صلّى الله عليه وسلّم ذلك رفع يديه إلى السماء حتّى بان بياض إبطيه، وقال: «اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد» [مرتين] ثم أمر عليا رضى الله عنه أن يؤدى لهم الدماء والأموال، ففعل «2» ذلك، ثم سألهم: هل بقى لكم دم أو مال؟ قالوا: لا، وكان قد فضل مع عليّ قليل مال، فدفعه إليهم زيادة تطيبا لقلوبهم، فأعجب النبى صلّى الله عليه وسلّم ذلك. وأنكر عبد الرحمن بن عوف على خالد فعله «3» ، فقال خالد: ثأرت أباك،   (1) ظن سيدنا خالد رضى الله عنه أنهم خرجوا إلى دين الصابئة: جنس من أهل الكتاب، ومن القول الفاحش اتهام سيدنا خالد بأنه خالف أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لضغينة في نفسه من هؤلاء الناس، ولا يعتقد هذا إلا جاهل أو مدخول في عقيدته. والله تعالى أعلم. (2) وهذا دليل اخر على براءة سيدنا خالد، فإن الدية لا تؤدى إلا في الخطأ، أما العمد ففيه القصاص؛ لأنهم مسلمون. (3) وإنما لامه سيدنا عبد الرحمن بن عوف لأنه كان يعرف أن القوم قد أسلموا وخالد يجهل ذلك منهم، ولو علم ما فعل هذا أبدا، وقول خالد: ثأرت أباك، إنما يريد أن يبرد قلب عبد الرحمن حتى يخفف عبد الرحمن عنه اللوم. وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا خالد دع عنك أصحابى» إنما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- والله تعالى أعلم أن يبين مكانة السابقين في الإسلام، فإن السابقين لهم فضلهم ومكانتهم فلا يجترئ- عليهم أحد مهما كان. وهذا الذى نقوله وندين به لله رب العالمين، والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فقال عبد الرحمن: بل ثأرت عمك الفاكه، وفعلت فعل الجاهلية في الإسلام. وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خصامهما، فقال: «يا خالد دع عنك أصحابى، فو الله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله تعالى ما أدركت غدوة أحدهم ولا روحته» . وكان فتح مكة يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان، ودخل النبى صلّى الله عليه وسلّم مكة وملكها عنوة بالسيف، وإلى ذلك ذهب مالك وأصحابه، وهو الصحيح من مذهب أحمد رضى الله عنه، وقال أبو حنيفة والشافعى رضى الله تعالى عنهما إنها فتحت صلحا «1» . ولما دخل صلّى الله عليه وسلّم مكة وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما مشدودة بالرصاص، لكل حى من أحياء العرب صنم، وكان هبل أعظمها، وهو على باب الكعبة، فلما طاف جعل يشير بقضيب في يده إليها ويقول: - جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا- فما أشار لصنم إلا وقع لوجهه، وفي ذلك قال تميم الخزاعى: ففى الأصنام معتبر وعلم ... لمن يرجو الثواب أو العقابا ثم أمر صلّى الله عليه وسلّم بهبل فكسر، وهو واقف عليه. وروى أن الزبير بن العوام قال لأبى سفيان: إن هبل الذى كنت تفتخر به يوم أحد قد كسر، قال: دعنى ولا توبّخنى، لو كان مع إله محمد إله اخر لكان الأمر غير ذلك. ويقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما دخل مكة يوم الفتح كان بها من الأصنام ثلاثمائة وستون صنما حول الكعبة، منها إساف ونائلة، فكسّرا مع الأصنام. وفي ذلك يقول فضالة الليثى: لو رأيت محمدا وجنوده ... بالفتح يوم تكسّر الأصنام لرأيت نور الله أصبح بيّنا ... والشّرك يغشى وجهه الإظلام وكان عليه صلّى الله عليه وسلّم لما دخل مكة عمامة سوداء، فوقف على باب الكعبة، وقال: لا إله إلا الله واحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب واحده» ، ثم ذكر صلّى الله عليه وسلّم خطبة بيّن فيها جملة من الأحكام، منها: ألايقتل مسلم بكافر، ولا يتوارث أهل ملّتين مختلفتين، ولا تنكح المرأة على عمتها ولا على   (1) انظر ص 355 في القول بأن مكة فتحت صلحا لا عنوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 خالتها، والبينّة على المدعى واليمين على من أنكر، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة ليال إلا مع ذى محرم، ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح، (أى من النوافل) ، ولا يصام يوم الأضحى ولا يوم الفطر. ثم قال: يا معشر قريش إنّ الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعاظمها بالاباء، الناس من ادم، وادم من تراب ثم تلا هذه الاية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا الاية، ثم قال: يا معشر قريش، فاجتمع به المشركون في المسجد الحرام ايسين من أرزاقهم، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى دخل المسجد الحرام، وأحاط جيشه بالمسجد، ودخل معه خواصه، وفتح له باب الكعبة حتّى دخل وصلّى بها، وأقام الخواص حول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأيديهم على مقابض سيوفهم، وهم ينتظرون أمره بوضع السيف في أعدائهم، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقام على عتبة الباب، وأقبلت قريش وهم منكسو رؤسهم خوفا وحزنا، فقال: «يا أهل مكة بئس العشير كنتم لنبيكم، كذّبتمونى وصدّقنى الناس، وأخرجتمونى واوانى الناس، وقاتلتمونى ونصرنى الناس، والان قد أظهرنى الله عليكم كما ترون، فما ترونى فاعلا بكم؟ فقام سهيل بن عمرو- وهو كان من رؤساء قريش- وقال: يا محمد أنت أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت؛ إن عذّبتنا فبجرم عظيم، وإن عفوت عنا فبحلم قديم. فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وجوههم، وقال: «بل أقول مثل ما قال أخي يوسف عليه السلام: «لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم» اذهبوا فأنتم الطلقاء» «1» فأعتقهم صلّى الله عليه وسلّم جميعا ولم يسب ذراريهم، وكان الله قد أمكنه منهم، فكانوا له فيئا، فبذلك سمى أهل مكة الطلقاء، أى الذين أطلقوا فلم يسترقوا، ولم يؤسروا، والطليق هو الأسير إذا أطلق. وروى أن عائشة رضى الله عنها نذرت إن فتح الله مكة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تصلّى في البيت ركعتين، فلما فتحت مكة وحجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حجة الوداع سألت النبى صلّى الله عليه وسلّم أن يفتح لها باب الكعبة ليلا لتوفى   (1) لما كان فتح مكة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة أرسل إلى صفوان بن أمية، وإلى أبى سفيان بن حرب، وإلى الحارث بن هشام، قال عمر بن الخطاب: فقلت: «قد أمكن الله منهم لأعرفهم بما صنعوا» حتى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مثلى ومثلكم كما قال يوسف لإخوته: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ، الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ قال عمر: فانفضحت حياء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كراهية أن يكون بدر منى، وقد قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال» . (والحديث أخرجه ابن عساكر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 نذرها، فجاء عثمان بن طلحة رضى الله عنه بالمفتاح إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: يا رسول الله، إنها لم تفتح ليلا قط، قال: فلا تفتحها. ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدها وأدخلها الحجر، وقال: «صلّى هاهنا؛ فإن الحطيم (أى الحجر) من البيت، إلا أن قومك قصرت بهم النفقة (أى الحلال) فأخرجوه من البيت، ولولا حدثان قومك بالجاهلية لنقضت بناء الكعبة، وأظهرت قواعد الخليل، وأدخلت الحطيم في البيت، وألصقت العتبة على الأرض، ولئن عشت إلى قابل لأفعلن ذلك» ولم يعش صلّى الله عليه وسلّم، ولم تتفرغ الخلفاء لذلك «1» . ولما اطمأن الناس خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الطواف؛ فطاف بالبيت سبعا على راحلته، واستلم الركن، ودخل الكعبة ورأى فيه الشخوص على صور الملائكة، وصورة إبراهيم وفي يده الأزلام يستقسم بها، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام! ما شأن إبراهيم والأزلام؟! ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا، ولكن كان حنيفا مسلما، وما كان من المشركين» ثم أمر بتلك الصور فطمست، وصلّى في البيت، ثم جلس على الصفا فاجتمع الناس لبيعته على الإسلام، فكان يبايعهم على السمع والطاعة لله ولرسوله، فبايع الرجال، ثم النساء «2» . روى أن النبى صلّى الله عليه وسلّم عهد إلى أمرائه حين أمرهم أن يدخلوا مكة ألايقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أحد عشر رجلا وست نسوة، فإنه أمر بقتلهم أينما ثقفوا من الحل والحرم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة. أما الرجال الأحد عشر: فأحدهم عبد الله بن خطل (رجل من بنى تميم بن غالب بن فهر، وقد كان قدم بالمدينة قبل فتح مكة وأسلم، وكان اسمه عبد   (1) بل إنهم قد نهوا عن ذلك، لئلا يتخذه الملوك لعبة لهم، كلما جاء ملك جدد، فهدم وبني، وبيت الله ينزه عن ذلك، كما قال عبد الله بن عباس لابن الزبير رضى الله عنهما- حينما كان محصورا بمكة من قبل الحجاج بن يوسف، وأصاب الكعبة المنجنيق- فقال عبد الله بن عباس: دعها على ما أقرّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإني أخشى أن يأتى بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبني، فيتهاون الناس بحرمتها، ولكن ارفعها. (انظر الجامع اللطيف في فضل مكة والبيت الشريف ص 86) . (2) كانت مبايعته للنساء كلاما باللسان فقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 العزّي، فغيّر النبى صلّى الله عليه وسلّم اسمه وسمّاه عبد الله) . والثانى عبد الله بن سعد بن أبى سرح، أخو عثمان بن عفان من الرضاعة، فبالغ عثمان في شفاعته، ثم قال بعد ما أعرض عنه النبى صلّى الله عليه وسلّم مرارا: يا رسول الله أمّنته صلّى الله عليه وسلّم فصمت طويلا، ثم أمّنه، فأسلم، وقال صلّى الله عليه وسلّم: إنما صمتّ ليقوم أحدكم فيقتله، فقالوا: هلّا أو مأت إلينا؟ فقال: إن الأنبياء لا تكون لهم خائنة الأعين صلّى الله عليه وسلّم وكان أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان يبدّل القران، ثم ارتدّ وهرب إلى مكة، ثم أسلم يوم الفتح وعاش إلى خلافة عثمان، وولّاه مصر «1» صلّى الله عليه وسلّم والثالث: عكرمة بن أبى جهل، استأمنت له زوجته أمّ حكيم، وجاء عكرمة حتى وقف بحذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: يا محمد إن هذه أخبرتنى أنّك أمّنتني، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صدقت فإنك امن» ، فقال عكرمة: أشهد ألاإله إلا الله واحده لا شريك له وأنك عبد الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والرابع الحويرث بن نفيل، كان يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويهجوه، فقتله عليّ رضى الله عنه صلّى الله عليه وسلّم والخامس: المقيس- بكسر الميم وسكون القاف وفتح المثناة التحتية واخره سين مهملة- هو ابن صبابة الكندى- بالصاد المهملة المضمومة وبالمواحدتين- وجرمه أن أخاه هشام بن صبابة، قدم المدينة وأسلم، وكان مع النبى صلّى الله عليه وسلّم في غزوة المريسيع، فظن أنصارى من بنى عمرو بن عوف أنه مشرك فقتله خطأ؛ فقدم مقيس المدينة يطلب دم أخيه صلّى الله عليه وسلّم فأمر النبى صلّى الله عليه وسلّم الأنصارى بالدية، فعقل ديته، فأسلم مقيس، وبعد ما أخذ الدية قتل الأنصارى وارتد ورجع إلى مكة مشركا صلّى الله عليه وسلّم والسادس: هبّار بن الأسود، وكان كثيرا ما يؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر،   (1) وكان إسلامه في المرة الثانية عن عقيدة صحيحة والحمد لله رب العالمين. ذكر الذهبى في تاريخ الإسلام ص 138 ج 3 (خلافة الصديق- خلافة علي) أنه لما احتضر قال: اللهم اجعل اخر عملى صلاة الصبح، فلما طلع الفجر توضأ وصلّي، فلما ذهب يسلّم عن يساره فاضت نفسه رضى الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فعرض هبار مع جماعة لطريق زينب ومنعها، وضرب زينب «1» بالرمح فسقطت عن ناقتها، وكانت حاملا، فألقت حملها ومرضت وماتت بهذا المرض، فغضب عليه النبى صلّى الله عليه وسلّم غضبا شديدا، وأهدر دمه؛ ولما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة جاء هبار رافعا صوته؛ وقال: «يا محمد أنا جئت مقرّا بالإسلام، وقد كنت قبل هذا مخذولا ضالا؛ والان قد هدانى الله للإسلام، وأنا أشهد ألاإله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله» واعتذر إليه معترفا بذنبه، مظهرا لخجالته، فقبل النبى صلّى الله عليه وسلّم إسلامه، وقال: «يا هبار عفوت عنك، والإسلام يجبّ ما كان قبله» . والسابع صفوان بن أمية، ولما علم أن النبى صلّى الله عليه وسلّم أهدر دمه يوم فتح مكة هرب مع عبد له اسمه يسار إلى جدة يريد أن يركب منها إلى اليمن، فقال عمير بن وهب الجمحي: يا نبيّ الله إن صفوان بن أمية سيد قومي، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر، فأمّنه عليك، فقال: هو امن، قال: يا رسول الله: أعطنى شيئا يعرف به أمانك، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمامته التى دخل بها مكة، فخرج بها عمير حتّى أدركه بجدة، وهو يريد أن يركب البحر، فقال: يا صفوان فداك أبى وأمّي، واذكر الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال صفوان: هذا يزعم أنك أمّنتني؟ قال: صدق، قال: فاجعلنى في أمرى بالخيار شهرين، قال: أنت فيه بالخيار أربعة أشهر صلّى الله عليه وسلّم فلما خرج النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى حنين وهوازن، واستعار منه النبى صلّى الله عليه وسلّم مائة درع، فقال صفوان: أغصبا يا محمد؟ فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «بل عارية مضمونة» صلّى الله عليه وسلّم وحين قفل النبى صلّى الله عليه وسلّم من الطائف إلى الجعرّانة مرّ مع صفوان على شعب مملوء من الإبل والغنم وسائر أنعام الغنيمة، وكان صفوان يحدّ النظر إلى تلك الأموال، ولم يرفع بصره منها، وكان النبى يلاحظه، فقال: يا أبا وهب، أتعجبك هذه؟ قال: نعم، قال: وهبتها لك كلها، فقال صفوان: ما طابت نفس أحد بمثل هذا، إلا نفس نبى صلّى الله عليه وسلّم فأسلم هناك. والثامن: حارث بن طلاطلة- وهو من جملة مؤذى النبى صلّى الله عليه وسلّم- وفي يوم فتح مكة قتله علي بن أبى طالب. والتاسع: كعب بن زهير بن أبى سلمى المزنى الشاعر، صاحب- بانت سعاد-   (1) زينب ابنة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 القصيدة المشهورة، وكان يهجو النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فجاء وهو جالس في المسجد فدخل وأسلم، وأنشأ قصيدته التي أوّلها: بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ... ...... [فلما بلغ إلي قوله:] إن الرسول لنور يستضاء به ... مهنّد من سيوف الله مسلول أنبئت أنّ رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اسمعوا ما يقول» ، وقيل: فرح النبي «1» صلّى الله عليه وسلّم وكساه بردته جائزة له: فلما كان زمن معاوية أرسل إلى كعب: أن بعنا بردة النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ما كنت لأوثر ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدا، فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم ونقل الملك المؤيد أبو الفدا إسماعيل صاحب حماة في تاريخه أنه اشتراها بأربعين ألف درهم، ثم توارثها الخلفاء الأمويون والعباسيون، حتى أخذها «التتر» انتهى. والصحيح أن هناك بردتين: بردة كعب بن زهير، وهى التى اشتراها معاوية، وفقدت بزوال بنى أمية، والثانية هى التى أهداها صلّى الله عليه وسلّم لأهل أيلة في غزوة تبوك، وكتب لهم أمانا، واشتراها أبو العباس السفاح بثلاثمائة دينار، ولعلها هى التى أخذها التتر، وإلا فقد كانت عند الخلفاء يتوارثونها ويطرحونها على أكتافهم في المواكب جلوسا وركوبا، وكانت على المقتدر حين قتل وتلوّثت بالدم. وأخرج الإمام أحمد بن حنبل في الزهد عن عروة بن الزبير رضى الله عنه أن ثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى كان يخرج فيه للوفد، رداء حضرمي، طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر، فهو عند الخلفاء قد خلق وطووه بثياب تلبس يوم الأضحى والفطر صلّى الله عليه وسلّم انتهى. ولعل هذا هو الموجود في الخزينة الخديوية المصرية «2» . وكان إسلام كعب في السنة التاسعة.   (1) فرح النبى صلّى الله عليه وسلّم بإسلامه، لا بشعره، وكساه النبى صلّى الله عليه وسلّم البردة تأمينا له حتّى يطمئن، وأما شعره فدليل على حسن إسلامه رضى الله عنه. (2) الان بمسجد مولانا الحسين رضى الله عنه في حجرة المخلفات الشريفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 والعاشر: وحشىّ بن حرب، قاتل حمزة، وكان كثير من المسلمين حريصا على قتله، ويوم فتح مكة هرب إلى الطائف وأقام هناك إلى زمان قدوم وفد الطائف إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فجاء معهم ودخل عليه، وقال: أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: أنت وحشي؟ قال: نعم، قال: أأنت قتلت حمزة؟ قال: قد كان من الأمر ما بلغك يا رسول الله، قال: اجلس واحك لى كيف قتلته، ولمّا قصّ عليه قصة قتله، قال: أما تستطيع أن تغيّب وجهك عني! وكان وحشى بعد ذلك إذا رأى النبى صلّى الله عليه وسلّم يفرّ منه ويختفى. والحادى عشر: عبد الله بن الزبعري، وكان من شعراء العرب، وكان يهجو أصحاب النبى صلّى الله عليه وسلّم ويحرّض المشركين على قتالهم، ويوم الفتح لما سمع أن النبى صلّى الله عليه وسلّم أهدر دمه هرب إلى نجران وسكنها، وبعد مدة وقع الإسلام في قلبه، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلما راه من بعيد قال: هذا ابن الزبعري، ولما دنا منه قال: السلام عليك يا رسول الله، أشهد ألاإله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. * وأما النساء الست اللاتى أهدر النبى صلّى الله عليه وسلّم دماءهن يوم الفتح. فإحداهن هند بنت عتبة، وهى امرأة أبى سفيان. روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر جالس أسفل منه يبايعهن بأمره، ويبلغهن عنه، فجاءت هند ابنة عتبة- امرأة أبى سفيان- وهى متنكرة خوفا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعرفها لما صنعت بحمزة في كونها مثّلت به ومضغت كبده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أبايعكن على ألاتشركن بالله شيئا، فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ولا يسرقن، فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أصبت من ماله هناة؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت فهو لك حلال، فضحك النبى صلّى الله عليه وسلّم وعرفها، وقال لها: وإنك لهند؟ فقالت: نعم فاعف عما سلف يا نبى الله، فقال: عفا الله عنك، فقال: ولا يزنين، فقالت: أتزنى الحرة؟! فقال: ولا يقتلن أولادهن، فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا، فأنتم وهم أعلم (وكان ابنها حنظلة بن أبى سفيان قد قتل يوم بدر) ، فضحك عمر رضى الله عنه حتّى استلقي، وتبسم صلّى الله عليه وسلّم؛ ولما قال صلّى الله عليه وسلّم: ولا يأتين ببهتان يفترينه، قالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 والله إن إتيان البهتان لقبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. ولما قال: ولا تعصيننى في معروف؛ قالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في معروف، فلما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور. الثانية والثالثة «قريبة» بالقاف والمواحدة مصغرا، «والفرتنا» بالفاء المفتوحة والراء المهملة الساكنة والمثناة الفوقية والنون- كذا صحّحه القسطلانى في المواهب اللدنية، وهما قينتان «1» أى مغنيتان لابن خطل؛ وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمر بقتلهما مع ابن خطل- فأما «قريبة» فقتلت مصلوبة؛ وأما «فرتنا» ففرت حتّى استؤمن لها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمّنها؛ فامنت. الرابعة: مولاة بنى خطل: وقتلت يوم الفتح. الخامسة: مولاة بنى عبد المطلب: وقيل مولاة عمرو بن صيفى بن هاشم. السادسة: سارة: وهى التى حملت كتاب حاطب بن أبى بلتعة من المدينة ذاهبة إلى مكة إلى قريش؛ وأعطاها عشرة دنانير علي أن توصّل الكتاب إلى أهل مكة؛ وكتب في الكتاب: «من حاطب بن أبى بلتعة إلي أهل مكة؛ اعلموا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريدكم؛ فخذوا حذركم» . وكانت تؤذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة؛ وتغيبت يوم الفتح حتّى استؤمن لها؛ فعاشت حتّى أوطأها رجل فرسا له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها، وفي فتح البارى في شرح صحيح البخاري: أنها أسلمت. * وأذّن بلال الظّهر على الكعبة، فقالت جويرية بنت أبى جهل: لقد أكرم الله أبى حين لم يشهد نهيق بلال على ظهر الكعبة. وقال الحارث بن هشام: ليتنى متّ قبل هذا. وقال خالد بن أسيد: لقد أكرم الله أبى فلم ير هذا اليوم. فخرج عليهم صلّى الله عليه وسلّم ثم ذكر لهم ما قالوه؛ فقال الحارث: أشهد أنك رسول الله؛ ما اطّلع على هذا أحد فنقول أخبرك. فقام على رضى الله عنه- ومفتاح الكعبة في يده- فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية. فقال صلّى الله عليه وسلّم: أين عثمان بن   (1) ومنه تعلم أن الغناء إنما هو من صناعة الخدم عند العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 طلحة؟ فدعاه؛ فقال: «هاك مفتاحك يا عثمان؛ إن الله استأمنكم على بيته؛ فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف. وفي رمضان هذه السنة يوم الفتح أسلم أبو قحافة؛ والد أبى بكر رضى الله عنهما. روى أن أبا بكر لما جاء إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم بأبيه أبى قحافة ليسلم، قال له النبى صلّى الله عليه وسلّم: لم عنّيت الشيخ، ألا تركته حتّى أكون أنا اتيه في منزله؟! فقال أبو بكر: بأبى أنت وأمي؛ هو أولى أن يأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكانت امرأة أبى قحافة أم الخير- أم أبى بكر- قد أسلمت قديما في السنة السادسة من النبوة، واسم أبى قحافة عثمان بن عامر؛ توفى في السنة الرابعة عشرة من الهجرة، فى خلافة عمر، بعد وفاة أبى بكر رضى الله عنه بسنة، وكان ابن سبع وتسعين سنة. قال ابن هشام: وبلغنى أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين افتتح مكة ودخلها، قام على الصفا يدعو وقد أحدقت الأنصار، فقالوا فيما بينهم: أترون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله. فلم يزل بهم حتي أخبروه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم» . قال ابن إسحاق، وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة الاف، وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من رمضان سنة ثمان. واستقرض صلّى الله عليه وسلّم من ثلاثة نفر من قريش: أخذ من صفوان بن أمية رضى الله عنه خمسين ألف درهم، ومن عبد الله بن أبى ربيعة أربعين ألف درهم، ومن حويطب بن عبد العزّي أربعين ألف درهم، فرّقها صلّى الله عليه وسلّم في أصحابه من أهل الضعف، ثم وفّاها مما غنمه من هوازن، وقال: «إنما جزاء السلف الحمد والأداء» «1» . وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة حين فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة؛ ثم خرج إلى هوازن وثقيف، وقد نزلوا حنينا «2» .   (1) رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه عن عبد الله بن أبى ربيعة. بلفظ «الوفاء» بدل «والأداء» . (2) واد قريب من مكة، قبل الطائف، بجنب ذى المجاز سمى باسم حنين بن نائبة: رجل من العماليق؛ وكانت به الوقعة المشهورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 عن أبى هريرة رضى الله عنه أن خزاعة قتلت رجلا من بنى ليث، عام الفتح بقتيل لهم في الجاهلية، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطيبا بعد الظهر، مسندا ظهره الشريف إلى الكعبة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس: إنّ الله قد حبس عن مكة الفيل وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحلّ لأحد كان قبلي، ولا لأحد يكون بعدي، وإنما أحلت لى ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتى هذه، فلا ينفّر صيدها، ولا يختلى خلاؤها، ولا يعضّد شجرها، ولا تحلّ ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إما أن يود أو يقتد، فقال العباس بن عبد المطلب رضى الله تعالى عنه: إلا الإذخر: لصاغتنا ولسقف بيوتنا، قال صلّى الله عليه وسلّم: إلا الإذخر «1» ثم ودي «2» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك الرجل الذى قتلته خزاعة، وهو ابن الأقرع الهذلى- من بنى بكر- فإنه دخل مكة وهو على شركه، فعرفته خزاعة فأحاطوا به، فطعنه منهم خراش بمشقص في بطنه حتي قتله، فلامه صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «لو كنت قاتلا مسلما بكافر لقتلت خراش «3» » -[والمشقص: ما طال من النصال وعرض]- قال ابن هشام: وبلغنى أنه أوّل قتيل وداه النبى صلّى الله عليه وسلّم. وسرقت امرأة، فأراد صلّى الله عليه وسلّم قطع يدها، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد بن حارثة رضى الله عنهم، يستشفعون به، فلما كلّمه أسامة فيها تلوّن وجهه صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «أتكلمنى في حدّ من حدود الله تعالى؟!» فقال أسامة: استغفر لى يا رسول الله. ثم قام صلّى الله عليه وسلّم خطيبا، فأثنى علي الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد، فإنّ ما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف   (1) وفي رواية: «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، ألا فإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، ألا وإنها حلت لى ساعة من نهار، ألا وإنها ساعتى هذه، حرام لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها، ولا يلتقط ساقطتها، إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يعقل، وإما أن يقاد أهل القتيل» متفق عليه، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود. والخلا: الرطب من الحشيش، أى ولا يؤخذ حتّى حشيشها الرطب. (2) أعطى ديته. (3) وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقتل مسلم بكافر» رواه أحمد والترمذى وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وروى ابن ماجه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 أقاموا عليه الحد، والذى نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها «1» » . ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمرأة فقطعت يدها «2» . ثم قام أبو شاه- رجل من أهل اليمن- فقال: اكتبوا إليّ يا رسول الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اكتبوا إلي أبى شاه. [قال الأوزاعي: يعنى الخطبة التى سمعها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم] . * وفي هذه السنة كانت غزوة حنين، وهي: غزوة هوازن. وحنين اسم واد بقرب الطائف- بينه وبين مكة ثلاث ليال- وتسمّى غزوة «أوطاس» «3» وهو واد لهوازن. وسبب غزوة حنين أنه لما فتحت مكة تجمعت هوازن بخيولهم وأموالهم لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومقدّمهم مالك بن عوف النضري، وانضمت إليهم ثقيف، وهم أهل الطائف، وبنو سعد بن بكر، وهم الذين كان النبى صلّى الله عليه وسلّم مرتضعا عندهم «4» ، وحضر بنو جشم، وفيهم دريد بن الصمة، وقد جاوز المائة لرأيه، وقال رجزا: يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع فلما سمع النبى صلّى الله عليه وسلّم باجتماعهم، خرج من مكة لست خلون من شوال سنة ثمان من الهجرة، وكان يقصر الصلاة بمكة من يوم فتحها إلى خروجه هذا، وخرج معه اثنا عشر ألفا؛ ألفان من أهل مكة، والعشرة الاف التى كانت معه وفتح الله بها مكة، وانتهى إلى حنين، والمشركون بأوطاس، وقال رجل من   (1) وحاشاها أن تفعل، ولكنه مثال ضربه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أن الحدود لا يعفى منها أحد، ولو كان المحدود ابن الحاكم المؤتمر بأوامر الله لأقام عليه الحد كما فعل عمر بن الخطاب مع ابنه. وبهذا تستقيم الأمور، ويلتزم كل إنسان حده؛ لأنها أحكام الله، لا أحكام البشر. (2) هي امرأة من بنى مخزوم، والحديث في الصحيحين وأغلب كتب الحديث. (3) واد في ديار هوازن، فيه كانت وقعة حنين. (كذا في المراصد) . (4) قوم حليمة السعدية أم النبى صلّى الله عليه وسلّم من الرضاعة رضى الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 المسلمين- لمّا رأى كثرة جيش المسلمين-: لن يغلب هؤلاء من قلة، وفي ذلك نزل قوله تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً [التوبة: 25] فلما التقوا انهزم المسلمون، لا يلوى أحد على أحد، وانحاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات اليمين في نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، واستمر صلّى الله عليه وسلّم ثابتا، وتراجع المسلمون «1» واقتتلوا قتالا شديدا، وقال النبى صلّى الله عليه وسلّم لبغلته الدلدل «البدى البدي» فوضعت بطنها على الأرض، وأخذ حفنة من تراب فرمى بها في وجه المشركين، وقال: «شاهت الوجوه» (أى خضعت وذلت) فلم تبق عين إلا دخل فيها من ذاك التراب، فكانت الهزيمة عليهم، ونصر الله المسلمين، وأنزل الله تعالى وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] وقال عليه الصلاة والسلام: «أنا النبى لا كذب أنا ابن عبد المطلب» «2» وهذا يدل على كمال شجاعته وتمام صولته وقوته صلّى الله عليه وسلّم؛ إذ في هذا اليوم الشديد اختار ركوب البغلة التى ليس لها كرّ ولا فرّ، كما يكون للفرس، ومع ذلك توجّه نحو العدو واحده، ولم يخف صفته ونسبه، وما هذا كله إلا لوثوقه بالله وتوكله عليه، وليس قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا النبى لا كذب» إلى اخره من الشعر؛ لأن شرطه، كما تقدّم في بناء المسجد الشريف، أن يكون عن قصد ورويّة، وإنما قال صلّى الله عليه وسلّم: أنا ابن عبد المطلب، ولم يقل أنا ابن عبد الله؛ لأن العرب كانت تنسبه صلّى الله عليه وسلّم إلى جده عبد المطلب لشهرته، ولموت عبد الله فى حياته، فليس من الافتخار بالاباء الذى هو من عمل الجاهلية، كما تقدّم في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا ابن العواتك» «3» . واستشهد من المسلمين أربعة، وقتل من المشركين أكثر من سبعين قتيلا، وأفضى المسلمون في القتال إلى الذرية، فنهاهم عن ذلك، ونادى مناديه: «من قتل قتيلا فله سلبه» «4» .   (1) أى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. (2) متفق عليه، ورواه الإمام أحمد، والنسائى عن البراء. وللحديث روايات أخرى، منها: «أنا النبى لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، أنا أعرب العرب، ولدتنى قريش، ونشأت في بنى سعد بن بكر، فأنّى يأتينى اللحن» رواه الطبراني عن أبى سعيد. (3) ولفظ الحديث كما رواه سعيد بن منصور الطبراني: «أنا ابن العواتك من سليم» . (4) وفي لفظ: «من قتل كافرا فله سلبه» متفق عليه، ورواه أبو داود، والترمذى عن قتادة، وأحمد وأبو داود عن أنس، وأحمد وابن ماجه عن سمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ولما فرغ صلّى الله عليه وسلّم من حنين بعث عبيدا [أبا عامر الأشعري] لغزوة أوطاس لطلب دريد بن الصمة وأصحابه، فهزمهم وقتلهم، واستشهد أبو عامر رضى الله عنه بعد قتله جماعة منهم، وكان في السبى الشيماء أخته صلّى الله عليه وسلّم من الرضاعة، واسمها «حذافة» ، وإنما غلب لقبها، فلا تعرف في قومها إلا به «1» . ولما هزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هوازن، وأمر بطلبهم، قال لجيشه: «إن قدرتم على بجاد- رجل من بنى سعد- فلا يفلتنّ منكم» ، فأخذته الخيل وضمّوه إلى الشيماء بنت الحارث (ويكني أبا ذؤيب كما يكنى بأبى كبشة) أخت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأتبعوهم فى السباق، وتعبت الشيماء بتعبهم، فجعلت تقول: والله أخت صاحبكم، فلم يصدّقوها، فأخذها طائفة من الأنصار، وكانوا أشدّ الناس على هوازن، فأتوا بها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا محمد إنى أختك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وما علامة ذلك؟ فأرته عضة بإبهامها، وقالت: هذه عضضتنيها وأنا متوركة بوادى السدر ونحن يومئذ نرعى بهم أبيك وأبي، وأمك وأمي، وتذكّر يا رسول الله حلابى لك عنز أبيك. فعرف رسول الله العلامة فوثب قائما فبسط رداءه، ثم قال: اجلسى عليه، ورحّب بها، ودمعت عيناه، وسألها عن أمه وأبيه فأخبرته بموتهما «2» ثم قال: إن أحببت فأقيمى عندنا محبّبة مكرّمة، وإن أحببت أن ترجعى إلى قومك وصلتك ورجعت إلى قومك» قالت: بل أرجع إلى قومى. فأسلمت وأعطاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أعبد وجارية، وأمر لها ببعير أو بعيرين، وسألها من بقى منهم، فأخبرته بأخيها وأختها وبعمها، وأخبرته بقوم سألها عنهم، ثم قال: «ارجعى إلى الجعرانة تكونين مع قومك، فإني أمضى إلى الطائف» . فرجعت إلى الجعرانة،   (1) واسمها حذافة (بالحاء المهملة) ، ويقال: جذافة (بالجيم والذال المعجمتين) بنت الحارث، ولقبها «الشيماء» أو الشمّاء، وقد أكرمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين جاءت مسلمة، فهي أخت النبى صلّى الله عليه وسلّم من الرضاعة، وصحابية جليلة رضى الله عنها. (2) كون أبيه وأمه من الرضاعة ماتا قبل ذلك غير صحيح؛ لأن حليمة السعدية رضى الله عنها (أمّ النبى صلّى الله عليه وسلّم من الرضاع) جاءت إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين أيضا فقام لها النبى صلّى الله عليه وسلّم وبسط لها رداءه، وأسلمت. وروى حديث الرضاعة عنها: أبو يعلي، وابن حبان في صحيحه، وفي «السيرة الكبري» لابن إسحاق، ورواه أبو داود، وابن منده وغيرهم، وصرّحوا فيه برواية عبد الله بن جعفر عنها، وأبوه من الرضاع أيضا أسلم بعد انتقال النبى صلّى الله عليه وسلّم، أسلم وحسن إسلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ووافاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجعرانة، فأعطاها نعما وشاء، وكلّمته في بجاد: أن يهبه لها ويعفو عنه، ففعل صلّى الله عليه وسلّم. وقد سبق بعض ذلك في الفصل الأوّل من الباب الأوّل من المقالة الخامسة من الجزء الثانى. * وورد في الحديث النبوى أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج وهو محتضن أحد ابنى ابنته رضى الله عنها وهو يقول: «إنكم لتجبّنون وتبخلّون، وتجهّلون، وإنكم لمن ريحان الله، وإنّ اخر وطأة «1» وطئها الله بوج «2» » انتهى. قال العلماء: إن هذا الحديث من خفيّ التعريض وغامضه؛ فإن «وج» واد من الطائف، و «حنين» واد قبله، فأراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزاة حنين؛ لأن غزوة حنين اخر غزوة أوقع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع المشركين، وأما غزوتا الطائف وتبوك اللتان كانتا بعد حنين فلم يكن فيهما وطأة، أى قتال، وإنما كانتا مجرد خروج إلى الغزو من غير ملاقاة عدوّ ولا قتال، ووجه عطف هذا الكلام، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم «وأن اخر وطأة وطئها الله بوج» على ما قبله من الحديث، وهو التأسف على مفارقة أولاده لقرب وفاته؛ لأن غزوة حنين كانت في شوال سنة ثمان، ووفاته كانت في ربيع الأوّل من سنة إحدى عشرة، وبينهما سنتان ونصف، فكأنه قال: وإنكم لمن ريحان الله أى من رزقه، وأنا مفارقكم عن قريب، إلا أنه صانع عن قوله: «وأنا مفارقكم عن قريب» على سبيل التعريض بقوله «وإن اخر وطأة وطئها الله بوج» إشارة لما أراده وقصده من قرب وفاته، بحصول الغزوة المؤزرة. * وفيها توفيت زينب. وفيها غلا السعر، فقالوا: سعّر لنا» .   (1) الوطأة: الضغطة، كما في الحديث الشريف «اللهم اشدد وطأتك على مضر» وفي «المقاصد الحسنة» للسخاوي، ما لفظه: «ومن حديث عمر بن عبد العزيز قال: «زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج وهو محتضن حسنا وحسينا، وهو يقول: «إنكم لتجبّنون وتجهّلون، وإنكم من ريحان الله» وفيه بحث جيد فانظر ص 453. (2) «وج» واد بالطائف كانت به غزاة للنبى صلّى الله عليه وسلّم اهـ. مراصد. (3) فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله هو المسعّر القابض الباسط الرزاق، وإنى لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبنى بمظلمة في دم ولا مال» رواه الإمام أحمد وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، والبزار، وأبو يعلي. وصحح الحديث ابن حبان والترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وفيها ولد إبراهيم ابن النبى عليه الصلاة والسلام. وفيها مات حاتم الطائي، وكان شاعرا مجيدا يضرب بجوده المثل. وقيل: مما ورد أن الذين تأسّف عليهم النبى صلّى الله عليه وسلّم في زمن الفترة كانوا أربعة: الأوّل: الملك أنوشروان لعدله، والثاني: أبو طالب عم النبى صلّى الله عليه وسلّم لبرّه، والثالث: حاتم الطائى لكرمه، والرابع: امرؤ القيس لشعره «1» . ففى غزوة حنين وسرية أوطاس وقع من إعلاء كلمة الله وإظهار شوكة الإسلام ما لا مزيد عليه، ونال فيها كثير من المسلمين أجر الشهادة، وانهزمت ثقيف إلى الطائف، وكان هذا سبب غزوة الطائف. وفي هذه السنة كانت غزوة الطائف: والطائف بليدة كثيرة الفواكه، وهي أبرد مكان بالحجاز، وربما جمد الماء في ذروة الجبل التى هى على ظهره، وأكثر ثمرها الزبيب، وهى طيبة الهواء ينتجع إليها أغنياء مكة أيام الصيف لذلك. وسبب هذه الغزوة أنه لما انهزمت ثقيف من حنين إلى الطائف، وأغلقوا مدينتهم، سار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحاصرهم نيفا وعشرين يوما، وقاتلهم بالمنجنيق، ودخل نفر من المسلمين تحت دبابة (بدال مهملة وباءين مواحدتين بينهما ألف لينة اخره هاء: الة تتخذ للحروب، فتدفع في أصل الحصن، فينقبون وهم في جوفها) ودنوا إلى سور الطائف، فصبّوا عليهم سلك الحديد المحمى ورموهم بالنبل، فأصابوا منهم قوما، وأمر صلّى الله عليه وسلّم بقطع أعنابهم، ثم رحل عنهم ونزل   (1) لو أنه ورد فيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم شيء لكان على العين والرأس، ولكنه قيل علي الظّنّة، ولذلك قال الحليمى رحمه الله تبارك وتعالى: «إطلاق العادل عليه لتعريفه بالاسم الذى كان يدعى به، لا لوصفه بالعدل والشهادة له بذلك، بناء علي اعتقاد المعتقدين فيه، إلى أن قال: «ولا يجوز أن يسمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من لم يحكم بغير حكم الله عادلا» اهـ. وأما امرؤ القيس فقال فيه عليه الصلاة والسلام: «امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار» رواه الإمام أحمد، وقال أيضا: «امرؤ القيس قائد لواء الشعراء إلى النار؛ لأنه أحكم قوافيها» رواه أبو عروبة في الأوائل، وابن عساكر. ومن المعروف أن أهل الفترة ناجون إلا جماعة ذكرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالاسم منهم امرؤ القيس، ومن المعروف أن امرأ القيس كان رجل خمر ونساء، وذا لسان مقذع في وصف النساء، مما كان يهيج العرب ويوقع بعضهم ببعض، والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 بالجعرانة، واجتمعت فيها الغنائم، وأتى إليه بعض هوازن ودخلوا عليه يستعطفونه، وقالوا: قد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك، وإنّ فيمن أصبتهم الأمهات والأخوات، والعمات والخالات (يريدون: عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتى كن يكفلنك لأن مرضعته صلّى الله عليه وسلّم من هوازن) ونرجو عطفك. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أحسن الحديث أصدقه؛ أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ فاختاروا إحدى الطائفتين، إما السبى وإما المال» ، فقالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، اردد علينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحب إلينا ولا نتكلم في شاة ولا بعير. فردّ عليهم نصيبه ونصيب بني عبد المطلب، قائلا: «أما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت الظهر بالناس فقوموا وقولوا: إنّا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في نسائنا وأبنائنا، فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم، فلمّا صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر قاموا إليه فتكلموا بالذى أمرهم به، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أن أثنى على الله بما هو أهله: «أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاؤا تائبين، وإنى رأيت أن أردّ إليهم سبيهم فمن أحبّ أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظّ حتّى نعطيه إياه من أوّل ما يفيء الله علينا فليفعل، هؤلاء القوم جاؤا مسلمين، وقد خيّرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئا، فمن كان عنده من النساء سبى وطابت نفسه أن يردّه فليردّه» ، قال الناس: رضينا وسلّمنا. فردّوا عليهم نساءهم وأبناءهم، ثم لحق مالك بن عوف مقدّم هوازن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم وحسن إسلامه، واستعمله في قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل، وكانت عدة السبى الذى أطلقه ستة الاف. وروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما عرض عليه سبى هوازن، كان ممن عرض عليه بنت حاتم الطائي، فقالت: يا رسول الله أنا بنت من كان يحمل الكلّ (أى الشيء الذى يحصل منه التعب) ويكسب المعدوم (أى يعطيه له تبرعا) ويعين على نوائب الزمان، أنا بنت حاتم الطائي، فمنّ عليها صلّى الله عليه وسلّم وردّ لها مالها: وقال: «أكرموا عزيز قوم ذلّ، وغني قوم افتقر» ، فقالت: يا رسول الله وصويحباتي؟ فقال: «وصويحباتك، كريمة بنت كريم» فقالت: يا رسول الله أتأذن لى أن أدعو لك بدعوات؟ فأذن لها، وقال لأصحابه: أنصتوا وعوا، فقالت: «شكرتك يد افتقرت بعد غني، ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر، وأصاب الله بمعروفك مواضعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلبت نعمة عن كريم إلّا وجعلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 سبيا لردّها، وحسبك هذا في اصطناع المعروف وإغاثة الملهوف» وقد سبق التنويه إلى ذلك في الفصل الثانى من الباب الخامس من المقالة الخامسة من الجزء الثانى من هذا التاريخ. قال القاضى محمد بن سلامة القضاعى في كتاب «الأنباء» : كان بها من السبايا ستة الاف، ومن الإبل والغنم ما لا يدرى عدده، واستعمل أبا الجهم بن حذيفة بن غانم القرشى على النفل (أى الغنيمة) يوم حنين. وذكر ابن الأثير في «الكامل» في أخبار يوم حنين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بالسبايا والأموال فجمعت إلى الجعرانة (وهى ما بين الطائف ومكة) وجعل عليها بديل بن ورقاء الخزاعي، انتهى. وبالجعرانة قسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الغنائم. وقيل: كانت عدّة الإبل أربعة وعشرين ألفا، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، ومن الفضة أربعة الاف أوقيه، وأعطى المؤلّفة قلوبهم مثل: أبي سفيان وابنيه (يزيد ومعاوية) وسهل بن عمرو، وعكرمة بن أبى جهل، والحارث بن هشام (أخا أبى جهل) ، وصفوان بن أمية، وغيرهم من قريش، وكذلك أعطى الأقرع ابن حابس التميمي، وعيينة بن حصن، ومالك بن عوف مقدّم هوازن، فأعطى لكل واحد من الأشراف مائة من الإبل، وأعطى الاخرين أربعين أربعين، وأعطى العباس بن مرداس السلمي أباعر لم يرضها، وقال في ذلك أبياتا: أتجعل نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لم يرفع أى ومن تخفضه بعدم الإعطاء لا يرتفع بعد ذلك، والعبيد بضم العين اسم فرسه. ويروى أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقطعوا عنّى لسانه «1» » فأعطى حتّى رضي،   (1) هذا من ألطف الكنايات وأجملها، إذ معناه أنه يقول لهم: سدوا حاجته حتّى لا يسأل بلسانه مرة أخرى، وفيه دعوة إلى أدب استعمال اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ومدح النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: رأيتك يا خير البريّة كلّها ... نشرت كتابا جاء بالحق معلما شرعت لنا دين الهدى بعد حودنا ... عن الحق لمّا أصبح الحق مظلما فمن مبلغ عنى النّبىّ محمدا ... وكل امرئ يجزى بما كان قدّما أقمت سبيل الحق بعد اعوجاجه ... وكان قديما ركنه قد تهدّما تعالى علوّا فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما ويقال إنه أنشد هذه الأبيات وامتدح بها النبى صلّى الله عليه وسلّم فأعطاه خلّة قطع بها لسانه، أى بقية من الغنيمة. ولما فرّق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغنائم ولم يعط الأنصار من ذلك شيئا، وجدوا في أنفسهم «1» ، فدعاهم صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن قريشا حديثو عهد بالجاهلية، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا، وترجعون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بيوتكم؟ قالوا: بلي، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار «2» ، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» «3» . ويومئذ قال ذو الخويصرة «من تميم» : لم تعدل هذه القسمة، ولا أريد بها وجه الله، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «سيخرج من ضئضيء (أى أصل) هذا الرجل قوم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرميّة، لا يجاوز إيمانهم تراقيهم» فخرج منه حرقوص بن زهير البجلى المعروف بذى الثدية؛ لأن في رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض أوّل من بويع من الخوارج بالإمامة، وأوّل مارق من الدين. والخوارج قوم يكفّرون مرتكب الكبيرة، ويحكمون بحبوط عمل مرتكبها،   (1) أى حزنوا في أنفسهم، وليست من موجدة الغضب: معاذ الله. (2) ولفظ الترمذى- كما جاء في الفتح الكبير- «إن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإنى أردت أن أحبوهم وأ تألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ لو سلك الناس واديا أو شعبا لسلكت وادى الأنصار وشعبهم» . (3) رواه ابن ماجه بلفظ «رحم الله» والباقى سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وتخليده في النار، ويحكمون بأن دار الإسلام تصير بظهور الكبائر فيها دار كفر، ولا يصلّون جماعة. ثم اعتمر صلّى الله عليه وسلّم من الجعرانة، وعاد إلى المدينة، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وهو شاب لم يبلغ عشرين سنة، وترك معه معاذ بن جبل يفقه الناس، فحجّ بالمسلمين هذه السنة عتّاب المذكور، وهو أوّل أمير أقام حج الإسلام، وكان عليه الورع والزهد، وحجّ المشركون على مشاعرهم. وفي هذه السنة أسلم عروة بن مسعود الثقفى رضى الله عنه، وكان من حديث ثقيف: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما انصرف عنهم من الطائف اتبع أثره عروة بن مسعود حتي أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنهم قاتلوك» فقال عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبصارهم. وكان فيهم كذلك محيّبا مطاعا، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء ألايخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف لهم على عليّة «1» له وقد دعاهم إلي الإسلام، وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل جهة، فأصابه سهم فقتله، فقيل له: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمنى الله بها، وشهادة ساقها الله إليّ فليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنونى معهم. فزعموا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه» .   (1) العليّة: الغرفة، وجمعها: العلالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 الفصل التاسع في ظواهر السنة التاسعة وما فيها من الغزوات * وفي هذه السنة كانت غزوة تبوك، وهى اخر غزواته، وتبوك [بفتح التاء المثناة الفوقية وضم الباء المواحدة وسكون الواو وبعدها كاف] فى طرف الشام من جهة القبلة، بينها وبين المدينة المشرّفة نحو أربع عشرة مرحلة، سميت الغزوة بعين تبوك، وهى العين التي أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألايمسّوا من مائها شيئا حتي يأتى صلّى الله عليه وسلّم إليهم، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتّى يضحى النهار، فمن جاء بها فلا يمسّ من مائها شيئا حتي اتي» ، قال معاذ: فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان من المنافقين، والعين مثل الشراك تبضّ بشيء قليل من الماء، فسألهما النبى صلّى الله عليه وسلّم: هل مسستما من مائها شيئا؟ فقالا: نعم، فقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم أمر برفع ماء منها، فرفعوا له من تلك العين قليلا، حتى اجتمع شيء، ثم غسل صلّى الله عليه وسلّم فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجاءت العين بعد ذلك بماء كثير ببركة النبى صلّى الله عليه وسلّم، فاستقى الناس وكفاهم. ويقال لها غزوة العسرة، سميت بذلك لوقوعها في زمن الحر، والبلاد مجدبة والناس في عسر، ويقال لها: الفاضحة؛ لافتضاح المنافقين فيها. وحض صلّى الله عليه وسلّم من عنده من المسلمين على الجهاد، ورغّبهم فيه، وأمرهم بالصدقة، فجاؤا بصدقات كثيرة، وكان أوّل من جاء بها أبو بكر، جاء بماله كله [أربعة الاف درهم] وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس بن عبد المطلب بمال كثير، وجاء طلحة بمال، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتى أوقية من الفضة، وجاء سعد بن عبادة بمال، وجاء محمد بن مسلمة بمال، وجاء عاصم بن عدى بتسعين وسقا من تمر، وجهّز عثمان بن عفان ثلث ذلك الجيش، وكفاهم مئونتهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يضر عثمان بن عفان ما فعل بعد اليوم» «1» .   (1) وخرجه الترمذى وأحمد بلفظ: «ما على عثمان بعد هذه؟ (كررها مرتين) » كذا في الرياض النضرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وسار صلّى الله عليه وسلّم إلى تبوك، واستخلف عليّا رضى الله عنه على المدينة، وعلى عياله، فقال علي: أتخلفنى في الصبيان والنساء؟! قال: «ألا ترضى يا على أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبيّ بعدي» «1» . وليس المراد من هذا الحديث أن جميع المنازل الثابتة لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة لعلى من النبى صلّى الله عليه وسلّم، وإلا لما صحّ الاستثناء [كما تزعم الشيعة والرافضة] مستدلين به على استحقاقه الخلافة بعده صلّى الله عليه وسلّم، بل المراد أن عليّا خليفة عن النبى صلّى الله عليه وسلّم مدة غيبته بتبوك، كما كان هارون خليفة عن موسى مدة غيبته للمناجاة، وأما الإستثناء فمنقطع، والمعنى: لكنك لست نبيّا كهارون؛ لأنه لا نبى بعدي، ولئن سلم أن الحديث يعمّ المنازل كلّها فهو عام مخصوص؛ إذ من منازل هارون كونه أخا نبي «2» ، والعام المخصوص غير حجّة في الباقي، أو حجة ضعيفة على الخلاف «3» . وكان مع النبى صلّى الله عليه وسلّم ثلاثون ألفا، وكانت الخيل عشرة الاف، وتخلّف عبد الله ابن أبيّ [المنافق] ومن تبعه من أهل النفاق، وتخلف ثلاثة من الصحابة، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، ولم يكن لهم عذر، ثم رجع النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة بعد أن أقام بتبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم يجلس الناس، فلما فعل   (1) رواه مسلم والترمذى عن سعد، والترمذى عن جابر، ورواه أبو حاتم وابن إسحاق، والحافظ الدمشقى في معجمه بمعناه، والسلفى في النسخة الدمشقية. (2) وأيضا فإنه أرسل كما أرسل موسى صلّى الله على نبينا وعليه وسلّم. (3) بل هو حجة قوية؛ لأن عموم اللفظ أشمل من خصوص السبب، أما عن زيادة سيدنا هارون، فهى بالنسبة للرسالة، وهذا أمر لا يجادل فيه أحد، وباء التشبيه، أو كاف التشبيه في قوله: «بمنزلة» أو «كمنزلة» تفيد وجه شبه ما، إلا أنه ليس تامّا، ومن أوجه الشبه أنه أخوه، وإن كان ابن عمه؛ لأنه عاش معه عيشة الأخ الكامل الأخوة، وقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله جعل ذرية كل نبى في صلبه وجعل ذريتى في صلب علي» فيه إشارة واضحة على الاتحاد الكامل في الأصل، والفرقة في الشخص فقط ... ولقد بلغ الأمر أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو الذى سمّى حسنا وحسينا ومحسنا، علي أسماء أولاد هارون عليه الصلاة والسلام: «شبرا وشبيرا ومشبرا» وقال في الحسين رضى الله عنه: «فيه لثغة ورثها من عمه موسي» فمن أين يأتى الميراث إذا لم يكن هناك شبه يكاد يكون كاملا؟! والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ذلك جاء المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون، وكانوا فوق الثمانين رجلا، فتقبّل منهم النبى صلّى الله عليه وسلّم علانيتهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى. ثم جاءه كعب بن مالك، وكان قد تقدّمه مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، فسألهم عن سبب تخلفهم، فاعترفوا ألاعذر لهم، فأمرهم بالمضيّ حتي يقضى الله فيهم، ونهى صلّى الله عليه وسلّم عن كلامهم من بين من تخلف عنه، فاجتنبهم الناس، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فلبثوا علي ذلك خمسين ليلة، ولما مضت أربعون ليلة من الخمسين أمرهم النبى صلّى الله عليه وسلّم باعتزال نسائهم، وجاءت امرأة هلال إليه صلّى الله عليه وسلّم لتستأذنه في خدمة هلال، فأذن لها من غير أن يقربها. فلما مضت خمسون ليلة من حين النهى عن كلامهم نزلت توبتهم، فأخبر النبى صلّى الله عليه وسلّم بتوبة الله عليهم، وذهب الناس يبشرونهم، وجاء كعب إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو «1» يبرق وجهه من السرور، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك، فقال: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله عز وجل؟ فقال: بل من عند الله عز وجل. وأنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ [التوبة: 117] إلى قوله تعالى: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] . قال كعب: فو الله ما أنعم الله عليّ نعمة قط بعد أن هدانى للإسلام أعظم في نفسى من صدقى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأن أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ [التوبة: 96] إلى قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [التوبة: 95] . وأما ما ورد «هجر المسلم أخاه فوق ثلاثة أيام حرام» «2» محلّه إذا كان لحظوظ   (1) الضمير يرجع إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم. (2) ورواية مسلم عن ابن عمر: «لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» . وروى ابن نافع رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام: «هجر المسلم كسفك دمه» . وروى الإمام أحمد والبخارى ومسلم وأبو داود والترمذي: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذى يبدأ بالسلام» وفي رواية ... «لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث، فليأته فليسلّم عليه، فإن ردّ السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يردّ السلام فقد باء بالإثم» رواه أبو داود. وفي رواية: «لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 النفس أو لتعلقات الدنيا، وأما إذا كان المهجور مبتدعا أو متجاهرا بالفسق ونحو ذلك فلا تحرم هجرته، لما ثبت من هجر النبى صلّى الله عليه وسلّم الثلاثة الذين خلّفوا «1» . ولم يجاوز صلّى الله عليه وسلّم «تبوك» ، حيث استشار أصحابه في مجاوزتها، فقال له عمر رضى الله عنه: إن كنت أمرت بالسير فسر، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لو أمرت بالسير لم أستشركم فيه» فقال: يا رسول الله: إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنونا، وقد أفزعهم دنوّك، فلو رجعنا هذه السنة حتّى نرى أنفسنا أو يحدث الله أمرا. وهذا تصريح بأن تبوك لم يقع فيها مقاتلة، ولا حصل فيها غنيمة، وإنما أتاه صلّى الله عليه وسلّم وهو بها «يحنّة» (بضم المثناة تحت، وفتح الحاء المهملة ثم نون مشدّدة مفتوحة، ثم تاء التأنيث) «ابن روبة» (بالمواحدة) صاحب «أيلة» «2» وصحبته أهل «جرباء» تأنيث أجرب، يمد ويقصر، قرية بالشأم، وأهل (أذرح) «3» بالذال المعجمة الساكنة والراء المهملة المضمومة والحاء المهملة (مدينة تلقاء السراة) و «أهل مينا» ، وأهدى «يحنّة» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغلة بيضاء، فكساه صلّى الله عليه وسلّم بردا، وهو البردة التي كانت عند خلفاء بنى العباس، اشتراها من أهل (أيلة) «4» أبو العباس السفاح بثلاثمائة دينار، وكانت التى اشتراها معاوية من ذرية كعب بن زهير، فقدت عند زوال دولة بنى أمية «5» . وقد تقدم في غزوة فتح مكة أن بردة النبى صلّى الله عليه وسلّم التى خلعها على كعب بن زهير جائزة علي قصيدته المشهورة، قد اشتراها معاوية من ذريته، ثم فقدت بزوال بني أمية، بخلاف هذه. فليراجع في مخله «6» .   (1) إن النبى صلّى الله عليه وسلّم قبل ممن قبل، ولم يقبل من هؤلاء الثلاثة لأن لهم منزلة عنده صلّى الله عليه وسلّم، فأراد أن يؤدبهم أدبا خاصا، إسلاميا صرفا، لا لقصد الهجر، فهجر المسلم لأمر من الأمور الدنيوية هو المذموم، أما إن كان لأجل الدّين فهو المطلوب. (2) مدينة على ساحل بحر القلزم (البحر الأحمر) مما يلى الشام، وهى اخر الحجاز وأوّل الشام. (3) بلد من أعمال عمان، بالبلقاء من أرض الشام، قرب السراة من ناحية الحجاز. (4) بضم الراء، بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة، من نواحى بلقان وعمان. (5) هناك بردتان: إحداها اشتراها معاوية من ذرية كعب بأربعين ألف درهم، والثانية أهداها النبى صلّى الله عليه وسلّم لصاحب أيلة نظير إهدائه البغلة، وهى التى اشتراها السفاح من أهل أيلة، وأخذها التتر. (6) فى الأصل: فى الفصل الرابع عشر من الباب الأوّل من المقالة الرابعة من الجزء الأوّل من هذا التاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 فصالح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم (يحنة) على إعطاء الجزية، فبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار، بعد أن عرض عليه الإسلام فلم يسلم، وكتب له ولأهل أيلة كتاب الصلح، وكتب أيضا لأهل أذرح وجرباء كتاب الصلح، وأن عليه مائة دينار في كل رجب، وصالح أيضا أهل (مينا) علي ربع ثمارهم، فمن هذا يفهم أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يتعرض فى غزوة تبوك لقتال الروم، وقد سبق الكلام عليه. ولما وصل صلّى الله عليه وسلّم تبوك كان هرقل بحمص، قدم من القسطنطينية إليها، وكانت قاعدة مملكته بالشام، وكانت في زمانهم أعظم من دمشق، ولم يكن همّ بالذى بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه من جمعه ولا حدّثته نفسه بذلك، وبعث صلّى الله عليه وسلّم دحية بكتاب إليه، فلما جاءه دعا قسّيسى الروم وبطارقتها، ثم أغلق عليه وعليهم، وقال: «قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم، وقد أرسل يدعونى إلى ثلاث خصال: إما أن أتبعه على دينه، أو أن أعطيه ما لنا على أرضنا، والأرض أرضنا، أو نلقى إليه الحرب، وو الله لقد عرفتم فيما تقرؤن من الكتب ليأخذن موضع قدميّ هاتين، فهلم فلنتبعه علي دينه، أو أن نعطيه مالا» فنحروا «1» نخرة رجل واحد، حتى خرجوا من برانسهم «2» ، وقالوا: أتدعونا إلى أن نذر النصرانية، أو نكون عبيدا لأعراب من الحجاز؟! فلما ظن أنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم، قال: إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم علي أمركم. ثم دعا رجلا من عرب تجيب، كان على نصارى العرب، فقال: ادع لى رجلا حافظا للحديث، عربيّ اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه. فجاء التنوخي، فدفع إليه هرقل كتابا، وقال: اذهب بكتابى هذا إلى هذا الرجل فما سمعته من حديثه، فاحفظ لى منه ثلاث خصال: هل يذكر صحيفته التى كتب بشيء؟ وانظر إذا قرأ كتابي، فهل يذكر الليل؟ وانظر إلى ظهره، هل فيه شيء يريبك؟ قال: فانطلقت بكتابه حتى جئته تبوكا، فإذا هو جالس بين ظهرانى أصحابه محتبئا علي الماء، فقلت: أين صاحبكم؟ قيل: ها هو ذا. فأقبلت أمشى حتّى جلست بين يديه، فناولته كتابي، فوضعه في حجره، ثم قال: ممن أنت؟ فقلت: أنا أحد تنوخ، قال: هل لك في الحنيفية ملة أبيك إبراهيم؟ قلت: إنى رسول قوم وعلي دين قوم، حتى   (1) النخير: صوت بالأنف. (2) جمع برنس: ثوب رأسه ملتصق به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 أرجع إليهم. فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56] يا أخا تنوخ إنى كتبت بكتاب إلى كسرى فمزّقه، والله ممزقه وممزق ملكه، وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير، قلت: هذه إحدى الثلاث التي أوصانى بها صاحبي، فأخذت سهما من جعبتى فكتبتها في جفن سيفي، ثم ناول الصحيفة رجلا عن يساره، قلت: من صاحب كتابكم الذى يقرأ لكم؟ قالوا: معاوية، فإذا في كتاب صاحبي: تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبحان الله، أين النهار إذا جاء الليل «1» ؟! فأخذت سهما من جعبتى فكتبت في جنب سيفي، فلما أن فرغ من قراءة كتابي، قال: إن لك حقا، وإنك رسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوّزناك بها، إنا سفر مرملون. فناداه رجل من أصحابه، فقال: أنا أجوّزه، ففتح رحله، فإذا هو بحلّة صفراء فوضعها في حجري، فقلت: من صاحب الجائزة؟ قيل لي: عثمان، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيكم ينزل هذا الرجل؟ فقال فتى من الأنصار: أنا، فقام الأنصاريّ وقمت معه، حتى إذا خرجت من طائفة المجلس نادانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: تعال يا أخا تنوخ، فأقبلت أهوى حتّى كنت قائما في مجلسى الذى كنت بين يديه، فحلّ حبوته على ظهره، وقال: «هاهنا امض لما أمرت به» فجلت في ظهره، فإذا أنا بخاتم النبوة عند غضروف كتفه مثل المحجمة «2» الضخمة» . فانصرف الرجل إلى هرقل، فذكر له ذلك، فدعا قومه إلى التصديق بالنبى صلّى الله عليه وسلّم؛ فأبوا حتّى خافهم علي ملكه، وهو في موضعه بحمص لم يتحرك ولم يزحف، وأهدى هرقل له صلّى الله عليه وسلّم هدية فقبلها، وفرّقها على المسلمين، وأقام صلّى الله عليه وسلّم بضع عشرة ليلة، ولم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة. ففى هذه الغزوة خرج النبى صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى الشام في العدد الذى لم يتم قبله مثله، كان العدد فيها ثلاثين ألفا، أو أكثر، وكانت الشّقّة بعيدة، ولهذا لم يور   (1) وفي الفتح الكبير في ضم الزيادة إلي الجامع الصغير: «سبحان الله، أين الليل إذا جاء النهار» ؟ رواه الإمام أحمد. (2) المحجمة: القارورة التى يجمع فيها دم الحجامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فيها، بل أعلم الناس بوجههم ليكون تأهّبهم بحسب ذلك، ومع هذا الاجتهاد في الاستعداد لم يلق فيها حربا، ولا افتتح بلدا، وذلك لأن أجلّ فتوح الشام لم يكن بعد، فانتسخ العزم بالقدر وبجفاف القلم «1» . ورجع النبى صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وعلى المسلمين الوقار والسكينة من غير اضطراب عند انصراف العزيمة، وقد تقدم بعض ذلك «2» . * وفي هذه السنة هدم مسجد الضرار الذى ذكره الله تعالى في كتابه العزيز فى سورة براءة: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً ... [التوبة: 107] الاية أنزلت في جماعة من المنافقين بنوا مسجدا أيضا يضارّون به مسجد قباء، وكانوا اثنى عشر رجلا من أهل النفاق، وكانوا جميعا يصلّون في مسجد قباء، فبنوا مسجد الضرار ليصلّى فيه بعضهم، فيؤدّى ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة، ولما فرغوا أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يتجهّز إلى تبوك وقالوا: يا رسول الله قد بنينا مسجدا لذى العلة والحاجة والليلة المطيرة الشاتية، وإنّا نحب أن تأتينا وتصلّى لنا فيه، وتدعو بالبركة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا» ، ولما انصرف صلّى الله عليه وسلّم من تبوك ونزل ب «ذى ودان» (موضع قريب من المدينة) أتوه فسألوه إتيان مسجدهم، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القران، وأخبره الله خبر المسجد الضرار وما همّوا به، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامر بن عديّ، وعامر بن السكن، وقال لهم: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه» ، فخرجوا سريعا فحرقوه وهدموه، وتفرق عنه أهله. وفي دخول هذه السنة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالمدينة، قبل غزوة تبوك تتابعت الوفود من جميع الجهات؛ فإنهم كانوا منتظرين ما يقع له صلّى الله عليه وسلّم مع قومه، فلما حصل الفتح دخل الناس في دين الله أفواجا، وورد عليه عروة بن مسعود الثقفي، وكان غائبا عن حصار الطائف، فأسلم وحسن إسلامه فقال: أمضى إلى قومى وأدعوهم، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: إنهم قاتلوك. فكان كما قال؛ حيث رمى بسهم في سطح بيته، وهو يؤذّن للصلاة، فمات، ومنع قومه من الطلب بدمه، وقال: «هى   (1) يقصد قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جف القلم بما هو كائن» . (2) فى الأصل: «فى الفصل الرابع عشر من المقالة الرابعة من الجزء الأوّل» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 شهادة ساقها الله» ، وأوصى أن يدفن مع شهداء المسلمين، ثم قدم ابنه أبو المليح، وقارب «1» بن الأسود بن مسعود فأسلما، وضيّق مالك بن عوف علي ثقيف، واستباح سرحهم، وقطع سابلتهم (أى سبيلهم) ، وبلغهم رجوع النبى صلّى الله عليه وسلّم من تبوك، فوفدوا عليه فأسلموا، وسألوه أن يدع اللات التى كانوا يعبدونها لا يهدمها إلى ثلاث سنين، فأبي، فنزلوا إلى شهر فأبي، وسألوه أن يعفيهم من الصلاة، فقال: «لا خير في دين لا صلاة فيه» . فأجابوا، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب، فهدما اللات، وخرج نساء ثقيف حسرى يبكين عليها. وفيها بعث أبا بكر رضى الله عنه ليحج بالناس، ومعه عشرون بدنة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وثلاثمائة رجل، فلمّا كان بذى الحليفة أرسل عليّا رضى الله عنه في أثره وأمره بقراءة براءة، وايات من أوّل سورة البقرة على الناس، وأن ينادى «أن لا يطوف بالبيت بعد السنة عريان» (أى مكشوف العورة كما كانت الجاهلية تفعل ذلك) ولا يحجّ مشرك. وعن أبى هريرة قال: كنت مؤذّن عليّ رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلي أهل مكة ببراءة، فناديت: ألايدخل الجنة إلا نفس مؤمنة؛ ولا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة أشهر فإنّ الله بريء من المشركين ورسوله» . فعاد أبو بكر وقال: يا رسول الله هل نزل في شيء؟ قال: «لا، ولكن لا يؤدّى عنى غيرى أو إلا رجل من أهل بيتي) ، ألا ترضى يا أبا بكر أنك كنت معى في الغار؟ وصاحبى على الحوض؟» قال: بلي. فكان أبو بكر أميرا على الموسم، وعليّ يؤذن ببراءة «2» يوم الأضحي؛ وألايحج مشرك ولا يطوف بالبيت عريان؛ فلم يحج في العام بعد الذى حج فيه المصطفى حجة الوداع مشرك، وأنزل الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «3» .   (1) قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمر بن سعد بن عوف بن ثقيف (ابن أخي عروة بن مسعود) قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخوه أبو المليح فأسلما قبل قدوم وفد ثقيف، له ترجمة وافية في الإصابة فانظرها هناك. (2) براءة: هى سورة التوبة، أذن ببراءة: أي يعلمهم بها ويقرؤها عليهم. (3) سورة التوبة: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الفصل العاشر فيما وقع من وفود العرب عليه صلّى الله عليه وسلّم، وفي حجة الوداع * وفي هذه السنة بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد في ربيع أو جمادى في سرية (أربعمائة) إلى نجران وما حولها، يدعو بنى الحارث بن كعب إلى الإسلام ويقاتلهم إن لم يفعلوا، فأسلموا وأجابوا داعيته، وبعث الرسل في كل وجه، فأسلم الناس، فكتب بذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكتب إليه بأن يقدم مع وفدهم، فأقبل خالد ومعه وفد بنى الحارث بن كعب، منهم: قيس بن الحصين، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل، وعبد الله بن قراد الزيادي، وشدّاد بن عبد الله الضبابي، وعمرو بن عبد الله الضبابي، فأكرمهم النبى صلّى الله عليه وسلّم، وقال لهم: «بم كنتم تغلبون من يقاتلكم في الجاهلية؟» . قالوا: كنا نجتمع ولا نفترق، ولا نبدأ أحدا بظلم. قال: صدقتم. فأسلموا، وأمّر عليهم قيس بن الحصين، ورجعوا صدر ذى القعدة من سنة عشر، ثم أتبعهم عمرو بن حزم (من بنى النجار) ليفقههم في الدين ويعلّمهم السنّة، وكتب صلّى الله عليه وسلّم إليه كتابا عهد إليه فيه عهده، وأمره بأمره، وأقام عاملا على نجران، وهذا الكتاب وقع في السير مرويا، واعتمده الفقهاء في الاستدلالات، ومنه أخذت كثير من الأحكام الفقهية، ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم «هذا كتاب من الله ورسوله- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «1» عهد من محمد النبى لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله، وأن يبشّر الناس بالخير ويأمرهم به، ويعلّم الناس القران ويفهّمهم فيه، وأن ينهى   (1) المائدة: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الناس، فلا يمسّ القران إنسان إلا وهو طاهر، وأن يخبر الناس بالذى لهم والذى عليهم، ويلين للناس في الحق ويشتد عليهم في الظلم؛ فإنّ الله حرّم الظلم ونهى عنه، فقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، وأن يبشّر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها، ويستألف الناس حتّى يتفقّهوا في الدين، ويعلّم الناس معالم الحجّ وسننه وفرائضه وما أمر الله به، والحجّ الأكبر والحجّ الأصغر، وهو العمرة، وينهى الناس أن يصلّى أحد في ثوب واحد، إلا أن يكون واسعا يثنى طرفه على عاتقيه، وينهى أن يحتبى أحد في ثوب واحد، ويفضى بفرجه إلى السماء، وينهى أن يقص أحد شعر رأسه إذا عفا في قفاه، وينهى إذا كان بين الناس هيّج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر «1» وليكن دعاؤهم إلى الله واحده لا شريك له، فمن لم يدع إلى الله، ودعا القبائل فليقطعوه بالسيف، حتى يكون دعاؤهم إلى الله واحده لا شريك له، ويأمر الناس بإسباغ الوضوء في وجوههم وأيديهم إلى المرافق، وأرجلهم إلى الكعبين، وأن يمسحوا برؤوسهم كما أمرهم الله، وأمر بالصلاة لوقتها، وإتمام الركوع والسجود، وأن يغلّس بالصبح «2» ، ويهجّر «3» بالهاجرة حتّى تميل الشمس» ، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة، والمغرب حين «5» يقبل الليل؛ لا يؤخّر حتّى تبدو نجوم السماء، والعشاء أوّل الليل. وأمره بالسّعي إلى الجمعة إذا نودى لها، والغسل عند الرّواح إليها، وأمره أن يأخذ من الغنائم خمس الله، وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين، أو سقت السماء، وعلى ما سقى الغرب «6» نصف العشر، وفي كلّ   (1) الدعوة الخبيثة إلى القومية، والتى يحاول البعض إحياءها اليوم، وليعلموا أنه لا قومية في الإسلام- إنما المؤمنون إخوة أينما كانوا. (2) الغلس: بفتحتين: ظلمة اخر الليل، والغلس: أي الوقت الذى يختلط فيه اخر ظلمة الليل بأول ضوء النهار. (3) الهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر. (4) أى عن كبد السماء. (5) فى الأصل «حتى» ، ولا يستقيم الكلام بها. (6) الغرب: الدلو العظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 عشر من الإبل شاتان، وفي كل عشرين: أربع شياه، وفي كل أربعين من البقر: بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر: تبيع أو تبيعة (جذع أو جذعة) ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة (واحدّها شاة) فإنها فريضة الله التى افترضها على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له. وأنّ من أسلم من يهودى أو نصرانيّ إسلاما خالصا من نفسه، ودان بدين الإسلام، فإنه من المؤمنين، له مثل ما لهم وعليه ما عليهم. ومن كان على نصرانيته أو يهوديته، فإنه لا يردّ عنها، وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى حرّ أو عبد دينار واف أو عوضه ثيابا، فمن أدّى ذلك فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منع ذلك فإنه عدوّ لله ولرسوله وللمؤمنين جميعا، صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمته وبركاته» . * وقدم عليه وفد عامر، عشرة نفر، فأسلموا وتعلموا شرائع الإسلام، وأقرأهم أبيّ القران وانصرفوا. وقدم في شوال وفد سلامان، سبعة نفر، رئيسهم حبيب، فأسلموا وتعلموا الفرائض وانصرفوا. وفيها قدم وفد «ازدجرش» وفد فيهم صرد بن عبد الله الأزدى في عشرة من قومه، ونزلوا علي فروة بن عمرو، وأمّر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد أن أسلموا صردا على من أسلم منهم، وأن يجاهد المشركين حوله، فحاصر «جرش» ومن بها من خثعم وقبائل اليمن- وكانت مدينة حصينة، اجتمع إليها أهل اليمن حين سمعوا بزحف المسلمين- فحاصرهم شهرا ثم قفل عنهم، فظنوا أنه انهزم، فاتبعوه إلى جبل شكر، فصفّ وحمل عليهم ونال منهم، وكانوا بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رائدين، وأخبرهما ذلك اليوم بواقعة شكر، وقال: «إنّ بدن الله لتنحر عنده الان» ، فرجعا إلى قومهما وأخبراهم بذلك، وأسلموا، وحمى لهم حمّى حول قريتهم. وفيها كان إسلام همدان ووفادتهم على يد عليّ رضى الله عنه، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام، فمكث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 ستة أشهر لا يجيبونه، فبعث عليه الصلاة والسلام عليّ بن أبى طالب وأمره أن يقفل خالد، فلما بلغ عليّ أوائل اليمن جمعوا له، فلما لقوه صفّوا، فقدم عليّ الإنذار وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلمت همدان كلها في ذلك اليوم، وكتبت بذلك إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فسجد لله شكرا، ثم قال: السلام على همدان (ثلاث مرات) . ثم تتابع أهل اليمن علي الإسلام وقدمت وفودهم، وكان عمرو بن معديكرب الزبيدى قال لقيس بن مكشوح المرادي: اذهب بنا إلى هذا الرجل، فلن يخفى علينا أمره. فأبى قيس ذلك، فقدم عمرو على النبى صلّى الله عليه وسلّم فأسلم. وكان فروة بن مسيك المرادى علي زبيد؛ لأنه وفد قبل عمرو مفارقا لملوك كندة، فأسلم ونزل على سعد بن عبادة، وتعلم القران وفرائض الإسلام، واستعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة، فكان معه في بلاده حتّى كانت الوفاة. وفي هذه السنة قدم وفد عبد القيس، يقدمهم الجارود بن عمرو، وكانوا على دين النصرانية، فأسلموا ورجعوا إلى قومهم، ولما كانت الوفاة «1» وارتدت عبد القيس، ونصّبوا المنذر بن النعمان بن المنذر: ثبت الجارود علي الإسلام، وكان له المقام المحمود، وهلك قبل أن يرجعوا. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث العلاء بن الحضرمى قبل فتح مكة إلي المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم وحسن إسلامه، وهلك بعد الوفاة «2» ، وقبل ردة أهل البحرين. وفي هذه السنة قدم وفد بنى حنيفة (فى ستة عشر) فيهم مسيلمة بن حبيب الكذاب، ورجّال بن عنفوة، وطلق بن علي بن قيس، وعليهم سلمان بن حنظلة، فأسلموا وأقاموا أياما يتعلمون القران من أبيّ بن كعب سيد القرّاء، ومن فضلاء الصحابة، ورجّال يتعلم، وطلق يؤذّن لهم، ومسيلمة في الرّحال «3» . وذكروا للنبى   (1) أى وفاة النبى صلّى الله عليه وسلّم. (2) أى وفاة النبى صلّى الله عليه وسلّم. (3) ذكرها في السيرة بصيغة الضعف «قيل إن بنى حنيفة جعلوه في رحالهم» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 صلّى الله عليه وسلّم مكانه في رحالهم، فأجازه، وقال: «ليس بشرّكم مكانا «1» لحفظه رحالكم» . فقال مسيلمة: «عرف أن الأمر لى من بعده» . ثم ارتد، وادّعى مسيلمة بعد ذلك النبوة، وشهد له طلق «2» بن علي بن قيس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشركه في الأمر، فافتتن الناس به، وذلك أنه ادّعى النبوة، وأنه أشرك مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكتب إليه: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، فإني قد أشركت في الأمر معك، وإنّ لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون» . وكتب إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتّبع الهدي. أما بعد: فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» . وقد قيل إن ذلك كان بعد منصرف النبى صلّى الله عليه وسلّم من حجة الوداع. * وفيها قدم وفد كندة يقدمهم الأشعث بن قيس، فى بضعة عشر، وقيل: فى ستين، وقيل: فى ثمانين، وعليهم الديباج والحرير، وأسلموا، ونهاهم النبى صلّى الله عليه وسلّم عنه «3» فتركوه، وقال له أشعث: «نحن بنو اكل المرار» «4» يعتز بذلك؛ لأن لهم عليه ولادة من الأمهات، ثم قال لهم: لا، نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو «5»   (1) فى السيرة الحلبية أنه أمر له صلّى الله عليه وسلّم بمثل ما أمر به لواحد منهم- خمسة أواق من فضة، وقال: أما إنه ليس بشرّكم مكانا الخ» وليس هذا مدحا لمسيلمة، بل يفيد أن فيهم من هو شر منه وأفسد، لعنه الله، كيف وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «فى بنى حنيفة كذّاب ومبين» ؟. (2) وذلك شرّ من مسيلمة. (3) أى عن الحرير. (4) اكل المرار هو: الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتّع بن معاوية بن كندة. ويقال: بل اكل المرار: حجر بن عمرو بن معاوية. (5) نقفو: نتبع؛ لأن الانتساب لا يكون للأم، وقد قال قائلهم: يا ويح قوم يقال لهم: من أبوكم؟ فيقولون: أمنا من قريش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أمّنا، ولا ننتفى من أبينا» «1» . وقدم مع وفد كنانة وفد حضرموت، وهم بنو وليعة وملوكهم: جمد، ومخوس، ومشرح، وأبضعه، فأسلموا، ودعا لمخوس بإزالة الرتة «2» من لسانه. وقدم وائل بن حجر راغبا في الإسلام، فدعا له ومسح رأسه، ونودى «الصلاة جامعة» سرورا بقدومه، وأمر معاوية أن ينزل بالحرّة، فمشى معه، وكان راكبا فقال له معاوية: «أعطنى نعلك أتوقّى به الرمضاء، فقال: ما كنت لألبسها وقد لبستها، وفي رواية «لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك» فقال: أردفني؟ قال: لست من أرداف الملوك، ثم قال معاوية: إن الرمضاء قد أحرقت قدمي، فقال وائل: امش في ظل ناقتي، كفاك به شرفا، ويقال: إنه وفد على معاوية في خلافته فأكرمه، ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب له كتابا صورته: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب محمد النبى لوائل بن حجر قيل حضرموت، إنك إن أسلمت، لك ما فى يديك من الأرض والحصون، ويؤخذ منك من كل عشر واحدة، ينظر في ذلك ذو عدل، وجعلت لك ألاتظلم فيها معلم الدين. والنبى صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون أشهاد عليه» . * وفي هذه السنة قدم وفد محارب في عشرة، فأسلموا. * وفيها قدم وفد الرّها «3» من مذحج في خمسة عشر نفرا، وأهدوا فرسا، فأسلموا وتعلموا القران وانصرفوا، ثم قدم وفد منهم وحجّوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأوصى لهم بمائة وسق من خيبر جارية عليهم من الكتيبة، وباعوها من معاوية. * وفي هذه السنة قدم وفد نجران (النصاري) فى سبعين راكبا يقدمهم أميرهم   (1) كان من جدات النبى صلّى الله عليه وسلّم من هى من قبيلتهم ومنهن «دعد بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث: أكلاب بن مرة» . اهـ. من هامش سيرة ابن هشام. (2) الرتة: ثقل في اللسان في الكلام. (3) الرّها: بضم أوله، ويمد ويقصر: مدينة بالجزيرة فوق حران؛ بينهما ستة فراسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 العاقب عبد المسيح (من كندة) وأسقفهم أبو حارثة بن بكر بن وائل، والسيد (الأيهم) ، وجادلوا عن دينهم، فنزل صدر سورة ال عمران، واية المباهلة، فقال لهم النبى صلّى الله عليه وسلّم يوم المباهلة عن أمر ربه ... تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ «1» فقال عبد المسيح لقومه: «لا تباهلوا محمدا؛ فإني أرى معه وجوها «2» لو أقسمت علي الله أن يزيل الجبال لأزالها، فتهلكوا إلى اخر الأبد» . فأبوا المباهلة وأشفقوا منها، وسألوا الصلح، وكتب لهم به علي ألف حلة في صفر، وألف في رجب، وعلي دروع ورماح وخيل، وحمل ثلاثين من كل صنف، وطلبوا أن يبعث معهم واليا يحكم بينهم، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح، ثم جاء العاقب والسيد وأسلما، وقد أشار إلى ذلك الصفيّ الحلّى في بديعيته، فى مبحث العنوان، حيث قال مشيرا إلى هذه القصة: والعاقب الحبر من نجران، إنّ له ... يوم التباهل عقبي زلّة القدم والمباهلة: الملاعنة، قال جرير: لو أنّ تغلب جمعت أحسابها ... يوم التّباهل لم تزن مثقالا وهذا البيت من النزاهة (نوع من الهجاء) ، وهى عبارة عن الإتيان بألفاظ غير سخيفة تكون من أحسن الهجاء الذى إذا أنشدته العذراء في خدرها لا يعدّ من مثلها قبيحا. وهذه الواقعة مما يدل دلالة قطعية على نبوّته صلّى الله عليه وسلّم من وجهين: أحدهما أنه خوّفهم بنزول العذاب عليهم لوثوقه بذلك، وإلّا لأفحم إذا لم ينزل العذاب عليهم، وثانيهما أنّ تركهم مباهلته يدل على أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يفيد نبوته، وإلا لما أحجموا عن مباهلته، ويدل على تيقنهم هذا أنه قد نقل عنهم أنهم   (1) ال عمران: 61. (2) جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا، وفاطمة، والحسن، والحسين وقدّمهم أمامه، وجمعهم في كساء، وقال: «اللهم إن هؤلاء أهل بيتي» فلما راهم العاقب رجع فزعا وقال ما قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 قالوا لبعضهم: «إنه والله هو النبى المبشّر به في التوراة والإنجيل، وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصال» فكان ذلك تصريحا منهم بأن الامتناع عن المباهلة إنما كان لعلمهم بأنه نبى مرسل من عند الله تعالى، ويؤيد هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم «والذى نفسى بيده إن العذاب تدلّى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادى نارا، ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله، حتى الطير علي رؤس الشجر، ولما حال الحول على النصارى حتّى هلكوا كلهم» «1» . * وفي هذه السنة قدم وفد الصدف و «وككتف» من كندة- ينسبون الان إلى حضرموت- في بضعة عشر نفرا، فأسلموا، وعلّمهم أوقات الصلاة، وذلك في حجة الوداع. وفيها قدم وفد عبس. وفيها قدم وفد عدى بن حاتم (فى شعبان) . * وفيها قدم وفد خولان «2» عشرة نفر، فأسلموا وهدموا صنمهم. وكان قد وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هدنة الحديبية قبل خيبر: رفاعة بن زيد   (1) وروى البخارى عن حذيفة رضى الله عنه قال: «جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريدان أن يلاعنا قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل؛ فو الله لئن كان نبيا فلاعنّاه، لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالا: إنا نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا، فقال: «لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هذا أمين هذه الأمة» . وهذا الحديث رواه البيهقى في دلائل النبوة مطولا جدا. وفي رواية ابن مردويه: «قدم على النبى صلّى الله عليه وسلّم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه علي أن يلاعناه الغداة، قال: فغدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ بيد علي، وفاطمة، والحسن، والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا، وأقرا له بالخراج، قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذى بعثنى بالحق لو قالا: لا، لأمطر عليهم الوادى نارا» وقضية المباهلة مشهورة جدا، إذ نزل فيها قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [ال عمران: 61] . (2) خولان: اسم مخلاف من مخاليف اليمن (وهو بفتح الخاء) ينسب إلى خولان بن عمرو بن قضاعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 الضبيبى (من جذام) «1» وأهدى غلاما فأسلم، وكتب له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا يدعوهم إلى الإسلام، فأسلموا، ولم يلبث أن قفل دحية بن خليفة الكلبى منصرفا من عند هرقل، حين بعثه النبى صلّى الله عليه وسلّم ومعه تجارة، فأغار عليه الهنيد بن عوص «2» وقوم بنو الضليع (من بطون جذام) ، فأصابوا كل شيء معه، وبلغ ذلك المسلمين من بنى الضبيب، فاستنقذوا ما أخذه الهنيد وابنه وردّوه على دحية، وقدم دحية على النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فبعث النبى صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة فى جيش من المسلمين، فأغار عليهم وقتلوا الهنيد وابنه في جماعة، وكان معهم ناس من بنى الضبيب، فاستباحوهم معهم، فركب رفاعة بن زيد ومعه زيد بن عمرو (من قومه) فقدموا على النبى صلّى الله عليه وسلّم وأخبروه الخبر، فقال: كيف أصنع بالقتلي؟ فقالوا: يا رسول الله أطلق لنا من كان حيا، فبعث معهم عليّ بن أبى طالب، وحمله على جمل وأعطاه سيفه، وأمره بردّ أموالهم، فسار عليّ إلى زيد ابن حارثة فلحقه بفيفاء الفحلتين «3» وأمره بردّ أموالهم، فردّها. * وفي هذه السنة قدم وفد عامر بن صعصعة، فيهم عامر بن الطفيل بن مالك، وأربد بن ربيعة بن مالك، فقال عامر للنبى صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد اجعل لى الأمر بعدك، قال: ليس ذلك لك ولا لقومك، قال عامر: اجعل لى الوبر ولك المدر «4» ، قال: لا، ولكن أجعل لك زعنة الخيل؛ فإنك امرؤ فارس، فقال: لأملأنها عليك خيلا ورجلا. ثم ولّوا، فقال: «اللهم اكفنيهم، اللهم اهد عامرا وأغن الإسلام عن عامر» «5» فرجعوا إلى بلادهم، فأخذ الطاعون عامرا في عنقه، فمات في طريقه (فى أحياء بنى سلول) وأصابت أخاه «أربد» صاعقة بعد ذلك. ثم قدم علقمة بن علاثة بن عوف، وعوف بن خالد بن ربيعة وابنه، وأسلموا.   (1) اسم قبيلة. (2) الهنيد بن عوص (بالصاد) ، وابنه عوص بن الهنيد. (3) الفيفاء: المفازة، والفحلتان: اسم موضع. (4) الوبر: يقصد أهل البادية. المدر: يقصد بها سكان البيوت المبنية. (5) اللهم اهد عامرا، أى بنى عامر، واغن عن عامر: أي عن ذلك الرجل الذى قال ما قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 * وفيها قدم وفد طيء (فى خمسة عشر نفرا) يقدمهم سيدهم: زيد الخيل، وقبيصة بن الأسود (من بنى نبهان) فأسلموا، وسمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد الخير، وأقطع له بئرا وأرضين معها وكتب له بذلك، ومات في مرجعه. * وفي هذه السنة كانت حجة الوداع، وتسمى حجة الإسلام. وسميت حجة الوداع لأن النبى صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس فيها وأوصاهم، وقال: «لعلكم لا ترونى بعد عامى هذا» وودّعهم. واختلف: هل كان صلّى الله عليه وسلّم فيها مفردا أو قارنا أو متمتعا، قال النووي: والصحيح أنه كان أولا مفردا، ثم أحرم بالعمرة بعد، وأدخلها علي الحج، فصار قارنا؛ فمن روى الإفراد فهو الأصل، أو القران اعتمد اخر الأمرين، أو التمتاع: أراد التمتاع اللغوي، وهو الانتفاع والارتفاق، وبه تنتظم الأحاديث. وذلك أن النبى صلّى الله عليه وسلّم خرج حاجّا لخمس وعشرين من ذى القعدة سنة عشر، وكان معه من أشراف الناس جماعة، ومائة من الإبل عريا، ودخل مكة يوم الأحد لأربع خلون من ذى الحجة. وعن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بيته متدهنا مترجلا «1» ، حتى أتى ذا الحليفة، وأحرم في ثوبين من نسج «صحار» «2» : إزار ورداء، وخرج بنسائه جميعا، فدخل مسجد ذى الحليفة، فصلّى ركعتين، ثم ركب ناقته القصواء فلما استوت على ظهر البيداء أهلّ بالحج، ودخل صلّى الله عليه وسلّم مكة نهارا على راحلته، حتى انتهى إلى البيت، فلما رأى البيت رفع يديه فوقع زمام «3» ناقته، فأخذه بشماله، فبدأ بالطواف بالبيت قبل الصلاة، ولم يستلم من الأركان إلا اليمانيّ والأسود، ورمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحجر إلى الحجر في الأشواط الثلاثة،   (1) مترجلا: ماشيا على الرجل، من ترجّل الرجل: إذا مشى راجلا. (2) صحار (بالضم) : هضبة عمان، مما يلى الجبل. (3) زمام الناقة: خطامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وخطب صلّى الله عليه وسلّم قبل يوم التروية بيوم بعد الظهر، ويوم عرفة حين زالت الشمس «1» وهو على راحلته قبل الصلاة، والغد من يوم النحر بعد الظهر بمني، وساق في حجته مائة بدنة نحر منها ستين بيده بالحربة، ثم أعطى عليّا سائرها فنحرها، ولم يصم صلّى الله عليه وسلّم يوم عرفة، وصلّى الظهر والعصر بعرفة بأذان وإقامتين، ثم وقف بعرفة، ودفع حين غابت الشمس، فقصد في سيره «2» ، ثم صلّى المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ثم بات بالمزدلفة، ووقف على ناقته القصواء حين أسفر «3» ، ثم دفع ورمى جمرة العقبة يوم النحر على راحلته، ونحر بالمنحر، وقال: «كلّ منى منحرة» «4» ، وحمل حصاه من «جمع» ثم كان يرمى الجمار ماشيا، ويرمى يوم الصدر راكبا، وكان يرفع يديه عند الجمار ويقف، ولا يفعل ذلك عند جمرة العقبة، وزار البيت يوم النحر، ونفر يوم الصدر، فنزل بالأبطح في قبة ضربت له، فلما كان في اخر الليل خرج فودّع البيت، ثم مضى من وجهه إلى المدينة. وقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: إنّ أفضل أيامكم يوم النحر، ثم يوم القرّ، وهو اليوم الثاني. انتهي. [خطبة الوداع] : ولقيه عليّ بن أبى طالب بصدقات «نجران» وكان محرما فقال: حلّ كما حلّ أصحابك، فقال: إنى أهللت بما أهلّ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فبقى على إحرامه. ونحر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الهدي عنه، وعلّم صلّى الله عليه وسلّم الناس مناسك الحج والسنن، وخطب الناس بعرفة خطبة بيّن فيها الأحكام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدري، لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا.   (1) يعنى عن كبد السماء. (2) يعنى سار سيرا قصدا، أى تمهل في سيره عن السرعة. (3) يعنى وقت الإسفار، وهو الوقت الذى يكون بعد الفجر وقبل طلوع الشمس. (4) أى ينحر الحاج في أى مكان منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 أيها الناس إنّ دمائكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وحرمة شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم. وقد بلّغت؛ فمن كان عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، وإن كان ربا فهو موضوع، ولكم رؤس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله ألاربا؛ إنّ ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإنّ كلّ دم في الجاهلية موضوع كله، وإنّ أوّل دم أضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب (وكان مسترضعا في بنى سعد فقتله بنو هذيل) . أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقّرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم، إنما النسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم الله فيحلّوا ما حرّم الله، ألا وإنّ الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله، يوم خلق الله السموات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الفرد الذى بين جمادى وشعبان» «1» . [ومعنى الحديث: أن الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه، وعاد الحج في ذى الحجة، وبطل النسيء الذى كان في الجاهلية، وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة، وكانت حجة أبى بكر رضى الله عنه قبلها في ذى القعدة، والنسىء: التأخير لحرمة شهر إلى اخر كما كانت الجاهلية تفعل؛ كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلّوه وحرّموا مكانه شهرا اخر، ورفضوا خصوص الشهر، واعتبروا مجرد العدد، فكانوا يؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر، فيحرّمون صفر ويستحلون المحرم، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخّروه إلى ربيع، وهكذا شهرا بعد شهر، حتى استدار التحريم على السنة كلها، وكانوا يحجون في كل شهر عامين، فحجوا في ذى القعدة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجوا في صفر   (1) رواه الإمام أحمد، ورواه البخارى في التفسير، ومسلم وابن جرير الطبرى وسعيد بن منصور، وله ألفاظ وطرق مختلفة بمعنى واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 عامين، وكذا باقى شهور السنة، فوافقت حجة أبى بكر في السنة التاسعة في ذى القعدة، قبل حجة الوداع بسنة، ثم حجّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في العام المقبل حجة الوداع، فوافق حجّه شهر ذى الحجة، وهو شهر الحج المشروع، فوقف بعرفة في اليوم التاسع. واختلفوا في أوّل من نسّأ النسيء، فقال ابن عباس: بنو مالك بن كنانة، وكان يليه أبو ثمامة وجنادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يقوم علي جمل بالموسم فينادي: إن الهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلّوه، ثم ينادى في قابل «1» : إنّ الهتكم قد حرّمت عليكم المحرم فحرّموه. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بنى كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة. وقيل: أول من فعل ذلك عمرو بن لحىّ، وهو أوّل من سيّب السوائب، وقال فيه النبى صلّى الله عليه وسلّم: «رأيت عمرو بن لحىّ يجر قصبه (أى أمعاءه) فى النار» » ] . «أما بعد؛ أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقا، ولهنّ عليكم حقا؛ عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن أحدا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، وعليهن ألايأتين بفاحشة مبيّنة، فإن فعلن؛ فإنّ الله قد أذن لكم أن تعضلوهنّ وتهجروهنّ في المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرّح، فإن انتهين فلهنّ رزقهن وكسوتهنّ بالمعرف، واستوصوا بالنساء خيرا؛، فإنهن عندكم عوان «3» لا يملكن لأنفسهنّ شيئا، وإنكم إنما أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولي، فإني قد بلغّت قولى وتركت فيكم ما إن استعصمتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة نبيه. أيها الناس: اسمعوا قولي، واعلموا أنّ كل مسلم أخو المسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لا مرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه إياه عن طيب نفس، فلا تظلموا أنفسكم ... ألا هل بلّغت؟.» .   (1) قابل: أي العام التالي. (2) رواه مسلم، وأحمد، وغيرهما من أصحاب الصحاح. (3) عوان: أي أسيرات عندكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فذكر أنهم قالوا: «اللهم نعم» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم اشهد» «1» . * وفي حجة الوداع نزلت عليه في يوم الجمعة بعد العصر في يوم عرفة وهو صلّى الله عليه وسلّم واقف بعرفات على ناقته العضباء: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (يعنى الفرائض والسنن والحدود والأحكام) وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] فلم ينزل بعد هذه الاية شيء: لا حلال ولا حرام، ولا شئ من الفرائض والسنن والحدود والأحكام. وقيل: إكمال الدين بهذه الاية: أنه لا يزول، ولا ينسخ، وأن شريعتهم باقية إلى يوم القيامة، ومعنى إتمام النعمة: يعنى إكمال الدين والشريعة؛ لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام. وعن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب، قال: يا أمير المؤمنين، اية في كتاب الله تقرؤنها لو نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: فأى اية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فقال عمر: «إنى لأعلم اليوم الذى نزلت فيه، والمكان الذى نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه؛ نزلت بعرفات يوم الجمعة» «2» أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيدا لنا. وعن ابن عباس: أنه قرأ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً وعنده يهودي، فقال: لو نزلت هذه الاية علينا لاتخذنا يومها عيدا، فقال ابن عباس: كان في ذلك اليوم خمسة أعياد: يوم جمعة، ويوم عرفة، وعيد لليهود، وعيد للنصاري، وعيد المجوس، ولم تجمع أعياد لأهل الملل في يوم واحد قبله ولا بعده. وروى أنه لما نزلت هذه الاية بكى عمر، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: أبكانى أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، قال: «صدقت» «3» ، فكانت هذه الاية نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعاش بعدها أحدا وثمانين يوما «4» .   (1) أى اشهد أنى بلّغت الرسالة. (2) رواه البخاري، ومسلم والترمذي، والنسائي، والإمام أحمد، وابن مردويه. (3) رواهما ابن جرير الطبري. (4) رواهما ابن جرير الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ولما رجع صلّى الله عليه وسلّم من حجته إلى المدينة أقام بقباء ذا الحجة تمام سنة عشر من الهجرة، ثم دخلت سنة إحدى عشر، فأقام بها أيضا المحرّم وصفر، وفي يوم الأربعاء اخر صفر بدأ بالنبى صلّى الله عليه وسلّم وجعه، فحمّ وصدع، وأشار فيه إشارة ظاهرة بخلافة أبى بكر، بثنائه عليه على المنبر، لمّا فهم دون بقية الصحابة قوله في خطبته: «إنّ عبدا خيّره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده، أنه صلّى الله عليه وسلّم يعنى نفسه، فبكى وقال: فديناك يا رسول الله بابائنا وأمهاتنا فقابله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «إنّ أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوّة الإسلام» ثم قال: لا يبقى في المسجد خوخة إلا سدّت، إلا خوخة أبى بكر «1» . زاد مسلم: «إن ذلك كان قبل موته بخمس ليال» ثم أكّد أمر الخلافة بأمره صريحا أن يصلّى بالناس «2» . ولم يحج صلّى الله عليه وسلّم بعد أن فرض الحج إلا حجة الوداع، وكانت وقفته فيها الجمعة، وحجّ معه ألوف، حتى حج معه من لم يره قبلها ولا بعدها، ولم يحج بعد الهجرة غيرها، وأما بعد النبوة وقبل الهجرة، فحج ثلاث حجات، وقيل حجتين، وقيل كان يحج كل سنة قبل أن يهاجر، واعتمر بعد أن هاجر أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضية، ويقال لها عمرة القضاء، وعمرة القصاص، وعمرة الجعرانة بكسر الجيم وسكون العين في إثر وقعة حنين، وعمرة مع حجته ولم يعدّ مالك بن أنس في الموطأ الرابعة عمرة، وقال: إنما اعتمر ثلاثا فقط؛ لأنه إنما   (1) رواه مسلم والترمذي. (2) فى مسند الإمام أحمد عن الإمام على كرم الله وجهه قال: «يا رسول الله من نؤمّر بعدك؟ قال: إن تؤمّروا أبا بكر تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وإن تؤمّروا عمر تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليا- وما أراكم فاعلين- تجدوه هاديا مهديا، يأخذ بكم الطريق المستقيم» . وروى مسلم والإمام أحمد أنه قال أيضا: «ادعى أباك وأخاك حتّى أكتب كتابا؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولي، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» وهى تولية صريحة. والحديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 حجّ حجة الوداع مفردا بالحج دون العمرة، وتابعه على مقالته هذه بعضهم، وهو أحد قولي الإمام الشافعى رضى الله عنه. وفي هذه السنة أسلم جرير بن عبد الله البجلي. ونزلت سورة إذا جاء نصر الله والفتح بمنى يوم النحر في حجة الوداع، والمعنى: إذا جاء نصر الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم على أعدائه، والفتح فتح مكة، وقيل: نزلت قبل موته صلّى الله عليه وسلّم بثلاثة أيام. وكان صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه السورة يكثر من قول «سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه» وعلم بها أنه قرب أجله، قال أبو هريرة رضى الله عنه: لما نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله أكبر جاء نصر الله والفتح» . وعن جابر رضى الله عنه: أنه كان ذات يوم يبكى بكاء شديدا، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: دخل الناس في دين الله أفواجا، والمراد بالناس أهل اليمن. * وفي هذه السنة مات إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 الباب الخامس في وفاته صلّى الله عليه وسلّم وذكر بعض أخلاقه وصفاته، ومعجزاته، وأزواجه. وأعمامه، وعماته، وأخواله، ومواليه وخدمه، وحشمه صلّى الله عليه وسلّم، وفيه فصول الفصل الأوّل في ذكر وفاته صلّى الله عليه وسلّم وما يتعلق بذلك لما أكمل الله له ولأمته الدّين، وأتمّ عليهم نعمته أجمعين، نقله إلى دار كرامته شهيدا من أكله الذراع المسموم المهدى له بخيبر، فجمع بين الرسالة والشهادة، والنبوة والسعادة، فابتدأ به المرض في العشر الأخير من صفر، عام أحد عشر من الهجرة الشريفة، وكان قد قدم صلّى الله عليه وسلّم من حجة الوداع. سنة عشر من الهجرة، وأقام بالمدينة إلي أن شكا صلّى الله عليه وسلّم الوجع، ومرض مرضه، ولما اشتد به صلّى الله عليه وسلّم مرضه، قال لعائشة رضي الله عنها: «يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلته بخيبر، فهذا أوانه، وإنى وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم» «1» . وكان ابتداء ذلك المرض في بيت ميمونة بنت الحارث، وكان يدور على نسائه حتي اشتد مرضه، فجمع نساءه، واستأذنهن أن يمرّض في بيت إحداهن، فأذنّ له أن يمرّض في بيت عائشة رضي الله عنها، فانتقل إليها في غير ليالى القسم؛ لأنه كان يدور عليهن في بعض الأحيان في يوم واحد وليلة، ويختم بعائشة. ولما حضر صلّى الله عليه وسلّم إلي بيت عائشة أمر مناديا فنادى في المدينة: أن اجتمعوا لوصية النبى صلّى الله عليه وسلّم، فاجتمع كلّ من في المدينة من ذكر وأنثي، وكبير وصغير، تركوا أبوابهم ودكاكينهم مفتّحة، وخرج صلّى الله عليه وسلّم وهو متوعك بين الفضل بن العباس، وعلي بن أبى طالب رضى الله عنهما، حتى جلس على المنبر، فحمد الله، ثم   (1) رواه ابن السنى، وأبو نعيم في الطب، وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 قال: «يا أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليستقد (أى يقتصّ) منّي، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضى فليستقد منّي، ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخشي الشحناء من قبلي، فإنها ليست من شأني» . ثم نزل وصلّى الظهر، ثم رجع إلي المنبر فعاد إلي مقالته، فادّعى عليه رجل بثلاثة دراهم، فأعطاه عوضها، ثم قال: «ألا إنّ فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة» ثم صلّى علي أصحاب أحد، واستغفر لهم، ثم قال: «إنّ عبدا خيّره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده» فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بأنفسنا. ثم أوصى صلّى الله عليه وسلّم بالأنصار. ولما اشتد وجعه قال: «ائتونى بدواة وبيضاء «1» أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا» . فقال بعضهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد غلبه الوجع، وعندكم القران، حسبنا كتاب الله. ثم اختلفوا واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما كثر اللغو والتنازع قال: «لا ينبغى عند نبيّ تنازع» فذهبوا يعيدون عليه، فقال: «دعوني؛ فما أنا فيه خير مما تدعوننى إليه» . وكان في أيام مرضه يصلى بالناس، وإنما انقطع ثلاثة أيام، فلما أذّن بالصلاة أوّل ما انقطع، قال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالناس» ، فقالت عائشة رضى الله عنها: «إنّ أبا بكر رجل أسيف «2» (أى رقيق القلب) ، وإنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فلو أمرت عمر» فقال: «مروا أبا بكر أن يصلّى بالناس» ، فقالت عائشة لحفصة: «قولى إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر» فقال: «إنكن صواحب يوسف» (أى مثل صاحبة يوسف عليه الصلاة والسلام وهى زليخا) أظهرت خلاف ما تبطن، أظهرت للنساء التى جمعتهن أنها تريد إكرامهن بالضيافة، وإنما قصدها أن ينظرن لحسن يوسف عليه الصلاة والسلام ويعذرنها في حبه، والنبى صلّى الله عليه وسلّم فهم   (1) يقصد: شيئا يكتب فيه العهد الذى سيعهد فيه للمسلمين. (2) كان رضى الله عنه يشمّ من فيه رائحة الشواء من احتراق كبده من خوف الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 من عائشة رضي الله عنها أنها تظهر كراهة ذلك، مع محبتها له باطنا، هكذا يقتضيه ظاهر اللفظ، والمنقول عن عائشة رضي الله عنها أنها إنما قصدت بذلك خوف أن يتشاءم الناس أبا بكر فيكرهونه، حيث قام مقامه صلّى الله عليه وسلّم، فقد جاء عنها رضي الله عنها أنها قالت: «ما حملنى علي كثرة مراجعتى له صلّى الله عليه وسلّم إلا أنه لم يقع في قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس منه» «1» ، فصلي بهم ثلاثة أيام في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بعض الأيام خفّة، فقام يتهادى بين رجلين، ورجلاه يخطّان في الأرض؛ حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر رضي الله تعالى عنه صوته ذهب يتأخّر، فأومأ إليه صلّى الله عليه وسلّم ألايتأخر، فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى جلس عن يسار أبي بكر، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاعدا وأبو بكر يصلى قائما، اقتداء بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والناس يقتدون بصلاة أبى بكر رضي الله عنه، فلما فرغ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجلسوا قال صلّى الله عليه وسلّم: «معاشر المسلمين؛ ما من نبيّ يموت حتي يصلّى خلف رجل صالح من أمته» وأن النبي صلّى به رجلان من أمته: عبد الرحمن بن عوف في السفر، وأبو بكر الصدّيق في الحضر. وأما ما رواه البخارى بإسناده إلي عروة عن أبيه عن عائشة أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر أبا بكر أن يصلّى بالناس في مرضه، فكان يصلّي بهم، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نفسه خفّة فخرج إلي المحراب، وكان أبو بكر يصلى بصلاة رسول الله، والناس يصلّون بصلاة أبى بكر، أى بتكبيره، فهو إنما كان في وقت اخر. وفي المواقف أيضا: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم استخلف أبا بكر في الصلاة حال مرضه، واقتدي به وما عزله، ولذلك قال عليّ: «قدّمك رسول الله في أمر ديننا، أفلا نقدمك في أمر دنيانا؟!» «2» . قال أنس بن مالك رضي الله عنه: لما مرض النبى صلّى الله عليه وسلّم مرضه الذى مات فيه، اجتمعنا جماعة من الصحابة، ودخلنا عليه صلّى الله عليه وسلّم وجلسنا بين يديه وهو نائم علي فراشه، فجلس أبو بكر عند رأسه، ونظر في وجهه وبكي، ففتح النبى صلّى الله عليه وسلّم   (1) هذا هو الصحيح، والذى قاله الشيخ أولا معاذ الله أن يكون منها رضى الله عنها؛ وهى الصدّيقة بنت الصديق. (2) رد قاطع على الذين يفرّقون بين أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 عينيه وقال: ما الذى يبكيك يا أبا بكر؟ فقال: حبيبي، افتكرت في شيء أنا خائف منه، قال: ما هو؟ قال: فى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ «1» ، وهذا دين يبقى بعدك ونخاف أن تحتج علينا الأعداء من بعدك، ويقولون إن الله أمر نبيكم بجهاد الكفار والمنافقين، فجاهد الكفار ولم يجاهد المنافقين، ونخاف أن يكون ذلك نقص في الدين، فمن يقضى دينك ويجاهد الكفار والمنافقين، من بعدك، فلزم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يد أبى بكر، وقال: أنت قاضى دينى والقاتل من يرتد عن ديني، أما سمعت قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ؟» [المائدة: 54] . قالت عائشة رضى الله عنها: إنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقول قبيل وفاته: «لا إله إلا الله؛ إنّ للموت سكرات» وإنه أشخص بصره إلى سقف البيت ثم قال: «اللهمّ الرفيق الأعلى (أى نهاية مقام الروح وهو الحضرة الواحدية) ؛ فالمسئول إلحاقه بالمحل الذى ليس بينه وبينه أحد في الاختصاص. وفي حديث مرسل أنه قال: «اللهمّ إنك تأخذ الروح من بين العصب والقصب والأنامل، اللهم فأعنّى على الموت وهوّنه عليّ» «2» [والقصب عروق الرئة، والرئة: مهموزة مخفّفة] ، وأما حديث: «اللهم الرفيق الأعلي» فكان اخر كلمة تكلم بها، ولما رأت فاطمة ذلك قالت: «واكرباه» فقال: «لا كرب على أبيك بعد اليوم» «3» ، وكلما أفاق أوصى بالمحافظة على الصلاة «4» ، وفي تلك الشدائد زيادة رفع درجات للأصفياء، وكفّارة سيئات لأهل الابتلاء. وقد توفى صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثلاث وستين، وكذا الصحيح في سن أبى بكر وعمر وعائشة ثلاث وستون سنة، وهذا أحسن مدة العمر بعد النصر والفتح المبين. واختلف في مدّة مرضه: فقيل اثنا عشر يوما، وقيل ثلاثة عشر يوما، وقيل أربعة عشر يوما.   (1) التوبة: 73. (2) عزيز على الروح الطاهرة أن تفارق الجسد الطاهر. (3) ومما قالوه: إن الدنيا بالنسبة له هى الكرب، أما وقد خرج من الدنيا فلا كرب عليه. (4) كان يكرر: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» رواه أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والطبراني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ولم يوص صلّى الله عليه وسلّم بما يورث؛ إذ لم يترك دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شاة، ولا بعيرا، بل توفى ولم يجد ما يفكّ به درع حربه الزردية، وهى ذات الفضول (بالضاد المعجمة لطولها) أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وكانت من حديد، وهى التى رهنها عند أبى الشحم اليهودى على ثلاثين صاعا من شعير، وكان الدّين إلى سنة. إنما أوصى بكتاب الله المبين، وبالصلاة والزكاة والأرّقاء ملك اليمين، حتى إنّ صدره ليغرغر بذلك، وما يكاد لسانه يبين. وفعله «1» صلّى الله عليه وسلّم من باب التشريع، وإلا فالنبى صلّى الله عليه وسلّم أغنى العالمين على الإطلاق، وكذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لم يبعثوا إلا ليشرّعوا، فكان دينه صلّى الله عليه وسلّم تشريعا لأمته، ويجوز الدّين برهن وغير رهن، وقد ورد في الحديث: «تداينوا ترزقوا» «2» ومعناه إذا كان خفيفا، وورد في حديث اخر: «يد الله فوق يد المدين ما دام ينوى السداد» «3» . وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه يحب الدين الخفيف؛ حتى يدخل في الحديث. * وبعد وفاته دهش الناس وطاشت عقولهم، واختلفت أحوالهم في ذلك؛ فقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: من قال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات علوت رأسه بسيفى هذا، وإنما ارتفع إلى السماء. فقرأ أبو بكر رضى الله عنه: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ إلى قوله وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [ال عمران: 144، 145] فرجع القوم إلى قوله وبادروا إلى سقيفة بنى ساعدة، وهي دار سعد بن عبادة، وكان سعد بن عبادة مريضا، وقالوا: نوليه هذا الأمر، فبايع عمر أبا بكر، ثم بايعه الناس خلا جماعة. وغسل صلّى الله عليه وسلّم ثلاث مرات؛ الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة   (1) أى الدين. (2) وروى الإمام أحمد أن أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها كانت تكثر من الاستدانة ولها عنها مندوحة، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عبد كانت له نية في أداء دينة إلا كان له من الله عون» فأنا ألتمس العون من الله. وزاد الطبراني «وسبّب له رزقا» . وكذلك كانت تفعل أم المؤمنين ميمونة رضى الله عنها التماسا لمعونة الله تعالى. (3) وروى الإمام أحمد أن أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها كانت تكثر من الاستدانة ولها عنها مندوحة، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عبد كانت له نية في أداء دينة إلا كان له من الله عون» فأنا ألتمس العون من الله. وزاد الطبراني «وسبّب له رزقا» . وكذلك كانت تفعل أم المؤمنين ميمونة رضى الله عنها التماسا لمعونة الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 بالماء. وغسله عليّ والعباس وابناه الفضل وقثم، وأسامة بن زيد وشقران مولياه صلّى الله عليه وسلّم، فكان العباس وابناه يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعليّ يغسله، ونفضه عليّ فلم ينزل منه شيء فقال: «بأبى أنت وأمى ما أطيبك حيا وميتا» وأعينهم معصوبة، لحديث على «لا يغسلنى إلا أنت، فإنه لا يرى أحد عورتى إلا طمست عيناه» . وغسل صلّى الله عليه وسلّم من بئر عرس (بفتح العين المهملة وسكون الراء فسين مهملة) بوصية منه، كان يشرب منها، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية (بفتح السين وضمّها، والفتح أشهر، فالفتح منسوب إلى السحول، وهو القصّار، لأنه يسحلها أي يغسلها أو إلى «سحول» ، وهى بلدة باليمن، وأما بالضم فهو جمع سحل، وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلا من قطن) ليس فيها قميص ولا عمامة، بل لفائف من غير خياطة، وبرد حبرة أدرج فيها إدراجا، وفرغ من جهازه يوم الثلاثاء، ووضع على سريره، وصلّى عليه المسلمون صفوفا؛ لا يؤمّهم أحد، وكان أبو بكر وعمر في الصف الأوّل، الذى حيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالا: «اللهم إنّا نشهد أنه صلّى الله عليه وسلّم قد بلّغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حتي أعزّ الله دينه، وتمت كلمته، فاجعلنا إلهنا ممّن تبع القول الذى أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتّى تعرّفه بنا وتعرّفنا به؛ فإنه كان بالمؤمنين رؤفا رحيما، لا نبتغى بالإيمان به بدلا، ولا نشترى به ثمنا أبدا» ، فيقول الناس: امين، امين. وهذا يدل على أن المراد بالصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم: الدعاء، لا الصلاة على الجنازة المعروفة عندهم. والصحيح أن هذا الدعاء كان ضمن الصلاة المعروفة التي بأربع تكبيرات، فقد جاء أن أبا بكر- رضى الله عنه- دخل عليه صلّى الله عليه وسلّم فكبّر أربع تكبيرات، ثم دخل عمر- رضي الله عنه- فكبّر أربعا، ثم دخل عثمان- رضى الله عنه- فكبّر أربعا، ثم دخل طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام- رضى الله عنهما- ثم تتابع الناس أرسالا، يكبّرون عليه، أى وعلي هذا إنما خصّوا الدعاء بالذكر؛ لأنه الذى يليق به صلّى الله عليه وسلّم، ومن ثمّ استشاروا كيف يدعون له، فأشير بمثل ذلك. وروى البيهقى عن ابن عباس: لما صلّي علي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، أدخل الرجال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 فصلّوا بغير إمام أرسالا (أى قطائع) «1» . وقال الشافعي: وذلك لعظم أمره وتنافسهم في ألايتولى الإمامة أحد في الصلاة عليه، وقيل: أوصى به. وقال السهيلي: وجه الفقه فيه أنّ الله افترض الصلاة عليه بقوله: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً «2» وحكم الصلاة التى تضمنتها الاية ألاتكون بإمام، والصلاة عليه عند موته داخلة في لفظ الاية. ثم صلّى عليه النساء بعد الرجال، ثم الصبيان، ثم العبيد بغير دعاء الجنازة المعروفة. وفرش له في لحده قطيفة كان يلبسها ويفترشها، فقالوا: لا يلبسها أحد بعده، وهى كساء. واتخذوا له لحدا ونصبت عليه تسع لبنات، وجعلوه مسنّما، وهذا لا يعارض مذهب العلماء في كراهة وضع فراش تحت الميت؛ لأنّ كلامهم في غير النبى صلّى الله عليه وسلّم ممن يتغير ويبلي. وحكمة عدم أكل الأرض أجساد الأنبياء، ومن ألحق بهم: التكريم، قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [ال عمران: 169] . والأنبياء أجلّ وأعظم من ذلك، والراجح أن حياة الشهداء بالجسد لا بالروح فقط، ولا يقدح في ذلك عدم الشعور من الحي، وأعظم دليل علي ذلك أن حياة الروح ثابتة لجميع الأموات: المؤمن والكافر بالإجماع، فلو لم تكن حياة الشهداء بالجسد لاستوى هو وغيره، ولم يحصل له تمييز على غيره، ولم يكن لقوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ «3» معنىّ، وقال ابن جرير في تفسيره وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ أى لا ترونهم فتعلموا أنهم أحياء، فظاهره أنّ رزق الشهداء بالأكل والشرب في البرزخ، ليس للاحتياج، بل للإكرام والتنعيم. وورد «إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» «4» قال العلامة القرطبى في التذكرة: إن   (1) جماعات. (2) سورة الأحزاب الاية 56. (3) البقرة: 154. (4) رواه ابن ماجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 الأرض لا تأكل لحوم الأنبياء، والشهداء، والعلماء، والمؤذّنين المحتسبين، وحملة القران. قال ابن كمال باشا: لا تأكل الأرض جسما للنبيّ ولا ... لعالم وشهيد قتل معترك ولا لقاريء قران ومحتسب ... أذانه لإله مجري الفلك ولا يضغط في قبره، وكذلك الأنبياء، ولم يسلم من الضغطة صالح ولا غيره سواهم «1» ، وتحرم الصلاة علي قبره واتخاذه مسجدا. واختلفوا في موضع دفنه، فقال بعضهم: عند المنبر، وقال بعضهم: بالبقيع، وقال اخرون: يحمل إلي أبيه إبراهيم فيدفن عنده، حتي قال العالم الأكبر صدّيق الأمة: ادفنوه في الموضع الذى قبض فيه، وهو بيت عائشة؛ فإنّ الله لم يقبض روحه إلا في مكان طيب، سمعته يقول: «ما قبض نبى إلا ودفن حيث يقبض» «2» . فرفع وحفر له أبو طلحة الأنصارى تحت فراشه الذى مات عليه، ونزل في قبره عليّ، والفضل وقثم. وفي الإكليل: إن اخر الناس عهدا به صلّى الله عليه وسلّم عليّ، وقيل: قثم، وهو أصح. * ولما دفن صلّى الله عليه وسلّم جاءت فاطمة رضى الله عنها فقالت: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب؟! وأخذت من تراب القبر الشريف وشمّته وأنشدت تقول: ماذا علي من شمّ تربة أحمد ... ألايشمّ مدي الزمان غواليا صبّت علىّ مصائب لو أنّها ... صبّت علي الأيام عدن لياليا وقد عاشت فاطمة رضى الله تعالى عنها بعده صلّى الله عليه وسلّم ستة أشهر، فما ضحكت تلك المدة.   (1) وقد قال العلماء: إن ضمّة القبر للكافر والعاصى ضمّة غيظ، وضمته للمؤمن الصالح ضمّة الأم الحنون، وقد ورد في الحديث الصحيح أن: «من قرأ قل هو الله أحد في مرضه الذى يموت فيه لم يفتن في قبره، وأمن من ضغطة القبر، وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفّها حتّى تجيزه من الصراط إلى الجنة» رواه أبو نعيم في الحلية. (2) رواه مالك في الموطأ، وابن ماجه، وابن إسحاق في السيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وقال علماء السير: لمّا دفنها عليّ وقف على قبرها، وبكي، وقال: لكلّ اجتماع من خليلين فرقة ... وكلّ الذي دون الفراق قليل وإنّ افتقادي فاطم بعد أحمد ... دليل علي ألايدوم خليل وعن عطاء بن رباح قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصابته مصيبة فليتذكّر مصيبته فيّ فإنها من أعظم المصائب» «1» . [تعزية الخضر] ، وروى أنه جاءت من نبى الله الخضر عليه السلام التعزية، لأهل بيت النبوة بهذه المصيبة العظمي، يسمعون صوته ولا يرون شخصه «2» ، فقال بعد أن سلّم عليهم وقرأ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ «3» إنّ في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإيّاه فارجوا؛ فإنما المصاب من حرم الثواب» . وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في «المهذب» أوّل باب التعزية: أنه يستحبّ أن يعزّى بتعزية سيدنا الخضر أهل بيت النبوة: «إن في الله ... إلى اخره» . وكان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه، ويقول: يا عبد الله اتّق الله، فإن في رسول الله أسوة حسنة. وقال بعضهم في ذلك: اصبر لكل مصيبة وتجلّد ... واعلم بأنّ المرء غير مخلّد واصبر كما صبر الكرام فإنها ... نوب تنوب اليوم تكشف في غد وإذا أتتك مصيبة تشجي بها ... فاذكر مصابك بالنّبي محمّد   (1) هي مصيبة العمر وقاصمة الظهر. (2) ونصها من الروضة الندية ص 183 ج 1: «وأخرج الشافعى من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: «لما توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجاءت التعزية: سمعوا قائلا يقول: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت؛ فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب» والخضر عليه السلام مختلف فيه: أهو نبى أم رجل صالح من المعمرين؟ وسيظهر اخر الزمان علنا ويحارب مع عيسى ابن مريم، وتحدث بينه وبين الدجال وقائع وحوادث كثيرة، ذكرت في كتب أعلام النبوة، والفتن والملاحم في اخر الزمان. (3) ال عمران: 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 ورثاه جماعة، منهم صفية عمته رضى الله عنها بمراث كثيرة، وأبو سفيان ابن الحارث، وأبو بكر الصديق رضى الله عنه. وتوفاه الله وحصل له درجة الشهادة، فوق ما أعطاه الله من مراتب النبوة وزاده؛ لأنه لما سمّته اليهودية في الشاة استمر ذلك السم حتي قال في مرضه: «الان انقطع أبهري» يعنى من ذلك السم، والأبهر: عرق مستبطن القلب، فإذا انقطع لم تبق بعده حياة. وكانت وفاته يوم الاثنين ثانى عشر ربيع الأوّل، حين زاغت الشمس سنة إحدى عشرة من الهجرة، وقيل: حين اشتد الضحي، كالوقت الذى دخل فيه إلى المدينة. وعن ابن عباس: ولد صلّى الله عليه وسلّم يوم الاثنين، واستنبيء يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ووضع الحجر يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين، ودفن ليلة الأربعاء، وكانت ليلة مظلمة لفقده وانقطاع الوحي، عكس دخوله إليها في الهجرة. قال أنس: «لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شيء» . ولم أخّر دفنه؟ وقد قال عليه الصلاة والسلام لأهل بيت أخّروا دفن ميتهم: «عجّلوا دفن ميتكم ولا تؤخّروه» «1» . فالجواب: أخّروه للاختلاف في دفنه، أو للاشتغال بأمر البيعة؛ ليكون لهم إمام يرجعون إليه، وهو أهم الأمور، حتى استقر الأمر، فبايعوا أبا بكر، ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فنظروا في دفنه فغسّلوه وكفّنوه صلّى الله عليه وسلّم، وتزينت الجنان بقدوم روحه الكريمة.   (1) وأخرج أحمد والترمذى قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاث لا يؤخّرن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 إذا كان عرش الرحمن اهتز لموت (أحد) «1» أتباعه فرحا واستبشارا بقدوم روحه، فكيف بقدوم روح الأرواح صلّى الله عليه وسلّم! * فعلى هذه الرواية «2» يوم وفاته موافق ليوم مولده. قال الصلاح الصفدى في شرح لامية العجم فائدة ذكرتها هنا، وهى أنه وجد بخط الشيخ تقى الدين بن الصلاح رحمه الله تعالى ما صورته: «ذكر أبو القاسم السهيلى قال: أجمع المسلمون على أنّ حجّة الوداع كان يوم عرفة فيها يوم الجمعة، وكان أوّل شهر ذى الحجة في تلك السنة الخميس، هذا لا شك فيه» . ثم قال بعد ذلك: «وقال أكثر أهل التاريخ إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي يوم الاثنين، ثانى عشر ربيع الأوّل، بعد الحجة المذكورة بثلاثة أشهر. وكيف حسب الإنسان الشهور، وهن: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأوّل، وجعل أوّل ذى الحجة الخميس، ما يتصوّر أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفى يوم الاثنين ثانى عشر ربيع الأوّل، سواء حسب الجميع نواقص أو كوامل، أو بعضها نواقص وبعضها كوامل، فاعتبره تجده كذلك. وأجاب عن هذا السؤال قاضى القضاة شرف الدين البارزى الحموى بما صورته: يحتمل أنه لما حجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى هلال ذى الحجة بين مكة والمدينة ليلة الخميس، وغمّ علي أهل المدينة، فلم يروا هلال ذى الحجة إلا ليلة الجمعة، فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتوفى بالمدينة أرّخ أهل المدينة موته على حكم ما رأوا، وأرّخوا في أوّل ذى الحجة، وهو يوم الجمعة، فجاءت الشهور الثلاثة: ذو الحجة، والمحرم، وصفر كوامل، وجاء أوّل ربيع الأوّل: الخميس، وكان ثانى عشر ربيع الأوّل يوم الاثنين، وكان بين رؤيته صلّى الله عليه وسلّم وبين رؤية أهل   (1) ما بين القوسين لم يكن بالأصل الذى راجعنا عليه، بل وضعناها لإصلاح السياق، والذى اهتز له عرش الرحمن هو «سعد بن معاذ» رضى الله عنه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» رواه مسلم، والإمام أحمد. (2) رواية ابن عباس التي أشار إليها انفا بقوله «عن ابن عباس .... » الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 المدينة مسافة القصر، والصحيح من مذهب الشافعى اعتبار اختلاف المطالع، والله أعلم. اهـ» . ولما توفى صلّى الله عليه وسلّم ترتب على وفاته ارتداد أكثر العرب، كبنى حنيفة، إلا أن أهل المدينة ومكة والطائف لم تدخلهم الردّة، وكان عامل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على مكة عتّاب بن أسيد، فاستخفى خوفا على نفسه، فارتجت مكة وكاد أهلها يرتدّون، فقام سهيل بن عمرو علي باب الكعبة وصاح بقريش وغيرهم، فاجتمعوا إليه، فقال: «يا أهل مكة كنتم اخر من أسلم، فلا تكونوا أول من ارتد، والله ليتمّنّ الله هذا الأمر كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . فامتنع أهل مكة من الردة. وسيأتى ما يتعلق بذلك في الفصل الأوّل من الباب الخامس. قال ابن إسحاق: ولما توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عظمت به مصيبة المسلمين، فكانت عائشة- رضى الله عنها- فيما بلغنى تقول: «لما توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، فكان المسلمون كالغيم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم صلّى الله عليه وسلّم، حتى جمعهم الله علي أبى بكر» انتهي. وقال أهل السير: خرج أبو بكر- رضى الله عنه- إلى الناس وهم في المسجد يموجون، فخطبهم وثبتهم، ونعى لهم سيد الأولين والاخرين، وقرأ عليهم الايات التى تناسب ذلك، ومنها: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وهذا استفهام إنكار وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ   (1) أخرج مسلم في صحيحه عن سيدنا عمر رضى الله عنه أنّ رجلا من اليهود قال: يا أمير المؤمنين: آية في كتابكم تقرؤنها لو علينا معشر اليهود أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: أي آية؟ قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا) قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذى أنزلت فيه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وهو قائم يوم عرفة في يوم الجمعة» . وأخرج رزين في «تجريد الصحابة» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أفضل الأيام يوم عرفة وافق يوم جمعة، وهو أفضل من سبعين حجة في غير حجة» . وحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف وقفة عرفة يوم جمعة، رواه أيضا البخارى ومسلم، والإمام أحمد، وابن جرير، وابن مردويه، والطبراني، وهو مروى عن سيدنا عمر، والإمام علي، ومعاوية ابن أبى سفيان، وعبد الله بن عباس وسمرة بن جندب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [ال عمران: 144]- ولم يكن فيهم أثبت منه ومن العباس. وما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند موته درهما ولا دينارا، ولا عبدا ولا شيئا، إلا بغلته البيضاء وسلاحه، وأرضا جعلها صدقة. وعن عائشة- رضى الله عنها- أن فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ميراثها من تركة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خيبر وفدك، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا نورث؛ ما تركناه صدقة» ، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا؛ فوجدت فاطمة علي أبى بكر في ذلك؛ فهجرته فلم تزل مهاجرته حتّى توفيت «1» . وروى البيهقى عن الشعبى أن أبا بكر عاد فاطمة في مرضها، فقال لها عليّ: هذا أبو بكر يستأذن عليك؟ قالت: أتحب أن اذن له؟ قال: نعم. فأذنت له. فدخل عليها فترضّاها حتّى رضيت «2» .   (1) قول الشيخ رحمه الله «فلم تزل مهاجرته حتّى توفيت» . افتراء محض من المؤرخين، والذى يستعرض موقف الصحابة عند موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويعرف مدى المصيبة التى حلّت بهم، يعرف أيضا موقف السيدة فاطمة- رضى الله عنها- من هذه الصدمة. هذا أحدهم يدعو على نفسه بالعمي، حتى لا يرى أحدا بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويستجاب له، وهذا سيدنا عمر قد حدث له ما حدث، حتى هاج في الناس، وقال: «من يزعم أن محمدا قد مات قتلته بسيفى هذا» . وهذا أبو بكر رضى الله عنه وأرضاه، أخذ جسمه في النقصان والنحول حتّى مات بعد عامين وأشهر من موت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وهذا. وهذا، وعدد كبير من الصحابة رضى الله عنهم حدث منهم ما ينكر لو لم يكن هذا الحادث، فما بالك بالسيدة فاطمة- رضى الله عنها- وأرضاها. مطالبتها بالميراث صحيحة، ولكن غضبها من أبى بكر افتراء وكذب، نعم، إنها جلست في بيتها ستة أشهر لم تكلمه، ولم تكلم أحدا؛ لما هى فيه من البلوى التى حلّت بها، وقد عبّرت عن هذا عند ما زارت أباها [بعد انتقاله بقولها: صبّت عليّ مصائب لو أنها ... صبّت على الأيام عدن لياليا وأما حديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث: ما تركناه صدقة» فقد رواه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بن أبى طالب، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبى وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، والعباس، وأزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم، والرواية عنهم ثابتة في الصحاح والمسانيد. ولم تحرم السيدة فاطمة من الميراث واحدها، وإنما أيضا أزواجه صلّى الله عليه وسلّم، فلم لم يثر الشيعة الضجة بأن أزواجه صلّى الله عليه وسلّم: لم لم يورّثن أيضا؟ وهذا واحده أكبر دليل علي أنها زوبعة مقصودة للإفساد، لا حبّا في السيدة فاطمة رضى الله عنها- والله تعالى أعلم. (2) إنما ترضّاها سيدنا أبو بكر مخافة أن تكون غاضبة منه، وفي الحديث جملة من اداب بيت النبوة، منها قولها: «أتحب أن اذن له» لأن المرأة ليس لها أن تأذن في بيت زوجها إلا بإذنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 الفصل الثانى فى ذكر بعض أخلاقه وصفاته صلّى الله عليه وسلّم من المعلوم أنه صلّى الله عليه وسلّم لمّا كان خاتم النبيين وسيد المرسلين، واتاه الله علم الأولين والاخرين، وفضّله على سائر الخلق أجمعين، خصّه بمناقب لا يحصيها أحد من العالمين، فكيف وهو الذى أظهر هذا الدين القويم، وأنار هذا الصراط المستقيم! فكل فضل منسوب إلى فضله، وكل علم مستفاد من علمه ونبله، فبهذا ينبغى أن يذكر شيء من مناقبه على سبيل الاختصار والإيجاز، وقد تقدم ذكر بعضها فنقول: إن من أحسن ما يروى من أوصافه ما روى عن عمر بن الخطاب أنه سمع بعد وفاة النبى صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو يبكى هذه الكلمات: «بأبى أنت وأمى يا رسول الله (أي أفديك بأبى وأمي، وهى كلمة تستعملها العرب لتعظيم المفدّي) لقد كان لك جذع تخطب عليه، فلما كثر الناس اتخذت منبرا تسمعهم عليه، فحنّ الجذع لفراقك حتّى جعلت يدك عليه فسكت، فأمّتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم. بأبي أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته فقال تعايي: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» . بأبى أنت وأمى يا رسول الله: لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته فقال تعايي: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» . بأبى أنت وأمى يا رسول الله: لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أخبرك بالعفو عنك قبل أن يخبرك بذنبك، فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «2» . بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أن جعلك اخر الأنبياء وذكرك في أولهم، فقال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب: 7] .   (1) النساء: 8. (2) التوبة: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده أنّ أهل النار يودّون لو كانوا أطاعوك وهم بين أطباقها يعذّبون، يقولون: يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا [الأحزاب: 66] . بأبى أنت وأمى يا رسول الله، إن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجرا تتفجر منه الأنهار، فماذا بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء «1» ! صلى الله عليك. بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوّها شهر ورواحها شهر، فما ذلك بأعجب من البراق حيث سرت عليه إلى السماء السابعة، ثم صليت الصبح بالأبطح صلىّ الله عليك. بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لئن كان عيسى ابن مريم أعطاه الله إحياء الموتي، فما ذلك بأعجب من الشاة المسمومة حتّى كلمتك وهى مشوية فقالت: «لا تأكلنى فإني مسمومة» . بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ولو دعوت علينا مثلها لهلكنا عن اخرنا، فلقد وطىء ظهرك، وأدمى وجهك، وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا فقلت: «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» . بأبى أنت وأمى يا رسول الله لقد اتّبعك في قلة سنك وقصر عمرك ما لم يتبّع نوحا في كبر سنّه وطول عمره؛ فلقد امن بك الكثير، وما امن معه إلا القليل. بأبى أنت وأمى يا رسول الله، لو لم تجالس إلا كفؤا ما جالستنا، ولو لم تنكح إلا كفؤا ما نكحت إلينا، ولو لم تؤاكل إلا كفؤا ما اكلتنا، لبست الصوف، وركبت الحمار، ووضعت طعامك بالأرض، ولعقت أصابعك تواضعا منك» . ووصفه عليّ رضى الله عنه فقال: «ليس بالطويل، ولا بالقصير، ضخم الرأس،   (1) رواه مسلم في حديثه الطويل في غزوة بواط وغيره في الصحاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 كثّ اللحية، شثن الكفّين والقدمين، ضخم الكراديس، مشربا وجهه بحمرة، أدعج العينين، سبط الشعر، سهل الخدّين، كأن عنقه أبريق فضة» . وقال أنس: «لم يشنه الله بالشيب، كان في مقدّم لحيته عشرون شعرة بيضاء، وفي مفرق رأسه شعرات بيض» . وروى أنه كان يخضب بالحناء والكتم. وعن ابن عمر «اختضبوا بالسواد فإنه أنكأ للعدوّ وأحبّ للنساء» . * وكان بين كتفيه خاتم النبوّة، وهو بضعة (أى قطعة لحم) ناشزة (أى مرتفعة) حولها شعر. وروى سلمان الفارسى أنه قال: مثل بيضة الحمامة بين كتفيه، وقيل: كان مضغة كلون بدنه، وقيل: كانت شامة خضراء محتفرة في اللحم، وقيل: كزر الحجلة (بتقديم الزاى على الراء) والمراد به البيض، والحجلة (بتقديم الحاء على الجيم بعدها لام) : الطائر المعروف أى مثل بيض هذا الطائر. قال بعضهم: وجملة الأقوال تبلغ نيفا وعشرين قولا، لكنها متقاربة المعنى، وليس ذلك باختلاف، بل كل راو شبّه بما سنح له وظهر، فواحد قال: كرزّ الحجلة، واخر: كبيضة الحمامة، واخر: كالتفاحة، واخر: بضعة لحم ناشزة، واخر: لحمة ناتئة، واخر: كالمحجمة، وكلّها ألفاظ مؤدّاها واحد، وهو قطعة لحم، ومن قال: شعر؛ فلأن الشعر حوله متراكم عليه. وقال القرطبى رحمه الله: الأحاديث الثابتة على أنّ خاتم النبوّة كان شيئا بارزا أحمر عند كتفه الأيسر، إذا قلّل قدر بيضة الحمامة، وإذا كثر: جمع اليد. انتهى. وسئل البرهان الحلبي: هل خاتم النبوة من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم؟ أو كل نبى ختم بخاتم النبوة؟ فأجاب: لا أستحضر في ذلك شيئا، ولكن الذى يظهر أنه خصّ بذلك لمعان منها أنها إشارة إلى أنه خاتم النبيين، وليس كذلك غيره، ولأن باب النبوّة ختم به، فلا يفتح بعده. وفي هذا المعنى لنجل المؤلف «على فهمى رفاعة» قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 بعثه للدين أفرا ... ح وللأعدا ماتم وله الخاتم ينبي ... أنّه للرسل خاتم قال السهيلى: «والحكمة في وضع خاتم النبوّة على جهة اليسار، أنه لما مليء قلبه إيمانا ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درّا، فجمع الله تعالى أجزاء النبوّة لسيدنا محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتمّمه وختم عليه بختمه، فلم تجد نفسه ولا عدوّه سبيلا إليه من أجل ذلك الختم؛ لأن الشيء المختوم محروس، وكذلك تدبير الله لنا في هذه الدار، إذا وجد أحدنا الشيء بختمه زال الشك وانقطع الخصام فيما بين الادميين، فلذلك ختم ربّ العالمين في قلبه حتّى يطمئن له القلب الذى ألقى النور فيه، فظهر بين كتفيه كالبيضة» . انتهي. واسع الجبين، عرقه أطيب ريحا من المسك، وفي وجهه تدوير، عظيم الفم، حسن الثغر، رائق الثنايا، فى أسنانه تفليج وتفريق، حلو المنطق، يتكلّم بجوامع الكلم، لا يضحك إلا تبسّما، إذا جلس مع أصحابه- رضى الله عنهم- فكأنما على رؤسهم الطير من حسن تواضعهم بين يديه صلّى الله عليه وسلّم، أزهر اللون، إذا مشى فكأنما تطوى له الأرض، وفي مشيته لا يلتفت وراءه، وإذا التفت التفت جميعا، حسن الوجه، حسن الصوت، خصوصا بتلاوة القران العظيم. وقد جاوز نبينا صلّى الله عليه وسلّم المرتبة العليا من الفصاحة، فكان أفصح العرب لسانا وأوضحهم بيانا، وأعدلهم نطقا، وأسدّهم لفظا، وأبينهم لهجة، وأقومهم حجة، وأعرفهم بمواقع الخطاب، وأهداهم إلى طرق الصواب، تأييدا إلهيا، وحفظا سمائيّا، وعناية ربانية، ورعاية روحانية، حتى لقد قال [عليّ] رضى الله عنه وسمعه يخاطب وفد بنى نهد: «يا رسول الله نحن بنو أب واحد، ونراك تكلّم وفود العرب بما لا نفهم أكثره» ، فقال: «أدّبنى ربى فأحسن تأديبي، وربيت في بنى سعد» فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخاطب العرب علي اختلاف شعوبهم وقبائلهم، وتباين بطونهم وأفخاذهم وفصائلهم، كلّ منهم بما يفهمون، ويحادثهم بما يعلمون، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أخاطب الناس علي قدر عقولهم» فكأنّ الله تعالى قد أعلمه ما لم يكن يعلمه غيره من بنى أبيه، مما تفرّق ولم يوجد في قاصى العرب ودانيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وكانت القبائل ترد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتأخذ عنه القران، وكان صلّى الله عليه وسلّم يترجم لكل قبيلة بحسب لغتها من قبائل: قريش، وكنانة، وحمير، وهذيل، وطيّئ، وجرهم، ومدلج، وغيرهم؛ فربما مدّ «1» صلّى الله عليه وسلّم قدر الألف والألفين والثلاث لمن لغته كذلك، وربما فخّم لمن لغته التفخيم، وربما أمال لمن لغته الإمالة، وربما أدغم لمن لغته الإدغام، وربما رقّق لمن لغته الترقيق، وهكذا في سائر وجوه الاداب والأحكام التى أمرنا الله بها ونهانا عنها في القران كلها واحدة، لا تتغير فى جميع القراات، فلما وقع الضبط وأخذت القرّاء القراات عن القبائل ضبط كلّ إنسان ما سمع فقط؛ إذ القياس هنا ممنوع، وجميع التراجم كلها قران منزل، أوحى به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولو جاز أن يترجم صلّى الله عليه وسلّم عن القران بغير ما أوحى به إليه لم يخرج عن مرتبتين؛ لأنه إما يترجم بلفظ مساو للوحى أو دونه، فإن كان ذونه: لم يصدق عليه أنه صلّى الله عليه وسلّم بلّغ ما أنزل إليه من ربه، وذلك محال في حقه صلّى الله عليه وسلّم، وإن كان مساويا: فأيّ فائدة للعدول عن الوحى من الله بلفظ مساو له؟ فما بقى إلا أنه صلّى الله عليه وسلّم بلّغ ما أنزل إليه من ربه بحروفه الحاملة للمعانى القديمة. وكان ابن عباس رضى الله عنهما يقول: «ما أنزل الله عزّ وجل كتابا إلا بالعربية إذ هى أوسع اللغات، ولكن كان جبريل عليه السلام يترجم لكل نبى بلسان قومه، وليس في القران العظيم إلا لغة العرب، وربما وافقت اللغة منه لغة غير العرب، والأصل عربى لا يخالطه شيء» . وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن يفد إليه من العرب يعرفون أكثر ما يقوله، وما جهلوه يسألونه عنه فيوضحه لهم، وقد كان النبى صلّى الله عليه وسلّم إذا تكلّم تكلم بكلام مفصّل مبيّن يعدّه العادّ، ليس بهذّ مسرع لا يحفظ، قالت عائشة رضى الله عنها: ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسرد سردكم هذا؛ كان يحدّث حديثا لو عدّه العادّ لأحصاه، وكان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه، وقال له عمر رضى الله عنه: يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: لقد كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل فحفظّنيها، وقال: «أنا أعرب العرب، ولدت   (1) أى مدّ الحروف في النطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 فى قريش ونشأت في بنى سعد فأنّى يأتينى اللّحن» «1» فقد كان من خصائص نبينا صلّى الله عليه وسلّم أن يكلم كلّ ذى لغة بلغته على اختلاف لغة العرب وتراكيب ألفاظها وأساليب كلمها، وكان أحدهم لا يجاوز لغته، وإن سمع لغة غيره فكالعجمية يسمعها العربي، وما ذاك منه صلّى الله عليه وسلّم إلا بقوة إلهية وموهبة ربّانية؛ لأنه بعث إلى الكافة طرّا وإلى الخليقة سودا وحمرا، ولا يوجد متكلم بغير لغته إلا قاصرا في تلك الترجمة، نازلا عن صاحب الأصالة في تلك اللغة، إلا هو صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنه كان إذا تكلم في لغة من لغات العرب أفصح وأنصع بلغاتها منها بلغة نفسها، وجدير به ذلك؛ فقد أوتى جميع القوى البشرية المحمودة، ومزية علي الناس بأشياء كثيرة. وبالجملة فقد ألّف الناس في فصاحته وجوامع كلمه الدواوين، ولا خفاء بأن أفصح اللغات لغات العرب، وغاية لسان هارون وفصاحته إنما كانت في العبرانية، وإلا فالعربية أفصح منها «2» ، وأما ما اشتهر علي ألسنة كثير من الناس أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا أفصح من نطق بالضاد» ، فقال الحافظ ابن كثير، وتابعه تلميذاه الزركشي، وابن الجوزي، والجلال السيوطي، والسخاوي: إنه لا أصل له، كما يؤخذ من قول النجم. ثم هو صلّى الله عليه وسلّم أفصح من نطق بالضاد من بين أهل اللغة العربية، حيث لم يعزه لرواية، وهو صحيح المعنى، إذ معناه: أنا أفصح العرب لكونهم هم الذين ينطقون بها، ولا توجد في لغة غيرهم. * وأما خلقه صلّى الله عليه وسلّم، فكان خلقه القران؛ يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حثّ عليه، ويمتنع مما زجر عنه، فلهذا كان يتضاعف جوده وإفضاله في شهر رمضان لقرب عهد مخالطته جبريل عليه السلام، وكثرة مدارسته لهذا الكتاب الكريم الذى يحثّ على مكارم الأخلاق والجود، ولا شك أن المخالطة تؤثر وتورث أخلاقا من المخالط، كما قال بعضهم لابنه:   (1) وقد روى أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة» رواه الشيرازى في الألقاب عن على كرم الله وجهه، وروى الحديث الذى ذكره الشيخ بلفظ اخر: «أنا أعربكم، أنا من قريش ولسانى لسان بنى سعد بن بكر» رواه ابن سعد. (2) أما قول الله تبارك وتعالى: (وأخي هارون هو أفصح منى لسانا) ليس المقصود فصاحة اللغة، وإنما المقصود أنه يستطيع أن يعبر أحسن منه، والله أعلم بمراده بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 بنيّ اجتنب كلّ ذي بدعة ... ولا تصحبن من بها يوصف فيسرق طبعك من طبعه ... وأنت بذلك لا تعرف وقد سئل الشمس الرملي: كيف كان جبريل يقرئ النبى صلّى الله عليه وسلّم؟ فأجاب بأنه كان يقرأه عليه أولا ليعلّمه إياه، ثم بعد ذلك كان يدارسه القران، بأن يقرأ هذا على هذا والاخر كذلك. وكان صلّى الله عليه وسلّم لا ينتقم لنفسه ولا يغضب لها، إلا أن تنتهك حرمات الله، فيغضب لله، وإذا غضب لم يقم لغضبه أحد، وكان أرجح الناس عقلا وأفضلهم، يكثر الذكر ويطيل الصمت، دائم البشر، وكان أصدق الناس وأوفاهم ذمة، وأوسعهم صدرا وأكرمهم عشيرة، وأحسنهم خلقا، وإذا انتهى إلي قوم جلس حيث ينتهى به المجلس، يؤلّف أصحابه ولا ينفّرهم، ويكرم كلّ كريم قوم ويولّيه عليهم، ويثنى على مكارم الأخلاق، فأثنى بذلك علي حاتم الطائى حين تعرفت إليه ابنته بأبيها، وذلك أنها سبيت في جمع من نساء قومها في غزوة هوازن، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المسجد قامت إليه فقالت: «يا محمد مات الوالد وغاب الوافد، فلا تشمت بى أحياء العرب، فإني ابنة من كان يقرى الضيف ويفك العاني، ويطلق الأسير ويعطى السائل» فقال صلّى الله عليه وسلّم: من أبوك؟ فقالت: حاتم الطائي، قال: «خلّوا عنها إن أباها كان يحب مكارم الأخلاق» فأثنى على أبيها مع كفره، وخلّى عن ابنته ومن معها لأجله، فهذه اثار صنائع المعروف مع الكفر والعصيان، فكيف مع الطاعة والإيمان!!؟. قيل: إن ابنة حاتم الطائى دعت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين منّ عليها بالخلاص من الأسر فقالت: «شكرتك يد افتقرت بعد غني، ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر «1» ، وأصاب الله بمعروفك مواضعه، ولا جعل لك إلى لئيم حاجة، ولا سلبت نعمة عن كريم إلا وجعلت سببا لردّها» .   (1) لأن اليد التى افتقرت بعد غنى هى أليف الكرم، والاخرى والعياذ بالله أليف الفقر وضجيعه، أرضعها بلبانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ويقال إنها خاطبته بقولها: خذ العفو وأمر بعرف كما ... أمرت وأعرض عن الجاهلين ولن في الكلام لجمع الأنام ... فمستحسن من ذوي الجاه لين وكان صلّى الله عليه وسلّم يولّى من الناس خيارهم، والذى يليه منهم خيارهم، وكان أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة، وما انتهر خادما ولا قال له في شيء صنعه لم صنعته؟ ولا في شيء تركه لم تركته؟ بل يقول «لو قدّر يكون» ، ولا ضرب بيده أحدا إلا في الجهاد. ولما قيل له ادع على الكفار، قال: «إنما بعثت رحمة، اللهمّ اهد قومى فإنهم لا يعلمون» . وكان عنده القريب والبعيد، والقوى والضعيف في الحق سواء، ويؤلّف أصحابه ولا ينفّرهم، ولم يكن فحّاشا (من باب النسب «1» ) أى وليس بذى فحش أى لا يصدر عنه، وليس من باب المبالغة حتّى تكون منفية لإشعاره ببقاء أصل الفحش، وهو ظاهر البطلان، فهو من باب قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] أى بذى ظلم، لا أن كثرة الظلم هى المنفية وأصل الظلم موجود؛ إذ هو مستحيل عليه تعالى. ولا لعّانا، ولا بخيلا، ولا جبانا، ولا سخّابا في الأسواق (بالسين المهملة والخاء المعجمة وهو لغة ربيعة) والسخب هو: رفع الصوت، أى لا كثيره ولا قليله، والمراد نفيه مطلقا. والمعنى وصفه صلّى الله عليه وسلّم بأنه ليس عنده رغبة فى الدنيا وتحصيلها، بحيث يصرف زمانه في تحصيلها بالجدّ في ذلك والإكثار منه في الأسواق، فلا ينافى أنه عليه الصلاة والسلام تجر لخديجة رضى الله عنها «2» فكيف يكون ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «اتّقوا الله وأجملوا في طلب الدنيا فإنّ كلّا ميسر لما خلق له «3» » ولا يواجه أحدا بما يكره، يكرم أهل   (1) أى لا ينسب إلى الفحش، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يحب كل فاحش متفحش» . (2) هذا قبل (الرسالة) أما بعدها فمما أفاء الله عليه. (3) رواية ابن ماجه والطبراني والحاكم، والبيهقى ولفظها: «أجملوا في طلب الدنيا؛ فإن كلّا ميسر لما كتب له منها» . كذا في الفتح الكبير، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ ميسر لما خلق له» رواه أحمد وأبو داود والترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 الفضل ويتألّف أهل الشرف، ويؤثر الداخل بوساده، وكان يخصف نعله ويرقع ثوبه، ويعود المرضى؛ حتى بعض الكفرة والمنافقين، ويشهد الجنائز، ويزور القبور، ويسلّم عليهم ويستغفر لهم، ولا يقام لغضبه إذا تعرّض للحق بشيء حتّى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، ولا يترك أحدا يقوم بين يديه ولا أن يمشى خلفه، ويقول: «خلّوا ظهرى للملائكة» «1» يخدم من خدمه، وله عبيد وإماء، ولا يترفع عليهم في مأكل ولا ملبس، قال أنس: «خدمته نحوا من عشر سنين، فو الله ما صحبته في حضر ولا سفر ولا خدمة إلا كانت خدمته لى أكثر من خدمتى له، وما قال لى أف قط، ولا قال لشيء فعلت: لم فعلت كذا؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعل كذا؟» ولا يجزى سيئة بمثلها، بل يعفو ويصفح، ويجود ويمنح، وكان يأكل ما وجد، ولا يتكلّف ما فقد، ويحبّ اللحم، ويعجبه الذراع، وسمّ فيه، والدّبّاء والعجوة والعسل والحلواء، وأحبّ الفاكهة إليه العنب والبطيخ، وكان أكثر طعامه التمر والماء، وإذا لم يجد صبر، ولا يأكل واحده، ويعاف الضبّ، والكلوتين «2» ، وأتي بلبن وعسل وقال: «أدمان في إناء؟ لا اكله ولا أحرّمه» ويأكل بثلاثة أصابع ويستعين بالرابع، ويتبع ما سقط من السفرة، ويقول من فعله غفر له، ويسمّى الله أولا ويحمده اخرا، ويأكل مقعيا لا متكّئا، ويقول: «اكل كما يأكل العبيد، وأجلس كما يجلس العبيد» ، وقوله كما يأكل العبيد: أى كأكل العبد في هيئة التناول ومصاحبة الرضا بما حضر تواضعا لله، لا كما يأكل أهل الكبر، وأهل الشّره، فالمراد بالعبد هنا الإنسان المتذلل المتواضع لربه، كما قاله المناوي، وقوله: وأجلس أى في حالة الأكل كما يجلس العبد، أى لأن التخلق بالأخلاق العبدية أشرف الأوصاف، لا كما يجلس أهل الكبر وأهل الشره من الاتّكاء، وما أكل قطّ ذا رائحة كريهة لنزول الملك عليه بالوحى ومجالسته، يل ولغير الملك من نسائه والناس. ولا يجمع بين لبن وسمك، ولا لبن وحامض، ولا بين حارّين ولا باردين، ولا قابضين ومسهلين، ولا غليظين، ويدفع ضرر   (1) رواه ابن سعد، ولفظه: «امشوا أمامي: خلوا ظهرى للملائكة» . (2) ولم يحرّمهما «أما الضب فلأنه ليس مما يأكله قومه» وفي الأصل «الطحال» ولعله كان يعاف الطحال كذلك والتصحيح من «الشمائل» للترمذي، وأما الكلوتين فلمكانهما من البول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 البعض بالبعض، كتمر بزبد، وبطيخ أو قثاء برطب، وينقع التمر ويشربه للهضم، ولا ينام بعد الأكل. وكان يشرب اللبن حليبا وممزوجا، والماء في ثلاثة أنفاس، ويمصّ ولا يعبّ، ويقول: «الكباد من العبّ» (الكباد: وجع الكبد) ، ولا يتنفس في الإناء، وإذا شرب دفع الباقى لمن عن يمينه، وإن كان عن يساره أشرف أو أسنّ، قال للأيمن: «الشربة لك، فإن شئت اثرته» ويشرب قاعدا، وربما شرب قائما. وكان يلبس الكتّان أو الصوف، أو القطن، وهو الغالب، قميصا أو رداء أو إزارا أو غيرهما، ويحب البيض والخضر، ولبس البردة والحبرة والجبّة والحلّة الحمراء، والقباء والساذج «1» والأسود والقز، والمعلّم أطرافه بسندس، وأحبّها إليه القميص، وروى أنه لبس السراويل، ولبس جبة خسروانية مفرجة عليها سجف من ديباج، والطيلسان في الحرّ، كاليوم الذى هاجر فيه. وله ثوبان للجمعة، وبرد أخضر للعيد، والعمامة السوداء والبيضاء، وهى الأكثر بغير قلنسوة، وبها، وبلا عمامة، ويجعل لها غالبا عذبة بين كتفيه «2» ولم تكن عمامته صلّى الله عليه وسلّم كبيرة تؤذي، ولا صغيرة لا تقي، ولم يتحرّر في طولها وعرضها، وما قال الطبرى من أن الطول سبعة في عرض ذراع، وأنها من صوف لم يثبت. وكان ثيابه فوق الكعبين، وربما جعلها النصف الساق، والكمّ إلى الرسغ، أو مع الأصابع، ويلبسها من ميامنه، وينزعها بالعكس، ويقول عند لبسه: «الحمد لله الذى كسانى ما أستر به عورتى وأتجمّل به» وإذا استجدّ ثوبا سمّاه، وقال: «اللهم لك الحمد كما كسوتنيه، أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له» ولبسه وأعطى الخلق «3» مسكينا. وله ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس. وله خاتم فضة فصّه منه، ونقشه «محمد رسول الله» لكن على هذا الشكل: محمد تحت، ثم رسول فوق، ثم لفظ الجلالة فوق ذلك، وهذه صفته:   (1) الملابس التي لا ألوان فيها. (2) لم تكن كما يفعلون اليوم، وإنما كانت كاسية ما بين المنكبين. (3) أى الثوب القديم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 والقراءة من أسفل السطر الثالث. ويتختم في خنصر يمينه ويساره، والأكثر الأوّل. ويلبس النعال السبتية، والتاسومة، والخف. وكان فرشه من أدم، حشوه من ليف، وطوله ذراعان وشيء، وعرضه ذراع ونحو شبر. وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه دخل على النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو على سرير وقد أثّر الشريط في جنبه، فبكى عمر رضى الله عنه، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: ما يبكيك يا عمر؟ فقال: «ذكرت كسرى وقيصر وما كانا فيه من الدنيا، وأنت رسول ربّ العالمين وقد أثّر بجنبك الشريط! فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: أولئك قوم عجّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، ونحن قوم أخرت لنا طيباتنا في الآخرة. وكان صلّى الله عليه وسلّم له عباءة تفرش له حيثما تنقّل، تثنى طبقين. وربما نام على حصير، وعلى الأرض، وما عاب مضطجعا قط، وإن فرش له اضطجع عليه، وإلّا علي الأرض. وكان يحب الطّيب، ويكره الريح الكريه، ويتطيّب بغالية ومسك، ويتبخّر بكافور وعود، ويكتحل بالإثمد في كل عين ثلاثا، ويأمر بالباه (يعنى النكاح والتزويج) وينهى عن التبتّل نهيا شديدا، وقال: «لا تبتّل في الإسلام» «1» ولا يحتقر فقيرا لفقره، ولا يهاب ملكا لملكه، ويعظّم النعمة وإن دقّت، ولا يذم منها شيئا، ويكرم ضيفه ويبسط له رداءه كرامة له، وكان يتوكأ على العصا، وقال: «التوكؤ على العصا من أخلاق الأنبياء» ورعى الغنم، وقال: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» وحكمة ذلك أن راعي الغنم- التى هي أضعف البهائم- يسكن في قلبه الرقة واللطف، فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان قد هذّب «2» أوّلا. وكان أشدّ حياء من العذراء في خدرها لا يثبت بصره في وجه أحد. وكان   (1) «نهى النبى صلّى الله عليه وسلّم عن التبتل» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وهو حديث متفق عليه من البخارى ومسلم عن سعد، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن سمرة. (2) وأيضا في رعى الغنم: الصبر، والتؤدة، ومعالجة المريضة، ورد الشاردة، والحفاظ عليها من الذئب وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 أحلم الناس وأشجعهم، وأسخاهم، لم يسأله أحد شيئا إلا أعطاه، ومن سأله حاجة لا يرده إلا بها أو بميسور حسن من القول، لا بمعسور خشن، فكان أجود بنى ادم على الإطلاق، يجود بجميع أنواع الجود، من بذل العلم، والمال، وبذل نفسه لله فى إظهار دينه، وهداية عباده، وإيصال النفع العميم بكل طريق من: إطعام جائعهم ووعظ جهّالهم، وقضاء حوائجهم، وتحمّل أثقالهم، فكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان إذا دخل رمضان أطلق كلّ أسير، وأعطى كلّ سائل، وإنما كان جوده يضاعف في شهر رمضان زيادة على جوده في غيره من الشهور؛ لأن جود ربه يتضاعف فيه، وقد جبل صلّى الله عليه وسلّم على حب ما يحبه الله، ولأنه كان يلتقى هو وجبريل عليه السلام في رمضان، وهو أفضل الملائكة وأكرمهم، ويدارسه الكتاب الذي أوتى إليه، وهو أشرف الكتب وأفضلها، وهو يحثّ علي الإحسان ومكارم الأخلاق. وفي مسلم قال: «ما سئل صلّى الله عليه وسلّم شيئا إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطى عطاء من لا يخشى الفاقة» . وعن صفوان بن أمية قال: «لقد أعطانى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أعطاني، وإنه لمن أبغض الناس إليّ، فما برح يعطينى حتّى إنه لأحبّ الناس إليّ» . وفي مغازى الواقدي أنه صلّى الله عليه وسلّم أعطى صفوان واديا مملوا إبلا وغنما، فقال: «أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي» ، ولذلك قالت له خديجة رضى الله عنها في أوّل بعثته حين رجع من غار حراء، بعد ما حصل من جبريل ما حصل، لما أمره بالقراءة: «والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرّحم، وتقرى الضيف، وتحمل الكلّ (أى الشئ الذى يحصل منه التعب لغيرك) ، وتكسب المعدوم (أى تعطيه له تبرعا منك) ، وتعين على نوائب الدهر (أى حوادثه) » . وكان صلّى الله عليه وسلّم أكثر الناس تواضعا، يجيب من دعاه من غنيّ أو فقير أو حرّ أو عبد. وكان عليه الصلاة والسلام في سفر، فأمر بإصلاح شاة «1» فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال اخر: وعليّ سلخها، وقال اخر: وعليّ طبخها، فقال   (1) أى ذبحه للطعام والأكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 صلّى الله عليه وسلّم «وعليّ جمع الحطب» فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك ذلك، فقال: «قد علمت، ولكني أكره أن أتميز عليكم؛ فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه» ، وقام فجمع الحطب. وكان أرحم الناس؛ يصغى الإناء للهرة «1» ، وما يرفعه حتّى تروى رحمة لها، وأعفّهم وأشدّهم إكراما لأصحابه، لا يمدّ رجليه بينهم، ويوسّع لهم إذا ضاق المكان، ولم تكن ركبتاه تتقدّمان جليسه، يبدأ من لقيه بالسلام، ويتجمّل لأصحابه، ويتفقدهم ويسأل عنهم، فمن مرض عاده، ومن غاب دعا له، ومن مات استرجع «2» فيه، وأتبعه الدعاء له. وكان عليه الصلاة والسلام تنام عيناه ولا ينام قلبه انتظارا للوحي «3» ، وإذا نام نفخ ولا يغطّ. وكان لا يأكل الصدقة، ويأكل الهدية، ويكافئ عليها، وأكل الخبز بالخل، وقال: «نعم الإدام الخل» . وكان من جالسه أو أقامه لحاجة صابره حتّى يكون الرجل هو المنصرف، وما جلس إليه أحد فقام حتّى يقوم الرجل، وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم «4» فيكون أبعد الناس منه، وكان يداعب أصحابه ولا يقول في مداعبته إلا حقّا «5» ، وكان يخفف الصلاة إذا سمع بكاء الصبى مما يعلم من شدّة وجد أمّ الصبى بولدها. وباع واشترى بنقد ونسيئة، والأغلب بعد البعثة الشراء، وبعد الهجرة لم يحفظ البيع إلا في ثلاث صور، وأجّر واستأجر وهو الأغلب، واجر نفسه قبل النبوّة   (1) يميلها لتشرب. (2) قال: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون» (3) قلوب الأنبياء أكبر من قلوب العارفين، ولذلك لا تنام؛ لأنها علي صفة الملائكة، يسبّحون الله الليل والنهار، لا يفترون، وكذلك قلب النبى [لا ينام لأنه علي ذكر مستمر، والله تعالى أعلم] ، والذى ينام: الغافل اللاهي. (4) فى الأصل «إلا أن يكون فيه قطيعة رحم» . (5) قال مرّة لأحد أصحابه: «يا ذا الأذنين» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذى عن أنس أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال له ذلك- يعنى يمازحه- وجاءه رجل يستحمله فقال: إنى حاملك على ولد ناقة، فقال: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال: وهل تلد الإبل إلا النوق؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 للرعى والإتجار، وشارك ووكّل وتوكّل، ووهب ووهب له، واستعار وضمن عن الله ضمانا خاصّا وعامّا، وشفع وشفع إليه، وسابق وصارع، وطلّق والي، وضاف وأضاف، وداوى وتداوى بمفرد ومركّب، ورقى واسترقي، وحذّر من التخمة وكثرة الأكل، وكان يصوم حتّى يقال لا يفطر، وعكسه، وأكثر صيامه فى شعبان، وكان يقوم من الليل حتّى تتفطّر قدماه، فتقول له عائشة: أتتكلف هذا وقد غفر الله لك؟! فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا! وكان أكثر دعائه: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبى على دينك» . وخرج من الدنيا ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين، فكان إذا شبع من التمر لم يشبع من الشعير، وإذا شبع من الشعير لم يشبع من التمر، وربما شدّ علي بطنه حجرا من الجوع. وقد اتاه الله مفاتيح خزائن الأرض فأبى أن يقبلها، واختار الآخرة عليها، وهذا على وجه الاختيار لا على وجه الاضطرار لأجل أن تتأسى به أمته، ومما يدل علي ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم «عرض عليّ ربى ليجعل لى بطحاء مكة ذهبا، فقلت: يا ربّ أشبع يوما وأجوع يوما، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» ، قصد صلّى الله عليه وسلّم أن يكون مشغولا بالله في طوري الشدة والرخاء، والنعمة والبلاء. قال بعضهم: وحكمة ربط الحجر أن يسكن بعض ألم الجوع؛ لأن حرارة المعدة الغريزية ما دامت مشغولة بالطعام قلّت الحرارة به، فإذا قلّ اشتغلت برطوبات الجسم وجواهره، فيحصل التألم حينئذ، ويزداد ما لم يضمّ إلى المعدة الأحشاء والجلد، فإنّ نارها حينئذ تخمد بعض الخمود، فيقلّ الألم، فيفيد إنّ شدّ الحجر على قدر ألم الجوع، فكلما زيد زيد. اهـ. وقال بعضهم: عادة أصحاب الرياضة «1» ، وكذا العرب وأهل المدينة إذا اشتد جوعهم وخليت بطونهم أن يربط كل واحد منهم حجرا على بطنه؛ لئلا تنزل أمعاؤه، فيشقّ عليه التحرك، فإذا ربط حجرا على بطنه يشتد بطنه وظهره فتسهل عليه الحركة، فكان صلّى الله عليه وسلّم أكثرهم رياضة، وكأن الله تعالى خلق فيه برودة تسكن الجوع وحرارته.   (1) يقصد بأصحاب الرياضة: الذين يدربون أنفسهم على الخلوات والذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وقال بعضهم: يقال لمن يؤمر بالصبر: «اربط على قلبك حجرا» ، فكان صلّى الله عليه وسلّم يؤمر بالصبر ويأمر أمته بالصبر، حالا ومالا. وفي كتاب السنن لسعيد بن منصور من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم من أبغضنى وعصاني، فأكثر له المال والولد» . اللهم من أحبنى وأطاعنى فارزقه الكفاف. اللهم ارزق ال محمد الكفاف. اللهمّ رزق يوم بيوم» . ويناسبه ما أورده السلفى أن يهوديّا أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ادع لي» فقال «اللهم أصحّ جسمه، وأكثر ماله، وأطل حياته» «1» . وورد في الجامع الصغير: «إنّ الله إذا أحبّ عبدا جعل رزقه كفافا» اهـ. قال العزيزي: أي بقدر كفايته، لا يزيد عليها فيطغيه، ولا ينقص عنها فيؤذيه؛ فإن الغنى مبطرة والفقر مذلة. وأما اقتناعه صلّى الله عليه وسلّم باليسير وسؤاله ربه أن يجعل رزقه قوتا، ففى حديث ابن عباس رضى الله عنهما: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبيت الليالى المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء، فكان عامة خبزهم الشعير» . وقد خيّره الله بين أن يكون نبيا ملكا وأن يكون نبيا عبدا، فقال: بل نبيا عبدا «ثلاثا» . فانظر إلى همته العلية كيف عرضت عليه خزائن الأرض فأعرض عنها وأباها، مع أنه صلّى الله عليه وسلّم لو أخذها لم ينفقها إلا في طاعة ربه، لكنه اختار العبودية المحضة، فيا لها من همّة شريفة رفيعة، ما أسناها، ونفس زكية كريمة ما أزكاها. وقال البدر الزركشي: «لم يكن النبى صلّى الله عليه وسلّم فقيرا من المال قط، ولا حاله حال فقير» ، بل كان أغنى الناس، قد كفى أمر دنياه في نفسه وعياله. وكان يقول في   (1) لأن اليهود لا يحبون إلا ذلك، فدعا لهم بما يحبون: إن هم إلا كالأنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ أحينى مسكينا» : إن المراد به استكانة القلب لا المسكنة التى هى أنه لا يجد ما يقع موقعا من كفايته، وكان يشدّد النكير على من يعتقد خلاف ذلك. وقال بعضهم: «الفقر لباس الأنبياء وزينة الأولياء» لأن الفقر يورث الخشوع، والخشوع يورث الكرامة. وقد قيل: «إنّ لكل شيء مفتاحا، ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء» . وخصائصه صلّى الله عليه وسلّم على أضرب: الأوّل الواجبات: الضحي، والأضحية، والوتر، والتهجد، والسواك، والمشاورة، ومصابرة العدوّ وإن كثر وزاد على الضعف، وقضاء دين من مات وعليه دين لم يخلف وفاء، وقيل: كان يفعله تكرّما لا وجوبا، وتخيير نسائه، وقيل: كان مستحبا. الثانى ما اختص به من المحرمات، فيكون الأجر في اجتنابه أكثر، وهو قسمان: أحدهما في غير النكاح، فمنه: الشّعر، والخطّ، والأكل متّكئا، وأكل الثوم والبصل، والكراث، وقيل: مكروه، وإذا لبس لأمته لا ينزعها حتّى يلقى العدوّ، وقيل: مكروه، وإذا شرع لزمه إتمامه، وألاينظر إلي ما متّع به الناس من الدنيا، وخائنة الأعين. الثانى في النكاح: فمنه إمساك من كرهت نكاحه، وقيل: تكرّما. الثالث المباحات: فمنه الوصال في الصوم، واصطفاء ما أبيح له من الغنيمة قبل القسمة، ودخول مكة بلا إحرام، وإباحة القتال فيها ساعة، والقضاء بالعلم، والحكم لنفسه وولده، ويشهد لنفسه وولده، ويقبل شهادة من يشهد له، ويحمى الموات لنفسه، ولا ينتقض وضوؤه بالنوم مضطجعا، وأبيح له أخذ الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج صلّى الله عليه وسلّم إليهما، ويجب على صاحبهما البذل وصيانة مهجته عليه الصلاة والسلام، وإباحة تسع نسوة، والصحيح الزيادة له، وانعقاد نكاحه بلا وليّ ولا شهود، وفي وجوب القسم بين أزواجه وإمائه خلاف. الرابع ما اختص به من الفضائل والإكرام: فمنه أن أزواجه اللاتى توفى عنهنّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 محرّمات على غيره أبدا، وفيمن فارقها في حياته أوجه:، أصحّها التحريم، وأن أزواجه رضوان الله عليهن أمهات المؤمنين، وأنهن أفضل من غيرهن من النساء، وجعل ثوابهن وعقابهن ضعفين «1» ، وأنه خاتم النبيين، وخير خلق الله، وأمته أفضل الأمم، وهى معصومة من الاجتماع علي ضلالة، وأصحابه خير القرون، وشريعته مؤيّدة وناسخة لجميع الشرائع، وكتابه معجز محفوظ عن التحريف والتبديل، وهو حجة على الناس بعد وفاته، ومعجزات الأنبياء انقرضت، ونصر بالرعب من مسيرة شهر، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا، وأحلّت له الغنائم، وأعطى الشفاعة والمقام المحمود، وأرسل إلى الناس كافة، وهو سيد ولد ادم، وأوّل من تنشق عنه الأرض، وأوّل شافع، وأوّل مشفّع، وأوّل من يقرع باب الجنة، وأكثر الأنبياء تبعا، وأعطى جوامع الكلم، وصفوف أمته في الصلاة كصفوف الملائكة، وكان لا ينام قلبه، ولا يحل لأحد أن يرفع صوته فوق صوته، ولا يناديه باسمه، ويخاطبه المصلّى بقوله: السلام عليك أيها النبي، ولو خاطب ادميا غيره بطلت صلاته، ويلزم المصلّى إذا دعاه أن يجيبه وهو في الصلاة، ولا تبطل صلاته، وكانت الهدية حلالا له، بخلاف غيره من ولاة الأمور، ولا يجوز الجنون على الأنبياء، بخلاف الإغماء، ومن راه في المنام فقد راه حقّا، وأن الأرض لا تأكل لحم الأنبياء، وأنّ كذبا عليه ليس ككذب على غيره. صليّ الله عليه وعلى اله وسلّم. فلما كان صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين وسيد المرسلين، واتاه الله علم الأوّلين والاخرين، ولا يحصى مناقبه أحد من العالمين صلّى الله عليه وعلى اله وصحبه أجمعين. قال البوصيري: فاق النبيّين في خلق وفي خلق ... ولم يدانوه في علم ولا كرم وكلّهم من رسول الله ملتمس ... غرفا من البحر أو رشفا من الدّيم وكلّ اي أتي الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم فمبلغ العلم فيه أنّه بشر ... وأنه خير خلق الله كلّهم   (1) لقوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] وقوله بعدها: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ [الأحزاب: 31] وعلل ذلك بقوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الأحزاب: 32] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 فقد أطلعه الله على ما شاء من المغيّبات، فوقعت على وفق إخباره بها فيما مضى وما هو ات، واستأثر سبحانه دون جميع الخلق بعلم أمور منها: مفاتح الغيب الخمس «1» . ولقد قبض النبى صلّى الله عليه وسلّم وما يعلم الروح، وقال الجنيد: الروح مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا يجوز لعباده البحث عنه بأكثر من أنه موجود، وثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسر الروح، أى لا يعيّن المراد به فى الاية «2» . وقد اختلف في مسألة اشتهرت بالديار المغربية، نشر الله بها أعلام السنة المحمدية، وهي: هل أحاط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعلم الله كما أحاط الحقّ بعلمه أو لا؟ فأجاب عن ذلك بعضهم بقوله: لا يصح ذلك، بل الذى ينبغى اعتقاده أن الله أعلم رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما لم يعلمه أحدا من الخلق، وحاشا سيد الأحباب أن يرضى من أمته أن يسوّوا بينه في العلم وبين رب الأرباب، ومن المحال أن يلحق العبد مرتبة السيد على كل حال، فاحذر الغلط، وإياك من ركوب التعاسيف والشّطط «3» . اهـ. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تطرونى كما أطرى عيسى» أى لا تبالغوا في مدحى، وفي معنى الحديث قال البوصيري: دع ما ادّعته النصاري في نبيّهم ... واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم فإنّ فضل رسول الله ليس له ... حدّ فيعرب عنه ناطق بفم   (1) قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34] (2) وقال بعض المفسرين في قوله تعالى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] أى كانت بكلمة «كن» وهذا يعنى أنها سر غامض لا يعلمه إلا الله تعالى، والقول فيها تهجّم على الله تعالى. (3) لو علم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علم الله لكان علم الله تعالى محدودا، ولكان الله تعالى محدودا؛ واعتقاد هذا صريح الكفر والعياذ بالله! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 ولقد أجاد القائل: الأمر أعظم من مقالة قائل ... إن رقّق البلغاء أو إن أفحموا ماذا يقول المادحون ومدحه ... حقّا به نطق الكتاب المحكم ويحكى أن العارف الكبير أبا حفص عمر بن الفارض رحمه الله تعالى قيل له: لم لا مدحت النبى صلّى الله عليه وسلّم؟! فأنشد قائلا: أري كلّ مدح في النبيّ مقصّرا ... وإن بالغ المثني عليه وأكثرا إذا الله أثني بالذي هو أهله ... عليه، فما مقدار ما يمدح الوري؟ فمن تمام الإيمان به صلّى الله عليه وسلّم: اعتقاد أنه لم يجتمع في بدن ادمى من المحاسن الظاهرة ما اجتمع في بدنه الشريف صلّى الله عليه وسلّم، فيكون ما يشاهد من محاسنه الظاهرة علامة على محاسنه الباطنة، ولا أكمل منه صلّى الله عليه وسلّم، ولا مساو له في هذا المدلول، فكذلك في الدّالّ، ولذا نقل القرطبى عن بعضهم أنه قال: لم يظهر لنا في الدنيا تمام حسنه صلّى الله عليه وسلّم وإلا لما طاقت أعين الصحابة النظر إليه صلّى الله عليه وسلّم» فإذا كان في الآخرة ظهر تمام ذلك، ولذا قال صاحب البردة: فهو الذي تمّ معناه وصورته ... ثم اصطفاه حبيبا بارئ النّسم منزّه عن شريك في محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم وقد جمع الله له صلّى الله عليه وسلّم محاسن السير وأحاسن السياسة والخبر، مع أنه أمّيّ لا يكتب ولا يقرأ، ولا معلّم له من البشر، نشأ بين جهّال، يتيما من أبويه، فعلّمه الله مكارم الأخلاق، وجعل له من أكارم الاداب أوفر خلاق. وما أحسن قول القائل: أخذ الإله أبا الرسول ولم يزل ... برسوله الفرد اليتيم رحيما نفسي الفداء لمفرد في يتمه ... والدرّ أحسن ما يكون يتيما   (1) ولذا ثبت عن عمرو بن العاص وغيره أنه ما كان يستطيع أن يثبت نظره في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ قال: «والله ما ملأت عينى من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قط» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وكذلك جمع صلّى الله عليه وسلّم ما تفرّق في الأنبياء من مكارم الأخلاق، وسمّاه عظيما فقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] ؛ فكان فيه صلّى الله عليه وسلّم خلق ادم (بفتح الخاء وسكون اللام) ، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخلّة إبراهيم، ولسان إسماعيل، ورضى إسحاق، وفصاحة صالح، وحكمة لوط، وبشرى يعقوب، وشدّة موسي، وصبر أيوب، وطاعة يونس، وجهاد يوشع، وصوت داود، وحبّ دانيال، ووقار إلياس، وعصمة يحيي، وزهد عيسى. ثم دعا الله تعالى عباده للاقتداء به التخلّق بأخلاقه فقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] ؛ فقد أيّده الله تعالى بالمعجزات الباهرة، وأكرمه بالايات الظاهرة، وخصّه بالشفاعة العظمى في الدار الآخرة، صلّى الله عليه وسلّم وعترته الطاهرة، وصحابته النجوم الزاهرة، قال الأديب جمال الدين الدمشقى فى ذلك: يا عين إن بعد الحبيب وداره ... ونأت مرابعه وشطّ مزاره فلقد ظفرت من الزمان بطائل ... إن لم تريه فهذه اثاره ولقد سبقه إلي ذلك الصلاح الصفدي، فقال: أكرم باثار النبيّ محمد ... من زاره استوفي السرور مزاره يا عين دونك فانظري وتمتّعي ... إن لم تريه فهذه اثاره واقتدى بهما في ذلك أبو الحزم المدني، فقال: يا عين كم ذا تسفحين مدامعا ... شوقا لقرب المصطفي ودياره إن كان صرف الدهر عاقك عنهما ... فتمتّعي يا عين في اثاره وبالجملة فاثاره صلّى الله عليه وسلّم وماثره هى الواسطة العظمى في تشييد هذا الدين المحمدي «1» العظيم البنيان الذى هو ببركته صلّى الله عليه وسلّم باق إلى اخر الزمان، وكذلك ما   (1) يقصد الشرع الإلهى الذى خص به محمد صلّى الله عليه وسلّم من دون الأنبياء، بدليل أنه عبر بها في قوله «فشريعة المصطفي» الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 دامت معجزة القران التى هي أكبر المعجزات باقية بين أظهرنا، فلا ينسخ الماضى الات، فشريعة المصطفى عليه الصلاة والسلام باقية إلى يوم القيامة، ومعجزة القران الباهرة الدلائل ليست- ولله الحمد- داخلة في قول القائل: تتخلّف الاثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الفصل الثالث في ذكر معجزاته أكبر معجزاته صلّى الله عليه وسلّم القران الذى أعجز الإنس والجان، وتحدّى به بلغاء العرب وفصحاءهم- الذين هم الرؤساء في قوانين المعانى والبيان، والفرسان في ميادين الفصاحة والشجعان- عن معارضته على أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وتنازل معهم إلى الإتيان بسورة من مثله، وفي السور ما هو ثلاث ايات، فلم يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، ونكصوا على أعقابهم خائبين؛ فغيرهم إن عارض أولى بالعجز والخذلان؛ إذ محال سكوتهم ثلاثا وعشرين سنة «1» عن معارضة لو قدروا عليها، خصوصا مع كونه صلّى الله عليه وسلّم ينادى عليهم بالعجز عن معارضته، والقصور عن بلوغ الغرض من مناقضته، ويوبخهم ويسبّ الهتهم، فلم يستطع أحد منهم أن يرفع رأسه ويناديه بجواب، وإنما يزدادون تحسرا عن المعارضة، ويعترفون لبعضهم في الافتراء في قولهم إن هذا إلا سحر يؤثر، وسحر مستمر، وأساطير الأولين، ويعتذرون ظاهرا بقولهم: قُلُوبُنا غُلْفٌ قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ- ولمّا قالوا- لو نشاء لقلنا مثل هذا- ردّ الله عليهم بقوله: وَلَنْ تَفْعَلُوا فما فعلوا، وما قدروا، ولو قدروا علي أدنى معارضة لبادروا إليها، وأفحموا الخصم الذى كانوا محافظين على إطفاء نوره، وإنما أعجز كلّ بليغ لجزالته وغرابة أسلوبه وبلاغته وانتهائه في الفصاحة إلى الطرف الأقصي؛ فإنه لا أفصح ولا أوضح ولا أكمل ولا أجزل ولا أنسب ولا أعذب من ألفاظه، ولا أسدّ ولا أشدّ التئاما وتشاكلا من نظمه، وأمّا معانيه فكلّ ذى لبّ يشهد لها بالتقدم في أبواب البلاغة، والترقّى إلى درجات الإتقان والبيان الواضح. وقيل: إعجازه هو كونه خارجا عن جنس كلام العرب، من النظم والنثر   (1) مدة رسالته صلىّ الله عليه وسلّم حتّى وفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 والخطب. وما كان من المعجزات معلوما بالقطع، منقولا بالتواتر كالقران، فلا شك في كفر منكره وارتداده، وأنه بمنزلة منكر وجود النبى صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا. وما لم يكن من المعجزات كذلك: فإن اشتهر: بدّع «1» منكره وفسّق؛ كنبع الماء من بين أصابعه الشريفة صلّى الله عليه وسلّم، وتكثير الطعام اليسير. وإن لم يشتهر: ولكن ثبت بطريق صحيح أو حسن، عزّر منكره إن كان مثله يخفى عليه ذلك قبل التوقيف.] فهو النور المستبين والحق الواضح المبين، لا شيء أسطع من أعلامه، ولا أصدع من أحكامه، ولا أوضح من بلاغته، ولا أرجح من فصاحته، ولا أكثر من إفادته، ولا ألذ من تلاوته، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «القران فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، وحكم ما بينكم» «2» ، وقال تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] الاية، وقال تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] قال بعضهم: إذا أردت محادثة الحقّ تعالى أخذت المصحف فلا أزال أناجيه ويناجيني، وإذا أردت محادثة رسوله أخذت كتاب حديثه، وكذلك كلّ من أردت مناجاته من الأولين والاخرين. اهـ. وقد حقق العارفون أنّ كلام الله: رسالة من الله لعباده، ومخاطبة لهم، وهو البحر المشتمل على جواهر العلم، المتضمن بظاهره وباطنه، ولهذا قاموا باداب سماعه، ورعوه حق رعايته، وقد تجلّى لخلقه في كلامه لو كانوا يعقلون. وكذلك كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مما يتعين حسن الاستماع إليه؛ لأنه صلّى الله عليه وسلّم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي. قال الشيخ أبو إسحاق الثعلبى رحمه الله: «إن عدد ايات القران ستة الاف وستمائة وستّ وستون اية؛ فما هو أمر ألف اية، وما هو نهى ألف اية، وما هو وعد ألف اية، وما هو وعيد ألف اية، وما هو إخبار ألف اية، وما هو قصص وأمثال ألف اية، وما هو تحليل وتحريم خمسمائة اية، وما هو تسبيح وتهليل مائة اية، وما هو ناسخ ومنسوخ ست وستون اية» «3» .   (1) أى اتهم بأنه مبتدع. (2) فى فضائل القران لابن كثير، وعزاه إلي الترمذي. (3) فى هذا العدد خطأ فليراجع النص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 وقال بعضهم: ألا إنّما القران تسعة أحرف ... أتيت بها في بيت شعر بلا خلل حلال، حرام، محكم، متشابه ... بشير، نذير، قصّة، عظة، مثل ووفد غالب بن صعصعة على الإمام علي بن أبى طالب كرم الله وجهه، ومعه ابنه الفرزدق، فقال له: من أنت؟ فقال: غالب بن صعصعة، قال: ذو الإبل الكثيرة؟ قال: نعم. قال: فما فعلت بإبلك؟ قال: أذهبتها النوائب، ثم قال له: يا أبا أخطل، من هذا الذى معك؟ قال: ابني، وهو شاعر، قال: علّمه القران فهو خير له من الشعر، فكان ذلك في نفس الفرزدق حتّى قيّد نفسه، والى على نفسه أن لا يحلّ قيده حتي يحفظ القران، فحفظه في سنة، وذلك قوله: وما صبّ رجلي في حديد مجاشع ... مع القيد إلا حاجة لي أريدها فقد جمع الله له صلّى الله عليه وسلّم كل ما أوتيه الأنبياء من معجزات، وخصائص، ولم يجمع ذلك لغيره، بل خصّ كلّا بنوع من المعجزات، وذهب كلّ نبى بمعجزاته، ولم يبق لها أثر ظاهر خلا الروايات عنها والأخبار، وأبقى لنا صلّى الله عليه وسلّم القران، معجزا خالدا بين ظهرانينا إلى يوم القيامة بعد ذهابه، لا تنكسف شموسه، ولا تذوي زهراته، يعلم ذلك من أدرك منه شرح الايات المحكمة وأسباب نزولها، وما اشتملت عليه من الأمر والنهي، والأحكام والمعاني، والإعجاز والإيجاز، والفصاحة والبلاغة، والبيان والبديع، وأخبار الأوّلين والاخرين، وشرائع الأمم السالفة، والوعد والوعيد، وذكر الدنيا وأحوالها، والآخرة وأهوالها، فكلّ من نظر في كتاب الله تعالى من الفصحاء البلغاء في سائر الأعصر، وأمعن النظر فيه استخرج بمعرفته جواهر المعانى من كنوز الايات الكريمة، واطلّع علي أسرار البلاغة، وعلم ما انطوت عليه من أسرار الإعجاز، فقد علم بالقران الذى تحدّى به صلّى الله عليه وسلّم صدق دعوى النبوة جميع ما أخبر به علما قطعيا يقينيا لا يقدح فيه شيء من الاحتمالات العقلية، مع ما نقل عنه صلّى الله عليه وسلّم من المعجزات والأمور الخارقة للعادة بطريق الشهرة والاحاد، وما بلغ القدر المشترك منه حد التواتر في المعجزات، وإن كانت تفاصيلها مروية احادا، قال بعضهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 قد انقضت معجزات الرسل منذ قضوا ... نحبا وأفحم منه ذلك الجيل ومعجزات رسول الله باقية ... محفوظة ما لها في الدهر تحويل تكفّل الله هذا الذّكر يحفظكم ... فلن يضيع الذى بالله مكفول هذي المفاخر، لا تحظي الملوك بها ... الملك منقطع، والوحى موصول [كيفية نزول القران] : وأنزل الله القران كله إلى السماء الدنيا جملة، ثم فرّقه في ثلاث وعشرين سنة مدة الوحى، بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين، فكان جبريل ينزل بالسورة أو الاية لأمر يحدث، ويخبر النبى صلّى الله عليه وسلّم بموضعها من القران، وعلى هذا الترتيب كان صلّى الله عليه وسلّم يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه، وعرضه عليه في السنة التى توفى فيها مرتين. وما استقر عليه الأمر في العرضة الأخيرة هو الذى وقع عليه ترتيب المصحف العثماني، وأمّا ما وقع في غيره من مصاحف بعض الصحابة كمصحف ابن مسعود، ومصحف أبيّ بن كعب من الترتيب والقراات، وزيادة بعض السور مما هو مخالف للمصحف العثماني، فقد وقع ذلك أوّلا بتوقيف، ثم نسخ ذلك بما استقر عليه الأمر في العرضة الأخيرة وكتب في المصحف العثماني، ولم يبلّغ النسخ من ذكر من الصحابة، ولا ما استقرّ عليه الأمر، فأبقوا مصاحفهم على ما كان عندهم. فإن قيل: نزوله جملة إلى السماء هل كان قبل نبوته صلّى الله عليه وسلّم أو بعدها؟ أجيب بأنه جوّز أبو شامة الأمرين، واستظهر هو الأوّل، والجلال السيوطى الثانى، قال: والاثار صريح سياقها فيه، وربما فهم من كلام بعض المتأخرين اختيار المعية، فإن قيل: فما السر في نزوله منجّما؟ وهلّا نزل كسائر الكتب جملة؟ أجيب: هذا سؤال تولّى الله جوابه، فقال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32] يعنون كما أنزل على من قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله كَذلِكَ أي أنزلناه مفرقا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الفرقان: 32] أى لنقوى به قلبك؛ فإن الوحى إذا كان يتجدد في كل حادثة كل أقوى للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجديد العهد به وبما معه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الرسالة من ذلك الجناب الرفيع العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولهذا كان صلّى الله عليه وسلّم أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل عليه السلام، وقيل: معنى «لنثبت به فؤادك» لنحفظه، ففرّق عليه ليثبت عنده حفظه. وقد اختلف: هل في القراءة شيء أفضل من شيء؟ فقيل: لا، وعليه الأشعرى والقاضى وأبو بكر الباقلانى؛ لأن الأفضل يشعر بنقص المفضول، وكلامه تعالى حقيقة واحدة لا نقص فيه، وقيل: نعم، لظواهر الأخبار، كخبر: «ألا أعلّمك بأعظم سورة في القران؟» «1» ، وخبر «إنّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تعدل ثلث القران» «2» والتفضيل يرجع إلى عظم الأجر والثواب، وإلى اللفظ لا إلى الصفة؛ لأن ما تضمنته نحو اية الكرسى وسورة الإخلاص ليس موجودا في نحو تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ والتحقيق: أنه لا خلاف في المعنى، بل الأوّل محمول علي ذات القران وحقيقته، والثانى على غيرها كما علمت، قاله شيخ الإسلام. وسميت السورة سورة لقطعها من السورة الاخرى، إذ السور: القطع، فلما قرن بعض السور ببعض سمّي المجموع قرانا، كما يسمّى بعضه قرانا لذلك أيضا، قاله شيخ الإسلام في شرحه على البخارى. وقد روى أنّ الله تعالى أنزل القران دفعة إلى السماء الدنيا، فوضع في بيت العزة، فحفظته الحفظة، وكتبته الكتبة، ثم نزل منها بلسان جبريل إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم شيئا فشيئا بحسب المصالح. فإن قيل: ما قدر المنزّل؟ أجيب بأنه كان على حسب المصالح قلة وكثرة، فربما نزل العشر من الايات، كما صح في قصة الإفك، وأوّل سورة المؤمنين، ونزول الخمس منها، ونزول بعض اية كما صحّ في نزول غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «3» واحدها، وهى بعض اية.   (1) رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائى وابن ماجه، ومالك في موطئه، وهو حديث فيه طول: بخصوص سورة الفاتحة، وانظر ابن كثير في التفسير. (2) رواه الإمام أحمد، والنسائى في اليوم والليلة، وغيرهما من الرواة كثير. (3) النساء: من الاية 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وكان جبريل يخبر النبى صلّى الله عليه وسلّم بموضعها من القران. فالقران في اللوح المحفوظ على النحو الذى في مصاحفنا الان. فإن قيل، فما معنى الإنزال؟ أجيب أن لهم فيه اختلافا، فمنهم من قال: إنه عبارة عن إظهار القراءة، ومنهم من قال: إن الله ألهم كلامه جبريل وهو في السماء، وعلّمه قراءته، ثم أدّاه جبريل في الأرض. فإن قيل: فما كيفية التأدية؟ أجيب بأنهم ذكروا فيها طريقتين: إحداهما: أن النبى صلّى الله عليه وسلّم انخلع من صورة البشرية إلي صورة الملكية، وأخذه من جبريل. وثانيتهما: أن الملك انخلع إلي البشرية حتّى يأخذه الرسول منه، والأوّل أصعب الحالين. والمراد بالانخلاع الظهور بتلك الصورة، لا مفارقة الطبع بالمرة كما هو ظاهر، فإن قيل: فما كيفية تلقّى جبريل له؟ أجيب بما قاله الطيبي: لعله تلقّفه من الله تلقّفا روحانيا، أو يحفظه من اللوح المحفوظ، فينزل به إلي الرسول ويلقيه عليه، وفسر بعض المحققين التلقف الروحانى بالإلهام. فإن قيل: فما النازل علي النبى صلّى الله عليه وسلّم؟ أجيب بأن فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اللفظ والمعنى، وأن جبريل حفظ القران من اللوح المحفوظ، ونزل به. والثاني: أن جبريل إنما نزل بالمعانى خاصة، وأنه صلّى الله عليه وسلّم علّم تلك المعانى وعبّر عنها بلغة العرب، وتمسك قائله بقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ «1» . والثالث: أن جبريل ألقى عليه المعنى، وأنه عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب، وأن أهل السماء يقرؤنه بالعربية، ثم إنه نزل به كذلك.   (1) (الشعراء: 192، 193) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري، أنه لم ينزل وحى إلا بالعربية، ثم ترجم كل نبى لقومه، بدليل قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ (4) [إبراهيم: 4] . والمراد بقومه أهل بلده، أى حيّه الذى هو قريش: فهم قومه، وهم غير أهل دعوته «1» ؛ إذ دعوته عامة لجميع الناس، بدليل قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (158) [الأعراف: 158] . وقال بعضهم: كتاب الله أفضل كلّ قيل ... رواه المصطفى عن جبرئيل عن اللوح المحيط بكل شيء ... عن القلم الرفيع عن الجليل وقد اختلف العلماء في ترتيب السور: هل هو توقيفى من النبى صلّى الله عليه وسلّم؟ أو باجتهاد من الصحابة؟ بعد الإجماع على أن ترتيب الايات توقيفي، والقطع بذلك. فذهب جماعة من العلماء إلى أن ترتيب السور باجتهاد من الصحابة، منهم الإمام مالك، والقاضى أبو بكر، في أحد قوليه، وجزم به ابن فارس، وبما استدل به لذلك اختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور «2» . وذهب جماعة اخرون إلى أنه توقيفى، منهم القاضى أبو بكر في أحد قوليه، وخلائق، قال بعضهم: ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ، علي هذا الترتيب. وقد أثبت الصوفية عالم المثال، وجعلوه عالما متوسطا بين عالم الأجساد والأرواح، وقالوا هو ألطف من عالم الأجسام، وأكثف من عالم الأرواح، وبنوا   (1) يعني: وغير عشيرته كذلك هو مرسل إليهم، لأنه صلّى الله عليه وسلّم مرسل للخلق كافة، وأما غيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فلم يرسل أحدهم إلا إلى قومه وعشيرته وأهل بلده خاصة. (2) قال ابن كثير في فضائل القران: «وقد حكى القرطبيّ عن أبى بكر بن الأنبارى في كتاب (الرد) أنه قال: «فمن أخّر سورة مقدّمة أو قدّم أخرى مؤخّرة كمن أفسد نظم الايات وغيّر الحروف والايات، وكان مستنده اتباع مصحف عثمان رضي الله عنه؛ فإنه مرتب علي هذه النحو المشهور» . أهـ. والحقّ أن هذا هو الذي لا يحلّ غيره؛ لأن الصحابة أجمعوا علي شيء أخذوه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأصبح ملزما بالاتباع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 علي ذلك تجسد الأرواح وظهورها في صور مختلفة من عالم من المثال، وقد يستأنس لذلك بقوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) [مريم: 17] . فتكون الروح الواحدة كروح جبريل في وقت واحد مدبّرة لشبحه الأعلي، وهذا الشبح المثالى الذى تمثل لمريم. وينحل بهذا ما قد اشتهر نقله عن بعض الأئمة، أنه سأله بعض الأكابر عن جسم جبريل عليه السلام، فقال: أين كان يذهب بجسمه الأوّل الذى سد الأفق بأجنحته كما تراءى للنبى صلّى الله عليه وسلّم في صورته الأصلية عند إتيانه إليه في صورة دحية؟ وقد تكلف بعضهم الجواب عنه بأنه يجوز أن يقال: كان يندمج بعضه في بعض، إلي أن يصغر حجمه، فيصير بقدر صورة دحية، ثم يعود ينبسط إلى أن يصير كهيئته الأولى، على قاعدة جواز التخلخل والتكاثف في الأجسام. وما ذكره الصوفية أحسن، وهو أن يكون جسمه الأوّل بحاله، لم يتغير، وقد أقام الله تعالى له شبحا اخر، وروحه تتصرف فيهما جميعا إلى وقت واحد، قال الصوفية: وعلى هذا الأصل تتخرج مسائل كثيرة، وتنحلّ بها إشكالات غير يسيرة. ومن أمهات معجزاته عليه الصلاة والسلام: انشقاق القمر، وقد أجمع المفسرون وأهل السنة علي وقوعه لأجله صلّى الله عليه وسلّم؛ فإن كفار قريش لما كذبوه ولم يصدّقوه طلبوا منه اية تدل على صدقه في دعواه، فأعطاه الله تعالى هذه الاية العظيمة، التى لا قدرة لبشر على ايجادها، دلالة علي صدقه عليه الصلاة والسلام في دعواه الواحدانية لله تعالى، وأنه منفرد بالربوبية، وأن هذه الالهة التى يعبدونها باطلة لا تنفع ولا تضرّ، وأنّ العبادة لا تكون إلا لله واحده لا شريك له. قال ابن عبد البر: «قد روى هذا الحديث- يعنى حديث انشقاق القمر- عن جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير، إلى أن انتهى إلينا وتأيّد بالاية الكريمة» أ. هـ. وفي الترمذى من حديث ابن عمر في قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) [القمر: 1] ، قال: قد كان ذلك علي عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ انشق فلقتين، فلقة دون الجبل وفلقة خلف الجبل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اشهدوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي: وانشق مرتين بالإجماع. قال الحافظ ابن حجر: «وأظن قوله «بالإجماع» متعلق بانشق لا بمرتين؛ فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلّى الله عليه وسلّم» أ. هـ. وما أحقّه صلّى الله عليه وسلّم بقول أبى الطيب: متى ما يشر نحو السماء بطرفه ... تخرّ له الشّعري، وينكسف البدر * وأن الملأ من قريش تعاقدوا على قتله، فخرج عليهم، فخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدورهم، وأقبل حتّى قام على رؤسهم، فقبض قبضة من تراب وقال: شاهت الوجوه، وحصبهم، فما أصاب رجلا منهم من تلك الحصباء شئ إلا قتل يوم بدر. ورمى يوم حنين بقبضة من تراب في وجوه القوم، فهزمهم الله تعالى. ونسج العنكبوت، وتعشيش الحمامتين الوحشيتين عليه في الغار، ونبات الشجر هناك تجاهه سترا له وحفظا من الكفار. ونصره بريح الصبا «الشرقية» ، وبالرعب للعدو يسير بين يديه مسيرة شهر، وتأييده بالملائكة، وعصمته في السر والجهر. وما كان من أمر سراقة بن مالك، إذ بعث خلفه في الهجرة فساخت قوائم فرسه في الأرض الجلمد. ومسح على ظهر عناق لم ينز عليها الفحل فدرّت، وشاة أم معبد، ودعوته لعمر بن الخطاب أن يعزّ الله به الإسلام، ودعوته لعليّ رضى الله عنه أن يذهب عنه الحرّ والبرد، وتفله في عينيه وهو أرمد فعوفى من ساعته ولم يرمد بعد ذلك. وردّه عين قتادة بعد أن سالت على خده، فكانت أحسن عينيه وأحدّهما. ودعاؤه لعبد الله بن عباس رضى الله عنهما بالتأويل والتفقه في الدين، وكان يسمّى الحبر والبحر لعلمه. ودعاؤه لجمل جابر فصار سابقا بعد أن كان مسبوقا. ودعاؤه لأنس «1» بن مالك رضى الله عنه بطول العمر وكثرة المال والولد   (1) هو أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الصحابي خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: دعا له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أكثر ماله وولده وبارك له في ما اتيته» توفي سنة 93 هـ من (شجرة النور الزكية في طبقات المالكية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 فعاش مائة سنة أو نحوها، وولد له مائة وعشرون ولدا ذكرا لصلبه، وكان نخله يحمل في السنة مرتين. ودعاؤه في تمر جابر بالبركة، فأوفى غرماءه وفضل ثلاثة عشر وسقا. ومن معجزاته نزول الغيث المغيث باستسقائه عليه الصلاة والسلام، مرة للمشركين بمكة، ومرة للمسلمين بالمدينة يستمر فيها أسبوعا. وإذا النوائب أظلمات أحداثها ... لبست بوجهك أحسن الإشراق ودعاؤه علي عتبة بن أبى لهب بقوله: «اللهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك» فأكله الأسد بالزرقاء من الشام. وشهادة الشجر له بالرسالة في خبر الأعرابى الذى دعاه إلي الإسلام فقال: هل لك من شاهد على ما تقول؟ فقال: نعم، هذه الشجرة، ثم دعاها فأقبلت، فاستشهدها فشهدت أنه كما قال ثلاثا ثم رجعت إلي منبتها. وأمر إنسانا أن ينطلق إلي نخلات فيقول لهن: «أمركنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تجتمعن، فاجتمعن» ، فلما قضى حاجته أمره أن يأمرهن بالعود إلى أماكنهن فعدن «1» . وقوله: «إنى لأعرف حجرا بمكة كان يسلّم عليّ قبل أن أبعث» «2» . وحنين الجذع لمّا فارقه للمنبر حتّى سمع منه صوت كصوت الإبل، فضمّه إليه فسكن، فقال عليه الصلاة والسلام: «والذى نفسى بيده لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة» . وكان الحسن البصرى رضي الله عنه إذا حدّث بهذا الحديث بكى وقال: «يا عباد الله الخشبة تحن إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شوقا إليه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه» أ. هـ.   (1) وذلك لستره صلّى الله عليه وسلّم أثناء قضاء حاجته، ومثل هذه الأشياء معروفة لا ينكرها إلا منكوس القلب. (2) رواه مسلم، والإمام أحمد، والترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وتسبيح الحصى في كفه: قال أنس بن مالك رضى الله عنه: كنا جلوسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ سبع حصيات (كما في رواية أبى ذر) ، حتى سمعنا التسبيح، ثم صبّهن في يد أبى بكر فسبّحن، ثم في يد عمر فسبّحن، ثم في يد عثمان فسبّحن، ثم صبّهن في أيدينا فما سبحان. وكذلك الطعام بحضرته. وإعلام الشاة له بسمّها، وشكوى البعير إليه كثرة العمل وقلة العلف، وسؤال الظبية له أن يخلّصها من الحبل لترضع ولديها وتعود، فخلّصها. وليس من المعجزات «1» أن الثعبان كلّمه. وأخبر صلّى الله عليه وسلّم عن مصارع المشركين يوم بدر، فلم يعد أحد منهم مصرعه. وإخباره أن طائفة من أمته يغزون في البحر، وأن أم حرام بنت ملحان منهم، فكان كذلك. وقال لعثمان رضي الله عنه: «تصيبه بلوى شديدة» فكانت، وقتل. وقوله للأنصار: «إنكم ستلقون بعدي أثرة» (أى تعبا وشدة) فكانت زمن معاوية، وقوله في الحسن رضى الله عنه: «إن ابنى هذا سيد، وإنّ الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فكان في زمن معاوية. وإخباره بقتل العنسى الكذّاب، وهو بصنعاء ليلة قتله وبمن قتله. وقال لثابت بن قيس: «تعيش حميدا وتقتل شهيدا» فقتل يوم اليمامة. وارتدّ رجل من المسلمين، ولحق بالمشركين فبلغه أنه مات، فقال: إنّ الأرض لا تقبله، فكان كذلك. وقال لرجل يأكل بشماله: كل بيمينك، فقال: لا أستطيع، فقال له: لا استطعت، فلم يطق أن يرفعها إلي فيه بعد «2» . ودخل مكة عام الفتح، والأصنام حول الكعبة معلّقة، وبيده قضيب، فجعل يشير إليها ويقول: «جاء الحق وزهق الباطل» وهى تتساقط. وقصة مازن بن الغضونة الطائى وسواد بن قارب؛ فإنهما تكلما في نبوته   (1) أى لم يثبت في الصحيح. (2) إنما دعى عليه النبى صلّى الله عليه وسلّم، لأنه كان كذابا، وكان يستطيع، فمنعه الكبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 صلّى الله عليه وسلّم، فخافاها، وأسلما. ومن نظم سواد بن قارب: فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... بمغن فتيلا عن سواد بن قارب «1» وشهادة الضب بنبوته. وإطعام ألف من صاع شعير بالخندق فشبعوا والطعام أكثر مما كان، وأطعمهم من تمر يسير، وجمع فضل الأزواد على نطع ودعا لها بالبركة ثم قسمها في العسكر، فقامت بهم. وأتاه أبو هريرة بتمرات قد سفّهن في يده، وقال: ادع لى فيهن بالبركة، فدعا له، قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فأخرجت من ذلك التمر كذا وكذا وسقا فى سبيل الله، وكنا نأكل منه ونطعم حتّى انقطع في زمن عثمان رضي الله عنه. ودعاؤّه أهل الصفة لقصعة ثريد، قال أبو هريرة رضى الله عنه: فجعلت أتطاول ليدعونى حتّى قام القوم وليس في القصعة إلا اليسير في نواحيها، فجمعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصار لقمة ووضعها علي أصابعه، وقال: كل بسم الله، فو الذى نفسى بيده ما زلت اكل منها حتّى شبعت أ. هـ. وأهل الصفّة فقراء لا منازل لهم ولا عشائر، ينامون في المسجد ويظلّون فيه، وصفّة المسجد (أى الموضع المظلّل منه) مثواهم، فنسبوا إليها، ويقال لهم: ضيوف الإسلام، فكان صلّى الله عليه وسلّم يعشّى معه بعضهم، ويفرّق بعضهم علي الصحابة يعشّونهم، ومن مشاهيرهم أبو هريرة، وواثلة بن الأسقع، وأبو ذر رضي الله عنهم. ومن معجزاته أنه أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يزوّد أربعمائة راكب من تمر كان في اجتماعه كربضة البعير «2» ، فزوّدهم كلهم منه، وبقى تحسبه كما كان.   (1) ولإسلام سواد بن قارب قصة جميلة فارجع إليها في المطولات من كتب السير. (2) يعنى كان مقدرا يسيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 ونبع الماء من بين أصابعه الكريمة كأمثال العيون في الانسجام، حتى شرب القوم وتوضأوا وهم ألف وأربعمائة. قال ابن العربى في «قبسه» : وذلك خصيصية له، لم تكن لأحد قبله. وأتى بقدح فيه ماء فوضع أصابعه في القدح فلم تسع، فوضع أربعة منها، وقال: «هلمّوا» ، فتوضأوا أجمعين وهم من السبعين إلي الثمانين. وورد في غزوة تبوك علي ماء لا يروى واحدا والقوم عطاش، فشكوا إليه، فأخذ سهما من كنانته فغرسه فيه، ففار الماء وارتوى القوم، وكانوا ثلاثين ألفا. وشكا إليه قوم ملوحة في مائهم، فجاء في نفر من أصحابه حتي وقف على بئرهم، فتفل فيه، فتفجّر بالماء العذب. وأتته امرأة بصبي لها أقرع، فمسح علي رأسه فاستوى شعره وذهب داؤه. وانكسر سيف عكاشة يوم بدر فأعطاه جزلا من حطب، فصار في يده سيفا ولم يزل بعد ذلك عنده. وعزّت كدية «1» بالخندق عن أن يأخذها المعول، فضربها فصارت كثيبا أهيل «2» . ومسح علي رجل أبى رافع وقد انكسرت فكأنه لم يشكها قط. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمّتى ما زوى لي منها» «3» . قال الصلاح الصفدي: وقد صدّق الله قوله بأنّ ملك أمّته بلغ أقصى المشرق والمغرب، ولم ينتشر في الجنوب ولا في الشمال. وقال لرجل يدّعى الإسلام وهو معه في القتال: «إنه من أهل النار» فصدّق الله قوله بأن ذلك الرجل نحر نفسه، وهذا لا يعرف ألبتة بشيء من النجوم ولا بالنظر في الكتب.   (1) صخرة. (2) مجتمع الرمل يتساقط باندفاع. (3) في حديث طويل رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود، والترمذى وابن ماجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 وأبطل الله تعالى ببعثته الكهانة، فانقطعت، وكانت ظاهرة موجودة. وأخبر بأن عمّارا تقتله الفئة الباغية، فكان مع على- رضي الله عنه- وقتله جماعة معاوية. وأنذر بموت النجاشي، وخرج هو وأصحابه إلي البقيع فصلّوا عليه، فورد الخبر بموته- بعد ذلك- في ذلك اليوم. وخرج على نفر من أصحابه مجتمعين، فقال: «أحدكم في النار ضرسه مثل أحد» فماتوا كلهم علي الإسلام، وارتدّ منهم واحد، وهو الدجال الحنفي، فقتل مرتدّا مع مسيلمة الكذاب. وقال لاخرين منهم: «اخركم موتا في النار» فسقط اخرهم موتا في نار، فمات، وهو سمرة بن جندب. وأخبر بأنه يقتل أمية بن خلف الجمحي، فخدشه يوم أحد خدشا لطيفا، فكانت منيّته منه. وأخبر فاطمة ابنته رضى الله عنها أنها أوّل أهله لحوقا به: فكان، وبأن أطول نسائه يدا أسرعهن لحوقا به، فكانت زينب بنت جحش الأسدية؛ لطول يدها بالصدقة. وأخبر بمقتل الحسين ومصرعه وأهله، فكان كذلك. وخطب أمامة بنت الحارث بن أبي عوف، وكان أبوها أعرابيا جافيا فقال: إنّ بها برصا، ولم يكن بها، فقال: «فلتكن كذلك» ، فبرصت من وقتها، فتزوّجها ابن عمها يزيد، فولدت له الشاعر شبيب بن يزيد، وهو المعروف بابن البرصاء. وحكي «1» الحكم بن أبى العاص مشيته صلّى الله عليه وسلّم، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتكفّأ في مشيته، فالتفت يوما فراه «2» وهو يتخلّج في مشيته، فقال: «كن كذلك» ، فلم يزل يرتعش في مشيته من يومئذ إلى أن مات في خلافة عثمان. وقد ثبت أن النبى صلّى الله عليه وسلّم نفاه   (1) أى حاكى وقلّد سخرية منه صلّى الله عليه وسلّم. (2) بل كان عليه الصلاة والسلام يري من خلفه كما يرى من أمامه كما هو ثابت في الحديث الصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 من المدينة إلي الطائف، فلذلك كان طريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد اختلف في السبب الموجب لنفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياه، فقيل: كان يتسمّع سرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويطّلع عليه من باب بيته، وأنه الذى أراد النبى صلّى الله عليه وسلّم أن يفقا عينه بمدري «1» في يده، لما اطّلع عليه من الباب. وقيل سببه: أنه كان يحكيه في مشيته وبعض حركاته. وقد ذكره عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في هجائه لمروان بن الحكم فقال: إنّ اللعين أبوك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلّجا مجنونا يمشي خميص البطن من عمل التّقي ... ويظلّ من عمل الخبيث بطينا ومعنى قول عبد الرحمن: «إنّ اللعين» إلى اخره: ما روي عن عائشة رضى الله عنها من طرق ذكرهاابن أبي خيثمة أنها قالت لمروان بن الحكم، حين قال لأخيها عبد الرحمن بن أبى بكر لما امتنع من البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد، ما قال، والقصة مشهورة: «أما أنت يا مروان، فأشهد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعن أباك وأنت في صلبه» «2» . وقد روى في لعنه ونفيه أحاديث كثيرة، ولا حاجة إلى ذكرها، إلا أن الأمر المقطوع به أن النبى صلّى الله عليه وسلّم مع حلمه وإغضائه علي ما يكره ما فعل به ذلك إلا لأمر عظيم، ولم يزل منفيا حياة النبى صلّى الله عليه وسلّم، فلما ولي أبو بكر الخلافة قيل له في الحكم ليردّه إلى المدينة فقال: ما كنت لأحلّ عقدة عقدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك عمر، فلما ولى عثمان رضى الله عنه الخلافة ردّه، وقال: «كنت قد شفعت فيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوعدنى بردّه» «3» . وتوفى في خلافة عثمان رضي الله عنه. إلي غير ذلك مما لا يحصي، ويكفى أن منها «4» كرامات الأولياء التى لا تستقصى «5» . وما يذكره بعض القصّاص من أن القمر دخل في جيب النبى صلّى الله عليه وسلّم، وخرج من كمه، فليس له أصل، كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشى عن العماد بن كثير، وكذلك لم يخلق الورد من عرقه ولا من غيره كما يتخيله بعض العوام أنه من   (1) حديدة أو خشبة مدببة الطرف. (2) وبقية كلامها له: «فأنت فظاظة من لعنة الله» . (3) وهذه أيضا رد علي الذين يزعمون أن عثمان كان يوالى أقرباءه. ألا لعنة الله علي الكذبة. (4) أى من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم: كل كرامة أكرم بها ولى من الأولياء، فإن سببها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ إذ لولاه ما كان وليّا. (5) أى من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم: كل كرامة أكرم بها ولى من الأولياء، فإن سببها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ إذ لولاه ما كان وليّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 عرقه أو البراق أو جبريل، بل خلقه الله كسائر الأزهار، ولم يكن وطؤه صلّى الله عليه وسلّم يؤثّر في الصخر دون الرمل، كما توارد عليه كثيرون «1» ، بل كان كغيره من الناس، أي في عدم تأثير وطء قدميه الكريمتين في الحجر وتأثيرهما في الرمل. وقال بعضهم معدّدا لاياته صلّى الله عليه وسلّم: ومن تلكم الايات وحي أتي به ... قريب الماتي مستجمّ العجائب تقاصرت الأفكار عنه فلم يطع ... بليغا ولم يخطر علي قلب خاطب حوي كلّ علم، فاحتوي كلّ حكمة ... وفات مرام المستمر الموارب أتانا به لا عن رواية «2» مرتئي ... ولا صحف مستمل ولا وصف كاتب يواتيه طورا في استجابة سائل ... وإفتاء مستفت ووعظ مخاطب وإثبات برهان وفرض شرائع ... وقصّ أحاديث ونص مارب وتصريف أمثال وتثبيت حجّة ... وتعريف ذى جحد وتوقيف كاذب وفي مجمع النادي وفي حومة الوغي ... وعند حدوث المعضلات الغرائب يصدّق منه البعض بعضا كأنما ... يلاحظ معناه لغير المراقب فيأتي علي ما شئت من طرقاته ... قويم المعاني مستدرّ الضرائب وعجز الوري عن أن يجيبوا بمثل ما ... وصفناه معلوم بطول التجارب وذكر الإمام فخر الدين أن من كانت معجزاته أظهر يكون ثواب أمته أقلّ، قال السبكي: إلا هذه الأمة؛ فإن معجزات نبيها أظهر وثوابها أكثر من سائر الأمم. وقد ألّف العلماء الحفّاظ والثقات الأيقاظ في سيرته ومعجزاته كتبا كثيرة ومجلدات كبيرة، وما أتوا بعشر معشار فضائله، ولا بقطرة من بحار فواضله (وكان أكثر مما قيل ما تركوا) كما قال بعضهم: لو أنّ بحرا مداد الكاتبين وما ... في الأرض من شجر أقلام مستطر لم يحصروا بعض فضل المصطفى أبدا ... وكيف يحصر شئ غير منحصر   (1) كونه صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى في الصخر أثر، وإذا مشي علي الرمل لا يؤثر: اشتهر ذلك عن بعض العلماء، ولم يرد في الصحاح. والله أعلم. (2) فى الأصل المطبوع (رؤية) وبها ينكسر الوزن، وقد رأينا أن كلمة (رواية) تجبر كسر الوزن وتؤدى المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 الفصل الرابع فى ذكر أزواجه صلّى الله عليه وسلّم وقرابته ومواليه قد سلف تزوّجه صلّى الله عليه وسلّم من خديجة وعائشة وغيرهما، وموضوع هذا الفصل ذكر أزواجه أمّهات المؤمنين بالبيان، وعدّتهم خمس عشرة، دخل بإحدى عشر منهنّ، ولم يدخل بأربع، وتوفيت في حياته اثنتان، وقبض- عليه الصلاة والسلام- عن تسع. 1- وتزوّج النبى صلّى الله عليه وسلّم السيدة خديجة بنت خويلد ولها أربعون سنة، وكانت مسمّاة لورقة بن نوفل، فاثر الله عزّ وجلّ بها نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وأقامت معه صلّى الله عليه وسلّم بعد الزواج أربعا وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية أيام؛ خمس عشرة سنة قبل الوحى والباقية بعده، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قبرها، ولم تكن سنّت الصلاة على الجنائز يومئذ، وغسلتها أمّ أيمن وأم الفضل، ودفنت بالحجون، عن نحو خمس وستين سنة. وهي سيدة النساء وأسبقهنّ نكاحا وإسلاما، ولا خلاف في أن أوّل أزواجه صلّى الله عليه وسلّم خديجة، وكان تزوّجها وهو ابن خمس وعشرين سنة. قال في المواهب: وخرّج الإمام أحمد عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم ابنة عمران، واسية امرأة فرعون» «1» . وصحّح ابن العماد تفضيل خديجة لما ثبت أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة حين قالت له: «قد رزقك الله خيرا منها» : «لا والله ما رزقنى خيرا منها؛ امنت بى حين كذّبنى الناس، وأعطتنى مالها حين حرمنى الناس، ورزقت منها الولد وحرمته من غيرها» . وسئل ابن داود: أيتهما أفضل؟ فقال: عائشة أقرأها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل من ربها السلام علي لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ فهى   (1) رواه الطبراني والحاكم، وهو حديث متواتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 أفضل. قيل له: فمن أفضل: خديجة أم فاطمة؟ قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فاطمة بضعة مني» ، فلا أعدل ببضعته أحدا» » ويشهد له قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أما ترضين أن تكونى سيدة نساء أهل الجنة؟!» «2» . واحتجّ من فضّل عائشة بأنها في الآخرة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الدرجة، وفاطمة مع عليّ فيها. وقال شيخ الإسلام في شرح البهجة: «الذى أختاره أنّ الأفضلية محمولة علي أحوال؛ فعائشة أفضل من حيث العلم، وخديجة من حيث تقدمها، وإعانتها له صلّى الله عليه وسلّم في المهمات، وفاطمة من حيث البضعة والقرابة، ومريم من حيث الاختلاف في نبوتها، وذكرها في القران مع الأنبياء، واسية من حيث الاختلاف في نبوتها، وإن لم تذكر مع الأنبياء أ. هـ. وسئل السبكى عن ذلك، قال: الذى نختاره وندين الله به أن فاطمة أفضل، ثم أمها خديجة، ثم عائشة، وأما خبر الطبراني «3» «خير نساء العالمين مريم ابنة عمران، ثم خديجة بنت خويلد، ثم فاطمة بنت محمد، ثم اسية امرأة فرعون» ، فأجاب عنه ابن العماد بأن خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة، لا باعتبار السيادة، واختار السبكى أن مريم أفضل من خديجة لهذا الخبر، وللاختلاف في نبوتها. ووقع الاختلاف في نبوّة أربع نسوة: مريم، واسية، وسارة، وهاجر، وزاد العلّامّة المتقن السراج بن الملقن في شرحه لعمدة الأحكام: حوّاء، وأم موسى عليهما السلام. وسيأتى ما يرد علي التفضيل بالحيثيات. ومما يناسب ذكره هنا أنه وجد في بعض الرسائل ما نصّه: فى ليلة السابع   (1) وقد قال أحد العلماء: «إن خديجة أفضل من ناحية أنها أم لها، أفضل من بنتها قطعا، وفاطمة أفضل من ناحية أنها بضعة منه صلّى الله عليه وسلّم» ، وعلى كل حال فمسألة التفضيل أمرها إلي الله، وليس لنا أن نخوض في ذلك. (2) انظر مناقب السيدة فاطمة في كتب الحديث والسير. (3) والإمام أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 والعشرين من شهر رجب الفرد من سنة اثنتين وتسعين وتسعمائة، قرأ شيخ الإسلام قطب الأنام، من خضعت له رقاب الفضلاء، وارتضع من ثدى معارفه النبلاء، العارف بالله تعالى الشيخ محمد الصدّيقي: المعراج الشريف، وأبدع فيما قرأ، وقدّم للحاضرين أحسن قرا، ووقع أن سأله إنسان: هل الأفضل إبراهيم ابن نبينا وأخته، أو أبو بكر الصدّيق؟ فأجاب بأنّ أبا بكر أفضل، وجرى بينه وبين السائل كلام لا ينبغى ذكره، فكتب بعض الأفاضل سؤالا ورفعه إلي العلماء من أهل العصر، فكتب شيخ الإسلام أحمد بن قاسم الجواب عنه. وصورة السؤال: «الحمد لله» : ما تقول ساداتنا وموالينا الأئمة الأعلام، علماء السنّة وعقائد الإسلام، من أعقم الله عن الإتيان بمثلهم الليالى والأيام، حفظهم الله على كافة الأنام، ونصر بهم شريعة نبيه، وأخمد بهم عقائد أهل الشيع والبدع إلى يوم السلام، بجاه سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله عليه أفضل الصلاة وأشرف السلام، امين. هل أحد من أولاد أبينا ادم صلّى الله عليه وسلّم غير النبيين والمرسلين من أهل البيت، ومن أولاد النبى صلّى الله عليه وسلّم أو من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، أفضل من سيدنا عبد الله أبي بكر الصديق رضي الله عنه أو لا؟ وإذا قلتم لا، فهل قول الحافظ جلال الدين السيوطى فى «خصائصه الصغري» : «وذكر الإمام علم الدين العراقى أن فاطمة وأخاها إبراهيم أفضل من الخلفاء الأربعة باتفاق صحيح بجواز اعتقاد والإفتاء به أو لا؟ وإذا قلتم لا، فهل إفتاء بعض الموجودين بأنه لا يجوز أن يقال: إن أبا بكر الصديق رضى الله عنه أفضل من سيدنا إبراهيم، وأخته فاطمة، ولدى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصيب فيه أو لا؟ وما هو مذهب أهل السنة؟ ابسطوا لنا الجواب، أحسن الله لكم الثواب؛ فإن غالب الناس خصوصا بعض العوام اعتقدوا أن ما أفتى به هذا البعض هو الصحيح، وأنتم العلماء الراسخون ذووا الترجيح فلا تكلونا إلي التلويح. وصورة الجواب: الحمد لله الهادى للصواب، وصلّى الله على سيدنا محمد واله وصحبه أجمعين امين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 الحقّ- إن شاء الله تعالى-، وهو الذى دّلت عليه نصوص الشرع، ونصوص أئمة الشرع، أنّ مولانا الصدّيق أفضل من عدا الأنبياء من الناس من غير استثناء أحد بعد ذلك مطلقا، وهذا هو الذى نعتقده وندين الله به، ولم نعلم أحدا من العلماء الذين أخذنا عنهم حكى خلاف ذلك، ولولا خوف الإطالة التي لا يحتملها المقام نقلنا نصوص الشرع ونصوص أئمته، وبيّناها بما يندفع به توهّم القاصرين واغترار المغرورين. وأما ما ذكر عن الجلال السيوطى نقلا عن العلم العراقي فلا يجوز التعويل عليه، ولا العمل به عند من ألهم رشده، وكان له إلمام بكلام الأئمة وتصرفاتهم، فإنه مجرّد دعوى مخالفة لنصوص الشرع وأئمته من غير سند يعتدّ به، وليست دعوى الاتفاق بالأمر الهيّن، ولا كل من ادّعاه يقبل منه ذلك، وكم دعاوى للاتفاق، بل وللإجماع مردودة لا يلتفت إليها كما لا يخفى علي ممارس العلوم، ويكفي في رد هذه الدعوى أنهم حكوا في التفضيل بين عائشة وفاطمة رضي الله عنهما ثلاثة أقوال: تفضيل عائشة، تفضيل فاطمة، التوقف. وممن حكى هذا الخلاف العلامة الإمام عز الدين بن جماعة، فقال: اختلف في التفضيل بين عائشة وفاطمة علي مذاهب ثالثها- وهو الأسلم- التوقف أ. هـ. ومعلوم انحطاط رتبة عائشة عن الصدّيق رضى الله عنهما؛ فإذا جرى قول بتفضيل عائشة على فاطمة رضي الله عنهما، وقول اخر بالتوقف بينهما، فكيف يصح دعوى الاتفاق على تفضيل فاطمة رضي الله عنها على الخلفاء الأربعة الذين منهم وأفضلهم الصديق رضي الله عنه؟! ودعوى الخلاف مقدّمة علي دعوى الاتفاق؛ لأن الأوّل من قبيل الإثبات، والثانى من قبيل النفي، والإثبات مقدّم علي النفى لأن معه زيادة علم كما تقرّر ذلك في الأصول، وبهذا ثبت ردّ دعوى الاتفاق بالنسبة لفاطمة رضي الله عنها، فليثبت في ردّه بالنسبة للباقي، إذ لا قائل منّا ومن هذا المدّعى لذلك الاتفاق بالفضل، بل مجرد النظر إلى ردّه بالنسبة لفاطمة رضي الله عنها قرينة قوية تقرب من الصريح إن لم تكن منه، علي اختلال تلك الدعوى وعدم تحرّى صاحبها وعدم احتياطه في نقله. ومما يعارضها أشد المعارضة إن لم يكن مصرّحا بردّها قول العلّامة محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 ابن أبى بكر الرازي في شرح «يقول العبد» : واعلم أنه تعالى قد فضّل محمدا علي جميع الأنبياء، ثم بعده أفضل هذه الأمة وأرجحهم من جميع الصحابة والال: أبو بكر الصديق رضى الله عنه. ثم قال: ومن قال إن أحدا أفضل من أبى بكر كان معتزليا ورافضيا، ثم قال أيضا: واعلم أنّ بعد أبى بكر وعمر وعثمان لم يكن أحد في أمة محمد ولا في أصحابه وأهل بيته أفضل من عليّ رضي الله عنه أ. هـ. فتأمل قوله «فى أمة محمد ولا في أصحابه وأهل بيته» فإنه بمنزلة الصريح إن لم يكن صريحا في تفضيل علي رضى الله عنه علي جميع من عدا الثلاثة من أهل البيت وغيرهم من غير استثناء أحد منهم، وإذا كان هذا في عليّ رضى الله عنه، فكيف بمن هو أفضل منه كالصدّيق رضي الله عنه، ولما استدل الكمال بن الهمام علي تقديم علي رضي الله عنه بعد الثلاثة بقوله ما نصه: «ولما أجمعوا (أى الصحابة) علي تقديم عليّ بعدهم، دلّ على أنه كان أفضل من بحضرته؛ فكان منهم الزبير وطلحة، فثبت أنه كان أفضل الخلق بعد الثلاثة» . بحث معه في هذا الاستدلال تلميذه العلّامة الكمال بن أبى شريف، فقال: لا يلزم من كونه أفضل الخلق بعد الثلاثة ممن بحضرته، ومن غاب عنه أو تقدمت وفاته علي الإجماع المذكور كأبى عبيدة بن الجراح، وحمزة والعباس، وفاطمة، نعم إذا ضم إلى ذلك الإجماع علي أنه أفضل ممن عدا الثلاثة من الخلق ثبت ذلك، وثبتت أفضليته عليهم بأدلة السمع أ. هـ. فانظر قول هذا العلامة المتأخر الواسع الاطلاع «نعم إذا ضمّ إلى ذلك الإجماع إلى اخره» مع التمثيل قبله بفاطمة رضي الله عنها تجده جازما بتفضيل علي- رضى الله عنه- على فاطمة رضي الله عنها، فكيف بمن هو أفضل من عليّ بمراتب، وهو الصديق رضى الله عنه؟! وهذا مما يردّ دعوى الاتفاق بالنسبة لفاطمة رضي الله عنها، ويقتضى ردّه مطلقا بالطريق الذى قدّمناه. وأما إفتاء بعض الموجودين المشار إليه، فقد علم حاله وحالنا فيه، مما قررنا. والرأي: الضرب عنه صفحا؛ فإنه لا أثر له، لا سيما ولم نعلم أن أحدا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 أهل الإفتاء أفتى بخلاف ما قلناه، ومنصب الإفتاء قد انحطت رتبته وتسوّره كل من أراد، بل تجرأ عوام الطلبة عى التكلم فيما شاؤا بما شاؤا «1» وعلى إساءة الأدب في حق علماء الدين وسادات العارفين، لتغافل العلماء من أولى الأمر عن أحوالهم وتشاغلهم عن البحث عن أوصافهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. وأما قول السائل: فإن غالب الناس- خصوصا العوام- إلي اخره فهو عجيب، فإنه يدل على أن غير العوام اعتقد ذلك أيضا، مع أنه لا يعتقد ذلك من عنده أدنى معرفة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، والله تعالى أعلم. (قال ذلك وكتبه الفقير أحمد بن قاسم العبّادي، غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه، وفعل ذلك بوالديه ومشايخه امين، وصلواته على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين) . قال العزيزى في شرح الجامع الصغير في حديث: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران، واسية بنت مزاحم امرأة فرعون» ما نصه: قال العلمي: «وأفضلهن فاطمة، بل هى وأخوها إبراهيم أفضل من سائر الصحابة، حتى الخلفاء الأربعة» أ. هـ. وقال الرمليّ: «أفضل نساء العالم مريم بنت عمران، ثم فاطمة بنت النبى صلي الله عليه وسلّم، ثم خديجة، ثم عائشة» . رواه الإمام أحمد والطبراني عن ابن عباس. ا. هـ وقد تقدّم في جواب البكرى وابن قاسم العبادى ما يخالف ذلك، وأنّ الصدّيق أفضل الناس بعد الأنبياء، على أن العزيزى قال في حديث: «إن الله اتخذنى خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإنّ خليلى أبو بكر» هو أفضل الناس عى الإطلاق بعد الأنبياء أ. هـ.   (1) هذا في وقته هو، فكيف به في وقتنا الذى انطلقت فيه الألسنة بدعوى الاجتهاد، وأوقعوا المسلمين في الحرج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وقول ابن قاسم فيما تقدم: «ويكفى في رد هذه الدعوي» إلى اخره، قال شيخ الإسلام في شرح البهجة: «الذى أختاره أنّ الأفضلية محمولة على أحوال؛ فعائشة أفضل من حيث العلم، وخديجة أفضل من حيث تقدمها، وإعانتها له صلّى الله عليه وسلّم فى المهمات، وفاطمة من حيث البضعة والقرابة، ومريم من حيث الاختلاف في نبوّتها، وذكرها في القران مع الأنبياء، واسية من حيث الاختلاف في نبوتها، وإن لم تذكر مع الأنبياء أ. هـ. وأقول: إن صحّ التفضيل بالحيثية رجع الخلاف لفظيا ودفع التعارض في الأقوال، إلا أنه لا يمكن أخذه بالقبول على عمومه في جميع الحيثيات؛ لأنه فتح باب يعيي سدّه، فلو سلم قبوله في حق السيدة فاطمة وأخيها، فلا يقبل في حق الإمام على كرم الله وجهه بالنسبة إلى أبى بكر رضى الله عنه، نظرا إلي حيثية القرابة القريبة أو الصهارة، على أنه يلزم من ذلك اعتبار الحيثية في حق السيدة رقية وأم كلثوم، زوجتي عثمان بن عفان رضى الله عنه، كما يلزم أن الشخص الواحد يكون فاضلا من جهة ومفضولا من أخرى، فيرجع إلى التساوي، مع أنّ مطمح النظر الأفضلية واعتقادها. وأما المحبة لمثل على رضي الله عنه لحيثية النسب من ذريته، على اختلاف طبقاتهم، فشىء اخر إذا كان معها حب أبى بكر رضي الله تعالى عنه وبقية الصحابة، ولذلك قال على كرم الله وجهه «لا يجتمع حبّى وبغض أبى بكر وعمر» لأنهما ضدّان، وهما لا يجتمعان؛ فالمحبة المعتبرة الممدوحة هى ما كانت مع اتباع سنّة المحبوب؛ إذ محبته من غير اتباع سنته- كما عليه الشيعة والرافضة من محبتهم مع مجانبتهم للسنّة-، لا تفيد مدّعيها شيئا من الخير؛ لأنها ليست محبة حقيقية، بل هى خالية عن التأدب باداب المحبوب، فأتباع عليّ الحقيقيون هم أهل السنة، لا الشيعة، وعليه الحديث الذى أخرجه الدار قطنى مرفوعا: «يا أبا الحسن أما أنت وشيعتك (أى حزبك المولعون بحبك أكثر من غيرك) في الجنة، وإن قوما يزعمون أنهم يحبونهم يصغّرون الإسلام ويلفظونه ويمرقون منه كما يمرق السهم من الرميّة، لهم نبز يقال لها الرافضة، فإذا أدركتهم فقاتلهم؛ فإنهم مشركون» قال الدارقطني: ولهذا الحديث عندنا طرق كثيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 2- ثم تزوج صلّى الله عليه وسلّم بعد موت خديجة سودة بنت زمعة بنت قيس بن عبد شمس بن عبدودّ بمكة قبل الهجرة، وكبرت عند النبى صلّى الله عليه وسلّم، فأراد فراقها، فوهبت نوبتها من النبى عائشة، وقالت: لا رغبة لي في الرجال، وإنما أريد أن أحشر مع أزواجك، فأمسكها. وكان يقسم لبقية أزواجه ويقسم نوبتها لعائشة، وتوفيت بعده في شوال سنة أربع وخمسين بالمدينة. والقسم في حقه صلّى الله عليه وسلّم غير واجب، وإنما هو من باب العدل والإنصاف. 3- ثم تزوج صلّى الله عليه وسلّم عائشة بنت أبى بكر الصديق رضي الله عنه بمكة، قبل الهجرة بسنتين، وقيل بثلاث، وهى بنت ست أو سبع، وقالت: تزوجنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنى لألعب مع الجوارى والبنات، فما شعرت بذلك حتّى حبستنى أمى عن الخروج، فوقع في نفسى أنى قد زوّجت، وما سألتها حتي أخبرتنى ابتداء. وبنى بها صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، وهى بنت تسع، ومات عنها وهى بنت ثمانى عشرة. وتوفيت سنة ثمان وخمسين، وقيل غير ذلك، وصلّى عليها أبو هريرة، ودفنت بالبقيع، ونزل في حفرتها عبد الله بن الزبير، وهو ابن أختها أسماء بنت أبى بكر. ولم يتزوج صلّى الله عليه وسلّم بكرا غيرها. وروى عن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة أنها أنشدت بيت لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب فقالت: رحم الله لبيدا فكيف لو رأى هذا الزمان! وقال عروة: وأنا أقول؛ رحم الله أم المؤمنين، فكيف لو رأت هذا الزمان! وقال هشام: رحم الله عروة فكيف لو رأى هذا الزمان! وقال حماد: رحمهم الله فكيف لو رأوا زماننا! «1» . 4- ثم تزوج صلّى الله عليه وسلّم حفصة، زوّجه إياها أبوها عمر بن الخطاب رضى الله عنه في شعبان، علي رأس ثلاثين شهرا من مهاجره صلّى الله عليه وسلّم، بعد وفاة زوجها خنيس ابن حذافة بن قيس السهميّ، وكان صحابيا بدريا توفى بالمدينة من جراحة أصابته ببدر، وقيل بأحد، وتوفيت في شعبان سنة خمس وأربعين   (1) ونحن نقول: رضى الله عنهم: كيف لو رأوا زماننا هذا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 بالمدينة، وقد بلغت ستين سنة. وروى أن النبى صلّى الله عليه وسلّم طلّقها فأتاه جبريل، فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوّامة قوّامة، وروى أنه لما بلغ عمر طلاقها حثا على رأسه التراب، وقال: «ما يعبأ الله بعمر وابنته بعد هذا» . فنزل جبريل من الغد وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر. 5- ثم تزوج صلّى الله عليه وسلّم أمّ حبيبة رملة بنت أبى سفيان، وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش، فولدت له جارية سميت حبيبة، فكنيت بها، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، وأصدقها عنه النجاشى أربعمائة دينار، وروى أربعة الاف، وبعث بها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع شرحبيل بن حسنة، وهو الذى تولى نكاحها وكتب بذلك إلي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقبل. وروى عن أم حبيبة أنها رأت في المنام كأن زوجها عبد الله بن جحش بأسوأ حال، وأرثّها، فلما أصبحت أعلمها أنه قد تنصّر وارتد، فثبتت علي الإسلام، وأكبّ على الخمر، فلم يزل يشربها حتي مات، ورأت في المنام أباها يقول لها: «يا أم المؤمنين» . ولما بلغ أبا سفيان تزويج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم حبيبة ابنته، قال «ذلك الفحل لا يقدع أنفه» . وعن ابن عباس في قول الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً (7) [الممتحنة: 7] ، قال: نزلت حين تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّ حبيبة بنت أبى سفيان، وقيل إن الذى ولى نكاحها عثمان بن عفان، وقيل خالد بن سعد بن العاص، وتوفيت سنة أربع وأربعين، وهى السنة التى حجّ فيها معاوية، وصلّى عليها مروان. 6- ثم تزوج صلّى الله عليه وسلّم أمّ سلمة، واسمها هند بنت أبى أمية، واسمه حذيفة، ويقال سهل ابن المغيرة، القرشية المخزومية، وأخت عمار بن ياسر لأمه، وقيل من الرضاع، تزوّجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد انقضاء عدّتها أربعة أشهر وعشرا، وأعرس بها في شوال سنة أربع من الهجرة، روت عن النبى صلّى الله عليه وسلّم وعن أبى سلمة بن عبد الأسد، وفاطمة الزهراء، وروى عنها ابن عباس، وأسامة بن زيد، وخلق. ماتت في شوال سنة تسع وخمسين، ويقال ماتت سنة اثنتين وستين، وعمرها أربع وثمانون سنة، وهى اخر أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم موتا، وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 ميمونة اخرهن موتا، وكانت قبله تحت أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، فولدت له سلمة، وعمر، ودرّة، وكانت أم سلمة هاجرت مع زوجها أبى سلمة إلى أرض الحبشة، ورمى يوم أحد بسهم فمات منه في جمادى الآخرة سنة أربع، وكان ابنها عمر مع علي بن أبى طالب يوم الجمل، وولّاه البحرين، وله عقب بالمدينة. 7- ثم تزوج صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة، وهى ابنة عمته «أميمة» بالتصغير بنت عبد المطلب، وكانت قبله صلّى الله عليه وسلّم عند مولاه زيد ابن حارثة الكلبي، مولى النبى صلّى الله عليه وسلّم، فشكاها إليه، وقال: إنها سيئة الخلق، واستأمره في طلاقها، فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «أمسك عليك زوجك يا زيد» ، وهو قول الله عز وجل: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ (بالإسلام) وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ (بالعتق) أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ (37) [الأحزاب: 37] ، وكان صلّى الله عليه وسلّم راها فأعجبته، فقال: سبحان الله مقلّب القلوب، ثم إن زيدا ضاق ذرعا بما رأى من سوء خلقها فطلّقها، فزوّجها الله عز وجل من السماء نبيّه صلّى الله عليه وسلّم سنة ثلاث، حين انقضت عدّتها بغير مهر، ولا تولّى أمرها أحد كسائر أزواجه. ولم تلد زينب لزيد، ولما بشّرت زينب بتزويج الله عز وجل نبيه صلّى الله عليه وسلّم إياها، ونزول الاية في ذلك جعلت على نفسها صوم شهرين شكرا لله عزّ وجل، وأعطت من بشّرها حليا كان عليها. وقيل: تزوجها سنة أربع، وقيل خمس من الهجرة بالمدينة، وهى بنت خمس وثلاثين سنة، وصنعت له أم سلمة حيسا، ولم يعقد له صلّى الله عليه وسلّم بها غير الله، وهي التى قال الله تعالى فيها: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها وأولم عليها، وأطعم المساكين خبزا ولحما، وفيها نزلت اية الحجاب، وكانت كثيرة الصدقة، وصحّ أنها كانت تقول لأزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم «زوّجكن اباؤكن وزوّجنى الله من فوق سبع سموات» . وتوفيت في خلافة عمر رضى الله عنه بالمدينة، سنة عشرين، وقيل عاشت ثلاثا وخمسين، ودفنت بالبقيع، وهى أوّل من مات من أزواجه بعده، وأوّل من حمل علي نعش، وروى عن عائشة أنها قالت: «يرحم الله زينب لقد نالت الشرف الذى لا يبلغه شرف في الدنيا، إن الله عز وجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 زوّجها نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ونطق بذلك كتابه، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال ونحن حوله: «أسرعكن لحوقا بى أطو لكن يدا» فبشّرها بسرعة لحاقها به، وأنها زوجته في الجنة. وعن الشعبى أنّ رسول الله قال لنسائه: «أطو لكن يدا أسرعكن بى لحاقا» فكانت سودة أطولهن يدا، فلما توفيت زينب قلن: صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت أطولنا يدا في الخير. 8- ثم تزوّج صلّى الله عليه وسلّم جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار بن خبيب بن عايذ- بالياء والذال- ابن مالك بن جذيمة بالجيم والذال المعجمة، وجذيمة هو المصطلق من خزاعة. سبيت في غزوة المريسيع، وهى غزوة بنى المصطلق، فوقعت فى سهم ثابت بن قيس بن شماس، فكاتبها علي تسع أواق، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تستعينه في كتابتها، وكانت امرأة ذات ملاحة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو خير من ذلك، أؤدى عنك كتابتك وأتزوجك؟» فقبلت، فقضى عنها النبى صلّى الله عليه وسلّم كتابتها ثم أعتقها وتزوّجها في سنة ست من الهجرة، وأعتق أربعين من أهل بيتها، ولم تبق مصطلقية عند رجل من المسلمين إلا أعتقها صاحبها، فكانت أعظم امرأة بركة على قومها، وكان اسمها «برّة» فغيّره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وسمّاها «جويرية» لما في برة من تزكية النفس وقد قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ (32) [النجم: 32] ، وتوفيت بعده بالمدينة سنة ست وخمسين، وصلّي عليها مروان بن الحكم، وهو أمير المدينة، وقد بلغت سبعين سنة. 9- ثم تزوّج صلّى الله عليه وسلّم صلّى الله عليه وسلّم صفية بنت حييّ بن أخطب بن سعيه (بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة) ينتهى نسب أبيها إلي النّضر (بفتح النون وكسر الضاد المعجمة) من بنى إسرائيل، ومن نسل هارون بن عمران أخي موسي بن عمران، ولدها مائة نبى، ومائة ملك حتّى صارت إليه صلّى الله عليه وسلّم، لما قدم خيبر. وكانت عروسا لكنانة بن أبى الحقيق اليهودي، فرأت أنّ القمر وقع في حجرها، وقيل: رأت الشمس وقعت على صدرها، وقصّتها علي أبيها أو زوجها فلطمها، وقال: أتريدين ملك يثرب؟! وفي رواية: «ما تمنين إلا هذا الملك الذى نزل» . فافتتح صلّى الله عليه وسلّم خيبر وجمع السبي، فقال دحية: يا رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 أعطنى جارية من السبي، فأخذت، فذكرت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأعطاه سبعة أرؤس مكانها، وأخذها صلّى الله عليه وسلّم فأعتقها، وجعل عتقها صداقها، وهو مذهب الإمام أحمد، وهو من مفردات مذهبه، وقد سبق ذلك في الفصل السادس من الباب الرابع من المقالة الخامسة من الجزء الثاني. ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دفعها إلى أم سليم تهيّئها، فلما ارتحل صلّى الله عليه وسلّم بنى بها بعد أن حاضت حيضة، ولما دخل صلّى الله عليه وسلّم بها بات أبو أيوب الأنصارى خالد بن زيد علي باب الستارة أو بقربها شاهرا سيفه، فلما أصبح النبي صلّى الله عليه وسلّم راه، فقال: يا أبا أيوب مالك شهرت سيفك؟ فقال: إنها جارية حديثة عهد، وكنت قتلت أباها وزوجها فلم امنها. فضحك، وقال له خيرا. ثم صنع صلّى الله عليه وسلّم حيسا في نطع صغير، وقال الناس: لا ندرى أتزوّجها أم اتخذها أمّ ولد؟ فلما أراد أن يركب حجبها، فقعدت علي عجز البعير، فعرفوا أنه تزوجها. وقتل كنانة يوم خيبر، وكان له من كل مغنم صفى يصطفي: عبد أو أمة أو سيف أو غير ذلك قبل الخمس، وتوفيت سنة خمسين، وصلّى عليها سعيد بن العاص رضي الله عنه، وقيل: إنها اخر أمهات المؤمنين موتا. 10- ثم تزوج صلّى الله عليه وسلّم بميمونة بنت الحارث بن حزن (بفتح الحاء المهملة وسكون الزاى وبالنون) بن بجير (بضم الباء المواحدة وفتح الجيم وسكون الياء) بن الهزم (بضم الهاء وفتح الزاي) وهي التى وهبت نفسها للنبى صلّى الله عليه وسلّم، وقيل الواهبة نفسها خولة بنت حكيم، ويجوز أن تكون وهبتا أنفسهما، فلا تضاد. وكانت قبله تحت أبى رهم بن عبد العزّي، وتوفّى عنها وتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة سبع، وماتت سنة ثمان وثلاثين، وقيل غير ذلك، قال الشعبي: أقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة حين خرج لعمرة القضاء ثلاثة أيام، فبعث إليه حويطب بن عبد العزّي: «إنّ أجلك قد مضى وانقضى الشرط، فاخرج من بلدنا» فقال له سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: كذبت؛ البلد بلد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وابائه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: مهلا يا سعيد، فقال حويطب: أقسمت عليك لما خرجت. فخرج وخلف أبا رافع، وقال: ألحقنى بميمونة. فحملها على قلوص، فجعل أهل مكة ينفرون بها، ويقولون: لا بارك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الله لك. فوافي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسرف، وكان دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسرف، وهى علي أميال من مكة. وهى اخر امرأة تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واخر من توفي من أزواجه صلّى الله عليه وسلّم ورضى عنهن، وصلّى عليها عبد الله بن عباس، ونزل في قبرها. وهؤلاء التسعة من سودة إلي ميمونة اللاتى توفى صلّى الله عليه وسلّم وهنّ في عصمته، خمس منهن من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة (رملة بنت أبى سفيان) وسودة بنت زمعة، وأم سلمة، واسمها هند، وثلاث من العرب غير قريش: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث، ومن غير العرب: صفية بنت حييّ، وإليهن أشار الحافظ أبو الحسن بن الفضل المقدسى بقوله: توفى رسول الله عن تسع نسوة ... إليهنّ تعزي المكرمات وتنسب فعائشة، ميمونة، وصفية ... وحفصة، تتلوهن هند وزينب جويرية مع رملة، ثم سودة ... ثلاث وست: ذكرهن مهذّب ثم تزوج صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت خزيمة كانت تسمي في الجاهلية أم المساكين؛ لإطعامها إياهم. وكان زواجها سنة ثلاث من الهجرة، وكانت تحت عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، فقتل يوم بدر شهيدا، فتزوجها النبى صلّى الله عليه وسلّم، فلم تلبث إلا يسيرا شهرين أو ثلاثة، وتوفيت ودفنت بالبقيع، ولم يمت من أزواجه في حياته إلا هى وخديجة رضي الله عنهما. ثم تزوج صلّى الله عليه وسلّم فاطمة بنت الضحّاك الكلابية بعد وفاة ابنته زينب، وخيّرها حين نزلت اية التخيير، وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها (28) [الأحزاب: 28] ، فاختارت الدنيا، ففارقها، وكانت بعد ذلك تلتقط البعر، وتقول: «أنا الشقية اخترت الدنيا!» . وتزوّج صلّى الله عليه وسلّم بشراف الكلبية (بفتح الشين المعجمة وتخفيف الراء والفاء) بنت خليفة، وأخت دحية بن خليفة الكلبي، تزوّجها النبى صلّى الله عليه وسلّم ولم يدخل بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وتزوّج صلّى الله عليه وسلّم أسماء بنت النعمان بن أبى الجون (بفتح الجيم وبالنون) بن الحارث الكندية، وطلّقها قبل أن يدخل بها. وتزوج صلّى الله عليه وسلّم امرأة من غفار، فلما نزعت ثيابها رأى بها بياضا، فقال: «الحقى بأهلك» . وتزوج صلّى الله عليه وسلّم بامرأة تميمية فلما دخل عليها قالت أعوذ بالله منك. فقال: «لقد استعذت بمعيذ الحقى بأهلك» ، وقيل: إن بعض نسائه علّمها ذلك، وقالت: إنك تحظين به عنده، هكذا قاله بعض أرباب السير، وهو بعيد لأن المعلّمة سبّابة، ولا يليق بحال أزواجه السباب. وتزوج صلّى الله عليه وسلّم عالية بنت ظبيان، وقيل اسمها سبا (بالسين المهملة وبالباء المواحدة) السليمية، وقيل بالنون، ماتت قبل أن تصل إليه. وتزوج صلّى الله عليه وسلّم مليكة الليثية بنت كعب الليثي، فلما دخل عليها قال: هبى لى نفسك، فقالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟! فسرّحها. وخطب صلّى الله عليه وسلّم امرأة من مرّة، فقال أبوها إن بها برصا، ولم يكن، فرجع فإذا هى برصاء. وخطب صلّى الله عليه وسلّم امرأة من أبيها، فوصفها له، وقال: أزيدك أنها لم تمرض قط، فقال: «ما لهذه عند الله من خير» ، فتركها، وقيل إنه تزوجها، فلما قال أبوها ذلك طلّقها، ولم يبن بها. وتزوج صلّى الله عليه وسلّم) خولة بنت الهذيل، فماتت في طريق الشأم، وقبل وصولها إليه. وتزوج صلّى الله عليه وسلّم بأم شريك، وفارقها صلّى الله عليه وسلّم، وفي الدخول بها خلاف. وذكر أبو سعيد في «شرف النبوة» أن جملة أزواج النبى إحدى وعشرون، طلّق منهن ستا، ومات عنده خمس، وتوفى عن عشر [منهن] واحدة لم يدخل بها، وكان صلّى الله عليه وسلّم يقسم لتسع، وكان صداقه لنسائه خمسمائة درهم لكل واحدة، وهذا أصحّ ما قيل، إلا صفية فإنه جعل عتقها صداقها، وأم حبيبة أصدقها عنه النجاشى أربعمائة دينار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 وأما سراريه عليه الصلاة والسلام فأربع: مارية القبطية، وريحانة بنت شمعون النسطورية، وجميلة أصابها في السبي، وجارية وهبتها له زينب بنت جحش. فهؤلاء زوجاته صلّى الله عليه وسلّم وسراريه، وهنّ أمهات المؤمنين، وكلهن فاضلات طيبات طاهرات، وكما فضّل الله تعالى أصحابه علي سائر الأصحاب ورفع بعضهم فوق بعض درجات، كذلك فضّل زوجاته علي سائر الزوجات، ورفعهن فوق بعض درجات، لقوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ (33) [الأحزاب: 32] ، فكما أن أفضل الصحابة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كذلك أفضل أزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم بعد خديجة عائشة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما، فكيف لا وهى التى نزلت براءتها في سورة النور!. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أحبّ النساء إليّ عائشة، ومن الرجال أبوها» ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: فضل الثريد علي الطعام كفضل عائشة علي النساء» «1» ضرب المثل بالثريد لأنه أفضل طعامهم، ولأنه ركب من خبز ولحم ومرقة، ولا نظير له في الأطعمة، ثم أنه جامع بين الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المؤنة في المضغ، وسرعة المرور في الحلقوم. والصواب أن الحاجة للخبز أعمّ، واللحم أفضل، وهو أشبه بجوهر البدن من كل ما عداه، وخصّ رسول الله المثل بالثريد إيذانا بأن عائشة جمعت مع حسن الخلق وحسن الحديث، وحلاوة المنطق، وفصاحة اللهجة، وجودة القريحة، ورزانة الرأى ورصانة العقل التحبّب إلى البعل، ومن ثم عقلت منه ما لم يعقل غيرها من نسائه، وروت عنه ما لم يرو مثلها من الرجال والنساء، وقد خصّت علي نساء النبى صلّى الله عليه وسلّم بعشر خصال؛ فيما روى عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، قال: «سمعت خالتى عائشة رضى الله تعالى عنها تقول: خصصت على نساء النبى بعشر خصال: تزوّجنى بكرا ولم يتزوج بكرا غيري، وأسلم أبي وجدى وأمى وأم أبى وإخوتى وأخواتي، وأنا حبيبته من النساء، وأبى وزيره وحبيبه من الرجال، ومات في صدري، وقبض في يومي، ودفن في حجرتى، وأمرنى بالمقام عنده كيلا أفارقه، فأنسى به ميّتا كأنسى به حيّا، وفي كل يوم   (1) والمعروف من الحديث: «فضل عائشة على النساء، كفضل تهامة علي سائر الأرض، وفضل الثريد على سائر الطعام» رواه أبو نعيم في فضائل الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 أسلّم عليه عند الصباح، وأعلم أنه يسمعنى فأسمع في قلبى ردّ السلام، وكم ليلة رأيته في المنام، وهو يقول: «يا عائشة أقرئى أصحابى السلام، فأصبح وأبلّغهم سلامه، ومات وهو راض عنّي، وورّثنى علمه، فأنا عالمة الأمة، ولى الهجرة والسبق إلي الإسلام، ولا أشركت بالله طرفة عين، ولا رأيت بعينى صنما منذ خلقت، ولا كتب الملك عليّ ذنبا؛ إذ ربيت في حجر الصديق، ثم انتقلت إلى حجر الصادق، وصلّيت إلى القبلتين، وما نزل الوحى في لحاف غيري، ورأيت جبريل، وكان رفيقى ليلة هجرتى ورأيته على صورة دحية الكلبى، وأعطيت شطر العلم، وكان لكل امرأة من نسائه يوم وليلة ولي يومان وليلتان، وصوّر الله صورتى في الجنة في سندسة خضراء، وأهدانى إلى حبيبه محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمره بزواجي، فقاضيّ رب العالمين، ووليّى أبو بكر خاتم الصديقين، وبعلى محمد الصادق الأمين، خاتم المرسلين، وأنا أفضل أمهات المؤمنين» . وفي علم عائشة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا شطر علمكم من الحميراء» تصغير حمراء ومعناها البيضاء، قال قوم: الشطر هو النصف؛ لأن نصف الشيء شطره، وقال قوم «الشطر هو الكل» وقال عليه الصلاة والسلام: «عائشة عالمة هذه الأمة» ولذلك كان أكابر الصحابة يأتون إليها ويسألونها عمّا أشكل عليهم من الفرائض، كما روى عن أبى موسى الأشعرى قال: «ما أشكل علينا- أصحاب رسول الله- حديث قط وسألنا عنه عائشة إلا ووجدنا عندها منه علما» ولقد سئل عروة بن الزبير عن علم عائشة فقال: والله ما رأيت امرأة أعلم بالفرائض والسنن والتنزيل والتأويل من عائشة رضى الله عنها، حتى أشعار العرب وأيامهم وأنسابهم والطب والأدوية، فقلت لها: من أين لك علم الطب والأبدان؟ فقالت: من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ كان إذا مرض يتداوي، وإذا مرضت يصف لى فأبرأ، وإذا سئل يصف للمرضي، فتعلمت منه، فقلت: ومن أين لك معرفة بأنساب العرب وأيامها وأشعارها؟ قالت: فو الله يا ابن أختى ما سمعت أذنى شيئا فيه نفع للناس إلا حفظته ولا أنساه. وقال عروة: والله ما ندمت على شيء قط أشدّ منى ندما على ما فاتنى من علم عائشة رضى الله عنها، وما الذى يمنعها وقد ربّاها أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 العلماء، وأحكم الحكماء، وأفصح الفصحاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبوها علّامة قريش، المفتى في حضرة النبى، و «الولد سر أبيه» . وأما فصاحتها فيما رواه علي بن أبى طالب كرّم الله وجهه أنه قال: دخلت على عائشة رضى الله عنها بعض الأيام، فرأيتها جالسة وعليها قميص مرقّع، فحمدت الله تعالى بما هو أهله، وثنّت بالصلاة على نبيه، وذكر بعض ما وهبه الله تعالى من فضله، وأثنت على أبى بكر وعمر وعثمان بما كان فيهم من العدل والإحسان، ثم حضّت بالاقتداء بهم واتّباع أمرهم، فو الله ما سمعت أذنى من سائر النساء أفصح منها وأنظم من كلامها ولا أرشد من رأيها، فقلت لها: أنت والله أمّ المؤمنين حقّا، والعالمة بالله ورسوله، الناصحة المشفقة الواعظة المبلّغة، دللت الناس علي الحق، وأمرتهم باتباعه، ونهيتهم عن حظ أنفسهم، وأنت أهل أن يسمع قولك، ويطاع أمرك، ويقبل نصحك. ثم قمت وخرجت واضعا يدى على كتف ذكوان، وقلت: والله يا ذكوان، ما سمعت أذنى خطيبا من أكثر الصحابة أفصح من عائشة، ولا أبلغ من موعظتها، فلو كانت إمرة لامرأة بعد النبوّة، لاستحقت عائشة الخلافة» «1» . روى عن الأحنف بن قيس أنه قال: سمعت كلام أبى بكر حتّى مضي، وكلام عمر بن الخطاب رضى الله عنه حتّى مضي، وكلام عثمان بن عفان- رضى الله عنه- حتى مضي، وكلام علي بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه حتى مضي، ولا والله- ما سمعت فيهم أبلغ من عائشة رضى الله عنها. وأما شفقتها ورحمتها لعصاة هذه الأمة، فمما ورد من ذلك ما رواه عروة بن الزبير رضى الله تعالى عنه: لما نزل قوله تعالى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] قالت عائشة رضى الله تعالى عنها: يا رسول الله وأنا أم المؤمنين؟ فقال: أنت أفضل أمهات المؤمنين، فقالت: والذى بعثك بالحق رسولا؛ إن أمهلنى ربى يوم القيامة لا دخلت الجنة حتّى يدخل معى   (1) هذا هو علي بن أبى طالب يصف أم المؤمنين بهذا الوصف، فماذا يقول الشيعة؟!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 أولادي. فنزل جبريل عليه السلام وقال: «يا رسول الله قل لعائشة أبشري، كلّ من أحبّك وأحبّ أباك واقتدى بكما وأقرّ بفضلكما فهو معكما في الجنة» . فإن صحّ حديث عروة هذا كان نصّا في فضلها- رضى الله تعالى عنها- وإلا، بأن كان ضعيفا، جاز الاستدلال به على المناقب. وقول الله تعالى وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ سواء من مات عنها أو ماتت وهى تحته: فى تحريم نكاحهن، ووجوب احترامهن، لا في نظر ولا خلوة، ولا يقال بناتهن أخوات المؤمنين، ولا اباؤهن وأمهاتهن أجداد وجدات، ولا إخوتهن ولا أخواتهن أخوال وخالات، كذا في المواهب. وقال الرملى في «شرح المنهاج» : «تحرم زوجاته صلّى الله عليه وسلّم على غيره ولو مطلّقات ومختارات فراقه، ولو قبل الدخول» . «ونقل في الشرح المذكور أيضا أن الأمة التى وطئها تحرم على غيره، واعتمده، وإنما حرمت على غيره لأنه صلّى الله عليه وسلّم حيّ فى قبره، أو رعاية لشرفه، ولأنهن أزواجه في الجنة، والمرأة في الجنة مع اخر أزواجها، ولأنهن أمهات المؤمنين، كما أفاده الشمس الخطيب في تفسيره، انتهي. والمراد أمهات المؤمنين الرجال دون النساء؛ لحديث مسروق أن امرأة قالت لعائشة رضى الله عنها: يا أمّه، فقالت: «لست لك بأم، إنما أنا أمّ رجالكم» . فالمراد بالأمومة تحريم نكاحهن على التأبيد كالأمهات. وبالجملة فقد ربيت السيدة عائشة في صدر الرسول، وبلغت من الفضل والعلم كل مسئول، وتوّجت دنيا وأخرى بتاج القبول، ويأبى الله أن يجمع حبّها وحبّ فاطمة في قلب جهول مغلول، فهى سيدة نساء العالمين، حبيبة الرسول، ولا يفضلها إلا إن كان من جهة البضعة النبوية فاطمة البتول. وقد أنشد الإمام العالم الكامل الشيخ كمال الدين بن العديم، قاضى حلب الشهباء رحمه الله في مدح الصدّيقة بنت الصديق عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها، وذكر فضلها والرد على من انتقصها أو بغضها مترجما بذلك عن قولها رضي الله عنها، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 ما شأن أم المؤمنين وشاني ... هدي المحبّ لها وضلّ الشاني إنّى أقول مبيّنا عن فضلها ... ومترجما عن قولها بلساني يا مبغضى لا تأت قبر محمّد ... البيت بيتى والمكان مكاني إنّى خصصت على نساء محمّد ... بصفات برّ تحتهن معاني وسبقتهن إلى الفضائل كلّها ... فالسّبق سبقى والعنان عناني قبض النّبيّ ومات بين ترائبي ... واليوم يومى والزمان زماني زوجى رسول الله لم أر غيره ... الله زوّجنى به وحباني وأتاه جبريل الأمين بصورتي ... فأحبّنى المختار حين راني وتكلّم الله العظيم بحجّتي ... وبراءتى في محكم القران والله عظّمنى وعظّم حرمتى ... وعلى لسان نبيّه برّاني والله في القران قد لعن الذي ... بعد البراءة بالقبيح رماني إنى لمحصنة الإزار بريّة ... ودليل حسن براءتى إحصاني الله خصّصنى بخاتم رسله ... وأزلّ أهل الكفر والطغيان وسمعت وحي الله عند محمّد ... من جبرئيل ونوره يغشاني أوحى إليه وكنت تحت ثيابه ... فحنى عليّ بثوبه وخباني من ذا يفاخرنى وينكر صحبتي ... ومحمد في حجره ربّاني وأنا ابنة الصدّيق صاحب أحمد ... وحبيبه في السرّ والإعلان وأخذت عن أبويّ دين محمد ... وهما على الإسلام مصطحبان فالفخر فخري، والخلافة في أبي ... حسبى بهذا مفخرا وكفاني وأبي أقام الدين بعد محمّد ... فالنّصل نصلى والسنان سناني نصر النبيّ بماله وبنفسه ... وخروجه معه من الأوطان ثانيه في الغار الذى سدّ الكوي ... بردائه أكرم به من ثاني وجفا الغنى حتّى تخلّل بالعبا ... زهدا وأظعن أيّما إظعان وتخلّلت معه ملائكة السما ... وأتته بشرى الله بالرضوان وهو الذى لم يخش لومة لائم ... في قتل أهل الكفر والطغيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 قتل الذى منع الزكاة بجهله ... وأذلّ أهل البغي والعدوان سبق الصحابة والقرابة بالهدي ... هو شيخهم في العدل والإحسان والله ما سبقوا لمثل فضيلة ... مثل استباق الخيل يوم رهان إلا وصار أبى إلى عليائها ... فمكانه منهم أجلّ مكان وإذا أراد الله نصرة عبده ... من ذا يطيق له علي خذلان جمع الإله المؤمنين على أبي ... واستبدلوا من خوفهم بأمان من حبّنى فليجتنب من سبّني ... إن كان صان محبّتى ورعاني وإذا محبّى قد ألمّ بمبغضي ... فكلاهما في بغضنا سيّان إنى لطيّبة خلقت لطيب ... ونساء أحمد أطيب النسوان والله حبّبنى لقلب نبيّه ... وإلى الصراط المستقيم هداني إنّى لأمّ المؤمنين فمن أبي ... حبّى فسوف يبوء بالخسران والله يكرم من أراد كرامتى ... وبهين ربّى من أراد هواني والله أسأله زيادة فضله ... وحمدته شكرا لما أولاني يا من يلوذ بأهل بيت محمّد ... يرجو بذلك رحمة الرحمن صل أمّهات المؤمنين ولا تحد ... عنى فتسلب حلّة الإيمان ويل لعبد خان ال محمد ... بعداوة الأزواج والأختان أكرم بأربعة أئمّة شراعنا ... فهم لبيت الدين كالأركان نسجت مودتّهم سدّى في لحمة ... بنيانها من أثبت البنيان رحماء بينهم صفت أخلاقهم ... وخلت قلوبهم من الأشنان الله ألّف بين ودّ قلوبهم ... في بغض كل منافق طعّان طوبى لمن والى جماعة صحبهم ... فسبابهم سبب إلى الحرمان خذها إليك فإنما هى روضة ... محفوفة بالرّوح والريحان تجلى النفوس إذا تلاها مسلم ... وعلى الروافض لعنة الرحمن صلّى الإله على النبيّ واله ... فبهم تتمّ أزاهر البستان والتابعين وتابعيهم ما شدت ... في دوحة ورق على الأغصان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 وقد تقدّم ذكر أولاده صلّى الله عليه وسلّم في الفصل الثالث من الباب الأوّل من المقالة الخامسة من الجزء الثاني. وأما أعمامه صلّى الله عليه وسلّم فاثنا عشر، وهم أولاد عبد المطلب. الأوّل: الحارث، وبه يكنى عبد المطلب؛ لأنه أكبر ولده، وولد ولده جماعة لهم صحبة من النبى صلّى الله عليه وسلّم، منهم: أبو سفيان بن الحارث أسلم عام الفتح، وشهد حنينا، وقال في حقه النبى صلّى الله عليه وسلّم: «أبو سفيان سيد فتيان الجنة» ، ونوفل بن الحارث هاجر وأسلم أيام الخندق، وله عقب. وعبد شمس بن الحارث، وسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله. وقثم مات صغيرا. الثاني: قثم هو أخو الحارث لأمه. الثالث: الزّبير (بفتح الزاى بوزن أمير) ويكنى بأبى الحارث، وكان من صناديد قريش، وابنه عبد الله ابن الزبير، شهد حنينا وثبت يومئذ، واستشهد بأجنادين، وذكر أنه وجد إلى جنبه سبعة قد قتلهم وقتلوه. وكان سيدا شريفا شاعرا، وهو أوّل من تكلّم في حلف الفضول ودعا إليه، وكان سبب ذلك الحلف أن الرجل من العرب أو العجم كان يقدم بالتجارة، فربما ظلم بمكة، فقدم رجل من زبيد بسلعة، فباعها من العاص بن وائل السهمي، فظلمه فيها وجحده ثمنها، فناشده بالله فلم ينفعه، فنادى ذات يوم عند طلوع الشمس وقريش في أنديتها: يا ال فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكّة نائى الحىّ والنّفر ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا ال فهر، وبين الركن والحجر وقال أيضا: يال قصىّ كيف هذا في الحرم ... وحرمة البيت وأخلاق الكرم أظلم لا يمنع منّى من ظلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 فقال الزبير: ما لهذا يترك «1» ؟! فجمع إخوته واجتمعت بنو هاشم وبنو المطلب، وبنو أسد بن عبد العزّى، وبنو زهرة في دار أبى زهير: عبد الله بن جدعان القرشي، فتحالفوا ألّا يجدوا بمكة مظلوما إلا نصروه ورفدوه «2» وأعانوه، حتى يؤدّى إليه حقّه، وينصفه ظالمه من مظلمته «3» ، وعادوا عليه بفضول أموالهم ما بلّ بحر صوفة. وشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك الحلف، وكان يقول: «ما سرّنى بحلف شهدته في دار عبد الله بن جدعان حمر النعم» ، فسمّي الحلف حلف الفضول؛ لبذلهم فضول أموالهم، وتكلّفهم فضولا لا تجب عليهم، وقام الزبير ومن معه بأمر الزبير حتّى أنصفه العاص بن وائل، ومات الزبير ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن بضع وثلاثين سنة، وكان للزبير بنت يقال لها أم الحكم، وكانت رضيعة النبى صلّى الله عليه وسلّم. * الرابع: حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، وأخوه من الرضاعة، وأسلم قديما وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرا، وقتل يوم أحد شهيدا ولم يكن له إلا ابنه الفضل. * الخامس: العباس، أسلم وحسن إسلامه وهاجر إلى المدينة، وكان أسنّ من النبى صلّى الله عليه وسلّم بثلاث سنين، وقيل بسنتين، وكان له من الولد: الفضل، وهو أكبر ولده، وبه كان يكنى، وعبد الله، وعبيد الله، وقثم، ولهم صحبة، وكان لهم السقاية وزمزم، دفعهما لأبيهم العباس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم الفتح، توفى سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان رضى الله عنه في المدينة، بعد أن كفّ بصره. * السادس: أبو طالب، واسمه عبد مناف، وهو أخو عبد الله أبى النبى صلّى الله عليه وسلّم من أمه، ومات على دين قومه، وفيه قال بعضهم: أبا طالب ما أنت قرن لحمزة ... لأنّكما في الدين مختلفان دعاك النّبيّ الهاشميّ فلم تجب ... وحمزة لبّاه بكلّ لسان   (1) يعنى كيف يترك هذا؟! (2) من الرفادة: أي الإكرام والضيافة. (3) أى يرغم الظالم على أن يردّ له مظلمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وعاتكة صاحبة الرؤيا في بدر، أخت عبد الله وأبى طالب لأمهما، وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. ولأبى طالب من الولد: طالب، ومات على دين قومه، وعقيل، وجعفر، وعلي، وأم هانيء، وجمانة، واسم أم هانيء: فاختة، وقيل هند، وقيل فاطمة، أسلموا ولهم صحبة. وسائر بنى أبى طالب أمّهم فاطمة بنت أسد بن هاشم التى أسلمت بعد موت زوجها بمكة، وكان النبى صلّى الله عليه وسلّم يدعوها إلى الإسلام فتأباه وتقول: «إنى لأعلم منك صدقا وخيرا، ولكنى أكره أن أموت إلا على دين غمك» . إلى أن أسلمت في مرضها. وكان أبو طالب منيعا عزيزا في قريش، وكانت قريش تطعم، فإذا أطعم أبو طالب لم يطعم يومئذ أحد غيره، ومن كلامه: منعا الرسول رسول الملي ... ك ببيض تلألأ مثل البروق أذبّ وأحمى رسول الملي ... ك حماية عمّ عليه شفيق * السابع: أبو لهب بن عبد المطلب، واسمه عبد العزّى، كناه أبوه بذلك لحسن وجهه. وأولاده: عتبة، وعتيبة، ومعتب، أسلما يوم «1» الفتح ولم يهاجرا من مكة، وعتيبة لم يسلم، قتله الأسد بالزرقاء من الشأم بدعوة النبى صلّى الله عليه وسلّم «2» ، وسبيعة، وبعضهم عدّ من أولاده «درّه» ولعلها لقب لسبيعة، ولهم صحبة. وأما عزة وخالدة فلم تثبت لهما رواية. * الثامن: عبد الكعبة، واسمه «المغيرة» ولقبه «حجل» (بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم وباللام، وفي كتاب عبد البر تقديم الجيم علي الحاء وقد صحّح عليه) وهو أخو العباس لأمه. * التاسع: الغيداق بن عبد المطلب (بفتح الغين المعجمة وسكون الياء التحتية   (1) الضمير في قوله: «أسلما» يرجع إلى عتبة ومعتب» . (2) قال عليه الصلاة والسلام: «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» وبه استدلوا على أن الأسد من فصيله الكلاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وبالدال المهملة والقاف) لقّب بذلك لجوده، وكان أكثر قريش مالا، واسمه «مصعب» وقيل «نوفل» . * العاشر: ضرار بن عبد المطلب (بكسر الضاد المعجمة وتخفيف الراء الأولى) وهو شقيق العباس. * الحادى عشر: المقوّم (بضم الميم وفتح القاف وتشديد الواو مفتوحة ومكسورة) ويكنى أبا بكر. وروى ابن ماجه بسنده عن علي بن صالح، قال: كان ولد عبد المطلب عشرة كل واحد منهم يأكل الجذعة «1» اهـ. فهم عشرة بدون عدّ قثم الذى مات صغيرا، وقد ذكر الخلاف في عددهم قلة وكثرة في الفصل الأوّل من الباب الأوّل من هذا الكتاب. ولم يدرك الإسلام منهم غير أربعة: أبو طالب، وأبو لهب، وحمزة، والعباس، وفضلهما «2» مشهور، وحبّه صلّى الله عليه وسلّم لهما مما ذاع عند جميع الناس. وأما عماته صلّى الله عليه وسلّم: فأولاهن صفية بنت عبد المطلب، شقيقة حمزة، أسلمت وهاجرت، وهى أم الزبير بن العوام، توفيت بالمدينة في خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهى أخت عبد الله لأبيه، وشقيقة حمزة. الثانية: عاتكة بنت عبد المطلب، قيل إنها أسلمت، وهى صاحبة الرؤيا في بدر، وكانت عند أبى أمية بن عبد الله بن مخزوم، ولدت له عبد الله، أسلم وله صحبة. الثالثة: أروي: وكانت تحت عمير بن وهب بن عبد الدار بن قصي، فولدت له ولدا كان من المهاجرين، قتل شهيدا في بدر، وقيل بأجنادين، وليس له عقب. الرابعة: أميمة، كانت تحت جحش بن رباب بن يعمر، فولدت له عبد الله بن جحش، وزينب زوج النبى صلّى الله عليه وسلّم، وحمنة، وحبيبة، كلهم له صحبة، وعبد الله بن جحش أسلم ثم تنصّر ومات بالحبشة «3» .   (1) الجذعة: الصغير من البقر والغنم .... (2) الضمير يعود إلى حمزة والعباس. (3) مات على النصرانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 الخامسة: برّة، كانت تحت عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، ولدت له أبا سلمة، واسمه «عبد الله» وكان زوج أم سلمة قبل النبى صلّى الله عليه وسلّم، وتزوج برة بعد عبد الأسد أبو رهم بن عبد العزى بن قيس، فولدت له «أبا سبرة» ابن أبى رهم. السادسة: أم حكيم، واسمها «البيضاء» وكانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له: «أروى» بنت كريز، وهى أم عثمان بن عفان. ولم يسلم منهن بلا خلاف غير «صفية» وشهدت الخندق، وقتلت رجلا من اليهود، فضرب لها عليه الصلاة والسلام بسهم، واختلف في إسلام أروى وعاتكة، وإلى إسلامها ذهب أبو جعفر العقيلي، وعدّهما في الصحابة. وأما أخواله صلّى الله عليه وسلّم فأربعة: الأوّل: عبد بن يغوث، والثاني: عبيد بن يغوث، وهما من صفية زوجة وهب، أبى امنة، فهما أخواها لأبيها، ذكر ذلك الزبيدى في أنساب قريش، وكان معاصرا للبخاري، ولم يثبت فيهما الإسلام. والثالث: الأسود بن وهب. والرابع: عمير بن وهب، وكانا صحابيين، ذكرهما السخاوى في المقاصد الحسنة، وابن حجر في الإصابة في معرفة الصحابة. وروى أن عميرا أتى للنبى صلّى الله عليه وسلّم فبسط له رداءه، فقال: كيف أجلس على ردائك يا رسول الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «نعم، إنما الخال أب» ، وكذلك وقع لخاله «الأسود ابن وهب» كما ذكره السخاوى في المقاصد. ولم يكن لعبد الله ولا لامنة ولد غير النبى صلّى الله عليه وسلّم، فلذلك لم يكن له أخ، ولا أخت، كذا في الذخائر. * وأما مواليه صلّى الله عليه وسلّم من الرجال فهم فوق الثلاثين رجلا: فمنهم زيد بن حارثة بن شرحبيل، ويقال ابن شراحيل (الكلبى) بن عبد العزّى بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عبد ودّ، وأم زيد هذا هى «سعدي» بنت ثعلبة (من طىء) ، وقد كانت سعدى زارت قومها، فأغارت خيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 لبنى القين في الجاهلية، ومرّوا على أبيات بنى معن، فاحتملوا زيدا وهو يومئذ غلام، فوافوا به سوق عكاظ، فاشتراه منهم حكيم بن حزام بن خويلد لعمته خديجة بنت خويلد بأربعمائة درهم، فلما تزّوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استوهبه منها فوهبته له، فقبضه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه وتبنّاه، كما سيأتي، وكان يقال له زيد ابن محمد، وكان عمره ثمان سنين، وكان حارثة أبو زيد قال فيه حين فقد أبياتا منها: بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحيّ فيرجى أم تخرّمة الأجل فو الله ما أدرى وإن كنت سائلا ... أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل فياليت شعرى هل لك الدهر رجعة ... فحسبى من الدنيا رجوعك لى يحلّ «1» تذكّرنيه الشمس عند طلوعها ... ويعرض ذكراه إذا عارض الطّفل «2» وإن هبّت الأرواح «3» هيّجن ذكره ... فيا طول أحزانى عليه ويا وجل سأعمل نصّ «4» العيس في الأرض جاهدا ... ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل حياتى أو تأتى عليّ منيّتي ... وكلّ امري فان وإن غرّه الأمل سأوصى به عمرا وقيسا كليهما ... وأوصى يزيدا ثمّ من بعده جبل يعنى جبلة بن حارثة أخا زيد، وكان أكبر من زيد، ويزيد كان أخا زيد لأمه، وهو يزيد بن كعب بن شراحيل، فحجّ ناس من كلب، فرأوا زيدا فعرفهم وعرفوه، فقال لهم: أبلغوا أهلى هذه الأبيات؛ فإني أعلم أنهم قد جزعوا عليّ، فقال: فانطلق الكلبيون، فأعلموا أباه حارثة بمكانه وأخبروه، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل، وجبلة بن حارثة بفدائه، فقدموا مكة، فسألوا عن النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقيل: هو في المسجد، فدخلوا عليه، فقالوا: يا ابن عبد الله وعبد المطلب وابن هاشم سيد قومه، أنتم حرم الله وجيرانه، تفكّون العاني، وتطعمون الضيف، جئناك في   (1) أى تعظيما. (2) الطفل: إقبال الليل والظلمة. (3) الأرواح: لغة في الرياح. (4) نص العيس: منتهى ما تصل إليه. العيس: الإبل الكريمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 ابننا عندك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه إلينا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فهلا غير ذلك، ادعوه فأخيّره، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارنى فو الله ما أنا الذى أختار على من اختارنى شيئا» ، فقالوا: قد زوّدتنا على النّصف «1» وأحسنت. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيدا فقال: أتعرف هؤلاء؟ فقال: نعم، أبى وأخي وعمي، فقال: «أنا من قد علمت، وقد رأيت صحبتي، فاخترنى أو اخترهم» ، فقال: ما أنا بمختار عليك أحدا، أنت منّى مكان العم والأب. فقال له أبوه: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك؟ قال: نعم؛ قد رأيت من هذا الرجل شيئا ما أنا بمختار عليه أحدا. فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك من زيد، أخرجه إلى الحجر، وقال لمن حضر: اشهدوا أن زيدا ابنى أرثه ويرثني. فطابت نفوسهم، فكان زيد يدعى: زيد بن محمد. حتى جاء الله عز وجل بالإسلام فزوّجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، وهى بنت عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أميمة بنت عبد المطلب، فطلّقها زيد، وخلف عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتكلم المنافقون وطعنوا في ذلك، وقالوا: محمد يحرّم نساء الولد وقد تزوج امرأة ابنه، فأنزل الله عز وجل: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [الأحزاب: 40] . ونزلت: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ «2» فدعي يومئذ: زيد بن حارثة، ونسب كل رجل تبنّاه رجل من قريش إلى أبيه، مثل سالم مولى أبى حذيفة، وعامر بن ربيعة. وكان زيد يسمى «الحبّ» «3» لأنه حبّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان يقال: «الحبّ بن الحبّ» ، وكان أسامة ابنه يدعى الرّدف لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يردفه كثيرا؛ عن عروة عن أسامة أن النبى صلّى الله عليه وسلّم ركب حمارا بإكاف «4» على قطيفة، فأردف أسامة خلفه، وأتى سعد بن عبادة يعوده قبل وقعة بدر. ولم يذكر في القران أحد من الصحابة باسمه إلا هو «5» ، كما أنه لم تذكر امرأة   (1) أى فعلت شيئا أكثر من الإنصاف. (2) الأحزاب: 5. (3) بكسر الحاء، أى المحبوب. (4) البرذعة أو ما يقوم مقامها. (5) فى قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً وكفاه هذا شرفا، وأيّ شيء أعظم من هذا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 باسمها في القران إلا مريم. ولم يزل زيد عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى بعثه الله، فصدّقه وأسلم، وصلّى معه وشهد بدرا وأحدا والمشاهد، روى عنه ابنه أسامة، وابن عباس، والبراء بن عازب، وغيرهم رضى الله عنهم. * ومنهم ثوبان (بفتح الثاء وبالباء المواحدة) ابن بجدد (بضم الباء المواحدة وسكون الجيم وضم الدال المهملة) وهو من حمير (من اليمن) وله نسب فيهم، وقيل هو من السراة موضع بين مكة واليمن، وقيل هو من سعد العشيرة من مذجح، اشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه، وقال له: «إن شئت أن تلحق بمن أنت منهم، وإن شئت أن تكون (من «1» ) أهل البيت؟» فثبت على ولاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يزل معه سفرا وحضرا إلى أن توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فخرج إلى الشأم، فنزل إلى الرملة وابنتى بها دارا، وابنتى بمصر دارا، وبحمص دارا، وتوفى بها سنة أربع وخمسين. وشهد فتح مصر، روى عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أحاديث ذوات عدد، روى عنه شدّاد بن أوس، وأبو إدريس الخولاني، ومعدان بن أبى طلحة، وأبو الأشعث الصنعاني، وأبو الخير اليزنى وغيرهم. روي عن ثوبان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله زوى لى الأرض حتّى رأيت مشارقها ومغاربها، وأعطانى الكنزين: الأحمر والأبيض، وإنّ ملك أمتى سيبلغ ما زوى لى منها، وإنى سألت ربى لأمّتى ألايهلكها بسنة «2» عامّة، وأن لا يسلّط عليها عدوّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإنّ ربى قال لي: يا محمد إنى إذا قضيت قضاء، فإنه لا يردّ، وإني قد أعطيت لأمتك أنى لا أهلكهم بسنة عامة، وألاأسلّط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتّى يكون بعضهم يهلك بعضا» . وروى ثوبان أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: يا رسول الله أمن قلة نحن يومئذ؟ قال:   (1) ما بين القوسين وضعناه لإصلاح الكلام. (2) جدب وقحط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنّ الله عز وجلّ المهابة عن صدوركم، وليقذفنّ الوهن في قلوبكم، قيل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حبّ الدنيا وكراهة الموت» «1» . قال النبى صلّى الله عليه وسلّم: من يضمن لى خصلة أضمن له الجنة؟ قال ثوبان: أنا يا رسول الله. قال: «لا تسل الناس شيئا» . فكان ثوبان يقع سوطه من يده فلا يقول لأحد «ناولنيه» حتى ينزل فيأخذه، وكانت عائشة تقول: «تعهّدوا ثوبان؛ فإنه لا يسأل الناس شيئا» . * ومنهم أسامة بن زيد بن حارثة السالف الذكر، ويكنى أبا محمد، أمه أم أيمن خاضنة النبى صلّى الله عليه وسلّم، فهو وأيمن أخوان لأمّ، وهو مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أبويه. روى ابن عمر أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ أسامة بن زيد لأحبّ الناس إليّ، أو من أحب الناس إليّ، وأنا أرجو أن يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيرا» . واستعمله النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثمانى عشرة سنة على جيش، كما سيأتى بعد. وروي عن عائشة رضى الله عنها، قالت: عثر أسامة بأسكفة الباب، فشجّ في وجهه، فقال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أميطى عنه» ، فكأنى تقذّرته، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمصّه ثم يمجّه. وقال: «لو كان أسامة جارية لكسوته وحلّيته حتّى ينقه» «2» . ولما فرض عمر بن الخطاب رضى الله عنه للناس، فرض لأسامة بن زيد خمسة الاف، وفرض لابنه عبد الله بن عمر ألفين، فقال ابن عمر: فضّلت عليّ أسامة، وقد شهدت ما لم يشهد! فقال: إن أسامة كان أحب إلى رسول الله منك، وأبوه أحب إلى رسول الله من أبيك.   (1) وفي رواية: «يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حبّ الدنيا وكراهية الموت» . (2) النقه هنا معناه: الفهم، والمقصود- والله أعلم- أى حتّى يبلغ ويفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 ولم يبايع أسامة عليا ولا شهد معه شيئا من حروبه، وقال له أى لعليّ: «لو أدخلت يدك في فم تنين لأدخلت يدى معها، ولكنك قد سمعت ما قال لى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قتلت ذلك الرجل الذى شهد ألاإله إلا الله» ، وهو ما أخبرنا به أبو جعفر عبيد الله بن أحمد بن علي البغدادي، بإسناده عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدّثنى محمد بن أسامة بن محمد بن أسامة بن زيد، عن أبيه، عن جده أسامة بن زيد، «قال أدركته (يعنى كافرا كان قتل في المسلمين في غزاة لهم) أنا ورجل من الأنصار، فلما شهرنا عليه السلاح، قال: أشهد ألاإله إلا الله، فلم نبرح عنه حتّى قتلناه، فلما قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبرناه خبره، فقال: يا أسامة من لك بلا إله إلا الله!! فقلت: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل، فقال: من لك يا أسامة بلا إله إلا الله!! فو الذى بعثه بالحق ما زال يرددها حتى وددت أن ما مضى من إسلامى لم يكن، وأنى أسلمت يومئذ، فقلت: أعطى الله عهدا ألاأقتل رجلا يقول لا إله إلا الله» «1» . وروى محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن عبيد الله بن عبد الله، قال: رأيت أسامة بن زيد يصلّى عند قبر النبى صلّى الله عليه وسلّم، فدعى مروان إلى جنازة ليصلّى عليها، فصلّى عليها، ثم رجع وأسامة يصلّى عند باب بيت النبي، فقال له مروان: «إنما أردت أن يرى مكانك، فعل الله بك» ، وقال قولا قبيحا، ثم أدبر، فانصرف أسامة وقال: «يا مروان إنك اذيتني، وإنك فاحش متفحش، وإنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله يبغض الفاحش المتفحش» «2» . وقال بعضهم: يجوز للامر بالمعروف والناهى عن المنكر والمؤدّب أن يقول لمن يخاطبه في ذلك الأمر: يا ضعيف الحال أو يا قليل النظر لنفسه، أو يا ظالم نفسه، وما أشبه ذلك، بحيث لا يتجاوز إلى الكذب، ولا يكون فيه لفظ قذف؛   (1) ومن مثل هذا يفهم أنّ الصحابة الذين امتنعوا عن القتال مع الإمام على رضى الله عنه وكرم الله وجهه: إنما امتنعوا لعلل وأسباب أخرى، لا لكراهية القتال مع الإمام، رضى الله عنهم جميعا، وأن الذين خاضوا في أعراض الصحابة إنما ارتكبوا جرما وإجراما؛ نسأل الله السلامة والعافية. (2) رواه الإمام أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 لأن الغرض به التأديب والزجر، وليكون الكلام أوقع في النفس، لما روى أنس رضى الله عنه أن النبى صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلا يسوق بدنة «1» ، فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة، قال اركبها، قال: إنها بدنة، قال في الثالثة: «اركبها ويلك» . ولقول أبى بكر الصديق رضى الله عنه لابنه عبد الرحمن لمّا لم يجده عشّى أضيافه: «يا غنثر» «2» . ونهى عن انتهار الفقراء والضعفاء واليتيم والسائل ونحوهم، بل يلين لهم القول ويتواضع معهم، لقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحي: 9، 10] ولقوله تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 88] . وكان أسامة أسود أفطس، وتوفى اخر أيام معاوية سنة ثمان أو تسع وخمسين، وقيل: توفى بعد قتل عثمان بالجرف، وحمل إلى المدينة. روى عنه أبو عثمان، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وغيرهما، أخرجه ثلاثتهم. وقد ذكر ابن منده أن النبى صلّى الله عليه وسلّم أمّر أسامة بن زيد على الجيش الذى سيّره إلى مؤتة في علته التى توفى فيها، وهذا ليس بشيء؛ فإن النبى صلّى الله عليه وسلّم استعمل على الجيش الذى سار إلى مؤتة أباه زيد بن حارثة، فقال: «إن أصيب فأميركم جعفر بن أبى طالب، فإن أصيب فأميركم عبد الله بن رواحة الأنصاري، فإن أصيب فسيفتح الله على يدي رجل من المسلمين» وأشار بيده إلى خالد بن الوليد» ، فلما التقوا مع الروم وقتل زيد أخذ الراية جعفر، فقاتل حتى قطعت يده اليمنى، فأخذها بشماله فقاتل حتّى قطعت شماله، فحضن الراية وقاتل حتّى قتل رضى الله عنه، ويقال: إنه وجد فيما أقبل من بدنه أربعة وخمسون جرحا، ما بين طعنة رمح وضربة بسيف، وقتل في ثمانية من الهجرة.   (1) بقرة. (2) الغنثرة: كثرة الشعر، وكلمة شتم. (3) ومنه تأخذ أن تأمير خالد على هذا الجيش، إنما كان أيضا بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وأما أسامة: فإن النبى صلّى الله عليه وسلّم استعمله على جيش، وأمره أن يسير إلى الشام أيضا، وفيهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فلما اشتد المرض برسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوصى أن يسير جيش أسامة، فساروا بعد موته صلّى الله عليه وسلّم، وليست غزوة مؤتة. * ومنهم أبو كبشة: واسمه «سليم» من مولّدى السراة، وقيل من مولدى مكة، وقيل من أرض دوس. شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها، وأعتقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتوفى في أوّل يوم من خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه. * ومنهم «أنيسة» من مولّدى السراة، يكنى «أبا سرح» ، اشتراه النبي صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه، قيل: قتل يوم بدر، وقيل: بل شهد يوم أحد، وتوفى في خلافة أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه، وكان يأذن عيي النبى صلّى الله عليه وسلّم. * ومنهم شقران، واسمه «صالح» ، قيل ورثه صلّى الله عليه وسلّم من أبيه، وقيل: اشتراه من عبد الرحمن بن عوف، شهد بدرا وهو مملوك، فاستعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأسرى ولم يسهم له، فأهداه كل رجل كان له أسير، فأصاب أكثر مما أصابه رجل من المقسم، وأعتقه) صلّى الله عليه وسلّم. وكان «شقران» ممن نزل في قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. * ومنهم رباح، ويكنى «أبا أيمن» وهو عبد أسود نوبي، اشتراه صلّى الله عليه وسلّم من وفد عبد القيس، وأعتقه، وكان يأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحيانا، وهو الذى استأذن لعمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه على النبى لمّا اعتزل نساءه في المشربة (بفتح الميم هى الغرفة) ثم صيّره صلّى الله عليه وسلّم مكان يسار حين قتل، فكان يقوم بأمر لقاحه*. * ومنهم يسار الراعى النوبي، أصابه صلّى الله عليه وسلّم في بعض غزواته، وأعتقه، وجعله فى لقاحه يرعاها، فأغار عليها قوم من «عرينة» ، وأخذوا يسارا وقطعوا يديه ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه ولسانه، واستاقوا اللقاح، وأدخل المدينة ميتا. فقام بأمر اللقاح بعده «رباح» كما سلف. * ومنهم أبو رافع، واسمه «أسلم» كان عبدا قبطيا للعباس بن عبد المطلب، فلما بشّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإظهار العباس إسلامه أعتقه وزوجه «سلمي» مولاته صلّى الله عليه وسلّم،   * اللقاح: جمع لقحة الناقة الحلوب الغزيرة اللبن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 وولدت له عبيد الله. ووجّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا رافع مع زيد بن حارثة من المدينة لحمل عياله من مكة، وبشّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بولادة إبراهيم، فوهب له غلاما، وكانت سلمى زوجته قابلة «1» إبراهيم، وشهدت خيبر مع زوجها، وكان عبيد الله ابنه خازنا لعلى بن أبى طالب، أو كاتبا له أيام خلافته. وشهد أبو رافع أحدا والخندق وما بعدهما من المشاهد، ولم يشهد بدرا لأنه كان بمكة، كما تدلّ عليه قصته مع أبى لهب الاتية؛ قال أبو رافع: كنت غلاما للعباس، فأسلم العباس، وأسلمت أمّ الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرّق في قومه «2» فلما جاء مصاب أهل بدر وجدنا فى أنفسنا عزة وقوّة، وكنت ضعيفا أعمل الأقداح وأنحتها في حجرة زمزم، فبينا أنا أنحت أقداحى وعندى أم الفضل جالسة، وقد سررنا بما جاءنا من خبر أهل بدر، أقبل أبو لهب فجلس، وجاء أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقال أبو لهب: إليّ يا ابن أخي، ما خبر الناس؟ فقال: ما هو إلا أن لقيناهم حتّى منحناهم أكتافنا، ولقينا رجالا على خيل بلق «3» ، فقلت: تلك الملائكة. فلطمنى أبو لهب لطمة شديدة، وثاورته، فضرب بى الأرض، فقالت له أم الفضل: أراك تستضعفه أن غاب عنه سيده، وأخذت شيئا فضربته به فشجته، فقام ذليلا، فو الله ما عاش إلا سبع ليال حتّى رماه الله بالعدسة فقتله، وقد ترك حتّى أنتن وتباعد عنه بنوه، فبقي ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يدفن، فلما خافوا السبّة دفعوه بعود في حفرته، ودفن بأعلى مكة، وقذفوا عليه الحجارة من بعد حتّى واروه بها، كما سبق في الفصل الأوّل من الباب الأوّل، وتوفى أبو رافع قبل عثمان، وقيل في خلافة عليّ رضى الله عنهم. [و «العدسة» : بثر كانت تخرج على الناس، تزعم العرب أنها تعدي، شبيهة بالطاعون.] وعلى ذكر ذلك فقد روي عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان الوباء بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه، وإذا سمعتم به   (1) يقصد قابلة أم إبراهيم أى التى قامت بتوليدها. (2) ذلك والله أعلم هو سر من أسرار إخفائه الإسلام حتّى يتمكن من جمع ماله من قريش. (3) بيضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 بأرض فلا تقدموا عليه» . رواه الشيخان، وقد سبق التنويه إلى ذلك في «الفصل الأوّل من الباب الأوّل» ، وفي نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن الدخول في الأرض التى حلّ بها الطاعون فائدتان، الأولى: لئلا يستنشقوا الهواء الذى قد عفن وفسد فيمرضون، والثانية: لئلا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك، فتتضاعف عليهم البلية لوجود الأمرين. وقد روى عن النبى صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنّ من القرف «1» التلف» (والقرف مداناة الوباء ومداناة المرض) . وقوله: «فلا تدخلوا عليه» إثبات الحذر، والنهى عن التعرض للتلف، وفي قوله: «فلا تخرجوا فرارا منه» إثبات التوكل والتسليم لأمر الله؛ فأحد الأمرين تأديب وتعليم، والاخر تفويض وتسليم. وقال الحافظ الجوزي: «إنما نهى عن الخروج لأن الأصحّاء إذا خرجوا هلكت المرضى؛ فلا يبقى من يقوم بحالهم؛ فخروجهم لا يقطع بنجاتهم، وهو قاطع بهلاك من بقى؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» «2» ، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه» . والوباء مرض عام، يفضى إلى الموت غالبا، وسببه فساد جوهر الهواء الذى هو مادة الروح وسبب لصلاحه، ولذلك لا يمكن حياة الإنسان بدون استنشاق، ومتى عدم الحيوان استنشاق الهواء وتنسّمه مات مختنقا. والوباء مضرّ بالأبدان مزيل لصحتها، معرّض لهلاكها، فلذلك نهاهم النبى صلّى الله عليه وسلّم عن الدخول بأرض حلّ بها الوباء، فيحرم دخولها خوفا عليهم وتعليما لهم، وقال بعضهم: فى نهيه عن الخروج منها معنيان، أحدهما: ثقة بالله وتوكلا عليه، فيحرم ذلك بقصد الفرار، وقال الشيخ ابن سينا: يجب على كل محترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضلية، ويقلّل الغذاء، ويميل إلى التدبير المجفّف من كل وجه، ويجتنب الرياضة والحمّام، فإنهما مما يجب أن يحذرا؛ لأن البدن لا يخلو غالبا من فضل رديء كان فيه، فيثيراه، وذلك يجلب بلية عظيمة، بل   (1) فى مختار الصحاح: القرف: مداناة المرض، وفي الحديث أن قوما شكوا إليه وباء أرضهم فقال «تحوّلوا، فإن من القرف التلف» . (2) رواه الترمذي، والنسائي، والبخارى ومسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 يجب عند وقوع الوباء السكون والراحة وتسكين هيجان الأخلاط؛ إذ لا يمكن الخروج من أرض الوباء إلا بالحركة، وهى مضرة. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه خرج إلى الشام حتّى إذا كان ب «سرغ» لقيه أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء والطاعون قد وقع بالشام، قال ابن عباس: قال لى عمر: ادع لى المهاجرين الأوّلين. فدعوتهم، فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: خرجت لأمر فلا نرى أن ترجع عنه، وقال اخرون: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء والطاعون، فقال عمر: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لى الأنصار. فدعوا، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، فقال: ادع لى من ههنا من مشيخة قريش، من مهاجرة الفتح. فدعوا له، فلم يختلف عليه منهم اثنان، قالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا نرى أن تقدم على هذا الوباء والطاعون، فأذّن عمر في الناس: إنى مصبح على ظهر «1» فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح: يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر الله! فقال: «لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! نعم؛ نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة والاخرى جدبة، ألست إن رعيت رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟!» قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندى في هذا علما، وذكر الحديث المتقدم ذكره، فحمد الله ثم انصرف. فعلمنا من هذه الأحاديث حكم النهى عن دخول بلد بها الطاعون والخروج منها بقصد الفرار منه، وعن أبى نعيم أن النبى صلّى الله عليه وسلّم قال: «الطاعون شهادة لأمتى، ووخز أعدائكم من الجن، غدّة كغدّة الإبل تخرج في الاباط والمرافق، من مات فيه مات شهيدا، ومن قام فيه كان كالمرابط في سبيل الله، ومن فرّ منه كان كالفارّ من الزحف» رواه الطبراني «2» .   (1) كناية عن أنه سيركب دابته مسافرا. (2) وروى مسلم عن أسامة بن زيد: «الطاعون اية الرجز، ابتلى الله به ناسا. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الطاعون شهادة لكل مسلم» رواه البخاري، ومسلم، والإمام أحمد. وللحديث طرق أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وقال صاحب الصحاح: الطاعون من حيث اللغة: الموت بالوباء، ومن حيث الطب: ورم رديء قتّال، يخرج مع تلهّب شديد مؤذ، ويصير ما حوله في الأكثر أسود وأخضر وغير ذلك، ويؤول أمره إلى التقرّح سريعا. وقال بعضهم: المسك عظيم في دفع ضرر الطاعون شربا وشمّا، وركوب البحر. وكذلك العنبر، يدفع ضرر الطاعون والوباء، بخورا وشمّا، وهو أفخر أنواع الطّيب بعد المسك، وألوانه مختلفة؛ فمنه الأبيض، والأشهب، والأحمر، والأصفر، والأخضر، والأزرق، والأسود، وأجوده الأشهب القوي، الخفيف الدسم، ثم الأزرق، ثم الأصفر، وأردؤه الأسود، يغش بالشمع واللاذن وغيره، ويقاوم الهواء المحدث للوباء إذا أدمن شمّه والتبخر به، وشربه يدفع ضرر الطاعون والوباء، وأكله ينفع من استطلاق البطن، وينفع من الزكام بخورا وطلاء، وكذلك العود عظيم في دفع ضرر الطاعون والوباء بإذن الله تعالى: شربا وبخورا. والعود أنواع: أفضلها الهندي، ثم الصيني، وأجوده الأسود النقيّ من البياض، الصلب الرزين الدسم، المرّ الأرسب في الماء، والطافى رديء. وقال الشعراني: اللبان عظيم في دفع ضرر الطاعون والوباء بخورا، يسنّ تبخير المنزل به، فيدفع ضرر الوباء والطاعون وريح الهواء؛ لما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بخّروا بيوتكم باللبان» . وقال الشيخ ابن سينا: والطواعين تكثر في الوباء، وفي البلاد الوبائية، ولمّا كان ذلك كذلك كانوا يعبّرون بالطاعون عن الوباء لشهرة هذا الاسم عندهم، ولملازمته للوباء في أكثر الأحوال، قال بعضهم: الوباء: الطاعون. وقيل: هو كل مرض عام. وقال العلّامة القاضى عياض: أصل الطاعون: القروح الخارجة في الجسد، والوباء: عموم الأمراض، فسميت طاعونا لشبهها في الهلاك بذلك، وإلا فكل طاعون وباء، وليس كلّ وباء طاعونا. والصحيح الذى قاله المحققون في الفرق بينهما أنّ الوباء مرض لكثير من الناس في جهة من الأرض دون سائر الجهات، ويكون مخالفا للمعتاد في الكثرة وغيرها، ويكون مرضهم نوعا واحدا، بخلاف سائر الأوقات، وقد روى عن جماعة من السلف أنهم فرّوا من الطاعون، منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 أبو موسى، ومسروق، والأسود بن هلال، وقال عمرو بن العاص: «فرّوا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤس الجبال» ذكره الإمام النووى في شرح مسلم. (تنبيه) قال أبو الحسن المدائني: كانت الطواعين المشهورة العظام في الإسلام ستة: الأوّل: طاعون شيرويه بالمدائن، فى عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة ستة من الهجرة. الثاني: طاعون عمواس في زمن عمر بن الخطاب، كان بالشام، ومات فيه خمسة وعشرون ألفا. الثالث: طاعون في زمن خلافة عبد الله بن الزبير، فى شوال سنة تسع وستين، ومات فيه بالطاعون في ثلاثة أيام كل يوم سبعون ألفا، ومات فيه لأنس ابن مالك ثلاثة وثمانون ولدا، ومات فيه لعبد الرحمن بن عوف أربعون ولدا. الرابع: طاعون الفتيان، فى شوال سنة سبع وثمانين بالبصرة وواسط والشأم والكوفة، ويقال له طاعون «الأشراف» لما مات فيه من الأشراف. الخامس: طاعون سنة إحدى وثلاثين ومائة، فى رجب، واشتد في رمضان، وكان يخرج في كل يوم ألف، ثم خفّ في شوّال. السادس: طاعون كان بالكوفة سنة خمس، وفيه توفى المغيرة بن شعبة. ولم يقع الطاعون بالمدينة المنورة ولا مكة قط، قاله الإمام النووي. وعن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا طلع النجم ارتفعت العاهة عن كل بلد» وأراد بالنجم الثريّا «1» قال ابن عباس: يعنى الثريا، والعرب تسمى الثريا نجما، والمراد بالعاهة الافة التى تلحق الزرع والثمار في فصل الشتاء، وصدر فصل الربيع، فيحصل الأمن عليها عند طلوع الثريا في الوقت المذكور، وقال ابن عمر: «إذا طلعت الثريا فقد أمن» يعنى صاحب الزرع والثمار، ولذلك نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الثمرة وشرائها قبل أن يبدو صلاحها. اهـ.   (1) لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا طلعت الثريا أمن الزرع من العاهة» رواه الطبراني في الأوسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 ومن شعر سيدى عبد العزيز الديريني: وصغّرت ثرية لكثره ... والخصب في طلوعها واليسره (رجع إلى ذكر مواليه) : * ومنهم أبو مويهبة: وهو من مولّدى مزينة، اشتراه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه، فشهد المريسيع، وكان يقود لعائشة رضى الله تعالى عنها بعيرها. * ومنهم فضالة اليماني، نزل بالشام ومات بها. * ومنهم رافع، وهو «رويفع» ، كان لسعيد بن العاص، فابتاعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأعتقه. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلنا يا نبيّ الله، من خير الناس؟ قال: ذو القلب المخموم، واللسان الصادق، قلنا: قد عرفنا اللسان الصادق، فما القلب المخموم؟ قال: هو التّقيّ النقيّ الذى لا إثم فيه ولا بغي، ولا حسد «1» . قلنا: يا رسول الله فمن على أثره؟ قال: الذى يشنأ الدنيا ويحب الآخرة، قلنا: ما نعرف هذا فينا، إلا أن يكون رافعا مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمن على أثره؟ قال: مؤمن له خلق حسن» . ويقال إن أولاد سعيد بن العاص لمّا ورثوا رافعا عن أبيهم أعتقه بعضهم وأمسكه بعضهم، فجاء رافع إلى النبى صلّى الله عليه وسلّم يستعينه، فوهب له، وكان يقول: أنا مولى النبى صلّى الله عليه وسلّم. وبعض أرباب السير يخلط أبا رافع المسمّى «أسلم» برافع، فيقول: إن رافعا وأبا رافع هما شخص واحد، ويجعل «رويفعا» من سبى هوازن، وأن النبى صلّى الله عليه وسلّم أعتقه. * ومنهم «مدعم» بكسر الميم وسكون الدال المهملة وفتح العين المهملة، هو عبد أسود لرفاعة بن زيد بن وهب الجذامي، ثم الضبيبى (بضم الضاد المعجمة وفتح الباء المواحدة بصيغة التصغير) أهداه له رفاعة، وهو الذى قتل بوادى القرى بسهم أصابه، فقال الناس: هنيئا له الجنة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلا والذى نفسى   (1) فى المختار: قلب مخموم: أي نقى من الغل والحسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 بيده؛ إن الشملة التى أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم تشتعل عليه نارا» وكنيته أبو سلام. * ومنهم «كركرة» (بفتح الكاف الأولى وكسرها والثانية مكسورة فيهما) هو عبد نوبي، أهداه له هوذة بن علي الحنفى فأعتقه، وقيل: مات وهو مملوك، وكان على ثقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما مات قال صلّى الله عليه وسلّم: «هو في النار» ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها. ومنهم «زيد» جد هلال بن يسار بن زيد بن عبيد بن طهمان. * ومنهم مأبور القبطي، وهو عبد خصى أهداه له المقوقس. * ومنهم «واقدة» أبو واقد، وجعلهما ابن سيد الناس اثنين. * ومنهم هشام، وهو الذى روى عن النبى صلّى الله عليه وسلّم حديث: «أن رجلا أتاه فقال: يا رسول الله إن لى امرأة لا تدفع كفّ لامس، فقال: طلّقها» «1» . * ومنهم «أبو ضمرة» ويقال له: «أبو ضميرة» وهو من العرب، مما أفاء الله عز وجل على رسوله، فأعتقه، ثم خيّره أن يقيم معه أو يلحق بقومه، فاختار المقام، فكتب رسول الله له ولأهل بيته كتابا أن يحفظهم كلّ من لقيهم من المسلمين. فذكروا أنّ لصوصا لقوا قوما منهم، فأخرجوا كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يتعرّضوا لهم. ووفد حسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبى ضمرة على المهدى أمير المؤمنين، وجاء معه بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذى كتبه له، فأخذ المهدى الكتاب وقبّله ووضعه على عينيه وأعطى حسينا خمسمائة دينار. * ومنهم «سفينة» أعتقه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: كان عبدا لأمّ سلمة، فأعتقته وشرطت عليه أن يخدم النبى صلّى الله عليه وسلّم حياته، فقال: لو لم تشترطى عليّ ما فارقته.   (1) معنى (لا تدفع كفّ لامس) أنها غير عفيفة، وأنها لعوب يسهل استدراجها إلى الفاحشة، وهى كناية لطيفة عن هذا المعنى الذى يستحى من ذكره صراحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وكان اسمه «مفلح» وقيل كان اسمه «رباحا» ، وقيل «مهران» فسماه النبى صلّى الله عليه وسلّم سفينة؛ لأنه كان معهم في سفرة، فكان كل من أعيا ألقى عليه متاعه: ترسا أو سيفا، فمر به النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال: أنت سفينة، وروى عنه أنه قال: كنا مع النبى صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ابسط كساءك، وقال للقوم: اطرحوا أمتعتكم فيه، ثم قال: احمل إنما أنت سفينة، وقال فلو كان وقر بعير أو بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة لحملته. وهو أسود من مولّدى الأعراب. * ومنهم «أبو هند» مولى فروة بن عمرو البياضي، ابتاعه النبى صلّى الله عليه وسلّم عند منصرفه من الحديبية، وأعتقه، وكان حجّام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال فيه النبى صلّى الله عليه وسلّم: «يا بنى بياضة، زوّجوا أبا هند وتزوّجوا إليه» ، ففعلوا، ولم يشهد بدرا، وشهد المشاهد كلها. قيل اسمه «عبد الله» وقيل «يسار» . * ومنهم «أنجشه» (بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الجيم وبالشين المعجمة) كان عبدا أسود وقيل حبشيا يكنى «أبا مارية» ، وكان حادى النبى صلّى الله عليه وسلّم، وكان حسن الصوت بالحداء، فحدا بأزواج النبى صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع، فأسرعت الإبل، فقال النبى صلّى الله عليه وسلّم: «ويحك يا أنجشة، رفقا بالقوارير» والقوارير أوانى الزجاج، الواحدة قارورة، شبّههن لضعف قلوبهنّ بقوارير الزجاج. ويروى أن أنجشة كان يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال. وممن حدا بمشهد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن رواحة، فقد روى النسائى عن عبد الله بن رواحة أنه كان مع رسول الله في مسير له، فقال له: يا ابن رواحة انزل فحرّك الركاب، فقال: يا رسول الله قد تركت ذلك، فقال عمر رضى الله عنه: اسمع وأطع، فرمى بنفسه، وقال: لا همّ لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدّقنا ولا صلّينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبّت الأقدام إن لاقينا والحدو والحداء: سوق الإبل والغناء لها. قال الشاعر: فغنّها فهى لك الفداء ... إنّ غناء الإبل الحداء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 * ومن مواليه «أبو لبابة» واسمه «زيد بن المنذر» من بنى قريظة، كان لبعض عماته، فوهبته له، فأعتقه، وقيل: ابتاعه صلّى الله عليه وسلّم وهو مكاتب فأعتقه. هؤلاء الموالي المشهورون، وله صلّى الله عليه وسلّم غيرهم، وقيل يبلغون أربعين مولى. وأما مولياته صلّى الله عليه وسلّم: * فسلمى أمّ رافع، ويقال؛ كانت مولاة لصفية عمّته، وهى زوجة أبى رافع، وداية فاطمة الزهراء، وقابلة إبراهيم بن النبى صلّى الله عليه وسلّم. * وأم أيمن، واسمها بركة الحبشية، ورثها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أبيه، وهى أم أسامة بن زيد، كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب، وقيل: كانت لأم النبى عليه الصلاة والسلام، وكانت من الحبشة. فلما ولدت امنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما توفى أبوه، كانت أم أيمن تحضنه حتّى كبر، فأعتقها حين تزوّج خديجة، وزوّجها عبيدة بن زيد بن الحارث الحبشي، فولدت له أيمن وكنيت به، واستشهد أيمن يوم حنين، ثم تزوجها زيد بن حارثة بعد النبوّة فولدت له أسامة، وقيل: أعتقها أبو النبى عليه السلام، وهى التى شربت بول النبى صلّى الله عليه وسلّم. وفي الشفاء «1» روى أنّ أم أيمن كانت تخدم النبى صلّى الله عليه وسلّم، وكان له قدح من عيدان يوضع تحت سريره يبول فيه من الليل، فبال فيه ليلة، ثم افتقده فلم يجد فيه شيئا، فسأل بركة عنه، فقالت: قمت وأنا عطشانة فشربته وأنا لا أعلم، فقال: لن تشتكى وجع بطنك أبدا، وللترمذى «لن تلج النار بطنك» وصحّحه الدارقطني، وحمله الأكثرون على التداوي. وأخرج حسن بن سفيان في مسنده، والحاكم والدارقطني، وأبو نعيم، والطبراني، من حديث أبى مالك النخعى يبلغه إلى أم أيمن أنها قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الليل إلى فخّارة في جانب البيت فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشانة فشربت ما فيها، وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبى صلّى الله عليه وسلّم، قال: يا أم أيمن   (1) كتاب القاضى عياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 قومى فأهريقى ما في تلك الفخارة، قلت: قد والله شربت ما فيها؟ قالت: فضحك النبى صلّى الله عليه وسلّم حتّى بدت نواجذه، ثم قال: «أما والله لا يجعن بطنك أبدا» . وعن ابن جريج قال: أخبرت أن النبى صلّى الله عليه وسلّم كان يبول في قدح من عيدان ثم يوضع تحت سريره، فجاء فإذا القدح ليس فيه شيء، فقال لامرأة يقال لها «بركة» كانت تخدم أمّ حبيبة، جاءت معها من أرض الحبشة: «أين البول الذى كان في القدح؟ قالت: شربته، قال: «صحة يا أم يوسف» فما مرضت قط، حتى كان مرضها الذى ماتت فيه. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمّ أيمن أمّى بعد أمّي» وكان يزورها، ثم أبو بكر، ثم عمر. وقال الواقدي: حضرت أم أيمن أحدا فكانت تسقى الماء وتداوى الجرحى وشهدت خيبر، وتوفيت في أوّل خلافة عثمان، كذا في الصفوة. قال ابن الجوزي: مواليه ثلاثة وأربعون، وإماؤه إحدى عشرة، كذا في المواهب اللدنية. ولم يكونوا في وقت واحد، بل كان كلّ بعض في وقت. ويأتى ذلك موضحا في الفصل الأوّل من الباب الأوّل الاتى في خدمه وحشمه وأرباب الوظائف الدينية التى كانت إذ ذاك في الخطة الإسلامية، واقتدى به فيها الخلفاء الراشدون، وتوسّع فيها الملوك والسلاطين المقتدون. قال صاحب كتاب «تخريج الدلالات السمعية» «1» ما ملخصه: «إنّ من لم ترسخ في المعارف قدمه، وليس لديه من أدوات الطالب إلا يداه وقلمه، يحسب كثيرا من الأعمال السلطانية مبتدعا لا متّبعا، وأن العامل على خطة دنيوية ليس عاملا في عمالة سنّيّة، ويظن أن عمالته دنيّة، فلهذا جمعت ما علمته من تلك العمالات في كتاب يوضّح نشرها، ويبين الأمر لمن جهل أمرها، فيعترف الجاهل، وينصف المتحامل، فذكرت في كل عمالة من ولّاه عليها الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الصحابة، ليعلم ذلك من يليها الان، فيشكر الله على أن استعمله في عمل   (1) للعلامة أبى الحسن علي بن محمد المعروف بالخواص التلمسانى المتوفى 1789 هـ، نشره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية عام 1415 هـ/ 1995 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 شرعى كان يتولاه من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من صلح له، وأقامه المولى في ذلك مقامه، فيجتهد في إقامة الحق فيه، بما يوجبه الشرع ويقتضيه، فيكون قد أحيا سنة وأحرز حسنة.» اهـ. ومن هذا الكتاب استخرجت الزّبد اللائقة، والخلاصات الفائقة، الاتية في أبوابها، النافعة لطلّابها، حيث لم يف ذلك غالب مؤلفى كتب السير، بل جميعهم. فبانضمام هذه العمالات والوظائف السياسية والشرعية إلى ما حوته هذه السيرة من ماجرياته صلّى الله عليه وسلّم ابتداء وانتهاء، تفوز بفضيلة السبق، وترضى بعونه تعالى الخالق والخلق «1» .   (1) الحديث في الفقرتين الأخيرتين عن كتاب اخر يعدّه المؤلف متمما لهذا الكتاب، ويحمل عنوان (الدولة الإسلامية، نظامها وعمالاتها) وقد نشرته مكتبة الاداب في مجلد واحد مع كتاب (نهاية الإيجاز) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 جدول يضبط ما تفرّق من الغزوات التي سبق ذكرها تفصيلا [يقول الفقير نجل مؤلف هذه السيرة الحميدة «على فهمى رفاعة» : كان الوالد- أحسن الله إليه، وأسبغ نعمة الرحمة والرضوان عليه- شافهنى بأنّ فى نفسه أن يضع ضابطا للغزوات، مجملا لما سبق، عند ذكر كل غزوة من التفصيلات، ولكن أبى الله إلا ما أراد، وما كأننى إلا أنا المقصود في خطابه والمراد، فبادرت لتمام أمنيته التى حجبت بمنيّته، وجمعت هذا الجدول تابعا فيه طريقة الأصل، معتمدا على سياقه في تاريخ السنين باعتبار الباب والفصل] : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 فهرس الكتاب تعريف: تقديم هذه الطبعة بقلم الدكتور سامى سليمان أحمد مقدمة الناشر 3 ترجمة المؤلف 7 شجرة نسب الرسول 17 الباب الأوّل فى مولده الشريف إلى بعثته الفصل الأوّل فى مولده الشريف، ونسبه المنيف، ورضاعه وكفالته 19 الفصل الثانى فى ذكر عمل مولده الشريف، وإشهاره كلّ سنة وفيما جرى في مولده وفيما بعده من الوقائع 59 الباب الثانى فى مبعثه، ودعائه الناس إلى الدين الحق وهجرة المسلمين إلى الحبشة. وخروجه إلى الطائف الفصل الأوّل فى رسالته على رأس الأربعين إلى كافة الناس بشيرا ونذيرا 99 الفصل الثانى فى الهجرتين إلى الحبشة 111 الفصل الثالث فى خروجه إلى الطائف قبل هجرته إلى المدينة المشرّفة 135 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 الفصل الرابع فى الإسراء به ليلا من المسجد الحرام وعروجه من المسجد الأقصى إلى السموات العلى 139 الباب الثالث فى هجرته إلى المدينة وما ترتب على ذلك من المظاهر الإسلامية والظواهر التعليمية الفصل الأوّل فى الأسباب الباعثة على الهجرة والتمهيد لها 169 الفصل الثانى فى سيره مهاجرا إلى المدينة مع صاحبه صدّيقه رضى الله تعالى عنه 181 الفصل الثالث فى ذكر الظواهر الحادثة بعد الهجرة إجمالا 205 الباب الرابع فى تفصيل الظواهر التى حدثت بعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى وفاته الفصل الأوّل فى ظواهر السنة الأولى من الهجرة وما فيها من الغزوات 209 الفصل الثانى فى ظواهر السنة الثانية من الهجرة وما فيها من الغزوات 215 الفصل الثالث فى ظواهر السنة الثالثة من الهجرة وما فيها من الغزوات 251 الفصل الرابع فى ظواهر السنة الرابعة من الهجرة وما فيها من الغزوات 263 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 الفصل الخامس فى ظواهر السنة الخامسة وما فيها من الغزوات 297 الفصل السادس فى ظواهر السنة السادسة وما فيها من الغزوات 301 الفصل السابع فى ظواهر السنة السابعة وما فيها من الغزوات 325 الفصل الثامن فى ظواهر السنة الثامنة وما فيها من الغزوات 349 الفصل التاسع فى ظواهر السنة التاسعة وما فيها من الغزوات 379 الفصل العاشر فيما وقع من وفود العرب عليه، وفي حجة الوداع 387 الباب الخامس فى وفاته وذكر بعض أخلاقه وصفاته، ومعجزاته. وأزواجه وأعمامه، وأخواله، ومواليه، وخدمه، وحشمه الفصل الأوّل فى ذكر وفاته وما يتعلق بذلك 403 الفصل الثانى فى ذكر بعض أخلاقه وصفاته 417 الفصل الثالث فى ذكر معجزاته 439 الفصل الرابع فى ذكر أزواجه وقرابته ومواليه 455 جدول بضبط ما تفرّق من الغزوات التى سبق ذكرها تفصيلا 499 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 من إصدارات السلسلة 1- ديوان أبى الطيب المتنبى- تحقيق د. عبد الوهاب عزام 2- الإشارات الإلهية، لأبى حيان التوحيدى- تحقيق: د. عبد الرحمن بدوى 3- قصة الحلاج وما جرى له مع أهل بغداد- تحقيق: سعيد عبد الفتاح 4/ 5- ديوان الحماسة، لأبى تمام- تحقيق: د. عبد المنعم أحمد (فى مجلدين) 6/ 9- رسائل إخوان الصفا (فى أربعة مجلدات) 10- كتاب التيجان، لوهب بن منبه 11/ 18- ألف ليلة وليلة (فى ثمانية مجلدات) 19/ 24- تجريد الأغانى، لابن واصل الحموى- تحقيق: د. طه حسين. أ. إبراهيم الإبيارى (فى ستة مجلدات) 25/ 26- الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة- تحقيق: هنس وير (فى مجلدين) 27- حلبة الكميت، لشمس الدين محمد بن الحسن النواجى 28/ 29- البرصان والعرجان والعميان والحولان، للجاحظ- شرح وتحقيق: عبد السلام هارون (فى مجلدين) 30/ 31- رسائل ابن العربى، للشيخ الأكبر محى الدين بن عربى (فى مجلدين) 32- منامات الوهرانى- تحقيق: إبراهيم شعلان، محمد نغش العاملى مراجعة: د. عبد العزيز الأهوانى 33/ 34- الكشكول، لبهاء الدين العاملى- تحقيق: الطاهر أحمد الزاوى (فى مجلدين) 35- أخبار الأوّل فيمن تصرف في مصر من أرباب الدول، للإسحاقى المنوفى 36/ 48- بدائع الزهور في وقائع الدهور، لابن إياس- تحقيق: محمد مصطفى (فى ثلاثة عشر مجلدا) 49/ 50- فتوح مصر والمغرب، لابن الحكم- تحقيق: عبد المنعم عامر (فى مجلدين) 51/ 54- المواعظ والاعتبار، للمقريزى (فى أربعة مجلدات) 55- سيرة أحمد بن طولون، للبلوى- تحقيق: محمد كرد على 56/ 57- مجموعة مصنفات شيخ إشراق، للسهروردى- بتصحيح: هنرى كربين (فى مجلدين) 58/ 60- اتعاظ الحنفا، للمقريزى- تحقيق: جمال الدين الشيال، د. محمد حلمى محمد أحمد (فى ثلاثة مجلدات) 61- مقالات الإسلاميين، للأشعرى- تصحيح: هلموت ريتر 62/ 65- ديوان أبى نواس، للحسن بن هانئ الحكمى- تحقيق: غريغور شولر، إيفالد فاغنر (فى أربعة مجلدات) 66- ولاة مصر، لمحمد بن يوسف الكندى- تحقيق: د. حسين نصار 67- المنتخب من أدب العرب، لطه حسين واخرين- الجزء الأوّل 68- الهوامل والشوامل، لأبى حيان التوحيدى ومسكوبه 69- المنتخب من أدب العرب لطه حسين واخرين- الجزء الثانى 70/ 71- نوادر المخطوطات- تحقيق: عبد السلام هارون (فى مجلدين) 72/ 73- طبقات فحول الشعراء، لابن سلام الجمحى- تحقيق: محمود شاكر (فى مجلدين) 74/ 80- الحيوان، للجاحظ- تحقيق: عبد السلام هارون (فى ستة مجلدات) 81- كتاب الأشباه والنظائر، للخالديين- تحقيق: د. السيد محمد يوسف 82- سيرة صلاح الدين، لابن شداد- تحقيق: د. كمال الدين الشيال 83- الإمتاع والمؤانسة، للتوحيدى- تحقيق: أحمد أمين، أحمد الزين 84- ديوان تميم بن المعز- تقديم: إبراهيم الدسوقى جاد الرب 85/ 88- البيان والتبيين، للجاحظ- تحقيق عبد السلام هارون (فى أربعة مجلدات) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 89- المغرب في حلى المغرب، لابن سعيد الأندلسى (القسم الخاص بالفسطاط) تحقيق د. شوقى ضيف، د. زكى محمد حسن، د. سيدة كاشف 90- الفتح القسى في الفتح القدسى، للعماد الأصفهانى- تحقيق: محمد محمود صبح 91- ديوان ابن سناء الملك- تحقيق: د. محمد إبراهيم نصر 92- السيف المهند في سيرة الملك المؤيد، لبدر الدين العينى- تحقيق: فهيم محمد شلتوت 93- معجم الشعراء، للمرزبانى- تحقيق: عبد الستار أحمد فراج 94- فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء، لابن عرب شاه- تحقيق: د. محمد رجب النجار 95/ 96- أساس البلاغة، للزمخشرى- عن طبعة مركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية (فى مجلدين) 97/ 98- مقاتل الطالبيين، لأبى الفرج الأصفهانى- تحقيق: السيد أحمد صفر (فى مجلدين) 99- الصاحبى، لابن فارس- تحقيق السيد أحمد صفر 100- التعريف با بن خالدون ورحلته غربا وشرقا، لابن خالدون- تحقيق: محمد بن تاويت الطنجى 101/ 104- عيون الأخبار، لابن قتيبة- عن طبعة دار الكتب المصرية (فى أربعة مجلدات) 105- الفلاكة والمفلوكون، لأحمد بن علي الدلجى. 106- التحدث بنعمة الله، لجلال الدين السيوطى- تحقيق: إ. م. سارتين 107/ 108- الاقتباس من القران الكريم، لأبى منصور الثعالبى- تحقيق: ابتسام مرهون الصفار، د. مجاهد مصطفى بهجت (فى مجلدين) 109- تحقيق ما للهند من مقولة، لأبى الريحان البيرونى 110- جواهر الألفاظ، لقدامة بن جعفر- تحقيق: محمد محيى الدين عبد الحميد 111/ 117- العقد الفريد، لأبى عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسى (فى سبعة مجلدات) 118- مفاتيح العلوم، لمحمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمى- تحقيق: فان فلوتن 119- المسالك والممالك، لأبى اسحق إبراهيم بن محمد الفارسى الإصطخرى- تحقيق: د. محمد جابر عبد العال الحينى 120- دار الطراز، لابن سناء الملك- تحقيق: جودة الركابى 121- الوشى المرقوم في حل المنظوم، لضياء الدين بن الأثير- تحقيق: يحيى عبد العظيم 122/ 124- الأوراق، لأبى بكر الصولى- تحقيق: ج. هيورث. دن (فى ثلاثة مجلدات) 125- المقتطف من أزاهر الطرف، لابن سعيد الأندلسى- تحقيق ودراسة: أ. د سيد حنفى 126- كتاب الوزراء والكتاب، لأبي عبد الله محمد بن عبدوس الجهشيارى، تحقيق: أ. مصطفى السقا، أ. إبراهيم الإبيارى، أ. عبد الحفيظ شلبى 127- أدب الدنيا والدين، لأبى الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردى- تحقيق: مصطفى السقا 128/ 129- نهج البلاغة، للإمام علي بن أبى طالب- شرح: الإمام محمد عبده 130/ 145- صبح الأعشى، للقلقشندى (فى ستة عشر مجلدا، بزيادة مجلدين: معجم المصطلحات، والفهارس، وضع محمد قنديل البقلى) 146/ 148- الخصائص، لابن جنى- تحقيق: أ. محمد على النجار (فى ثلاثة مجلدات) 149/ 150- الفهرست، لابن النديم- تحقيق: جوستاف فليجل، د. محمد عونى عبد الرؤف، د. إيمان السعيد جلال. 151- نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز، لرفاعة الطهطاوى- تحقيق عبد الرحمن حسن محمود، فاروق حامد محمد بدر- مراجعة د. عبد الحكيم راضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514