الكتاب: مع الاثنى عشرية في الأصول والفروع [موسوعة شاملة]   وملحق بها السنة بيان الله تعالى على لسان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤلف: د علي بن أحمد علي السالوس الناشر: دار الفضيلة بالرياض، دار الثقافة بقطر، مكتبة دار القرآن بمصر الطبعة: السابعة، 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- مع الاثنى عشرية في الأصول والفروع علي السالوس الكتاب: مع الاثنى عشرية في الأصول والفروع [موسوعة شاملة]   وملحق بها السنة بيان الله تعالى على لسان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤلف: د علي بن أحمد علي السالوس الناشر: دار الفضيلة بالرياض، دار الثقافة بقطر، مكتبة دار القرآن بمصر الطبعة: السابعة، 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[مع الاثنى عشرية في الأصول والفروع - موسوعة شاملة]ـ وملحق بها السنة بيان الله تعالى على لسان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المؤلف: ا. د. علي أحمد السالوس الناشر: دار الفضيلة بالرياض، دار الثقافة بقطر، مكتبة دار القرآن بمصر الطبعة: السابعة، 1424 هـ - 2003 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] تمهيد إن الحمد كله لله نحمده سبحانه وتعالي ونستهديه، ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل. ونصلى ونسلم على رسله الكرام، وعلى أولهم خاتم الأنبياء والمرسلين، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين. أما بعد: ‍‍‍ فمنذ نحو أربعين سنة بدأت الاطلاع على كتب الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية، والاتصال ببعض علمائهم. وشجعني على هذا أستاذي المرحوم الشيخ محمد المدني، أحد دعاة التقريب بين المذاهب الخمسة، حيث اعتبروا المذهب الشيعي هذا مذهباً خامساً، ولذلك كانت رسالتي للماجستير في الفقه المقارن بين الشيعة الإمامية - أي الجعفرية الاثنى عشرية - والمذاهب الأربعة. غير أنني عندما بدأت الدراسة، ثم قرأت كثيراً من كتبهم، وجدت الأمر على خلاف ما تصوره دعاة التقريب، حيث إن عقيدتهم في الإمامة، وما ينبنى عليها، تمنع التقريب وتحول دونه، فإن هذه العقيدة لا تصح إلا بالطعن في خير أمة أخرجت للناس، حيث يعتبر باقي الصحابة - وحاشاهم - مقرين للمعصية، راضين عنها. وإذا كانت مسألة الإمامة في ذمة التاريخ، فلا حاجة لإثارتها، وخلاف الأمس لا يمنع تقريب اليوم، ومن هنا كانت رسالتي للدكتوراه عن أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله، وللأسف الشديد أنني وجدت هذه العقيدة الباطلة قد أفسدت الكثير من أصول الفقه. فكيف تكون دعوة التقريب؟ إن قلنا للشيعة: دعوا مسألة الإمامة في مجال العقيدة، ولا تجعلوا لها أثراً في التشريع وأصوله حتى تصبحوا كأي مذهب من مذاهب أهل السنة والجماعة، أفيقبلون؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وإذا كانوا لا يقبلون، بل لم توجه لهم هذه الدعوة، أفنؤمن نحن بعقيدتهم الباطلة؟ لهذا يجب أن تكون دعوة التقريب على هدى وبصيرة. ولذا رأيت أن أجعل بين أيدي المسلمين، ودعاة التقريب منهم، بعض الكتب التي تبين الفوارق بين السنة والشيعة في مجالات مختلفة، ليفكروا في هذه الفوارق، ولنحدد كيف تكون دعوة التقريب، ومن الذي يجب أن يترك رأيه ويقترب من الآخر. وكنت جمعت المادة العلمية منذ عدة سنوات، ثم توقفت بضعة أعوام عندما شغلت بالاقتصاد الإسلامي، والمعاملات المعاصرة، وتم بحمد الله تعالي وفضله تأليف بعض الكتب والأبحاث، غير أن البحث في المعاملات المعاصرة أمر متجدد لا ينتهي، فرأيت ألا أجعل الوقت كله له، وأن أعود إلى ما جمعت من مادة للدراسة المقارنة حتى أخرج الكتب التي أريدها، مستعيناً بالله عز وجل. وتوطئة لهذه الدراسة صدر كتابى الأول تحت عنوان: " عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية- دراسة في ضوء الكتاب والسنة - هل كان شيخ الأزهر البشرى شيعياً؟ ! " وانتهت الدراسة إلي أن عقيدتهم لا تستند إلى كتاب ولا إلى سنة، بل باطلة تصطدم بالكتاب والسنة، وأظهرت الدراسة كثيراً من الأخطاء، وكشفت عن مفتريات وأباطيل، ونزهت الشيخ البشرى مما نسبه إليه المفترى الكذّاب صاحب كتاب المراجعات. ورأيت أن تكون الدراسة التالية للكتاب السابق تتعلق بكتاب الله العزيز، المصدر الأول للعقيدة والشريعة. فكان الكتاب الثانى في التفسير المقارن وأصوله بين أهل السنة والشيعة الاثنى عشرية، وقسمته قسمين: - القسم الأول: للحديث عن التفسير وأصوله عند أهل السنة. القسم الثانى: للتفسير وأصوله عند الشيعة الاثنى عشرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ومن يقرأ ما احتواه القسمان يدرك الفوارق البينة الظاهرة بين التفسيرين، وأصول كل منهما. ويتأكد من أن مسألة الإمامة ليست نظرية بحتة تاريخية، بل لها أثرها في كتبهم خلال جميع العصور، ولهذا وجدنا الغالين الضالين من الشيعة يحرفون القرآن نصا ومعنى، ويطعنون في الصحابة الكرام، ويجعلون أئمتهم هم المراد من كلمات الله حتى وصل بعضهم إلى تأليه الأئمة، ووجدنا المعتدلين منهم يقعون في تناقض بين، وهذه نتيجة حتمية، فكيف يجمع بين هذه العقيدة والاعتدال؟! وكيف يجمع بين توثيقهم وإجلالهم لأكبر كبار علمائهم كالقمى والعياشى والكلينى، وهم رءوس الغلو والضلال، وحملة لواء التشكيك والتضليل، وتحريف القرآن المجيد، وتكفير خير أمة أخرجت للناس؟! كيف يجمع بين هذا كله وبين شيء من الاعتدال؟! والمهم أن ما أنسبه إليهم هنا منقول من كتبهم وليس مما كتب عنهم، وبذلك يكون الحكم دقيقاً غير جائر. وانتهيت من الكتاب الثانى سنة 1409 هـ (1989م) ، وفى أواخر ذلك العام كانت الطامة حيث صدر البيان المشهور عن دار الإفتاء المصرية الذي أحل بعض المعاملات التي أجمعت المجامع الفقهية كلها وجميع دور الإفتاء على أنها من الربا المحرم، وتبع البيان بعد ذلك تحليل صور أخرى من المعاملات الربوية حتى وصل الأمر إلى القول بأن البنوك في جميع بقاع الأرض تستثمر بالطرق التي أحلها الله تعالي!! فشغلت بالرد على البيان، وعلى ما صدر بعد ذلك من الفتاوى الباطلة، فكتبت عشرات المقالات، وبضعة كتب وأبحاث، ووقفت عند الكتاب الثانى بين الشيعة والسنة. ومنذ سنوات طلبت منى إحدى الجهات العلمية البارزة كتابة رد على كتاب المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي، ثم تكرر الطلب حتى استحييت، وكنت كتبت بعض الملاحظات حول الكتاب استعداداً للرد قبل هذا الطلب، فأعدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 النظر فيما كتبت، واستعنت بالله عز وجل، وبذلت أقصى ما أستطيع حتى انتهيت بحمد الله عز وجل وفضله وكرمه - من كتاب " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى "، حيث أثبت يقينا براءة شيخ الأزهر مما نسب إليه، وأن عبد الحسين هو وحده صاحب هذه المراجعات المفتراة. والقارئ يجد هذا الأمر واضحاً جلياً، وسيعجب كل العجب من جرأة هذا الرافضي لا على الكذب والافتراء فقط، ولكن أيضا على تصوير شيخ الأزهر وشيخ المالكية وقد جاوز الثمانين عاما في صورة جاهل لا يدرى ما في كتب في التفسير والحديث عند أهل السنة أنفسهم، وما يدرس منها لطلاب الأزهر، فبدا كأنه أقل علماً من هؤلاء الطلاب، إلى أن جاء هذا الشاب الرافضي الطريد الذي لجأ إلى مصر ليعلم شيخ الأزهر نفسه ما في هذه الكتب، ويصور الرافضي نفسه في صورة من أخرج شيخ الأزهر من ظلمات الجهل إلى نور العلم، وجعله يسلم بصحة عقيدة الرافضة وشريعتهم وبطلان ما عليه أمة الإسلام منذ الصحابة الكرام البررة إلى عصرنا!! وقد ناقشت الرافضي مناقشة علمية مستفيضة، نسأل الله تعالى أن يتقبلها منا فهو سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى. وبعد أن انتهيت من كتاب المراجعات رأيت أن أستكمل الموضوع الذي بدأته بالكتابين اللذين أشرت إليهما من قبل، ولكن بدا لي أن أقدم للمسلمين موسوعة شاملة في هذا الموضوع تبين حقيقة الشيعة والرافضة في الماضي والحاضر في ضوء الكتاب والسنة، وكل ما أنسبه إليهم منقول من كتبهم هم أنفسهم، وليس مما كتب عنهم، وبذلك يكون الحكم دقيقا غير جائر. وهذه الموسوعة يضمها كتاب في أربعة أجزاء: الجزء الأول في العقائد. الجزء الثانى في التفسير وكتبه ورجاله. الجزء الثالث في الحديث وعلومه وكتبه ورجاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 والجزء الرابع في أصول الفقه والفقه. وكل جزء له مقدمة تخصه وتناسبه. وكتبت بحثا عنوانه " السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، فرأيت من المناسب أن ألحقه بالجزء الثالث الخاص بالسنة المشرفة. وقبل أن أنتقل إلى مقدمة الجزء الأول أحب أن أذكر بما يأتي: - أولا: لماذا كثر ما كتبت عن الشيعة؟ بعد أن تخرجت في كلية دار العلوم سنة 1376 هـ (1957م) ، والتحقت بالدراسات العليا، كان ممن درس لنا أستاذنا الجليل / محمد المدني - رحمه الله تعالى - وهو من الأعضاء البارزين لدار التقريب بين المذاهب في القاهرة، وكثيراً ما كان يحدّثنا عن الشيعة، وفقههم وأنهم لا يختلفون كثيراً عن المذاهب الأربعة، ويمكن اعتبارهم مذهبا خامسا. والشيعة يزيدون على سبعين فرقة، لكنه كان يقصد الشيعة الإمامية الجعفرية الاثنى عشرية بالذات، فهى صاحبة دار التقريب فكرة وتنفيذا. ونتيجة فهمى لما سمعته منه سجلت رسالة الماجستير تحت عنوان ... " فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة " وأردت أن أحدد مواضع الخلاف فقط، أي ما ينفردون به دون أي مذهب من المذاهب الأربعة، ثم أناقش هذه المواضع باعتبارهم مذهبا خامسا من باب التقريب. غير أننى عندما بدأت البحث، واطلعت على مراجعهم الأصلية وجدت الأمر يختلف عما سمعت تماما. ورأيت أن عقيدة الإمامة عندهم، التي جعلوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أصلا من أصول الدين، أثرت في مصادر الشريعة، وجميع أبواب الفقه، ولذلك جعلت رسالة الدكتوراه عنوانها " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله". فدراستى إذن بدأت بتوجيه من الشيخ المدني من أجل التقريب. ولكن الدراسة العلمية لها طابعها الذي لا يخضع للأهواء والرغبات. وكان طبيعيا ألا أقف عند الماجستير والدكتوراه، وأن يظهر هذا التخصص في دراسات أخرى، ولهذا قمت بتأليف عدة كتب في سلسلة دراسات في الفرق. من هذا التوضيح يعرف سبب كثرة ما كتبت في هذا المجال، وما أكتبه ليس من أهدافه الحوار مع الشيعة والرافضة، وإنما أوجه كتابتى لأهل السنة والجماعة وجمهور المسلمين في ضوء المصادر المعتمدة التي تلقتها الأمة بالقبول، والمنهج العلمي الذي اتفق عليه جمهور المسلمين. ثانيا: الشيعة ليسوا سواء الشيعة الاثنا عشرية ليسوا سواء، فمنهم الغلاة الذين نرى فيما كتبوا الكفر والزندقة، ومنهم من ينشد الاعتدال، ويتصدى لبعض هؤلاء الغلاة، ومنهم من يجمع بين الغلو والاعتدال. فعلى سبيل المثال. ظهر في القرن الثالث الهجرى ثلاثة كتب في التفسير هي التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري، وتفسير العياشى، وتفسير القمي. وهذه الثلاثة كلها زيغ وضلال وزندقة: تكفر الصحابة رضي الله تعالي عنهم، وعلى الأخص الخلفاء الراشدين قبل الإمام على، ومن بايعوهم، وتحرف القرآن الكريم نصا ومعنى وتغلو في الأئمة الاثنى عشر إلى درجة الشرك بالله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وفى القرن الرابع الهجرى يؤلف الكلينى ـ وهو تلميذ القمي ـ كتابه الكافى، الكتاب الأول في الحديث عندهم، وقد ضل ضلالا بعيداً، ونهج منهج التفاسير الثلاثة وزاد عليها كفراً وضلالا. وفى القرن الخامس يؤلف الطوسي كتابه التبيان في التفسير، وينهج منهجا فيه شيء من الاعتدال، ويتصدى لحركة التشكيك والتضليل التي سبقته، ويحاول جاهدا صيانة كتاب الله العزيز نصا ومعنى، وإن تأثر بعقيدته في بعض معانى الآيات الكريمة. والإمامية الاثنا عشرية بعد هذا منهم من سار في ظلمات الضالين الغلاة ومنهم من اقترب من شيخ الطائفة الطوسي، ومنهم من أخذ من كل نصيبا. وقد بينت هذا بالتفصيل في كتابى " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله "، وفى هذا الكتاب بأجزائه الأربعة. وعبد الحسين في كتابه " المراجعات " الذي أشرت إليه من قبل لم ينقل إلا عن الغلاة الضالين، وأضاف إليهم ما هو أشد كفرا وضلالا، ولم ينقل شيئا عن التبيان للطوسى شيخ طائفتهم وصاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة. ولذلك فهو يعد من أشد الروافض غلوا وزندقة وكفرا. وأرجو أن يكون واضحا أن ما نراه في كتب الغلاة الرافضة، وما نصمهم به نتيجة ما قدمت أيديهم، لا ينطبق على المعتدلين من الطائفة. والذى تعجب له هو موقف المعتدلين الغلاة من الشيعة، حيث نرى تناقضا واضحا: - فهم يثنون على الصحابة الكرام، ويقولون بأن القرآن الكريم الذي بين أيدى المسلمين هو كما أنزله الله عز وجل، وأن أي خبر يتعارض مع هذا سواء أكان في الكافى أو غيره، يضرب به عرض الحائط، وكذلك ما يتصل بفرية علم الأئمة للغيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والتناقض يأتي في الإشادة بكتب الغلاة كالمراجعات، وهو الذي يتعارض مع كل ما سبق كما يظهر عند عرضه ومناقشته، وبيان ما فيه من البلايا والرزايا. وكذلك القول بأن كل ما في تفسير على بن إبراهيم القمي صحيح، وهو الذي كفر الصحابة وقال بالتحريف تنزيلاً وتأويلاً، وعلم الأئمة لما كان وما يكون إلى يوم القيامة. تناقض واضح جلى بلا شك!! ولذلك فهم جمعوا بين الاعتدال والغلو!! ووجدنا طائفة من معتدلي الشيعة لم تقع في مثل هذا التناقض، وظهرت لهم كتب تفضح وترد على غلاة الشيعة، وذلك مثل كتاب تحطيم الصنم، والمقصود بالصنم كتاب الكافى، وكتاب لله ثم للتاريخ، وفيه تبرئة الأئمة الأطهار مما نسب إليهم من الغلو، وما كتبه أحمد الكاتب، وموسى الموسوي، وغيرهم. ... فالشيعة إذن ليسوا سواء. ثالثا: منهج الرافضة في محاولة هدم الإسلام عبد الحسين الذي افترى كتاب المراجعات، أراد أن يبين أن علامة أهل السنة وشيخ أزهرهم، والذى جاوز الثمانين من عمره، جاهل بالكتاب والسنة ... معا، حتى بالكتب التي تدرس لطلاب الأزهر، ويسلم بكل ما يقوله هذا الرافضي الشاب الطريد الذي لجأ إلي مصر، فلا ينتهى الكتاب المفترى حتى ينطق ويشهد شيخ الأزهر- وحاشاه ثم حاشاه - بما ينطق به غلاة الروافض! وإذا كان هذا هو حال الإمام الأكبر فعلى الباقين جميعا أن يسلموا تسليماً، وأن يعود الأزهر شيعيا كما بدأ! هكذا زين الشيطان للرافضى! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وأراد شيطان الرافضة أن يبين أنه صاحب ذلك الكتاب لا ريب فيه، وبه نور الظلم، وأنقذ شيخ الأزهر من ظلمات الجهل ... هكذا دون أدنى خجل أو حياء من الله عز وجل، أو من الناس. وما ذكر في مقدمة كتاب المراجعات عن عبد الحسين فهو من باب ما قاله الإمام الشافعى " أشهد الناس بالزور الرافضة ". وأحب أن أنبه إلى أمر هام وهو منهج الرافضة في هدم الإسلام من الداخل ونشر عقائدهم الباطلة. رأيت كتابا لعبد الحسين هذا عنوانه " الفصول المهمة في تأليف الأمة "، ومن الذي لا يريد تأليف أمة الإسلام؟ فلما نظرت في الكتاب وجدته ينتهى إلى أن التأليف إنما يكون باعتناق عقيدة الرافضة وترك ما عليه أهل السنة والجماعة، وهذا هو ما انتهى إليه في كتاب المراجعات، بعد أن بدأه بالتحذير من الفرقة، ووجوب اجتماع الكلمة، أي أننا يجب أن نجتمع، على الكفر والزندقة، لا على سنة الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، التي أمرنا أن نعض عليها بالنواجذ. فيجب أن نتنبه إلى هذا المنهج الخبيث، وإلى أنهم في سبيل تصدير الثورة التي نادى بها الخمينى، أي عقيدة الرافضة وشريعتهم، يغرون بالمال الوفير، وبالنساء عن طريق زواج المتعة عندهم. رابعا: عبد الله بن سبأ صاحب فكرة الوصي بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن سبأ كان يهودياً ثم أعلن إسلامه، ووالي على بن أبى طالب - رضي الله تعالى عنه - وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بالغلو، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 فقال في إسلامه بعد وفاة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبى الحسن مثل ذلك. وهو صاحب فكرة أن علياً هو وصى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. جاء في كتاب فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبختي، وسعد بن عبد الله القمي، وهما من علماء الشيعة في القرن الثالث الهجرى: " عبد الله بن سبأ أول من شهر القول بفرض إمامة على رضي الله عنه، وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه وكفرهم، فمن هاهنا قال من خالف الشيعة: إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية ". (ص 32:33 وانظر هذا أيضا في ترجمة ابن سبأ في تنقيح المقال للماماقانى 2/184، والأنوار النعمانية للسيد نعمة الله الموسوي الجزائري ص 234. وكلها مراجع شيعية) . ونتيجة لدور ابن سبأ في تأسيس عقيدة الرافضة، ولرفع هذه التهمة الثابتة، ألف مرتضى العسكري الشيعي كتابا عن عبد الله بن سبأ، وقال: إنه شخصية خرافية لا وجود لها، وإن قصته وضعها سيف بن عمر، واشتهرت عن طريق تاريخ الطبري. وما قاله هذا الشيعي غير صحيح، بل جرأة عجيبة على إنكار ما هو ثابت مشتهر، فما أكثر ما جاء عن ابن سبأ من غير طريق سيف بن عمر، وما نقلته من كتاب فرق الشيعة وغيره ليس فيه سيف بن عمر، وليس منقولا عن طريق الطبري، وأضيف إليه بعض المراجع الشيعية الأخرى التي ذكرت ابن سبأ، وليس في سندها سيف بن عمر: فانظر على سبيل المثال لأصحاب كتب الحديث الأربعة عند الشيعة: الكافى للكلينى 1/545، وللصدوق: فقيه من لا يحضره الفقيه 1/213، وعلل الشرائع ص 344، والخصال 638، وللطوسى: تهذيب الأحكام 2/322، واختيار معرفة الرجال 2/108، والأمالى 1/234. وراجع أيضا: وسائل الشيعة 18/554، ورجال الكشّى، وغيرها من مراجع الشيعة أنفسهم، إلى جانب مراجع الجمهور التي يطول ذكرها. ويمكن أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 هذا الموضوع بحثا موسعا نثبت به أخطاء مرتضى العسكري وغيره، ولكن أكتفى بذكر نموذج لأحد الشيعة المشهورين بالاعتدال إلى حد ما وهو السيد أبو القاسم الخوئى، الذي كان المرجع الأعلى للشيعة في العراق. جاء في كتابه معجم رجال الحديث في ترجمة عبد الله بن سبأ ما نصه: الذي رجع إلى الكفر وأظهر الغلوّ: من أصحاب على رضي الله عنه رجال الشيخ (76) . وقال الكشّى (48) : " حدثني محمد بن قولويه القمي، قال: حدثني سعد بن عبد الله بن أبى خلف القمي، قال: حدثني محمد بن عثمان العبدى، عن يونس بن عبد الرحمان، عن عبد الله بن سنان، قال: حدثني أبى عن أبى جعفررضي الله عنه: أنّ عبد الله بن سبأ كان يدعى النبوة ويزعم أن أمير المؤمنين رضي الله عنه هو الله!! تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً فبلغ ذلك أمير المؤمنين رضي الله عنه، فدعاه وسأله فأقرّ بذلك، وقال: نعم أنت هو وقد كان ألقى في روعى أنك أنت الله وأنىّ نبي!! فقال له أمير المؤمنين رضي الله عنه: ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب، فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار". وقال: إنّ الشيطان استهواه فكان يأتيه ويلقى في روعه ذلك. حدثني محمد بن قولويه، قال: حدثني سعد بن عبد الله، قال: حدّثنا يعقوب ابن يزيد ومحمد بن عيسى، عن ابن أبى عمير، عن هشام بن سالم، قال: سمعت أبا عبد الله يقول وهو يحدث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ، وما ادّعى من الربوبية في أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه، فقال: إنه لما ادّعى ذلك فيه استتابه أمير المؤمنين رضي الله عنه فأبى أن يتوب فأحرقه بالنار. حدثني محمد بن قولويه: قال: حدثني سعد بن عبد الله، قال: حدّثنا يعقوب بن يزيد، ومحمد بن عيسى، عن على بن مهزيار، عن فضالة بن أيوب الأرذى عن أبان بن عثمان، قال: سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه يقول: لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادّعى الربوبية في أمير المؤمنين رضي الله عنه، وكان والله أمير المؤمنين رضي الله عنه عبد الله طائعاً، الويل لمن كذب علينا وإن قوما يقولون فينا ما لانقوله في أنفسنا، نبرأ إلى الله منهم. نبرأ إلى الله منهم. وبهذا الإسناد عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبى عمير، وأحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه، والحسين بن سعيد، عن ابن أبى عمير، عن هشام بن سالم، عن أبى حمزة الثمالى، قال: قال على بن الحسين صلوات الله عليهما: لعن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 من كذب علينا إنى ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدى، لقد ادّعى أمراً عظيماً! ما له لعنه الله، كان على رضي الله عنه والله عبداً لله صالحاً، أخا رسول الله، ما نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله صلى الله عليه وآله الكرامة من الله إلا بطاعته لله. وبهذا الإسناد: عن محمد بن خالد الطيالسى، عن ابن أبى نجران، عن عبد الله (بن سنان) ، قال: قال أبو عبد الله رضي الله عنه: إنّا أهل بيت صديقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس، كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوآله أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلّها، وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان أمير المؤمنين رضي الله عنه أصدق من برأ الله بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفترى على الله الكذب عبد الله بن سبأ. أقول ـ أي الخوئى: وتأتى هذه الرواية الأخيرة في ترجمة محمد بن أبى زينب وفى سندها ابن سنان، بدل عبد الله. وقال الكشّى: " ذكر بعض أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً فأسلم ووالى عليا رضي الله عنه، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصى موسى بالغلو! فقال في إسلامه بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في على رضي الله عنه مثل ذلك، وكان أول من شهر بالقول بفرض إمامة على!! وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وأكفرهم، فمن ها هنا قال من خالف الشيعة: أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية!! ". أقول: بطلان قول من خالف الشيعة واضح ناشئ عن العصبية العمياء، فإن أصل التشيع والرفض مأخوذ من الله عز وجل حيث قال سبحانه وتعالى: " إنما وليكم لله ورسوله والذين آمنوا ... " والرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله حيث قال في الغدير: " من كنتٌ مولاه فهذا على مولاه، اللهم وال من ... والاه ... " وأما عبد الله بن سبأ فعلى فرض وجوده فهذه الروايات تدل على أنه كفر وادّعى الألوهيّة في على رضي الله عنه لا أنه قائل بفرض إمامته رضي الله عنه، مضافاً إلى أن أسطورة عبد الله بن سبأ وقصص مشاغباته الهائلة موضوعة مختلفة اختلقها سيف بن عمر الوضاع الكذّاب، ولا يسعنا المقام الإطالة في ذلك والتدليل عليه، وقد أغنانا العلامة الجليل والباحث المحقق السيد مرتضى العسكري في ما قدم من دراسات عميقة دقيقة في هذه القصص الخرافية وعن سيف وموضوعاته في مجلّدين ضخمين طبعا باسم (عبد الله بن سبأ) وفى كتابه الآخر (خمسون ومائة صحابي مختلق) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (11/205: 207) . انتهت الترجمة. ونلاحظ هنا أن الخوئى نقل الترجمة من مراجع شيعية فقط، وذكر الأخبار بأسانيدها وليس في أي منها سيف بن عمر، ومع ذلك يقول: أسطورة عبد الله بن سبأ، ويثنى على مرتضى العسكري! وعلى دراساته! أين ذهب عقل الخوئى وهو يكتب هذا؟! ثم لا يكتفى بالافتراء على الله تعالى وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنسبة لأصل التشيع، بل يلحق به الرفض الذي يعنى الطعن في أبى بكر وعمر، خير البشر بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وفى الأمة الإسلامية كلها التي بايعت كلا منهما. والخوئى مشهور بالاعتدال النسبى، فماذا ننتظر من غلاة الرافضة وزنادقتهم؟! (1) أما من عرف بالاعتدال وعدم الغلو والتطرف من الشيعة فقد وجدنا منهم من يكتب عن عبد الله بن سبأ ويثبت وجوده، ويرد على مرتضى العسكري ومن أيده، ففي كتاب كشف الأسرار وتبرئة الأئمة الأطهار لعالم شيعي من علماء النجف وهو السيد حسين الموسوي نجد سبعة نصوص تؤيد وجود عبد الله بن سبأ، ثم يقول المؤلف بعد ذكر هذه النصوص ما يأتي: فهذه سبعة نصوص من مصادر معتبرة ومتنوعة، بعضها في الرجال وبعضها في الفقه والفرق، وتركنا النقل عن مصادر كثيرة لئلا نطيل، كلها تثبت وجود شخصية اسمها عبد الله بن سبأ، فلا يمكننا بعد نفي وجودها خصوصاً وأن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد أنزل بابن سبأ عقاباً على قوله فيه، بأنه إله، وهذا يعنى أن أمير المؤمنين رضي الله عنه قد التقى عبد الله بن سبأ، وكفى بأمير المؤمنين بحجة، فلا يمكن بعد ذلك إنكار وجوده. نستفيد من النصوص المتقدمة ما يأتي: - ـ إثبات وجود شخصية ابن سبأ، ووجود فرقة تناصره وتنادى بقوله، وهذه الفرقة تعرف بالسبئية. ـ أن ابن سبأ هذا كان يهودياً فأظهر الإسلام، وهو وإن أظهر الإسلام إلا أن الحقيقة أنه بقى على يهوديته وأخذ يبث سمومه من خلال ذلك. ـ أنه هو الذي أظهر الطعن في أبى بكر وعمر وعثمان والصحابة، وكان أول من قال بذلك، وهو أول من قال بإمامة أمير المؤمنين رضي الله عنه، وهو   (1) استدلال الخوئى هنا على أصل التشيع والرفض يأتي أثناء ذكر الأدلة ومناقشتها في هذا الجزء الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الذي قال بأنه رضي الله عنه وصى النبي محمد صلى الله عليه وآله، وأنه نقل هذا القول عن اليهودية؟ وأنه ما قال هذا إلا محبة لأهل البيت ودعوة لولايتهم، والتبرؤ من أعدائهم ـ وهم الصحابة ومن والاهم بزعمه. إذن شخصية عبد الله بن سبأ حقيقة لا يمكن تجاهلها أو إنكارها، ولهذا ورد التنصيص عليها وعلى وجودها في كتبنا ومصادرنا المعتبرة، وللاستزادة في معرفة هذه الشخصية، انظر المصادر التالية: " الغارات للثقفى، " رجال الطوسي "، " الرجال " للحلي، " قاموس الرجال " للتستري، " دائرة المعارف " المسماة بـ " مقتبس الأثر " للأعلمى الحائري، " الكنى والألقاب " لعباس القمي، " حل الإشكال " لأحمد بن طاووس المتوفى سنة (673 هـ) ، " الرجال " لابن داود، " التحرير " للطاوسي، " مجمع الرجال " للقهبانى، " نقد الرجال " للتفرشى، " جامع الرواة " للمقدسى الأردبيلى، " مناقب آل أبى طالب " لابن شهر أشوب، " مرآة الأنوار " لمحمد بن طاهر العاملي. فهذه على سبيل المثال لا الحصر، أكثر من عشرين مصدراً من مصادرنا تنص كلها على وجود ابن سبأ، فالعجب كل العجب من فقهائنا أمثال المرتضى العسكري، والسيد محمد جواد مغنية، وغيرهما ... في نفى وجود هذه ... الشخصية، ولا شك أن قولهم ليس فيه شيء من الصحة. انتهى كلام السبد حسين الموسوي، العالم الشيعي النجفي، ومصادره كلها شيعية كما ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الجزء الأول في العقائد : مقدمة بعد أن انتهينا من التمهيد للكتاب كله بأجزائه الأربعة ننتقل إلى مقدمة هذا الجزء الأول، فأقول مستعينا بالله سبحانه وتعالى: لا شك أن الإمامة قد حظيت بكثير من الدراسة والبحث، ولا غرو فأعظم خلاف وقع بين المسلمين إنما كان بسببها. والشيعة الإمامية الجعفرية الاثنا عشرية أكبر الفرق الإسلامية المعاصرة وإليها اتجهت دعوة التقريب، لذا رأيت أن أبين عقيدة الإمامة عندهم كما جاءت في كتبهم هم أنفسهم، دون اعتماد على شيء مما كتب عنهم، فبعض من كتبوا عنهم خلطوا بينهم وبين فرق شيعية أخرى. والإسلام - عقيدة وشريعة - إنما يستمد أصلاً من الوحي الذي أنزله الله عز وجل في كتابه المجيد، وما بينه على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة المطهرة. وصحة عقيدة الجعفرية أو بطلانها لا يثبت إذن إلا بالكتاب والسنة. لهذا رأيت أن أحدد أهم أدلتهم التي تستند إلى القرآن الكريم، وأبين وجهة نظرهم، وأناقشهم فيما ذهبوا إليه. وإذا كان من اليسير أن نحدد أدلتهم التي تستند إلى القرآن الكريم، فمن العسير تعيين أدلتهم التي تستند إلى السنة النبوية الشريفة، لأن السنة مجال واسع رحب، ودور الكذّابين والوضاعين معروف. والجعفرية معنيون كل عناية بالحديث عن الإمامة، ومحاولة إثبات صحة مذهبهم بالأدلة النقلية والعقلية، ولهم في القديم والحديث مئات المؤلفات، بل عشرات المئات، فقلما نجد عالماً من علمائهم لم يدل بدلوه في هذا الميدان. وفى مؤلفاتهم نرى الميل إلى الإكثار الزائد من النقل والجدل، مثال هذا أنهم يستدلون على صحة الإمامة بأحد الأحاديث، فجاء كاتب من كتابهم وألف كتاباً في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة هذا الحديث وشهرته، ومن قبله يقرون كتب غيره كتاب الألفين - أي من الأدلة - في إمامة أمير المؤمنين؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وأمام هذا الفيض الزاخر رأيت أن اعتمد أساساً على ثمانية كتب من كتب السنة هي: الموطأ ومسند الإمام أحمد، والصحيحان، وكتب السنن الأربعة، ثم جمعت كل ما جاء فيها متصلاً بالإمامة سواء أأيد رأيهم أم عارضه، وناقشت ما جمعت سنداً ومتناً لنتبين دلالة السنة. أما كتب السنة عند الجعفرية فلم أعتمد عليها لأننى عندما اطلعت عليها رأيت أنها ما وضعت إلا من أجل عقيدتهم وما يتصل بها. على أن كتب الجعفرية التي ينشرونها في الأوساط المختلفة وتتعرض لعقيدتهم في الإمامة، تذكر أن هذه العقيدة تؤيدها كتب السنة عند جمهور المسلمين، ويذكرون أخباراً كثيرة ينسبونها لهذه الكتب ويحتجون بها. وجمعنا لما جاء في الكتب الثمانية المذكورة آنفاً ومناقشة ما جمع يغنى عن مناقشة ما جاء في كل كتاب من مئات الكتب الجعفرية. غير أننى لم أكتف بهذا، بل رأيت تخصيص فصل لأدلتهم التي يذكرونها، مع مناقشتها، وهى تعتمد على تحريف القرآن الكريم نصاً ومعنى، وعلى الأحاديث الموضوعة المفتراة. وهذه الأدلة نرى معظمها في كتابين من كتبهم. أولهما: كتاب منهاج الكرامة لابن المطهر الحلى، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابة منهاج السنة النبوية. والكتاب الثانى هو: المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي، ورددت عليه بكتابي: المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى. فتناولت في الفصل شيئاً من كتابى ابن المطهر وعبد الحسين، والرد عليهما، وبينت بعض ما جاء فيهما من الباطل والضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وبعد الحديث عن عقيدة الإمامة، والمناقشة ختمت الجزء بفصل عن العقائد التابعة لعقيدة الإمامة وأهمها: عصمة الأئمة، والبداء، والرجعة، والتقية. فهذا الجزء يقع في خمسة فصول: - الفصل الأول ... : - الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة. الفصل الثانى ... : - أدلة الإمامة من القرآن العظيم. الفصل الثالث ... : - الإمامة في ضوء السنة. الفصل الرابع ... : - الاستدلال بالتحريف والوضع. الفصل الخامس: - عقائد تابعة. نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً سواء السبيل، إنه نعم المولي ونعم ... النصير، وهو المستعان. " رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ"، " سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ علَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الفصل الأول الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة أولا: الإمامة والخلافة الإمامة لغة التقدم، نقول: أمّ القوم وبهم: تقدمهم. والإمام: ما ائتم به الناس من رئيس أو غيره: هادياً كان أو ضالاً، ويطلق لفظ الإمام على الخليفة، وهو السلطان الأعظم وإمام الرعية ورئيسهم. وأممت القوم في الصلاة إمامة، وائتم به أي اقتدى. ويطلق لفظ الإمام كذلك على القرآن الكريم، فهو إمام المسلمين، وعلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو إمام الأئمة بأئمتها، وعليهم جميعاً الائتمام بسنته التي نص عليها. ويطلق على قيم الأمر المصلح له، وعلى قائد الجند، وقد يذكر ويراد به غير هذه المعاني (1) . ولم يرد لفظ الإمامة في القرآن الكريم، وإنما ورد لفظ إمام وأئمة، قال تعالى: - " قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ " (2) أي جاعلك قدوة يؤتم به، وقال سبحانه: " وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا " (3)   (1) من بينها مثلا: أمة يؤمه إذا قصده كما جاء في الآية الكريمة الثانية من سورة المائدة {ولا آمين البيت الحرام} انظر مادة " أمم " في لسان العرب والقاموس المحيط. (2) البقرة: 124. (3) الأنبياء: 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وقال عز وجل "فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ " (1) أي قاتلوا رؤساء الكفر وقادتهم الذين صار ضعفاؤهم تبعاً لهم. وقال تعالى: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ " (2) ، أي من تبعهم فهو في النار يوم ... القيامة. ومن المفهوم اللغوى لكلمة إمام نستطيع أن ندرك سبب إطلاق هذا الاسم على حاكم المسلمين، كما وجدنا ترادفاً بين الإمامة والخلافة. ويفسر هذا أستاذنا الشيخ أبو زهرة رحمه الله فيقول: " سميت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين يخلف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إدارة شئون المسلمين، وتسمى الإمامة لأن الخليفة كان يسمى إماماً، ولأن طاعته واجبة، ولأن الناس يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم للصلاة " (3) . وأعظم خلاف بين الأمة - كما يقول الشهر ستانى - خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان (4) وبالطبع ما كان الخلاف ليجد مكانا بين المسلمين وفيهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحسم الخلاف، ويصلح النفوس ويهدى إلى صراط مستقيم "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (5)   (1) التوبة 12 (2) القصص:41 (3) تاريخ المذاهب الإسلامية 1/21. والمعروف أن الخليفة الأول رضي الله عنه خلف النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعده كل خليفة يخلف من سبقه. (4) الملل والنحل 1/24. (5) - سورة النساء: الآية 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ثانيا: التفكير في الإمامة وبيعة الصديق أكان المسلمون يفكرون فيمن يخلف الرسول الكريم في إمامتهم وعلى وجه الخصوص عندما اشتد مرضه الأخير؟ وردت روايات صحيحة الإسناد تفيد وجود مثل هذا التفكير، منها ما جاء عن ابن عباس أن على بن أبى طالب خرج من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجعه الذي توفى فيه، فقال الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً، قال ابن عباس: فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال: ألا ترى أنت؟ والله إنى أعرف وجوه بنى عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلنسأله فيمن هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا كلمناه فأوصى بنا، فقال على: والله لئن سألناها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً، فوالله لا أسأله أبداً (1) . وجاء عن على - كرم الله وجهه - قال: " قيل: يا رسول الله، من يؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة، وإن تؤمروا عمر تجدوه أميناً لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا علياً، ولا أراكم فاعلين، تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم " (2) معنى هذا أن التفكير في الإمامة نبت على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن الخلاف لم ينشأ إلا بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى حيث كان اجتماع السقيفة المشهور الذي انتهى بالبيعة للخليفة الأول، وتحدث الخليفة الثانى في إحدى خطبه عن ذلك الاجتماع فقال: " بلغنى أن قائلاً منكم يقول: والله لو مات عمر بايعت   (1) انظر الرواية رقم 2374 بالجزء الرابع من مسند الإمام أحمد تحقيق وتخريج الشيخ أحمد شاكر. وانظر هذه الرواية بسند صحيح آخر رقم 299 ج 5 من المسند. (2) المرجع السابق ج3 رواية رقم 859 وهى صحيحة الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فلانا، فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبى بكر فلتة، وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر. من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا، وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بنى ساعدة، وخالف عنا على والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبى بكر، فقلت لأبى بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالى عليه القوم، فقالا: لا عليكم أن تقربوهم، اقضوا أمركم، فقلت: ماله؟ قالوا: يوعك، فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم، وكنت زورت مقالة أعجبتنى أريد أن أقدمها بين يدى أبى بكر، وكنت أدارى منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبوبكر فكان هو أعلم منى وأوقر. والله ما ترك من كلمة أعجبتنى من تزويرى إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت، فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم، فأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقى، ولا يقربنى ذلك من إثم، أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إلى نفسى عند الموت شيئاً لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش. فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف، فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، قال عمر: وإنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبى بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا ... رجلاً منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفهم فيكون فساد، فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا " (1) . ثالثاً: الإمامة عند الجمهور مما ذكره الفاروق نلاحظ ما يأتي: - أولاً: لا خلاف حول وجوب إقامة خليفة، وإنما كان الخلاف بشأن من يخلف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإلى هذا انتهى جمهور السنة، فلا يستقيم أمر الأمة بغير حاكم. ثانياً: أن الخلافة في قريش: " لن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحى من قريش " ولم يأخذ الأنصار بهذا أول الأمر، ولكن ما أسرع أن بايعوا قريشاً ما عدا سعد عبادة فلم يبايع، ويؤيد ما ذكره الصديق أحاديث صحيحة: فالبخارى - في كتاب الأحكام من صحيحه -جعل باباً بعنوان " الأمراء من قريش "، ومما آخرجه هنا   (1) صحيح البخاري - كتاب المحاربين - باب رجم الحبلى، وراجع المسند تحقيق شاكر ج1 رواية رقم 391 قوله: تغرة أن يقتلا: أي خوف وقوعهما في القتل. يحضوننا: يخرجوننا: زورت: هيأت وحسنت والتزوير: إصلاح الشيء، وكلام مزور: أي محسن. جذيلها المحكك: الجذيل تصغير جذل، وهو العود الذي ينصب للإبل الجربى لتحتك به، وهو تصغير تعظيم، أي أنا ممن يستشفى برأيه كما تستشفى الإبل الجربى بالاحتكاك بهذا العود، وقيل: أراد أنه شديد البأس صلب المكسر. المرجب من الترجيب، وهو أن تعمد النخلة الكريمة ببناء إذا خيف عليها - لطولها وكثرة حملها - أن تقع. (انظر المسند ففيه المزيد) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين " وقوله صلوات الله عليه: " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى منهم اثنان ". وفى كتاب الإمارة من صحيح مسلم نجد " باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش "، ومما جاء في هذا الباب قول الرسول الكريم " الناس تبع لقريش في هذا الشأن " وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يزال هذا الأمر في قريش مابقى من الناس اثنان ". وأخرج أحمد في مسنده روايات كثيرة صحيحة الإسناد تؤيد هذا، منها قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما بعد، يا معشر قريش، فإنكم أهل هذا الأمر، ما لم تعصوا الله، فإذا عصيتموه بعث إليكم من يلحاكم كما يلحى هذا القضيب - لقضيب في يده - ثم لحا قضية، فإذا هو أبيض يصلد " (1) ثالثاً: لا يكون خليفة إلا بالبيعة " قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ". " فقلت ابسط يدك ياأبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعته الأنصار ". فإذا تمت البيعة وجب الوفاء بها، ولهذا قال " خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإما بايعناهم على مالا نرضى، وإما نخالفهم فيكون فساد " وجاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر" (2) 2) وقال أيضا: " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ". (3)   (1) المسند ج6 رواية رقم 4380، وانظر كذلك ج7 رواية رقم 4832، ج8 الروايتين 5677، 6121، ج13 الروايتين 7304، 7547. (2) في فتح البارى بعد الحديث عن الرواية السابقة قال ابن حجر: قد صحح ابن حبان وغيره من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن علياً بايع أبا بكر في أول الأمر. وأما ما وقع في مسلم عن الزهرى أن رجلاً قال له: لم يبايع على أبا بكر حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها قال: لا ولا أحد من بنى هاشم. فقد ضعفه البيهقي بأن الزهرى لم يسنده، وأن الرواية الموصولة عن أبى سعيد أصح. وجمع غيره بأنه بايعه بيعة ثانية مؤكدة للأولى لإزالة ما كان وقع بسبب الميراث. وحينئذ يحمل قول الزهرى لم يبايعه على في تلك الأيام على إرادة الملازمة له والحضور عنده، وما أشبه ذلك، فإن في انقطاع مثله عن مثله يوهم من لا يعرف باطن الأمر أنه بسبب عدم الرضا بخلافته، فأطلق من أطلق ذلك، وبسبب ذلك أظهر على المبايعة التي بعد موت فاطمة لإزالة هذه الشبهة. (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 رابعا: ما دام الواجب الوفاء بالبيعة فلا بيعة إلا بمشورة المسلمين " فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا " والشورى مبدأ معروف في الإسلام فمن المقطوع به أن الحكم في الإسلام ينبنى على مبدأين أساسيين هما العدالة والشورى، قال تعالى: - " وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ " (1) . وقال جل شأنه: -" وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ " (2) " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ"َ (3) خامساً: -أن البيعة تمت لأبى بكر بهذه السرعة، بغير تدبير سابق وإنما كانت فلتة نظراً لمكانته. " ليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر " ( ...... " كان والله أن أقوم فتضرب عنقى - لا يقربنى ذلك من إثم - أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ". بعد هذه الملاحظات نقول: إنه في ضوء ما سبق وغيره اشترط ... الجمهور للخلافة الراشدة، خلافة النبوة، أن تكون لقرشى عادل عن طريق البيعة والشورى، على خلاف في بعض الأمور مثل تحديد من تنعقد بهم البيعة (4) . ورأي الأنصار في أحقيتهم للخلافة انتهى بالبيعة، ولم يطل على التاريخ من جديد، ولكن أولئك القرشيين الذي امتنعوا عن البيعة أول الأمر، ثم ما لبثوا أن بايعوا كان لهم شأن آخر في تاريخ الأمة الإسلامية. والمشهور أن هؤلاء لم يبايعوا لأنهم يرون أن الإمامة ليست في قريش بصفة عامة، وإنما هي في أهل   (1) سورة النساء - الآية 58. (2) سورة الشورى: الآية 38. (3) آل عمران - الآية 159. (4) انظر تاريخ المذاهب الإسلامية 1/93: 109، والفرق بين الفرق ص 210 -212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 بيت النبوة وللإمام على بصفة خاصة. وهؤلاء قلة يذكر لنا التاريخ منهم بعض الصحابة من غير بنى هاشم كالمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسى، وأبى ذر الغفارى رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولكنهم جميعاً لم يتعرضوا للخليفة بتكفير أو تجريح. وعرض أبوسفيان البيعة على الإمام على ولكنه أبى لقوة دينه وفرط ذكائه. ***** رابعاً: على وبيعة من سبقه إذا كان المشهور يدل غالباً على واقع الأمر. فإن من الأمور ما يشتهر مخالفاً للحقيقة. فمما اشتهر أن الإمام علياً لم يبايع لأنه كان يرى أحقيته بالإمامة من غيره. ولكن الثابت من أقواله يدل على أنه كان يرى ألا يقضى مثل هذا الأمر دون أن يكون له فيه رأي، مع اعترافه بأفضلية الصديق، وعدم إنكار ... أحقيته لإمامة المسلمين: روى البخاري أن الإمام علياً عندما أراد مبايعة ... الصديق رضي الله عنهما أرسل إليه فجاءه، فتشهد على فقال: " إنّا قد ... عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصيباً، حتى فاضت عينا أبى بكر. فلما تكلم أبو بكر قال: والذى نفسى بيده لقرابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إلى أن أصل من قرابتى، وأما الذي شجر بينى وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنعه فيها إلا صنعته. فقال على لأبى بكر: موعدك العشية للبيعة. فلما صلى أبو بكر ... الظهر رقى على المنبر فتشهد، وذكر شأن على وتخلفه عن البيعة، وعذره بالذى اعتذر إليه، ثم استغفر وتشهد على فعظم حق أبى بكر، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبى بكر ولا إنكارا للذى فضله الله به، ولكنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً، فاستبد علينا، فوجدنا في أنفسنا، فسر بذلك المسلمون ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وقالوا: أصبت. وكان المسلمون إلى على قريباً حين راجع الأمر بالمعروف ... " (كتاب المغازي باب غزوة خيبر) . وروى مسلم أكثر من رواية تفيد ... ما سبق، وفى إحدى رواياته " ثم قام على فعظم من حق ... أبى بكر، وذكر فضيلته وسابقته، ثم مضى إلى أبى بكر فبايعه، فأقبل الناس إلى على فقالوا: أصبت وأحسنت " (كتاب الجهاد - باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا نورث ماتركنا فهو صداقة) . واستبد بالأمر: إذا انفرد به غير مشارك له فيه، وقول الإمام: ولكنك استبددت علينا بالأمر: أي لم تشاورنا في أمر الخلافة. ومن المشهور كذلك أن الإمام علياً لم يبايع إلا بعد وفاة السيدة فاطمة ... رضي الله عنهما، ولكن يوجد ما يدل على أنه لم يتآخر هذه الفترة. وقبل انتهاء فترة الخلافة الأولى القصيرة - التي بارك الله تعالى فيها أيما بركة - كان الصديق قد استقر رأيه على استخلاف عمر بعد تعرفه على آراء كثير من الصحابة الكرام. على أن بعض هؤلاء قد تخوف من خلافة الفاروق لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 اشتهر به من الشدة، وقالوا لأبى بكر: قد وليت علينا فظاً غليظاً، ... فقال: لو سألنى ربى يوم القيامة لقلت: وليت عليهم خيرهم (1) . وعندما أخذ رأي المسلمين في البيعة لمن ذكر في كتاب الخليفة الأول قالوا: نسمع ونطيع، غير أن على بن أبى طالب انفرد بقوله: " لا نرضى إلا أن يكون عمر " (2) . ولم يتأخر أحد عن بيعة عمر بن الخطاب إلا سعد بن عبادة. ومرت الخلافة العمرية الراشدة، وانتهى الأمر إلى الستة (3) ليختاروا واحدا منهم، ثم انحصرت الخلافة في ثلاثة، فاثنين هما عثمان بن عفان وعلى بن أبى طالب، ثم كانت البيعة الجماعية لذى النورين، فلماذا انتهت إليه؟ روى البخاري بسنده عن المسور بن مخرمة " أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا، قال لهم عبد الرحمن: لست بالذى أنافسكم على هذا الأمر، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن، فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم، فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالى، حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان قال المسور: طرقنى عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت، فقال: أراك نائماً،   (1) انظر الملل والنحل 1/25، وجاء في كتاب الاستخلاف " إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل فذلك علمى به ورأيى فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت. ولكل امرئ ما اكتسب. وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون " (الكامل للمبرد 1/8) . (2) عبقرية الصديق ص 164. (3) الستة هم: على وعثمان والزبير وطلحة وسعد بن أبى وقاص وعبد الرحمن بن عوف. قال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم. فقال الزبير: قد جعلت أمرى إلى على. فقال طلحة: قد جعلت أمرى إلى عثمان. وقال سعد: قد جعلت أمرى إلى عبد الرحمن بن عوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم، انطلق فادع الزبير وسعداً، فدعوتهما له فشاورهما، ثم دعانى فقال: ادع لي علياً فدعوته، فناجاه حتى ابهار الليل، ثم قام على من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من على شيئاً، ثم ... قال: ادع لي عثمان فدعوته، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح. فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن، ثم قال: أما بعد يا على إنى قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً، فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن، وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون (1) . وكانت السنوات الأولى في عهد عثمان خيراً وبركة‍، ثم بدأت الفتنة التي أدت إلى مقتله. وقد بذل الإمام على كل ما استطاع في سبيل إخمادها ولكن هيهات! وفى هذه الفترة بدأت الأنظار تتعلق بعلى، وتذكر ما له من فضل ومكانة. إذا ما انتقل الخليفة الشهيد إلى حيث بشره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تجمع المسلمون حول أبى الحسن علهم يجدون على يديه مخرجاً. وتمت البيعة ولكن لم تنته الفتنة، بل زاد أوراها، وسالت دماء طاهرة على أرض الإسلام بسيوف المسلمين! وعلى قتله عثمان الوزر   (1) البخاري - كتاب الأحكام - باب كيف يبايع الإمام الناس، وراجع فتح الباري - كتاب المناقب - باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الأكبر لكل ما نتج عن هذه الفتنة، ولكن " وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً" ‍‍ (1) . وكان من نتيجة حادثة " التحكيم " الشهيرة أن انسل جماعة من أتباع الإمام وخرجوا على المتحاربين معاً، على ومعاوية! وهؤلاء هم الذين سموا " الخوارج " أما الذين ظلوا مع الإمام فهم الذين أطلق عليهم لقب " الشيعة ". (2) }   (1) سورة الأنفال: الآية رقم 25. (2) الشيعة معناها الأتباع والأنصار والفرقة، ولكن غلب هذا الاسم على كل من يتولى علياً وأهل بيته حتى صار اسماً لهم خاصاً، وجمعه أشياع وشيع. (انظر مادة شيع في القاموس المحيط) . وقد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم بمعناه في عدد من آياته كقوله تعالى: - {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (القصص آية "15") . وقوله عز وجل في سورة الأنعام (الآية 159) : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} . وقيل: إن ظهور هذا اللقب كان عام سبع وثلاثين من الهجرة، وقيل بل بعد أن قبض معاوية على زمام السلطة (انظر مختصر التحفة ص 5 وروح الإسلام ص 313) . وقال الدكتور طه حسين: الشيء الذي ليس فيه شك فيما أعتقد هو أن الشيعة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة عند الفقهاء والمتكلمين ومؤرخى الفرق لم توجد في حياة على وإنما وجدت بعد موته بزمن غير طويل. وإنما كان معنى كلمة الشيعة أيام على هو نفس معناها اللغوى القديم الذي جاء في القرآن (على وبنوه ص 173) . وتحدث بعد ذلك (ص 187 - 189) عن عودة الحسن من الكوفة إلى المدينة بعد الصلح مع معاوية، وعن مجىء وفد من أشراف الكوفة ومعاتبتهم له، وطلبهم إليه أن يعيد الحرب، وموقفه منهم. وقال الدكتور طه حسين بعد ذلك: "وأعتقد أن اليوم الذي لقى الحسن فيه هؤلاء الوفد من أهل الكوفه، فسمع منهم ما سمع وقال لهم ما قال ورسم لهم خطتهم، هو اليوم الذي أنشئ فيه الحزب السياسى المنظم لشيعة على وبنيه، نظم الحزب في* *المدينة في ذلك المجلس وأصبح الحسن له رئيساً، وعاد أشراف أهل الكوفة إلى من وراءهم ينبئونهم بالنظام الجديد والخطة المرسومة " (ص 189-190) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 خامساً: الخوارج ورأيهم في الإمامة الخوارج لا يزال لهم بقية إلى يومنا هذا (1) وقد انقسموا فرقاً على مر التاريخ " ويجمع الخوارج على اختلاف مذاهبها: إكفار على، وعثمان وأصحاب الجمل، والحكمين، ومن رضى بالتحكيم وصوب الحكمين أو أحدهما، ووجوب الخروج على السلطان الجائر " (2) . وللخوارج رأي خاص في الإمامة: فالإمام لا يكون إلا باختيار حر من المسلمين، وإذا اختير فليس يصح أن يتنازل أو يحكم. ويظل رئيساً للمسلمين ما دام قائماً بالعدل مجتنباً للجور، ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه، ولكن إذا غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله. ولا يشترطون القرشية كما اشترط الجمهور، فللأمة أن تختار من تشاء ولو كان عبداً حبشياً. كما أن فرقة منهم وهى "النجدات" أجمعت على أنه لا حاجة بالناس إلى إمام وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام يحملهم عليه فأقاموه جاز، فإقامة الإمام في نظرهم ليست   (1) هذه البقية من الإباضية، وهم أكثر الخوارج اعتدالا وأقربهم إلى الجماعة الإسلامية تفكيراً، فهم أبعدهم عن الشطط والغلو ولذلك بقوا، ولهم فقه جيد، وفيهم علماء ممتازون، ويقيم طوائف منهم في بعض واحات الصحراء الغربية، وبعض آخر في بلاد الزنجبار. ويقولون عن مخالفيهم إنهم كفار نعمة لا كفار في الاعتقاد، وذلك لأنهم لم يكفروا بالله تعالى، ولكنهم قصروا في جنب الله عز وجل (انظر ص 91من الجزء الأول من تاريخ المذاهب الإسلامية) كما يقيم طوائف منهم في عمان والجزائر وتونس. (2) الفرق بين الفرق ص 45، واقرأه إلى ص 67 للتعرف على الخوارج وآرائهم، وراجع كذلك: الملل والنحل 1/114 -138 والخطط المقريزية ج4 ص 178-180وفجر الإسلام 1/314، 325، وتاريخ المذاهب الإسلامية 1/96 -92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 واجبة بإيجاب الشرع بل جائزة، وإذا وجبت فإنما تجب بحكم المصلحة والحاجة. وفرقة أخرى منهم وهى " الشبيبية " أتباع شبيب بن يزيد الشيبانى - " أجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم. وخرجت على مخالفيهم، وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب إلى أن قتلت " (1) سادساً: الإمامة عند الزيدية الشيعة على اختلاف فرقهم يرون وجوب إمام، ولكن رأيهم في الإمامة يخالف ما ذهب إليه جمهور المسلمين. وأقربهم إلى الجمهور فرقة الزيدية، أتباع زيد بن على بن الحسين بن علىبن أبى طالب رضي الله عنهم. فبعد استشهاد الإمام الحسين ذهبت فرقة من الشيعة إلى أن الإمامة لا تكون إلا في أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها، ويستوى في هذا أولاد الحسن وأولاد الحسين، ورأوا أن كل فاطمى عالم شجاع سخى خرج بالإمامة فهو إمام واجب الطاعة، وجوزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال، فلما خرج زيد بن على في عهد هشام بن عبد الملك بايعه هؤلاء. وكان من مذهب الإمام زيد جواز إمامة المفضول مع قيام الأفضل، فقال: " كان على بن أبى طالب رضي الله عنه أفضل الصحابة، إلا أن الخلافة فوضت إلى أبى بكر لمصلحة رأوها، وقاعدة دينية راعوها، من تسكين نائرة الفتنة، وتطييب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريباً، وسيف أمير المؤمنين على عن دماء المشركين من قريش وغيرهم لم يجف بعد. والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كل   (1) الفرق بين الفرق ص 65: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الميل، ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد، فكانت المصلحة أن يكون القائم بهذا الشأن من عرفوه باللين والتؤدة والتقدم بالسن، والسبق في الإسلام، والقرب من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .... وكذلك يجوز أن يكون المفضول إماماً والأفضل قائم فيرجع إليه في الأحكام، ويحكم بحكمه في القضايا " (1) ولما سمعت شيعة الكوفه هذه المقالة منه، وعرفوا أنه لا يتبرأ من ... الشيخين، وإنما قال: " إنى لا أقول فيهما إلا خيراً، وما سمعت أبى يقول فيهما إلا خيراً، وإنما خرجت على بنى أمية الذين قاتلوا جدى الحسين " عندما سمعوا ذلك فارقوه، ورفضوا مقالته حتى قال لهم: رفضتمونى، ومن يومئذ سموا رافضه (2) . وفرق الزيدية منهم من يتفق مع ما ذهب إليه الإمام زيد ومنهم من خالفه، فالجارودية زعموا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على الإمام على بالوصف دون التسمية، وهو الإمام بعده، والناس قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف، ولم يطلبوا الموصوف، وإنما نصبوا أبا بكر باختيارهم فكفروا بذلك (3) . ولكن باقي فرق الزيدية ذهبوا إلى أن الإمامة شورى فيما بين الخلق، وأنها تصح في المفضول مع وجود الأفضل، وأثبتوا إمامة الشيخين أبى بكر وعمر حقاً باختيار الأمة حقاً اجتهادياً، واختلفوا في عثمان فمنهم من طعن، ومنهم من توقف (4) .   (1) الملل والنحل 1/155. (2) الفرق بين الفرق ص 25، وانظر الملل والنحل 1/155. (3) انظر المرجع الأول ص22، والملل والنحل 1/157 -158. (4) انظر الملل والنحل 1/159 -162، والفرق بين الفرق ص 24، وفرق الشيعة ... ص 20 -21، ص 55، والفصل في الملل والأهواء والنحل ص 92-93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 سابعاً: الإمامة عند الإسماعيلية أما الشيعة الإمامية فهم يرون أن الإمامة منصب إلهى يختار له الله بسابق علمه بعباده كما يختار النبي، ويأمر النبي بأن يدل الأمة عليه ويأمر باتباعه. ويقولون: إن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه بأن ينص على علىّ وينصبه علماً للناس من بعده، وقد بلغ الرسول الكريم ربه، فلما انتقل إلى الرفيق الأعلى لم يتبع المسلمون أمر الله تعالى ولا أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتركوا ركناً من أركان الإيمان. ويرون أن النص بعد الإمام على لابنه محمد الباقر، فابنه جعفر الصادق. وبعد القول بإمامة أبى عبد الله جعفر الصادق نرى منشأ أكبر فرقتين من فرق الشيعة هما الإسماعيلية والجعفرية الاثنا عشرية. فالإسماعيلية جعلوا الإمامة بعده لابنه إسماعيل، الابن الأكبر، وافترق هؤلاء فرقتين: فرقة منتظرة لإسماعيل بن جعفر، مع اتفاق أصحاب التواريخ على موت إسماعيل في حياة أبيه. وفرقة قالت: كان الإمام بعد جعفر سبطه محمد بن إسماعيل بن جعفر حيث إن جعفر نصب ابنه إسماعيل للإمامة بعده، فلما مات إسماعيل في حياة أبيه علمنا أنه إنما نصب ابنه إسماعيل للدلالة على إمامة ابنه محمد بن إسماعيل، وإلى هذا القول مالت الإسماعيلية الباطنة (1) .   (1) الفرق بين الفرق ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 والإسماعيلية جعلوا الإمامة بعد إسماعيل لابنه محمد المكتوم، ومنهم من وقف عليه وقال برجعته بعد غيبته، ومنهم من ساق الإمامة في أئمة " مستورين" منهم، ثم في (ظاهرين قائمين) من بعدهم. وقالوا: لم تخل الأرض قط من إمام حى قائم. إما ظاهر مكشوف، وإما باطن مستور. فإذا كان الإمام ظاهراً جاز أن يكون حجته مستوراً، وإذا كان الإمام مستوراً فلابد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين. ومن مذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية (1) . ثامناً: عقيدة الإمامة عند الجعفرية الجعفرية الاثنا عشرية ـ وهم أكبر الفرق الإسلامية المعاصرة ـ لهم عقيدة خاصة في الإمامة أحب بيانها بشئ من التفصيل، فأقول: يعتقد الجعفرية أن الإمامة كالنبوة في كل شئ باستثناء الوحي، فالقول فيه مخلتف، ولذلك قالوا (2) .   (1) انظر الملل والنحل 1/191-192. (2) انظر أقوالهم في المراجع الآتية: عقائد الأمامية ص 80:65 - أصل الشيعة وأصولها ص 41:33 - كشف المراد شرح تجريد الاعتقاد: المقصد الخامس: الإمامة ص284 وما بعدها - بحار الأنوار: باب جامع في صفات الإمام وشرائط الإمامة 25/115: 175 وباب أنه جرى لهم (أي للأئمة) من الفضل والطاعة مثل ما جرى للرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنهم في الفضل سواء. انظر نفس الجزء من ص 352 إلى363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 إن الإمامة أصل من أصول الدين: - لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، فمن لم يذهب مذهبهم في الإمامة فهم يجمعون على أنه غير مؤمن، وإن اختلفوا في تفسير غير المؤمن هذا: فمن قائل بكفره، إلى قائل بالفسق، وأكثرهم اعتدالا أو أقلهم غلواً يذهب إلى أنه ليس مؤمناً بالمعنى الخاص وإنما هو مسلم بالمعنى العام، ما لم يكن مبغضاً للأئمة وشيعتهم فضلاً عن حربهم فهو يعد كافراً عند جميع الجعفرية. ذكر الحلى ـ الملقب عند الجعفرية بالعلامة ـ بأن إنكار الإمامة شر من إنكار النبوة! حيث قال: " الإمامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من نبي حى بخلاف الإمام .... وإنكار اللطف العام شر من إنكار اللطف الخاص " (الألفين 1/3) . وعقب أحد علمائهم على هذا بأنه " نعم ما قال " وأضاف: وإلى هذا أشار الصادق بقوله عن منكر الإمامة هو شر الثلاثة، فعنه أنه قال: الناصبى شر من اليهودى. قيل: وكيف ذلك يا بن رسول الله؟ فقال: إن اليهودى منع لطف النبوة وهو لطف خاص، والناصبى منع لطف الإمامة وهو عام ... (انظر حاشية ص43 النافع يوم الحشر) . وفى مصباح الهداية (ص 61-62) ذكر المؤلف أن الإمامة مرتبة فوق النبوة! وقال ابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق: " اعتقادنا فيمن جحد إمامة أمير المؤمنين على بن أبى طالب والأئمة من بعده أنه كمن جحد نبوة جميع الأنبياء. واعتقادنا فيمن أقر بأمير المؤمنين وأنكر واحداً من بعده من الأئمة أنه بمنزلة من أقر بجميع الأنبياء وأنكر نبوة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رسالته في الاعتقادات ص 103) . وقال المفيد: " اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة، فهو كافر ضال مستحق للخلود في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 النار" (بحار الأنوار للمجلسى 23/390، والمجلسى ذكر قول المفيد لتأييد رأيه) . والمفيد كان رأس الإمامية، وشيخاً لشيخ طائفتهم أبى جعفر الطوسي. وإلى جانب ضلال هؤلاء القوم وغلوهم نجد غلوهم في جانب آخر، فهم يرون أن الفاسق منهم يدخل الجنة وإن مات بلا توبة! (انظر أجوبة المسائل الدينية - العدد الثامن-المجلد التاسع ص 226وراجع كتابى: فقه الشيعة الإمامية 1/15) . الإمام كالنبي في عصمته وصفاته وعلمه: - فالإمام يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن، من سن الطفولة إلى الموت، عمداً وسهواً، كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان! ويجب أن يكون أفضل الناس في صفات الكمال من شجاعة وكرم وعفة وصدق وعدل ومن تدبير وعقل وحكمة وخلق. أما علمه فهو يتلقى المعارف والأحكام الإلهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الإمام من قبله. وإذا استجد شئ فلابد أن يعلمه من طريق الإلهام بالقوة القدسية التي أودعها الله تعالى فيه، فإن توجه إلى شئ وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقى، لا يخطئ فيه ولايشتبه عليه، ولا يحتاج في كل ذلك إلى البراهين العقلية، ولا إلي تلقينات المعلمين، وإن كان علمه قابلاً للزيادة والاشتداد. وذهب بعضهم إلى أن أحد الملائكة كان يلازم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليسدده ويرشده ويعلمه، فلما انتقل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الرفيق الأعلى ظل الملك بعده. ولم يصعد ليؤدى نفس وظيفته مع الأئمة بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .   (1)) انظر أصول الكافى: باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة (1/271-272) وباب الروح التي يسدد الله بها الأئمة (1/273-274) وهذا الباب فيه ستة أخبار منها عن أبى * *عبد الله {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} قال: خلق من خلق الله عز وجل أعظم من جبرائيل وميكائيل، كان مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده. وفى الباب الأسبق ذكر أن روح القدس خاصة بالأنبياء، فإذا قبض النبي انتقل روح القدس فصار إلى الإمام. وروح القدس لاينام ولا يغفل ولايلهو ولا يزهو والإمام يرى به، وفيه الحاشية فسر الرؤية بقوله: يعنى ماغاب عنه في أقطار الأرض وما في عنان السماء! وبالجملة ما دون العرش إلى ما تحت الثرى! وانظر بحار الأنوار (47/25-99) باب الأرواح التي فيهم (أي في الأئمة) وأنهم مؤيدون بروح القدس..وقال ابن بابويه القمي في رسالته (ص 108-109) : " اعتقادنا في الأخبار الصحيحة عن الأئمة أنها موافقة لكتاب الله، متفقة المعانى، غير مختلفة، لأنها مأخوذة من طريق الوحي عن الله سبحانه وتعالى " وهذا القمي صاحب كتاب " فقيه من لايحضره الفقيه ": أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الجعفرية. وقال المجلسى: أصحابنا أجمعوا على عصمة الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم من الذنوب الصغيرة والكبيرة. عمداً وخطأ ونسيانّا قبل النبوة والإمامة وبعهدهما، بل من وقت ولادتهما إلى أن يلقوا الله تعالى. ولم يخالف في ذلك إلا الصدوق محمد بن بابويه وشيخة ابن الوليد، فإنهما جوزا الإسهاء من الله تعالى لا السهو الذي يكون من الشيطان في غير ما يتعلق بالتبليغ وبيان الأحكام " (بحار الأنوار: 25/350-351) . وقال الطوسي: " لا يجوز عليهم- أي على الأئمة - السهو والنسيان فيما يؤدونه عن الله. فأما غير ذلك فإنه يجوز أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤد ذلك إلى الإخلال بكمال العقل. وكيف لا يجوز عليهم ذلك وهم ينامون ويمرضون ويغشى عليهم. والنوم سهو، وينسون كثيراً من تصرفاتهم أيضاً، وما جرى لهم فيما مضى من الزمن " (التبيان 4/165-116) . والطوسى يلقبونه بشيخ الطائفة، وهو صاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 لابد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين، وله ما للنبي من الولاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 العامة على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم وإقامة العدل بينهم، ورفع الظلم والعدوان من بينهم، وعلى هذا فإن الإمامة استمرار للنبوة. الأئمة هم أولو الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم، وهم الشهداء على الناس، وأبواب الله والسبل إليه والأدلاء عليه. فأمرهم أمر الله تعالى ونهيهم نهيه، وطاعتهم طاعته، ومعصيتهم معصيته، ووليهم وليه وعدوهم عدوه. ولا يجوز الرد عليهم، والراد عليهم كالراد على الرسول، والراد على الرسول كالراد على الله تعالى، فيجب التسليم لهم، والانقياد لأمرهم، والأخذ بقولهم. ولذا فالجعفرية يعتقدون أن الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلا من نمير ماء أئمتهم، ولا يصح أخذها إلا منهم، ولا تفرغ ذمة المكلف بالرجوع إلى، غيرهم، ولايطمئن بينه وبين الله تعالى إلى أنه قد أدى ما عليه من التكاليف المفروضة إلا من طريقهم. مادامت الإمامة كالنبوة فهى لا تكون إلا بنص من الله تعالى على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو على لسان الإمام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الإمام من بعده، وحكمها في ذلك حكم النبوة بلا فرق، فليس للناس أن يتحكموا فيمن يعينه هادياً ومرشداً لعامة البشر، كما ليس لهم حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه، لأن الشخص الذي له من نفسه القدسية استعداد لتحمل أعباء الإمامة العامة وهداية البشر قاطبة يجب ألا يعرف إلا بتعريف الله تعالى، ولا يعين إلا بتعيينه. ويعتقدون كذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على خليفته والإمام في البرية من بعده، فعين ابن عمه على بن أبى طالب أميراً للمؤمنين وأميناً للوحى، وإماماً للخلق في عدة مواطن، ونصبه وأخذ البيعة له بإمرة المؤمنين يوم غدير خم. كما أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن الأئمة من بعده اثنا عشر، نص عليهم جميعاً بأسمائهم، ثم نص المتقدم منهم على من بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 6- الأئمة الاثنا عشرية الذين نص عليهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَهم: - 1- ابو الحسن على بن أبى طالب (المرتضى) الذي ولد قبل البعثة بعشر سنوات، واستشهد سنة أربعين من الهجرة. 2- أبو محمد الحسن بن على " الزكى " ... (3-50) 3- أبو عبد الله الحسين بن على "سيد الشهداء " ... (4-61) 4- أبو محمد على بن الحسين " زين العابدين " ... (38-95) 5- أبو جعفر محمد بن على " الباقر" ... (57-114) 6- أبو عبد الله جعفر بن محمد " الصادق " ... (83-148) 7- أبو إبراهيم موسى بن جعفر " الكاظم " ... (128-183) 8- أبو الحسن على بن موسى " الرضا " ... (148-202 أو 203) 9- ابو جعفر محمد بن على " الجواد " ... (195-220) 10- أبو الحسن على بن محمد " الهادى " ... (212أو 214-250) 11- أبو محمد الحسن بن على " العسكري" ... (232-260) 12- أبو القاسم محمد بن الحسن "المهدى " وهو الحجة في هذا العصر الغائب ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً. قيل ولد سنة 256 هـ، وغاب غيبة صغرى سنة 260 هـ، وغيبة كبرى سنة 329 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 تعقيب بعد بيان عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية كما جاءت في كتبهم هم أنفسهم أذكر بما يأتي: - جعلهم الإمامة أصلا من أصول الدين فيه طعن في الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فما منهم من أحد يقول بالإمامة التي تقصدها هذه الفرقة، حتى أن الإمام علياً رضى عنه هو نفسه لم يقل بهذا كما بينت وأثبت فيما جاء تحت عنوان " رابعاً: على وبيعة من سبقه "، وأول من قال بالوصى بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو عبد الله بن سبأ كما نقلت من المراجع الشيعية نفسها في التمهيد. إجماعهم على تكفير من حارب أمير المؤمنين على بن طالب رضي الله عنه يعنى تكفير آلاف الصحابة الكرام البررة، وتكذيب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي شهد لهم بالخيرية، وبشر بعضهم بالجنة، بل يصطدم مع كتاب ربنا عز وجل، فمنهم من شهد الله سبحانه وتعالى بأنه رضى عنهم، ولم يثبت أنه عاد فسخط عليهم فمن أين إذن جاءوا بهذه الفرية الكبرى؟! ما سبق من قول المفيد ـ شيخ طائفتهم الطوسي، وابن بابويه القمي الملقب عندهم بالصدوق، وصاحب أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم، وابن المطهر الحلى الملقب عندهم بالعلامة، وغيرهم يدل على أنهم يرون تكفير الأمة كلها ما عدا الرافضة وأتباع عبد الله بن سبأ، وعلى الأخص خير أمة أخرجت للناس وهم الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه. وهذا ما سنراه عند تناولنا لكتاب الكافى للكلينى، وهو أول وأعلى كتب الحديث المعتمدة عندهم، وكتاب شيخه على بن إبراهيم القمي في التفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وفى كتابى " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " أثبت أن عبد الله الحسين شرف الدين يرى هذا الرأي الفاجر الكافر الضال، وهذا يقطع بأن مسألة تكفير الأمة والصحابة الكرام ليس مسألة تاريخية جاءت في كتب التراث عندهم كما يحلو لدعاة التقريب عن جهل أو تضليل أن يبرروا هذا الضلال. بل إن عبد الحسين الذي يرى هذا الرأي ذكر أنه من دعاة التقريب!! وقد جاء هذا في أحد مؤتمرات التقريب في طهران، وعبد الحسين في كتابيه المراجعات والفصول المهمة في تأليف الأمة يعتبر فعلاً من دعاة التقريب ولكن بمفهوم خاص!! فهو يدعو إلى تأليف الأمة كلها وجمعها تحت راية عبد الله بن سبأ، وجعلها جميعها من الرافضة التي رفضت تبرئة الشيخيين خير البشر بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجتمعت على تكفيرهما وتكفير من بايعهما!! ويحضرنى هنا ما اشتهر عن أبى زرعة الرازى أنه قال: " إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاعلم أنه زنديق: وذلك أن القرآن حق، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، وما جاء به حق، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة. فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة، فيكون الجرح به أليق، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق ". قولهم بوجوب استمرار الإمامة أبداً دون انقطاع أو توقف إلى يوم القيامة بعد الإمام الحسين ـ رضي الله عنه ـ في أحد من نسله، بحيث يكون الابن خلفا للأب، هذا القول جعلهم يضطرون إلى تنصيب طفل صغير في السابعة من عمره، وهو إمامهم محمد الجواد الإمام التاسع، ولذلك وجدنا فرقتين من شيعة أبيه على الرضا لم يعترفوا بإمامته لأنهم استصبوه واستصغروه. وفى كتاب فرق الشيعة (ص 92) للنوبختى والقمى الشيعيين جاء بيان هذا حيث قالا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 " إن أبا الحسن الرضا عليه السلام توفى وابنه محمد ابن سبع سنين، فاستصبوه واستصغروه، وقالوا: لا يجوز أن يكون الإمام إلا بالغا، ولو جاز أن يأمر الله ـ عز وجل ـ بطاعة غير بالغ لجاز أن يكلف الله غير بالغ، فإنه كما لا يعقل أن يحتمل التكليف غير بالغ، فكذلك لا يفهم القضاء بين الناس، دقيقه وجليله، وغامض الأحكام وشرائع الدين، وجميع ما أتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة من أمر دينها ودنياها، طفل غير بالغ، ولو جاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجة، لجاز أن يفهم ذلك من قد نزل عن حد البلوغ درجتين وثلاثا وأربعا راجعا إلى الطفولة، حتى يجوز أن يفهم ذلك طفل في المهد والخرق، وذلك غير معقول ولا مفهوم ولا متعارف " ا. هـ وكذلك اعتبروا ابنه عليا الهادى إماما وهو في السادسة من عمره، وعلى قول آخر في الثامنة، أي أنه كسابقه في سن الطفولة! وأعجب من هذا كله قولهم بعد إمامهم الحادي عشر الحسن العسكري: فقد توفى ولم ير له خلف، ولم يعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه، فافترق أصحابه من بعده أكثر من عشر فرق، فاخترع الاثنا عشرية له ابنا طفلا إماما حيا لا يموت إلى يوم القيامة!! وهو غائب يحج كل عام يرانا ولانراه!! والإمامية الذين ساروا مع ضلال الاثنى عشرية في أحد عشر إماما، جميعهم ـ ما عدا فرقة واحدة ـ قالوا وأكدوا أن الحسن العسكري ليس له ولد. من يراجع كتب الفرق يجد ظاهرة عامة وهى افتراق الشيعة إلى فرق مختلفة عند موت كل إمام، وكل فرقة من هذه الفرق يمكن أن تفترق هي الأخرى إلى عدة فرق. وسيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ بيان لشىء من هذا في موضوع تدوين السنة عند الشيعة في الجزء الثالث، ونجد من هذه الفرق من بلغت درجة تأليه بعض البشر، والشرك بالله عز وجل، ومن ادعت نبوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فرد من أفرادها، ومن استباحت اللواط ونكاح المحارم، وقالت: من عرف الإمام فليصنع ما شاء فلا إثم عليه! والمهم أن كل فرقة من هذه الفرق الضالة تزعم أنها هي الفرقة الناجية، وأنها تمثل مذهب أهل البيت! وأهل البيت الأطهار الأبرار برءاء منهم جميعاً. وإن تعجب فعجب قول كل فرقة أنها مؤيدة بالكتاب العزيز، والسنة ... المطهرة!! ويأتى لهذا مزيد بيان في الفصل التالي، وفى التدوين وكتب الحديث عند الاثنى عشرية في الجزء الثالث من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الفصل الثاني أدلة الإمامة من القرآن العظيم " بين يدى الفصل " من المعلوم أن القرآن الكريم ليس فيه نص ظاهر يؤيد المذهب الجعفرى، فلجأ معتنقوه إلى التأويل، والاستدلال بروايات ذكرت في أسباب النزول لآيات كريمة. وأهم ما استدل به الجعفرية هو: قال تعالى: " إِنمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ " (1) هذه الآية الكريمة يسمونها آية الولاية، ويقولون: إنها تدل على أن إمام المسلمين بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا فصل هو على بن أبى طالب، لأن لفظة " إنما " تفيد الحصر و" وليكم " تفيد من هو أولى بتدبير الأمور ووجوب طاعته، والآية الكريمة نزلت في على بلا خلاف - كما يقولون - عندما تصدق بخاتمه وهو راكع. في آية المباهلة " فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ " (2)   (1) سورة المائدة - الآية 55. (2) سورة آل عمران - الآية 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 3 - قال تعالي: " وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" (1) قالوا: إن المراد بأهل البيت هنا على وفاطمة والحسن والحسين، وهذه الآية الكريمة تدل على عصمتهم، والإمامة تدور مع العصمة. 4- قال سبحانه وتعالى: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" (2) قالوا: إن هذه الآية الكريمة قد أبطلت إمامة كل ظالم، فصارت في الصفوة من ذرية إبراهيم الخليل. ومن عبد غير الله ولو لحظة فهو ظالم، وعلى هو الذي لم يعبد صنماً قط. أما غيره من الخلفاء فهم ظالمون لا يستحقون هذه الخلافة. ومعنى هذا أن القرآن الكريم - على قولهم - قد أشار في أكثر من موضع أن عليا هو المستحق للإمامة دون غيره، ولذلك فهم يعتقدون أن الله سبحانه أمر نبيه بأن ينص على علىِّ وينصبه علماً للناس من بعده، وكان النبي يعلم أن ذلك سوف يثقل على الناس، وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره، ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم، وإلى اليوم ليسوا في مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والغرض، ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك، فأوحى إليه: "   (1) سورة الأحزاب - الآية 33. (2) سورة البقرة - الآية 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (1) فلم يجد بداً من الامتثال بعد هذا الإنذار الشديد، فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غدير خم، فنادى وجلهم يسمعون: " ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: اللهم بلى. فقال: من كنت مولاه فهذا على مولاه، إلى آخر ما قال، ثم أكد ذلك في مواطن آخرى تلويحاً وتصريحاً، وإشارة ونصاً حتى أدى الوظيفة (2) . وقبل أن ينصرف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غدير خم وقبل أن يتفرق الجمع نزل قوله تعالى: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا " (3) فقال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الله أكبر على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتى، والولاية لعلى من بعدى، ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين وفى مقدمتهم الشيخان (4) . فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان الفهري. فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ناقة له حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته فأناخها، فقال: يا محمد، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلنا، وأمرتنا أن نصلى خمساً فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا أن نصوم   (1) سورة المائدة - الآية 67. (2) أصل الشيعة وأصولها ص 134، وفيه " يا أيها النبي " و" اللهم نعم ". (3) الآية الثالثة من سورة المائدة. (4) انظر الغدير 1/11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 شهراً فقبلنا، وأمرتنا بالحج فقبلنا، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعى ابن عمك ففضلته علينا، وقلت من كنت مولاه فعلى مولاه، فهذا شىء منك أم من الله عز وجل؟ فقال: والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله. فولى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل إليها حتى رماه الله تعالى بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله، وأنزل الله عز وجل: "سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ " (1) الآيات (2) هذه الآيات الكريمة السبعة السابقة هي أساس ما يستدلون به من القرآن الكريم، فلنعرض رأيهم، ونناقشه بالتفصيل. أولا: الولاية ننظر في الآية الكريمة الأولى، آية الولاية كما يسميها الجعفرية والتي يعتبرونها نصاً صريحاً في إمامته، فنجد أنهم يروون أنها نزلت في على بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته، فأومى بخنصره اليمنى إليه فأخذ السائل الخاتم من خنصره. وقالوا في المعنى: إن الله تعالى بين من له الولاية على الخلق، والقيام بأمورهم، وتجب طاعته عليهم فقال:   (1) أول سورة المعارج. (2) الغدير 1/240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ" أي الذي يتولى مصالحكم ويدبر أموركم هو الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " وَالَّذِينَ آمَنُواْ " ثم وصف الذين آمنوا فقال: " الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ " بشرائطها "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ" أي يعطونها في حالة الركوع. ثم قالوا: هذه الآية من أوضح الدلائل على صحة إمامة على بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا فصل، والوجه فيه أنه إذا ثبت أن لفظ وليكم تفيد من هو أولى بتدبير أموركم ويجب طاعته، وثبت أن المراد بالذين آمنوا على، ثبت النص عليه بالإمامة، ووضح. الذي يدل على الأول هو الرجوع إلى اللغة، فمن تأملها علم أن القوم نصوا على ذلك، ولا يجوز حمل لفظة الولى على الموالاة في الدين والمحبة، لأنه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون مؤمن آخر، ولفظة " إنما " تقتضى التخصيص ونفى الحكم عمن عدا المذكور. والذى يدل على أن المراد بالذين آمنوا على الروايات الكثيرة. فهو وحده الذي تصدق في حال الركوع، كما أن الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية، وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه (1) . هذا ما ذهب إليه الجعفرية، ولكن أهل التأويل - كما يقول الطبري (2) . -اختلفوا في المعنى بقوله تعالى: "   (1) راجع تأويلات الجعفرية للآية الكريمة، والروايات التي ذكروها لتأييد ما ذهبوا إليه في المراجع التالية: التبيان 3/558 - 564. ومجمع البيان 6/126 -130، والميزان 6/2 -24، وزبدة البيان ص 107 -110، وكشف المراد ص 289، ومصباح الهداية ص 179 -181، وتفسير شبر ص141 (2) انظر تفسير الطبري، تحقيق شاكر 10/424 - 425 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ"، فقال بعضهم: عنى به على بن أبى طالب، وقال بعضهم: عنى به جميع المؤمنين. وذكر الطبري الروايات التي تؤيد ما ذهب إليه القائلون بأن المعنى به جميع المؤمنين، وفى بعضها تعجب ممن سأل عن المراد بالذين آمنوا، لأنه يسأل عن شيء لا يسأل عن مثله. ثم ذكر روايتين: الأولى: عن إسماعيل بن إسرائيل قال: حدّثنا أيوب بن سويد قال، حدّثنا عتبة بن أبى حكيم في هذه الآية " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ " قال: على بن أبى طالب. الثانية: هي حدثني الحارث قال: حدثني عبد العزيز قال: حدّثنا غالب بن عبيد الله قال، سمعت مجاهداً يقول في قوله: " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ " قال: نزلت في على ابن أبى طالب، تصدق وهو راكع. والرواية الأولى في سندها أيوب بن سويد، وعتبة بن أبى الحكيم: فأما أيوب فقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما. وقال البخاري في الكبير " يتكلمون فيه " (1) وأما عتبة فقد ضعفه ابن معين، وكان أحمد يوهنه قليلاً، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات (2) . فهذه الراوية إذن ضعيفة السند. والرواية الثانية في سندها غالب بن عبيد الله وهو منكر الحديث متروك (3) فراويته لا يؤخذ بها. والحافظ ابن كثير عند تفسير الآية قال (4) : "   (1) انظر المرجع السابق ج 5 حاشية ص 224. (2) نفس المرجع ج10 حاشية ص 426. (3) الموضع السابق من المرجع ذاته. (4) انظر تفسيره 2/71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ " أي ليس اليهود بأوليائكم، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين، وقوله: "الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقامة الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام، وهى له وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين. وأما قوله "وَهمْ رَاكِعُون"َفقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال في قوله: "وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ " أي في حال ركوعهم، ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى. وحتى أن بعضهم ذكر في هذا أثراً عن على بن أبى طالب أن هذه الآية نزلت فيه، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه. وذكر ابن كثير الروايات التي تشير إلى هذا، ثم بين أنها لا يصح شئ منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها. ثم قال: وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - حيث تبرأ من حلف اليهود، ورضى بولاية الله ورسوله والمؤمنين، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: " وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ" كما قال تعالى: "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أنا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( ... أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". فكل من رضى بولاية الله ورسله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة، ومنصور في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة. " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ" وبعد هذا كله نذكر بعض الملاحظات: بدراسة روايات الطبري، ومما ذكره الحافظ ابن كثير، نجد أن رواية التصدق في حالة الركوع لا تصح سنداً، يضاف إلى هذا أن كتب السنة التي رجعت إليها لم أجد فيها ذكراً لمثل هذه الرواية (1) . الروايات مرفوضة كذلك من ناحية المتن كما أشار ابن كثير وغيره، فالفضيلة في الصلاة كونها خالية عما لا يتعلق بها من الحركات، سواء أكانت كثيرة أو قليلة، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة، ولكن تؤثر قصوراً في معنى لإقامة الصلاة ألبتة (2) . قال ثعلب: الركوع الخضوع، ركع يركع، ركعاً وركوعاً: طأطأ رأسه. وقال الراغب الأصبهانى: الركوع الانحناء، فتارة يستعمل في الهيئة المخصوصة في الصلاة كما هي وتارة في التواضع والتذلل: إما في العبادة، وإما في غيرها. وكانت العرب في الجاهلية تسمى الحنيف راكعاً إذا لم يعبد الأوثان، ويقولون: ركع إلى الله، قال الزمخشري: أي اطمأن، قال النابغة الذيبانى: سيبلغ عذراً أو نجاحاً من امرئ ... إلى ربه رب البرية راكع وتقول: ركع فلان لكذا وكذا إذا خضع له، ومنه قول الشاعر:   (1) راجع أيضا ما ذكر عن الإمام على في مفتاح كنوز السنة، فلا توجد إشارة لمثل هذه الرواية (2) انظر تفسير الآلوسى 2/331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 بيعت بكسر لئيم واستغاث بها من الهزال أبوها بعد ما ركعا يعنى بعد ما خضع من شدة الجهد والحاجة. ومنه كذلك: لا تهين الفقير علك أن ... تركع يوماً والدهر قد رفعه وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن الكريم أيضاً كما قيل في قوله سبحانه: " وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ"، إذ ليس في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان بالإجماع. وكذا في قوله تعالى " وَخَرَّ رَاكِعًا " إلى غير هذا (1) فقوله تعالى: - " وَهُمْ رَاكِعُونَ " يعنى به وهم خاضعون لربهم منقادون لأمره، متواضعون متذللون في أدائهم للصلاة وإيتائهم للزكاة، فهو بمعنى الركوع الذي هو في أصل اللغة بمعنى الخضوع. وأرى تأييد لهذا المعنى مجئ الآية الكريمة بالفعل المضارع، فهو يدل على أن الآية الكريمة لا تشير إلى حادثة حدثت وانتهت، وإنما تدل على الاستمرار والدوام، أي أن صفات المؤمنين وطبيعتهم الصلاة والزكاة وهم راكعون، ولا يستقيم المعنى - بغير تكلف - أن يكون من صفاتهم إخراج الزكاة أثناء الصلاة.   (1) انظر مادة ركع في لسان العرب، وتاج العروس، وأساس البلاغة، وانظر كذلك تفسير الطبري 1/ 574 –575، وتفسير الألوسى 2 / 330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ذكر الشيعة أن التصدق أثناء الركوع لم يقتصر على أمير المؤمنين ولكن اقتدى به باقي أئمتهم جميعاً! وهنا يرد تساؤل: إذا كان هذا العمل من الفضائل التي امتدح بها أبو الأئمة وتبعه جميعهم فكيف لم يحرص على هذه الفضيلة سيد الخلق أجمعين صلوات الله وسلامه عليه؟ وكذلك سائر الأمة؟ 5. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: " وَهُمْ رَاكِعُونَ" ما يأتي: " الواو فيه للحال: أي يعملون ذلك في حال الركوع وهو الخشوع والإخبات والتواضع لله إذ صلوا وإذا زكوا. وقيل هو حال من يؤتون الزكاة بمعنى يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة، وأنها نزلت في على كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع فطرح له خاتمه كأنه كان مرجا في خنصره فلم يتكلف لخلعه كثير عمل تفسد بمثله صلاته. فإن قلت: كيف صح أن يكون لعلى رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة؟ قلت: جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء، حتى إن لزهم أمر لا يقبل التأخير في الصلاة لم يؤخروه إلى الفرغ منه " (1) والزمخشرى هنا ذكر أولاً المعنى المفهوم من النص، ثم ما قيل في سبب النزول دون تمحيص، وقد ظهر أن سبب النزول هذا غير صحيح، فلا ضرورة للتأويل الذي ذهب إليه. ثم ما هذا الأمر الذي لا يقبل التأخير وهم في الصلاة؟ ألم يكن الأفضل أن يصلى السائل مع المصلين؟ أو أن ينتظرهم حتى تنتهى الصلاة؟ وكيف يذهب لراكع يسأله الصدقة ويشغله عن الصلاة؟ ولو وجد مثل هذا السائل فكيف نشجعه على ارتكاب خطأ جسيم كهذا؟ 6.   (1) الكشاف: 1/624، ولزهم إلى كذا: اضطرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 سبق قول الإمامة بأن الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية وإلا أدى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه، وهذا نوع من الجدل العقيم، لأن المراد ولاية بعض المؤمنين بعضاً لا أن يكون كل واحد منهم ولى نفسه. كما أن الخطاب موجه كذلك إلى أولئك الذي تبرءوا من ولاية اليهود فأولياؤهم المؤمنون، وهم أيضاً أولياء لغيرهم من المؤمنين، وفى مثل قوله تعالى: - " وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ " خطاب للمؤمنين جميعاً أفمعنى هذا أنه نهى لكل مسلم أن يلمز نفسه؟! قال الألوسى: كيف يتوهم من قولك مثلاً: أيها الناس لا تغتابوا الناس أنه نهى لكل واحد من الناس أن يغتاب نفسه؟! (1) 7. من المعلوم لدى جميع العلماء - شيعة وسنة - أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلوصح ما ذكر في سبب النزول لا نطبق على كل من يتصف بالإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في حال الركوع كما ذكروا، أو الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء كما أوله الزمخشري. 8. كلمة الولى تأتى بمعنى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها، وتأتى بمعنى الناصر والخليل، والسياق يحدد المعنى المراد، والقرآن الكريم عندما يأمر بموالاة المؤمنين، أو ينهاهم عن موالاة غير المؤمنين من الكفار وأهل الكتاب تأتى الموالاة بمعنى النصرة والمحبة كقوله تعالى: - " وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا" (2)   (1) راجع تفسيره 2/332. (2) سورة النساء – الآية 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وقوله عز وجل: " الذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ " (1) وقوله سبحانه: " وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ " (2) ولم يخرج عن هذا المعنى إلا حالات خاصة كولاية الدم وولاية السفيه. ولكن حالة من هذه الحالات لم تأت بمعنى الولاية العامة على المؤمنين (3) أفآية الولاية شذت عن هذا النسق القرأنى؟ وقبل هذه الآية الكريمة جاء قوله سبحانه: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (4) . فهذا نهى عن موالاة من تجب معاداتهم. ثم بينت الآية الكريمة - آية الولاية - من تجب موالاتهم، ثم جاء النهى مرة أخرى في قوله سبحانه وتعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (5)   (1) نفس السورة – الآية 139. (2) سورة التوبة – الآية 71. (3) راجع الآيات القرآنية التي تبين ما ذكر مستعيناً بما جاء في مادة " ولى " من المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. (4) ... سورة المائدة – الآية 51. (5) السورة السابقة – الآية 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ولا شك أن الذي جاء قبل الآية الكريمة وبعدها ينهى عن المالاة في الدين والمحبة، فإذا جاء الأمر بالموالاة بين نهيين فإنه قطعاً لا يخرج عن هذا المعنى إلا بدليل آخر. فكلمة " وليكم " ليست دليلاً على أن الإمامة العظمى لأبى الحسن - كرم الله وجهه. وإنما هي في حاجة إلى دليل يظهر أنها خرجت على الاستعمال القرآنى العام، وعلى المفهوم الخاص لتلك الأيات الكريمة المتتابعة في سورة المائدة. 9. لا خلاف في أن لفظة " إنما " تقتضى التخصيص ونفى الحكم عمن عدا المذكور، ولكن الجعفرية بنوا على هذا عدم جواز حمل لفظة الولى على الموالاة في الدين والمحبة لأنه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون مؤمن آخر. وهذا الاستدلال أيضاً لا يستقيم، فالموالاة مختصة بالمؤمنين جميعاً دون غيرهم ممن تجب معاداتهم، وليست لمؤمن دون مؤمن، بل إن هذا التخصيص يقتضى عكس ما ذهبوا إليه " لأن الحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف، بل كان في النصرة والمحبة (1) . 10. أمر الله تعالى للمؤمنين بموالاة أقوام، ونهيه إياهم عن موالاة آخرين، كل هذا صدر في حياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونفذ في حياته، فكيف يكون إمام المسلمين الأعظم علياً مع وجود الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ هذه بعض الملاحظات، وأعتقد بعد هذا أن الآية الخامسة والخمسين من سورة المائدة لا تدل بحال على أن إمام المسلمين بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجب أن يكون على بن أبى طالب. على أن هذه الآية الكريمة تعد أهم دليل قرآنى يستندون إليه. فلننظر بعد هذا في باقي الأدلة.   (1) تفسير الآلوسى 2/330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ثانياً: المباهلة في آية المباهلة قالوا: اتفق المفسرون كافة أن الأبناء إشارة إلى الحسن والحسين، والنساء إشارة إلى فاطمة، والأنفس إشارة إلى على رضي الله تعالى عنه. ولا يمكن أن يقال: إن نفسهما واحدة، فلم يبق المراد من ذلك إلا ... المساوى، ولا شك في أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الناس فمساويه كذلك أيضاً (1) . ونلاحظ هنا: لو سلمنا بكل ماسبق فإن الآية الكريمة لا تنص على إمامة أحد، لأن ولاية أمر المسلمين تحتاج إلى قدرات خاصة تتوافر في صاحبها، حتى يستطيع أن يقود الأمة بسلام، ويرعى مصالحها على الوجه الأكمل، والآية الكريمة لا تشير إلى شىء من هذا ولاتتعرض للخلافة على الإطلاق، وإنما تذكر الأبناء والنساء والأنفس في مجال التضحية لإثبات صحة الدعوى، وهؤلاء المذكورون من أقرب الناس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبهذا يتحقق للمعاندين صحة دعواه لتقديمه للمباهلة أقرب الناس إليه. وفرق شاسع بين مجال التضحية ومجال الإمامة، ففي التضحية يمكن أن يقدم النساء والصغار ولكنهم لا يقدمون للخلافة. القول بأن الإمام عليا يساوى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلو لا يقبله الإمام نفسه كرم الله وجهه، ويجب ألا يذهب إليه مسلم، مكانة الرسول المصطفى غير مكانة من اهتدى بهديه واقتبس من نوره. لو قلنا: أن الآية الكريمة تدل على أفضلية الإمام على رضي الله عنه فإن إمامة المفضول مع وجود الأفضل جائزة حتى عند بعض فرق الشيعة أنفسهم كالزيدية، وهذا لا يمنعه الشرع ولا العقل، لأن المفضول بصفة عامة قد   (1) كشف المراد ص 304، وانظر مصباح الهداية ص 99-103 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 يكون أفضل بصفة خاصة فيما يتعلق بأمور الخلافة ومصلحة المسلمين، وكان الرسول الكريم يولى الأنفع على من هو أفضل منه (1) . عقب ابن تيمية على قولهم بأن الله تعالى جعل عليا نفس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: هذا خطأ، وإنما هذا مثل قوله: "لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُموهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا " (2) وقوله تعالى: "فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ " (3) ، " وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيارِكُمْ " (4) فالمراد بالأنفس: الإخوان نسباً أو ديناً (5) .   (1) قال ابن قيم الجوزية تحت عنوان: " تولية الرسّول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأنفع على من هو أفضل منه ": وبهذا مضت سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه يولى الأنفع للمسلمين عى من هو أفضل منه، كما ولى خالد بن الوليد من حين أسلم على حروبه لنكايته في العدو، وقدمه على بعض السابقين من المهاجرين والأنصار. وكان أبو ذر من أسبق السابقين وقال له: (ياأبا ذر، إنى أراك ضعيفاً، وأحب لك ما أحبه لنفسى، لا تؤمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم) . وأمر عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل، لأنه كان يقصد أخواله بنى عذرة، فعلم أنهم يطيعونه ما لايطيعون غيره للقرابة .... إلخ - انظر أعلام الموقعين 1/114 -115. (2) سورة النور - الآية 12. (3) سورة البقرة - الآية 54. (4) نفس السورة - الآية 84. (5) المنتقى ص 17 - حاول أحد الجعفرية نقض كلام ابن تيمية فقال: " فلولا إذ سمعتموه ظن كل مؤمن بنفسه خيراً، وظنت كل مؤمنة بنفسها خيراً، لا أن كل مؤمن ظن بأخيه خيراً " (منهاج الشريعة 2/287) ويكفى هنا أن نذكر ما قاله الطوسي شيخ الطائفة في تفسيره: " هلا حين سمعتم هذا الإفك من القائلين ظن المؤمنون بالمؤمنين الذين هم كأنفسهم - خيراً، لأن المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجرى عليها من الأمور، فإذا جرى على أحدهم محنة، * *فكأنه جرى على جماعتهم وهو كقوله: " فسلموا على أنفسكم " وهو قول مجاهد ... . إلخ " ... (انظر التبيان 7/416) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 قال الزمخشري: " فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه. وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل بنفسه حتى يقتل. ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق. وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم. وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها. وفيه دليل لا شىء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام (1) . وبعد: فمهما اختلفت الأقوال فالآية الكريمة تدل على مكانة أولئك الذين قدموا للمباهلة، ولكن هذا لا صلة له بالخلافة كما بينا.   (1) تفسير الكشاف 1/434 - وقال أحد مفسري الجعفرية: " والمباهلة والملاعنة وإن كانت بحسب الظاهر كالمحاجة بين رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين رجال النصارى، لكن عممت الدعوة للأبناء والنساء ليكون أدل على اطئنان الداعى بصدق دعواه، وكونه على الحق، لما أودعه الله سبحانه في قلب الإنسان من محبتهم والشفقة عليهم، فتراه يقيهم بنفسه، ويركب الأهوال والمخاطرات دونهم، وفى سبيل حمايتهم والغيرة عليهم والذب عنهم. ولذلك بعينه قدم الأبناء على النساء لأن محبة الإنسان بالنسبة إليهم أشد وأدوم ". الميزان (3/244) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ثالثاً: التطهير قال تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًاوَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا " (1) فخير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زوجاته، فاخترن جميعاً الله ورسوله والدار الآخرة، واستحققن بعد هذا الاختيار مخاطبة الله تعالى لهن بقوله: " يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ (( .... " إلى قوله تعالى " لَطِيفًا خَبِيرًا " (2) (( (() . فهذه الآيات الخمس في نساء النبي كما يبدو، ولكن جدلاً كثيراً دار حول عجز الآية الثالثة والثلاثين " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"   (1) سورة الأحزاب - الآيتان 28، 29. (2) الآيات الخمسة من نفس السورة وهى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وهذا الجزء يطلق عليه اسم آية التطهير، ويرى الشيعة أنه لا صلة له بما قبله ولا بما بعده، وإنما هو خاص بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسيدة فاطمة الزهراء والإمام على وبنيهما الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم جميعاً، وأنه يدل على عصمتهم، ومن ثم يستدلون به على مذهبهم في الإمامة. فاستدلالهم ينبنى على ثلاث نقاط هي: تحديد المراد بأهل البيت في الآية الكريمة، ثم دلالة الآية على عصمتهم، وأخيراً التلازم بين العصمة والإمامة. وقد ذهبوا إلى أن المراد بأهل البيت هم هؤلاء الخمسة فقط مستدلين بشيئين: (1) . الأول: الخطاب في قوله تعالى " عنكم "، " يطهركم " بالجمع المذكر يدل - كما يقولون (- على أن الآية الشريفة في حق غير زوجات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلا فسياق الآيات يقتضى التعبير بخطاب الجمع المؤنث؛ أي " عنكن " و" يطهركن " فالعدول عنهما إلى الخطاب بالجمع المذكر يشهد بأن المراد من أهل البيت غير الزوجات. الثانى: أخبار تدل على أنها في الخمسة الأطهار. وبالرجوع إلى كتاب الله تعالى نجد قوله: " قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ" (2) وهذا خطاب لامرأة إبراهيم عليه السلام.   (1) انظر أدلتهم في: التبيان 8/339 –340، ومجمع البيان ط مكتبة الحياة ... 22/137 –139، وجوامع الجامع ص 372، والميزان 16/330-331، ومصباح الهداية ... ص 103-109. (2) سورة هود ـ الآية 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وقوله تعالى: " فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ" (1) ومعلوم أن موسى سار بزوجته ابنة شعيب. وقوله تعالى: " وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ " (2) وقوله عز وجل: " إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ" (3) وقوله تعالى: " وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ " (4) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تبين أن الاستعمال القرآنى لا يمنع أن يكون المراد بأهل البيت في الآية الكريمة نساء النبي مع الخطاب بالجمع المذكر،   (1) سورة القصص – الآية 29. (2) السورة السابقة – الآية 12. (3) سورة العنكبوت – الآية 33. (4) سورة يوسف – الآية 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 بل إن المذكر هو الذي يتمشى مع هذا الاستعمال، فلم أجد التعبير بالمؤنث مع كلمة الأهل - سواء أأريد بها الزوجات أم غيرهن - في القرآن الكريم كله (1) . واحتج طائفة من العلماء على أن الآل هم الأزواج والذرية بما جاء عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما سئل: كيف نصلى عليك؟ فقال: " قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد ". وهذا الحديث متفق عليه. وكذلك بما ورى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك، حميد مجيد " (2) . وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: " بنى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعياً .... فخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك؟ بارك الله لك، فتقرى حجر نسائه كلهن، يقول لهن كما قال لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة " (3) كما أن المعنى اللغوى للأهل لا يخرج الزوجات (4) . فالاستعمال القرآنى والنبوي واللغوى لا يخرج الزوجات من آية التطهير، والسياق إن لم يحتم دخولهن فعلى أقل تقدير يعتبر مرجحاً. هذا بالنسبة   (1) انظر مادة " أهل " في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وارجع إلى الآيات التي اشتملت على هذه الكلمة. (2) نيل الأوطار 2/ 324 –326. (3) صحيح البخاري – كتاب التفسير – باب " لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ... ". (4) انظر المادة في معاجم اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 لأمهات المؤمنين. ولكن سواء أشملتهن الآية أم لم تشملهن، فإن تخصيص المراد بالخمسة لا يكون إلا إذا بين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك. فلننظر إذن في الروايات. قال الطبري: حدثني محمد بن المثنى، قال ثنا بكر بن يحيى بن زياد العنزى، قال ثنا مندل عن الأعمش عن عطية، عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نزلت هذه الآية في خمسة: في وفى على رضي الله عنه وحسن رضي الله عنه وحسين رضي الله عنه، وفاطمة رضي الله عنها " (1) . وذكر الطبري بعد ذلك كثيراً من الروايات التي تبين أن الآية الكريمة تعنى هؤلاء المذكورين أو بعضهم، ثم ذكر أخيراً ما روى عن عكرمة من أنها نزلت في نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة (2) . والروايتان الأولى والأخيرة فيهما نظر، فأما الأولى ففي سندها عطية عن أبى سعيد الخدري، وعطية هذا كان يأتي الكلبى فيأخذ عنه التفسير وكان يكنيه بأبى سعيد فيقول: قال أبو سعيد ليوهم أنه الخدري. وقد ضعفه أحمد والنسائى وغيرهما (3) . أما الرواية الأخيرة فذكرت أيضاً عن عكرمة عن ابن عباس، وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في شأن نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) . فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فهذا يتفق مع ما ذهب إليه كثير من المفسرين.   (1) تفسير الطبري ط الحلبي 22/6. (2) انظر نفس المرجع 22/6 -8. (3) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب وميزان الاعتدال، وسيأتي الحديث عنه مفصلاً في روايات الغدير في بحث قادم إن شاء الله. (4) انظر تفسير ابن كثير 3/483. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وراوية عطية المذكورة ظهر ضعفها فلا أثر لمعارضتها، وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن فهذا معارض بكثير من الروايات، ولذلك فالرواية لا تقٌبل إلا على الوجه الأول. وروايات الطبري الأخرى منها رواية عن السيدة عائشة قالت: خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات غداة، وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن فأدخله معه، ثم قال: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" وهذه الرواية تقتصر على الحسن، ولكنها بلا شك لا تمنع كون غيره من أهل البيت، وقد روى الإمام مسلم عنها رواية مماثلة وفيها دخول باقي الخمسة الأطهار. وروى الطبري عن أنمس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة، فيقول: الصلاة أهل البيت " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ". وهذه الرواية كذلك لا تمنع شمول الآية لغير من ذكر. وروى عدة روايات عن أم سلمة: قالت: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندي، وعلى فاطمة والحسن والحسين، فجعلت لهم خزيرة (1) ، فأكلوا وناموا، وغطى عليهم عباءة أو قطيفة، ثم قال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " وفى رواية أخرى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجلسهم على كساء، ثم أخذ بأطرافه الأربعة بشماله، فضمه فوق رءوسهم، وأومأ بيده اليمنى إلى ربه، فقال: هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.   (1) الخزيرة: لحم يقطع قطعاً صغاراً ثم يطبخ بماء كثير وملح، فإذا اكتمل نضجه ذر عليه الدقيق وعصد به، ثم أٌدم بأي إدام. وتطلق الكلمة أيضاً على الحساء من الدسم والدقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وهاتان الروايتان تتفقان مع رواية مسلم عن السيدة عائشة في دخول الخمسة في الآية، ولكن هذا لا يحتم عدم دخول غيرهم. وذكر الطبري روايتين عن واثلة بن الأسقع تتفقان مع الروايات الثلاثة السابقة وتدخلانه هو مع أهل البيت، ففي إحداهما: عن أبى عمار قال: إنى لجالس عند واثلة بن الأسقع إذ ذكروا علياً رضي الله عنه، فشتموه، فلما قاموا، قال: اجلس حتى أخبرك عن هذا الذي شتموا، إنى عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه على وفاطمة وحسن وحسين، فألقى عليهم كساء له، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. (قلت: يا رسول الله وأنا؟ قال وأنت. قال: فوالله إنها لأوثق عمل عندي. وفى الأخرى: اللهم هؤلاء أهلي، اللهم أهلي أحق. قال واثلة: فقلت من ناحية البيت: وأنا يا رسول الله من أهلك؟ قال: وأنت من أهلي. قال واثلة، إنها لمن أرجى ما أرتجى) . ولكن باقي روايات الطبري عن أم سلمة فيها زيادات تشير إلى عدم دخولها مع أهل الكساء. وهذه الروايات هي: - حدثني أبو كريب قال: ثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن أبى سعيد الخدري، عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية "إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فجلل عليهم كساء (1) خيبرياً، فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، قالت أم سلمة: ألست منهم؟ قال: أنت إلى خير.   (1) أي جعل الكساء يغطيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 حدثنا أبو كريب، قال: ثنا حسن بن عطية، قال: ثنا فضيل بن مرزوق عن عطية، عن أبى سعيد، عن أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه الآية نزلت في بيتها "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا" قالت: وأنا جالسة على باب البيت، فقلت: أنا يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ قال: إنك إلى خير، أنت من أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت، وفى البيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا خالد بن مخلد، قال: ثنا موسى بن يعقوب، قال: ثنا هاشم بن هاشم بن عقبة بن أبى وقاص عن عبد الله بن وهب بن زمعة، قال: أخبرتني أم سلمة " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع عليا والحسين، ثم أدخلهم تحت ثوبه، ثم جأر إلى الله ثم قال: هؤلاء أهل بيتي. فقالت أم سلمة: يا رسول الله أدخلنى معهم. قال: إنك من أهلي ". حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: ثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: ثنا محمد بن سليمان الأصبهانى، عن يحيى بن عبيد المكى، عن عطاء عن عمر بن أبى سلمة، قال: " نزلت هذه الآية على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في بيت أم سلمة "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فدعا حسناً وحسيناً وفاطمة، وأجلسهم بين يديه، ودعا علياً فأجلسه خلفه. فتجلل هو وهم بالكساء ثم قال: هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطيراً. وقالت أم سلمة أنا معهم مكانك، وأنت على خير " حدثنا ابن حميد، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن حكيم ابن سعد قال: " ذكرنا على بن أبى طالب رضي الله عنه عند أم سلمة، ... قالت: فيه نزلت "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" قالت أم سلمة: جاء النبي: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيتي، فقال: لاتأذنى لأحد، فجاءت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فاطمة، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها، ثم جاء الحسن فلم استطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه، وجاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه، فاجتمعوا حول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بساط، فجللهم نبي الله بكساء كان عليه، ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على البساط، قالت: فقلت: يا رسول الله، وأنا، قالت: فوالله ما أنعم وقال: إنك إلى خير " وبالنظر في هذه الروايات نجد ما يأتي: أولاً: في الروايتين الأولى والثانية ينتهى الإسناد إلى عطية عن أبى سعيد عن أم سلمة، وقد بينا ضعف عطية ورواياته عن أبى سعيد. ثانياً: - في إسناد الرواية الثالثة " خالد بن مخلد ": وهو متكلم فيه: وثقة عثمان بن أبى شيبة وابن حبان والعجلى، وقال ابن معين وابن عدى: لا بأس به، وقال أبو حاتم، يُكتب حديثه، وقال الآجري عن أبى داود: صدوق ولكنه يتشيع، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: له أحاديث مناكير، وقال ابن سعد: كان متشيعا منكر الحديث في التشيع مفرطاً، وكتبوا عنه للضرورة. وقال صالح بن محمد جزرة: ثقة في الحديث إلا أنه كان متهماً بالغلو. وقال الجوزجانى: كان شتاماً معلناً لسوء مذهبه. وقال الأعين: قلت له: عندك أحاديث في مناقب الصحابة؟ قال: قل في المثالب أو المثاقب، يعنى بالمثلثة لا بالنون. وحكى أبوالوليد الباجى في رجال البخاري عن أبى حاتم أنه قال: لخالد بن مخلد أحاديث مناكير و‘يكتب حديثه. وقال الأزدى: في حديثه بعض المناكير وهو عندنا في عداد أهل الصدق. وذكره الساجى والعقيلى في الضعفاء (1) .   (1) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 من هنا نرى أن ما يرويه خالد عن مخلد متصلاً بمذهبه الشيعي لا يحتج به (1) . وفى إسناد هذه الرواية كذلك يروى خالد عن موسى بن يعقوب، وهو متكلم فيه أيضاً: وثقه ابن معين وابن حبان وابن القطان، وقال الآجري عن أبى داود: هو صالح، وقال ابن عدى: لابأس به عندي ولا برواياته. وقال على بن المديني: ضعيف الحديث: منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوى - وقال أحمد: لا يعجبني. ثالثاً: في إسناد الرواية الرابعة عبد الرحمن بن صالح، وهو من شيعة الكوفة ومتكلم فيه: وثقه أبو حاتم وابن حبان وغيرهما. وقال موسى بن هارون: كان ثقة وكان يحدث بمثالب أزواج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الآجري عن أبى داود: لم أر أن أكتب عنه، وضع كتاب مثالب في أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال: وذكروه مرة أخرى فقال: كان رجل سوء. وقال ابن عدى: معروف مشهور في الكوفيين لم يُذكر بالضعف في الحديث ولا اتهم فيه إلا أنه محترق فيما كان فيه من التشيع (2) . وفى الإسناد أيضاً محمد بن سليمان الأصبهانى: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: لا بأس به. يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدى:   (1) قد يقال: كيف لا يحتج به وهو من شيوخ البخاري؟ فنقول: من الثابت أن له مناكير كما قال الإمام أحمد بن حنبل، والإمام البخاري يعرف متى يكتب ومتى يترك ولذا جاء في كتاب توجيه النظر (ص 103) في الحديث عن خالد بن مخلد: " أما المناكير فقد تتبعها أبو أحمد بن عدى من حديثه وأوردها في كامله، وليس فيها شىء مما أخرجه له البخاري، بل أم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد وهو حديث أبى هريرة: من عادى لي وليا – الحديث " وما ذكره الجزائرى هنا هو قول ابن حجر (انظر هدى الساري ص 400) . (2) انظر الترجمة في تهذيب التهذيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 مضطرب الحديث، قليل الحديث، ومقدار ماله قد أخطأ في غير شىء منه. وضعفه النسائي. رابعاً: في سند الرواية الأخيرة عبد الله بن عبد القدوس، وهو شيعي متكلم فيه: قال البخاري: هو في الأصل صدوق إلا أنه يروى عن أقوام ضعاف. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أغرب. وقال عبد الله بن أحمد: سألت ابن معين عنه قال: ليس بشىء، رافضى خبيث. وقال محمد بن مهران الحمال: لم يكن بشىء كان يُسخر منه يشبه المجنون يصيح الصبيان في أثره. وقال أبو ... داود: ضعيف الحديث كان يرمى بالرفض، قال وبلغنى عن يحيى أنه قال: ليس ... بشىء. وقال أبو أحمد الحاكم: في حديثه بعض المناكير وضعَّفه النسائي والدار قطنى (1) . وفى سند الرواية كذلك ضعف آخر، فالأعمش - وهو مدلس - لم يذكر ما يفيد سماعه من حكيم. بعد النظر في أسانيد هذه الروايات يمكن القول بأنها ليست حجة يرد بها دلالة السياق، والظاهر من الآيات الكريمة، فكيف إذن يحتج بمثل هذه الروايات لإثبات أصل من أصول العقيدة؟ (2) وذكر الترمذي رواية عن أم سلمة وفيها: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك وأنت إلى خير. ثم عقب على الحديث بقوله: إنه غريب (3) . وفى أبواب العلل يتحدث عن الغريب فيقول: "   (1) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب. (2) الشيعة يستندون في استدلالهم على ما روى عن أم سلمة – انظر مراجعهم السابق ذكرها. (3) كتاب المناقب – باب مناقب أهل بيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 أهل الحديث يستغربون الحديث لمعان: رُب حديث يكون غريباً لا يروى إلا من وجه واحد (( .... ورب حديث إنما يستغرب لزيادة تكون في الحديث، وإنما تصح إذا كانت الزيادة ممن يعتمد على حفظه .... ، ورب حديث يروى من أوجه كثيرة وإنما يستغرب لحال الإسناد ". ومعنى الحديث يتفق مع ما ذكره مسلم، فلعل الترمذي استغربه من أجل هذه الزيادة. والحافظ ابن كثير ذكر الآية الكريمة وقال: (1) إنها نص في دخول أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل البيت ههنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً: إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح. وذكر روايات الطبري وروايات أخرى، ثم ذكر رواية في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً خطيباً بماء يدُعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: " أما بعد: " ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتينى رسول ربى فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله عز وجل ورغب فيه ثم قال: " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً ". فقال له حصين. ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال ومن هم؟ قال: هم آل على، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، رضي الله عنهم. وذكر رواية مسلم الأخرى عن زيد أيضاً بنحو ما تقدم وفيها: فقلت له: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا. وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل ...   (1) انظر تفسيره 3/483-486. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده (1) . ثم قال ابن كثير: هكذا وقع في هذه الرواية، والأولى أولى والأخذ بها أحرى. وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث الذي رواه إنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط، بل هم مع آله، وهذا الاحتمال أرجح جمعاً بينها وبين الرواية التي قبلها، وجمعاً أيضاً بين القرآن والأحاديث المتقدمة إن صحت، فإن في بعض أسانيدها نظراً والله أعلم. ويؤيد هذا الاحتمال الذي ذكره ابن كثير أن السؤال في الحديث الأول فيه من التبعيضية " أليس نساؤه من أهل بيته؟ وفى رواية مماثلة عن زيد أيضاً في المسند: قال حصين: " ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده " (2) (( (() . فهنا تأكيد أن نساءه من أهل بيته. وقال ابن كثير بعد ذلك: الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَداخلات في قوله تعالى: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا" فإن سياق الكلام معهن، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ (( ... ("ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث " وأهل بيتي   (1) الرواية الأولى ذكرت بطريقين آخرين أيضاً – انظر الرواية في صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل على بن أبى طالب، رضي الله تعالى عنهم جميعاً. (2) المسند 4/366-367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أحق "، وهذا يشبه ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال: " هو مسجدى هذا "، فهذا من هذا القبيل، فإن الآية إنما نزلت في مسجد قباء كما ورد في الأحاديث الأخر، ولكن إذا كان ذلك أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى بتسميته بذلك والله أعلم. وبمثل هذا قال ابن تيمية من قبل (1) . وقال القرطبى (2) : قوله تعالى: " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ". هذه الألفاظ تعطى أن أهل البيت نساؤه، وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت، ومن هم؟ فقال عطاء وعكرمة وابن عباس: هم زوجاته خاصة لا رجل معهن، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله تعالى: " وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ " وقالت فرقة منهم الكلبى: هم على وفاطمة والحسن والحسين خاصة. وفى هذا أحاديث عن النبي عليه الصلاة والسلام. واحتجوا بقوله تعالى " لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ " " بالميم " ولو كان للنساء خاصة لكان " عنكن ويطهركن "، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل. كما يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ أي امرأتك ونساؤك، فيقول هم بخير، قال تعالى: " قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ"، الذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيره. وإنما قال " ويطهركم " لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلياً وحسناً وحسيناً كانوا فيهم، وإذا اجتمع   (1) انظر المنتقى ص 168 - 169. (2) راجع تفسيره 14/182-184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 المذكر والمؤنث غلب المذكر، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت. لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن، يدل عليه سياق الكلام والله أعلم. ثم قال القرطبى: " فكيف صار في الوسط كلام منفصل لغيرهن، وإنما هذا جرى في الأخبار أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت عليه هذه الآية دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين، فعمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كساء فلفها عليهم ثم ألوى بيده إلى السماء فقال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " فهذه دعوة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم بعد نزول الآية، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج، فذهب الكلبى ومن وافقه فصيرها لهم خاصة، وهى دعوة لهم خارجة من التنزيل. وممن صير الآية لأهل الكساء خاصة أبو جعفر الطحاوي، فقد انتهى إلى هذا في كتابه مشكل الآثار (1) وبنى رأيه على مجرد احتمالات فقال: إن أم سلمة من أهله لأنها من أزواجه، وأزواجه أهله، كما قال في حديث الإفك: " من يعذرنى من رجل قد بلغ أذاه في أهلي؛ والله ما علمت في أهلي إلا خيراً " ليحتمل أن يكون قوله لأم سلمة أنت من أهلي من هذا المعنى أيضاً لا أنها من أهل الآية المتلوة في هذا الباب. واستدل ببعض الروايات المذكورة عنها، وفى بعضها: وما قال إنك من أهل البيت، وفى أخرى: أنت من أزواج النبي، وأنت على خير أو إلى خير. وفى رواية: قلت يا رسول الله: ألستُ من أهلك؟ قال: بلى (2) .   (1) انظر كتابه 1/332-339. (2) وذكر القرطبى عن القشيرى قال: قالت أم سلمة: أدخلت رأسى في الكساء وقلت: أنا منهم يا رسول الله؟ قال: نعم. (انظر تفسيره 14/183) وقال الزمخشري: " أهل البيت" نصب على النداء أو على المدح. وفى هذا دليل بين على أن نساء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل بيته ". ... (انظر الكشاف 3/260) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 قالت: فأدخل في الكساء؟ قلت: فدخلته بعد ما قضى دعاءه لابن عمه على وبنيه وبنته فاطمة رضي الله عنهم. وأرى أن الرواية الأخيرة تدل على دخولها في الآية لا على خروجها منها، فالسؤال متصل بدخولها فيمن شملتهم الآية. والجواب يؤيده. ودخولها في الكساء بعدهم أليق بالأدب النبوي، فما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليدخل زوجته في كسائه مع ابن عمه. وذكر الطحاوي الاعتراض بأنها في آيات نساء النبي وقال: جوابنا له: أن الذي تلاه إلى آخر ما قبل قوله " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ " الآية خطاب لأزواجه ثم أعقب ذلك بخطاب لأهله بقوله" إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ" فجاء على خطاب الرجال .... فعقلنا أن قوله خطاب لمن أراده من الرجال بذلك ليعلمهم تشريفه لهم، ورفعه لمقدارهم، أن جعل نساءهم ممن قد وصفه لما وصفه به مما في الآيات المتلوة قبل الذي خاطبهم به تعالى. ولكن جواب الطحاوي - لو صح - لاقتصرت الآية على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط لأن الآيات في نساء النبي، فكيف تشمل غيره من الرجال والبنين فضلاً عن النساء؟ وقد مر من قبل الحديث عن التعبير بالمذكر في الآية الكريمة، وبيان ضعف الروايات التي تمنع شمول الآية الكريمة لنساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والطحاوي على أية حال حاول ألا يخرج على السياق ولكن الغريب أن نجد من يقول: " الآية لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي، ولا متصلة بها، وإنما وضعت بينها. إما بأمر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عند التأليف بعد الرحلة " (1) .   (1) الميزان 16/330 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فكيف أن عجز آية ُيضم إلى صدرها ولا صلة بينهما؟ ثم كيف يكون الصدر متصلاً بما قبله وما بعده، والعجز يبعد عن هذا كل البعد؟ وما الحكمة في وضعه هنا إذن؟ والأشد غرابة ونكراً أن يوجد احتمال وضعه بدون أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال الطبرسي: " متى قيل إن صدر الآية وما بعدها في الأزواج، فالقول فيه أن هذا لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم، فإنهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه، والقرآن من ذلك مملوء، وكذلك كلام العرب وأشعارهم " (1) . وهذا القول وإن كان ينقصه الدليل، وبيان الحكمة المقتضية لمثل هذا، وبالذات إذا كان الخروج إلى ما ليس له علاقة بالموضوع، هذا القول لا ينزل إلى مستوى القول السابق. ونخرج من هذا بأن آية التطهير في نساء النبي وغيرهم من أهل البيت كما بين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن إذا كان لأحد أن يتكلم في شمولها لأمهات المؤمنين فليس هناك دليل على الإطلاق يخرج باقي قرابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأي دليل يمنع شمولها لباقى بنات النبي؟ ومفارقتهن للحياة قبل نزول الآية لا يعنى عدم إرادة تطهيرهن في حياتهن، وما الذي يمنع دخول باقي ذرية الإمام على؟ وآل جعفر وآل عقيل وآل عباس؟ وعلى القول بأنها منحصرة في الخمسة كيف تتعداهم إلى غيرهم من باقي الأئمة الاثنى عشر؟ ولماذا لم تشمل أئمة الزيدية مثلاً أو الإسماعيلية أو باقي فرق الشيعة التي جاوزت السبعين؟   (1) مجمع البيان 2/139 ط مكتبة الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وننتقل بعد هذا إلى دلالة الآية الكريمة على العصمة. قال الطوسي (1) : " استدل أصحبنا بهذه الآية أن في جملة أهل البيت معصوماً لا يجوز عليه الغلط وأن إجماعهم لا يكون إلا صواباً بأن قالوا: ليس يخلو إرادة الله لإذهاب الرجس عن أهل البيت بأن يكون هو ما أراد منهم من فعل الطاعات واجتناب المعاصى، أو يكون عبارة عن أنه أذهب عنهم الرجس بأن فعل لهم لطفاً اختاروا عنده الامتناع من القبائح، والأول لا يجوز أن يكون مراداً لأن هذه الإرادة حاصلة مع جميع المكفلين، فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الآية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيرهم، فكيف يحمل على ما يبطل هذا التخصيص ويخرج الآية من أن يكون لهم فيها فضيلة ومزية على غيرهم؟ على أن لفظة إنما تجرى مجرى ليس، فيكون تلخيص الكلام (ليس يريد الله إلا إذهاب الرجس على هذا الحد من أهل البيت) ، فدل ذلك على أن إذهاب الرجس قد حصل فيهم، وذلك يدل على عصمتهم" (2) وقد انفرد الجعفرية بهذا القول، وخالفوا أهل التأويل جميعاً، وما ذكروه فيه نظر لعدة أمور: مخالفتهم لأهل التأويل جميعاً يجعل قولهم غير مقبول ما لم يؤيد بأدلة قوية تسنده. في الأحاديث السابقة ما يبين أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع أهل الكساء ودعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً، فإذا كان إذهاب الرجس قد حصل والتطهير قد تم فما الحاجة إلى الدعاء؟ أية التطهير واقعة بين آيات فيها الأمر والنهى مما يؤيد إرادة فعل الطاعات، واجتناب المعاصى ليؤدى ذلك إلى إذهاب الرجس وحدوث   (1) يطلق عليه الجعفرية لقب " شيخ الطائفة ". (2) مجمع البيان 22/139 ط مكتبة الحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 التطهير، ويؤيده أيضاً ما روى من قبل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة، فيقول: الصلاة أهل البيت " إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فهنا يبدو الربط بين الأمر بالصلاة والآية الكريمة. ويزيد ذلك تأييداً ما روى بسند صحيح عن على بن أبى طالب أنه قال: " أتانى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا نائم وفاطمة، وذلك من السحر، حتى قام على الباب، فقال: ألا تصلون؟ فقلت مجيباً له: يا رسول الله، إنما نفوسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا، قال: فرجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يرجع إلى الكلام، فسمعته حين ولى يقول، وضر ب بيده على فخذه: وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " (1) ، وفى رواية أخرى عن الإمام أيضاً قال: " دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى فاطمة من الليل، فأيقظنا للصلاة، قال: ثم رجع إلى بيته فصلى هويّاً من الليل، قال، فلم يسمع لنا حساً، قال: فرجع إلينا فأيقظنا، وقال: قوما فصليا، قال: جلست وأنا أعرك عينى وأقول: إنا والله ما نصلى إلا ما كتب لنا، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، قال: فولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول ويضرب بيده على فخذه: ما نصلى إلا ما كتب لنا! ما نصلى إلا ماكتب لنا! وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً " (2) . فهنا يتضح حرص الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على إذهاب الرجس عن أهل بيته وتطهيرهم تطهيراً، وغضبه لما بدر من زوج الزهراء رضي الله تعالى عنهما.   (1) حديث رقم 571 ج 2 من المسند، وانظر في التعليق بيان المرحوم الشيخ أحمد شاكر لصحة الإسناد، والروايات الأخرى الصحيحة لهذا الحديث. (2) حديث رقم 705 ج 2 من المسند، وإسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 قال ابن تيمية: أما الآية (الأحزاب 33) " وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" فليس فيها إخبار بذهاب الرجس وبالطهارة، بل فيها الأمر لهم بما يوجبها، وذلك كقوله تعالى: "مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ علَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ " (1) " يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ " (2) " يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ " (3) فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا، ليست هي الملتزمة لوقوع المراد، ولو كان كذلك لتطهر كل من أراد الله طهارته، ثم أيد رأيه بدعائهصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحاب الكساء (4) . 6.انتهينا إلى أن آية التطهير في نساء النبي، وغيرهن من أهل البيت وهم: آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس. ولا قائل بعصمة هؤلاء، وتخصيص الخمسة يحتاج إلى دليل، والأدلة التي وجدناها تمنع هذا التخصيص. بقى بعد هذا ما ذكره الطوسي من أن حمل الإرادة على هذا المعنى لا يجوز لأن هذه الإرادة حاصلة مع جميع المكلفين. فلا اختصاص لأهل البيت في ذلك، ولا خلاف أن الله تعالى خص بهذه الآية أهل البيت بأمر لم يشركهم فيه غيره، فكيف يحمل على ما يبطل هذا التخصيص ويخرج الآية من أن يكون لهم فيه فضيلة ومزية على غيرهم؟!   (1) سورة المائدة – الآية رقم 6. (2) سورة النساء – الآية 26. (3) سورة النساء – الآية 28. (4) انظر المنتقى ص 168، وانظر ص 428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 هذا هو الدليل الذي استند إليه الطوسي (1) ، وهو استدلال عقلى، فهل يرد بمثل هذا الدليل ما ذكرناه من الأدلة؟! ولو صح هذا القول لكانت آية التطير في نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، فقد اختصصن بمضاعفة الأجر، وهذا يجعلهن أقرب إلى التطهير وإذهاب الرجس، كما اختصصن بنزول الوحي في بيوتهن، ولكنا نقول: إن إرادة التطهير وإن كانت حاصلة مع المكلفين، إلا أن أهل البيت بها أخص فهم المقتدى بهم، ولأصحاب الكساء النصيب الأوفى. فهذا التأويل لا يمنع الفضيلة والمزية، ولكنه لا يثبت العصمة. والاستدلال بآية التطهير بعد هذا يصبح غير مسلم به، فتخصيصها بالخمسة الأطهار غير ثابت، وتأويلها بما يثبت العصمة لا دليل عليه، وهم يرون ثبوت الإمامة لثبوت العصمة. على أن القول بعصمة الإمام نتحدث عنه عند مناقشة الدليل التالي. ***** رابعا: عصمة الأئمة ذكرت من قبل ما ذهب إليه الشيعة من القول بعصمة الأئمة، فلا يخطئون عمداً ولا سهواً ولا نسياناً طوال حياتهم، لافرق في ذلك بين سن الطفولة وسن النضج العقلى، ولا يختص هذا بمرحلة الإمامة. ومما استدلوا به قوله تعالى: - " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ".   (1) وبهذا أيضا استدل العالم المعاصر محمد تقى الحكيم، وذهب إلى أن الإرادة تكوينية لا تشريعية (انظر الأصول العامة للفقه المقارن ص 150) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 قالوا: تدل هذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصوماً عن القبائح، لأن الله سبحانه وتعالى نفى أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إما لنفسه وإما لغيره، فإن قيل: إنما نفى أن يناله ظالم في حال ظلمه، فإذا تاب لا يسمى ظالماً، فيصح أن يناله، فالجواب أن الظالم وإن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالماً. فإذا نفى أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها. والآية مطلقة غير مقيدة بوقت دون وقت، فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلها، فلا ينالها الظالم وإن تاب فيما بعد (1) . ثم قالوا: إن الله سبحانه وتعالى عصم اثنين فلم يسجدا لصنم قط وهما: محمد بن عبد الله وعلى بن أبى طالب، فلأحدهما كانت الرسالة، وللآخر كانت الإمامة، أما الخلفاء الثلاثة فلم يعصموا، وهم ظالمون ليسوا أهلاً للإمامة. ونلاحظ هنا: 1. في تأويل الآية الكريمة (2) " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا " يحتمل جعله رسولاً ُيقتدي به، لأن أهل الأديان، مع اختلافهم، يدينون به، ويقرون بنبوته. ويحتمل إماماً من الإمامة والخلافة، أو الإمامة والاقتداء، فيقتدي به الصالحون. والعهد اختُلف في تأويله: فقيل الرسالة والوحي، وقيل الإمامة، وهو واضح من التأويل السابق، ويؤيده عدة روايات. وعن ابن عباس ... قال: " لا ينال عهدي الظالمين " قال: ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته أنقضه، وروى عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حبان نحو ذلك. وقال الثوري عن هارون بن عنترة عن أبيه قال: ليس لظالم عهد. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: لا ينال   (1) انظر التبيان 1/449، ومجمع البيان 1/202، ومصباح الهداية 60-63. (2) نظر تفسير الماتريدى: ص 279، والطبرى تحقيق شاكر 3/18- 24، وابن كثير1/167، والآلوسى 1/306 -308، والبحر المحيط 1/374 -379، والقرطبى 2/107-109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 عهد في الآخرة الظالمين، وأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به وأكل وعاش، وكذا قال إبراهيم النخعى وعطاء والحسن وعكرمة. وقال الربيع بن أنس: عهد الله الذي عهد إلى عباده دينه، يقول لا ينال الظالمين، ألا ترى أنه قال: " وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ " (1) يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق، وكذا روى عن أبى العالية وعطاء ومقاتل بن حيان، وقال جويبر عن الضحاك: لاينال طاعتي عدو لي يعصيني، ولا أنحلها إلا ولياً يطيعني. وروى عن على بن أبى طالب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا ينال عهدي الظالمين " قال: " لا طاعة إلا في المعروف. فالآية الكريمة إذا اختلف في تأويلها، والقطع بأن المراد هو ما ذهب إليه الجعفرية من التأويل ينقصه الدليل، ورد باقي الأدلة. 2. ولكن مع هذا فلا خلاف بأن الظالم لا يصلح لإمامة المسلمين، قال الزمخشري: " وكيف يصلح لها من لايجوز حكمه وشهادته، ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدم للصلاة؟ وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتى سراً بوجوب نصرة زيد بن على رضوان الله عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة كالدوانيقى (2) وأشباهه، وقالت له امرأة: أشرت على بنى بالخروج مع إبراهيم ومحمد بنى عبد الله بن الحسن حتى قتل: فقال ليتنى مكان ابنك وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف   (1) سورة الصافات – الآية 113. (2) اللص المتغلب والخليفة الذي ذكره الزمخشري هو هشام بن عبد الملك، وأما الدوانيقى فهو المنصور أخو السفاح، سمى بذلك قيل لبخله، وقد ذكر يعض المصنفين أنه لم يكن بخيلاً (البحر المحيط 1/378) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الظلمة، فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب ظلم " (1) ا 3. لايمكن التسليم بأن غير المعصوم لابد أن يكون ظالماً، أو أن غير الظالم لابد أن يكون معصوماً، فبين العصمة وعدم الظلم فرق شاسع، فالمخطئ قبل التكليف ليس ظالماً ولا يحاسب بالاتفاق، ومن ندر ارتكابه للصغائر وأتبعها بالتوبة والاستغفار لا يكون ظالماً، أما الخطأ والنسيان فمما لايحاسب عليه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وُضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (2) . وكما يؤخذ من دراسة قوله تعالى: " رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا " (3) 4. في رفض الآلوسى لما ذهب إليه الشيعة قال: استدل بها بعض الشيعة على نفى إمامة الصديق وصاحبيه رضي الله عنهم، حيث إنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك، وإن الشرك لظلم عظيم، والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة، وأجيب بأن (غاية ما يلزم أن الظالم في حال الظلم لايناله، والإمامة إنما نالتهم رضي الله   (1) الكشاف 1/309 وقال القرطبى (2/109) قال بن خويزمنداد: وكل من كان ظالماً لم يكن نبياً ولا خليفة، ولا حاكماً، ولا مفتياً ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام. (2) رواه ابن ماجة وابن أبى عاصم، ورجاله ثقات، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وقال النووى في الروضة وفى الأربعين أنه حسن. ووقع في كتب كثيرين من الفقهاء والأصوليين بلفظ " رفع " بدل " وضع "، وحول الحديث كلام يطول ذكره، انظر المقاصد الحسنة ص 228 – 230 وكشف الخفاء 1/433-434. (3) روى الامام مسلم وغيره ما يفيد استجابة ربنا عز وجل لهذا الدعاء، وروى كذلك عند الجعفرية: انظر مجمع البيان 2/404، وانظر كذلك تفسير بن كثير 1/342-343، والقرطبى 3/431-432 والكشاف 1/408. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم) ، ثم قال: " ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر، أو ظالم في لغة وعرف وشرع، إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفى غيره مجاز، ولا يكون المجاز أيضاً مطرداً بل حيث يكون متعارفاً وإلا لجاز صبى لشيخ ونائم لمستيقظ وغنى لفقير وجائع لشبعان وحى لميت وبالعكس، وأيضاً لو اطرد ذلك يلزم من حاف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل سنين متطاولة أن يحنث، ولا قائل به " (1) . 5. ليس من المقطوع به أن الإمام عليا لم يسجد لصنم قط، ولم أجد أثراً صحيحاً يؤيد هذا، ولكن يرجحه أن الإسلام أدركه وهو صبى، وأنه تربى في بيت النبوة، واقتدى بابن عمه سيد المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخلق بخلقه، ولهذا كان أول من أسلم بعد خديجة رضي الله تعالى عنهما. والذين لم يسجدوا للأصنام كثيرون كالصحابة الذين عاشوا في بيئة إسلامية في صغرهم فنشئوا على الإسلام، ثم الذين ولدوا في هذه البيئة، فلا اختصاص لأمير المؤمنين هنا. 6. العصمة من الخطأ كبيره وصغيره، عمداً وسهواً ونسياناً من المولد إلى الممات أمر يتنافى مع الطبيعة البشرية، فلا يقبله العقل إلا بالدليل قطعى من النقل. وهذه الآية الكريمة لا تثبته للأئمة عموماً فضلاً عن أئمة الجعفرية على وجه الخصوص، على أن دلالة القرآن الكريم تتنافى مع مثل هذه العصمة حتى بالنسبة لخير البشر جميعاً الذين اصطفاهم الله تعالى للنبوة والرسالة. وقد أثبتُّ هذا من قبل في بحثى الذي نلت به درجة الماجستير (2) ، وسيأتي الحديث عن العصمة في الفصل الخامس من هذا الجزء.   (1) انظر تفسير الآلوسى 1/307 - 308. (2) انظر فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة ج1 ص 37:18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 7. الصحابة الكرام من المهاجرين والأنصار الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه، والذين مدحهم القرآن الكريم في أكثر من موضع، ويبين أنهم. " كُنتُمْ خَيرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ " (1) كيف يستبيح مسلم لنفسه أن يصفهم بأنهم ظالمون؟ وكيف يصدر هذا ممن يقول: الظلم اسم ذم، ولا يجوز أن يطلق إلا على مستحق اللعن لقوله تعالى: "أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ" (2) وكيف يبين القرآن الكريم أنهم خير أمة أخرجت للناس ثم تؤول آية من آياته بأنهم ملعونون؟ فعلى الجعفرية إذا أن يعيدوا النظر في تأويلهم، وما بنوه على هذا التأويل. والآية الكريمة على كل حال لا تدل على أن إمام المسلمين بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجب أن يكون على بن أبى طالب ولا على إمامة أحد بعينه. ***** خامسا: الغدير ذكرت من قبل ما قاله الجعفرية من أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن ينص على على وينصبه علماً للناس، وأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتثل للأمر - بعد تردد! وبلغ المسلمين عند غدير خم بعد منصرفه من حجة الوداع. وبحث ما قاله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغدير يتعلق بالسنة، ولكنهم ذكروا أن ثلاث آيات تتصل بهذه الحادثة، آيتان من سورة المائدة، وأول سورة المعارج كما بينت عند ذكر أدلتهم من القرآن الكريم. وآية التبليغ هي قوله تعالى: "   (1) سورة آل عمران - الآية رقم 110. (2) انظر التبيان 1/158، والآية المذكورة هي رقم 18 من سورة هود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" (1) ولم يكتف بعضهم بذكر أنها نزلت في على، ولكن ذكر الأقوال المختلفة في أسباب النزول، قال الطوسي (2) : قيل في سبب نزول هذه الآية أربعة أقوال: أحدها: قال محمد بن كعب القرظى وغيره: إن أعرابياً هم بقتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه شجرة حتى انتثر دماغه. الثانى: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلن يهاب قريشاً، فأزال الله عز وجل بالآية تلك الهيبة. وقيل: كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حراس بين أصحابه، فلما نزلت الآية قال: ألحقوا بملاحقكم، فإن الله تعالى عصمنى من الناس. الثالث: قالت عائشة: إن المراد بذلك إزالة التوهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئاً من الوحي للتقية. الرابع: قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام: إن الله تعالى لما أوحى إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستخلف علياً كان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعاً له على القيام بما أمره بأدائه.   (1) سورة المائدة – الآية 67. (2) التبيان 3/587-588. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ولم يناقش الطوسي ما قيل، ولم يذكر ما يرجح أحد هذه الأقوال، ولكن كثيراً من طائفته استدلوا بروايات على أنها استخلاف على (1) ، وظاهر النص لا يدل على هذا، والروايات كلها أقصى ما تبلغه لا تصل إلى مرتبة السنة، فليس فيها ما أثر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، على أنا لم نجد رواية واحدة صحيحة عن طريق الجمهور تؤيد ما ذهب إليه الجعفرية، ولننظر إلى ما ذهب إليه المفسرون. قال الطبري في تفسير الآية الكريمة: - " هذا أمر من الله تعالى ذكره نبيه محمداً بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قص تعالى ذكره قصصهم في هذه السورة، وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجتراءهم على ربهم وتوثبهم على أنبيائهم، وتبديلهم كتابه، وتحريفهم إياه، ورداءة مطاعمهم ومآكلهم، وسائر المشركين وغيرهم، ما أنزل عليه فيهم من معايبهم، والإزراء عليهم، والتقصير بهم والتهجين لهم، وما أمرهم به وما نهاهم عنه، وأن لا يشعر نفسه حذراً منهم أن يصيبوه في نفسه بمكروه ما قام فيهم بأمر الله، ولاجزعاً من كثرة عددهم وقلة عدد من معه، وأن لايتقى أحداً في ذات الله، فإن الله تعالى ذكره كافيه كل أحد من خلقه، ودافع عنه مكروه كل من يبغى مكروهه، وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصر عن إبلاغ شئ مما يبلغ إليه إليهم، فهو في تركة تبليغ ذلك وإن قل ما لم يبلغ منه فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذنب بمنزلته لو لم يبلغ من تنزيله شيئاً. وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل " (2) . والذى ذهب إليه أهل التأويل هو الذي يتفق مع سياق الآيات الكريمة، ومع تكملة الآية ذاتها. والخروج على السياق وفصل صدر الآية عن عجزها لا يجوز بغير أدلة صحيحة.   (1) انظر البيان ط مكتبة الحياة 6/152 –153، والميزان 6/42 –64 وتفسير شبر ... ص 143، والغدير 1/214 –229، ومصباح الهداية 190-198. (2) تفسير الطبري تحقيق شاكر 10/467. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 والطبرى بعد أن ذكر اتفاق أهل التأويل في المراد من الآية الكريمة، ذكر أنهم اختلفوا في السبب الذي من أجله نزلت، فقال بعضهم نزلت بسبب أعرابى كان هُّم بقتل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكفاه الله إياه، وقال آخرون: بل نزلت لأنه كان يخاف قريشاً، فأومن من ذلك، وذكر روايات القائلين بهذين القولين (1) . أما الحافظ ابن كثير فقد توسع في الحديث عن هذه الآية الكريمة، حيث قال: " يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسم الرسالة، وآمراً له بإبلاغ جميع ما أرسله الله بذلك به وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك، وقام به أتم القيام، قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب، وهو يقول: " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " الآية هكذا رواه ههنا مختصراً، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولاً، وكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان، والتزمذى والنسائى في كتاب التفسير من سننهما، من طرق عن عامر الشعبي، عن مسروق بن الأجدع، عنها رضي الله تعالى عنها. وفى الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت: لو كان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية: -   (1) صاحب كتاب الغدير ذكر أن الطبري يرى أن الآية الكريمة نزلت في الغدير كما يذهب الجعفرية (امظر كتابه 1/214 –216 –223-225) وما قاله الطبري يتفق مع أهل التأويل – كما نص هو على هذا – وإن اختلفوا في السبب الذي من أجله نزلت، ومعنى هذا أن أهل التأويل متفقون على صحة ما ذهب إليه الجعفرية لو صح ما ذكره صاحب الغدير! قول غريب نعود إليه في الحديث عن الآية التالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 " وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ " (1) وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادى، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له: إن ناساً يأتونا يخبرونا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للناس، فقال ابن عباس: ألم تعلم أن الله تعالى قال: - " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " والله ما ورثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوداء في بيضاء وهذا إسناد جيد. وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبى جحيفة وهب بن عبد الله السوائى قال: قلت لعلى بن أبى طالب رضي الله عنه: هل عندكم شئ من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل (2) ، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر. وقال البخاري: قال الزهرى: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو أربعين ألفاً، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في خطبته يومئذ: " أيها الناس إنكم مسئولون عنى فما أنتم قائلون؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول: " اللهم هل بلغت ". قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير حدثنا فضيل يعنى ابن غزوان،   (1) المائدة الآية- 67. (2) أي الدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع " يا أيها الناس أي يوم هذا؟ " قالوا: يوم حرام، قال: " أي بلد هذا؟ " قالوا: بلد حرام، قال: " فأي شهر هذا " قالوا: شهر حرام، قال: " فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا من شهركم هذا " مراراً قال: يقول ابن عباس: والله لوصية إلى ربه عز وجل، ثم قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب، ولا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ". وقد روى البخاري عن على بن المديني، عن يحيى بن سعيد، عن فضيل بن غزوان به نحوه، وقوله تعالى: " وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ " يعنى وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به فما بلغت رسالته، أي وقد علم ما يترتب على ذلك لو وقع، " وقال على بن أبى طلحة عن ابن عباس" وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ" يعنى إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته (1) . ا. هـ. ثم استمر ابن كثير في تفسيره ليبين ما يتعلق بتتمة الآية الكريمة. وأشار إلى كيد المشركين وأهل الكتاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي عصمه الله تعالى منهم، وقال بعد أن ذكر شيئاً من كيدهم: " ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها. فمن ذلك ما ذكره المفسرون عن هذه الآية الكريمة " (2) } 129 {) ، وذكر بعض روايات الطبري ... وغيره. وهكذا نجد أن تفسير الآية الكريمة لا يتفق مع ما ذهب إليه الجعفرية. وبالإضافة إلى ما ذكره المفسرون روى الإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس قال: " كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً مأموراً بلغ والله ما أرسل   (1) تفسير ابن كثير 2/77 –78. (2) المرجع السابق 2/97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 به، وما اختصنا دون الناس بشئ ليس ثلاثا، أمرنا أن نسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، ولا ننزى حماراً على فرس " (1) } 130 {) . وهذه رواية صحيحة السند، ونصها يتعارض مع تأويل الجعفرية. على أن بعض المفسرين ناقش الشيعة فيما ذهبوا إليه، وبين أنه قول لا يستقيم. قال الآلوسى عند تفسيره للآية الكريمة: (أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة، ولا مسلمة لديهم أصلاً) (2) وأيد هذا القول: ثم قال: ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص خلافة على كرم الله وجهه، وأن الموصول فيها خاص كقوله تعالى: " وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ" فإن الناس فيه وإن كان عاماً إلا أن المراد بهم الكفار، ويهديك إليه ... " إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ " فإنه في موضع التعليل بعصمته عليه الصلاة والسلام (3) : وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر، أي لأن الله تعالى لا يهديهم إلى أمنيتهم فيك. ومتى كان المراد بهم الكفار بعد إرادة الخلافة: بل لو قيل لم تصح، لم يبعد، لأن التخوف الذي تزعمه الشيعة منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحاشاه - في تبليغ أمر الخلافة إنما هو من الصحابة. رضي الله تعالى عنهم - حيث إن فيهم - معاذ الله تعالى - من يطمع فيها لنفسه، ومتى رأي حرمانه منها لم يبعد قصد الإضرار برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتزام القول - والعياذ بالله عز وجل - بكفر من عرضوا بنسبة الطمع في الخلافة إليه، مما يلزمه محاذير كلية أهونها تفسيق الأمير كرم الله   (1) انظر الرواية وتخريجها، وبيان صحة سندها في المسند ج 3 رواية رقم 1977 تحقيق المرحوم الشيخ أحمد شاكر، وأشار إلى روايات أخرى مؤيدة. وفى التعليق تفسير للجزء الأخير بأن الخيل كانت في بنى هاشم قليلة فأحب - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تكثر فيهم. (2) تفسير الآلوسى 2/349. (3) انظر مثل ما ذكره الآلوسى هنا في الكشاف 1/631، والبحر المحيط 3/530. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وجهه وهو هو، أو نسبة الجبن إليه وهو أسد الله تعالى الغالب، أو الحكم عليه بالتقية وهو الذي لا يأخذه في الله تعالى لومة لائم، ولا يخشى إلا الله سبحانه (1) . ولقد وفق الآلوسى في الاستدلال عن طريق ربط الآية بعضها ببعض وتأويله الآية كما ذهب إليه جمهور المفسرين لا يحتاج إلى دليل، لأنه أخذ بظاهر النص وعمومه، وبدلالة السياق، ولكن تخصيصها باستخلاف على هو الذي يحتاج إلى أدلة أصح وأكثر قبولاً من أدلة الجمهور المذكورة، وهذا ما لم نجده. وروايات الغدير تناقش تفصيلاً في بحث متصل بالسنة النبوية الشريفة. والآية الكريمة الأخرى من سورة المائدة هي " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " (2) وإختلف أهل التأويل في المراد بإكمال الدين، فقال بعضهم: يعنى جل ثناؤه بقوله: " الْيَوْمَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " اليوم أكملت لكم أيها المؤمنون فرائضى عليكم، وحدودى وأمرى إياكم ونهى وحلالى وحرامى، وتنزيلى من ذلك ما أنزلت منه في كتاب، وتبيانى ما بينت لكم منه بوحيى على لسان رسولى، والأدلة نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم. وقال آخرون: إن الله عز وجل أخبر نبيه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين به، أنه أكمل لهم - يوم أنزل هذه الآية على نبيه - دينهم، بإفرادهم البلد الحرام، وإجلائه عنه   (1) انظر مثل ما ذكره الآلوسى هنا في الكشاف 1/631، والبحر المحيط 3/530. (2) جزء من الآية الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون، وهذا هو الذي اختاره الطبري وأيده (1) . والجعفرية لا يخرجون في تأويلهم عن القولين، ولكنهم يزيدون أن الآية الكريمة نزلت بعد أن نصب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً علماً للأنام يوم غدير خم عند منصرفه من حجة الوداع، ويروون هذا عن الإمامين الباقر والصادق، ويرون أن الولاية آخر فريضة أنزلها الله تعالى، ثم لم ينزل بعدها فريضة (2) . وفسر الطبرسي " وأتممت عليكم نعمتي " بولاية على بن أبى طالب، وذكروا رواية عن أبى سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال بعد نزوله الآية الكريمة: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضا الرب برسالتي، وولاية على بن أبى طالب من بعدى. ولكن الطوسي لا يذكر مثل هذه الرواية، ويفسر " وأتممت عليكم نعمتي " بقوله: " خاطب الله تعالى جميع المؤمنين بأنه أتم نعمته عليهم، بإظهارهم على عدوهم المشركين ونفيهم إياهم عن بلادهم، وقطعه طمعهم من رجوع المؤمنين وعودهم إلى ملة الكفر، وانفراد المؤمنين بالحج والبلد الحرام، وبه قال ابن عباس وقتادة والشعبي". ولم يشر الطوسي إلى الولاية، وما ذكره كأنما نقل عن شيخ المفسرين، فقد قال الطبري في تفسيره: " يعنى جل ثناؤه بذلك: وأتممت نعمتي، أيها المؤمنون بإظهاركم على عدوى وعدوكم من المشركين، ونفيي إياهم عن بلادكم، وقطعي طمعهم من رجوعكم وعودكم إلى ماكنتم عليه من الشرك. وبنحو الذي قلنا   (1) انظر تفسير الآية الكريمة في الطبري تحقيق شاكر 9/517 ـ 531 وابن كثير 2/12 ـ 14 والكشاف 1/593، والآلوسى 2/248 ـ 249 والقرطبى 6/61 ـ 63، والبحر المحيط 3/426. (2) راجع للجعفرية: التبيان 3/435 -436، ومجمع البيان ط مكتبة الحياة 6/25 ـ 26، وجوامع الجامع ص 104، وتفسير شبر ص 133، ومصباح الهداية ص 204 ـ 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 في ذلك قال أهل التأويل. وروى عن ابن عباس أنه قال: كان المسلمون والمشركون يحجون جميعاً، فلما نزلت براءة: فنفُى المشركون عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان ذلك في تمام النعمة: " وأتممت عليكم نعمتي ". وعن قتادة: نزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم عرفة يوم جمعة حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، وأخلص للمسلمين حجهم. وعن الشعبي قال: نزلت هذه الآية بعرفات، حيث هدم منار الجاهلية، واضمحل الشرك ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك. وعن عامر قال: نزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو واقف بعرفات، وقد أطاف به الناس، وتهدمت منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك، ولم يطف حول البيت عريان فأنزل الله: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ". وعن الشعبي بنحوه. إن روايات قتادة والشعبى التي ذكرها الطبري تعارض ما قيل من أن الآية الكريمة نزلت يوم الغدير. وهناك روايات أخرى صحيحة السند تثبت نزولها يوم عرفة يوم جمعة لا يوم الغدير. وذكر الطبري بعض هذه الروايات، وروايات أخرى معارضة، ثم قال: وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روى عن عمر بن الخطاب: أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده، ووهى أسانيد غيره. وقال الحافظ ابن كثير: " قال الإمام أحمد: حدثنا أبى جعفر بن عون، حدثنا أبو العميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: وأي آية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 قال: قوله " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي " فقال عمر: والله إنى لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشية عرفة في يوم جمعة (1) ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به، ورواه أيضاً مسلم والترمذى والنسائى أيضاً من طرق عن قيس بن مسلم به. ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية عن طريق سفيان الثوري عن قيس عن طارق قال: قالت اليهود لعمر: إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً. فقال عمر: إنى لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أنزلت: يوم عرفة وأنا والله بعرفة. قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " الآية وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا، وإن كان شكاً في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله، فإن هذا أمر مقطوع به لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير، ولا من الفقهاء، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم. وقد روى هذا عن غير وجه من عمر ". وبعد هذه الروايات ذكر ابن كثير روايات الطبري التي صح سندها، وهى تبين - كما سبق - أن الآية نزلت يوم الجمعة. ثم ذكر الروايات المعارضة، وهى التي استوهاها الطبري، وبين ضعفها، ومنها ما روى عن الربيع بن أنس أنها نزلت في المسير في حجة الوداع، وقال: وقد روى ابن مردويه عن طريق أبى هارون العبدى، عن أبى سعيد الخدري، أنها نزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم غدير خم حين قال لعلى: " من كنت مولاه فعلى مولاه ". ثم رواه عن أبى هريرة   (1) الرواية صحيحة الإسناد، ورواها الإمام أحمد بسند صحيح أخر، وانظر الروايتين رقم 188، 272 في الجزء الأول من المسند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذى الحجة، يعنى مرجعه عليه السلام من حجة الوداع، ولايصح هذا ولا هذا، بل الصواب الذي لا شك فيه ولامرية أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبى سفيان، (1) وترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم، وأرسله الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب، وغير واحد من الأئمة والعلماء، واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله. ومن هنا يظهر أن الروايات الصحيحة تعارض ما ذهب إليه الجعفرية من نزول الآية الكريمة يوم الغدير، ولكن أحد كتابهم أيد ما ذهبوا إليه بقوله بأنه " يؤكده النقل الثابت في تفسير الرازى (3 ص 529) عن أصحاب الآثار أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعمر بعد نزولها إلا أحداً وثمانين يوماً، أو اثنين وثمانين، وعينه أبو السعود في تفسيره بهامش تفسير الرازى (3 ص 523) وذكره المؤرخون منهم: إن وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الثانى عشر من ربيع الأول، وكأن فيه تسامحاً بزيادة يوم واحد على الاثنين والثمانين يوماً بعد إخراج يومى الغدير والوفاة، وعلى أي فهو أقرب إلى الحقيقة من كون نزولها يوم عرفة كما جاء في   (1) المروى في الصحاح الستة عن طريق معاوية في الأحكام ثلاثون حديثاً، ذكرها ابن الوزير – من علماء الزيدية – في كتابه الروض الباسم، وأثبت صحتها ثم صحة باقي الأحاديث المروية عن طريقه في غير الأحكام، وأشار إلى أنه لم يرد حديث واحد عن طريق معاوية في ذم الإمام على " انظر كتابه 2/114 –119". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 صحيحى البخاري ومسلم وغيرهما (1) . لزيادة الأيام حينئذ، على أن ذلك معتضد بنصوص كثيرة لا محيص عن الخضوع لمفادها " (2) . أما النصوص الكثيرة التي يرى ألا محيص عن الخضوع لمفادها فقد سبق ذكر بعضها وبيان عدم الأخذ بها، فهى روايات ضعيفة السند متعارضة مع روايات صحيحة بل متواترة كما ذكر الحافظ ابن كثير. ومن الواضح البين أن رواية الرازى للأيام إذا تعارضت مع هذ الروايات وجب طرح رواية الرازى. وليس من البحث العلمي الصحيح أن رواية تأتى في أحد كتب التفاسير تسقط بها روايات متعددة كثيرة السند، جاءت عن طريق الأئمة أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم. وأول النصوص الكثيرة التي يرى مؤلف الغدير ألا محيص عن الخضوع لمفادها نص ذكر أن الطبري رواه بإسناده عن زيد بن أرقم في كتاب الولاية، وأشار إليه هنا حيث أثبته بالكامل عند استدلاله على آية التبليغ السابقة في ... غديره (3) ، وبالرجوع إلى النص نجد أمراً عجيباً! فهو يكاد يجمع ما يتصل بعقيدة الإمامية وغلاتهم في الإمامة، فهى لعلى بالنص، ثم في أولاده إلى يوم القيامة إلى القائم المهدى، وغيرهم أئمة يدعون إلى النار، وهم وأتباعهم في الدرك الأسفل منها، والله تعالى ورسوله بريئان منهم .... إلخ.   (1) من العجيب الغريب أن الروايات التي ينكرها هنا يستدل بها هي ذاتها في مكان آخر بشيء آخر، فذكر قول اليهودى " لو نزلت فينا هذه الآية لاتخذنا يوم نزولها عيداً " ثم قال: وصدر من عمر ما يشبه التقرير لكلامه. وانتهى من هذا إلى أن يوم نزولها عيد وهو عيد الغدير! ولم يشر إلى يوم عرفة! (انظر الغدير 1/283) . (2) المرجع السابق 1/230. (3) انظر المرجع المذكور 1/214-216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 والمعروف أن شيخ المفسرين الطبري ليس شيعياً فضلاً عن غلاتهم، ولكن صاحب الغدير بعد ذكر الرواية وروايات أخرى قال (1) بأن الطبري أول من عرفناه ممن ذكر أن آية التبليغ حول قصة الغدير. وأخذ يناقش الروايات التي جاءت في تفسير الطبري ليبين أنها لا تتعارض مع الرواية المذكورة في كتابه عن الولاية، مع أن الطبري متفق مع أهل التأويل كما ذكرنا من قبل عند مناقشة الآية الكريمة، أفكل أهل التأويل جعفريون؟! وعند الحديث عن آية الإكمال هذه ذكر رواية الطبري وأشار إلى كتابه في الولاية، ولم يشر إلى تفسيره، ويتضح سر هذا وقد عرفنا الرأي الذي اختاره الطبري حيث استوهى الروايات المخالفة لرواية عمر بن الخطاب. إذن لسنا في حاجة إلى بيان ضلال الباحث عندما يسيره هواه، ولكن أحب أن أقول هنا بأن كتاب الولاية في ضوء ما سبق إما أنه ألف ونسب إلى الطبري زورا وانتصارا لمذهب، وإما أن الطبري جمع ما وجده من الولاية بغير نظر إلى مصادر الروايات: وفى كلتا الحالتين الكتاب لا وزن له، ولا يبين رأي الطبري (2) .   (1) راجع قوله في ج1 ص 223-225. (2) قد بحثت عن الكتاب المذكور فلم أجده، وبحثت عن أسماء الكتب المنسوبة للطبرى فوجدت ما يزيد عن مائة كتاب منها كتاب فضائل على بن أبى طالب رضي الله تعالى عنه. قال ياقوت الرومى في كتابه إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب 6/452 بأن الطبري تكلم في أوله بصحة الأخبار الواردة في غدير خم، ثم تلاه بالفضائل، ولم يتم، فالطبرى إذن لم يتم كتابه وهو – مع عشرات الكتب الأخرى – غير موجود، فلعل أحداً استغل هذا فأخرج كتاباً بعنوان الولاية ونسبه للطبرى. والرواية التي ذكرها صاحب كتاب الغدير عن زيد بن أرقم نقلا عن كتاب الولاية لا تصح بحال، وقد ذكرنا من قبل الروايات الصحيحة عن زيد بن أرقم كما رواها الإمامان أحمد ومسلم. فإذا كان الطبري قد صحح الأخبار الواردة في غدير خم كما قال ياقوت فإنها لا تزيد عما أخرجه مسلم، وما صح من مسند أحمد، أما أن يصح عنده مالا يؤمن به، بل لا يقول به إلا الغلاة فهذا أمر مرفوض قطعاً. * *ومن المعاصرين لشيخ المفسرين عالم شيعي اسمه محمد بن جرير بن رستم الطبري ويكنى أبا جعفر، وله كتاب المسترشد في الإمامة (انظر الفهرست للطوسى ص 158 ـ 159) فلعله صاحب كتاب الولاية، واستغل التشابه بين الاسمين والكنيتين في نسبة الكتاب لشيخ المفسرين، وهو بلا أدنى شكل براء مما جاء به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وإذا كانت آية التبليغ السابقة نزلت قبل آية الإكمال هذه - كما قال الجعفرية أنفسهم - فإن الروايات السابقة تدل على أن آية التبليغ نزلت قبل الغدير، مما يؤيد ما ذهب إليه جمهور المفسرين في تأويلها، ويعارض ما قاله الجعفرية من أنها خاصة بالاستخلاف يوم الغدير، وهذا دليل آخر يضاف إلى أدلة الجمهور. ومما سبق رأينا أن آية الإكمال نزلت يوم عرفة، ولكن لو فرضنا أنها نزلت يوم الثامن عشر من ذى الحجة يوم الغدير فإنها لا تعتبر دليلاً على استخلاف على، لأن هذا مبنى على أساس أن آية التبليغ خاصة بالاستخلاف وهذا غير ثابت كما بينت من قبل. ويبقى بعد هذا ما يتعلق بأول سورة المعارج " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ". والسورة الكريمة " مكية " بالاتفاق، وما ذكره بعضهم (1) يستلزم أن تكون مدنية بل من أواخر ما نزل بالمدينة بعد حجة الوداع قبيل الوفاة: وشيخ طائفتهم الطوسي لم يقع في هذا الخطأ، ولذا قال: سورة المعارج مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما. وفسرها بما يتفق مع جمهور المفسرين، ولم يشر إلى أن التكذيب كان بالولاية، ولا أن جزءاً من هذه السورة نزل بالمدينة فضلاً عن كونه بعد حجة الوداع (2) . وفى مجمع البيان ذكر الطبرسي مثل هذا التفسير، ثم زاد رواية عن جعفر ابن محمد عن آبائه، قال: لما نصب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً عليه السلام يوم غدير   (1) سبق ذكر روايتهم في بداية الفصل. (2) انظر التبيان 10/112 –113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 خم، وقال: من كنت مولاه فعلى مولاه، طار ذلك في البلاد، فقدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النعمان بن الحرث الفهرى فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد والحج والصوم والصلاة والزكاة ففعلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلى مولاه: فهذا شىء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو إن هذا من الله، فولى النعمان ابن الحرث وهو يقول: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء "، فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، وأنزل الله تعالى: " سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ". ولكن هذه الرواية تتعارض مع ما ذكره الطبرسي نفسه حيث قال: "سورة المعارج مكية، وقال الحسن: إلا قوله " وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ" (1) . وفى موضع آخر ذكر روايات تبين ترتيب نزول سور القرآن الكريم، وبحسب هذا الترتيب نجد سورة المعارج مكية، وبعدها سبع سور مكية أخرى، ثم ذكر السور المدنية. وفى إحدى هذه الروايات: " وكانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة، ثم يزيد الله فيها ما يشاء بالمدينة ". ومعنى هذا أن سورة المعارج مكية وبالأخص فاتحتها، والطبرسي في تفسيره الآخر " جوامع الجامع " الذي كتبه بعد أن اطلع على تفسير الكشاف للزمخشرى وأعجب به (2) ، ذكر أن سورة المعارج مكية، وفسرها بما يتفق مع مكيتها، ولم   (1) المرجع السابق 10/350. (2) انظر مقدمة جوامع الجامع ففيها بيان سبب التأليف، ومما جاء في هذه المقدمة ... ص 3: " وحثني وبعثنى عليه أن خطر ببالى وهجس بضميرى، بل ألقى في روعى، محبة الاستمداد من كلام جار الله العلامة ولطائفه، فإن لألفاظه لذة الجدة ورونق الحداثة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 يشر للرواية المنسوبة للإمام الصادق. وفى تفسير الآية الخامسة وهى" فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا " قال: فاصبر يتعلق بسأل سائل لأنهم استعجلوا العذاب استهزاء وتكذيباً بالوحي (1) . فالطبرسي هنا لم يأخذ بالرواية المنسوبة للإمام الصادق، وما ذكره الطوسي موافقاً به جمهور المفسرين فيه ما يكفى لرد ما ذهب إليه بعض الجعفرية. ***** تعقيب بعد المناقشة السابقة نقول: - ظهر أن عقيدة الإمامة عند المذهب الجعفرى لا تستند إلى شىء من القرآن الكريم، واستدلالاتهم تنبنى على روايات متصلة بأسباب النزول، وتأويلات انفردوا بها، ولم يصح شئ من هذا ولا ذاك بما يمكن أن يكون دليلاً يؤيد مذهبهم. قال أحد مفسرى الجعفرية عن أسباب النزول: " ما ذكروه من أسباب النزول كلها أو جلها نظرية، بمعنى أنهم يردون غالباً الحوادث التاريخية، ثم يشفعونها بما يقبل الانطباق عليها من الآيات الكريمة فيعدونها أسباب النزول، وربما أدى ذلك إلى تجزئة آية واحدة، أو آيات ذات سياق واحد، ثم نسبة كل جزء إلى تنزيل واحد مستقر وإن أوجب ذلك اختلال نظم   (1) انظر المرجع السابق ص 508-509. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الآيات وبطلان سياقها. وهذا أحد أسباب الوهن في نوع الروايات الواردة في أسباب النزول (1) . وما ذكره هذا المفسر الجعفرى يكاد ينطبق على جميع الآيات الكريمة التي استدلوا بها. ومن قبل قال الإمام أحمد بن حنبل: ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير والملاحم والمغازى (2) . ويروى " ليس لها أصل " أي إسناد، لأن الغالب عليه المراسيل. يرى الجعفرية أن الاعتقاد بإمامة الأئمة الاثنى عشر ركن من أركان الإيمان، والقرآن الكريم - تبيان كل شيء - كيف لا يبين هذا الركن بنصوص ظاهرة من آياته البينات. غلاة الجعفرية لم يكتفوا بالتأويلات الفاسدة، ووضع الروايات كأسباب للنزول، وإنما أقدموا على ما هو أشنع من هذا وأشد جرماً، ذلك أنهم قالوا بتحريف القرآن الكريم، وحذف اسم على منه في أكثر من موضع، وسيأتي لهذا مزيد بيان في بحث التفسير عندهم في الجزء الثانى من هذه الموسوعة، والذي جرفهم إلى هذه عقيدتهم في الإمامة، وجعلهم إياها ركناً من أركان الإيمان. *****   (1) الميزان 4/76-88. (2) مقدمة في أصول التفسير ص 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الفصل الثالث الإمامة في ضوء السنة أولا: خطبة الغدير والوصية بالكتاب والسنة أخبار الغدير تعتبر المستند الأول من السنة عند الجعفرية، فهم يرون أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند غدير خم، بعد منصرفه من حجة الوداع، بين للمسلمين أن وصيه وخليفته من بعده على بن أبى طالب، وذكرت من قبل أن كاتباً جعفرياً ألف كتاباً يقع في ستة عشر مجلداً ليثبت به صحة حديث وشهرته، وهذا الكتاب الذي أشرت إليه عنوانه " الغدير في الكتاب والسنة والأدب"! فالتأليف إذن كان من أجل واقعة الغدير، وإذا لم يثبت في القرآن الكريم شئ مما أراده المؤلف لم يبق إلا السنة، أما الأدب فلا حاجة لنا به في هذا المجال! وقبل النظر في كتب السنة الثمانية التي حددت في منهجى الرجوع إليها، وهى: الموطأ، والمسند والصحيحان، وكتب السنن الأربعة، نسترشد بما جاء في سيرة محمد بن إسحاق (1) التي جمعها ابن هشام. تحت عنوان موافاة على في قفوله من اليمن رسول الله في الحج ورد ما قاله ابن إسحاق عما أمر به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً من أمور الحج (2) . ثم ورد ما يأتي: "   (1) ولد في المدينة سنة 85 هـ، ثم خرج إلى العراق وأقام ببغداد حتى توفى. ووفاته محصورة بين سنة 150 وبين 153 هـ. قيل إنه كان يتشيع، ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة، أخرج له مسلم في المتابعات، واستشهد به البخاري في مواضع، وروى له أبو داود والترمذى والنسائى وابن ماجه. وقال الدارقطنى: اختلف الأئمة فيه وليس بحجة إنما يعتبر به. (انظر ترجمته في السيرة النبوية لابن هشام: مقدمة الناشرين ص 13: 17، وراجع ترجمته كذلك في تهذيب التهذيب) . وقال الذهبي في ميزان الاعتدال بعد أن ذكر ترجمته: فالذى يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث، صالح الحال صدوق. وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئاً. وقد احتج به الأئمة، والله أعلم. (2) السيرة النبوية 4/602. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 قال ابن اسحاق: وحدثنى يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى عمرة، عن يزيد بن طلحة بن ركانة، قال: لما أقبل على رضي الله عنه من اليمن ليلقى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستخلف على جنده الذي معه رجلاً من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع على رضي الله عنه. فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم، فإذا عليهم الحلل قال: ويلك؟ ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس. قال: ويلك! انزع قبل أن تنتهى به إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فانتزع الحلل من الناس، فردها في البز، قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم. قال ابن اسحاق: فحدثنى عبد الله بن عبد الرحمن معمر بن حزم، عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب وكانت عند أبى سعيد الخدري، قال: اشتكى الناس علياً رضوان الله عليه، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينا خطيباً، فسمعته يقول: أيها الناس، لا تشكوا عليا، فوالله إنه لأخشن في ذات الله، أو في سبيل الله، من أن يشكى. خطبة الرسول في حجة الوداع قال ابن اسحاق: ثم مضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حجه، فأرى الناس مناسكهم، وأعلمهم سنن حجهم، وخطب الناس خطبته التي بيَّن فيها ما بيَّن، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، اسمعوا قولى: فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا الموقف أبداً، أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من أئتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم، لا تظَلمون ولا تظُلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 مسترضعاً في بنى ليث، فقتلته هذيل فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية. أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم، أيها الناس: إن النسىء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب ... مضر (1) ، الذي بين جمادى وشعبان. أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن أن لايأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان (2) . لايملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولى، فإنى قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً، أمراً بيناً كتاب الله وسنة نبيه، أيها الناس اسمعوا قولى واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟ فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم اشهد (3) .   (1) ورجب مضر: إنما قال لأن ربيعة كانت تحرم رمضان، وتسميه رجباً، فبين عليه الصلاة والسلام أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وأنه الذي بين جمادى وشعبان. (2) عوان: جمع عانية وهى الأسيرة. (3) السيرة النبوية 4/603 -604. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وغير ما ذكره ابن اسحق من سبب تلك الشكوى، نجد سبباً آخر يذكر وهو أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث جيشاً، واستعمل عليهم على بن أبى طالب، فمضى في السرية فأصاب جارية، فأنكروا عليه، ونجد رواية أخرى أنه أصاب الجارية عندما كان على جيش وخالد بن الوليد على جيش آخر، فأرسل خالد للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبره لما فعله أبو الحسن. والروايات كلها تشير إلى أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دافع عن زوج الزهراء عليهما السلام، والأقوال مختلفة، وسنبين الصحيح منه إن شاء الله تعالى. وخطبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع التي ذكرها ابن اسحاق، نرى معناها مبثوثاً في كتب السنة، ففي صحيح البخاري نجد شيئاً منها في باب الخطبة أيام منى من كتاب الحج، وفى آخر الباب " فطفق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يقول: اللهم اشهد وودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع ". ونجد كثيراً منها في باب حجة النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كتاب الحج في صحيح مسلم. وهذه الحجة يرويها الإمام الصادق عن أبيه الباقر عن جابر رضي الله تعالى ... عنهم، كما أخرجها أيضاً غيرالإمام مسلم (1) . وقد بينت في الفصل السابق أنه في يوم عرفة من حجة الوداع نزل قوله تعالى " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " ومن قبله: " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ " ويرى الجعفرية أن استخلاف الإمام على كان يوم الغدير في الثامن عشر من ذى الحجة، وهنا يأتي تساؤل وهو: أفيمكن أن يترك ركن من أركان الإيمان لا يذكر، وقد أكمل الله تعالى دينه، وخطب رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وودع الناس في حجة الوداع؟   (1) انظر حجة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمحمد ناصر الدين الألبانى ص 40-45، ص 77-79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 أظن هذا مستبعداً، ولكن ليس مستحيلاً! ولم يَدُر جدل بين الجمهور والجعفرية حول معنى من معانى الخطبة كما ذكرها ابن إسحاق إلا في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بينا، كتاب الله وسنة نبيه ". فالجعفرية يرون أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالتمسك بالكتاب والعترة في خطبة الغدير، وأنه ترك الثقلين كتاب الله تعالى وأهل بيته. وليس معنى هذا أن الجعفرية يرون عدم طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليس بمسلم من يرى هذا، ولكنهم يرون أن الأئمة معصومون، وأقوالهم كأقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهى تعتبر عندهم من السنة، فلابد من الرجوع إليهم حتى لا تضل الأمة! وننظر في مفتاح كنوز السنة فنجده يذكر وصيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتاب الله وسنة رسوله عن عشرة مراجع منها: الصحيحان، والمسند، والترمذى، والنسائى، وابن ماجه (1) . وفى صحيح البخاري نجد " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة " ومما جاء في هذا الكتاب " وكانت الأئمة بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوا إلى غيره، اقتداء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفى الموطأ يروى الإمام مالك قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه " (2) .   (1) انظر مفتاح كنوز السنة – باب الميم فيما ذكره عن محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... . (2) كتاب النهى عن القول بالقدر، وهذا الحديث الشريف وصلة ابن عبد البر من حديث كثير ابن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده (انظر تنوير الحوالك 2/208) . * *وقال ابن عبد البر كذلك: مرسلات مالك كلها صحيحة مسندة (1/38) . وقال جلال الدين السيوطى: " ما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد ... فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شىء " (نفس المرجع 1/6) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ونجد في بعض هذه المراجع العشرة الوصية بكتاب الله تعالى دون ذكر السنة، من ذلك ما جاء في سنن الدارمى: حدثنا محمد بن يوسف، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف اليامى، قال: " سألت عبد الله بن أبى أوفى: أوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا، قلت: فكيف كتب على الناس الوصية، أو أمروا بالوصية؟ فقال: أوصى بكتاب الله ". (انظر كتاب الوصايا. باب من لم يوص ج 2 ص 290-291) وفى سنن النسائي رواية أخرى لهذا الحديث، وقال السيوطى في شرحه: " أوصى بكتاب الله أي بدينه، أو به وبنحوه ليشمل السنة ". (انظر كتاب الوصايا - باب هل أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ج6 ص 240) . وفى غير المراجع العشرة نجد مثلاً في كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك " باب في لزوم السنة " ويحتوى الباب على ثمانية أخبار. وفى المسند لأبى بكر عبد الله بن الزبير الحميدى حدث المصنف قال: ثنا سفيان قال: ثنا مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبى أوفى: " هل أوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: لم يترك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً يوصى فيه. قلت: وكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله ". (انظر المجلد الثانى - حديث رقم 722) . وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير، نجد رواية عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع فقال: " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتى، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ومما قاله المناوى في شرحه: إنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما، ولا هدى إلا منهما، والعصمة والنجاة لمن تمسك بهما. واعتصم بحبلهما، وهما الفرقان الواضح، والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما، والمبطل إذا خلاهما، فوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة متعين معلوم من الدين بالضرورة. (راجع الجزء الثالث ص 240-241، حديث رقم 3282 وشرحه، وانظر صحيح الجامع الصغير للشيخ ناصر الدين الألبانى جـ 2، حديث رقم 2934) . ولسنا في حاجة إلى أن نطيل الوقوف هنا، فلا خلاف بين المسلمين في وجوب التمسك والاعتصام بالقرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة. والخلاف حول شىء من السنة مرده إلى الخلاف حول الثبوت أو الدلالة، أما ما ثبت عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان واضح الدلالة، فلا خلاف حول الأخذ به ووجوب اتباعه، فقد نطق بهذا الكتاب المجيد في مثل قوله تعالى: " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا " (1) وقوله عز وجل: " مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ " (2) وقوله سبحانه وتعالى: " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (3)   (1) سورة الحشر – آية 7. (2) سورة النساء – آية 80. (3) سورة النساء – آية 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 إلى غير ذلك من آيات الله البينات التي بينت أن من لم يتمسك بسنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد ابتعد عن الإيمان. وضل ضلالاً بعيداً. من الواضح إذن أن عصمة الأمة وعدم ضلالها في التمسك بما أنزل الله تعالى في كتابه العزيز، وبما بينه جل شأنه على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة المطهرة، دون حاجة إلى الرجوع إلى أئمة الجعفرية، أو غيرهم من فرق الشيعة، ولكنا نجد روايات أخرى تذكر أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك الكتاب والعترة، وفى بعضها الأمر بالتمسك بهما حتى لا نضل. ثانيا: روايات التمسك بالكتاب والعترة من هذه الروايات ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم، وسبق ذكره عند الحديث عن آية التطهير، وفى تلك الروايات الحث على التمسك بكتاب الله تعالى، ثم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أذَّكركم الله في أهل بيتي "، وقول زيد: " إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده " وقال " هم آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس ". وهذه الروايات تحثنا معشر المسلمين على أن نرعى حقوق آل البيت، بيت نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنحبهم ونوقرهم وننزلهم منازلهم، فحبنا لرسولنا الأعظم يدفعنا لحبنا لآله الأطهار، وعلينا أن نصلهم، ورحم الله أبا بكر الصديق حيث قال: " والذى نفسى بيده لقرابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إلى أن أصل من قرابتى" (1) ، وقال " ارقبوا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل بيته " (2) .   (1) البخاري - كتاب المناقب - باب مناقب رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانظر كذلك الرواية رقم 55 بالجزء الأول من المسند، وسندها صحيح. (2) البخاري - كتاب المناقب - باب مناقب الحسن والحسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وبالطبع لا تدل هذه الروايات على وجوب الإمامة لآل البيت، ولا لأحد بعينه، فلا صلة بين التذكير بأهله والنص على خلافة بعضهم. وأما باقي الروايات فإنها جاءت في المسند، وفى سنن الترمذي. وروايات المسند هي: - 1. حدثنا عبد الله، حدثني أبى، حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا إسرائيل يعنى إسماعيل بن أبى إسحق الملائى، عن عطية، عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتى أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/14) . 2.حدثنا عبد الله، حدثني أبى، حدثنا أبو النضر، حدثنا محمد يعنى ابن طلحة، عن الأعمش، عن عطية العوفى، عن أبى سعيد الخدري، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... قال: " إنى أوشك أن أدعى فأجيب، وإنى تارك فيكم الثقلين، كتاب الله عز وجل، وعترتى، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتى أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، فانظرونى بم تخلفونى فيهما؟ " (3/17) . 3.حدثنا عبد الله، حدثنا أبى، ثنا ابن نمير، ثنا عبد الملك يعنى ابن أبى سليمان، عن عطية، عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتى أهل بيتي. ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/26) . 4.حدثنا عبد الله، حدثني أبى، ثنا ابن نمير، ثنا عبد الملك بن أبى سليمان، عن عطية العوفى، عن أبى سعيد الخدري قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدى: الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتى أهل بيتي. ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/59) . 5.حدثنا عبد الله، حدثني أبى، ثنا الأسود بن عامر، ثنا شريك، عن الركين، عن القاسم بن حسان، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى تارك فيكم خليفتين، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض - أو ما بين السماء إلى الأرض - وعترتى أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (5/181/182) . 6.حدثنا عبد الله، حدثني أبى، ثنا أحمد الزبيرى، ثنا شريك عن الركين، عن القاسم بن حسان، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى تارك فيكم خليفتين، كتاب الله وأهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض جميعاً " (5/189-190) . والترمذى أخرج روايتين هما (1) : - حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي، حدثنا زيد بن الحسن هو الأنماطى، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجه يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: " ياأيها الناس، قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدى، كتاب الله وعترتى أهل بيتي " (حسن غريب) . -حدثنا على بن المنذر كوفى، حدثنا محمد بن فضيل قال، حدثنا الأعمش، عن عطية، عن أبى سعيد، والأعمش عن حبيب بن أبى ثابت، عن زيد بن أرقم رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى تارك فيكم ما إن   (1) انظر مناقب أهل بيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أبواب المناقب من سننه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 تمسكتم به لن تضلوا بعدى، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتى أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفونى فيهما ". (حسن غريب) . مناقشة الروايات هذه هي روايات التمسك بالكتاب والعترة، وبالنظر فيها نجد ما يأتي: - عن أبى سعيد الخدري خمس روايات، الأربع الأولى من المسند، والثانية من سنن الترمذي، وهذه الروايات كلها يرويها عطية عن أبى سعيد. وعطية هو " عطية بن سعد بن جنادة العوفى " والإمام أحمد نفسه - صاحب المسند - تحدث عن عطية وعن روايته عن أبى سعيد فقال بأنه ضعيف الحديث، وأن الثوري وهشيما كانا يضعفان حديثه، وقال: بلغنى أن عطية كان يأتي الكلبى فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنيه بأبى سعيد فيقول: قال أبو سعيد فيوهم أن الخدري. وقال ابن حبان: سمع عطية من أبى سعيد الخدري أحاديث فلما مات جعل يجالس الكلبى، فإذا قال الكلبى: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، فيحفظه، وكناه أبا سعيد، وروى عنه، فإذا قيل له: من حدثك بهذا؟ فيقول: حدثني أبو سعيد، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري، وإنما أراد الكلبى، قال: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب. وقال البخاري في حديث رواه عطية: أحاديث الكوفيين هذه مناكير، وقال أيضاً: كان هشيم يتكلم فيه. وقد ضعفه النسائي أيضاً في الضعفاء، وكذلك أبو حاتم. ومع هذا كله وثقه ابن سعد فقال: " كان ثقه إن شاء الله، وله أحاديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 صالحة، ومن الناس من لا يحتج به ". وسئل يحيى بن معين: كيف حديث عطية؟ قال: صالح (1) وما ذكره ابن سعد وابن معين لا يثبت أمام ما ذكر من قبل. وقد يقُال هنا: إذا كان الإمام أحمد يرى ضعف حديث عطية فلماذا روى عنه؟ والجواب أن الإمام إنما روى في مسنده ما اشتهر، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم. ويدل على ذلك أن ابنه عبد الله قال: قلت لأبى: ما تقول في حديث ربعى بن خراش عن حذيفة؟ قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبى رواد؟ قلت: نعم، قال الأحاديث بخلافه، قلت: فقد ذكرته في المسند؟ قال: قصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي لن أرو من هذا المسند إلا الشئ اليسير. وقد طعن الإمام أحمد في أحاديث كثيرة من المسند، ورد كثيراً مما روى، ولم يقل به، ولم يجعله مذهباً له (2) . وعندما عد ابن الجوزي من الأحاديث الموضوعة أحاديث أخرحها الإمام أحمد في مسنده، وثار عليه من ثار، ألف ابن حجر العسقلانى كتابه " القول المسدد في الذب عن المسند "، فذكر الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي، ثم أجاب عنها، ومما قال: " الأحاديث التي ذكرها ليس فيها شئ من أحاديث الأحكام في الحلال والحرام، والتساهل في إيرادها مع ترك البيان بحالها شائع، وقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا: إذا روينا في الحلال والحرام شددنا. وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا. وهكذا حال هذه الأحاديث (3) . وما ذكره ابن حجر ينطبق على الأحاديث المروية في فضائل أهل البيت والتمسك بالعترة.   (1) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال. (2) انظر المسند تحقيق شاكر – طلائع الكتاب 1/75. (3) ص 11 من القول المسدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الرواية الثانية للترمذى رواها عن على بن المنذر الكوفي، عن محمد بن فضيل، ثم انقسم السند إلى طريقين: انتهى الأول إلى عطية عن أبى سعيد، والثانى إلى زيد بن أرقم، ولا يظهر هنا أي السندين هو الأصل. وإذا نظرنا إلى الروايات الأربع السابقة التي رواها عطية عن أبى سعيد نجد توافقاً تاماً في المعنى وفى كثير من اللفظ بينها وبين هذه الرواية، مما يرجح أن هذا الطريق هو الأصل، وهو المذكور أولاً في الإسناد، ومن قبل تحدثنا عما رواه الإمامان أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم بطرق متعددة وفى تلك الروايات ذكر قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " (1) . وهذا يتفق بعض الشئ مع رواية الترمذي، لكن بينهما اختلاف كبير يستوجب عدم الجمع، مما يجعلنا نطمئن إلى ضم رواية الترمذي إلى الروايات الأربع التي رواها عطية عن أبى سعيد، واستبعادها عن روايات زيد بن أرقم إلا في موضع الاتفاق. والذى جمع بين الطريقين في هذا الإسناد على بن المنذر الكوفي أو محمد بن فضيل، ولكن الثانى روى عنه مسلم في إحدى رواياته السابقة عن زيد بن أرقم، فيُستبعد الجمع عن طريقه. فلم يبق إلا على بن المنذر، وهو من شيعة الكوفة. قال ابن أبى حاتم: سمعت منه مع أبى، وهو صدوق ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن نمير: هو ثقة صدوق. وقال الدار قطنى: لا بأس به، وكذا قال مسلمة بن قاسم، وزاد: كان يتشبع.   (1) راجع صحيح مسلم – كتاب فضائل الصحابة – باب من من فضائل على بن ابى طالب رضي الله تعالى عنهم، والمسند 4/366-367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وقال الإسماعيلى: في القلب منه شىء لست أخيره. وقال ابن ماجه: سمعته يقول: حججت ثمانياً وخمسين حجة أكثرها راجلاً (1) . وما سمعه منه ابن ماجه يجعلنا نتردد كثيراً في الاحتجاج بقوله: فكيف يقطع آلاف الأميال للحج ثمانياً وخمسين مرة أكثرها راجلاً؟ ليس من المستبعد إذن أن يجمع راوٍ شيعي كهذا روايتين في مناقب أهل البيت تتفقان في شىء وتختلفان في شىء آخر، وهذا يجعلنا نزداد اطمئناناً إلى ما انتهينا إليه من جعل هذه الرواية مع الروايات الأخرى لعطية عن أبى سعيد، وفصلها عن روايات زيد بن أرقم. على أن هذه الرواية فيها ضعف آخر. وهو الانقطاع في موضعين، فالأعمش وحبيب بن أبى ثابت مدلسان. وهما يرويان بالعنعنة. فلم يثبت سماع كل منهما هنا. والأعمش وحبيب من الثقات. وثبت سماع الأعمش من حبيب، وسماع حبيب من زيد بن أرقم. إلا أن في هذه الرواية لم يثبت السماع، والأعمش فيه تشيع وهو كوفى، وحبيب كوفى أيضاً، وفى بيئة الكوفة يمكن أن تشيع مثل هذه الأحاديث دون دقة أو تمحيص. وحبيب نفسه قال لابن جعفر النحاس: إذا حدثني رجل عنك بحديث، ثم حدثت به عنك كنت صادقاً (2) . فحبيب كان صادقاً ليس بكاذب، إلا أنه أبان عن رأيه، فليس من الكذب عنه أن يسمع من راوٍ عن آخر، فيروى عن الآخر مباشرة بما لايفيد السماع منه.   (1) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب. (2) الأعمش هو سليمان بن مهران الأسدي الكاهلى، مولاهم أبو محمد الكوفي. انظر ترجمته وترجمة حبيب في تهذيب التهذيب. وميزان الاعتدال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وفى المستدرك روى الحاكم (1) هذا الحديث بما يفيد سماع الأعمش من حبيب. وهذا ما يحتاج إلى مراجعة الإسناد الذي ذكره، وما أكثر رجاله. غير أننا لسنا مضطرين إلى بذل هذا الجهد، فإن ثبت سماع الأعمش بقى أكثر من موطن ضعف. والحاكم ذكر الحديث بروايتين: - إحداهما في إسنادها الإمام أحمد بن حنبل، وسيأتي أنه هو نفسه ضعف الحديث كما ذكر ابن تيمية، والأخرى بين الذهبي وهَىْ إسنادها (2) } {) . القاسم بن حسان العامرى الكوفي روى الروايتين الخامسة والسادسة من المسند عن زيد بن ثابت، ورجح المرحوم الشيخ أحمد شاكر توثيقه وقال: " وثقة أحمد بن صالح، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وذكر البخاري في الكبير اسمه فقط، ولم يذكر عنه شيئاً، وترجمه ابن أبى حاتم في الجرح والتعديل فلم يذكر فيه جرحاً، ثم نقل عن المنذرى أن البخاري قال: القاسم بن   (1) هو عبد الله بن عبد الله الضبى النيسابورى. ولد سنة 321 هـ وجاوز الثمانين حيث توفى سنة 405 هـ. قال عنه ابن حجر في لسان الميزان: إمام صدوق ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك، فما أدرى هل خفيت عليه؟ فما هو ممن يجهل ذلك. وإن علم فهو خيانة عظيمة ثم هو شيعي مشهور بذلك من غير تعرض للشيخين. والحاكم أجل قدراً وأعظم خطراً وأكبر ذكراً من أن يذكر في الضعفاء. ولكن قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره. وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له، وقطع بترك الرواية عنهم، ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها. (2) انظر المستدرك 3/109 - 110. وهذا الحديث من الأحاديث التي أنكرها عليه أصحاب الحديث، ولم يلتفتوا إلى تصحيحه. ... (راجع ترجمته بشئ من التفصيل في التذكرة التي كتبت في صدر كتابه معرفة علوم الحديث للدكتور السيد معظم حسين) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 حسان سمع من زيد بن ثابت، وعن عمه عبد الرحمن بن حرملة، وروى عنه الركين بن الربيع، لم يصح حديثه في الكوفيين ". ثم عقب شاكر على هذا بقوله " والذى نقله المنذرى عن البخاري في شأن القاسم بن حسان لا ادرى من أين جاء به، فإنه لم يذكر في التاريخ الكبير إلا اسمه فقط كما قلنا، ثم لم يترجمه في الصغير، ولم يذكره في الضعفاء، وأخشى أن يكون المنذرى وهم فأخطأ، فنقل كلام ابن أبى حاتم بمعناه منسوباً للبخاري، وأنا أظن أن قول البخاري في عبد الرحمن بن حرملة " لا يصح حديثه " إنما مرده إلى أنه لم يعرف شيئاً عن القاسم بن حسان، فلم يصح عنده لذلك حديث عمه عبد الرحمن " (1) وفى توثيق القاسم بن حسلن نظر، فابن حبان ذكره أيضاً في أتباع التابعين ومقتضاه أنه لم يسمع من زيد بن ثابت، وقال ابن القطان: لايعرف حاله (2) . والبخاري ذكر اسمه فقط في التاريخ الكبير، وليس في هذا توثيق ولا تضعيف. وفى الجرح والتعديل حقيقة لم يذكر فيه جرحاً، ولكن لم يذكر فيه كذلك تعديلاً. وإذا كان الظن بأن البخاري ضعف عبد الرحمن بن حرملة من أجل القاسم، فمن باب أولى أن يدخل القاسم في الضعفاء، ويبقى هنا الإشكال وهو أن البخاري لم يذكره في الضعفاء، ولم يذكر فيه جرحاً في كتبه الأخرى المذكورة، فمن أين جاء المنذرى بما نقله عن البخاري؟ لعل المرحوم الشيخ شاكراً كان يتردد فيما كتب لو عرف أن البخاري له كتاب كبير في الضعفاء يقع في تسعة أجزاء، وهو مخطوط ولا يوجد منه نسخ   (1) انظر المسند ج 5 التعليق على الرواية 3605، وهذه غير روايات العترة. (2) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 في مصر، فلم لا يكون المنذرى نقل منه (1) ؟ وفاته كذلك أن يقرأ ترجمة القاسم في ميزان الاعتدال، فقد نقل الذهبي عن البخاري أن القاسم بن حسان حديثه منكر ولا يعرف (2) ، وهذا قول لا يحتمل الوهم. فلا شك أن المنذرى والذهبي قد رجعا لما لم يتيسر لنا الرجوع إليه، وأغلب الظن - إن لم يكن من المؤكد - أنهما نقلا عن كتاب الضعفاء الكبير للبخاري. لم يبق إذن إلا الرواية الأولى للترمذى، وفى سندها زيد بن الحسن الأنماطى الكوفي، الذي روى عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر بن عبد الله، قال أبو حاتم عن زيد هذا: كوفى قدم بغداد، منكر الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات (3) . وخطبة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع رواها مسلم بسند صحيح عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر، وليس فيها " وعترتى أهل بيتي " (4) ، وهذه الخطبة رويت عن جابر بطرق متعددة في مختلف كتب السنة، وليس فيها جميعاً ذكر لهذه الزيادة (5) .   (1) في الحديث عن أحد الرواة قال العلامة المرحوم أحمد شاكر: " نقل الحافظ في التهذيب أن البخاري ذكره في الضعفاء، ولم أجد فيه ". وهذا يؤيد أنه لم يسمع بكتاب الضعفاء الكبير للبخاري – انظر قوله في الحديث عن الرواية رقم 646 بالجزء الثانى من المسند. (2) يطلق البخاري " منكر الحديث " على من لا تحل الرواية عنه، أما عند غيره فمنكر الحديث في درجة ضعيف الحديث – انظر: قواعد في علوم الحديث للتهانوى ص 258، وانظر كذلك تدريب الراوى 1/349 وحاشية ص 347 وميزان الاعتدال 1/6. (3) نظر ترجمته في تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال. (4) راجع صحيح مسلم – كتاب الحج – باب حجة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (5) انظر حجة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما رواها جابر بن عبد الله ص 40-45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الاختلاف حول الحديث رأينا فيما سبق ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم، وهذا لا خلاف حول صحته. ورأينا الروايات الأخرى لهذا الحديث، وظهر ما بها من ضعف. وهنا ملحظ هام وهو أن الضعف أساساً جاء من موطن واحد وهو الكوفة. وهذا يذكرنا بقول الإمام البخاري في حديث رواه عطية: أحاديث الكوفيين هذه مناكير. ومن هنا ندرك لماذا اعتبر ابن الجوزي هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة، وإن كانت الروايات في جملتها كما يبدو لنا لا تجعل الحديث ينزل إلى درجة الموضوع. وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير ذكر الحديث من مسند الإمام أحمد، ومعجم الطبرانى رواية عن زيد بن ثابت، وصحح الحديث السيوطى والمناوى، وقال المناوى: " قال الهيثمى: رجاله موثقون، ورواه أيضاً أبو يعلى بسند لا بأس به، والحافظ عبد العزيز بن الأخضر وزاد أنه قال: في حجة الوداع، ووهم من زعم وضعه كابن الجوزي. قال السمهودى: وفى الباب ما يزيد على عشرين من الصحابة " ا. هـ. وتحدثنا من قبل عما رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت، وبينا ضعف الإسناد، وبالنظر فيما رواه الطبرانى نجد موطن الضعف نفسه. فهو من رواية القاسم بن حسان، فقول الهيثمى يعنى توثيق القاسم. وما ذكره عن حجة الوداع هنا بيناه من قبل. فالتصحيح إذن غير مقبول، غير أننا قد نوافق على عدم جعل الحديث من الموضوعات، ومع هذا فابن الجوزي قد يكون له ما يؤيد رأيه، فليس من المستبعد أن يكون الحديث كوفى النشأة، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك، ومن هنا يمكن أن ينسب إلى عشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بل إلى سبعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 غير أنه لو صح عن صحابى واحد لكفى إلا أن يكون ممن لا يستحق شرف الصحبة. ولعل من المهم هنا أن نذكر أن الإمام أحمد بن حنبل، وهو ممن أخرج الحديث، ذكر أنه ضعيف لا يصح، فهو إذن غير صحيح بالنسبة إلى أي من الصحابة الكرام. وشيخ الإسلام ابن تيمية رفض هذا الحديث وقال: " وقد سئل عنه أحمد ابن حنبل فضعفه، وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا: لا يصح " (1) . وفى عصرنا وجدنا العلامة المحقق الشيخ ناصر الدين الألبانى - رحمه الله - يذهب إلى تصحيح رواية التمسك بالكتاب والسنة التي أشرنا إليها من قبل، ويوافق السيوطى والمناوى هنا أيضاً فيصحح حديث الثقلين الذي يأمر بالتمسك بالكتاب والعترة، فيذكره في صحيح الجامع الصغير لا في ضعيفه (2) . وعندما سعدت بلقائه في زيارته الأخيرة لدولة قطر، دار نقاش حول هذا الحديث، وذكرت مواطن الضعف في الروايات التي جمعتها، فقال - زاده الله علماً وفضلاً - إن ضعف هذه الروايات لا يعنى ضعف الحديث، فقد يكون مروياً من طرق أخرى صحيحة لم تصل إليك (3) ، ثم أشار إلى كتابين أخرجا الحديث ولم يكونا من المصادر التي اعتمدت عليها قبل هذا البحث. أحدهما:   (1) منهاج السنة النبوية 4/105. (2) انظر صحيح الجامع الصغير 2/217- حديث رقم 2454. (3) كلام الشيخ صحيح، ولذلك فقد جمعت كل ما استطعت جمعه والنظر فيه من الروايات، وقد أرشدني إلى هذا المنهج، وساعدني في التطبيق منذ سنوات العلامة الثبت المحقق الأستاذ محمود شاكر - رحمه الله رحمة واسعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 معجم الطبرانى، فنظرنا فيه ووجدنا في الإسناد القاسم بن حسان، فالرواية إذن غير صحيحة. والثانى: مستدرك الحاكم وفيه ما يفيد سماع الأعمش من حبيب، ولكن يبقى أيضاً مواطن الضعف الأخرى (1) . ولم يتذكر لماذا صحح الحديث، ولم يتمكن من الرجوع إلى ما كتب نظراً لإبعاده عن داره ومكتبته، وبعد سفره قرأت ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، فلما أبلغ به طلب تصوير الصفحات. والشيخ الجليل في تصحيحه للحديث أشار إلى تخريج المشكاة، فرأيت الرجوع إليها عسى أن أقف على حجته في التصحيح. في الجزء الثالث في مشكاة المصابيح (ص 1735) جاءت روايتان للحديث هما رقم 6143، 6144. قرأت الروايتين والتخريج فكانت المفاجأة مذهلة. وأثبت هنا ما جاء في الكتاب بالنص: الرواية رقم 6143: عن جابر، قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: " ياأيها الناس: إنى تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي " (رواه الترمذي) . والرواية الأخرى نصها كما يلى: وعن زيد بن أرقم، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من   (1) راجع ما ذكرناه من قبل عن الحاكم ومستدركه، وعن روايتيه لهذا الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفونى فيهما ". (رواه الترمذي) . هاتان هما الروايتان، أما التخريج فهو كما يلى: الرواية الأولى: " وقال - أي الترمذي -: حديث حسن غريب. قلت - أي الألبانى -: وإسناده ضعيف " الرواية الثانية: " وقال: حديث حسن غريب قلت: وإسناده ضعيف أيضاً، لكنه شاهد للذى قبله ". هذا ما قرأته، ونقلته بنصه، والضعيف الذي يشهد للضعيف لا يرفعه لمرتبة الصحيح، بل قد لا يزيده إلا ضعفاً، فمن أين جاء تصحيح الشيخ إذن؟ وبعد لقائى بالشيخ الجليل تتبعت روايات الطبراني للحديث في المعجم الكبير، فوجدت خمس عشرة رواية: تسع منها عن زيد بن أرقم، وهى الرواية رقم 2681 بالجزء الثالث، وفى الجزء الخامس الروايات الثمانية وأرقامها: 4980، 4981، 4982، 5025، 5026، 5027، 5028، 5040 وعرفنا ما صح عن زيد بن أرقم، فلا حاجة للنظر في هذه الروايات. أما الروايات الستة الباقية فهى كما يلى: روايتان يرويهما عطية عن أبى سعيد، وهما رقم 2678، 2679 بالجزء الثالث. وروايتان يرويهما زيد بن الحسن الأنماطى، وهما رقم 2680، 2683، وهما بالجزء الثالث أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وروايتان يرويهما القاسم بن حسان، وهما رقم 4922، 4923، وهما بالجزء الخامس. ومن هذا التتبع نرى أن الضعف في هذه الروايات لا يخرج عما ذكرته من قبل في مناقشة روايات مسند الإمام أحمد، وسنن الترمذي، ويؤكد عدم استبعاد أن يكون الحديث كوفي النشأة، وأن يكون مصنوعاً في دار الضرب التي أشار إليها الإمام مالك. كما يزيدنا اطمئنانا إلى صحة المنهج الذي بدأت به، واكتفيت بالرجوع إلى الكتب السبعة والموطأ. فالرجوع إلى غير هذه الكتب لم يضف إلينا جديدا. فقه الحديث مما سبق نرى أن حديث الثقلين التي صح سندها صح متنها، وأن الروايات الثمانية التي تأمر بالتمسك بالعترة إلى جانب الكتاب الكريم لم تخل واحدة منها من ضعف في السند (1) ، وفى متن هذه الروايات نجد الإخبار بأن الكتاب وأهل البيت لن يفترقا حتى يردا الحوض على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن أجل هذا وجب التمسك بهما. ولكن الواقع يخالف هذا الإخبار، فمن المتشيعين لأهل البيت من ضل وأضل، وأكثر الفرق التي كادت للإسلام وأهله وجدت من التشيع لآل البيت ستاراً يحميها، ووجدت من المنتسبين لآل البيت من يشجعها لمصالح دنيوية، كأخذ خمس مايغنمه الأتباع، وفرق الشيعة التي زادت على السبعين كل فرقة ترى أنها على صواب، وأن غيرها قد ضل إن لم يكن قد كفر! ولسنا في حاجة إلى إثبات هذا القول، فالكتب التي تبحث في الفرق، وكتب الفرق ذاتها تبين هذا، والجعفرية   (1) ومع هذا الضعف جاء في كتاب المراجعات للموسوي بأنها متواترة! (ص 51) ونسب للشيخ سليم البشرى أنه تلقى هذا القول بالقبول! (ص 54) وأنه طلب المزيد، وذكر صاحب المراجعات روايات أخرى أشد ضعفاً، ونسب للشيخ البشرى أنه أعجب بها، ورآها حججاً ملزمة! (ص 55-61) وسيأتي الحديث مرة أخرى عن هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 مثلاً عندما يشترطون للإيمان عقيدتهم في الأئمة الاثنى عشر يخرجون الأمة كلها من الإيمان! وعقيدتهم هذه لا يسندها نص واحد من كتاب الله تعالى كما رأينا، فإذا أمرنا بالتمسك بأهل البيت فبمن نتمسك؟ أبكل من ينتسب لأهل البيت! وإن تركوا كتاب الله وسنة نبيه! بالطبع لا. إذن عدم الضلال يأتي من التمسك بالكتاب والسنة، وإذا تمسك أهل البيت بهما كان لهم فضل الانتساب مع فضل التمسك واستحقوا أن يكونوا أئمة هدى يقتدي بهم كما قال تعالى: - "وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا"أي أئمة نقتدى بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا (1) ، ولا يختص هذا بأهل البيت ولكن بكل من يعتصم بالكتاب والسنة. فالروايات التي ضعف سندها لا يستقيم متنها كذلك، وهذا ضعف آخر، ومع هذا كله فلو صحت هذه الروايات فإنها لا تدل على وجوب إمامة الأئمة الاثنى عشر وأحقيتهم للخلافة. وللننظر في فقه روايات الحديث الكوفية. قال العلامة المناوى في فيض القدير (3/14) : " إن ائتمرتم بأوامر كتابه، وانتهيتم بنواهيه، واهتديتم بهدى عترتى، واقتديتم بسيرتهم، اهتديتم فلم تضلوا. قال القرطبى: وهذه الوصية، وهذا التأكيد العظيم، يقتضى وجوب احترام أهله، وإبرازهم وتوقيرهم ومحبتهم، وجوب الفروض المؤكدة التي لاعذر لأحد في التخلف عنها ". ثم قال المناوى بعد هذا (3/15) : لن يفترقا: أي الكتاب والعترة، أي يستمرا متلازمين حتى يردا على الحوض: أي الكوثر يوم القيامة.   (1) راجع البخاري - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب الاقتداء بسنن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 زاد في رواية: كهاتين، وأشار بأصبعيه، وفى هذا مع قوله أولاً: " إنى تارك " تلويح بل تصريح بأنهما كتوأمين، خلفهما ووصى أمته بحسن معاملتهما، وإيثار حقهما على أنفسهما، واستمساك بهما في الدين، أما الكتاب فلأنه معدن العلوم الدينية، والأسرار والحكم الشرعية، وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق. وأما العترة فلأن العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين، فطيب العنصر يؤدى إلى حسن الأخلاق، ومحاسنها تؤدى إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته. قال الحكيم: " والمراد بعترته هنا العلماء العاملون إذ هم الذين لا يفارقون القرآن. أما نحو جاهل وعالم مخلط فأجنبي من هذا المقام، وإنما ينظر للأصل والعنصر عند التحلى بالفضائل، والتخلى عن الرذائل، فإن كان العلم النافع في غير عنصرهم لزمنا اتباعه كائناً ما كان، ولا يعارض حثه هنا على اتباع عترته حثه في خبر على اتباع قريش، لأن الحكم على فرد من أفراد العام بحكم العام لا يوجب قصر العام على ذلك الفرد على الأصح، بل فائدته مزيد الاهتمام بشأن ذلك الفرد، والتنويه يرفعه قدره. ثم قال الشريف: هذا الخبر يفهم منه وجود من يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمن إلى قيام الساعة حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك به، كما أن الكتاب كذلك، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض، فإن ذهبوا ذهب أهل الأرض " ا. هـ. وقال ابن تيمية بعد أن بيَّن أن الحديث ضعيف لا يصح: " وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة. قالوا: ونحن نقول بذلك كما ذكر ذلك القاضى أبو يعلى وغيره ". وقال أيضاً: " إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع، والعترة بعض الأمة، فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة ". بالنظر في هذه الأقوال، وبتدبر متن الحديث، نقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 يجب ألا يغيب عن الذهن المراد بأهل البيت، فكثير من الفرق التي رزئ بها الإسلام والمسلمون ادعت أنها هي التابعة لأهل البيت. أهل البيت الأطهار لا يجتمعوا على ضلالة، تلك حقيقة واقعة، ونلحظ هنا أنهم في تاريخ الإسلام لم يجتمعوا على شىء يخالف باقي الأمة، فالأخذ بإجماعهم أخذ بإجماع الأمة كما أشار ابن تيمية. إذا نظرنا إلى أهل البيت كأفراد يتأسى بهم، فمن يتأسى به منهم، ونتمسك بسيرته، لابد أن يكون متمسكاً بالكتاب والسنة، فإن خالفهما فليس بمستحق أن يكون من أهل البيت. وكل إنسان يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك فعند الخلاف نطبق قول الله: - " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ " (1) لو كان ما ذكره الشريف من الفقه اللازم للحديث لكان في هذا ما يكفى لرفض المتن، فالأيام أثبتت بطلانه، وإلا فمن الذي نؤمر باتباعه في عصرنا هذا على سبيل المثال؟ أبإحدى الفرق التي تنتسبب آل؟ أم بجميع الفرق وكل فرقة ترى ضلال غيرها أو كفره؟ أم بنسل آل البيت من غير الفرق؟ ! 5. فرق كبير بين التذكير بأهل البيت والتمسك بهم، فالعطف على الصغير، ورعاية اليتيم، والأخذ بيد الجاهل، غير الأخذ عن العالم العابد العامل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.   (1) النساء - الآية 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ثالثا: روايات أخرى متصلة بالغدير هناك روايات أخرى متصلة بالغدير منها في المسند عن الإمام على سبع روايات هي (1) : - حدثنا ابن نمير، حدثنا عبد الملك، عن أبى عبد الرحيم الكندى، عن زاذان أبى عمر قال: سمعت علياً في الرحبة وهو ينشد الناس: من شهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم غدير خم وهو يقول ما قال؟ فقام ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول: من كنت مولاه فعلى مولاه. حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا الربيع يعنى ابن أبى صالح الأسلمى، حدثني زياد بن أبى زياد: سمعت على بن أبى طالب ينشد الناس فقال: أنشد الله رجلاً مسلماً سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يوم غدير خم ما قال؟ فقام اثنا عشر بدرباً فشهدوا. قال عبد الله بن أحمد، حدثنا على بن الحكيم الأودى، أنبأنا شريك، عن أبى إسحق، عن سعيد بن وهب، عن زيد بن يثُيع قالا: نشد على الناس في الرحبة: من سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يوم غدير خم إلا قام؟ قال: فقام من قبل سعيد ستة، ومن قبل زيد ستة، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لعلى يوم غدير خم: أليس الله أولى بالمؤمنين؟ قالوا: بلى، قال: اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. قال عبد الله بن أحمد، حدثنا على بن حكيم، أنبأنا شريك، عن أبى إسحق، عن عمرو ذى مر، بمثل حديث أبى إسحق، يعنى عن سعيد وزيد، وزاد فيه: وانصر من نصره، واخذل من خذله.   (1) انظر الروايات وتخريج المرحوم شاكر لها في المسند ج 2، وأرقامها على التوالى 641، 670، 950، 951، 961، 964، 1310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 قال عبد الله بن أحمد: حدثني عبد الله بن عمر القوايرى، حدثنا يونس بن أرقم، حدثنا يزيد بن أبى زياد، عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: شهدت علياً في الرحبة ينشد الناس: أنشد الله من سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلى مولاه لما قام فشهد؟ قال عبد الرحمن: فقام اثنا عشر بدرياً، كانى أنظر إلى أحدهم، فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يوم غدير خم: ألست أولى بالمؤمنين من انفسهم وأزواجى أمهاتهم؟ فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: فمن كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. قال عبد الله بن أحمد: حدثنا أحمد بن عمر الوكيعى، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا الوليد بن عقبة بن نزار العنسى، حدثني سماك بن العبيد ابن الوليد العبسى قال: دخلت على عبد الرحمن بن أبى ليلى، فحدثنى أنه شهد علياً في الرحبة قال: أنشد الله رجلاً سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهده يوم غدير خم إلا قام، ولا يقوم إلا من قد رآه؟ فقام اثنا عشر رجلاً فقالوا: قد رأيناه وسمعناه حيث أخذ بيده يقول: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، فقام إلا ثلاثة لم يقوموا، فدعا عليهم، فأصابتهم دعوته. قال عبد الله بن أحمد: حدثني حجاج بن الشاعر، حدثنا شبابة، حدثني نعيم بن حكيم، حدثني أبو مريم ورجل من جلساء على عن على: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلى مولاه، قال: فزاد الناس بعد: وال من والاه، وعاد من عاداه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 مناقشة الروايات هذه هي الروايات السبع، والرواية الأولى سندها ضعيف، إلا أن متنها صحيح وهو: " من كنت مولاه فعلى مولاه "، والروايات الأخرى تؤيده، كما أنه روى بطرق مختلفة عن غير الإمام على، حتى عده بعض رجال الحديث من المتواتر أو المشهور (1) . وفى الروايتين الثالثة والخامسة نجد زيادة " اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ". وفى الرابعة " وانصر من نصره، واخذل من خذله " ولكن نجد في السابعة " فزاد الناس بعد: وال من والاه، وعاد من عاداه ". فهذه الرواية تنص على أن الزيادة ليست من قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والإشكال هنا أن هذه الروايات الأربع صحيحة السند، وفى المسند كذلك عن زيد بن أرقم عدة روايات في بعضها زيادة " اللهم وال من والاه، وعاد من ... عاداه "، وفى بعضها إنكار لهذه الزيادة (2) ، وهذا يجعلنا نتوقف فلا نستطيع الحكم بأن هذا قول النبي الكريم أو زيادة الناس بعد إلا بمزيد من البحث للترجيح.   (1) انظر كشف الخلفاء 2/274 , والرواية الساسة تتفق مع كثير من الروايات فيما عدا زيادة إنكار بعض الصحابة ودعاء الأمير عليهم، وهى ضعيفة السند بحمد الله تعالى، فاتفق هذا الضعف مع هذه الزيادة التي لم تأت في رواية صحيحة على الإطلاق، والتي لا تستقيم مع ماعرف عن الصحابة الكرام، فليس بمؤمن من يكتم شهادة حق، وهذه شهادة معروفة لا ضرر في إظهارها ولا خير في إنكارها، فلو كان هؤلاء ممن نافقوا لا من المؤمنين فلم يقدمون على هذا الكتمان؟ وأنى هذا إذا كان الجرم ينسب لأنس بن مالك وزيد بن أرقم وبراء بن عازب وغيرهم من أجلاء الصحابة! ثم أنى لمن تربى في بيت النبوة وتخلق بخلقها أن يدعو عليهم بدلاً من أن يدعو لهم! ولكن هذه الاتهامات لخير قرن ـ مع ضعفها ـ تعجب بعض الشيعة فيلتقطونها من أي مصدر لتأييدها وترويجها. (انظر مثلاً الغدير 1/191-195) . (2) انظر المسند ط الميمنية 4/368 - 373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 والمهم هنا دلالة المتن مع الزيادة أو بدونها، أيعتبر هذا نصاً في أن الخلافة يجب أن تكون للإمام على؟ سبق بيان أن الولى بمعنى المتولى للأمور والمستحق للتصرف فيها، وبمعنى الناصر والخليل، والقرآن الكريم عندما أمر بمولاة أقوام، أو نهى عن موالاة آخرين جاءت الموالاة بمعنى النصرة والمحبة، ولم تأت حالة واحدة بمعنى الولاية العامة على المؤمنين، وهذه الروايات تأمر بموالاة الإمام على ونصرته وتنهى عن معاداته وخذلانه، وهذا لا يخرج عن الاستعمال القرآنى كما هو واضح، فإذا كان النهى عن المعاداة والخذلان، فالأمر بالمحبة وهى الموالاة والنصرة، ولا مكان للخلافة هنا، ولو أرادها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكان التعبير بنص صريح لا يحتمل تأويلاً يخرجه عن معناه، ولكانت القرائن كذلك تؤيده. ومما يدل على أن المراد بالموالاة المحبة والنصرة لا الخلافة، أن الإمام نشد الناس في الكوفة بعد أن آلت الخلافة إليه، وأهل الكوفة - ومن ذهب معه إليها - بايعوه بلا خلاف، ولكن أكثرهم خذلوه ولم ينصروه كما هو معلوم مشهور (1) ولو كان المراد بالموالاة الخلافة لاحتج بهذا على الخلفاء الراشدين   (1) للإمام على خطب كثيرة تبين تخاذل هؤلاء الشيعة، يمكن الرجوع إليها في نهج ... البلاغة - وعندما أغار سفيان بن عوف بجنده على الأنبار، ثم انصرفوا وافرين، خطب الإمام خطبة منها: " فقبحاً لكم وترحاً حين صرتم غرضاً يرمى، يغار عليكم ولا تُغيرون، وتُغزَون ولا تَغزُون، ويعصى الله وترضون! فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الصيف قلتم: هذه حمارةّ القيظ، أمهلنا يُسَّبح عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر، أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فراراً من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر! يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لوددت أنى لم أركم ولم أعرفكم! معرفة والله جرت ندماً، وأعقبت سدماً، قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبى قيحاً، وشحنتم صدرى غيظاً، وجرعتمونى نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم على رأيى ... بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إن ابن أبى طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له* *بالحرب " (نهج البلاغة ص 53 -54) (ترحاً: هماً وحزناً أو فقراً - حمارة القيظ: شدة الحر - سبخ عنا الحر: خفف - صبارة الشتاء: شدة برده - القر بالضمة: البرد - ربات الحجال: النساء - السدم: الهم مع أسف أو غيظ - النغب: جمع نغبة كجرعة لفظاً ومعنى ... - التهمام: الهم - أنفاساً: أي جرعة بعد جرعة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 السابقين وعلى من بايعهم، وهذا لم يثبت على الإطلاق، ولم أجد في كتب السنة التي رجعت إليها رواية واحدة تذكر مثل هذا الاحتجاج. وفى الفصل الأول ذكرت ما رواه البخاري ومسلم عن بيعة أبى الحسن للصديق، وليس فيها ذكر لشىء عن الغدير، ولم ينكر الإمام على أحقية الصديق ولا فضله، وسر المسلمون بذلك الموقف وقالوا لعلى: أصبت وأحسنت، وكانوا إليه قريباً حين راجع المعروف، أي حين بايع، ولو نشد المسلمين هنا لشهد المئات ممن حضر الغدير، ومنهم من شهد بعد ذلك بالفعل في الكوفة، ولكنه بين سبب تأخره عن البيعة بقوله لأبى بكر: " إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك، ولكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصيباً ". وعند البيعة أمام المسلمين في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استغفر وتشهد، وعظم حق أبى بكر، وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبى بكر، ولا إنكاراً للذى فضله الله به، " ولكننا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً، فاستبد علنا، فوجدنا في أنفسنا ". فالإمام على قد وجد في نفسه لأنه لم يشرك في أمر الخلافة واستبد به غيره، وله ما يؤيد وجهة نظره، فأمر خطير كهذا لا يُقضى دون مشورة أبى الحسنين ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وزوج ابنته فاطمة الزهراء، إلى جانب فضله وسبقه وعلمه. وعذر أبى بكر وعمر وسائر الصحابة كان واضحاً - كما يقول النووى - لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة، ولهذا أخروا دفن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى عقدوا البيعة لأنها كانت أهم الأمور، كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 غسله، أو الصلاة عليه أو غير ذلك، وليس لهم من يفصل الأمور، فرأوا تقديم البيعة أهم الأشياء. فلو كانت الموالاة تعنى الخلافة لاحتج بها على الصديق ومن بايعه، ولما تمت البيعة أصلاً. والشكوى التي من أجلها دافع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أبى الحسن توضح أن المراد بالموالاه شىء آخر غير الخلافة، أو على أقل تقدير لا ترجح أن الخلافة هي المراد. وتبين الشكوى كذلك السبب في أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل هذا في خطبته الجامعة يوم عرفة في حجة الوداع، فلو كان المراد الخلافة لكان من الأرجح - إن لم يكن من المؤكد - أن يقال هذا في تلك الخطبة لا أن يقال بعد الشكوى (1) } {) . قال الآلوسى: "   (1) ذكر صاحب كتاب المراجعات أن الشيخ سليم البشرى لم يقتنع فقط بقول الجعفرية في تفسير كلمة المولى التي وردت في روايات الغدير، بل كتب يخاطبه (ص 220) : " لو كان المراد الناصر أو نحوها ما سأل سائل بعذاب واقع، فرأيكم في المولى ثابت مسلم! ". ولا أدرى أكان علامة زمانه شيخ الجامع الأزهر يجهل ما ذهب إلى جمهور المفسرين بلا خلاف من مكية سورة المعارج؟ لقد ذكرت من قبل ما ذهب إليه جمهور المفسرين، وموافقة الطوسي لهم، وهو شيخ طائفة الجعفرية، وكذلك إمام المفسرين عند الجعفرية، أكان شيخ الأزهر والمالكية جعفرياً أكثر من شيخ طائفتهم وإمام مفسريهم فاتخذ من السورة الكريمة ما يؤيد رأي صاحب المراجعات؟ أم أن هذا نُسب كذباً لشيخ الأزهر – ولم يطبع الكتاب إلا بعد وفاته – كدأب كثير من أصحاب الفرق عند البحث عن طريق يسلكونها لتأييد مذهبهم؟ وقد رأينا من قبل ما نسبه صاحب الغدير لشيخ المفسرين الطبري! وسبق في ص 137 ما نسب للشيخ البشرى، المسألة إذن تحتاج إلى نظر! وقد دعانى هذا إلى تأليف كتاب " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى " أثبت به يقيناً براءة الشيخ البشرى مما نسب له، وبينت بالأدلة ضلال عبد الحسين مؤلف المراجعات، بل كفره وزندقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ربما يستدل على أن المراد بالولاية المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدى، والظاهر حينئذ اجتماع الولايتين في زمان واحد. ولا يتصور الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية التصرف بخلاف ما إذا كان المراد المحبة " (1) . وإذا كان عدم التقييد بلفظ بعدى في جميع الروايات السابقة يؤيد ما ذهب إليه الآلوسى، فإنى وجدت روايات فيها التقييد، وربما يستدل بها على أن المراد بالولاية أولوية التصرف، ويحمل المطلق على المقيد حينئذ، وهذه الروايات نجدها في المسند وسنن الترمذي، ففيها أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن علياً منى وأنا منه، وهو ولى كل مؤمن بعدى" (2) وزاد الترمذي: " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من جعفر بن سليمان ". وجعفر هذا نجده في رواية الإمام أحمد كذلك، ثم انفرد برواية أخرى عن طريق غير جعفر وفيها: " وإنه منى وأنا منه، وهو وليكم بعدى " (3) . وجعفر بن سليمان من شيعة البصرة، وهو متكلَّم فيه: وثقة ابن معين وعباس وابن حبان والبزار. قال ابن سعد: كان ثقة وبه ضعف، وكان يتشيع. وقال أبو طالب عن أحمد: لا بأس به. قيل له: إن سليمان بن حرب يقول لا يكتب حديثه؟ فقال: إنما كان يتشيع، وكان يحدث بأحاديث في فضل على، وأهل البصرة يغلون في على. قلت عامة حديثة رقاق؟ قال: نعم، كان قد جمعها وكان يحيى بن سعيد لا يروى عنه، وكان يستضعفه. وكان عبد الرحمن بن مهدى يستثقل حديثه.   (1) تفسير الآلوسى 2/351. (2) المسند ط الميمنية 4/438، والترمذى – كتاب المناقب – باب مناقب على بن أبى طالب رضي الله عنه. (3) المسند 5 / 365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وقال البخاري: يقال كان أميّاً، وقال في الضعفاء، يخالف في بعض أحاديثه. وقال ابن المديني: هو ثقة عندنا، وقال أيضاً: أكثر عن ثابت، وبقية أحاديثه مناكير. وقال ابن شاهين في المختلف فيهم: إنما تكلم فيه لعلة المذهب، وما رأيت من طعن في حديثه إلا ابن عمار يقول: جعفر بن سليمان ضعيف. وبغير ترجيح لتوثيق جعفر بن سليمان أو تضعيفه يمكن القول بأن حديثاً ينفرد به ويتصل بمذهبه لا يرقى إلى مرتبة الاحتجاج. والرواية الأخرى للإمام أحمد نجد في سندها الأجلح الكندى (1) ، وهو من شيعة الكوفة، ومتكلَّم فيه أيضاً، وثقه ابن معين والعجلى وابن عدى، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة حديثة لين. وقال أحمد: روى الأجلح غير حديث منكر. وقال القطان: في نفسى منه شىء. وقال أيضاً: ما كان يفصل بين الحسين ابن على وعلى بن الحسين، يعنى أنه ما كان بالحافظ. وقال ابن حبان: كان لا يدرى ما يقول، جعل أبا سفيان أبا الزبير. وضعفه أبو داود والنسائى وأبو حاتم، وقال ابن سعيد: كان ضعيفاً جداً، بل وصمه الجوزجانى بالافتراء. إذن فهذه الرواية التي انفرد بها أحمد عن الأجلح لا يحتج بها، ولا توجد روايات فيها تقييد بلفظ بعدى، وبذا يظل ما ذكره الآلوسى صحيحاً.   (1) انظر ترجمة كل منهما في تهذيب التهذيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 رابعا: روايات أخرى يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم بعد هذا كله نقول: إن الروايات السابقة هي جميع ما يتصل بالغدير عمدة أدلة الشيعة، ومن عرضها ومناقشتها تبين لنا أنها لا تؤيد ما ذهب إليه الجعفرية من القول في الإمامة، وتوجد روايات أخرى يرى بعض الجعفرية أنها تؤيد مذهبهم، نعرض أهمها ونناقشها بشىء من الإيجاز. 1- خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بن أبى طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله تخلفنى في النساء والصبيان؟ فقال: " أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدى ". هذا الحديث الشريف رواه الشيخان وغيرهما (1) ، وهو بلا شك يدل على فضل الإمام كرم الله وجهه، وقد استخلف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المدينة آخرين (2) ، فهذا الاستخلاف ليس خاصاً بأبى الحسن، ومثل هذا الاستخلاف في حياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لايقتضى الخلافة في الأمة بعد مماته، ولو أراد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخلافة العظمى لقالها، فما يمنعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولقال ذلك للمسلمين، ووجب عليهم السمع والطاعة وإن ولى عليهم عبد حبشى مجدع الأطراف. وواضح من شكوى الإمام في جعله مع الخوالف من النساء والصبيان أن في قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترضية لنفسه وتهدئة   (1) راجع البخاري - كتاب المناقب - باب مناقب على بن أبى طالب- وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل على بن أبى طالب واللفظ لمسلم، والمسند ج 3 رواية رقم 1463 وتخريج الشيخ شاكر لها. (2) استخلف الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المدينة ابن أم مكتوم لما خرج لحرب بنى النضير، وفى غزوة الخندق، وعثمان بن عفان لما خرج لغزوة ذات الرقاع، وأبا لبابة بن عبد المنذر لما سار لغزوة بدر (انظر المنتقى ص 53، 212) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 لخواطره، فموسى استخلف هارون عليهما السلام عندما توجه إلى الطور، ولكن الجعفرية يرون أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أنزله منه منزلة هارون من موسى، ولم يستثن من جميع المنازل إلا النبوة، واستثناؤها دليل على العموم " (1) . وقولهم فيه نظر، فمثلاً كان هارون أخاً لموسى وأفصح منه لساناً، وهذا ينقض العموم، لأن هاتين المنزلتين لا تتحققان لعلى. بل إن التطابق لا يتحقق في الاستخلاف ذاته، فموسى استخلف أخاه على بنى إسرائيل وذهب هو للمناجاة، ولكن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استخلف ابن عمه على المدينةوليس فيها إلا من لم يخرج للقتال من النساء، والصبيان والعجزة، أما عامة المسلمين فكانوا الجيش الذي خرج للقتال مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أن " هارون لم يل أمر بنى إسرائيل بعد موسى عليهما السلام، وإنما ولى الأمر بعد موسى رضي الله عنه يوشع بن نون فتى موسى وصاحبها الذي سافر معه لطلب الخضر عليهما السلام، كما ولى الأمر بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة " (2) . 2- روى الإمام البخاري عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ... " يكون اثنى عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبى: إنه قال: كلهم من قريش (3) ". وروى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعته يقول: " إن هذا الأمر لا ينقضى حتى يمضى فيهم اثنا عشر خليفة، قال: ثم تكلم بكلام خفى على قال: فقلت لأبى ما قال؟ قال: كلهم من ... قريش ".   (1) المراجعات ص 152. (2) لفصل في الملل والأهواء والنحل ص 94، وانظر المنتقى حاشية ص 213. (3) كتاب الأحكام من صحيحه – باب الاستخلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وفى رواية أخرى " لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً " وفى إحدى الروايات كذلك " لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثنى عشر ... خليفة " (1) ، وفى رواية لأبى داود " كلهم تجتمع عليه الأمة " (2) . وتحديد الخلفاء باثنى عشر هو الذي جعل الاثنى عشرية يحتجون بهذه الروايات، ولكن من الواضح أن هذه الروايات تشير إلى المدة التي يظل فيها عزة الإسلام والدين، وصلاح حال المسلمين. وعلى قول الجعفرية تظل هذه العزة وهذا الصلاح إلى يوم القيامة كما يظهر من قولهم في الإمام الثانى عشر! وواقع الأمر ودلالة الروايات يدلان على غير هذا. ومن الواضح كذلك أن الأمة لم تجتمع على أئمة الجعفرية، بل لم يتولوا الخلافة أصلاً باستثناء الإمام على. 3- أخرج البخاري (3) عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: لما حضر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال: هلم أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدى. قال عمر: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله. واختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قوموا عنى. قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم. وعن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: يوم الخميس، وما يوم الخميس؟ اشتد برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعه فقال: إئتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً. فتنازعوا، ولاينبغى عند نبي تنازع، فقالوا: ماشأنه أهجر؟ استفهموه، فذهبوا يردون عليه فقال: دعونى فالذى أنا فيه خير مما تدعوننى إليه، وأوصاهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة، أو قال: فنسيتها (4) . وفى رواية للإمام أحمد (5) : حدثنا سفيان عن سليمان بن أبى مسلم خال ابن أبى نجيح، سمع سعيد جبير يقول: قال ابن عباس: يوم الخميس، وما يوم الخميس، ثم بكى حتى بل دمعه - الحصى، قلنا يا أبا العباس، وما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعه فقال: ائتونى أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً،   (1) راجع مسلم – كتب الإمارة – باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش. (2) راجع سنن أبى داود – كتاب المهدى. (3) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب كراهية الخلاف. (4) راجع صحيح البخاري - باب مرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووفاته. (5) المسند ج 3 رواية رقم 1935، وانظر تخريج الشيخ شاكر وشرحه لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فتنازعوا، ولا ينبغى عند نبي تنازع، فقالوا ما شأنه؟ أهجر؟ قال سفيان: يعنى هذى، استفهموه، فذهبوا يعيدون عليه، فقال: دعونى، فالذى أنا فيه خير مما تدعونى إليه، وأمر بثلاث، وقال سفيان مرة أوصى بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت سعيد عن الثالثة، فلا أدرى أسكت عنها عمداً، وقال مرة أو نسيها؟ وقال سفيان مرة: وإما أن يكون تركها أو نسيها. ووردت هذه الروايات كذلك في صحيح مسلم (1) .   (1) كتاب الوصية - باب ترك الوصية، وفى كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري - باب جوائز الوفد - جاءت رواية أخرى اختلفت النسخ في متنها (انظر طبعة مطابع الشعب سنة 1378 هـ) ففي إحدى النسخ أسند الهجر إلى الرسول الكريم بغير استفهام، ولكن في نسختين أخريين أثبتت همزة الاستفهام، ولعلهما هنا أصح، وهذا يتفق مع الروايات الأخرى، وفى صحيح مسلم كانت الروايات بلفظ " أهجر" ولكن رواية جاءت بلفظ " إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يهجر " هكذا بغير استفهام بل بأداة تأكيد! وصاحب فتح البارى تحدث عن المراد بقولهم ... " أهجر " فقال: المراد به هنا ما يقع من كلام المريض الذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم* ... *فائدته، ووقوع ذلك من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستحيل، لأنه معصوم في صحته ومرضه لقوله تعالى ... (3: النجم) {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} ، ولقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إنى لا أقول في الغضب والرضا إلا حقاً". وإذا عرف ذلك فإنما قاله من قاله منكراً على من توقف في امتثال أمره بإحضار الكتف والدواة، فكأنه قال: كيف تتوقف؟ أتظن أنه كغيره يقول الهذيان في مرضه؟ ويحتمل أن بعضهم قال ذلك عن شك عرض له، ولكن يبعده أن لا ينكره الباقون عليه من كونهم من كبار الصحابة ولو أنكروه عليه لنقل. ويحتمل أن يكون الذي قال ذلك صدر عن دهش وحيرة كما أصاب كثيراً منهم عند موته. ويحتمل أن يكون قائل ذلك أراد أنه اشتد وجعه فأطلق اللازم وأراد الملزوم، لأن الهذيان الذي يقع للمريض ينشأ من شدة وجعه. وقيل: قال ذلك لإرادة سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده، فكأنه قال: إن ذلك يؤذيه ويفضى في العادة إلى ما ذكره ". ثم قال: وأوصاهم بثلاث أي في تلك الحالة، وهذا يدل على أن الذي أراد أن يكتب لم يكن أمراً متحتماً، لأنه لو كان مما أمر بتبليغه لم يكن يتركه لوقوع اختلافهم، ويعاقب الله من حال بينه وبين تبليغه، ولبلغه لهم لفظاً كما أوصاهم بإخراج المشركين وغير ذلك وقد عاش بعد هذه المقالة أياماً، وحفظوا عنه أشياء لفظاً، فيحتمل أن يكون مجموعها ما أراد أن يكتبه والله أعلم. (انظر باب مرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووفاته) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ولا تبدو صلة بين هذه الروايات وبين الإمامة، ولكن الوصية الثالثة - التي نسيت أو تركت - كانت المدخل للجدال! ‍‍‍‍فوجدنا من الجعفرية من يقول بأن الصحابة " علموا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أراد توثيق العهد بالخلافة، وتأكيد النص بهذا علَى علىّ خاصة، وعلى الأئمة من عترته عامة، فصدوه عن ذلك كما اعترف به الخليفة الثانى في كلام دار بينه وبين ابن عباس، وأنت إذا تأملت في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... " ائتونى أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده "، وقوله في حديث الثقلين: " إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتى أهل بيتي "، تعلم أن المرمى في الحديثين واحد، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد في مرضه أن يكتب لهم تفصيل ما أوجبه عليهم في حديث الثقلين " - كتاب المراجعات ص 284، وفى ص 255 قال: " ومع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ذلك فقد أوصاهم عند موته بوصايا ثلاث: أن يولوا عليهم علياً، وأن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأن يجيزوا الوفد بنحو ما كان يجيزه، لكن السلطة والسياسة يومئذ ما أباحتا للمحدثين بوصيته الأولى، فزعموا أنهم نسوها ". ولسنا في حاجة إلى الحديث عن كبار الصحابة، رضوان الله عليهم. وعن تنزيههم عن مثل هذه المفتريات، ولكن يكفى أن نقول: بأن هذه الروايات ليست دليلاً قائماً بذاته وإنما يحتاج إلى أدلة أخرى لترجيح احتمالات الوصية الثالثة وما أريد كتابته، ولذلك احتج بحديث الثقلين للاستدلال، وهذا الحديث لم يصح له إسناد كما ثبت من قبل، والذى صح حديث التمسك بالكتاب والسنة، فلعله هو المراد من الوصية الثالثة. على أن ذلك من باب الترجيح لا الجزم (1) . واتهام المحدثين بأنهم زعموا النسيان خوفاً من السلطة وميلاً مع السياسية، وهم يعلمون أن الوصية خاصة بخلافة على، هذا الاتهام لو صح فإنه يوجه إلى سعيد بن جبير، ويكفى لرده أن يعرف تاريخ سعيد، وشجاعته أمام الحجاج، وأن نقرأ ما كتب عنه في كتب الجعفرية أنفسهم (2) .   (1) جاء في الموضع السابق من فتح البارى: " قال الداودى: الثالثة الوصية بالقرآن، وبه جزم ابن التين. وقال المهلب: بل هو تجهيز جيش أسامة، وقواه ابن بطال بأن الصحابة لما اختلفوا على أبى بكر في تنفيذ جيش أسامة قال لهم أبو بكر إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد بذلك عند موته. وقال عياض: يحتمل أن تكون هو قوله (ولا تتخذوا قبرى وثنا) فإنها ثبتت في الموطأ مقرونة بالأمر بإخراج اليهود. ويحتمل أن يكون ما وقع في حديث أنس أنها قوله: الصلاة وما ملكت أيمانكم. (2) انظر ما كتب عنه في الغدير 1/65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وإن تعجب فعجب قولهم بأن الفاروق اعترف بأن الكتاب أريد به توثيق العهد بالخلافة لعلى والأئمة من عترته، وأنه هو وكبار الصحابة صدوا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك! (1) {) . وسيأتي بعد قليل رواية الصحيحن عن عمر بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستخلف.   (1) قال ابن تيمية: " من توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة على فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة، وأما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبى بكر وتقديمه. وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون أنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفا، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب، وإن قيل: إن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى , وأيضاً فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك، فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له (أي للواجب) . فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ، إذ لو وجب لفعله (المنتقى ص 349-350) . وقال العقاد: " أما القول بأن عمر هو الذي حال بين النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتوصية باختيار على للخلافة بعده فهو قول من السخف بحيث يسىء إلى كل ذى شأن في هذه المسألة، ولا تقتصر مساءته على عمر ومن رأي في المسألة مثل رأيه. فالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدع بالكتاب الذي طلبه ليوصى بخلافة على أو خلافة غيره، لأن الوصية بالخلافة لا تحتاج إلى أكثر من كلمة تقال، أو إشارة كالإشارة التي فهم منها إيثار أبىبكر بالتقديم، وهى إشارته إليه أن يصلى بالناس، وقد عاش النبي بعد طلب الكتاب فلم يكرر طلبه، ولم يكن بين على وبين لقائه حائل، وكانت السيدة فاطمة زوج على عنده إلى أن فاضت نفسه الشريفة، فلو شاء لدعى به وعهد إليه. وفضلاً عن هذا السكوت الذي لا إكراه فيه، نرجع إلى سابقة من سنن النبي في تولية الولاة، فنرى أنه كان يجنب آله الولاية ويمنع وراثة الأنبياء، وهذه السنة مع هذا السكوت لا يدلان على أن محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد خلافة على فحيل بينه وبين الجهر بما أراد ". (عبقرية عمر ص 209-210) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 خامسا: روايات لها صلة بموضوع الإمامة مما سبق نرى أن السنة النبوية - كما روتها الكتب الثمانية وغيرها أيضاً مما رجعنا إليه - ليس فيها ما يؤيد عقيدة الشيعة الجعفرية في الإمامة، وفى هذه الكتب وردت روايات أخرى لها صلة بموضوع الإمامة نعرضها ونناقشها فيمتا يأتي: - من يؤمّر بعدك؟ 1- روى الإمام أحمد بسند صحيح (1) عن الإمام على رضي الله عنه أنه قال: " قيل: يا رسول الله: من يؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أميناً زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة، وإن تؤمروا عمر تجدوه قوياً أميناً لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليّاً، ولا أراكم فاعلين تجدوه هادياً مهدياً يأخذ بكم الطريق المستقيم ". وهذا الحديث الشريف يدل على أن الإمامة بالاختيار لا بالتعيين، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعين أحداً، وإنما جعل هذا للمسلمين، وذكر ثلاثة يصلحون لخلافته (2) . الاستخلاف 2- روى الشيخان بسندهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: " قيل لعمر: ألا تستخلف؟ قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى؛ أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير منى، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأثنوا عليه فقال: راغب راهب، وددت أنى نجوت منها كفافاً لا لي ولا على، لا أتحملها حياً وميتاً " (3) .   (1) انظر ج 2 - رواية رقم " 859" - وراجع بيان الشيخ شاكر لصحة الإسناد. (2) ذكر صاحب كتاب الغدير (1/12) الجزء الأخير فقط " وإن تؤمروا علياً " ولم يشر إلى الصاحبين، وبذلك يتغير مدلول الحديث ليتفق مع عقيدته! (3) راجع البخاري - كتاب الأحكام: باب الاستخلاف، ومسلم: كتاب الإمارة باب الاستخلاف وتركه، واللفظ للبخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وفى رواية أخرى لمسلم بسند آخر عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: " دخلت على حفصة فقالت: أعلمت أن أباك غير مستخلف؟ قال: فقلت: ما كان ليفعل. قالت: إنه فاعل. قال: فحلفت أنى أكلمه في ذلك، فسكت حتى غدوت ولم أكلمه، قال: فكنت كأنما أحمل بيمينى جبلاً حتى رجعت، فدخلت عليه، فسألنى عن حال الناس وأنا أخبره، قال: ثم قلت: إنى سمعت الناس ... يقولون فآليت أن أقولها لك، زعموا أنك غير مستخلف، وإنه لو كان لك راعى إبل أو راعى غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيع، فرعاية الناس أشد. قال: فوافقه قولى فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلىّ فقال: إن الله عز وجل يحفظ دينه، وإنى لئن لا أستخلف فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف. قال: فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر فعلمت أنه لم يكن ليعدل برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحداً، وأنه غير مستخلف" (1) . وروى أحمد بسند صحيح عن الإمام على رضي الله عنه أنه قال: " لتخضبن هذه من هذا، فما ينتظر بى الأشقى؟ قالوا: ياأمير المؤمنين، فأخبرنا به نبير عترته! قال: إذن تالله تقتلون بى غير قاتلى، قالوا: فاستخلف علينا، قال: لا ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته؟ قال: اللهم تركتنى فيهم ما بدا لك، ثم قبضتنى إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم ".   (1) انظر الموضع السابق من صحيح مسلم، وروى أبو داود عن ابن عمر أيضاً قال: قال عمر: إنى إن لا أستخلف، فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستخلف، وإن استخلف فإن أبا بكر قد استخلف، قال: فوالله إلا أن ذكر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر فعلمت أنه لا يعدل برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحداً، وأنه غير مستخلف. (انظر سنن أبى داود - كتاب الخراج والفىء والإمارة - باب في الخليفة يستخلف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وفى رواية بسند آخر أن الإمام قال: " والذى فلق الحبة وبرأ النسمة لتخضبن هذه من هذه، قال الناس: فأعلمنا من هو؟ والله لنبيرن عترته! قال: أنشدكم بالله أن يقتل غير قاتلى، قالوا: إن كنت قد علمت ذلك استخلف إذن. قال لا، ولكن أكلكم إلى ما وكلكم إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) . فهذه الروايات تدل على أن عمر وعلياً رضي الله عنهما لم يستخلفا أحداً تأسياً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهى تشترك مع الرواية الأولى في الدلالة على أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعين أحد لخلافته. ويؤيد هذا أيضاً ما أخرجه أحمد بسند صحيح عن قيس بن عباد قال: " كنا مع على فكان إذا شهد مشهداً أو أشرف على أكمة أو هبط وادياً قال: سبحان الله! صدق الله ورسوله، فقلت لرجل من بنى يشكر: انطلق بنا إلى أمير المؤمنين حتى نسأله عن قوله صدق الله ورسوله، قال: فانطلقنا إليه: فقلنا: يأأمير المؤمنين، رأيناك إذا شهدت مشهداً، أو هبطت وادياً، أو أشرفت على أكمة، قلت: صدق الله ورسوله، فهل عهد رسول الله إليك شيئاً في ذلك؟ قال: فأعرض عنا، وألححنا عليه، فلما رأي ذلك قال: والله ما عهد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهداً إلا شيئاً عهده إلى الناس، ولكن الناس وقعوا على عثمان فقتلوه، فكان غيرى فيه أسوأ حالاً وفعلاً منى، ثم إنى رأيت أنى أحقهم بهذا الأمر فوثبت عليه، فالله أعلم أصبنا أم أخطأنا (2) .   (1) انظر المسند ج 2 الروايتين 1078، 1339، وبالحاشية بيان الشيخ شاكر لصحة الإسناد. (2) انظر الرواية وصحة إسنادها بالمسند ج 2 رقم 1206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وكذلك يؤيد ما سبق ما رواه الشيخان وأحمد بأسانيد صحيحة أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات ولم يوص، وقد روى هذا عن ابن عباس، وعبد الله بن أبى أوفى، والسيدة عائشة (1) . يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر 3- روى البخاري بسنده عن السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلوات الله عليه قال: " لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه فأعهد، أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون " (2) . وروى مسلم عنها أيضاً أنها قالت: " قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه: ادعى لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإنى أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " (3) . وأخرج أحمد في مسنده هذا الحديث الشريف بسند صحيح كسند مسلم، وبسندين آخرين (4) .   (1) راجع صحيح البخاري - باب مرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووفاته، وكتاب التفسير: باب من قال لم يترك النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا ما بين الدفتين، وباب الوصاة بكتاب الله عز وجل - وراجع كذلك مسلم كتاب الوصية: باب ترك الوصية. والمسند حـ 5 روايات 3189، 3355، 3356. (2) البخاري - كتاب الأحكام - باب الاستخلاف. (3) مسلم كتاب الفضائل - باب من فضائل أبى بكر الصديق. (4) انظر المسند حـ 6 ص 47، 106، 144 وذكر استاذ الفلسفة الدكتور أحمد محمود صبحى الرواية الأخيرة لهذا الحديث الشريف، ولم يذكر مصادره بل اكتفى بنسبته لبعض أهل السنة، ثم قال " ولا شك أن الوضع ظاهر في هذا الحديث، وأنه أريد به معارضة حديث الشيعة في أمر كتاب النبي الذي ينسب إلى عمر* *أنه منعه، ولو صح كتاب النبي إلى أبى بكر لكان نصاً جلياً لأبى بكر، وهو ما لم يقل به جمهور المسلمين " ورجل الفلسفة أقحم نفسه هنا فيما لا يعرف، فحديث يرويه الشيخان والإمام أحمد بسند صحيح كيف يقال أنه موضوع بلا شك؟ ! ومن المتهم بالوضع إذن؟ والشيخان والإمام أحمد رووا الحديث الذي ظنه حديث الشيعة في أمر كتاب النبي وقال: بأن هذا وضع لمعارضته! ورواية البخاري تدل أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم ولكنه لم يرسل، فلا نصاً جلياً هنا لأبى بكر حتى يرفض الحديث لعدم صحة المتن. والمؤلف كذلك اعتبر حديث التمسك بالكتاب والعترة من الأحاديث المتفق على صحتها عند أهل السنة، مع أن رواياته لم تصح منها واحدة كما بينا من قبل. (انظر كتابه نظرية الإمامة ص 235-236) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وهذا الحديث الشريف يدل على أن الخلافة لو كانت بالنص لكانت لأبى بكر الصديق، فهو الأولى بها، وتم ما قاله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد أبى الله سبحانه والمؤمنون إلا أبا بكر. وأرى أن الرسول صلوات الله عليه قد مهد لخلافة الصديق بعدة أمور، منها: جعله أمير الحج في العام التاسع، ولما أرسل أبا الحسن بسورة براءة لم يرسله أميراً، بل جعله تحت إمرة الصديق. ومنها خطبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه، فقد أخرج البخاري بسنده عن أبى سعيد الخدري قال: خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ماعند الله. فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقلت في نفسى: ما يُبكى هذا الشيخ، إن يكن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ماعنده فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا. قال: يا أبا بكر لا تبك، إن أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتى لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر ". ‍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وأخرج البخاري أيضاً بسنده عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إنه ليس من الناس أحد أمن على في نفسه وماله من أبى بكر بن أبى قحافة، ولو كنت متخذاً من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عنى كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى ... بكر " (1) . وروى الخطبة كلُُّ من أحمد والترمذى بسند صحيح (2) . ومما مهد كذلك لخلافة الصديق أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤم المسلمين في الصلاة عندما اشتد المرض ولم يستطع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤمهم، واستمر المسلمون مأمومين خلف أبى بكر إلى أن انتقل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الرفيق الأعلى. وروى أحمد في مسنده بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود، وروى النسائي عنه أيضاً (3) قال: " لما ُقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر فقال: يا معشر الأنصار، ألستهم تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ". فإمامة الصلاة إذن مما مهد للإمامة الكبرى (4)   (1) راجع صحيح البخاري - كتاب الصلاة: باب الخوخة والممر في المسجد. (2) راجع المسند جـ 4 رواية رقم 2432. والترمذى: كتاب المناقب: باب مناقب أبى بكر الصديق. (3) انظر المسند ج 1 رواية رقم 133، وانظر كذلك ج 5 الروايتين 3765، 3842 وانظر سنن النسائي - كتاب الإمامة، واللفظ لأحمد. (4) ذكر سيدى عبد القادر الجيلانى -الذي ينتهى نسبه إلى الحسن بن على بن أبى طالب رضي الله عنهم - أن خلافة أبى بكر رضي الله عنه كانت باتفاق المهاجرين والأنصار وفيهم* *الإمام على، وذكر قول عمر في إمامة الصلاة التي رواها الإمام أحمد، ثم قال: " قيل في النقل الصحيح: لما بويع أبو بكر الصديق قام ثلاثاً يقبل على الناس يقول: ياأيها الناس أقلتكم بيعتى، هل من كاره؟ فيقوم على في أوائل الناس فيقول: لا نقيلك ولا نستقيلك أبداً، قدمك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن يؤخرك؟ وبلغنا عن الثقات أن علياً - رضي الله عنه - كان أشد الصحابة قولاً في إمامة أبى بكر رضي الله عنه. وروى أن عبد الله بن الكواء دخل على على بعد قتال الجمل وسأله: هل عهد إليك رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا الأمر شيئاً؟ فقال: نظرنا في أمرنا فإذا الصلاة عضد الإسلام، فرضينا لدنيانا بما رضي الله ورسوله لديننا، فولينا الأمر أبا بكر ". انظر الغنية 1/68، وراجع كذلك القول في عدم تأخر الإمام على عن المبايعة فيما نقلناه عن فتح البارى في حاشية ص 18 من فصل الإمامة عند الجمهور والفرق المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 {) . ومما مهد لهذه الإمامة كذلك ما رواه الشيخان بأسانيدهما عن جبير بن مطعم قال: أتت النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة فكلمته في شئ فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يا رسول الله، أرأيت إن جئت ولم أجدك كأنها تريد الموت، قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر (1) . المهدى 4- أخرج أحمد في مسنده عن الإمام على قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المهدى منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة ". وفى رواية أخرى " لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لبعث الله عز وجل رجلاً منا، يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً ". وفى المسند أيضاً عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تقوم الساعة حتى يلى رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمى ".   (1) انظر البخاري كتاب الأحكام: باب الاستخلاف، ومسلم كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل أبى بكر الصديق، واللفظ للبخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وفى رواية ثانية: " لا تذهب الدنيا أو قال: لا تنقضى الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي ويواطئ اسمه اسمى "، ووردت هذه الرواية بأسانيد ... أخرى (1) . وأحاديث المهدى لم يرد منها شىء في الصحيحين، ولكنها جاءت في المسند وكتب السنن، وكثر حولها الجدل. والذى يعنينا هنا هو أن الأحاديث منها صحيحة الأسانيد بما لايدع مجالاً لرفضها (2) ومع هذا فإنها لا تدل على أنه المهدى الذي قالت به " الجعفرية " وإنما هو رجل من أهل البيت يُبعث قبيل الساعة، وفى بعض الروايات أنه يحكم خمس سنين أو سبعاً أو تسعاً (3) .   (1) سئل أستاذنا العلامة المحقق محمود محمد شاكر عن المهدى قال: الحديث عن المهدى متصل بالمسيح والمسيح الدجال، فالثلاثة من علامات الساعة، وسيكونون في وقت واحد، ومن هنا يظهر خطأ من يجعل المهدى منفصلاً عن غيره. وسيكون المهدى حاكماً كسائر الحكام، ثم يهديه الله - سبحانه وتعالى - ويصلحه في ليلة. وأشار سيادته إلى خطأ الشيعة وأمثالهم، وخطأ المنكرين لأحاديث المهدى صحيحة. وفى صحيح مسلم قول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة. قال: فينزل عيسى بن مريم - عليه السلام - فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمه الله هذه الأمة ". وعقب الشيخ ناصر الدين الألبانى على كلمة " أميرهم " بقوله: " هو المهدى محمد بن عبد الله - عليه السلام - كما تظاهرت بذلك الأحاديث بأسانيد بعضها صحيح، وبعضها حسن، وقد خرجت شيئاً منها في (الأحاديث الضعيفة) ". انظر مختصر صحيح مسلم - حديث رقم 2061. (2) انظر روايات المسند وتخريجها: جـ 2، جـ 5، جـ 6،: روايات 645، 773، 3571، 3572، 3573، 4098، 4279. (3) انظر الترمذي - كتاب الفتن: باب ما جاء في المهدى، وفى سنن ابن ماجة " يكون في أمتى المهدى، إن قصر فسبع، وإلا فتسع ". (كتاب الفتن - باب خروج المهدى، وانظر سنن أبى داود - كتاب المهدى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فلابد من أحاديث أخرى تبين أنه الإمام الثانى عشر المعين بالنص، الذي بقى من القرن الثالث الهجرى إلى قيام الساعة (1) ! وهاذا ما لم نجده في كتب الحديث الثمانية التي التزمنا الرجوع إليها، ولا في غيرها من الكتب التي رجعنا إليها، بل وجدنا أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعين أحداً للخلافة من بعده كما ذكرنا من قبل، والإمام الثانى عشر الذي قالت به الجعفرية تبع لقولهم في باقي الأئمة. ووجدنا كذلك في بعض الأحاديث ما ينقض قول الجعفرية، ففيها " يؤاطئ اسمه اسمى واسم أبيه اسم أبى ". وفيها أن علياً نظر إلى ابنه الحسن رضي الله عنهما فقال: إن ابنى هذا سيد كما سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشبهه في الُخلق ولا يشبهه في الخْلق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .... يملأ الأرض عدلاً (2) وبعد: فتلك سنة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشهد بصحة ما ذهب إليه جمهور المسلمين، وتشهد بأن الإمامة ما كانت بنص ولا تعيين. فالحمد لله عز وجل الذي هدانا ... لهذا، وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله.   (1) ذهبت فرقة الشيخية - التي خرجت على الجعفرية - إلى أن المهدى سيوجد بالولادة مما أثار غضب الاثنى عشرية. (انظر المهدية في الإسلام ص 241) . (2) فالمهدى إذن اسمه محمد بن عبد الله وليس محمد بن الحسن، وينتهى نسبه إلى الحسن لا إلى الحسين رضي الله عنهما. (انظر عون المعبود شرح سنن أبى داود - كتاب المهدى 11 / 370، 371، 381، 382) وفى التفسير الكاشف للعالم الجعفرى محمد جواد مغنية أشار إلى المهدى وأحاديثه وقال: وفى هذا المعنى أحاديث كثيرة وصحيحة، منها ما رواه أبو داود في كتاب السنن - وهو أحد الصحاح السته: " قال رسول الله: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمى واسم أبيه اسم أبى " ... (5/302) . ولا ندرى لم ذكر هذا الحديث الشريف واعترف بصحته مع أنه يخالف عقيدته! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الفصل الرابع الاستدلال بالتحريف والوضع رأينا في الفصول السابقة أن عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية لا تستند إلى شيء من القرآن الكريم، واستدلالاتهم تبنى على روايات متصلة بأسباب النزول، وتأويلات انفردوا بها، ولم يصح شيء من هذا ولا ذاك بما يمكن أن يكون دليلا يؤيد مذهبهم. كما رأينا أن السنة النبوية المطهرة لا تؤيد هذه العقيدة الباطلة، بل تعارضها، وتثبت بطلانها بكثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة. والإسلام ـ عقيدة وشريعة ـ إنما يستمد من الكتاب العزيز والسنة المشرفة. وكان إذن يمكن الاكتفاء بما سبق والانتقال إلى موضوع آخر، غير أننى رأيت أن كتبهم التي يحاولون بها إفساد المجتمع المسلم، ونشر هذه العقيدة الباطلة، رأيت هذه الكتب لا تكتفي بما سبق مما ناقشناه من الأدلة، بل تلجأ إلى تحريف القرآن الكريم نصا ومعنى، وجمع الروايات المختلفة للأحاديث الموضوعة والباطلة، وتقدم كل هذا على أنه أدلة ثابتة أو يقينية متواترة تؤيد عقيدتهم. وغير أهل الاختصاص، وهم الكثرة، بل عامة الناس، لا يستطيعون أن يميزوا بين الروايات الصحيحة وغير الصحيحة. ولذلك كان من المناسب كشف هذا التضليل وبيان هذا الباطل. ومن الكتب القديمة التي حاولت إفساد المجتمع المسلم آنذاك كتاب " منهاج الكرامة في معرفة الإمامة " لابن المطهر الحلي وقد رد عليه بالتفصيل ممن عاصره شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابه القيم الفذ " منهاج السنة النبوية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وفى عصرنا وجدنا كتابا طبع منه ملايين النسخ، أو مئات الآلاف على أقل تقدير، حاول مؤلفه أيضا أن يفسد المجتمع المسلم المعاصر، وأن يشككه في عقيدته الصحيحة، ويزين له باطل هذا الرافضي، وهذا الكتاب المشهور هو كتاب المراجعات لعبد الحسين شرف الدين الموسوي، وقد رددت عليه بكتابي" المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى ". وفى هذا الفصل أتناول شيئا من كتابى الرافضيين، والرد عليهما، وبيان بعض ما جاء فيهما من الباطل والضلال، كما نبين منهج الرافضة في التضليل، والله عز وجل هو المستعان. تحريف القرآن الكريم للاستدلال بالقرآن الكريم على عقيدة الرافضة، سلكوا كغيرهم من الفرق الضالة مسلك التحريف في النص والمعنى، وسنرى هذا بوضوح وجلاء عند دراستنا لكتب تفسيرهم، وبيان موقفهم من القرآن الكريم، وكذلك عند عرضنا لكتابهم الأول ـ والأعلى عندهم ـ في الحديث، وهو كتاب الكافى، وذلك أثناء عرض الأبواب والأخبار المتصلة بالقرآن المجيد. وعبد الحسين في كتابه نرى المراجعة الثانية عشرة تدور حول ما أسماه ... " حجج الكتاب "، وذكر فيها كثيرا من الآيات الكريمة، وحرف معناها حتى بدا القرآن الكريم كأي كتاب من كتب الفرق الضالة وليس " ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ"، " وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ " فعلى سبيل المثال جاء في هذه المراجعة أن الرافضة هم مراد الله تعالى فيمن ذكر أنهم أصحاب الجنة، والمتقون، وخير البرية، ... إلى آخره، أما خير أمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أخرجت للناس من الصحابة الكرام الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه، فهؤلاء في زعم خليفة ابن سبأ هم أصحاب النار، والفجار، والكفار، وكذلك خير البشر بعد رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وهم أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، حيث خصهما بمزيد من الطعن؛ فهما في زعمه الجبت والطاغوت وأئمة الضلال. وهكذا يستمر هذا الرافضي اللعين في زندقته وضلاله مما يوجب إقامة الحد عليه. وما ذكره هذا الرافضي يردده غلاة الرافضة في كتبهم واستدلالاتهم. ومعظم ما ذكره هنا سبقه إليه ابن المطهر الحلى، حيث جاء بأربعين آية كريمة، وحرف معناها لتتفق مع ضلاله. وقد أثبتها كاملة شيخ الإسلام وأجاب ... عنها، وفصل بطلان الاستدلال بها في الجزء السابع من منهاج السنة (من بدايته إلى ص 297) ولولا الإطالة لنقلت تلك الصفحات، ففيها إقناع وإمتاع، وفضح للغلاة الرافضة. وسأكتفى هنا بذكر جزء جاء في بداية الرد على البرهان الأول، وهو نفسه الدليل الأول الذي ذكرته في الفصل الثانى من هذا الباب، وهو ما يتعلق بقوله تعالى ... " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ ... رَاكِعُونَ " (55: المائدة) بعد ذكر كلام الرافضي قال شيخ الإسلام: والجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا، بل كل ما ذكره كذب وباطل، من جنس السفسطة، وهو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة؛ فإن البرهان في القرآن وغيره يطلق على ما يفيد العلم واليقين، كقوله تعالى: " وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " (سورة البقرة: 111) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وقال تعالى: " أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ " (سورة النمل: 64) . فالصادق لابد له من برهان على صدقه، والصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم. وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب، فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة، فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل. وسنبين إن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها، فتسمية هذه براهين من أقبح الكذب. ثم إنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس، مع أنه قد يكون كذبا عليه، وإن كان صدقا فقد خالفه أكثر الناس. فإن كان قول الواحد الذي لم يُعلم صدقه، وقد خالفه الأكثرون برهانا، فإنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله فتتعارض البراهين فتتناقض، والبراهين لا تتناقض. بل سنبين إن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين، وأن الكذب في عامتها كذب ظاهر، لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه، وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق، وأن القرآن حق، وأن دين الإسلام حق ـ تناقض ما ذكره من البراهين، فإن غاية ما يدّعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب، وتأمل لوازمه وجده يقدح في الإيمان والقرآن والرسول. وهذا لأن أصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين، مقصودهم الطعن في القرآن والرسول ودين الإسلام، فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام، وروجوها على أقوام، فمنهم من كان صاحب هوى وجهل، فقبلها لهواه، ولم ينظر في حقيقتها. ومنهم من كان له نظر فتدبرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فوجدها تقدح في حق الإسلام، فقال بموجبها، وقدح بها في دين الإسلام، إما لفساد اعتقاده في الدين، وإما لاعتقاده أن هذه صحيحة وقدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام. ولهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب؛ فإن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلَّطوا به على الطعن في الإسلام، وصارت شبها عند من لم يعلم أنها كذب، وكان عنده خبرة بحقيقة الإسلام. وضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية والنصيرية، وغيرهم من الزنادقة الملاحدة المنافقين، وكان مبدأ ضلالهم تصديق الرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن والحديث، كأئمة العُبيْديين إنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة، ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضُلاَّل، ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة، إلى القدح في علىّ، ثم في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم في الإلهية، كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر، والناموس الأعظم. ولهذا كان الرفض أعظم باب ودهليز إلى الكفر والإلحاد. ثم نقول: ثانيا: الجواب عن هذه الآية حق من وجوه: الأول: أنا نطالبه بصحة هذا النقل، أو لا ُيذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة؛ فإن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبى، أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات، الصادقين في نقلها، ليس بحجة باتفاق أهل العلم، إن لم نعرف ثبوت إسناده. وكذلك إذا روى فضيلة لأبى بكر وعمر، لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم. فالجمهور ـ أهل السنة ـ لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته: لا حكما، ولا فضيلة، ولا غير ذلك. وكذلك الشيعة. وإذا كان هذا بمجرده ليس بحجة باتفاق الطوائف كلها، بطل الاحتجاج به. وهكذا القول في كل ما نقله وعزاه إلى أبى نُعيم أو الثعلبى أو النقاش أو ابن المغازلى ونحوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الثانى: قوله: " قد أجمعوا أنها نزلت في علىّ " من أعظم الدعاوى الكاذبة، بل أجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علىّ بخصوصه، وأن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة، وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع. وأما ما نقله من تفسير الثعلبى، فقد أجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبى يروى طائفة من الأحاديث الموضوعات، كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبى أمامة في فضل تلك السورة، وكأمثال ذلك. ولهذا يقولون: " هو كحاطب ليل ". وهكذا الواحدى تلميذه، وأمثالهما من المفسرين: ينقلون الصحيح والضعيف. ولهذا لما كان البغوى عالما بالحديث، أعلم به من الثعلبى والواحدى، وكان تفسيره مختصر تفسير الثعلبى، لم يذكر في تفسيره شيئا من هذه الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبى، ولا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبى، مع أن الثعلبى فيه خير ودين، لكنه لا خبرة له بالصحيح والسقيم من الأحاديث، ولا يمّيز بين السنة والبدعة في كثير من الأقوال. وأما أهل العلم الكبار: أهل التفسير، مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وبقىّ بن مخلد، وابن أبى حاتم، وابن المنذر، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، وأمثالهم ـ فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات. دع من هو أعلم منهم، مثل تفسير أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. بل ولا ُيذكر مثل هذا عند ابن حُميد ولا عبد الرزاق، مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع، ويروى كثيرا من فضائل علىّ، وإن كانت ضعيفة، لكنه أجل قدرا من أن يروى مثل هذا الكذب الظاهر. وقد أجمع أهل العلم بالحديث على أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد، من جنس الثعلبى والنقَّاش والواحدى، وأمثال هؤلاء المفسرين، لكثرة ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 يروونه من الحديث ويكون ضعيفا، بل موضوعا. فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى، لم يجز أن نعتمد عليه، لكون الثعلبى وأمثاله رووه، فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يبيّن كذبه عقلا ونقلا، وإنما المقصود هنا بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله، حيث قال: " قد أجمعوا أنها نزلت في علىّ " فيا ليت شعرى من نقل هذا الإجماع من أهل العلم العالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور؟ فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يُقبل من غير أهل العلم بالمنقولات، وما فيها من إجماع واختلاف. فالمتكلم والمفسّر والمؤرخ ونحوهم، لو ادّعى أحدهم نقلا مجرداً بلا إسناد ثابت لم يُعتمد عليه، فكيف إذا ادّعى إجماعا؟ ! الوجه الثالث: أن يقال: هؤلاء المفسرون الذين نقَلَ من كتبهم، هم ـ ومن هم أعلم منهم ـ قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدَّعَى، والثعلبى قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول: نزلت في أبى بكر. ونقل عن عبد الملك: قال: سألت أبا جعفر، قال: هم المؤمنون. قلت: فإن ناسا يقولون: هو علىّ. قال: فعلىُّ من الذين آمنوا. وعن الضحاك مثله. وروى ابن أبى حاتم في تفسيره عن أبيه قال: حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثنا معاوية بن صالح، حدثنا علىّ بن أبى طلحة، عن ابن عباس في هذه، قال: " كل من آمن فقد تولَّى الله ورسوله والذين آمنوا ". قال: وحدثنا أبو سعيد الأشجّ عن المحاربىّ، عن عبد الملك بن أبى سليمان، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علىّ عن هذه الآية، فقال: " هم الذين آمنوا ". قلت: نزلت في علىّ؟ قال: علىّ من الذين آمنوا. وعن السدى مثله. الوجه الرابع: أنّا نعفيه من الإجماع، ونطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح. وهذا الإسناد الذي ذكره الثعلبى إسناده ضعيف، فيه رجال متهمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وأما نقل ابن المغازلى الواسطى فأضعف وأضعف، فإن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب عَلىَ من له أدنى معرفه بالحديث، والمطالبة بإسناد يتناول هذا وهذا. واستمر شيخ الإسلام إلى أن ذكر تسعة عشر وجها. والملاحظ أن ابن المطهر كان أكثر ترتيبا وتنظيما من خلفه رافضى المراجعات، وأنه كان ضالا غاليا رافضيا خبيثا، ومع هذا كله كان أقل فحشا وسوءا من عبد الحسين. والملاحظ أيضا أن عبد الحسين ذكر المراجع التي رجع إليها ابن المطهر، غير أنه أضاف إليها مراجع أخرى، فأكثر من النقل من الصواعق المحرقة، وسيأتي الحديث عنه لفضح منهج هذا الرافضي في نقله من الكتب، كما نقل من مراجع تحتاج إلى وقفة خاصة. من هذه المراجع صحيح البخاري! ومن المسلم به بين جمهور الأمة أنه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، فكيف يستدل به هذا الرافضي؟ ! وما عهدناه يستدل بغير الموضوع والباطل. فلننظر ماذا أخذ من صحيح البخاري. قال الرافضي: وقال ـ أي الله عز وجل فيهم وفى خصومهم: " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ" (19: الحج) وقال في الحاشية: أخرج البخاري في تفسير سورة الحج بالإسناد إلى علي قال: أنا أول من يجثو بين يدى الرحمن للخصومة يوم القيامة. (قال البخاري) : قال قيس: وفيهم نزلت: " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ "، قال: هم الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 بارزوا يوم بدر: على وصاحباه حمزة وعبيدة، وشيبة بن ربيعة وصاحباه عتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. قلت: نزول هذه الآية الكريمة في الذين بارزوا يوم بدر من المسلمين وكفار قريش أخرجه الإمام البخاري في التفسير وفى المغازي من صحيحه، كما أخرجه غيره. والاختصام هنا واضح أنه بين المسلمين وغيرهم وهم الكفار، وبينت الآية الكريمة جزاء الذين كفروا، وما سيلقونه في جهنم. ومن المعلوم أن الذين خرجوا للمبارزة أولا كانوا من الأنصار، فرفض المشركون، فخرج هؤلاء الثلاثة الكرام. وكان خلفهم جيش المسلمين بقيادة الرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعه أبو بكر الصديق في العريش، وهو مركز القيادة، وليس معه غيره. وممن شهد بدرا عمر وعثمان (1) رضي الله عنهم جميعا. والرافضى جعل هذه المراجعة لحجج الكتاب التي تثبت ما عليه الرافضة من القول بإمامة على ومن بعده، وتبطل ما عليه جمهور المسلمين من مبايعة أبى بكر بالخلافة، ومن بعده من الخلفاء الراشدين. وهذا يعنى أن الرافضي ـ لعنة الله عليه ـ جعل الرافضة وحدهم هم المسلمين، وجعل الخلفاء الراشدين الثلاثة ومن بايعوهم هم الذين كفروا، وقطعت لهم ثياب من نار. أي أن الآية الكريمة ـ بحسب فريته ـ لم تجعل الاختصام بين المسلمين وكفار قريش، وإنما في أهل بدر أنفسهم ممن كانوا مع رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وأولهم من كان معه في العريش حيث كان أول الخلفاء الراشدين بعد ذلك. فالرافضى أخذ الخبر الصحيح من البخاري، ثم وضع أهل بدر ـ رضي الله عنهم ورضوا عنه ـ بدلا من كفار قريش! ! انظر كيف يفترى على الكذب! ... (   (1) تخلف عثمان على امرأته رقية بنت رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ، وكانت مريضة، فتوفيت وجاءت البشرى بالفتح حين دفنت، فضرب له رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بسهمه من الغنيمة، وبأجره من المشهد، فهو بدرى ـ جوامع السيرة النبوية لابن حزم ص 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ومع كل هذا الكفر والفجور فسينسب للإمام البشرى إعجابه بحججه، واتهامه لمن خالف هذا الرافضي! ولذلك أثبت يقينا أن المراجعات المنسوبة لشيخ الأزهر البشرى، علامة زمانه، افتراها عليه الرافضي عبد الحسين) هذا هو أحد خبرين أخذهما من صحيح البخاري. وإليك الخبر الثانى: قال تعالى: " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" (56: الأحزاب) نقل الرافضي عن البخاري ومسلم أيضا ما يأتي: " فقالوا: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد، الحديث " ثم قال الرافضي: " فعلم بذلك أن الصلاة عليهم جزء من الصلاة المأمور بها في هذه الآية ". ا. هـ. قلت: هذه رواية متفق على صحتها، ولكن من الآل؟ ذكرت عند آية التطهير أن طائفة من العلماء احتجوا على أن الآل هم الأزواج والذرية بما جاء في الصحيحين عن الرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عندما سئل: كيف نصلى عليك؟ فقال: " قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما صليت على آل ابراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته. . . إلخ " فهذه الرواية مفسرة للرواية الأولى. ونحن نعرف موقف الرافضة من أمهات المؤمنين. والرافضة يزعمون أن فرقتهم هي مذهب أهل البيت في الأصول والفروع، وزعمهم يحتاج إلى وقفة من البداية لتجلية هذا الأمر، وإزالة هذا اللبس والتلبيس، فقد كان لهذا أثره على السذج من الناس الذين لا يعرفون حقيقة هذه الفرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ومن المعروف أن عشرات الفرق من الشيعة ينازع بعضها بعضا في هذا الزعم، بل إن عبد الله بن سبأ ـ الذي وضع فكرة الوصي بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبنتها فرق الغلاة ـ يزعم أنه هو نفسه من أتباع أهل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ونحدد أولا المراد بالأهل: جاء في المعجم الوسيط تحت مادة أهل: أهل يأهل أهلا وأهولا: تزوج، وأهل المكان أهولا: عمر بأهله، وأهل فلانة: تزوجها. والأهل: الأقارب والعشيرة والزوجة. وأهل الدار ونحوها: سكانها. وفى معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية قال في مادة أهل: أهل: يحدد معناه بما يضاف إليه. فأهل الرجل: زوجه، وعشيرته، وذوو قرباه. وأهل الدار: سكانها. وأهل الكتاب، وأهل الإنجيل، وأهل القرية، وأهل المدينة، ... إلخ: من يجمعهم الكتاب، أو الإنجيل ... إلخ. ثم أشار إلى الآيات الكريمة التي ورد فيها كلمة أهل. وروى الإمام البخاري بسنده عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: " بنى على النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعيا ... فخرج النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله، فقالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك؟ بارك الله لك.. فتقرى حجر نسائه كلهن، يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة (1) .   (1) صحيح البخاري ـ كتاب التفسير ـ باب " لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم..". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 من هذا نرى أن أهل بيت رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هم: زوجاته أمهات المؤمنين ـ رضي الله تعالى عنهن، وذريته وذوو قرباه ـ رضي الله تعالى عنهم: كعلى بن أبى طالب، وابن عباس وأبيه، وجعفر، وغيرهم. وأهل السنة والجماعة يقدرون أهل البيت جميعا حق قدرهم، وينزلون هؤلاء الأطهار منزلتهم، ويأخذون بما صح عنهم من الأحاديث والآثار، وكتبنا تشهد بذلك: انظر مثلا ما روى عن فضائلهم في كتب السنة المشرفة، وما روى عنهم من الأحاديث الشريفة والآثار. والرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لم يختص أحدا بعلم دون غيره، وإنما علم صحابته الكرام، وأهل بيته الأطهار، وعلى الأخص زوجاته أمهات المؤمنين. والصحابة الكرام جميعا ـ سواء منهم من كان من أهل البيت ومن كان من غيرهم من المهاجرين والأنصار، هم خير أمة أخرجت للناس، شهد لهم ربهم عز وجل في كثير من آيات كتابه البينات المحكمات، وكفى بالله شهيدا، وشهد لهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أعظم شهادة من لا ينطق عن الهوى، المبلغ والمبين عن الله ـ سبحانه وتعالى. وعن هؤلاء الصحابة الكرام، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، نقل إلينا كتاب ربنا العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسنة نبينا المطهرة، وما يتصل بهما من البيان والأحكام، فتم علينا نعمة الله ـ تبارك وتعالى. ولذلك اشتهر قول أبى زرعة الرازى: " إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فاعلم أنه زنديق. وذلك أن القرآن حق، والرسول حق، وما جاء به حق. وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة فمن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة، فيكون الجرح به أليق، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوم وأحق ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 هذا موقف جمهور المسلمين من خير القرون، فما موقف عبد الحسين وفرقته؟ أما موقفهم من غير أهل البيت من الصحابة الكرام، فليس موقف انتقاص فقط كما قال أبو زرعة، وإنما سنجد في كتبهم التي قال عنها عبد الحسين في مراجعات تأتى فيما بعد: بأنها مقدسة، ومتواترة ـ ما يشيب لهوله الولدان. سنجد الطعن والتفسيق، بل التكفير والنفاق.. لمن؟ لخير أمة أخرجت للناس!! وسيأتي هذا مفصلا في موضعه من كتابنا هذا. وما موقفهم من أهل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أمهات المؤمنين، وهن أول المراد من أهل البيت، فهن: الصديقة بنت الصديق، عائشة ـ رضي الله عنهما ـ المعلوم منزلتها عند رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ومنزلتها العلمية وما استدركته على الصحابة ... إلخ، غير أنها بنت خير البشر بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما روى متواترا عن على رضي الله تعالى عنه، وعن غيره، وهذه الفرقة ترى أنه أول من اغتصب الخلافة، وموقف أم المؤمنين من أمير المؤمنين على معروف ـ وإن نقل مشوها، ولذلك فهم لا يأخذون شيئا من علمها الذي علمها إياه زوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل يعتبرونها ـ والعياذ بالله ـ كافرة لأنها اشتركت في الحرب ضد الإمام، وهذا واضح فيما سبق من بيان عقيدة الإمامة عندهم. وأم المؤمنين حفصة لم تسلم من طعن هذه الفرقة، لموقفهم من أمير المؤمنين عمر الفاروق ـ رضي الله عنه: ففي قوله تعالى: " ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا " (1) نرى الطعن في تفسير هذه الفرقة:   (1) التحريم - 01 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 يقول أحد علمائهم، بل علامتهم المجلسى: " لا يخفى على الناقد البصير والفطن الخبير ما في تلك الآيات من التعريض، بل التصريح بنفاق عائشة وحفصة وكفرهما!! " (1) . كما طعنوا في أمهات المؤمنين: أم حبيبة، وصفية وسودة رضي الله تعالى عنهن (2) . (انظر إلى ما ذكره عبد الحسين من الكتب المقدسة التي تحمل علم أهل البيت!!) ولم يقف الأمر عند أمهات المؤمنين، بل طعنوا في غيرهن من أهل البيت: فهذا مثلا عبد الله بن عباس، حبر الأمة وترجمان القرآن، وأبوه عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ماذا قالوا فيهما؟ من أهم كتبهم وأقدمها التي يرى عبد الحسين وغيره أن كل ما جاء فيه صحيح: تفسير على بن إبراهيم القمي، وستأتى دراسة مفصلة لهذا الكتاب، ونجد القمي يروى أن ابن عباس، وأباه، نزل فيهما قوله تعالى: " وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً" (3) ، وفى أبيه نزل قوله تعالى: " وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " (4)   (1) بحار الأنوار جـ 22 ص 33. (2) انظر كتابى: بين الشيعة والسنة. دراسة مقارنة في التفسير وأصوله، ص 255. (3) 72: الإسراء. (4) 34: هود، وانظر فرية القمي في تفسيره 2 / 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ولم يقف أمر هؤلاء القوم عند هذا الحد، بل تجرءوا على بنات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير السيدة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهن جميعا وأرضاهن! أي والله بنات النبي نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فقوم عبد الحسين لا يريدون أن يكون لأحد شرف مصاهرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرعلى رضي الله تعالى عنه، ولذلك الذين اجترءوا على القرآن الكريم وقالوا بتحريفه، منهم من ذكر أن سورة الشرح أسقط الصحابة منها: وجعلنا عليا صهرك (1) . فإذا كان علي من أهل البيت، وله شرف الزواج من إحدى بنات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن عثمان من أهل البيت أيضا (2) ، وله شرف الزواج من اثنتين ـ لا واحدة فقط من بنات النبي الطاهرات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرقية تزوجها بعد إسلامه، وهاجر بها إلى الحبشة، ثم إلى المدينة حيث ماتت بعد بدر بثلاثة أيام. وأصغر بنات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي أم كلثوم، كانت لابن عمها عتبة بن أبى لهب، وطلقها قبل أن يدخل بها، وكانت هي التي لا تزال بغير زواج بعد أن تزوج على أختها فاطمة الزهراء، فتزوجها عثمان بعد موت أختها رقية عنده سنة ثلاث من الهجرة. أما أكبر بنات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضي الله عنهن جميعا ـ فهى زينب، تزوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف. وهو ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة رضي الله عنها، وهو كما نرى من نسبه يعد من أهل البيت. هؤلاء هن بنات النبي الأربعة، والأزواج الثلاثة، فما موقف هذه الفرقة من هؤلاء السبعة، وهم جميعا من أهل البيت؟   (1) سيأتي الحديث عن موقف هذه الفرقة من القرآن الكريم في الجزء الثانى. (2) انظر بيان قرابته من الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كتاب " ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه " للشيخ محب الدين الخطيب: ص 5، 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 رأينا من قبل عند بيان عقيدتهم في الإمامة كيف أنهم جعلوا فاطمة الزهراء وزوجها ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فوق الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين، فيعتبر هذا عندهم من ضروريات المذهب، أي أن من لم يعتقد هذا فليس مؤمنا، وواضح أن هذا من مقالات الغلاة وعقائدهم الباطلة وذو النورين بايع الشيخين، وتولى الخلافة بعدهما، فهو في زعمهم ممن اغتصب هذا المنصب الإلهي، ولذلك فإن كتبهم ـ التي أشار إليها عبد الحسين واعتبرها مقدسة متواترة ـ تجعله من الكفار والمنافقين والعياذ بالله. وأبو العاص ولدت له زينب ابنته أمامه التي جاء في الصحيحين أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حملها وهو يصلى. وتزوج على أمامه هذه بعد موت خالتها فاطمة. ومات أبو العاص في خلافة أبى بكر الصديق في ذى الحجة سنة اثنتى عشرة (1) . أما أخوات الزهراء الطاهرات فماذا قالوا عنهن؟ قال أحد علمائهم: " رقية وزينب كانتا ابنتى هالة أخت خديجة، ولما مات أبوهما ربيتا في حجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنسبتا إليه كما كانت عادة العرب في نسبة المربى إلى المربى. وهما اللتان تزوجهما عثمان بعد موت زوجيهما " (2) . ا. هـ. ومعلوم أن زينب بنت خير البشر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتزوجها عثمان، ولم يمت زوجها قبلها، فقد مات في خلافة أبى بكر ـ كما ذكر من قبل ـ زوجها أبو العاص. أما هي فقد ماتت في أول سنة ثمان من الهجرة. وأخرج مسلم في الصحيح بسنده عن   (1) انظر ترجمة أبى العاص في باب الكنى من الجزء الرابع من الإصابة لابن حجر، ... ص 121: 123 ترجمة رقم 692. (2) انظر زبدة البيان ـ حاشية ص 575. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 أم عطية قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اغسلنها وترا، ثلاثا أو خمسا، واجعلن في الآخرة كافورا ". وزوجها أبو العاص ابن هالة بنت خويلد أخت السيدة خديجة، فهل تزوج أخته بنت أمه هالة؟ ! أفيعتبر هذا المفترى الكذاب من أتباع أهل البيت؟ ‍‍! أم أن أهل البيت الأطهار منه براء، ومن أمثاله سائر الغلاة الروافض؟ أما الطاهرتان رقية وأم كلثوم فهما اللتان تزوجهما ذو النورين. وفى كتاب منهاج الشريعة، الذي ألفه محمد مهدى للرد على منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية، جاء الحديث عن أختى الزهراء ـ رضي الله عنهن ـ في أكثر من موضع. ومما قاله: " ما زعمه ـ أي ابن تيمية ـ من أن تزويج بنتيه لعثمان فضيلة له من عجائبه، من حيث ثبوت المنازعة في أنهما بنتاه " (1) وقال: " لم يرد شىء من الفضل في حق من زعموهن شقيقاتها بحيث يميزن به ولو عن بعض ... النسوة " (2) . وقال: " قد عرفت عدم ثبوت أنهما بنتا خير الرسل ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعدم وجود فضل لهما تستحقان به الشرف والتقدم على غيرهما " (3) . أهؤلاء إذن أتباع مذهب أهل البيت؟ أم أعداء أهل البيت الأطهار؟ وما الفرق بينهم وبين دعوى ابن سبأ وحقيقته؟ ولتأكيد أن الرافضة كاذبون في زعمهم حب آل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نذكر شيئا من سيرة آل البيت الأطهار يفضح هؤلاء الرافضة:   (1) منهاج الشريعة 2 / 289. (2) المرجع نفسه 2 / 290. (3) منهاج الشريعة 2 / 291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 زوج على ابنته عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، وهذا يؤكد معنى طيبا يجمع بين الخليفتين الراشدين يفهمه أي عاقل، فإذا بالرافضة يقولون: " ذاك فرج غصبناه "!! ويفترون روايات تذكر أن عليا زوج ابنته خوفا من عمر وتهديده له!! (انظر وسائل الشيعة 14 / 433 ـ 434) . وهذا ليس إساءة إلى عمر وحده كما يظهرون، وإنما هو إساءة أشد إلى على الذي يسلبه ما عرف عنه من شجاعة وإقدام، فيبدو ذليلا جبانا!! وسيأتي لهذا مزيد بيان في الجزء الرابع عند الحديث عن النكاح. ونترك هذا ونأتى إلى ما يبين مدى حب آل البيت الأطهار للخلفاء الراشدين الثلاثة الذين عرفنا موقف الرافضة منهم، وسأترك كتب جمهور المسلمين وآتى إلى كتاب من كتب الشيعة ألفه السيد أبو القاسم الخوئى الذي كان المرجع الأعلى للشيعة بالعراق، وهو كتاب معجم رجال الحديث: ونقرأ في هذا الكتاب الأرقام الآتية للتراجم وهى: (7618، 8729، 8731، 8787، 8788، 14000، 14002) . هذه التراجم لسبعة رجال فمن هم؟ كلهم من آل البيت الأطهار، وكلهم أبو بكر أو عمر أو عثمان.. تأمل! فأما الإمام على فقد اختار أسماء إخوانه الثلاثة جميعا فسمى بهم أبناءه، منهم أبو بكر وعثمان اللذان قتلا مع أخيهما الحسين في واقعة الطف. وقتل أيضا عمر مع أبيه الحسين، وأبو بكر بن الحسن مع عمه الحسين، وعمر بن الحسن مع عمه الحسين. هؤلاء آل البيت الأطهار: على والحسن والحسين، وأولادهم أبو بكر وعمر وعثمان، فاعتبروا يا أولى الأبصار، وتدبروا سيرة آل البيت الأطهار، وبراءتهم من الرافضة الفجار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وفى كتاب كشف الأسرار (ص 17، 18) يقول السيد حسين الموسوي تحت عنوان: الحقيقة في انتساب الشيعة لأهل البيت: "إن من الشائع عندنا معاشر الشيعة، اختصاصنا بأهل البيت، فالمذهب الشيعي كله قائم على محبة أهل البيت – حسب رأينا – إذ الولاء والبراء مع العامة – وهم أهل السنّة – بسبب أهل البيت، والبراءة من الصحابة، وفى مقدمتهم الخلفاء الثلاثة، وعائشة بنت أبى بكر بسبب الموقف من أهل البيت، والراسخ في عقول الشيعة جميعاً صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، ذَكَرهم وأنثاهم، أنّ الصحابة ظلموا أهلّ البيت، وسفكوا دماءهم واستباحوا حرماتهم. وإن أهل السنّة ناصبوا أهل البيت العداء، ولذلك لا يتردد أحدنا في تسميتهم بالنواصب، ونستذكر دائماً دم الحسين الشهيد رضي الله عنه ولكن كُتبنا المعتبرة عندنا تُبيّن لنا الحقيقة، إذ تذكر لنا َتذمُّرَ أهلِ البيت صلوات الله عليهم من شيعتهم، وتذكر لنا ما فعله الشيعة الأوائل بأهل البيت، وتذكر لنا من الذي سفك دماء أهل البيت عليهم السلام، ومن الذي تسبب في مقتلهم واستباحة حرماتهم. قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: " لو ميزت شيعتى لما وجدتهم إلا واصفة، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين، ولو تمحّصتهم لما خلص من الألف واحد " " الكافى / الروضة " (8/338) وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: " ياأشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال، لّوددت ُ أنّى لم أركم ولم أعرفكم، معرفةُ جرّت والله ندماً وأعقبت سَدَماً (1) ... قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرَّعتمونى نغب التهمام أنفاسا، وافسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى   (1) السدم: الهم. والنُّغَب: جمع نغبة كجرعة وجُرع. والتهمام: الهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 لقد قالت قريش: إن ّ ابن أبى طالب رجل شجاع ولكن لا علم َ له بالحرب، ولكن ْ لا رأي َ لمن لا يطاع ". " نهج البلاغة " (ص 70، 71) وقال لهم موبّخاً: منيت بكم بثلاث، واثنتين: " صُمُّ ذوو أسماع، وبكم ذوو كلام، وعُمْى ذوو أبصار، لا أحرار وصُدُق‘ عند اللقاء، ولا إخوان‘ ثقة عند البلاء ... قد انفرجتم عن ابن أبى طالب انفراجَ المرأة عن قُبُلها ". " نهج البلاغةَّ " (ص 142) قال لهم ذلك بسبب تخاذلهم وغدرهم بأمير المؤمنين رضي الله عنه، وله فيهم كلام كثير. وقال الإمام الحسين رضي الله عنه في دعائه على شيعته: " اللهم إنْ متَّعهم إلى حين ففرقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا تُرْضِ الولاة عنهم أبداً، إنَّهم دَعَوْنا لينصرونا ثم عَدَْوا علينا فقتلونا ". " الإرشاد المفيد " (ص 241) . وقد خاطبهم مرة أخرى ودعا عليهم، فكان مما قال: " لكنكم استسرعتم إلى بيعتنا كطيرة الدباء، وتهافتم كتهافت الفراش، ثم نقضتموها، سفهاً وبعداً وسحقاً لطواغيت هذه الأمة وبقية الأحزاب ونَبَذَةِ الكتاب، ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا وتقتلوننا، ألا لعنةُ الله على الظالمين ". " الاحتجاج " (2/24) . وهذه النصوص تبيّن لنا مَنْ هم قتلةُ الحسين الحقيقيون، إنهم شيعة أهل الكوفة، أي أجدادنا، فلماذا نُحَمل أهلَ السنة مسؤولية مقتل الحسين رضي الله عنه؟! ولهذا قال السيد محسن الأمين: " بايع الُحسَيْنَ من أهل العراق عشرون ألفاً غدروا به وخرجوا عليه، وبيعته في أعناقهم، وقتلوه ". " أعيان الشيعة " (القسم الأول) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وقال الحسن رضي الله عنه: " أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء، يزعمون أنّهم لي شيعة، ابتغوا قتلى وأخذوا مالى، والله لأن آخذ من معاوية ما أحقنُ به من دمى، وآمن به في أهلي خير من أن يقتلونى، فيضيع أهل بيتي، والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقى حتى يدفعوا بى إليه سلماً، والله لأن أُسالمه وأنا عزيز خيرُ من أن يقتلنى وأنا أسير ". " الاحتجاج " (2/10) . وقال الإمام زين العابدين رضي الله عنه لأهل الكوفة: " هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبى وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق، ثم قاتلتموه وخذلتموه ... بأي عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يقول لكم: قاتلتم عترتى، وانتهكتم حرمتى؛ فلستم من أمتى ". " الاحتجاج " (2/32) وقال أيضاً عنهم: " إن هؤلاء يبكون علينا فَمَنْ قتلَنا غيرُهم؟ ". " الاحتجاج " (2/29) . وقال الباقررضي الله عنه: " لو كان الناس كلّهم لنا شيعة لكان ثلاثة أرباعهم لنا شكاكاً، والربع الآخر أحمق ". " رجال الكشّي " (ص 79) . وقال الصادق رضي الله عنه" أما والله لو أجد منكم ثلاثة مؤمنين يكتمون حديثى ما استحللت ُ أن أكتمهم حديثاً ". " أصول الكافى " (1/496) . انتهى. هذا بعض ما قاله العالم الشيعي. بعد بيان موقف الرافضة من أهل البيت الأطهار نعود مرة أخرى للنظر في المراجع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ومن المراجع التي ذكرها عبد الحسين تفسير مجاهد، ومجاهد كما نعلم تلميذ حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وذكرت من قبل طعن الرافضة فيهما. قال الرافضي: عن تفسير مجاهد ويعقوب بن سفيان عن ابن عباس في قوله تعالى: " وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا "، أن دحية الكلبى جاء يوم الجمعة من الشام بالميرة، فنزل عند أحجار الزيت، ثم ضرب بالطبول ليؤذن الناس بقدومه، فنفر الناس إليه، وتركوا النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائما يخطب على المنبر إلا عليا والحسن والحسين وفاطمة وسلمان وأباذر والمقداد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد نظر الله إلى مسجدى يوم الجمعة، فلولا هؤلاء لأضرمت المدينة على أهلها نارا، وحصبوا بالحجارة كقوم لوط. وأنزل الله فيمن بقى مع رسول الله في المسجد قوله تعالى: " يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ" الآية. قلت: نظرت في تفسير مجاهد، وهو مطبوع، فلم أجد ما سبق. ثم نظرت في الدر المنثور (6 / 220 ـ 221) فوجدت الروايات المختلفة التي ذكرت من بقى مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنص على أبى بكر وعمر. وأول هذه الروايات هي ما روى عن جابر بن عبد الله، وفيها: " لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا: أنا فيهم، وأبو بكر، وعمر ". والحافظ ابن حجر في الفتح عند شرحه لحديث جابر الذي أورده البخاري في كتاب الجمعه من صحيحه، وفيه. " ما بقى مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا اثنا عشر رجلا " قال ابن حجر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وأما تسميتهم فوقع في رواية خالد الطحان عند مسلم أن جابرا قال: " أنا فيهم " وله في رواية هشيم " فيهم أبو بكر وعمر ". ثم قال: وروى العقيلى عن ابن عباس " أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأناسا من الأنصار ". وليس في أي رواية من الروايات كلها ذكر للحسن أو الحسين. أما الآية الأخيرة وهى رقم 36 من سورة النور فلم يذكر في تفسيرها وأسباب النزول ما ذكره الرافضي من أن الرافضة هم رجال التسبيح!! فقد أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما: - " فِي بُيوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ " الآية قال: هي المساجد تكرم ونهى عن اللغو فيها "وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" يتلى فيها كتابه " يُسَبِّحُ " يصلى " لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ " صلاة الغداة " وَالْآصَالِ " صلاة العصر، وهما أول ما فرض الله من الصلاة، وأحب أن يذكرهما، ويذكرهما عباده. (الدر المنثور 5 / 50) . وأخرج ابن أبى حاتم عن الضحاك في قوله تعالى: - " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ " قال: هم في أسواقهم يبيعون ويشترون، فإذا جاء وقت الصلاة لم يلههم البيع والشراء عن الصلاة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس" رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ .... " قال: عن شهود الصلاة المكتوبة. وأخرج الفريابى عن عطاء مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عمر أنه كان في السوق، فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم، ثم دخلوا المسجد. فقال ابن عمر: فيهم نزلت " رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ " (الدر المنثور 5 /52) . ولم أجد في جميع الروايات أن آية سورة النور نزلت فيمن بقى يوم الجمعة. ولو أنها نزلت فيهم فأولهم بلا ريب الصديق والفاروق كما جاء في الأخبار الصحيحة. قال الرافضي: أخرج المحدثون والمفسرون وأصحاب الكتب في أسباب النزول بأسانيدهم إلى ابن عباس في قوله تعالى: " الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً " (274: البقرة) قال: نزلت في على بن أبى طالب. قلت: أصحاب الكتب ذكروا عليا وغيره، فقالوا: نزلت في أصحاب الخيل، فيمن يربطها في سبيل الله لا رياء ولا سمعة. ولا خيلاء، وقالوا: نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة. (انظر أصحاب هذه الكتب ورواياتهم في الدر المنثور 1 / 363) وما أكثر الصحابة الكرام الذين كانوا ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية! ومثل على ما كان ليبخل لو كان عنده مال، لكنه لم يكن كثير المال كما هو معلوم، وأصحاب الأموال الذين كانوا ينفقونها في سبيل الله مشهود لهم، وأولهم أبو بكر الصديق، الذي نزل فيه قول الله تعالى: "وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىوَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 والمحدثون والمفسرون وأصحاب الكتب لم يذكروا أحدا آخر غير أبى بكر الصديق. (انظر جميع الروايات في الدر المنثور 6 / 359 ـ 360) ولذلك فإن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن أمن الناس على في صحبته وماله أبو بكر " وقال: " وواسانى بنفسه وماله " (راجع صحيح البخاري ـ كتاب فضائل الصحابة تجد الحديثين الشريفين وغيرهما من فضائل الصديق، وأنه أفضل الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن شهد له الله ـ عزوجل، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يأتي هذا الرافضي فيقول بكفره، وأنه الجبت، وكفر الأمة الإسلامية التي أقرت بيعته، وبعد هذا العداء للإسلام وأهله ينسب الرافضي اللعين نفسه لأهل البيت الأطهار!! ثم يفترى الكذب على الإمام الأكبر شيخ الأزهر فينسب له أنه وافقه بل أعجب بهذا التكفير!!) . قال الرافضي: وفى جميل بلائهم وجلال عنائهم قال الله تعالى: (وَمِنَ الناسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد ((1) ثم قال: أخرج الحاكم (3، 4) عن ابن عباس قال: " شرى على نفسه ولبس ثوب النبي " الحديث. وأخرج أيضا عن على بن الحسين قال: " إن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله على بن أبى طالب إذ بات على فراش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". ا. هـ. قلت: لا شك أن عليا رضي الله تعالى عنه قد شرى نفسه حتى ولو لم يصح الخبر عن ابن عباس، لكن الروايات كلها لم تخصه بسبب النزول، لا عند الحاكم ولا عند غيره، بل إن الحاكم في الجزء نفسه ذكر أن الآية الكريمة نزلت في صهيب، وصحح الخبر، ولم يتعقبه الذهبي (3 / 398) .   (1) البقرة: الآية 207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وقبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى أحب أن أصفع هذا الرافضي وأمثاله بحديث شريف أخرجه الحاكم الذي عرف عنه التشيع وهو ما رواه بسنده عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إن الله تبارك وتعالى اختارنى، واختار لي أصحابا، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا. فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل ". قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي (جـ 3 ص 632) إذن عندما نلعن هذا الرافضي فإننا ننفذ حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد سب الصحابة الكرام وعلى الأخص خيرهم بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو أبو بكر الصديق، فعمر الفاروق، بل قال بأنهما الجبت والطاغوت، والصحابة الذين بايعوهما كفار آمنوا بالجبت والطاغوت! فمن كان عدوا لهؤلاء فهو عدو لله ولرسوله وملائكته، يستحق ما ذكره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اللعنة والخسران يوم القيامة. إذن يجب أن نضع الأمور في نصابها، ونزنها بميزان الشرع وحكم الله تعالى ورسوله الكريم، حتى لا يأتىأحد ويقول: كيف تلعن مسلما؟ وأين أنت من دعوة التقريب؟ ! أقول: قد لعنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف لا نلعنه؟ أما التقريب فهذا الرافضي له كتاب عنوانه " الفصول المهمة في تأليف الأمة "، انتهى إلى وجوب أن ترتد الأمة كلها فتصبح رافضة مثله! ! فالتقريب إذن لا يكون مع مثل هذا الرافضي اللعين، عدو الإسلام والمسلمين، وإنما يكون مع الشيعة من غير الرافضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الاستدلال بالأحاديث الموضوعة بعد تحريف القرآن الكريم لجأ الرافضة إلى الأحاديث الموضوعة، سواء أكانت من وضعهم وأكاذيبهم أم من وضع غيرهم. وعندما نأتى إلى دراسة كتب السنة عندهم وتدوينها فسيتضح جليا أنها مبنية على الكذب والافتراء، وموضع هذه الدراسة في الجزء الثالث من هذا الكتاب. ولكننا نقف هنا عند بعض الأحاديث التي ذكرها الرافضيان: ابن المطهر وعبد الحسين، أحدهما أو كلاهما، ونثبت جواب شيخ الإسلام ابن تيمية، مع إضافة بعض ما كتبته في ردى على المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى، والتى افتراها عبد الحسين. ونبدأ بالدليل الأول الذي ذكره ابن المطهر، وجواب شيخ الإسلام. حديث الدار هذا هو الدليل الأول عن ابن المطهر حيث قال: " المنهج الثالث في الأدلة المستندة إلى السنة، المنقولة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهى اثنا عشر. الأول: ما نقله الناس كافة أنه لما نزل قوله تعالى: " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " (سورة الشعراء: 214) جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنى عبد المطلب في دار أبى طالب، وهم أربعون رجلا، وأمر أن يصنع لهم فخذ شاة مع مد من البر ويعد لهم صاعا من اللبن، وكان الرجل منهم يأكل الجذعة في مقعد واحد، ويشرب الفرق من الشراب في ذلك المقام، فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا، ولم يتبين ما أكلوه، فبهرهم (النبي صلى الله عليه وآله) بذلك، وتبين لهم آية نوبته، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 يا بنى عبد المطلب، إن الله بعثنى بالحق إلى الخلق كافة، وبعثنى إليكم خاصة، فقال: "وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان، ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب والعجم، وتنقاد لكم بهما الأمم، وتدخلون بهما الجنة، وتنجون بهما من النار: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، فمن يجيبني إلى هذا الأمر، ويؤازرنى على القيام به يكن أخي ووزيرى، ووصيي ووارثي، وخليفتى من بعدى. فلم يجبه أحد منهم. فقال أمير المؤمنين: أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر. فقال: اجلس. ثم أعاد القول مرة ثانية فصمتوا. فقال على: فقمت فقلت مثل مقالتى الأولى، فقال: اجلس ثم أعاد القول ثالثة، فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقمت فقلت: أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر. فقال: اجلس فأنت أخي ووزيرى، ووصيى ووارثى، وخليفتى من بعدى. فنهض القوم وهم يقولون لأبى طالب: ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك، فقد جعل ابنك أميرا عليك ". ا. هـ قال شيخ الإسلام: والجواب من وجوه: الأول: المطالبة بصحة النقل. وما ادعاه من نقل الناس كافة من أظهر الكذب عند أهل العلم بالحديث، فإن هذا الحديث ليس في شىء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل: لا في الصحاح ولا في المساند والسنن والمغازى والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به، وإذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل منها الصحيح والضعيف، مثل تفسير الثعلبى والواحدى والبغوى، بل وابن جرير وابن أبى حاتم، لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء، دليلا على صحته باتفاق أهل العلم؛ فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف، فلابد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وهذا الحديث غايته أن يوجد في بعض كتب التفسير التي فيها الغث والثمين، وفيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة، مع أن كتب التفسير التي يوجد فيها هذا مثل تفسير ابن جرير وابن أبى حاتم والثعلبى والبغوى، ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة ما يناقض هذا، مثل بعض المفسرين الذين ذكروا هذا في سبب نزول الآية، فإنهم ذكروا مع ذلك بالأسانيد الصحيحة الثابتة التي اتفق أهل العلم على صحتها ما يناقض ذلك، ولكن هؤلاء المفسرين ذكروا ذلك على عادتهم في أنهم ينقلون ما ذكر في سبب نزول الآية من المنقولات الصحيحة. والضعيفة، ولهذا يذكر أحدهم في سبب نزول الآية عدة أقوال، ليذكر أقوال الناس وما نقلوه فيها، وإن كان بعض ذلك هو الصحيح وبعضه كذب، وإذا احتج بمثل هذا الضعيف وأمثاله واحد بذكر بعض ما نقل في تفسير الآية من المنقولات، وترك سائر ما ينقل مما يناقض ذلك ـ كان هذا من أفسد الحجج، كمن احتج بشاهد يشهد له ولم تثبت عدالته بل ثبت جرحه، وقد ناقضه عدول كثيرون يشهدون بما يناقض شهادته، أو يحتج برواية واحد لم تثبت عدالته بل ثبت جرحه، ويدع روايات كثيرين عدول، وقد رووا ما يناقض ذلك. بل لو قدر أن هذا الحديث من رواية أهل الثقة والعدالة، وقد روى آخرون من أهل الثقة والعدالة ما يناقض ذلك، لوجب النظر في الروايتين: أيهما أثبت وأرجح؟ فكيف إذا كان أهل العلم بالنقل متفقين على أن الروايات المناقضة لهذا الحديث هي الثابتة الصحيحة، بل هذا الحديث مناقض لما علم بالتواتر، وكثير من أئمة التفسير لم يذكروا هذا بحال لعلمهم أنه باطل. الثانى: أنا نرضى منه من هذا النقل العام بأحد شيئين: إما بإسناد يذكره مما يحتج به أهل العلم في مسائل النزاع، ولو أنه مسألة فرعية، وإما قول رجل من أهل الحديث الذين يعتمد الناس على تصحيحهم. فإنه لو تناظر فقيهان في فرع من الفروع، لم تقم الحجة على المناظرة إلا بحديث يعلم أنه مسند إسناداً تقوم به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الحجة، أو يصححه من يرجع إليه في ذلك. فأما إذا لم يعلم إسناده، ولم يثبته أئمة النقل، فمن أين يعلم؟ لا سيما في مسائل الأصول التي يبنى عليها الطعن في سلف الأمة وجمهورها، ويتوسل بذلك إلى هدم قواعد المسألة، فكيف يقبل في مثل ذلك حديث لا يعرف إسناده ولا يثبته أئمة النقل ولا يعرف أن عالما صححه؟! الثالث: أن هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالم يعرف الحديث إلا وهو يعلم أنه كذب موضوع، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات، لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب. وقد رواه ابن جرير والبغوى بإسناد فيه عبد الغفار بن القاسم بن فهد، أبو مريم الكوفي، وهو مجمع على تركه، كذبه سماك بن حرب وأبو داود، وقال أحمد: ليس بثقة، عامة أحاديث بواطيل. قال يحيى: ليس بشئ. قال ابن المديني: كان يضع الحديث. وقال النسائي وأبو حاتم: متروك الحديث. وقال ابن حبان البستى: كان عبد الغفار بن قاسم يشرب الخمر حتى يسكر، وهو مع ذلك يقلب الأخبار، لا يجوز الاحتجاج به، وتركه أحمد ويحيى. ورواه ابن أبى حاتم، وفى إسناده عبد الله بن عبد القدوس، وهو ليس بثقة. وقال فيه يحيى بن معين: ليس بشئ رافضى خبيث. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطنى: ضعيف. وإسناد الثعلبى أضعف، لأن فيه من لا يعرف، وفيه من الضعفاء والمتهمين من لا يجوز الاحتجاج بمثله في أقل مسألة. الرابع: أن بنى عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلا حين نزلت هذه الآية؛ فإنها نزلت بمكة في أول الأمر. ثم ولا بلغوا أربعين رجلا في مدة حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإن بنى عبد المطلب لم يعقب منهم باتفاق الناس إلا أربعة: العباس، وأبو طالب، والحارث، وأبو لهب. وجميع ولد عبد المطلب من هؤلاء الأربعة، وهم بنو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 هاشم، ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة: العباس، وحمزة، وأبو طالب، وأبو لهب، فآمن اثنان، وهما حمزة والعباس، وكفر اثنان، أحدهما نصره وأعانه، وهو أبو طالب، والآخر عاداه وأعان أعداءه، وهو أبو لهب. وأما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين: طالب، وعقيل، وجعفر، وعلى. وطالب لم يدرك الإسلام، وأدركه الثلاثة، فآمن على وجعفر في أول الإسلام، وهاجر جعفر إلى أرض الحبشة، ثم إلى المدينة عام خيبر. وكان عقيل قد استولى على رباع بنى هاشم لما هاجروا وتصرف فيها، ولهذا لما قيل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجته: " ننزل غدا في دارك بمكة " قال: " وهل ترك لنا عقيل من دار؟ " وأما العباس فبنوه كلهم صغار، إذ لم يكن فيهم بمكة رجل. وهب أنهم كانوا رجالاً فهم: عبد الله، وعبيد الله، والفضل. وأما قثم فولد بعدهم، وأكبرهم الفضل، وبه كان يكنى. وعبد الله ولد في الشعب بعد نزول قوله: " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " (سورة الشعراء: 214) وكان له في الهجرة نحو ثلاث سنين أو أربع سنين، ولم يولد للعباس في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا الفضل وعبد الله وعبيد الله، وأما سائرهم فولدوا بعده. وأما الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب فبنوهما أقل. والحارث كان له ابنان: أبو سفيان وربيعة، وكلاهما تأخر إسلامه، وكان من مسلمة الفتح. وكذلك بنو أبى لهب تأخر إسلامهم إلى زمن الفتح، وكان له ثلاثة ذكور، فأسلم منهم اثنان: عتبة ومغيث، وشهد الطائف وحنينا، وعتيبة دعا عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأكله الكلب، فقتله السبع بالزرقاء من الشام كافراً. فهؤلاء بنو عبد المطلب لا يبلغون عشرين رجلا، فأين الأربعون؟ ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الخامس: قوله: " إن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن " فكذب على القوم، ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل، ولا عرف فيهم من كان يأكل جذعة ولا يشرب فرقا. السادس: أن قوله للجماعة: " من يجيبنى إلى هذا الأمر ويؤازرنى على القيام به يكن أخي ووزيرى ووصيى وخليفتى من بعدى " كلام مفترى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يجوز نسبته إليه. فإن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله؛ فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين، وأعانوه على هذا الأمر، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إقامته وطاعته، وفارقوا أوطانهم، وعادوا إخوانهم، وصبروا على الشتات بعد الألفة، وعلى الذل بعد العز، وعلى الفقر بعد الغنى، وعلى الشدة بعد الرخاء، وسيرتهم معروفة مشهورة، ومع هذا فلم يكن أحد منهم بذلك خليفة له. وأيضا فإن كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلا أمكن أن يجيبوه ـ أو أكثرهم أو عدد منهم ـ فلو أجابه منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده؟ أيعين واحدا بلا موجب؟ أم يجعل الجميع خلفاء في وقت واحد؟ وذلك أنه لم يعلق الوصية والخلافة والأخوة والمؤازرة، إلا بأمر سهل، وهو الإجابة إلى الشهادتين، والمعاونة على هذا الأمر. وما من مؤمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر إلى يوم القيامة، إلا وله من هذا نصيب وافر، ومن لم يكن له من ذلك حظ فهو منافق، فكيف يجوز نسبة مثل هذا الكلام إلى النبي َصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ! السابع: أن حمزة وجعفرا وعبيدة بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه على من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر؛ فإن هؤلاء من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله في أول الأمر. بل حمزة أسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلا، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 في دار الأرقم بن أبى الأرقم، وكان اجتماع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به في دار الأرقم، ولم يكن يجتمع هو وبنو عبد المطلب كلهم في دار واحدة، فإن أبا لهب كان مظهراً لمعاداة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما حصر بنو هاشم في الشعب لم يدخل معهم أبو لهب. الثامن: أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا. ففي الصحيحين عن ابن عمر وأبى هريرة ـ واللفظ له ـ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت: " وَأَنذِرْ عَشِيرَتكَ الْأَقْرَبِينَ " (سورة الشعراء: 214) دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشا، فاجتمعوا، فخص وعم فقال: " يابنى كعب بن لؤى أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النار. يا بنى عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد أنقذى نفسك من النار، فإنى لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها ". وفى الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه أيضا لما نزلت هذه الآية قال: " يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئا. يا بنى عبد المطلب لا أغنى عنكم من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنك من الله شيئا. يا فاطمة بنت محمد لا أغنى عنك من الله شيئا. سلانى ما شئتما من مالى ". وخرجه مسلم من حديث ابن المخارق وزهير بن عمرو ومن حديث عائشة وقال فيه: " قام على الصفا ". وقال في حديث قبيصة: " انطلق إلى رضمة من جبل، فعلا أعلاها حجرا، ثم نادى: يا بنى عبد مناف إنى لكم نذير. إنما مثلى ومثلكم كمثل رجل رأي العدو فانطلق يربأ أهله، فخشى أن يسبقوه، فجعل يهتف: يا صباحاه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وفى الصحيحين من حديث ابن عباس قال: " لما نزلت هذه الآية خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه " فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فاجتمعوا إليه، فجعل ينادى: " يا بنى فلان، يا بنى عبد مناف، يا بنى عبد المطلب " وفى رواية: " يا بنى فهر، يا بنى عدى، يا بنى فلان " لبطون قريش فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا ينظر ما هو، فاجتمعوا فقال: " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقى؟ " قالوا: ما جربناعليك كذبا. قال: " فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد " قال: فقال أبو لهب: تبا لك أما جمعتنا إلا لهذا؟ فقام فنزلت هذه السورة: " تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ " (سورة المسد: 1) . وفى رواية: " أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم ويمسيكم أكنتم تصدقونى؟ " قالوا: " بلى ". فإن قيل: فهذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين والمصنفين في الفضائل، كالثعلبى والبغوى وأمثالهما والمغازلى. قيل له: مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث؛ فإن في كتب هؤلاء من الأحاديث الموضوعة ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع، وفيها شئ كثير يعلم بالأدلة اليقينية السمعية والعقلية أنها كذب، بل فيها ما يعلم بالاضطرار أنه كذب. والثعلبى وأمثاله لا يتعمدون الكذب، بل فيهم من الصلاح والدين ما يمنعهم من ذلك، لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب، ويروون ما سمعوه، وليس لأحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لأئمة الحديث، كشعبة، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدى، وأحمد بن حنبل، وعلى بن المديني، ويحيى بن معين، وإسحاق، ومحمد بن يحيى الذهلى، والبخاري، ومسلم، وأبى داود، والنسائى، وأبى حاتم وأبى زرعة الرازيين، وأبى عبد الله ابن منده، والدار قطنى، وأمثال هؤلاء من أئمة الحديث ونقاده وحكامه وحفاظه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الذين لهم خبرة ومعرفة تامة بأحوال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحوال من نقل العلم والحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم من نقلة العلم. وقد صنفوا الكتب الكثيرة في معرفة الرجال الذين نقلوا الآثار وأسماءهم، وذكروا أخبارهم وأخبار من أخذوا عنه، ومن أخذ عنهم. مثل كتاب " العلل وأسماء الرجال " عن يحيى القطان، وابن المديني، وأحمد، وابن معين، والبخاري، ومسلم، وأبى زرعة، وأبى حاتم، والنسائى، والترمذى، وأحمد بن عدى، وابن حبان، وأبى الفتح الأزدى، والدارقطنى وغيرهم. وتفسير الثعلبى فيه أحاديث موضوعة وأحاديث صحيحة. ومن الموضوع فيه الأحاديث التي في فضائل السور: سورة سورة. وقد ذكر هذا الحديث الزمخشري والواحدى، وهو كذب موضوع باتفاق أهل الحديث. وكذلك غير هذا. وكذلك الواحدى تلميذ الثعلبى، والبغوى اختصر تفسيره من تفسير الثعلبى والواحدى، لكنهما أخبر بأقوال المفسرين منه، والواحدى أعلم بالعربية من هذا وهذا، والبغوى أتبع للسنة منهما. وليس كون الرجل من الجمهور الذين يعتقدون خلافة الثلاثة يوجب له أن كل ما رواه صدق، كما أن كونه من الشيعة لا يوجب أن يكون كل ما رواه كذبا، بل الاعتبار بميزان العدل. وقد وضع الناس أحاديث كثيرة مكذوبة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في الأصول، والأحكام، والزهد، والفضائل. ووضعوا كثيرا من فضائل الخلفاء الأربعة، وفضائل معاوية. ومن الناس من يكون قصده رواية كل ما روى في الباب، من غير تمييز بين صحيح وضعيف، كما فعله أبو نعيم في فضائل الخلفاء، وكذلك غيره ممن صنف في الفضائل. ومثل ما جمعه أبو الفتح بن أبى الفوارس، وأبو على الأهوازى وغيرهما من فضائل معاوية. ومثل ما جمعه النسائي في فضائل على، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وكذلك ما جمعه أبو القاسم بن عساكر في فضائل على وغيره، فإن هؤلاء وأمثالهم قصدوا أن يرووا ما سمعوا من غير تمييز بين صحيح ذلك وضعيفه، فلا يجوز أن يجزم بصدق الخبر بمجرد رواية الواحد من هؤلاء باتفاق أهل العلم. وأما من يذكر الحديث بلا اسناد من المصنفين في الأصول والفقه والزهد والرقائق، فهؤلاء يذكرون أحاديث كثيرة صحيحة، ويذكر بعضهم أحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة، كما يوجد ذلك في كتب الرقائق والرأي وغير ذلك. ا. هـ. قلت: وهذا الحديث ذكره بنصه السابق عبد الحسين، وقال بأن الإمام أحمد أخرجه في المسند، وذكر اسناده، ونسب للشيخ سليم البشرى موافقته على ثبوت الحديث وصحته. وما جاء في المسند (1 / 111) هو ما يأتي: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال، عن عباد ابن عبد الله الأسدي، عن على، قال: لما نزلت هذه الآية " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ". قال: جمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل بيته، فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا. قال: فقال لهم: من يضمن عنى دينى ومواعيدى، ويكون معى في الجنة، ويكون خليفتى في أهلي؟ فقال رجل لم يسمه شريك: يا رسول الله، أنت كنت بحرا، من يقوم بهذا! قال: ثم قاله الآخر، قال: فعرض ذلك على أهل بيته، فقال على: أنا. (انتهى الخبر) . هذا هو نص المسند الذي ذكر الرافضي إسناده، وقال: " كل واحد من سلسلة هذا المسند حجة عند الخصم، وكلهم من رجال الصحاح بلا كلام ". قلت: لننظر في الاسناد ثم في المتن: أما الاسناد ففيه ما يأتي: 1- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الأعمش ثقة لكنه مدلس، ولا يقبل حديث المدلس إذا عنعن، " .... الأعمش (عن) المنهال ... " 2 - المنهال هو ابن عمرو الكوفي: وثقه ابن معين والعجلى والنسائى وقال أحمد بن حنبل: أبو بشر أحب إلى من المنهال وأوثق. وقال الحاكم: غمزه يحيى بن سعيد، وتكلم فيه ابن حزم، وكان يضعفه. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبى يقول: ترك شعبة المنهال بن عمرو على عمد. وقال الحافظ ابن حجر في هدى الساري (ص 446) : ماله في البخاري سوى حديث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في تعويذ الحسن والحسين من رواية زيد بن أبى أنيسة عنه، وحديث آخر في تفسير حم فصلت، اختلف فيه الرواة هل هو موصول أو معلق. (انظر ترجمته في تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال، وهدى الساري ص 445: 446) . 3 - عباد بن عبد الله الأسدي: قال الرافضي: هو عباد بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشى الأسدي، احتج به البخاري ومسلم في صحيحيهما. سمع أسماء وعائشة بنتى أبى بكر. وروى عنه في الصحيحين ابن أبى مليكة، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وهشام بن عروة. قلت: هذا من كذب الرافضي وتضليله! فمن ذكره الرافضي مدني، وصاحبنا كوفي! والاثنان مترجم لهما في صفحة واحدة في تهذيب التهذيب، وكذلك في كتاب الجرح والتعديل، فهما اثنان: والمدني لا خلاف حول توثيقه، أما صاحبنا فقال ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب: عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي. روى عن على. وعنه المنهال بن عمرو. قال البخاري: فيه نظر. وذكره ابن حبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 في الثقات. قلت (أي ابن حجر) : وقال ابن سعد: له أحاديث. وقال على بن المديني ضعيف الحديث. وقال ابن الجوزي: ضرب ابن حنبل على حديثه عن على: أنا الصديق الأكبر، وقال: هو منكر. وقال ابن حزم: هو ... مجهول. ا. هـ ولم يترجم له ابن حجر في هدى الساري كما ترجم للمنهال وأمثاله، لأنه ليس من رجال الصحيحين كما ذكر الرافضي، والبخاري نفسه ضعفه حين قال: فيه نظر. وفى ميزان الاعتدال نجد ترجمة عباد الكوفي ولا نجد ترجمة عباد المدني. قال الذهبي في الميزان: عباد بن عبد الله الأسدي. عن على. قال البخاري: سمع منه المنهال بن عمرو. فيه نظر. قلت (أي الذهبي) : روى العلاء بن صالح، حدثنا المنهال، عند عباد بن عبد الله، عن على، قال: أنا عبد الله، وأخو رسول الله، وأنا الصديق الأكبر، وما قالها أحد قبلى، ولا يقولها إلا كاذب مفتر، ولقد أسلمت وصليت قبل الناس بسبع سنين. قلت (أي الذهبي) : هذا كذب علَى علىّ. قال ابن المديني: ضعيف الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، له في خصائص على. ا. هـ. والذهبي ذكره أيضا في كتابه المغنى في الضعفاء. هذه ثلاث علل في الإسناد وليست علة واحدة، ومع كل هذه العلل ينسب للعلامة شيخ الأزهر أنه قال: "راجعت الحديث في ص 111 من الجزء الأول من مسند أحمد، ونقبت عن رجال سنده، فإذا هم ثقات أثبات حجج " ‍! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وكأن شيخ الأزهر لا يعرف شيئا عن الحديث وعلومه ورجاله!! ولا يفرق بين عباد بن عبد الله الأسدي الكوفي، وهو من الضعفاء، وبين عباد بن عبد الله ابن الزبير بن العوام الأسدي المدني، وهو من الثقات! حاشا لعلامة زمانه أن يكون كذلك! ‍ ونأتى إلى ما هو أوضح ولا يحتاج إلى عالم ليميز كلام الرافضي من حديث المسند، بل يدركه كل من يحسن القراءة ‍‍‍‍‍! فنص المسند: " ويكون خليفتى في أهلي "، فأين الإمامة العامة هنا؟! ‍ونهاية الخبر " فقال على: أنا "، وليس فيه الزيادة الباطلة المفتراة: " إن هذا أخي ووصيى وخليفتى فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا .... " فكيف تنسب هذه الزيادة للمسند، وهو موضع الاستدلال؟ وفى رواية أخرى في المسند أيضا: ".. يابنى عبد المطلب، إنى بعثت لكم خاصة وإلى الناس بعامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعنى على أن يكون أخي وصاحبى؟ قال: فلم يقم إليه أحد. قال (أي على) : فقمت إليه، وكنت أصغر القوم، قال: فقال: اجلس، قال: ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: اجلس، حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدى ". انتهى الخبر. (انظر المسند بتحقيق شاكر 2 / 352 ـ رواية رقم 1371) وواضح من الخبر أن عليا لم يكن هو المقصود، ولذلك أمره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجلوس، ولما لم ينفذ أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اضطر إلى زجره أو تنبيهه بالضرب على يده في المرة الثالثة. فكيف تتخذ مثل هذه الأخبار في هدم الإسلام، والطعن في نقلة الكتاب والسنة، وتكفير خير جيل عرفته البشرية لعدم أخذهم بمبدأ ابن سبأ في الوصي بعد النبي، ومبايعتهم للصديق خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! ‍‍‍‍‍‍‍‍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 قال الرافضي في المراجعة (20) بعد ذكر الخبر: " أخرجه بهذه الألفاظ كثير من حفظة الآثار النبوية " وقد رأينا كذبه فيما نسبه لمسند الإمام أحمد، وكان الكذب في الإسناد والمتن. وأحب أن أبين طريقة أخرى من طرق الرافضي في التضليل: ذكر الرافضي أن أبا الفداء الحافظ ابن كثير أخرج هذا الخبر بهذه الألفاظ في تاريخه. فنظرت في البداية والنهاية فوجدت الخبر مع إشارة للزيادة: " إن هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا ". قال (أي على) : فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبى طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ‍! (جـ3 ص40) . فأين التضليل هنا إذن ما دام الخبر يتفق مع ماذكره الرافضي؟ التضليل ـ أيها المسلمون ـ هو أن الرافضي لم يشر من قريب أو بعيد إلى ما ذكره الحافظ ابن كثير بعد إيراده الخبر مباشرة، حيث قال ما نصه: " تفرد به عبد الغفار بن القاسم أبو مريم، وهو كذاب شيعي، اتهمه على بن المديني وغيره بوضع الحديث وضعفه الباقون ". المراجعة الثامنة وأحاديثها في هذه المراجعة يظهر لنا بوضوح أن عبد الحسين رافضى، بل من أخبث الروافض، فهو ينتهى إلى القول بضلال الأمة وكفرها بدءا بخير أمة أخرجت للناس، وخير قرن عرفته البشرية، خير الناس الصحابة الكرام الذين بايعوا الخلفاء الراشدين الثلاثة فهم في زعم هذا الرافضي خالفوا أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يجعلوا الوصي بعده مباشرة على بن أبى طالب، وهو القول الذي اخترعه لأول مرة اليهودى عبد الله بن سبأ. وهذا الطعن يشمل الإمام عليا نفسه لأنه ممن بايع كما بينا من قبل، وممن فضل الصديق والفاروق على باقي الأمة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما ثبت بالتواتر من ثمانين طريقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وهذا الرافضي يضيف إلى هذا الطعن العام طعنا خاصاً، فيصف الخلفاء الراشدين الثلاثة بأنهم " أبناء الوزغ ": والوزغ دويبة يقال لها سام أبرص، ويوصف بها الرجل إذا كان ضعيفا جبانا رزلا رديئا لا مروءة له. (راجع معاجم اللغة: والمجموع المغيث في غريبى القرآن والحديث 409 ـ 410) لو كان هذا الرافضي في عهد الإمام على كرم الله وجهه ـ لكان موقفه منه كموقفه من ابن سبأ سواء بسواء. ولننظر في الأحاديث التي ذكرها في هذه المراجعة لينتهى منها إلى الحكم بضلال وكفر الصحابة الكرام وخير أمة أخرجت للناس. استند أساسا إلى حديث الثقلين، وفيما سبق جمعت كل روايات هذا الحديث، وبينت الصحيح منها وغير الصحيح، وتحدثت عن فقه الحديث الصحيح وعدم صلته بالخلافة على الإطلاق. أما الروايات غير الصحيحة، سواء أكانت ضعيفة أم موضوعة مكذوبة، فإنها ليست حجة في شرع الله تعالى، ويعارضها ويسقطها الصحيح الصريح من الأحاديث الشريفة. والملاحظ أنه ترك الروايات الصحيحة، كرواية صحيح مسلم وغيره، وذكر الروايات الأخرى. وأثناء الروايات جاء ذكر " من كنت مولاه فعلى مولاه "، وقد سبق الحديث عنه. وأكثر هنا من النقل من كتاب " الصواعق المحرقة "، ومن أجل مثل هذه النقول ستكون الوقفة الطويلة مع هذا الكتاب. وبعد حديث الثقلين ذكر حديثين آخرين استدل بهما على ضلال وكفر خير أمة أخرجت للناس ‍!! ‍هكذا ظهر خليفة ابن سبأ. فلننظر إلى هذين الحديثين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الحديث الأول: " ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق " وقال الرافضي: أخرجه الحاكم بالإسناد إلى أبى ذر. وذكر رواية أخرى للحديث، وهى: " إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بنى إسرائيل من دخله غفر له ". وقال: أخرجه الطبرانى في الأوسط عن أبى سعيد. الحديث الثانى: " النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتى من الاختلاف (في الدين) ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب (يعنى في أحكام الله عز وجل) اختلفوا فصاروا حزب إبليس ". وقال الرافضي: أخرجه الحاكم عن ابن عباس ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قلت: الحديث الأول أخرجه الحاكم في المستدرك (3 / 151) ، وتعقبه الذهبي وبين وهى الإسناد، والحديث الثانى في المستدرك (3 / 149) ، وصححه الحاكم كما ذكر الرافضي، ولكنه لم يذكر تعقيب الذهبي حيث قال: بل موضوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 والحديث الأول في إسناده المفضل بن صالح الكوفي. قال البخاري عنه: منكر الحديث، وهذا الجرح عند البخاري يعنى أنه لا يحل الرواية عنه. وقال مثل هذا أيضا أبو حاتم، وغيره (1) . والحديث الثانى بين الذهبي أنه موضوع، وأن الوضع بسبب راويين اثنين وليس راويا واحدا. وذكر الشيخ الألبانى الحديث بلفظ " أهل بيتي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم "، وبين أنه موضوع، وقال: وهو في نسخة أحمد بن نبيط الكذاب، وقد وقفت عليها (2) . وذكره أيضا ابن عراق في كتابه " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة: 1 / 419 "، وقال بأنه من طريق أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط، وترجم له من قبل في مقدمة الكتاب (ص) ، فقال: " كذاب، حدث عن أبيه عن جده بنسخة فيها بلايا ". ومن قبل عند مناقشة روايات التمسك بالكتاب والعترة، وهو حديث الثقلين، أشرت إلى أن أصحاب الحديث أنكروا على الحاكم كثيرا من الأحاديث، ولم يلتفتوا إلى تصحيحه. وذكرت قول ابن حجر في لسان الميزان عند ترجمة الحاكم: إمام صدوق، ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك، فما أدرى هل خفيت عليه؟ فما هو ممن يجهل ذلك. وإن علم فهو خيانة عظيمة. ثم هو شيعي مشهور بذلك من غير تعرض للشيخين. والحاكم أجل قدرا وأعظم خطرا وأكبر ذكرا من أن يذكر في الضعفاء. ولكن قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره. وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره، ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له، وقطع بترك الرواية   (1) انظر تهذيب التهذيب لابن حجر 10 / 271 ـ 272، والجرح والتعديل لابن أبى حاتم 8 / 316 ـ 317، والمغنى في الضعفاء للذهبى 2 / 320. (2) انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1 / 84 ـ 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 عنهم، ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها. إذن تصحيح الحاكم ليس بحجة، مع إمامته وصدقه كما بين الحافظ ابن حجر. ونأتى بعد هذا إلى رواية الطبرانى في الأوسط التي ذكرها الرافضي، وبالبحث نجد أن هذه الرواية إضافة إلى ثلاث روايات أخرى أخرجها الطبرانى في المعجم الكبير: في الجزء الثالث (ص 45، 46) ثلاث روايات: الأولى هي رقم 2636، وفى سندها الحسن بن أبى جعفر: وهو متروك، وعلى بن زيد ابن جدعان: وهو ضعيف. والثانية رقم 2637، وفى سندها عبد الله بن داهر: وهو متروك. وعبد الله بن عبد القدوس: بينت عدم الاحتجاج به عند الحديث عن آية التطهير، والأعمش: وهو مدلس، وهنا عنعن. والرواية الثالثة رقم 2638، وفى سندها الحسن بن أبى جعفر الموجود في الرواية الأولى. وهو أيضا في الرواية الرابعة، وهى في الجزء الثانى عشر ص 34، ورقمها 12388. فروايات الطبرانى كلها لم تخل من المتروكين، فكيف يحتج بمثلها؟ ‍! (انظر تخريج الروايات في المواضع المذكورة من المعجم الكبير) بقى أن نقول بأن استدلال الرافضي بهذه الأحاديث الثلاثة ليس جديدا! فقد وجدنا ابن المطهر الحلى يستدل بهذه الأحاديث نفسها، وهو الرافضي الذي رد عليه شيخ الإسلام، وأبطل احتجاجه بهذه الأحاديث وغيرها. بل إن ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 المطهر استدل بحديث السفينة نقلا عن شيخه نصير الدين الطوسي المتوفى سنة 672 هـ (1) . والطوسى هذا هو أبو جعفر ـ أو أبو عبد الله ـ محمد بن محمد بن الحسن، ويعرف بالمحقق وبالخواجه. " اتصل بهولاكو وأصبح مقربا عنده، وأشار عليه بقتل المستعصم وذبح المسلمين في بغداد (2) . وتحدث ابن القيم عنه فقال: " ولما انتهت النوبة إلى نصير الشرك والكفر الملحد، وزير الملاحدة، النصير الطوسي وزير هولاكو، شفا إخوانه نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم على السيف، حتى شفا إخوانه من الملاحدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين، واستبقى الفلاسفة، والمنجمين، والطبائعيين والسحرة. ونقل أوقاف المدارس والمساجد، والربط إليهم، وجعلهم خاصته وأولياءه، ونصر في كتبه قدم العالم، وبطلان الميعاد، وإنكار صفات الرب جل جلاله: من علمه، وقدرته، وحياته، وسمعه وبصره، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وليس فوق العرش إله يعبد ألبتة، واتخذ للملاحدة مدارس " (3) ثم قال: " وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر " (4) . وقال أيضا: " وكان هؤلاء زنادقة، يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو وأهل بيته براء منهم نسبا ودينا،   (1) انظر الأحاديث الثلاثة ورد شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية: 3 / 444، ... 7 / 142، 7 / 395، وما بعد الصفحات المذكورة. (2) مقدمة منهاج السنة للدكتور محمد رشاد سالم1 / 95، وانظر قول ابن تيمية في7 / 414. (3) ، (254) إغاثة اللهفان، ص 601. (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، لا يحرمون حراما، ولا يحلون حلالا (1) . وهذا الملحد يلقبه أهل السنة بشيطان الطاق، ولكن الرافضة يطلقون عليه مؤمن الطاق! والرافضى في مراجعاته يلقبه بمؤمن الطاق (2) ، ولا عجب، فهدفهما واحد. ووجدنا من الرافضة من يعتبر مجدد المائة السابعة الخواجه نصير الدين الطوسي كما صرح شهاب الدين الحسينى المرعشى النجفي في كتابه غاية الآمال (ص: خ) الذي جعله مقدمة لكتاب بهجة الآمال لرافضى مثله!! المراجعة التاسعة وجرأة الرافضي على الكذب والافتراء مرت المراجعة الثامنة بما فيها من البلايا والرزايا، وتكفير خير أمة أخرجت للناس، وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأثبتت المراجعة أن صاحبها ليس رافضيا فقط بل من أخبث الروافض أتباع عبد الله بن سبأ. وتأتى المراجعة التاسعة لتثبت من جديد قول الإمام الشافعى: " ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة ". ولتبين أن هذا الرافضي من أكثرهم جرأة على الكذب والافتراء. لو أن شيخ الأزهر والمالكية عرض عليه المراجعة الثامنة لعاقب هذا الرافضي عقوبة تتناسب مع جريرته وجريمته. ووضوح الكذب بجلاء في المراجعة كلها من بدايتها إلى نهايتها:   (1) المرجع السابق، ص 600. (2) انظر المراجعة 110، ص 342. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فكيف يرحب الشيخ البشرى بتكفير الصحابة وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة، ويطلب المزيد بقوله: أطلق عنان القلم .... ؟ ! يصف ما سبق بأنه من جوامع الكلم، ونوابغ الحكم، وضوال الحكمة؟! والشيخ بمكانته وعلمه وقد بلغ الثانية والثمانين من عمره قبيل وفاته ببضع سنوات لم يستحى هذا الرافضي أن ينسب له منكرا من القول وزورا: " وأنا في أخذ العلم عنك على جمام من نفسى و ..... إلخ "؟! .......... " فزدنى منه لله أبوك زدنى "؟! والعلم هنا من كتب أهل السنة والجماعة وليس من كتب الروافض! فبعد الثمانين جاء رافضى يعلمه ما في كتبنا!! والأحاديث التي بينا ما فيها ينسب الرافضي للعالم العلامة أنه رحب بها، وطلب المزيد منها، ووصفها بأنها أدلة وبينات!! إن الطالب الذي حصل شيئا من العلم يستطيع الرجوع إلى منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، والصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمى، ليبين بطلان وضلال ما جاء في المراجعة الثامنة. لكن هذا الرافضي الطريد أراد ـ دون خجل أو استحياء ـ أن يجعل شيخ الأزهر العالم الثبت تلميذا صغيرا جاهلا يتلقى العلم لأول مرة على يديه! المراجعة العاشرة وأحاديثها بعد أن جعل المراجعة السابقة تأييدا لباطله، بل إعجابا بهذا الباطل، ونسب للشيخ البشرى أنه طلب المزيد من النصوص دون أن يعترض على نص واحد، أو يشير إلى ضعفه فضلا عن وضعه، كما لم يعترض على تكفير الصحابة وخير أمة أخرجت للناس، وسب الخلفاء الراشدين الثلاثة، وغير ذلك من البلايا والرزايا، بعد هذا تأتى المراجعة العاشرة بمزيد من الأحاديث الموضوعة المكذوبة، وكل الأحاديث بلا استثناء أخذت من مراجع يعلم من له أدنى دراية بالحديث وعلومه أنها مراجع لا يكفى نسبة الأحاديث إليها لتكون حجة في الفروع، فكيف إذا كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 يستدل بها على عقيدة الرافضي، والحكم على الأمة كلها بالضلال؟! وإذا كان الباحث عادة يبدأ بأقوى الأدلة في نظره، فإن هذا يعنى أنه يرى أن أحاديث المراجعة الثامنة أقوى من أحاديث هذه المراجعة. فإذا لم يثبت هناك أي حديث فمن باب أولى ألا يثبت هنا حديث واحد. ولننظر في الأحاديث الثلاثة التي بدأ بها مراجعته، أي أقوى الأحاديث في نظره. وقد أغنانا عن البيان الشيخ الألبانى حيث ذكر هذه الأحاديث في الجزء الثانى من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وبين أنها موضوعة وليست ضعيفة فقط، وأشار إلى هذا الرافضي، ومنهجه في كتابه المراجعات. ولذلك فإننى أنقل كلامه هنا تاما غير منقوص، وأرقامها في كتابه هي: 892، 893، 894. وهذه هي الأحاديث بأرقامها في الكتاب 892 (من أحب أن يحيا حياتى، ويموت موتتى، ويسكن جنة الخلد التي وعدنى ربى عزوجل، غرس قضبانها بيديه، فليتول على بن أبى طالب، فإنه لن يخرجكم من هدى، ولن يدخلكم في ضلالة) . موضوع: رواه أبو نعيم في " الحلية " (4 / 349 ـ 350) والحاكم (3 / 128) وكذا الطبرانى في " الكبير " وابن شاهين في " شرح السنة " (18 / 65 / 2) من طرق عن يحيى بن يعلى الأسلمى قال: ثنا عمر بن رزيق عن أبى إسحاق عن زياد بن مطرف عن زيد بن أرقم ـ زاد الطبرانى: وربما لم يذكر زيد بن أرقم ـ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فذكره. وقال أبو نعيم: " غريب من حديث أبى إسحاق، تفرد به يحيى ". قلت: وهو شيعي ضعيف، قال ابن معين: " ليس بشئ ". وقال البخاري: " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 مضطرب الحديث ". وقال ابن أبى حاتم (4 / 2 / 196) عن أبيه: " ليس بالقوى، ضعيف الحديث ". والحديث قال الهيثمى في " المجمع" (9 / 108) : " رواه الطبرانى، وفيه يحيى بن يعلى الأسلمى، وهو ضعيف ". " قلت: وأما الحاكم فقال: صحيح الإسناد "! فرده الذهبي بقوله: " قلت: أنى له الصحة والقاسم متروك. وشيخه (يعنى الأسلمى) ضعيف. واللفظ ركيك، فهو إلى الوضع أقرب ". وأقول: القاسم ـ وهو ابن شيبة ـ لم يتفرد به، بل تابعه راويان آخران عند أبى نعيم، فالحمل فيه على الأسلمى وحده دونه. نعم للحديث عندي علتان أخريان: الأولى: أبو إسحاق، وهو السبيعى فقد كان اختلط مع تدليسه، وقد عنعنه. الأخرى: الاضطراب في إسناده منه أو من الأسلمى، فإنه يجعله تارة من مسند زيد بن أرقم، وتارة من مسند زياد بن مطرف، وقد رواه عنه مطين والباوردى وابن جرير وابن شاهين في " الصحابة " كما ذكر الحافظ بن حجر في " الإصابة " وقال: " قال ابن منده: " لا يصح ": قلت: في إسناده يحيى بن يعلى المحاربى. وهو واه ". قلت: وقوله " المحاربى " سبق قلم منه. وإنما هو الأسلمى كما سبق ويأتى. (تنبيه) لقد كان الباعث على تخريج هذا الحديث ونقده. والكشف عن علته. أسباب عدة، منها أنني رأيت الشيخ المدعو بعبد الحسين الموسوي الشيعي قد خرج الحديث في (مراجعاته) (ص 27) تخريجا أوهم به القراء أنه صحيح كعادته في أمثاله. واستغل في سبيل ذلك خطأ قلميا وقع للحافظ ابن حجر رحمه الله. فبادرت إلى الكشف عن إسناده، وبيان ضعفه، ثم الرد على الإيهام المشار إليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وكان ذلك منه على وجهين. فأنا أذكرهما، معقبا على كل منهما ببيان ما فيه فأقول: الأول: أنه سابق الحديث من رواية مطين ومن ذكرنا معه نقلا عن الحافظ من رواية زياد بن مطرف، وصدره برقم (38) . ثم قال: " ومثله حديث زيد بن أرقم .... " فذكره، ورقم له بـ (39) . ثم علق عليهما مبينا مصادر كل منهما، فأوهم بذلك أنهما حديثان متغايران إسنادا ‍! والحقيقة خلاف ذلك، فإن كل منهما مدار إسناده على الأسلمى، كما سبق بيانه غاية ما في الأمر أن الراوى كان يرويه تارة عن زياد بن مطرف عن زيد بن أرقم، وتارة لا يذكر فيه زيد بن أرقم ويوقفه على زياد بن مطرف، وهو مما يؤكد ضعف الحديث لاضطرابه في إسناده كما سبق. والآخر: أنه حكى تصحيح الحاكم للحديث دون أن يتبعه بيان علته، أو على الأقل دون أن ينقل كلام الذهبي في نقده. وزاد في إيهام صحته أنه نقل عن الحافظ قوله في " الإصابة ". " قلت في إسناده يحيى بن يعلى المحاربى وهو واه ". فتعقبه عبد الحسين (‍!) بقوله: " أقول: هذا غريب من مثل العسقلانى، فإن يحيى بن يعلى المحاربى ثقة بالاتفاق، وقد أخرج له البخاري ... ومسلم .... ". فأقول: أغرب من هذا الغريب أن يدير عبد الحسين كلامه في توهيمه الحافظ في توهينه للمحاربى، وهو يعلم أن المقصود بهذا التوهين إنما هو الأسلمى وليس المحاربى، لأن هذا مع كونه من رجال الشيخين، فقد وثقه الحافظ نفسه في " التقريب " وفى الوقت نفسه ضعف الأسلمى، فقد قال في الترجمة الأولى: " يحيى بن يعلى بن الحارث المحاربى الكوفي ثقة، من صغار التاسعة مات سنة ست عشرة ". وقال بعده بترجمة: " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 يحيى بن يعلى الأسلمى الكوفي شيعي ضعيف، من التاسعة ". وكيف يعقل أن يقصد الحافظ تضعيف المحاربى المذكور وهو متفق على توثيقه، ومن رجال " صحيح البخاري " الذي استمر الحافظ في خدمته وشرحه وترجمة رجاله قرابة ربع قرن من الزمان؟! كل ما في الأمر أن الحافظ في " الإصابة " أراد أن يقول: " ... . الأسلمى وهو واه " فقال واهما: " المحاربى وهو واه ". فاستغل الشيعي هذا الوهم أسوأ الاستغلال. فبدل أن ينبه أن الوهم ليس في التوهين. وإنما في كتب " المحاربى " مكان الأسلمى. أخذ يوهم القراء عكس ذلك وهو أن راوى الحديث إنما هو المحاربى الثقة وليس الأسلمى الواهى! فهل في صنيعه هذا ما يؤيد من زكاه في ترجمته في أول الكتاب بقوله: " ومؤلفاته كلها تمتاز بدقة الملاحظة.. وأمانة النقل ". أين أمانة النقل يا هذا وهو ينقل الحديث من " المستدرك " وهو يرى فيه يحيى ابن يعلى موصوفا بأنه " الأسلمى " فيتجاهل ذلك، ويستغل خطأ الحافظ ليوهم القراء أنه المحاربى الثقة. وأين أمانته أيضا وهو لا ينقل نقد الذهبي والهيثمى للحديث بالأسلمى هذا؟! فضلا عن أن الذهبي أعله لمن هو أشد ضعفا من هذا كما رأيت، ولذلك ضعفه السيوطى في " الجامع الكبير " على قلة عنايته فيه بالتضعيف فقال: " وهو واه ". وكذلك وقع في " كنز العمال " رقم (2578) ، ومنه نقل الشيعي الحديث دون أن ينقل تضعيفه هذا مع الحديث، فأين الأمانه المزعومه أين؟! (تنبيه) أورد الحافظ ابن حجر الحديث في ترجمة زياد بن مطرف في القسم الأول من " الصحابة " وهذا القسم خاص كما قال في مقدمته، " فيمن وردت صحبته بطريق الروايه عنه أو عن غيره، سواء كانت الطريق صحيحة أو حسنة أو ضعيفة، أو وقع ذكره بما يدل على الصحبة بأي طريق كان، وقد كنت أولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 رتبت هذا القسم الواحد على ثلاثة أقسام، ثم بدا لي أن أجعله قسما واحدا، وأميز ذلك في كل ترجمة ". قلت: فلا يستفاد إذن من إيراد الحافظ للصحابى في هذا القسم أن صحبتة ثابتة، ما دام أنه قد نص على ضعف إسناد الحديث الذي صرح فيه بسماعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو هذا الحديث، ثم لم يتبعه بما يدل على ثبوت صحبته من طريق أخرى، وهذا ما أفصح بنفيه الذهبي في " التجريد " بقوله: (1 / 199) : " زياد بن مطرف، ذكره مطين في الصحابة، ولم يصح ". وإذا عرفت هذا فهو بأن يذكر في المجهولين من التابعين أولى من أن يذكر في الصحابة المكرمين وعليه فهو علة ثالثة في الحديث. ومع هذه العلل كلها في الحديث يريدنا الشيعي أن نؤمن بصحته عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير عابئ بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حدث عنى بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ". رواه مسلم في مقدمة " صحيحة " فالله المستعان. وكتاب " المراجعات " للشيعى المذكور محشو بالأحاديث الضعيفة والموضوعة في فضل على رضي الله عنه، مع كثير من الجهل بهذا العلم الشريف، والتدليس على القراء والتضليل عن الحق الواقع. بل والكذب الصريح. مما لا يكاد القارئى الكريم يخطر في باله أن أحدا من المؤلفين يحترم نفسه يقع في مثله. من أجل ذلك قويت الهمة في تخريج تلك الأحاديث ـ على كثرتها ـ وبيان عللها وضعفها. مع الكشف عما في كلامه عليها من التدليس والتضليل. وذلك ما سيأتي بإذن الله تعالى برقم (4881 ـ 4975) . 893 (من سره أن يحيا حياتى، ويموت ميتتى، ويتمسك بالقصبة الياقوتة التي خلقها الله بيده، ثم قال لها " كونى فكانت " فليتول على بن أبى طالب من بعدى) . موضوع: رواه أبو نعيم (1 / 86 و4 / 174) من طريق محمد بن زكريا الغلابى: ثنا بشر بن مهران: ثنا شريك عن الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة مرفوعا. وقال: " تفرد به بشر عن شريك " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 قلت: هو ابن عبد الله القاضى وهو ضعيف لسوء حفظه. وبشر بن مهران قال ابن أبى حاتم: " ترك أبى حديثه ". قال الذهبي: " قد روى عنه محمد بن زكريا الغلابى، لكن الغلابى متهم ". قلت: ثم ساق هذا الحديث. والغلابى قال فيه الدارقطنى: " يضع الحديث ". فهو آفته. والحديث أورده ابن الجوزي في " الموضوعات" (1 / 387) من طرق أخرى، وأقره السيوطى في " اللآلئ " (1 / 368 ـ 369) ، وزاد عليه طريقين آخرين أعلهما، هذا أحدهما وقال: " الغلابى متهم ". وقد روى بلفظ أتم منه، وهو: 894 " من سره أن يحيا حياتى، ويموت مماتى، ويسكن جنة عدن غرسها ربى فليوال عليا من بعدى، وليوال وليه، وليقتد بالأئمة من بعدى. فإنهم عترتى، خلقوا من طينتى، رزقوا فهما وعلما، وويل للمكذبين بفضلهم من أمتى، القاطعين فيهم صلتى، لا أنالهم الله شفاعتى ". موضوع: أخرجه أبو نعيم (1 / 86) من طريق محمد بن جعفر بن عبد الرحيم: ثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم: ثنا عبد الرحمن بن عمران ابن أبى ليلى ـ أخو محمد بن عمران ـ: ثنا يعقوب بن موسى الهاشمى عن ابن أبى رواد عن إسماعيل بن أمية عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا. وقال: " وهو غريب ". قلت: وهذا إسناد مظلم، كل من دون ابن أبى رواد مجهولون. لم أجد ذكرهم. غير أنه يترجح عندي أن أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم إنما هو ابن مسلم الأنصارى الأطرابلسى المعروف بابن أبى الحناجر، قال ابن أبى حاتم (1 / 1 / 73) : " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 كتبنا عنه وهو صدوق ". وله ترجمة في " تاريخ ابن عساكر" (2 / ق 113 ـ 114 / 1) . وأما سائرهم فلم أعرفهم، فأحدهم هو الذي اختلق هذا الحديث الظاهر البطلان والتركيب، وفضل على رضي الله عنه أشهر من أن يستدل عليه بمثل هذه الموضوعات، التي يتشبث الشيعه بها، ويسودون كتبهم بالعشرات من أمثالها مجادلين بها في إثبات حقيقة لم يبق اليوم أحد يجحدها، وهى فضيلة على رضي الله عنه. ثم الحديث عزاه في " الجامع الكبير " (2 / 253 / 1) للرافعى أيضا عن ابن عباس، ثم رأيت ابن عساكر أخرجه في " تاريخ دمشق " (12 / 120 / 2) من طريق أبى نعيم ثم قال عقبه: " هذا حديث منكر، وفيه غير واحد من المجهولين ". قلت: وكيف لا يكون منكرا، وفى مثل ذاك الدعاء! " لا أنالهم الله شفاعتى " الذي لا يعهد مثله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يتناسب مع خلقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورأفته ورحمته بأمته؟ وهذا الحديث من الأحاديث التي أوردها صاحب " المراجعات " عبد الحسين الموسوي نقلا عن كنز العمال (6 / 155 و217 ـ 218) موهما أنه في مسند الإمام أحمد، معرضا عن تضعيف صاحب الكنز إياه تبعا للسيوطى ... ... . وكم في هذا الكتاب " المراجعات " من أحاديث موضوعات، يحاول الشيعي أن يوهم القراء صحتها وهو في ذلك لا يكاد يراعى قواعد علم الحديث حتى التي هي على مذهبهم إذ ليست الغاية عنده التثبت مما جاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فضل على رضي الله عنه، بل حشر كل ما روى فيه! وعلى رضي الله عنه كغيره من الخلفاء الراشدين والصحابة الكاملين أسمي مقاما من أن يمدحوا بما لم يصح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ولو أن أهل السنة والشيعة اتفقوا على وضع قواعد في " مصطلح الحديث " يكون التحاكم إليها عند الاختلاف في مفردات الروايات، ثم اعتمدوا جميعا على ما صح منها، لو أنهم فعلوا ذلك لكان هناك أمل في التقارب والتفاهم فهيهات هيهات أن يمكن التقارب والتفاهم معهم. بل كل محاولة في سبيل ذلك فاشلة. والله المستعان. انتهى كلام الشيخ العلامة، حفظه الله تعالى ونفعنا بعلمه. هذه هي الأحاديث الثلاثة التي بدأ بها مراجعته، وكلها موضوعة مكذوبة، وما يأتي بعدها ليس بأحسن حالاً منها، وعددها ثلاثة عشر، وبالنظر إلى مراجعه التي جمع منها هذه الأحاديث نجد الآتى: خمسة أحاديث من كتاب الصواعق المحرقة، وابن حجر الهيثمى أثبت بطلان عقيدة الرافضة، ولهذا ألف كتابه الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة. وقد بين في كتابه عدم صحة ما يستدلون به، وأنه معارض بالمتواتر والصحيح. والرافضى ينقل غير الصحيح الذي يؤيد باطله، متجاهلا ما يعارضه. ولذلك سأقف وقفة طويلة تغنينا عن الرجوع لما ينقل من كتاب الصواعق. ونقل ثلاثة أحاديث من كنز العمال لم يصح منها شيء. وباقى مراجعه هي: إسعاف الراغبين، والشرف المؤبد، والشفا، وإحياء الميت، والأربعين للنبهانى، وتفسير الثعلبى، وتفسير الزمخشري. وأخذ الأحاديث من هذه المراجع يدل على جهل أو تجاهل الرافضي للحديث وعلومه، والمنهج العلمى في الاستدلال بالسنة المطهرة. فهذه الكتب كلها ليست من الكتب المعتمدة للسنن والآثار، فضلا عن أن تكون من الصحاح. بل إن هذه الكتب يكثر فيها الأخبار الباطلة مثل هذه الأخبار المنقولة. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 باب مدينة العلم من الأحاديث التي استدل الرافضيان " أنا مدينة العلم وعلى بابها "، وأثبت هنا رد شيخ الإسلام على ابن المطهر. قال رحمه الله تعالى: وحديث: " أنا مدينة العلم وعلى بابها " أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعدّ في الموضوعات، وإن رواه الترمذي، وذكره ابن الجوزي وبيّن أن سائر طرقه موضوعة، والكذب يعرف من نفس متنه، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلا باب واحد، ولم يُبلّغ عنه العلم إلا واحد، فَسَدَ أمر الإسلام، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحدا، بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر، الذي يحصل العلم بخبرهم للغائب. وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن، وتلك قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة. وإذا قالوا: ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره. قيل لهم: فلابد من العلم بعصمته أولا. وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن يعلم عصمته، فإنه دَوْر، ولا تثبت بالإجماع، فإنه لا إجماع فيها. وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة، لأن فيهم الإمام المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، فعُلم أن عصمته لو كانت حقا لابد أن تعلم بطريق آخر غير خبره. فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلا هو، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين، فعلم أن هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنه مدحا، وهو مطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام، إذ لم يبلغه إلا واحد. ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر؛ فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير على. أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيهما ظاهر، وكذلك الشام والبصرة؛ فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن على إلا شيئا قليلا، وإنما كان غالب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 علمه في الكوفة، ومع هذا فأهل الكوفة كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان، فضلا عن علىّ. وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر، وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من على. ولهذا روى أهل اليمن عن مُعاذ بن جبل أكثر مما رووا عن على، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل. ولما قدم على الكوفة كان شريح فيها قاضيا. وهو وعبيدة السلمانى تفقها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم على الكوفة. وقال ابن حزم: " واحتج من احتج من الرافضة بأن عليا كان أكثرهم علما ". قال: " وهذا كذب، وإنما يعرف علم الصحابى بأحد وجهين لا ثالث لهما: أحدهما: كثرة روايته وفتاويه. والثانى: كثرة استعمال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له. فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من لا علم له. وهذه أكبر شهادة على العلم وسعته، فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ولى أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته، وجميع أكابر الصحابة حضور، فعمر وعلى وابن مسعود وأبى وغيرهم، فهذا بخلاف استخلافه عليا إذا غزا، لأن ذلك على النساء وذوى الأعذار فقط، فوجد ضرورة أن يكون أبو بكر أعلم الناس بالصلاة وشرائعها، وأعلم المذكورين بها، وهى عمود الإسلام. ووجدناه أيضا قد استعمله على الصدقات، فوجب ضرورة أن يكون عنده من علم الصدقات كالذى عند غيره من علماء الصحابة، لا أقل، وربما كان أكثر، إذ قد استعمل غيره، وهو لا يستعمل إلا عالما بما استعمله فيه، والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة. وبرهان ما قلناه من تمام علم أبى بكر بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها، والذى يلزم العمل به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبى بكر، ثم الذي من طريق عمر. وأما من طريق على فمضطرب، وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة، وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمسا من الشياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وأيضا فوجدناه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعمل أبا بكر على الحج، فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج. وهذه دعائم الإسلام. ثم وجدناه قد استعمله على البعوث، فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على البعوث، إذ لا يستعمل إلا عالما بالعمل، فعند أبى بكر من علم الجهاد كالذى عند على وسائر أمراء البعوث لا أقل. وإذا صح التقدم لأبى بكر علَى علىّ وغيره في العلم بالصلاة والزكاة والحج، وساواه في الجهاد، فهذه عمدة للعلم. ثم وجدناه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ألزم نفسه في جلوسه ومسامرته وظعنه وإقامته أبا بكر، فشاهد أحكامه وفتاويه أكثر من مشاهدة على لها، فصح ضرورة أنه أعلم بها، فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المقدم فيها الذي لا يلحق؟ أو المشارك الذي لا يسبق؟ فبطلت دعواهم في العلم، والحمد لله رب العالمين. وأما الرواية والفتيا، فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا سنتين وستة أشهر، ولم يفارق المدينة إلا حاجا أو معتمرا، ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن كل من حواليه أدركوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى ذلك كله فقد روى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مائة حديث واثنين وأربعين حديثا مسندة، ولم يرو عن على إلا خمسمائة وستة وثمانون حديثا مسندة، يصح منها نحو خمسين حديثا. وقد عاش بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أزيد من ثلاثين سنة، فكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى ما عنده، لذهاب جمهور الصحابة، وكثر سماع أهل الآفاق، منه مرة بصفين، وأعواما بالكوفة، ومرة بالبصرة، ومرة بالمدينة، فإذا نسبنا مدة أبى بكر من حياته، وأضفنا تفرى على البلاد بلدا بلدا، وكثرة سماع الناس منه، إلى لزوم أبى بكر موطنه، وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه، ثم نسبنا عدد حديثه من عدد حديثه، وفتاويه من فتاويه، علم كل ذى حظ من علم أن الذي عند أبى بكر من العلم أضعاف ما كان عند على منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وبرهان ذلك أن مَنْ عُمّر من الصحابة عُمرا قليلا قلّ النقل عنه، ومن طال عمره منهم كثر النقل عنه إلا اليسير ممن اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم الناس. وقد عاش على بعد عمر سبعة عشر عاما غير أشهر، ومسند عمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثا، يصح منها نحو خمسين، كالذى عن على سواء، فكل ما زاد حديث علىّ علَى حديث عمر تسعة وأربعون حديثا في هذه المدة، ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديث أو حديثان. وفتاوى عمر موازية لفتاوى على في أبواب الفقه، فإذا نسبنا مدة من مدة، وضربا في البلاد من ضرب فيها، وأضفنا حديثا إلى حديث، وفتاوى إلى فتاوى، علم كل ذى حس علما ضروريا أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند على، ووجدنا مسند عائشة ألفى مسند ومائتى مسند وعشرة مسانيد، وحديث أبى هريرة خمسة آلاف مسند، وثلثمائة مسند، وأربعة وسبعون مسندا، ووجدنا مسند ابن عمر وأنس قريبا من مسند عائشة لكل واحد منهما، ووجدنا مسند جابر وابن عباس لكل واحد منهما، أزيد من ألف وخمسمائة، ووجدنا لابن مسعود ثمانمائة مسند ونيفا، ولكل من ذكرنا ـ حاشا أبى هريرة وأنس ـ من الفتاوى أكثر من فتاوى على أو نحوها، فبطل قول هذا الجاهل ". إلى أن قال: " فإن قالوا: قد استعمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا على الأخماس وعلى القضاء باليمن؟ قلنا: نعم، لكن مشاهدة أبى بكر لأقضية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقوى في العلم وأثبت مما عند على وهو باليمن، وقد استعمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر على بعوث فيها الأخماس، فقد ساوى علمه علم على في حكمها بلا شك، إذ لا يستعمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا عالما بما يستعمله عليه، وقد صح أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يفتيان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يعلم ذلك، ومحال أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم من غيرهما، وقد استعمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا على القضاء باليمن مع على معاذا وأبا موسى الأشعرى، فلعلىّ في هذا شركاء كثير، منهم أبو بكر وعمر، ثم انفرد أبو بكر بالجمهور والأغلب من العلم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 نظرة في الكتب التي ينقل منها الرافضيان أشار شيخ الإسلام الى بعض الكتب التي نقل منها الرافضي ابن المطهر الحلى، وبين خطأ منهجه في النقل. وعبد الحسين كسلفه الرافضي نقل من تلك الكتب بالمنهج الخاطئ هو نفسه، غير أنه في مراجعاته نقل نقولا كثيرة من كتابين هما: نهج البلاغة، والصواعق المحرقة، مما يستدعى أن نقف وقفة أمام كل منهما لنرى القيمة العلمية لما ينقل من نهج البلاغة، ومنهج التضليل والتلبيس في النقل من الصواعق: وتكفينا وقفة قصيرة بالنسبة للكتاب الأول، أما الثانى فيحتاج إلى وقفة طويلة تفضح هذا الرافضي وأمثاله. أولا: نهج البلاغة كتاب نهج البلاغة كتاب بغير إسناد، فسواء أكان من تأليف وجمع الشريف الرضى المتوفى سنة 406 هـ، أم أخيه الشريف المرتضى المتوفى سنة 436 هـ، فليس متصل الإسناد إلى الإمام على ـ رضي الله عنه ـ بل كان التأليف والجمع بعد ما يقرب من أربعة قرون، وكما قال عبد الله بن المبارك وابن سيرين وغيرهما: " لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ". وروى الإمام الحاكم بسنده عند عبد الله بن المبارك قال: " الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء "، ثم قال بعد هذا ـ وهو شيعي لكنه غير رافضى: " فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له، وكثرة مواظبتهم على حفظه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والبدع فيه بوضع الأحاديث، وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تعرت عن وجود الأسانيد فيها كانت بترا ". وروى أن ابن أبى فروة ذكر أحاديث بغير إسناد فقال له الزهرى: " قاتلك الله يا بن أبى فروة، ما أجرأك على الله! لا تسند حديثك؟ تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة "! . (انظر كتابه معرفة علوم الحديث ص 6) . فكتاب نهج البلاغة إذا بغير خطم ولا أزمة، ولا وزن له من الناحية العلمية. وفى ضوء المنهج العلمى لا يعتبر حجة في أي فرع من فروع الشريعة فضلا عن أصول العقيدة. وإذا ثبت أن هذا الكتاب للشريف الرضى ـ كما سيأتي ـ فإن هذا الشاعر رافضى جلد لا يحتج بروايته كما هو معلوم من ترجمته، وهذا يعنى أن نهج البلاغة لو كان مسندا عن طريقه فلا يجوز الإحتجاج بما جاء فيه. فلو كان مسندا فليس بحجة، فما بالك إذا خلا تماما عن الإسناد؟ ! وفى عام 1406 هـ (1986 م) ظهرت طبعة جديدة للكتاب، وجاء تحت العنوان ما يأتي: نسخة جديدة محققة وموثقة، تحوى ما ثبت نسبته للإمام على رضي الله عنه وكرم الله وجهه من خطب ورسائل وحكم. تحقيق وتوثيق دكتور صبرى إبراهيم السيد، تقديم العلامة المحقق الأستاذ عبد السلام محمد هارون. فلننظر في هذه النسخة لنرى ماذا قال أستاذنا رحمه الله في تقديمه، ولنرى نتيجة التحقيق والتوثيق. قال أستاذنا في التقديم: إنها قضية ذات كتاب: أو كتاب ذو قضية. فكتابنا هذا " نهج البلاغة "يعد في طليعة أمهات كتب الأدب العربى. ولا تكاد مكتبة أديب حفى بالتراث العربى تخلو من الظفر به أو اقتنائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وكنا إلى الأمس القريب في ريبتين اثنتين منه: أولاهما: من هو صانع هذا الكتاب؟ أهو الشريف الرضى، أم هو أخوه المرتضى؟ والأخرى: مدى صحة هذا الحشد الهائل من الخطب والرسائل والحكم، أو بعبارة أدق: ما مدى توثيق هذا الكم الضخم ونسبته إلى الإمام على كرم الله وجهه؟ من ذا الذي يقضى في هذه المسائل؟ فإن كثيرين من علماء القرن السادس الهجرى يزعمون أن معظم هذه النصوص لا يصح إسناده إلى الخليفة الإمام، وإنما هو من صناعة قوم من فصحاء الشيعة، صنعوه ليزيدوا الناس يقينا بما عرفوه من فصاحة الإمام واقتداره، مع أن فصاحة وبلاغة وسمو بيانه لا تحتاج إلى دليل، أو تفتقر إلى برهان، وزعموا أيضا أن الشريف الرضى أو غيره من الشيعة نظموا أنفسهم في سلك هؤلاء الأقوام. وقالوا: إنه مما يحير هذا الشك ويقويه، ما اشتمل عليه هذا الكتاب من تعريض بالصحابة في غير ما موضع: وإن السجع والصناعة اللفظية تظهر في كثير من جوانبه على خلاف المعهود في نتاج هذا العصر النبوي. قالوا: إن فيه من دقة الوصف، وغرابة التصوير ما لم يكن معروفا في آثار الصدر الأول الإسلامي، كما أنه يطوى في جنباته كثيرا من المصطلحات التي لم يتداولها الناس بعد أن شاعت علوم الحكمة، كالأين والكيف، إلى ما فيه من لغات علم الكلام وأبحاث الرؤية الإلهية، والعد، وكلام الخالق، وما لم يكن معهودا كذلك من التقسيمات الرياضية ذات النظام. وقالوا: إن الكتاب مشتمل على ادعاء المعرفة بالغيبيات، وهو الأمر الذي يجل قدر الإمام على بن أبى طالب وإيمانه الصريح الخالص عن التلبس له أو اصطناعه. وأن في الكتاب تكرارا للمقاطع بالتطويل تارة، وبالإيجاز أخرى، وأن كثيرا من نصوصه لم يظهر فيما أثر من كتب الأدب والتاريخ التي صنعت قبل الشريف الرضى أو أخيه، وأن فيه تطويلا يتجاوز حد الغلو في بعض نصوصه، كعهده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 إلى الأشتر النخعى. دع عنك ما يسرى فيه من مظاهر التشيع المذهبى، والتعصب الشيعي التي يعلو قدر الإمام عنها. وأمر آخر يريب: وهو أن جامع هذه النصوص لم يسجل في صدر كتابه أو أثنائه شيئا من مصادر التوثيق والرواية، كما هو المألوف في أمثال هذه الكتب التي ينظر إليها بعين خاصة، وهذه كلها شبهات تعلو، ومسائل تطفو، تحمل الباحث على كثير من التأمل، وطويل من الدرس. شبهات ومسائل كانت تحيك في صدر كل دارس لهذا الكتاب الخالد، ويود لو أن قد تفرغ لدراستها من يزيل عنها تلك الأوضار، ليظهر من بينها يقين التحقيق. لهذا كله كانت غبطتى بهذا البحث الذي تولاه باحث أعرف فيه الدقة والصبر، وأعرف فيه خلة التأنى، فقد استطاع الدكتور صبرى أن يحقق نسبة الكتاب إلى الشريف الرضى بما لا يدع مجالا للشك. ويمكن من تحقيق نسبة النصوص في هذا الكتاب بمختلف ضروبها من خطب ورسائل وحكم إلى أصحابها، ومن بينها ما صحت نسبته إلى الإمام على في جملتها وتفصيلها، أو في تفصيلها فقط دور جملتها. وهذا أمر يحدث للمرة الأولى بين الباحثين في هذا الكتاب بهذا الأسلوب المنهجي الفريد " ا. هـ وبعد هذا التقديم نأتى إلى نتائج التوثيق التي انتهى إليها الدكتور صبرى، حيث قال: وهكذا أجد نفسى ـ بعد هذه الجولة التوثيقية ـ أمام مستويات خمسة من النصوص: 1- نصوص ثبتت نسبتها إلى الإمام علي. 2- نصوص رواها الشيعة وحدهم. 3- نصوص لم يروها أحد. 4- نصوص مشكوك في صحة نسبتها لأسباب خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 5- نصوص ثبتت نسبتها لآخرين. (انظر ص 81: 97) والذى يعنينا هو المستوى الأول فقط. وكيف استطاع المحقق إثبات نسبتها إلى الإمام على؟ بين المحقق منهجه في التوثيق حيث قال: (ص 65) " وهأنذا أحاول استكشاف ما في بطون الكتب الأدبية والتاريخية من نصوص أوردها صاحب النهج، ملتزما في ذلك باعتماد أقوال من سبقوا الشريف الرضى، أو عاصروه، واستبعاد من جاءوا بعده أو لم يعاصروه ". وقبل أن ننظر في مراجع المحقق نراه هنا يذكر أنها كتب أدبية وتاريخية، وهذه الكتب كما نعلم ليست حجة في أي فرع من فروع الشريعة، فما بالك بأصول العقيدة؟ ! بعد نتائج التوثيق انتقل المحقق إلى تحقيق النصوص وتوثيقها، وبدأها بتوثيق الخطب: أثبت الخطبة الأولى من أولها إلى قوله: " ولا وقت معدود "، ومرجعه العقد الفريد لابن عبد ربه. (انظر ص 101) وهى هنا خمسة أسطر فقط، وفى الأصل أكثر من خمسين ومائة سطر. والثانية نصف سطر، وقال المحقق (ص 101) : الكلمة موجودة في تاريخ اليعقوبى. والثالثة في الإمامة والسياسة لابن قتيبة (ص 102) ـ قلت: الكتاب غير صحيح النسبة لابن قتيبة. وهكذا نجد مراجع المحقق من هذا النوع من الكتب التي لا تعتبر إطلاقا مراجع معتمدة في مجال الشريعة. وفى ص 297: 309 ذكر مراجع البحث والتوثيق. وبالنظر فيها نراها كما ذكر المحقق من كتب الأدب والتاريخ ما عدا مسند الإمام أحمد، وقد سبق جمع ما في المسند ودراسته، إذن لا يجوز ذكر شىء مما جاء في نهج البلاغة ليحتج به في أي مجال من مجالات الشريعة، ولسنا بعد هذا في حاجة إلى مناقشة ما يذكره هذا الرافضي، وبيان أن ما جاء به من طعن في الصحابة الكرام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وخيرهم الشيخان، يتعارض مع كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما ثبت متواترا وصحيحا عن الإمام على هو نفسه، رضي الله عنه. ثانيا: الصواعق المحرقة كتاب الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة للمحدث الفقيه أحمد بن حجر الهيتمى المكى، المتوفى سنة 974 هـ. والكتاب كما يظهر من عنوانه إنما هو للرد على هذه الفرقة وأمثالها، ولذلك قال في بداية الكتاب: " سئلت قديما في تأليف كتاب يبين حقية خلافة الصديق، وإمارة ابن الخطاب، فأجبت إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجانب، فجاء بحمد الله أنموذجا لطيفا، ومنهاجا شريفا، ومسلكا منيفا. ثم سئلت قديما في إقرائه في رمضان سنة خمسين وتسعمائة بالمسجد الحرام لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكة المشرفة. . إلخ " (ص 9) . فالكتاب إذن لبيان بطلان مذهب الشيعة والرافضة ونحوهما، فكيف يستدل عبد الحسين بما جاء في هذا الكتاب لبيان صحة مذهبه لا بطلانه؟ لننظر إلى ما جاء في الصواعق أولا، ثم نبين مسلك عبد الحسين. بدأ ابن حجر الهيتمى بثلاث مقدمات، ومما جاء فيها: بيان وجوب تعظيم أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد ما افتراه الرافضة عليهم من الروايات. ثم إجماع الصحابة على وجوب تنصيب الإمام بعد عصر النبوة. وأخيرا طريق ثبوت الخلافة. وقسم الكتاب إلى أحد عشر بابا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 جعل الباب الأول في بيان كيفية خلافة الصديق، والاستدلال على حقيتها بالنقل والعقل، وقسم الباب إلى خمسة فصول: الأول: في بيان كيفيتها: وبدأه بقول: " روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما، اللذين هما أصح الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتد به، أن عمر رضي الله عنه ـ خطب الناس مرجعه من الحج.. " وذكر ما يتصل ببيعة الصديق، وأثبتها من قبل. وقال بعد هذا (ص 20) . " وأخرج النسائي، وأبو يعلى، والحاكم وصححه: عن ابن مسعود قال: لما قبض رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر ابن الخطاب، فقال: يا معشر الأنصار: ألستم تعلمون أن رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس، وأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ". ثم قال بعد هذا (ص 21) : وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه، والحاكم، وصححه عن عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه قال: خطب أبو بكر فقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة قط، ولا كنت راغبا فيها ولا سألتها الله في سر ولا علانية، ولكننى أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة، لقد قلدت أمرا عظيما مالى به من طاقة، ولا يد إلا بتقوية الله. فقال على والزبير: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أبا بكر أحق الناس بها؛ إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاة بين الناس وهو حى ". وقال أيضا: وأخرج أحمد أن أبا بكر لما خطب يوم السقيفة لم يترك شيئا أنزل في الأنصار، وذكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأنهم إلا ذكره، وقال: لقد علمتم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا لسلكت وادى الأنصار، وقد علمت يا سعد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وأنت قاعد: قريش ولاة هذا الأمر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فبر الناس تابع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم. فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء. ويؤخذ منه ضعف ما حكاه ابن عبد البر أن سعدا أبى أن يبايع أبا بكر حتى لقى الله ـ (انظر ص 21: 22) . وجعل الفصل الثانى في بيان انعقاد الإجماع على ولاية أبى بكر، فقال: قد علم مما قدمناه أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على ذلك، وأن ما حكى من تخلف سعد بن عبادة عن البيعة مردود. ومما يصرح بذلك أيضا ما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئا، فهو عند الله سيئ. وقد رأي الصحابة جميعا أن يستخلف أبو بكر، فانظر إلى ما صح عن ابن مسعود، وهو من أكابر الصحابة، وفقهائهم ومتقدميهم من حكاية الإجماع من الصحابة جميعا على خلافة أبى بكر، ولذا كان هو الأحق بالخلافة عند جميع أهل السنة والجماعة في كل عصر منا إلى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وكذلك عند جميع المعتزلة، وأكثر الفرق، وإجماعهم على خلافته قاض بإجماعهم على أنه أهل لها مع أنها من الظهور بحيث لا تخفى. فلا يقال إنها واقعة يحتمل أنها لم تبلغ بعضهم، ولو بلغت الكل لربما أظهر بعضهم خلافا. على أن هذا إنما يتوهم أن لو لم يصح عن بعض الصحابة المشاهدين بذلك الأمر من أوله إلى آخره حكاية الإجماع، وأما بعد أن صح عن مثل ابن مسعود حكاية إجماعهم كلهم، فلا يتوهم ذلك أصلا، سيما وعلى كرم الله وجهه ممن حكى الإجماع على ذلك أيضا، كما سيأتي عنه أنه لما قدم البصرة سئل عن مسيره هل هو بعهد من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر مبايعته هو وبقية الصحابة لأبى بكر، وأنه لم يختلف عليه منهم اثنان. وأخرج البيهقي عن الزعفرانى قال سمعت الشافعى يقول: أجمع الناس على خلافة أبى بكر، وذلك أنه اضطرب الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يجدوا تحت أديم السماء خيرا من أبى بكر فولوه رقابهم. وأخرج أسد السنة عن معاوية بن قرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 قال: ما كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكون أن أبا بكر خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله، وما كانوا يجتمعون على خطأ ولا ضلالة. وأيضا فالأمة اجتمعت على حقية إمامة أحد الثلاثة أبى بكر وعلى والعباس، ثم إنهما لم ينازعاه بل بايعاه، فتم بذلك الإجماع له على إمامته دونهما. إذ لو لم يكن على حق لنازعاه كما نازع على معاوية مع قوة شوكة معاوية عدة وعددا على شوكة أبى بكر، فإذا لم يبال على بها، ونازعه، فكانت منازعته لأبى بكر أولى وأحرى، فحيث لم ينازعه دل على اعترافه بحق خلافته، ولقد سأله العباس في أن يبايعه، فلم يقبل، ولو علم نصا عليه لقبل سيما ومعه الزبير مع شجاعته وبنو هاشم وغيرهم. ومر أن الأنصار كرهوا بيعة أبى بكر وقالوا منا أمير ومنكم أمير، فدفعهم أبو بكر بخبر: الأئمة من قريش، فانقادوا له وأطاعوه، وعلى أقوى منهم شوكة وعدة وعددا وشجاعة، فلو كان معه نص لكان أحرى بالمنازعة، وأحق بالإجابة، ولا يقدح في حكاية الإجماع تأخر على والزبير والعباس وطلحة مدة لأمور منها أنهم رأوا أن الأمر تم بمن تيسر حضوره حينئذ من أهل الحل والعقد، ومنها أنهم لما جاءوا وبايعوا اعتذروا كما مر عن الأولين من طرق بأنهم أخروا عن المشورة مع أن لهم فيها حقا، لا للقدح في خلافة الصديق. هذا مع الاحتياج في هذا الأمر لخطره إلى الشورى التامة، ولهذا مر عن عمر بسند صحيح أن تلك البيعة كانت فلتة، ولكن وقى الله شرها. ويوافق ما مر عن الأولين من الاعتذار، ما أخرجه الدار قطنى من طرق كثيرة أنهما قالا عند مبايعتهما لأبى بكر: إلا أنا أخرنا عن المشورة، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها. إنه لصاحب الغار وثانى اثنين، وإنا لنعرف له شرفه وكبره، وفى آخرها أنه اعتذر إليهم، فقال " والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ولا ليلة، ولا كنت فيها راغبا، ولا سألتها الله عزوجل في سر ولا علانية، ولكننى أشفقت من الفتنة، ومالي في الإمارة من راحة، ولقد قلدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أمرا عظيما "، إلى آخر ما مر، فقبلوا منه ذلك، وما اعتذر به. (انظر ص 23: 25) . وعقب على ما سبق وعلى رواية للبخاري، بقوله: فتأمل عذره وقوله: لم ننفس على أبى بكر خيرا ساقه الله إليه، وأنه لا ينكر ما فضله الله به، وغير ذلك مما اشتمل عليه هذا الحديث تجده بريئا مما نسبه إليه الرافضة ونحوهم، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم! (ص 26) . أما الفصل الثالث ففي النصوص السمعية الدالة على خلافة أبى بكر من القرآن والسنة، وبدأ بالنصوص القرآنية فقال: فمنها قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" أخرج البيهقي عن الحسن البصري أنه قال: هو والله أبو بكر، لما ارتدت العرب جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردهم إلى الإسلام , وأخرج يونس بن بكير عن قتادة قال: لما توفى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتدت العرب، فذكر قتال أبى بكر لهم إلى أن قال: فكنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبى بكر وأصحابه. " فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ "وشرح ثم قال: وأخرج الدار قطنى عن ابن عمر قال: لما برز أبو بكر واستوى على راحلته أخذ على بزمامها وقال: إلى أين يا خليفة رسول الله، أقول لك ما قال لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد: شمر سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا. (انظر 27: 28) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 واستمر في ذكر الآيات الكريمة، ومما قاله: ومن الآيات الدالة على خلافته أيضا قوله تعالى: " قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ". أخرج ابن أبى حاتم عن جويبر أن هؤلاء القوم هم بنو حنيفة، ومن ثم قال ابن أبى حاتم وابن قتيبة وغيرهما: هذه الآية حجة على خلافة الصديق لأنه الذي دعا إلى قتالهم، فقال الشيخ أبو الحسن الأشعرى ـ رحمه الله ـ إمام أهل السنة: سمعت الإمام أبا العباس بن سريج يقول: الصديق في القرآن في هذه الآية. قال: لأن أهل العلم أجمعوا على أنه لم يكن بعد نزولها قتال دعوا إليه إلا دعاء أبى بكر لهم وللناس إلى قتال أهل الردة ومن منع الزكاة. قال: فدل ذلك على وجوب خلافة أبى بكر، وافتراض طاعته إذ أخبر الله أن المتولى عن ذلك يعذب عذابا أليما. قال ابن كثير: ومن فسر القوم بأنهم فارس والروم، فالصديق هو الذي جهز الجيوش إليهم، وتمام أمرهم كان على يد عمر وعثمان وهما فرعا الصديق. فإن قلت: يمكن أن يراد بالداعى في الآية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو على قلت: لا يمكن ذلك مع قوله تعالى: " قُل لَّن تَتَّبِعُونَا " ومن ثم لم يدعوا إلى محاربة في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إجماعا كما مر، وأما على فلم يتفق له في خلافته قتال لطلب الإسلام أصلا بل لطلب الإمامة، ورعاية حقوقها، وأما من بعده فهم عندنا ظلمة، وعندهم كفار، فتعين أن ذلك الداعى الذي يجب باتباعه الأجر الحسن وبعصيانه العذاب الأليم أحد الخلفاء الثلاثة، وحينئذ فالألزم عليه حقية أبى بكر على كل تقدير؛ لأن حقية خلافة الآخرين فرع عن حقية خلافته إذ هما فرعاها الناشئان عنها والمترتبان عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ومن تلك الآيات أيضا قوله تعالى: "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " قال ابن كثير: هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق، وأخرج ابن أبى حاتم في تفسيره عن عبد الرحمن بن عبد الحميد المهرى قال: إن ولاية أبى بكر وعمر في كتاب الله. يقول الله تعالى: " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ". ومنها قوله تعالى: " لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ". وجه الدلاله: أن الله تعالى سماهم صادقين، ومن شهد له سبحانه وتعالى بالصدق لا يكذب، فلزم أن ما أطبقوا عليه من قولهم لأبى بكر خليفة رسول الله صادقون فيه، فحينئذ كانت الآية ناصة على خلافته. أخرجه الخطيب عن أبى بكر ابن عياش وهو استنباط حسن، كما قاله ابن كثير، (انظر ص 31: 32) . وبعد أن انتهى صاحب الصواعق من ذكر الآيات الكريمة، وبيان دلالتها على خلافة أبى بكر، انتقل إلى السنة المطهرة. فقد جمع كثيرا من الأحاديث التي تدل على خلافتة، والأحاديث التي تدل على فضله، وهى تزيد على المائة، وذكرها في أبواب متفرقة. وأثبت هنا بعض الأحاديث التي بين أنها تدل على خلافة أبى بكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 1 ـ أخرج أحمد وحسنه، وابن ماجه، والحاكم وصححه، عن حذيفة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر، وأخرجه الطبرانى من حديث أبى الدرداء والحاكم من حديث ابن مسعود. وروى أحمد والترمذى وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن حذيفه: إنى لا أدرى ما قدر بقائى فيكم فاقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر، وتمسكوا بهدى عمار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوا. والترمذى عن ابن مسعود والرويانى عن حذيفة وابن عدى عن أنس: اقتدوا باللذين من بعدى من أصحابى أبى بكر وعمر، واهتدوا بهدى عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود. 2 ـ أخرج الشيخان عن أبى سعيد الخدري قال: خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس وقال: إن الله تبارك وتعالى خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله، فبكى أبو بكر وقال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عبد خيره الله، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن من أمنّ الناس علَىَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبى بكر، وفى لفظ لهما: لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبى بكر، وفى آخر لعبد الله بن أحمد: أبو بكر صاحبى ومؤنسى في الغار سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبى بكر. وفى آخر للبخاري: ليس في الناس أحد أمنّ على في نفسى ومالي من أبى بكر بن أبى قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل. سدوا عنى كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبى بكر. وفى آخر لابن عدى: سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبى بكر. وطرقه كثيرة منها عن حذيفة وأنس وعائشة وابن عباس ومعاوية بن أبى سفيان رضي الله تعالى عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 قال العلماء: في هذه الأحاديث إشارة إلى خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه؛ لأن الخليفة يحتاج إلى القرب من المسجد لشدة احتياج الناس إلى ملازمته له في الصلاة بهم وغيرها. 3 ـ أخرج الحاكم وصححه عن أنس قال: بعثنى بنو المصطلق إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن سله إلى من ندفع صدقاتنا بعدك، فأتيته فسألته، فقال: إلى أبى بكر. ومن لازم دفع الصدقة إليه كونه خليفة إذ هو المتولى قبض الصدقات. 4 ـ أخرج مسلم عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا، فإنى أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر. وأخرجه أحمد وغيره من طرق عنها. وفى بعضها قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه: ادعى لي عبد الرحمن بن أبى بكر أكتب لأبى بكر كتابا لا يختلف عليه أحد، ثم قال: دعيه معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبى بكر، وفى رواية عن عبد الله بن أحمد: أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر. 5 ـ أخرج الشيخان عن أبى موسى الأشعرى قال: مرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاشتد مرضه، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت عائشة؛ يا رسول الله إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلى بالناس، فقال: مرى أبا بكر فليصل بالناس، فعادت، فقال: مرى أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف! فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفى رواية أنها لما راجعته فلم يرجع لها قالت لحفصة: قولى له يأمر عمر، فقالت له، فأبى حتى غضب وقال: أنتن أو إنكن أو لأنتن صواحب يوسف! مروا أبا بكر. واعلم أن هذا الحديث متواتر، فإنه ورد من حديث عائشة وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن زمعة وأبى سعيد وعلى بن أبى طالب وحفصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وفى بعض طرقه عن عائشة: لقد راجعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، وما حملنى على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبى أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أبى بكر. وفى حديث ابن زمعة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم بالصلاة، وكان أبو بكر غائبا، فتقدم عمر، فصلى، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا، لا، لا، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، فيصلى بالناس أبو بكر، وفى رواية عنه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: اخرج وقل لأبى بكر يصلى بالناس، فخرج فلم يجد على الباب إلا عمر في جماعة ليس فيهم أبو بكر، فقال يا عمر: صل بالناس، فلما كبر وكان صيتا وسمع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر. وفى حديث ابن عمر: كبر عمر فسمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكبيره فأطلع رأسه مغضبا، فقال: أين ابن أبى قحافة؟ قال العلماء: في هذا الحديث أوضح دلالة على أن الصديق أفضل الصحابة على الإطلاق، وأحقهم بالخلافة، وأولاهم بالإمامة. قال الأشعرى: قد علم بالضرورة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر الصديق أن يصلى بالناس مع حضور المهاجرين والأنصار مع قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) . فدل على أنه كان أقرأهم أي أعلمهم بالقرآن. انتهى. وقد استدل الصحابة أنفسهم بهذا على أنه أحق بالخلافة، منهم عمر، ومر كلامه في فضل المبايعة. ومنهم على، فقد أخرج ابن عساكر عنه: لقد أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر أن يصلى بالناس، وإنى لشاهد وما أنا بغائب، وما بى مرض، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لديننا. قال العلماء: وقد كان معروفا بأهلية الإمامة في زمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد قال: كان قتال بين بنى عمرو بن عوف، فبلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم، فقال يا ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 بلال: إن حضرت الصلاة ولم آت فمر أبا بكر فليصل بالناس، فلما حضرت صلاة العصر أقام بلال الصلاة. ثم أمر أبا بكر فصلى. ووجه ما تقرر من أن الأمر بتقديمه للصلاة كما ذكر فيه الإشارة أو التصريح بأحقيته بالخلافة؛ لأن القصد الذاتى من نصب الإمام العالم إقامة شعائر الدين على الوجه المأمور به من أداء الواجبات وترك المحرمات وإحياء السنن، وإماتة البدع، وأما الأمور الدنيوية وتدبيرها كاستيفاء الأموال من وجوهها وإيصالها لمستحقها ودفع الظلم، ونحو ذلك فليس مقصودا بالذات، بل ليتفرغ الناس لأمور دينهم إذ لا يتم تفرغهم له إلا إذا انتظمت أمور معاشهم بنحو الأمن على الأنفس، والأموال، ووصول كل ذى حق إلى حقه، فلذلك رضى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمر الدين، وهو الإمامة العظمى، أبا بكر بتقديمه للإمامة في الصلاة، كما ذكرنا ومن ثم أجمعوا على ذلك كما مر. وأخرج ابن عدى عن أبى بكر بن عياش قال: قال لي الرشيد: يا أبا بكر كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق؟ قلت: يا أمير المؤمنين: سكت الله وسكت رسوله وسكت المؤمنون. قال والله وما زدتنى إلا عماء، قلت: يا أمير المؤمنين مرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمانية أيام، فدخل عليه بلال، فقال يا رسول الله: من يصلى بالناس؟ قال: مر أبا بكر يصلى بالناس، فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام والوحي ينزل عليه (1) ، فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسكوت الله، وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعجبه فقال: بارك الله فيك. 6 ـ أخرج ابن حبان عن سفينة: لما بنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد وضع في البناء حجرا، قال لأبى بكر: ضع حجرك إلى جنب حجرى، ثم قال لعمر: ضع حجرك إلى جنب حجر أبى بكر، ثم قال لعثمان: ضع حجرك إلى جنب حجر عمر، ثم قال: هؤلاء الخلفاء بعدى. قال أبو زرعة: إسناده لا بأس به، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك، وصححه، والبيهقى في الدلائل، وغيرهما. وقوله   (1) أي على الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 لعثمان ما ذكر يرد على من زعم أن هذا إشارة إلى قبورهم. على أن قوله آخر الحديث: هؤلاء الخلفاء بعدى صريح فيما أفاده الترتيب الأول أن المراد به ترتيب الخلافة (1) . هذه بعض الأحاديث التي ذكر أنها تنص على إمامة أبى بكر. وأراد بعد هذا أن يبين أن الموضوع محل خلاف، ولذلك جعل عنوان الفصل الرابع " في بيان أن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل نص على خلافة أبى بكر؟ وقال (ص 42 وما بعدها) : اعلم أنهم اختلفوا في ذلك. ومن تأمل الأحاديث التي قدمناهاعلم من أكثرها أنه نص عليها نصا ظاهرا. وعلى ذلك جماعة من المحدثين وهو الحق، وقال جمهور أهل السنة والمعتزلة والخوارج: لم ينص على أحد، ويؤيدهم ما أخرجه البزار في مسنده عن حذيفة قال: قالوا يا رسول الله: ألا تستخلف علينا؟ قال: إنى إن أستخلف عليكم فتعصون خليفتى ينزل عليكم العذاب. وأخرجه الحاكم في المستدرك لكن في سنده ضعف. وما أخرجه الشيخان عن عمر أنه قال حين طعن: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى (يعنى أبا بكر) ، وإن أترككم فقد ترككم من هو خير منى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وما أخرجه أحمد والبيهقى بسند حسن عن على أنه لما ظهر على يوم الجمل قال: أيها الناس إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم إن أبا بكر رأي من الرأي أن نستخلف عمر، فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه، ثم إن أقواما طلبوا الدنيا فكانت أمور يقضى الله فيها. والجران بكسر الجيم باطن عنق البعير يقال ضرب بجرانه الشئ أي استقر وثبت. وأخرج الحاكم وصححه أنه قيل لعلى: ألا تستخلف علينا؟ فقال: ما استخلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأستخلف، ولكن إن يرد الله الناس خيرا فسيجمعهم بعدى   (1) انظر كتاب الصواعق ص 35: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 على خيرهم. وما أخرجه ابن سعد عن على أيضا قال: قال على: لما قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قدم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا ما رضيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لديننا فقدمنا أبا بكر. وقول البخاري في تاريخه: روى عن ابن جمهان عن سفينة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبى بكر وعمر وعثمان: هؤلاء الخلفاء بعدى. قال البخاري: ولم يتابع على هذا لأن عمر وعليا وعثمان قالوا لم يستخلف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انتهى، ومر أن هذا الحديث، أعنى قوله هؤلاء الخلفاء بعدى، صحيح ولا منافاة بين القول بالاستخلاف والقول بعدمه لأن مراد من نفاه أنه لم ينص عند الموت على استخلاف أحد بعينه، ومراد من أثبته أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص عليه وأشار إليه قبل ذلك. ولا شك أن النص على ذلك قبل قرب الوفاة يتطرق إليه الاحتمال، وإن بعد بخلافه عند الموت، فلذلك نفى الجمهور كعلى وعمر وعثمان الاستخلاف، ويؤيد ذلك قول بعض المحققين من متأخرى الأصوليين: معنى لم ينص عليها لأحد لم يأمر بها لأحد. على أنه قد يأخذ مما في البخاري عن عثمان أن خلافة أبى بكر منصوص عليها، والذى فيه في هجرة الحبشة عنه من جملة حديث أنه قال: وصحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبايعته ووالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلف الله أبا بكر، فوالله ما عصيته ولا غششته، ثم استخلف عمر فو الله ما عصيته ولا غششته. الحديث. فتأمل قوله في أبى بكر: ثم استخلف الله أبا بكر، وفى عمر: ثم استخلف عمر، تعلم دلالته على ما ذكرته من النص على خلافة أبى بكر، وإذا أفهم كلامه هذا ذلك مع ما مر عنه من أنها غير منصوص عليها تعين الجمع بين كلاميه بما ذكرناه. وكان اشتمال كلاميه على ذلك مؤيدا للجمع الذي قدمناه، وعلى كل فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعلم لمن هي بعده بإعلام الله له، ومع ذلك فلم يؤمر بتبليغ الأمة النص على واحد بعينه عند الموت، وإنما وردت عنه ظواهر تدل على أنه علم بإعلام الله له أنها لأبى بكر، فأخبر بذلك كما مر، وإذا أعلمها فإما أن يعلمها علما واقعا موافقا للحق في نفس الأمر أو أمرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 واقعا مخالفا له، وعلى كل حال لو وجب على الأمة مبايعة غير أبى بكر لبالغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تبليغ ذلك الواجب إليهم بأن ينص عليه نصا جليا ينقل مشتهرا حتى يبلغ الأمة ما لزمهم، ولما لم ينقل كذلك مع توفر الدواعى على نقله دل على أنه لا نص. . وتوهم أن عدم تبليغه لعلمه بأنهم لا يأتمرون بأمره فلا فائدة فيه باطل، فإن ذلك غير مسقط لوجوب التبليغ عليه، ألا ترى أنه بلغ سائر التكاليف للآحاد مع الذين علم منهم أنهم لا يأتمرون فلم يسقط العلم بعدم ائتمارهم التبليغ عليه؟ واحتمال أنه بلغ أمر الإمامة سرا ـ واحدا واثنين ـ ونقل كذلك لا يفيد؛ لأن سبيل مثله الشهرة لصيرورته بتعدد التبليغ وكثرة المبلغين أمرا مشهورا، إذ هو من أهم الأمور لما يتعلق به من مصالح الدين والدنيا كما مر، مع ما فيه من دفع ما قد يتوهم من إثارة فتنة. واحتمال أنه بلغه مشتهرا ولم ينقل أو نقل ولم يشتهر فيما بعد عصره باطل أيضا، إذ لو اشتهر لكان سبيله أن ينقل نقل الفرائض لتوفر الدواعى على نقل مهمات الدين، فالشهرة هنا لازمة لوجود النص، فحيث لا شهرة لا نص بالمعنى المتقدم لا لعلى ولا لغيره، فلزم من ذلك بطلان ما نقله الشيعة وغيرهم من الأكاذيب وسودوا به أوراقهم من نحو خبر: أنت الخليفة من بعدى وخبر سلموا على على بإمرة المؤمنين، وغير ذلك مما يأتي. إذ لا وجود لما نقلوه فضلا عن اشتهاره، كيف وما نقلوه لم يبلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها، إذ لم يصل علمه لأئمة الحديث المثابرين على التنقيب عنه كما اتصل لهم كثير مما ضعفوه. وكيف يجوز في العادة أن ينفرد هؤلاء بعلم صحة تلك الآحاد مع أنهم لم يتصفوا قط برواية ولا بصحبة محدث؟ ويجهل تلك الآحاد مهرة الحديث وسباقه الذي أفنوا أعمارهم في الرحلات والأسفار البعيدة وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده قليلا منه؟ فلذلك قضت العادة المطردة القطعية بكذبهم واختلاقهم فيما زعموه من نص علَى علِىّ صح آحادا عندهم مع عدم اتصافهم برواية حديث ولا صحبة لمحدث كما تقرر. نعم روى آحادا خبر: أنت منى بمنزلة هارون من موسى. وخبر: من كنت مولاه فعلى مولاه. وسيأتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الجواب عنهما واضحا مبسوطا، وأنه لا دلالة لواحد منهما على خلافة على لا نصا ولا إشارة، وإلا لزم نسبة جميع الصحابة إلى الخطأ وهو باطل لعصمتهم من أن يجتمعوا على ضلالة، فإجماعهم على خلاف ما زعمه أولئك المبتدعة الجهال قاطع بأن ما توهموه من هذين الحديثين غير مراد. أن لو فرض احتمالهم لما قالوه فكيف وهما لا يحتملانه كما يأتي. فظهر أن ما سودوا به أوراقهم من تلك الآحاد لا تدل لما زعموه، واحتمال أن ثم نصا غير ما زعموه يعلمه على أو أحد المهاجرين أو الأنصار باطل أيضا. وإلا لأورده العالم به يوم السقيفة حين تكلموا في الخلافة أو فيما بعده لوجوب إيراده حينئذ. وقولهم: ترك على إيراده مع علمه تقية باطل إذ لا خوف يتوهمه من له أدنى مسكة وإحاطة بعلم أحوالهم في مجرد ذكره لهم ومنازعته في الإمامة به كيف وقد نازع من هو أضعف منه وأقل شوكة ومنعة من غير أن يقيم دليلا على ما يقوله ومع ذلك فلم يؤذ بكلمة فضلا عن أن يقتل. فبان بطلان هذه التقية المشؤومة عليهم سيما وعلى قد علم بواقعة الحباب وبعدم إيذائه بقول أو فعل مع أن دعواه لا دليل عليها، ومع ضعفه وضعف قومه بالنسبه لعلى وقومه، وأيضا فيمتنع عادة من مثلهم أنه يذكره لهم ولا يرجعون إليه كيف وهم أطوع الله وأعمالهم بالوقوف عند حدوده وأبعد عن اتباع حظوظ النفس لعصمتهم السابقة وللخبر الصحيح: خير القرون قرنى، ثم الذين يلونهم. وأيضا ففيهم العشرة المبشرون بالجنة. ومنهم أبو عبيدة أمين هذه الأمة كما صح من طرق، فلا يتوهم فيهم وهم بهذه الأوصاف الجليلة أنهم يتركون العمل بما يرويه لهم من تقبل روايته بلا دليل أرجح يعولون عليه. معاذ الله أن يجوز ذلك عليهم شرعا أو عادة إذ هو خيانة في الدين وإلا لارتفع الأمان في كل ما نقوله عنه من القرآن والأحكام. ولم يجزم بشئ من أمور الدين مع أنه بجميع أصوله وفروعه إنما أخذ منهم، على أن في نسبة على إلى الكتم غاية نقص له لما يلزم عليه من نسبته، وهو أشجع الناس، إلى الجبن والظلم. ولهذا التوهم كفره بعض الملحدين كما يأتي فعلم مما تقرر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 جميعه أنه لا نص على إمامة على حتى ولا بالإشارة، وأما أبو بكر فقد علمت النصوص السابقة المصرحة بخلافته، وعلى فرض أن لا نص عليه أيضا ففي إجماع الصحابة عليها غنى عن النص إذ هو أقوى منه؛ لأن مدلوله قطعى ومدلول خبر الواحد ظنى، وأما تخلف جمع كعلى والعباس والزبير والمقداد عن البيعة وقت عقدها فمر الجواب عنه مستوفى. وحاصله مع الزيادة: أن أبا بكر أرسل إليهم بعد فجاءوا فقال للصحابة: هذا على ولا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار في أمره. ألا فأنتم بالخيار جميعا في بيعتكم إيأي، فإن رأيتم لها غيرى فأنا أول من يبايعه، فقال على: لا نرى لها أحدا غيرك، فبايعه هو وسائر المتخلفين. ونرى صاحب الصواعق بعد هذا يذكر الشبه التي أثارها الروافض ويدحضها، وهذه الشبه كرر ذكرها صاحب المراجعات، فهى إذن في صلب موضوعنا، غير أننا إذا أثبتناها كاملة يطول النقل كثيرا، ولذلك أكتفى بذكر بعضها: الشبهة السابعة زعموا أنه ظالم لفاطمة لمنعه إياها مخلف أبيها، وأنه لا دليل له في الخبر الذي رواه: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة؛ لأن فيه احتجاجا بخبر الواحد مع معارضته لآية المواريث، وفيه ما هو مشهور عند الأصوليين. وزعموا أيضا أن فاطمة معصومة بنص " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ". وخبر: " فاطمة بضعة منى " وهو معصوم، فتكون معصومة، وحينئذ فيلزم صدق دعواها الإرث. وجوابها: أما عن الأول، فهو لم يحكم بخبر الواحد الذي هو محل الخلاف، وإنما حكم بما سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عنده قطعى فساوى آية المواريث في قطعية المتن، وأما حمله على ما فهمه منه فلانتفاء الاحتمالات التي يمكن تطرقها إليه عنه بقرينة الحال، فصار عنده دليلا قطعيا مخصصا لعموم تلك الآيات. وأما عن الثانى، فمن أهل البيت أزواجه على ما يأتي في فضائل أهل البيت، ولسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 بمعصومات اتفاقا، فكذلك بقية أهل البيت. وأما بضعة منى: فمجاز قطعا فلم يستلزم عصمتها وأيضا فلا يلزم مساواة البعض للجملة في جميع الأحكام بل الظاهر أن المراد أنها كبضعة منى: فيما يرجع للخير والشفقة، ودعواها أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحلها فدك لم تأت عليها إلا بعلى وأم أيمن، فلم يكمل نصاب البينة، على أن في قبول شهادة الزوج لزوجته خلافا بين العلماء، وعدم حكمه بشاهد ويمين، إما لعلة كونه ممن لا يراه ككثيرين من العلماء، أو أنها لم تطلب الحلف مع من شهد لها، وزعمهم أن الحسن والحسين وأم كلثوم شهدوا لها باطل، على أن شهادة الفرع والصغير غير مقبولة، وسيأتي عن الإمام زيد بن الحسن بن على بن الحسين رضي الله عنهم، أنه صوب ما فعله أبو بكر، وقال: لو كنت مكانه لحكمت بمثل ما حكم به. وفى رواية تأتى في الباب الثانى أن أبا بكر كان رحيما وكان يكره أن يغير شيئا تركه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولما قالت: أعطانى فدك، فقال: هل لك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 بينة، فشهد لها على وأم أيمن، فقال لها: فبرجل وأمرأة تستحقينها. ثم قال زيد: والله، لو رفع الأمر فيها إلى لقضيت بقضاء أبى بكر رضي الله عنه. وعن أخيه الباقر أنه قيل له: أظلمكم الشيخان من حقكم شيئا؟ فقال: لا ومنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، ما ظلمنا من حقنا ما يزن حبة خردلة. وأخرج الدارقطنى، أنه سئل ما كان يعمل على في سهم ذوى القربى؟ قال: عمل فيه بما عمل أبو بكر وعمر، وكان يكره أن يخالفهما. وأما عذر فاطمة في طلبها روايته لها الحديث، فيحتمل أنه لكونها رأت أن خبر الواحد لا يخصص القرآن كما قيل به. فاتضح عذره في المنع وعذرها في الطلب، فلا يشكل عليك ذلك، وتأمله فإنه مهم. ويوضح ما قررناه في هذا المحل حديث البخاري، فإنه مشتمل على نفائس تزيل ما في نفوس القاصرين من شبه وهو: عن الزهرى، قال: أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان النضرى، أن عمر بن الخطاب دعاه إذ جاءه حاجبه يرفا فقال: هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد يستأذنون؟ قال: نعم، فأدخلهم فلبث قليلا، ثم جاء فقال: هل لك في عباس وعلى يستأذنان؟ قال: نعم، فلما دخلا قال عباس: يا أمير المؤمنين، اقض بينى وبين هذا، وهما يختصمان في الذي أفاء الله على رسوله من بنى النضير، فاستب على وعباس، فقال الرهط: يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر. فقال عمر: اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تكون السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لا نورث ما تركناه صدقة، يريد بذلك نفسه، قالوا: قد قال ذلك. فأقبل عمر على على وعباس، فقال: أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قال ذلك؟ قالا: نعم. قال: فإنى أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله كان خص رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره فقال: " وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ" إلى قوله "قَدِيرٌ"، فكانت هذه خالصة برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم والله ما اختارها دونكم ولا استأثر بها عليكم لقد أعطاكموها، وقسمها فيكم حتى بقى هذا المال منها، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقى فيجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حياته، ثم توفى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أبو بكر رضي الله عنه: فأنا ولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقبضه أبو بكر يعمل فيه بما عمل فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنتم حينئذ، وأقبل على على والعباس وقال: تذكرانى أن أبا بكر كان فيه كما تقولان، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر، فقلت: أنا ولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبى بكر، فقبضته سنتين من إمارتى أعمل فيه بما عمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر، والله يعلم أنى فيه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم جئتمانى كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع، فجئتنى يعنى عباسا، فقلت لكما إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا نورث ما تركناه صدقة، فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت إن شئتما دفعته إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيه بما عمل فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وما عملت فيه منذ وليت، وألا فلا تكلمانى، فقلتما ادفعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 إلينا بذلك، فدفعته إليكما، أفتلتمسان منى قضاء غير ذلك، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضى فيه بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما عنه فادفعاه إلى فأنا أكفيكماه. قال، فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير، فقال: صدق مالك بن أوس أنا سمعت عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقول أرسل أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثمان إلى أبى بكر يسألنه مما أفاء الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكنت أنا أردهن، فقلت لهن: ألا تتقين الله، ألم تعلمن أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: لا نورث ما تركناه صدقة، يريد بذلك نفسه؛ إنما يأكل آل محمد في هذا المال، فانتهى أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ما أخبرتهن. قال، فكانت هذه الصدقة بيد على منعها على عباسا، فغلبه عليها، ثم كانت بيد الحسن بن على رضي الله عنهما، ثم بيد الحسين بن على، ثم بيد على بن الحسين، وحسن بن حسن كلاهما كانا يتداولانها، ثم بيد زيد بن حسن رضي الله عنهم، وهى صدقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقا. ثم ذكر البخاري بسنده أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا نورث ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال، والله لقرابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب إلى أن أصل من قرابتى. فتأمل ما في حديث عائشة والذى قبله تعلم حقيقة ما عليه أبو بكر رضي الله عنه، وذلك أن استباب على والعباس صريح في أنهما متفقان على أنه غير إرث، وإلا لكان للعباس سهمه ولعلى سهم زوجته، ولم يكن للخصام بينهما وجه، فخصامهما إنما هو لكونه صدقة وكل منهما يريد أن يتولاها، فأصلح بينهما عمر رضي الله عنهم وأعطاه لهما بعد أن بين لهما وللحاضرين السابقين، وهم من أكابر العشرة المبشرين بالجنة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا نورث ما تركناه صدقة، وكلهم حتى على والعباس أخبر بأنه يعلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك، فحين إذن أثبت عمر أنه غير إرث ثم دفعه إليهما ليعملا فيه بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وبسنة أبى بكر، فأخذاه على ذلك وبين لهما أن ما فعله أبو بكر فيه كان فيه صادقا باراً راشداً تابعاً للحق، فصدقاه على ذلك. فهل بقى لمعاند بعد ذلك من شبهة؟! فإن زعم بقاء شبهة قلنا يلزمك أن تغلب على الجميع وأخذه من العباس ظلم لأنه يلزم على قولكم بالإرث، أن للعباس فيه حصة، فكيف مع ذلك ساغ لعلى أن يتغلب على الجميع ويأخذه من العباس، ثم كان في يد بنيه وبنيهم من بعده ولم يكن منه شئ في يد بنى العباس، فهل هذا من على وذريته إلا صريح الاعتراف بأنه صدقة، وليس بإرث، وإلا لزم عليه عصيان على وبنيه وظلمهم وفسقهم وحاشاهم الله من ذلك بل هم معصومون عند الرافضة، ونحوهم، فلا يتصور بهم ذنب، فإذا استبدوا بذلك جميعه دون العباس وبنيه علمنا أنهم قائلون بأنه صدقة وليس بإرث، وهذا عين مدعانا، وتأمل أيضا أن أبا بكر منع أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ثمنهن أيضا، فلم يخص المنع بفاطمة والعباس ولو كان مداره على محاباة لكان أولى محاباة ولده، فلما لم يحاب عائشة ولم يعطها شيئا علمنا أنه على الحق المر الذي لا يخشى فيه لومة لائم. وتأمل أيضا تقرير عمر للحاضرين ولعلى وللعباس بحديث لا نورث وتقرير عائشة لأمهات المؤمنين به أيضا وقول كل منهما ألم تعلموا! يظهر لك من ذلك أن أبا بكر لم ينفرد برواية هذا الحديث، وأن أمهات المؤمنين وعلياً والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد كلهم كانوا يعلمون أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك، وأن أبا بكر إنما انفرد باستحضاره أولاً، ثم استحضره الباقون، وعلموا أنهم سمعوه منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فالصحابة رضوان الله عليهم لم يعلموا برواية أبى بكر وحدها. ... (ص 57: 60) . الشبهة الثانية عشرة زعموا أنه من النص التفصيلى على على قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له لما خرج إلى تبوك واستخلفه على المدينة: أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى. قالوا: ففيه دليل على أن جميع المنازل الثابته لهارون من موسى سوى النبوة ثابتة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 لعلى من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا لما صح الاستثناء، ومما ثبت لهارون من موسى استحقاقه الخلافه عنه لو عاش بعده إذ كان خليفة في حياته، فلو لم يخلفه بعد مماته لو عاش بعده لكان لنقص فيه، وهو غير جائز على الأنبياء، وأيضا فمن جملة منازله منه أنه كان شريكاً له في الرسالة ومن لازم ذلك وجوب الطاعة لو بقى بعده، فوجب ثبوت ذلك لعلى إلا أن الشركة في الرسالة ممتنعة في حق على، فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عملا بالدليل بأقصى ما يمكن. وجوابها: أن الحديث إن كان غير صحيح كما يقوله الآمدى فظاهر وإن كان صحيحاً كما يقوله أئمة الحديث والمعول في ذلك ليس إلا عليهم، كيف وهو في الصحيحين فهو من قبيل الآحاد وهم لا يروونه حجة في الإمامة، وعلى التنزيل فلا عموم له في المنازل بل المراد ما دل عليه ظاهر الحديث أن عليا خليفة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدة غيبته بتبوك كما كان هارون خليفة عن موسى في قومه مدة غيبته عنهم للمناجاة. وقوله: اخلفنى في قومى ـ لا عموم له حتى يقتضى الخلافة عنه في كل زمن حياته وزمن موته، بل المتبادر منه ما مر أنه خليفة مدة غيبته، وحينئذ فعدم شموله لما بعد وفاة موسى رضي الله عنه، إنما هو لقصور اللفظ عنه لا لعزله كما لو صرح باستخلافه في زمن معين، ولو سلمنا تناوله لما بعد الموت، وأن عدم بقاء خلافته بعده عزل له، لم يستلزم نقصا يلحقه؛ بل إنما يستلزم كمالاً له أي كمال لأنه يصير بعده مستقلا بالرسالة والتصرف من الله تعالى، وذلك أعلى من كونه خليفة وشريكاً في الرسالة. سلمنا أن الحديث يعم المنازل كلها لكنه عام مخصوص إذ من منازل هارون كونه أخاً نبياً، والعام المخصوص غير حجة في الباقى أو حجه ضعيفه على الخلاف فيه، ثم نفاذ أمر هارون بعد وفاة موسى لو فرض إنما هو للنبوة لا للخلافة عنه، وقد نفيت النبوة هنا لاستحالة كون على نبيا، فيلزم نفى مسببه الذي هو افتراض الطاعة ونفاذ الأمر، فعلم مما تقرر أنه ليس المراد من الحديث ـ مع كونه آحادا لا يقاوم الإجماع ـ إلا إثبات بعض المنازل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الكائنه لهارون من موسى، والحديث وسببه سياق يبينان ذلك البعض لما مر أنه إنما قاله لعلى حين استخلفه، فقال على كما في الصحيح: أتخلفنى في النساء والصبيان؟ كأنه استنقص تركه وراءه فقال له: ألا ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى؟ يعنى حيث استخلفه عند توجهه إلى الطور، إذ قال له: اخلفنى في قومى وأصلح، وأيضاً فاستخلافه على المدينة لا يستلزم أولويته بالخلافة بعده من كل معاصريه افتراضاً ولا ندباً بل كونه أهلاً لها في الجملة، وبه نقول، وقد استخلف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرار أخرى غير على كابن أم مكتوم، ولم يلزم فيه بسبب ذلك أنه أولى بالخلافة بعده. الشبهة الثالثة عشرة زعموا أيضا أن من النصوص التفصيلية الدالة على خلافة على قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى: أنت أخي ووصيى وخليفتى وقاضى دينى ـ أي بكسر الدال، وقوله: أنت سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، وقوله: سلموا على على بإمرة الناس. وجوابها: مر مبسوطا قبيل الفصل الخامس ومنه أن هذه الأحاديث كذب باطلة موضوعة مفتراة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا لعنة الله على الكاذبين، ولم يقل أحد من أئمة الحديث أن شيئا من هذه الأكاذيب بلغ مبلغ الآحاد المطعون فيها بل كلهم مجمعون على أنها محض كذب وافتراء، فإن زعم هؤلاء الجهلة الكذبه على الله ورسوله وعلى أئمة الإسلام ومصابيح الظلام أن هذه الأحاديث صحت عندهم، قلنا لهم هذا محال في العادة إذ كيف تتفردون بعلم صحة تلك مع أنكم لم تتصفوا قط برواية ولا صحبة محدث، ويجهل ذلك مهرة الحديث وسباقه الذين أفنوا أعمارهم في الأسفار البعيدة لتحصيله وبذلوا جهدهم في طلبه وفى السعى إلى كل من ظنوا عنده شيئاً منه حتى جمعوا الأحاديث ونقبوا عنها وعلموا صحيحها من سقيمها، ودونوها في كتبهم على غاية من الاستيعاب ونهاية من التحرير، وكيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 والأحاديث الموضوعة جاوزت مئات الألوف وهم مع ذلك يعرفون واضع كل حديث منها وسبب وضعه الحامل لواضعه على الكذب والافتراء على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجزاهم الله خير الجزاء وأكمله إذ لولا حسن صنيعهم هذا لاستولى المبطلون والمتمردون المفسدون على الدين وغيروا معالمه وخلطوا الحق بكذبهم حتى لم يتميز عنه، فضلوا وأضلوا ضلالاً مبيناً، لكن لما حفظ الله على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شريعته من الزيغ والتبديل بل والتحريف، وجعل من أكابر أمته في كل عصر طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم لم يبال الدين بهؤلاء الكذبة البطلة الجهلة، ومن ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تركتكم على الواضحة البيضاء ليلها كنهارها ونهارها كليلها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك، ومن عجيب أمر هؤلاء الجهلة أنا إذا استدللنا عليهم بالأحاديث الصحيحه الدالة صريحاً على خلافة أبى بكر كخبر: اقتدوا باللذين من بعدى وغيره من الأخبار الناصة على خلافته التي قدمتها مستوفاة في الفصل الثالث قالوا: هذا خبر واحد فلا يغنى فيما يطلب فيه التعيين، وإذا أرادوا أن يستدلوا على ما زعموه من النص على خلافة على أتوا بأخبار تدل لزعمهم كخبر من كنت مولاه، وخبر: أنت منى بمنزلة هارون من موسى مع أنها آحاد وإما بأخبار باطلة كاذبة متيقنه البطلان واضحة الوضع والبهتان لا تصل إلى درجة الأحاديث الضعيفة التي هي أدنى مراتب الآحاد، فتأمل هذا التناقض الصريح والجهل القبيح، لكنهم لفرط جهلهم وعنادهم وميلهم عن الحق يزعمون التواتر فيما يوافق مذهبهم الفاسد، وإن أجمع أهل الحديث والأثر على أنه كذب موضوع مختلق، ويزعمون فيما يخالف مذهبهم أنه آحاد، وإن اتفق أولئك على صحته وتواتر رواته تحكماً وعناداً وزيغاً عن الحق، فقاتلهم الله ما أجهلهم وأحمقهم! الشبهة الرابعة عشرة زعموا أنه لو كان أهلاً للخلافة لما قال لهم أقيلونى أقيلونى لأن الإنسان لا يستقيل من الشىء إلا إذا لم يكن أهلاً له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وجوابها: منع الحصر فيما عللوا به، فهو من مفترياتهم، وكم وقع للسلف والخلف التورع عن أمورهم لها أهل وزيادة، بل لا تكمل حقيقة الورع والزهد إلا بالإعراض عما تأهل له المعرض، وأما مع عدم التأهل فالإعراض واجب لا زهد، ثم سببه هنا أنه إما خشى من وقوع عجز ما منه عن استيفاء الأمور على وجهها الذي يليق بكماله له، أو أنه قصد بذلك استبانة ما عندهم، وأنه هل فيهم من يود عزله فأبرز ذلك كذلك، فرآهم جميعهم لا يودون ذلك لو أنه خشى من لعنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإمام قوم وهم له كارهون، فاستعلم أنه هل فيهم أحد يكرهه أو لا ـ والحاصل أن زعم ذلك يدل على عدم أهليته غاية في الجهالة والغباوة والحمق فلا ترفع بذلك رأساً. الشبهة الخامسة عشرة زعموا أيضاً أن علياً إنما سكت عن النزاع في أمر الخلافة لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوصاه أن لا يوقع بعده فتنة ولا يسل سيفاً.. وجوابها: أن هذا افتراء كذب وحمق وجهالة مع عظيم الغباوة عما يترتب عليه، إذ كيف يعقل مع هذا الذي زعموه أنه جعله إماماً والياً على الأمة بعده ومنعه من سل السيف على من امتنع من قبول الحق؟ ولو كان ما زعموه صحيحاً لما سل على السيف في حرب صفين وغيرها، ولما قاتل بنفسه وأهل بيته وشيعته وجالد وبارز الألوف منهم وحده وأعاذه الله من مخالفة وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأيضاً فكيف يتعقلون أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصيه بعدم سل السيف على من يزعمون فيهم أنهم يجاهرون بأقبح أنواع الكفر مع ما أوجبه الله من جهاد مثلهم. قال بعض أئمة أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة: وقد تأملت كلماتهم فرأيت قوماً أعمى الهوى بصائرهم، فلم يبالوا بما ترتب على مقالاتهم من المفاسد. ألا ترى إلى قولهم: إن عمر قاد علياً بحمائل سيفه وحصر فاطمة فهابت، فأسقطت ولدا اسمه المحسن، فقصدوا بهذه الفرية القبيحة والغباوة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أورثتهم العار والبوار والفضيحة وإيغار الصدور على عمر رضي الله عنه، ولم يبالوا بما يترتب على ذلك من نسبة على رضي الله عنه الى الذل والعجز والخور بل ونسبة جميع بنى هاشم وهم أهل النخوة والنجدة والأنفة إلى ذلك العار اللاحق بهم الذي لا أقبح منه عليهم، بل ونسبة جميع الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك، وكيف يسع من له أدنى ذوق أن ينسبهم إلى ذلك مع ما استفاض وتواتر عنهم من غيرتهم لنبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشدة غضبهم عند انتهاك حرماته حتى قاتلوا وقتلوا الآباء والأبناء في طلب مرضاته لا يتوهم إلحاق أدنى نقص أو سكوت على باطل بهؤلاء العصابة الكمل الذين طهرهم الله من كل رجس ودنس ونقص على لسان نبيه في الكتاب والسنة، كما قدمته في المقدمة الأولى أول الكتاب ـ بواسطة صحبتهم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وموته وهو عنهم راض وصدقهم في محبته واتباعه إلا عبداً أضله الله وخذله فباء منه تعالى بعظيم الخسار والبوار، وأحله الله تعالى نار جهنم وبئس القرار. نسأل الله السلامة آمين. ... (ص 73: 77) . وبعد أن دحض شبهات الرافضة انتقل إلى الباب الثانى (ص 78) وجعل عنوانه: " فيما جاء عن أكابر أهل البيت من مزيد الثناء على الشيخين ليعلم براءتهما مما يقول الشيعة والرافضة من عجائب الكذب والافتراء، وليعلم بطلان ما زعموه من أن عليا إنما فعل ما أثر عنه تقية ومداراة وخوفاً، وغير ذلك من قبائحهم ". ويقع هذا الباب في ثمان صفحات، يحسن قراءتها، ولولا الإطالة لنقلتها كاملة، وأكتفى هنا بما ختم به هذا الباب (ص 85) حيث قال: " فهذه أقاويل المعتبرين من أهل البيت رواها عنهم الأئمة الحفاظ الذين عليهم المعول في معرفة الأحاديث والآثار، وتمييز صحيحها من سقيمها بأسانيدهم المتصلة، فكيف يسمح المتمسك بحبل أهل البيت، ويزعم حبهم أن يعدل عما قالوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 من تعظيم أبى بكر وعمر واعتقاد حقية خلافتهما، وما كانا عليه. وصرحوا بتكذيب من نقل عنهم خلافه، ومع ذلك يرى أن ينسب إليهم ما تبرءوا منه ورأوه ذماً في حقهم حتى قال زين العابدين على بن الحسين رضي الله تعالى عنهما: أيها الناس أحبونا حب الإسلام، فوالله ما برح بنا حبكم حتى صار علينا عاراً، وفى رواية حتى نقصتمونا إلى الناس. أي بسبب ما نسبوه إليهم مما هم براء منه، فلعن الله من كذب على هؤلاء الأئمة ورماهم بالزور والبهتان"أهـ واستمر صاحب الصواعق فجعل الباب الثالث عنوانه: " في بيان أفضلية أبى بكر على سائر هذه الأمة، ثم عمر، ثم عثمان، ثم، على، وفى ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده أو مع عمر أو مع الثلاثة أو مع غيرهم. وفيه فصول ". وجعل عنوان الفصل الأول: " في ذكر أفضليتهم على هذا الترتيب، وفى تصريح على بأفضلية الشيخين على سائر الأمة، وفى بطلان ما زعمه الرافضة الشيعة من أن ذلك منه قهر وتقية ". وقال: " اعلم أن الذي أطبق عليه عظماء الملة وعلماء الأمة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر الصديق، ثم عمر. ثم اختلفوا، فالأكثرون: ومنهم الشافعى وأحمد وهو المشهور عن مالك أن الأفضل بعدهما عثمان، ثم على، وجزم الكوفيون ومنهم سفيان الثوري بتفضيل على على عثمان، وقيل: بالوقف عن التفاضل بينهما، وهو رواية عن مالك، فقد حكى أبو عبد الله المازرى عن المدونة: أن مالكاً رحمه الله سئل أي الناس أفضل بعد نبيهم؟ فقال: أبو بكر، ثم عمر، ثم قال: أو في ذلك شك؟ فقيل له: وعلى وعثمان؟ فقال: ما أدركت أحدا ممن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 اقتدى به يفضل أحدهما على الآخر. انتهى، وقوله رضي الله عنه: أو في ذلك شك؟ يريد ما يأتي عن الأشعرى أن تفضيل أبى بكر، ثم عمر على بقية الأمة قطعى، وتوقفه هذا رجع عنه، فقد حكى القاضى عياض عنه: أنه رجع عن التوقف إلى تفضيل عثمان. قال القرطبى: وهو الأصلح إن شاء الله تعالى ... إلخ" (ص 286) . واستمر ابن حجر في حديثه بإثبات ما جعله عنواناً لهذا الفصل، وقال: " إن أفضلية أبى بكر ثبتت بالقطع حتى عند غير الأشعرى أيضاً بناء على معتقد الشيعة والرافضة، وذلك لأنه ورد عن على ـ وهو معصوم عندهم والمعصوم لا يجوز عليه الكذب ـ أن أبا بكر وعمر أفضل الأمة. قال الذهبي: وقد تواتر ذلك عنه في خلافته وكرسى مملكته وبين الجم الغفير من شيعته. ثم بسط الأسانيد الصحيحه في ذلك، قال: ويقال رواه عن على نيف وثمانون نفساً. وعدد منهم جماعة، ثم قال: فقبح الله الرافضة ما أجهلهم! انتهى. ومما يعضد ذلك ما في البخاري عنه أنه قال: خير الناس بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما، ثم رجل آخر. فقال ابنه محمد بن الحنفيه: ثم أنت، فقال: إنما أنا رجل من المسلمين، وصحح الذهبي وغيره طرقاً أخرى عن على بذلك، وفى بعضها: ألا وإنه بلغنى أن رجالاً يفضلونى عليهما، فمن وجدته فضلنى عليهما فهو مفتر، عليه ما على المفترى. ألا ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت، ألا وإنى أكره العقوبة قبل التقدم. وأخرج الدار قطنى عنه: لا أجد أحداً فضلنى على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى. وصح عن مالك، عن جعفر الصادق، عن أبيه الباقر، أن عليا رضي الله عنه وقف على عمر بن الخطاب وهو مسجى، وقال: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أحداً أحب إلى أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى (ص 90 ـ 91) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ثم قال: ومما يلزم من المفاسد والمساوئ والقبائح العظيمة على ما زعموه من نسبة على إلى التقية أنه كان جباناً ذليلاً مقهوراً. أعاذه الله من ذلك، وحروبه للبغاة لما صارت الخلافة له ومباشرته ذلك بنفسه ومبارزته للألوف من الأمور المستفيضه والتي تقطع بكذب ما نسبه إليه أولئك الحمقى والغلاة؛ إذ كانت الشوكة من البغاة قوية جدا، ولا شك أن بنى أمية كانوا أعظم قبائل قريش شوكة وكثرة جاهلية وإسلاما، وقد كان أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه هو قائد المشركين يوم أحد ويوم الأحزاب وغيرهما، وقد قال لعلى لما بويع أبو بكر ما مر آنفا فرد عليه ذلك الرد الفاحش. وأيضا فبنو تميم ثم بنو عدى قوما الشيخين من أضعف قبائل قريش، فسكوت على لهما مع أنهما كما ذكر وقيامه بالسيف على المخالفين لما انعقدت البيعة له مع قوة شكيمتهم أوضح دليل على أنه كان دائراً مع الحق حيث دار، وأنه من الشجاعة بالمحل الأسنى، وأنه لو كان معه وصيه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمر القيام على الناس لأنفذ وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو كان السيف على رأسه مسلطاً، لا يرتاب في ذلك إلا من اعتقد فيه ـ رضي الله عنه ـ ما هو بريء منه. ومما يلزم أيضا على تلك التقيه المشؤومة عليهم أنه رضي الله عنه لا يعتمد على قوله قط؛ لأنه حيث لم يزل في اضطراب من أمره، فكل ما قاله يحتمل أنه خالف فيه الحق خوفا وتقية. ذكره شيخ الإسلام الغزالى. قال غيره: بل يلزمهم ما هو أشنع من ذلك، وأقبح؛ كقولهم: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعين الإمامة إلا لعلى، فمنع من ذلك وقال: مروا أبا بكر تقية! فيتطرق احتمال ذلك إلى كل ما جاء عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يفيد حينئذ إثبات العصمة شيئاً. وأيضا فقد استفاض عن على ـ رضي الله عنه ـ أنه كان لا يبالى بأحد حتى قيل للشافعى رضي الله عنه ما نفر الناس عن على إلا أنه كان لا يبالى بأحد، وقال الشافعى: أنه كان زاهداً لا يبالى بالدنيا وأهلها، وكان عالماً والعالم لا يبالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 بأحد، وكان شجاعاً والشجاع لا يبالى بأحد، وكان شريفا والشريف لا يبالى بأحد. أخرجه البيهقي. وعلى تقدير أنه قال ذلك تقية، فقد أبقى مقتضيها بولايته، وقد مر عنه من مدح الشيخين فيها وفى الخلوة وعلى منبر الخلافة مع غاية القوة والمنعة ما تلى عليك قريباً فلا تغفل. وأخرج أبو ذر الهروى والدار قطنى من طرق، إن بعضهم مر بنفر يسبون الشيخين فأخبر عليا، وقال: لولا أنهم يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترءوا على ذلك، فقال على: أعوذ بالله، رحمهما الله، ثم نهض فأخذ بيد ذلك المخبر وأدخله المسجد، وصعد المنبر، ثم قبض على لحيته وهى بيضاء، وجعلت دموعه تتحادر على لحيته، وجعل ينظر البقاع حتى اجتمع الناس، ثم خطب خطبة بليغة من جملتها: ما بال أقوام يذكرون أخوى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووزيريه وصاحبيه وسيدى قريش وأبوى المسلمين، وأنا بريء مما يذكرون وعليه معاقب، صحبا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجد والوفاء والجد في أمر الله، يأمران وينهيان ويقضيان ويعاقبان، لا يرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كرأيهما رأيا ولا يحب كحبهما حباً لما يرى من عزمهما في أمر الله، فقبض وهو عنهما راض، والمسلمون راضون، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمره في حياته وبعد موته، فقبضا على ذلك فرحمهما الله، فوالذى فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل، ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقى مارق. حبهما قربة وبغضهما مروق. ثم ذكر أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبى بكر بالصلاة وهو يرى مكان على، ثم ذكر أنه بايع أبا بكر، ثم ذكر استخلاف أبى بكر لعمر، ثم قال: ألا ولا يبلغنى عن أحد أنه يبغضهما إلا جلدته حد المفترى، وفى رواية: وما اجترءوا على ذلك أي سب الشيخين ـ إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وهم يرون أنك موافق لهم منهم عبد الله بن سبأ (1) ، وكان أول من أظهر ذلك، فقال على: معاذ الله أن أضمر لهما ذلك. لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل، وسترى ذلك إن شاء الله، ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيره إلى المدائن وقال: لا يساكننى في بلدة أبدا، قال الأئمة: وكان ابن سبأ هذا يهوديا فأظهر الإسلام وكان كبير طائفة من الروافض وهم الذين أخرجهم على رضي الله عنه لما ادعوا فيه الألوهية. وأخرج الدارقطنى من طرق أن علياً بلغه أن رجلاً يعيب أبا بكر وعمر فأحضره وعرض له بعيبهما لعله يعترف ففطن، فقال له: أما والذى بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحق أن لو سمعت منك الذي بلغنى أو الذي نبئت عنك وثبت عليك ببينة لأفعلن بك كذا وكذا. إذا تقرر ذلك، فاللائق بأهل البيت النبوي اتباع سلفهم في ذلك، والإعراض عما يوشيه إليهم الرافضة وغلاة الشيعة من قبيح الجهل والغباوة والعناد، فالحذر الحذر عما يلقونه إليهم من أن كل من اعتقد تفضيل أبى بكر علَى علِىّ رضي الله عنهما كان كافراً، لأن مرادهم بذلك أن يقرروا عندهم تكفير الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وعلماء الشريعة وعوامهم، وأنه لا مؤمن   (1) ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق أن " أصله من اليمن وابن أمة سوداء، وكان يهوديا فأظهر الإسلام وطاف بلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة ويدخل بينهم الشر ودخل دمشق لذلك..وأفاض فيه ابن جرير في تاريخه وهو الذي قال بالنص على الخلافة في على وأبنائه وأحدث القول برجعة على، وأنه فيه الجزء الإلهي وأنه هوالذى يجئ في السحاب ـ قال المقريزى: ومن ابن سبأ تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة ـوذكر أنه كان يتنقل من الحجاز إلى أمصار المسلمين يريد إضلالهم، فلم يطق ذلك فرجع إلى كيد الإسلام وأهله، ونزل البصرة سنة ثلاث وثلاثين، فطرده عبد الله بن عامر منها لسوء مقالته، فخرج إلى الكوفة، فأخرج منها، فنزل بمصر واستقر بها وبث دعاته في الأمصار، وكاتب من مال إليه منهم بالعيب في ولاتهم. انظر " من عبر التاريخ للكوثرى ". وراجع ما سبق عن ابن سبأ في بداية الجزء الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 غيرهم، وهذا مؤد إلى هدم قواعد الشريعة من أصلها، وإلغاء العمل بكتب السنة وما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن صحابته وأهل بيته؛ إذ الراوي لجميع آثارهم وأخبارهم وللأحاديث بأسرها بل والناقل للقرآن في كل عصر من عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى هلم، هم الصحابة والتابعون وعلماء الدين. إذ ليس لنحو الرافضة رواية ولا دراية يدرون بها فروع الشريعة، وإنما غاية أمرهم أن يقع في خلال بعض الأسانيد من هو رافضي أو نحوه. والكلام في قبولهم معروف عند أئمة الأثر ونقاد السنة، فإذا قدحوا فيهم قدحوا في القرآن والسنة وأبطلوا الشريعة رأسا، وصار الأمر كما في زمن الجاهلية الجهلاء، فلعنة الله وأليم عقابه وعظائم نقمته على من يفترى على الله وعلى نبيه بما يؤدى إلى إبطال ملته وهدم شريعته ... إلخ ". ويأتى الفصل الثانى من هذا الباب وعنوانه: " في ذكر فضائل أبى بكر الواردة فيه وحده وفيه آيات وأحاديث " (ص 98) . ويذكر اثنتى عشرة آية كريمة (ص 98: 102) ، ثم قال: " وأما الأحاديث: فهى كثيرة مشهورة " وأثبت عشرات الأحاديث الشريفة. ويطول الأمر كثيرا إذا أردنا أن نثبت ما جاء في هذا الكتاب متصلا بموضوعنا، إذن لنقلناه كله أو جله، ولهذا أكتفى هنا بإثبات آخر باب جعله قبل خاتمة الكتاب، وعنوان الباب هو " في التخيير والخلافة " (372) وتحت العنوان جاء ما يأتي: وكان خير الناس بعده وبعد المرسلين أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وقد تواترت بذلك الأحاديث المستفيضه الصحيحة التي لا تعتل، المرويةٍ في الأمهات والأصول المستقيمة، التي ليست بمعلولة ولا سقيمه. قال سبحانه: ... " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ " فنعته بالفضل. ولا خلاف أن ذلك فيه رضوان الله عليه، وقال سبحانه: " ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ" فشهدت له الربوبيه بالصحبة وبشره بالسكينه وحلاه بثانى اثنين. كما قال على كرم الله وجهه: من يكون أفضل من اثنين الله ثالثهما. وقال سبحانه: " وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ "، لا خلاف وهو قول جعفر الصادق رضوان الله عليه، وقول على كرم الله وجهه، إن الذي جاء بالصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذى صدق به أبو بكر. وأي منقبه أبلغ من هذا، ولما أخبرنا سبحانه وتعالى: أنه لا يستوى السابقون ومن بعدهم بقوله سبحانه وتعالى: " لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى "والخبر في البخاري مسطور: أن عقبة بن أبى معيط وضع رداء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عنقه وخنقه به، فأقبل أبو بكر يعدو حول الكعبة ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله؟ قال: فترك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقبلوا على أبى بكر فضربوه حتى لم يعرف أنفه من وجهه، فكان أول من جاهد وقاتل ونصر دين الله، وأنه الشخص الذي به قام الدين وظهر، وهو أول القوم إسلاما، وذلك ظاهر جلى. وقال جابر بن عبد الله الأنصارى: كنا ذات يوم على باب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نتذاكر الفضائل فيما بيننا إذ أقبل علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أفيكم أبو بكر؟ قالوا: لا، قال: لا يفضلن أحد منكم على أبى بكر، فإنه أفضلكم في الدنيا والآخرة. وخبر أبى الدرداء المشهور قال: رآنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أمشى أمام أبى بكر، وقال: يا أبا الدرداء أتمشى أمام من هو خير منك؟ ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبى بكر. ومن وجه آخر: أتمشى بين يدى من هو خير منك؟ فقلت يا رسول الله: أبو بكر خير منى؟ قال: ومن أهل مكة جميعاً، قلت يا رسول الله: أبو بكر خير منى ومن أهل مكة جميعاً؟ قال: ومن أهل المدينة جميعاً، قلت: يا رسول الله: أبو بكر خير منى ومن أهل الحرمين؟ قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء بعد النبيين والمرسلين خيرا وأفضل من أبى بكر. ونذكر في كثير منها تخيير عمر بعده ثم عثمان ثم على. فمن ذلك خبر أبى عقال قد رواه مالك، وقد سأل عليا كرم الله وجهه وهو على المنبر: من خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم أنا، وإلا فصمت أذنأي إن لم أكن سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فعميت وأشار إلى عينيه إن لم أكن رأيته ـ يعنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يقول: ما طلعت الشمس ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 غربت على رجلين أعدل ولا أفضل ـ وروى ولا أزكى ولا خيراً ـ من أبى بكر وعمر. وقد روى محمد بن الحنفية قال: سألت والدى علياً وأنا في حجره، فقلت: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: عمر، ثم حملتنى حداثة سنى قلت: ثم أنت يا أبتى؟ قال: أبوك رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم. وخبر أبى هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبو بكر وعمر خير أهل السماء وخير أهل الأرض، وخير الأولين، وخير الآخرين إلا النبيين والمرسلين. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على وفاطمة والحسن والحسين أهلي، وأبو بكر وعمر أهل الله وأهل الله خير من أهلي. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان الأمة لرجح. وخبر عمار بن ياسر رضي الله عنه المشهور قال: قلت يا رسول الله: أخبرني عن فضائل عمر. فقال: يا عمار لقد سألتنى عما سألت عنه جبريل عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 السلام، فقال لي يا محمد: لو مكثت معك ما مكث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً أحدثك في فضائل عمر ما نفذت، وإن عمر لحسنة من حسنات أبى بكر، وقال: قال لي ربى عز وجل: لو كنت متخذا بعد أبيك إبراهيم خليلا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولو كنت متخذاً بعدك حبيبا لاتخذت عمر حبيباً. نقل ذلك من تفسير القرآن العظيم للبغوى رحمه الله تعالى في آخر سورة الحشر في قوله تعالى: " وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ " يعنى التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان بالمغفرة فقال: "يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا " -غشاً وحسداً وبغضاً ـ " لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية؛ لأن الله رتب المؤمنين على ثلاث منازل: ... المهاجرين، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد أن لا تكون خارجا من أقسام المؤمنين. قال ابن أبى ليلى: الناس على ثلاثة منازل: الفقراء المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل. أخبرنا أبو سعيد الشريحى، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبى، أنبأنا عبد الله بن جليد، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سليمان، حدثنا ابن نمير، حدثنا أبى، عن إسماعيل ابن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير، عن مسروق، عن عائشة قالت: أمرتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 بالاستغفار لأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسببتموهم، سمعت نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها ". قال مالك بن معرور، قال عامر بن شراحيل الشعبي: يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة؛ سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ فقالت: أصحاب موسى رضي الله عنه، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم؟ فقالت: حوارى عيسى رضي الله عنه، وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!! أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا تقوم لهم حجة ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وادحاض حججهم، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة. قال مالك بن أنس: من ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو كان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فىء، ثم تلا: " مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ" حتى أتى هذه الآية: " لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ " "وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ " " وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ" إلى قوله " رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ". نقل البغوى رحمه الله في قوله: " ثَانِيَ اثْنَيْنِ " قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبى بكر: أنت صاحبى في الغار وصاحبى على الحوض. قال الحسن بن الفضيل: من قال إن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كافر لإنكار نص القرآن، وفى سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً. ***** تعقيب أطلت إلى حد ما في النقل من كتاب الصواعق المحرقة ليستبين منهج الرافضي صاحب المراجعات، وجرأته على الباطل وتزييف الحقائق، فصاحب الصواعق إنما أراد أن يحرق أمثاله، فإذا به يأخذ من الصواعق لإحقاق باطله وإبطال ما أجمعت عليه الأمة، وثبت بالنصوص القاطعة، وذلك بمنهج ليس له أدنى صلة بالمنهج العلمى. ولذلك لسنا في حاجة بعد هذا للوقوف أمام نقوله الكثيرة من هذين الكتابين: فنهج البلاغة بغير إسناد ولشاعر رافضى جلد هو نفسه غير ثقة لو أسند. فكيف بانقطاع أربعة قرون؟! ، كما أن في الكتاب ما يتعارض مع النصوص القطعية الثابتة عن على رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومالا يمكن أن يصدر إلا من الرافضة! وأما الصواعق المحرقة فصاحب الكتاب أفاض وأسهب في بيان بطلان ما ذهب إليه الشيعه والرافضة، فهو يبطل إذن ما أراده صاحب كتاب المراجعات بالقرآن المجيد، والسنة المطهرة الثابتة. وأثبت في هذا التعقيب ما ذكره ابن حجر في الصواعق (ص 69) ، وهو ما أخرجه البيهقي عن الإمام الشافعى قال: " ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة ". أما أهل السنة فمنهجهم يوضحه الإمام أحمد بن حنبل بقوله: " إذا روينا في الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وإذا نظرنا في مسند الإمام أحمد نجد تساهله لا ينزل عن درجة الضعيف إلا في الأخبار القليلة المختلف فيها، حيث عدها ابن الجوزي في الأحاديث الموضوعة، ورد عليه الحافظ ابن حجر العسقلانى. أما ابن حجر الهيتمى في صواعقه فقد أكثر من ذكر أسباب النزول والأحاديث والآثار، ومنها الصحيح والضعيف والموضوع ومالا أصل له، ومنها الصريح وغير الصريح في الدلاله. وقد بين أن الأحاديث الصحيحة التي يحتج بها الشيعة والرافضة ليست صريحة، ويعارضها الصريح من الصحيح، بل المتواتر أحيانا. أما الروايات الصريحة التي يحتجون بها فليس منها ما يصل إلى درجة الصحيح أو الحسن، ومعظمها روايات باطلة موضوعة مكذوبة، وقد نجد فيها ما يصل إلى درجة الضعيف، وكل هذا يعارضه ما سبق ذكره من المتواتر والصحيح. ومنهج الشيعي الرافضي في مراجعاته أن يذكر من كتاب الصواعق ما يحتج به الروافض متجاهلا بطلانه، وتواتر وصحة ما يعارضه كما بين صاحب الصواعق هو نفسه! ثم ينسب زورا للشيخ البشرى إقراره بل إعجابه بهذا الباطل! أكرر هنا ما قاله الإمام الشافعى: " ما من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة ". وجاء في حاشية ص 43 من الصواعق: ذكر الفخر الرازى أنه لم ينقل عن على ذكر النص في شئ من خطبه، ولا نعرفه إلا عن الكذابين، ولو كان موجودا لعلمناه ولاشتهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الطرق التي يعلم بها كذب المنقول في مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية للرافضى ابن المطهر الحلى بين بيانا شافيا الطرق التي يعلم بها كذب المنقول، وذلك في الجزء السابع من كتابه (ص437: 479) وما ذكره شيخ الإسلام في غاية الأهمية، وعلى الأخص بالنسبة لغير علماء الحديث والمتخصصين، ولهذا رأيت أن أجعل كلامه القيم ختاما لهذا الفصل. قال رحمه الله تعالى وأنزله الفردوس الأعلى: فصل في الطرق التي يعلم بها كذب المنقول. منها: أن يروى خلاف ما علم بالتواتر والاستفاضة، مثل أن نعلم أن مسيلمة الكذاب ادعى النبوة، واتبعه طوائف كثيرة من بنى حنيفة، فكانوا مرتدين لإيمانهم بهذا المتنبئ الكذاب، وأن أبا لؤلؤة قاتل عمر كان مجوسيا كافرا، وأن الهرمزان كان مجوسيا أسلم، وأن أبا بكر كان يصلى بالناس مدة مرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويخلفه في الإمامة بالناس لمرضه، وأن أبا بكر وعمر دفنا في حجرة عائشة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومثل ما يعلم من غزوات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي كان فيها القتال كبدر ثم أحد ثم الخندق ثم خيبر ثم فتح مكة ثم غزوة الطائف، والتى لم يكن فيها قتال كغزوة تبوك وغيرها، وما نزل من القرآن في الغزوات، كنزول الأنفال بسبب بدر، ونزول آخر آل عمران بسبب أحد، ونزول أولها بسبب نصارى نجران، ونزول سورة الحشر بسبب بنى النضير، ونزول الأحزاب بسبب الخندق، ونزول سورة الفتح بسبب صلح الحديبية، ونزول براءة بسبب غزوة تبوك، وغيرها وأمثال ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 فإذا روى في الغزوات ـ وما يتعلق بها ما يعلم أنه خلاف الواقع، علم أنه كذب، مثل ما يروى هذا الرافضي، وأمثاله من الرافضة وغيرهم، من الأكاذيب الباطلة الظاهرة في الغزوات، كما تقّدم التنبيه عليه، ومثل أن يُعلم نزول القرآن في أي وقت كان، كما يعلم أن سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال وبراءة نزلت بعد الهجرة في المدينة، وأن الأنعام والأعراف ويونس وهود ويوسف والكهف وطه ومريم واقتربت الساعة وهل أتى على الإنسان وغير ذلك نزلت قبل الهجرة بمكة، وأن المعراج كان بمكة، وأن الصفٌةَّ كانت بالمدينة، وأن أهل الصفة كانوا من جملة الصحابة الذين لم يقاتلوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يكونوا ناساً معينين، بل كانت الصفة منزلا ينزل بها من لا أهل له من الغرباء القادمين، وممن دخل فيهم سعد بن أبى وقاص وأبو هريرة وغيرهما من صالحى المؤمنين، وكالعريين الذين ارتدوا عن الإسلام، فبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آثارهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، وألقاهم في الحرة يستسقون، فلا يسقون وأمثال ذلك من الأمور المعلومة. فإذا روى الجاهل نقيض ذلك علم أنه كذب. ومن الطرق التي يُعلم بها الكذب أن ينفرد الواحد والاثنان بما يعلم أنه لو كان واقعا لتوفرت الهمم والدواعى على نقله؛ فإنه من المعلوم أنه لو أخبر الواحد لبلد عظيم بقدر بغداد والشام والعراق لعلمنا كذبه في ذلك، لأنه لو كان موجودا لأخبر به الناس. وكذلك لو أخبرنا بأنه تولى رجل بين عمر وعثمان، أو تولّى بين عثمان وعلى، أو أخبرنا بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يؤذن له في العيد، أو في صلاة الكسوف أو الاستسقاء، أو أنه كان يقام بمدينته يوم الجمعة أكثر من جمعة واحدة، أو يصلى يوم العيد أكثر من عيد واحد، أو أنه كان يصلى العيد بمنى يوم العيد، أو أن أهل مكة كانوا يتمون الصلاة بعرفة ومزدلفة ومنى خلفه، أو أنه كان يجمع بين الصلاتين بمنى كما كان يقصر، أو أنه فرض صوم شهر آخر غير رمضان، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أنه فرض صلاة سادسة وقت الضحى أو نصف الليل، أو أنه فرض حج بيت آخر غير الكعبة، أو أن القرآن عارضه طائفة من العرب أو غيرهم بكلام يشابهه، ونحو هذه الأمور ـ لكنا نعلم كذب هذا الكاذب، فإنا نعلم انتفاء هذه الأمور بانتفاء لازمها، فإن هذه لو كانت مما يتوفر الهمم والدواعى على نقلها عامة لبنى آدم، وخاصة لأمتنا شرعا، فإذا لم ينقلها أحد من أهل العلم، فضلا عن أن تتواتر، علم أنها كذب. ومن هذا الباب نقل النص على خلافة علىّ، فإنّا نعلم أنه كذب من طرق كثيرة؛ فإن هذا النص لم ينقله أحد (من أهل العلم) بإسناد صحيح، فضلا عن أن يكون متواترا، ولا نقل أن أحدا ذكره على عهد الخلفاء، مع تنازع الناس في الخلافة وتشاورهم فيها يوم السقيفة، وحين موت عمر، وحين جعل الأمر شورى بينهم في ستة، ثم لما قتل عثمان واختلف الناس على على فمن المعلوم أن مثل هذا النص لو كان كما تقوله الرافضة من أنه نص على على نصا جليا قاطعا للعذر علمه المسلمون، لكان من المعلوم بالضرورة أنه لابد أن ينقله الناس نقل مثله، وأنه لابد أن يذكره لكثير من الناس، بل أكثرهم في مثل هذه المواطن التي تتوفر الهمم على ذكره فيها غاية التوفر، فانتفاء ما يعلم أنه لازم يقتضى انتفاء ما يعلم أنه ملزوم، ونظائر ذلك كثيرة. ففي الجملة الكذب هو نقيض الصدق، وأحد النقيضين يعلم انتفاؤه تارة بثبوت نقيضه، وتارة بما يدل على انتفائه بخصوصه. والكلام مع الشيعة أكثره مبنى على النقل، فمن كان خبيرا بما وقع وبالأخبار الصادقة التي توجب العلم اليقينى علم انتفاء ما يناقض ذلك يقينا، ولهذا ليس في أهل العلم بالأحاديث النبوية إلا ما يوجب العلم بفضل الشيخين وصحة إماماتهما، وكذب ما تدعيه الرافضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ثم كل من كان أعلم بالرسول وأحواله، كان أعلم ببطلان مذهب الزيدية وغيرهم، ممن يدّعى نصاً خفياً، وأن عليا كان أفضل من الثلاثة، أو يتوقف في التفضيل؛ فإن هؤلاء إنما وقعوا في الجهل المركّب أو البسيط لضعف علمهم بما علمه أهل العلم بالأحاديث والآثار. فصل واعلم أنه ثم أحاديث أُخر لم يذكرها هذا الرافضي، لو كانت صحيحة لدلت على مقصوده، وفيها ما هو أدل من بعض ما ذكره، لكنها كلها كذب. والناس قد رووا أحاديث مكذوبة في فضل أبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ ومعاوية رضي الله عنهم وغيرهم، لكن المكذوب في فضل على أكثر، لأن الشيعة أجرأ على الكذب من النواصب. قال أبو الفرج ابن الجوزي: " فضائل علىّ الصحيحة كثيرة، غير أن الرافضة لم تقتنع فوضعت له ما يضع لا ما يرفع، وحوشيت حاشيته من الاحتياج إلى الباطل ". قال: " فاعلم أن الرافضة ثلاثة أصناف: صنف منهم سمعوا أشياء من الحديث فوضعوا أحاديث وزادوا ونقصوا. وصنف لم يسمعوا فتراهم يكذبون على جعفر الصادق، ويقولون: قال جعفر، وقال فلان. وصنف ثالث عوام جهله يقولون ما يريدون مما يسوغ في العقل ومما لا يسوغ ". فمن أماثل الموضوعات ما رواه ابن الجوزي من طريق النسائي في كتابه الذي وضعه في خصائص على من حديث عبيد الله بن موسى، حدثنا العلاء ابن صالح، عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي قال: قال علىّ رضي الله عنه: أنا عبد الله، وأخو رسول الله، وأنا الصديقِّ الأكبر، لا يقولها بعدى إلا كاذب، صليت قبل الناس سبع سنين " ورواه أحمد في " الفضائل " وفى رواية له: " ولقد أسلمت قبل الناس بسبع سنين ". ورواه من حديث العلاء بن صالح أيضا عن المنهال عن عباد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 قال أبو الفرج: " هذا حديث موضوع والمتهم به عباد بن عبد الله. قال على بن المديني: كان ضعيف الحديث ". وقال أبو الفرج: " حماد الأزدى: روى أحاديث لا يتابع عليها. وأما المنهال فتركه شعبه. قال أبو بكر الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث علىّ: " أنا عبد الله وأخو رسول الله " فقال: اضرب عليه فإنه حديث منكر ". قلت: وعباد يروىُ من طريقه عن علىّ ما يُعلم أنه كذب عليه قطعا، مثل هذا الحديث؛ فإنّا نعلم أن عليا كان أبرَّ وأصدق وأتقى لله من أن يكذب ويقول مثل هذا الكلام، الذي هو كذب ظاهر معلوم بالضروره أنه كذب. وما علمنا أنه كذب ظاهر لا يشتبه، فقد علمنا أن علياً لم يقله، لعلمنا بأنه أتقى لله من أن يتعمد هذا الكذب القبيح، وأنه ليس مما يشتبه حتى يخطئ فيه، فالناقل عنه إما متعمد الكذب وإما مخطئ غالط، وليس قدح المبغض لعلى من الخوارج والمتعصبين لبنى مروان وغيرهم مما يشككنا في صدقه وبره وتقواه، كما أنه ليس قدح الرافضة في أبى بكر وعمر، بل وقدح الشيعة في عثمان، لا يشككنا في العلم بصدقهم وبرهم وتقواهم، بل نحن نجزم بأن واحدا منهم لم يكن ممن يتعمد الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا هو فيما دون ذلك. فإذا كان المنقول عنه مما لا يغلط في مثله، وقد علمنا أنه كذب، جزمنا بكذب الناقل متعمدا أو مخطئا. مثل ما رواه عبد الله في " المناقب ": حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله، عن على. وحدثنا أبو خثيمة، حدثنا الأسود بن عامر، حدثنا شريك، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله الأسدي عن على قال: لما نزلت: ... " وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " (سورة الشعراء: 214) دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 رجالا من أهل بيته: إن كان الرجل منهم لآكلا جذعة، وإن كان شاربا فرقا ... إلى آخر الحديث. وهذا كذب علَى علىّ رضي الله عنه لم يروه قط، وكذبه ظاهر من وجوه. وهذا حديث رواه أحمد في " الفضائل ": حدثنا عثمان، حدثنا أبو عوانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبى صادق، عن ربيعة بن ناجز، عن على، وهؤلاء يعلم أنهم يروون الباطل. وروى أبو الفرج من طريق أجلح عن سلمة بن كهيل، عن حبة بن جوين، قال: سمعت عليا يقول: أنا عبدت الله عز وجل مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يعبده رجل من هذه الأمة خمس سنين أو سبع سنين " قال أبو الفرج: " حبة لا يساوى حبة فإنه كذاب. قال يحيى: ليس بشيء قال السعدى: غير ثقة. وقال ابن حبان: كان غاليا في التشيع واهيا في الحديث. وأما الأجلح فقال أحمد: قد روى غير حديث منكر. قال أبو حاتم الرازى: لا يحتج به. وقال ابن حبان: كان لا يدرى ما يقول " قال أبو الفرج: " ومما يبطل هذه الأحاديث أنه لا خلاف في تقدم إسلام خديجة وأبى بكر وزيد، وأن عمر أسلم في سنة ست من النبوة بعد أربعين رجلا، فكيف يصح هذا؟ ". وذكر حديثا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا الصديق الأكبر " " وهو مما عملته يد أحمد ابن نصر الذراع، فإنه كان كذابا يضع الحديث ". وحديثا فيه: " أنا أولهم إيمانا، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية " قال: " وهو موضوع، والمتهم به بشر بن إبراهيم. قال ابن عدى وابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات ". ورواه الأبرازى الحسن بن عبيد الله عن إبراهيم بن سعيد الجوهرى، عن مأمون عن الرشيد. قال: وهذا الأبرازى كان كذابا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وذكر حديثا: " أنت أول من آمن بى، وأنت أول من يصافحنى يوم القيامة، وأنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق تفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين، أو يعسوب الظلمة ". قال: " وهذا حديث موضوع. وفى طريقه الأول: عباد بن يعقوب. قال ابن حبان: يروى المناكير عن المشاهير فاستحق الترك، وفيه علىّ بن هاشم. قال ابن حبان: كان يروى المناكير عن المشاهير.، وكان غاليا في التشيع. وفيه محمد بن عبد الله قال يحيى: ليس بشئ. وأما الطريق الثانى ففيه أبو الصلت الهروى كان كذابا رافضيا خبيثا، فقد اجتمع عباد وأبو الصلت في روايته، والله أعلم بهما أيهما سرقه من صاحبه ". قلت: لعل الآفة فيه من محمد بن عبد الله. وروى عن طريق ابن عباس وفيه عبد الله بن زاهر. قال ابن معين: ليس بشئ لا يكتب عنه إنسان فيه خير. قال أبو الفرج بن الجوزي: " كان غاليا في الرفض ". فصل وهنا طرق يمكن سلوكها لمن لم تكن له معرفة بالأخبار من الخاصة؛ فإن كثيرا من الخاصة ـ فضلا عن العامة ـ يتعذر عليه معرفة التمييز بين الصدق والكذب من جهة الإسناد في أكثر ما يروى من الأخبار في هذا الباب وغيره. وإنما يعرف ذلك علماء الحديث، ولهذا عدل كثير من أهل الكلام والنظر عن معرفة الأخبار بالإسناد وأحوال الرجال لعجزهم عنها، وسلكوا طريقا آخر. ولكن تلك الطريق هي طريقة أهل العلم بالحديث، العالمين بما بعث الله به رسوله. ولكن نحن نذكر طريقاً آخر فنقول: نقدِّر أن الأخبار المتنازع فيها لم توجد، أو لم يُعلم أيها الصحيح، ونترك الاستدلال بها في الطرفين، ونرجع إلى ما هو معلوم بغير ذلك من التواتر، وما يٌعلم من العقول والعادات، وما دلت عليه النصوص المتفق عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فنقول: من المعلوم المتواتر عند الخاصة والعامة، الذي لم يختلف فيه أهل العلم بالمنقولات والسير: أن أبا بكر رضي الله عنه لم يطلب الخلافة: لا برغبة ولا برهبة، لا بذل فيها ما يرغّب الناس به، ولا شهر عليهم سيفاً يرهبهم به، ولا كانت له قبيلة ولا موالٍ تنصره وتقيمه في ذلك، كما جرت عادة الملوك أن أقاربهم ومواليهم يعاونونهم، ولا طلبها أيضا بلسانه، ولا قال: بايعونى، بل أمر بمبايعة عمر وأبى عبيدة، ومن تخلف عن بيعته كسعد بن عبادة لم يؤذه، ولا أكرهه على المبايعة، ولا منعه حقا له، ولا حرك عليهم ساكنا. وهذا غاية في عدم إكراه الناس على المبايعة. . ثم إن المسلمين بايعوه ودخلوا في طاعته، والذين بايعوه هم الذين بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت الشجرة، وهم السابقون الأّولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وهم أهل الإيمان والهجرة والجهاد، ولم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة. وأما علىّ وسائر بنى هاشم فلا خلاف بين الناس أنهم بايعوه، لكن تخلف من كان يريد الإمرة لنفسه، رضي الله عنهم أجمعين. ثم إنه في مدة ولايته قاتل بهم المرتدين والمشركين، لم يقاتل مسلمين، بل أعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الردة، وأخذ يزيد الإسلام فتوحا، وشرع في قتال فارس والروم، ومات والمسلمون محاصرو دمشق، وخرج منها أزهد مما دخل فيها: لم يستأثر عنهم بشئ، ولا أمّر له قرابة. ثم وَلِىَ عمر بن الخطاب، ففتح الأمصار، وقهر الكفّار، وأعزّ أهل الإيمان، وأذلّ أهل النفاق والعدوان، ونشر الإسلام والدين، وبسط العدل في العالمين، ووضع ديوان الخراج والعطاء لأهل الدين، ومصَّر الأمصار للمسلمين، وخرج منها أزهد مما دخل فيها: لم يتلوث لهم بمال، ولا ولَّى أحداً من أقاربه ولاية، فهذا أمر يعرفه كل أحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وأما عثمان فإنه بنى على أمر قد استقرّ قبله بسكينة وحلٍ، وهدى ورحمة وكرم، ولم يكن فيه قوة عمر ولا سياسته، ولا فيه كمال عدله وزهده، فطُمع فيه بعض الطمع، وتوسّعوا في الدنيا، وأدخل من أقاربه في الولاية والمال، ودخلت بسبب أقاربه في الولايات والأموال أمور أنكرت عليه، فتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا، وضعف خوفهم من الله ومنه، ومن ضعفه هو، وما حصل من أقاربه في الولاية والمال ـ ما أوجب الفتنة، حتى قُتل مظلوما شهيداً. وتولىّ علىُّ علَىَ إثر ذلك، والفتنة قائمة، وهو عند كثير منهم متلطّخ بدم عثمان، والله يعلم براءته مما نسبه إليه الكاذبون عليه، المبغضون له، كما نعلم براءته مما نسبه إليه الغالون فيه، المبغضون لغيره من الصحابة؛ فإن علياّ لم يُعِن على قتل عثمان ولا رضى به، كما ثبت عنه ـ وهو الصادق ـ أنه قال ذلك، فلم تصف له قلوب كثير منهم، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه، ولا اقتضى رأيه أن يكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه الأمر، بل اقتضى رأيه القتال، وظن أنه به تحصل الطاعة والجماعة، فما زاد الأمر إلا شدة، وجانبه إلا ضعفا، وجانب من حاربه إلا قوة، والأمة إلا افتراقاً، حتى كان في آخر أمره يطلب هو أن يكف عنه من قاتله، كما كان في أول الأمر يُطلب منه الكفّ. وضعفت خلافة (النبوة) ضعفاً أوجب أن تصير ملكا، فأقامها معاوية ملكا برحمة وحلم، كما في الحديث المأثور: " تكون نبوّة ورحمة، ثم تكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك " ولم يتول أحد من الملوك خيرا من معاوية، فهو خير ملوك الإسلام، وسيرته خير من سيرة سائر الملوك بعده، وعلى آخر الخلفاء الراشدين، الذين هم ولايتهم خلافة نبوة ورحمة، وكل من الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يشهد له بأنه من أفضل أولياء الله المتقين، بل هؤلاء الأربعة أفضل خلق الله بعد النبيين، لكن إذا جاء القادح فقال في أبى بكر وعمر: إنهما كانا ظالمين متعديين طالبين للرئاسة مانعين للحقوق، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة، وإنهما ـ ومن أعانهما ـ ظلموا الخليفة المستحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 المنصوص عليه من جهة الرسول، وإنهم منعوا أهل البيت ميراثهم، وإنهما كانا من أحرص الناس على الرئاسة والولاية الباطلة، مع ما قد عُرف من سيرتهما ـ كان من المعلوم أن هذا الظن لو كان حقا فهو أولى بمن قاتل عليها حتى غُلب، وسُفكت الدماء بسبب المنازعة التي بينه وبين منازعه، ولم يحصل بالقتال لا مصلحة الدين ولا مصلحة الدنيا، ولا قوتل في خلافته كافر، ولا فرح مسلم، فإن علياً لا يفرح بالفتنة بين المسلمين، وشيعته لم تفرح بها، لأنها لم تغلب، والذين قاتلوه لم يزالوا أيضا في كرب وشدة. وإذا كنا ندفع من يقدح في علىّ من الخوارج، مع ظهور هذه الشبهة، فلأن ندفع من يقدح في أبى بكر وعمر بطريق الأولى والأحرى.. وإن جاز أن يظن بأبى بكر أنه كان قاصداً للرئاسة بالباطل، مع أنه لم يُعرف منه إلا ضد ذلك، فالظن بمن قاتل عَلَى الولاية ـ ولم يحصل له ... مقصودة ـ أولى وأحرى. فإذا ضرب مثل هذا وهذا بإمامى مسجد، وشيخى مكان، أو مدرسى مدرسة ـ كانت العقول كلها تقول: إن هذا أبعد عن طلب الرئاسة، وأقرب إلى قصد الدين والخير. فإذا كنا نظن بعلىّ أنه كان قاصدا للحق والدين، وغير مريد علواً في الأرض ولا فسادا، فظنُّ ذلك بأبى بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ أولى وأحرى. وإن ظن ظان بأبى بكر أنه كان يريد العلوّ في الأرض والفساد، فهذا الظن بعلىّ أجدر وأولى. أما أن يقال: إن أبا بكر كان يريد العلو في الأرض والفساد، وعلىُّ لم يكن يريد علوّا في الأرض ولا فسادا، مع ظهور السيرتين ـ فهذا مكابرة، وليس فيما تواتر من السيرتين ما يدل على ذلك، بل المتواتر من السيرتين يدل على أن سيرة أبى بكر أفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ولهذا كان الذين ادّعَوْا هذا لعلىّ أحالوا على ما لم يُعرف، وقالوا: ثَمَّ نص على خلافته كُتم، وثَمَّ عداوة باطنة لم تظهر، بسببها مُنع حقه. ونحن الآن مقصودنا أن نذكر ما عُلم وتيقن وتواتر عن العامة والخاصة، وأما ما يذكر من منقول يدفعه جمهور الناس، ومن ظنون سوء لا يقوم عليها دليل بل نعلم فسادها، فالمحتج بذلك ممن يتبع الظن وما تهوى الأنفس، وهو من جنس الكفار وأهل الباطل، وهى مقابلة بالأحاديث من الطرق الأخر. ونحن لم نحتج بالأخبار التي رُويت من الطرفين، فكيف بالظن الذي لا يُغنى من الحق شيئا؟ ! فالمعلوم المتيقَّن المتواتر عند العام والخاص أن أبا بكر كان أبعد عن إرادة العلو والفساد من عمر وعثمان وعلىّ فضلا عن علىّ وحده، وأنه كان أولى بإرادة وجه الله تعالى وصلاح المسلمين من الثلاثة بعده، فضلا عن على، وأنه كان أكمل عقلا ودينا وسياسة من الثلاثة، وأن ولايته الأمة خير من ولاية على، وأن منفعته للمسلمين في دينهم ودنياهم أعظم من منفعة على، رضي الله عنهم. وإذا كنا نعتقد أنه كان مجتهدا مريدا وجه الله بما فعل، وأن ما تركه من المصلحة كان عاجزاً عنه، وما حصل من المفسدة كان عاجزا عن دفعه، وأنه لم يكن مريداً للعلوّ في الأرض ولا الفساد ـ كان هذا الاعتقاد بأبى بكر وعمر أولى وأخلق وأحرى. فهذا وجه لا يقدر أحد أن يعارضه إلا بما يظن أنه نقل خاص، كالنقل لفضائل على، ولما يقتضى أنه أولى بالإمامة، أو أن إمامته منصوص ... عليها. وحينئذ فيعارض هذا بنقل الخاصة ـ الذين هم أصدق وأكثر ـ لفضائل الصديق التي تقضى أنه أولى بالإمامة، وأن النصوص إنما دلت عليه. فما من حجة يسلكها الشيعي إلا وبإزائها للسنى حجة من جنسها أولى منها؛ فإن السنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فما من حجة يسلكها كتابى إلا وللمسلم فيها ما هو أحق بالاتباع منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 قال تعالى: " وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا " ... (سورة الفرقان: 33) لكن صاحب الهوى الذي له غرض في جهة، إذا وجه له المخالف لهواه ثقل عليه سمعه واتباعه. قال تعالى: "وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ" (سورة المؤمنون: 71) . وهنا طريق آخر. وهو أن يُقال: دواعى المسلمين بعد موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت متوجهة إلى اتباع الحق، وليس لهم ما يصرفهم عنه، وهم قادرون على ذلك، فإذا حصل الداعى إلى الحق، وانتفى الصارف مع القدرة، وجب الفعل. فعُلم أن المسلمين اتّبعوا فيما فعلوه الحق. وذلك أنهم خير الأمم، وقد أكمل الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة. ولم يكن عند الصديق غرض دنيوى يقدّمونه لأجله، ولا عند علىّ غرض دنيوى يؤخرونه لأجله، بل لو فعلوا بموجب الطبع لقدَّموا علياً. وكانت الأنصار لو اتبعت الهوى أن تتّبع رجلا من بنى هاشم أحب إليها من أن تتبع رجلا من بنى تيم. وكذلك عامة قبائل قريش، لا سيما بنو عبد مناف وبنو مخزوم؛ فإن طاعتهم لمنافى كانت أحب إليهم من طاعة تيمى لو اتبعوا الهوى. وكان أبو سفيان بن حرب وأمثاله يختارون تقدم علىّ. وقد روى أن أبا سفيان طلب من علىّ أن يتولى لأجل القرابة التي بينهما. وقد قال أبو قحافة، لما قيل له أن ابنك تولى، قال: " أو رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو مخزوم؟ " قالوا: نعم. فعجب من ذلك، لعلمه بأن بنى تيم كانوا من أضعف القبائل، وأن أشراف قريش كانت من تلك القبيلتين. وهذا وأمثاله مما إذا تدبره العاقل علم أنهم لم يقدموا أبا بكر إلا لتقديم الله ورسوله، لأنه كان خيرهم وسيدهم وأحبهم إلى الله؛ فإن الإسلام إنما يقدم بالتقوى لا بالنسب، وأبو بكر كان أتقاهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وهنا طريق آخر، وهو أنه تواتر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن خير هذه الأمة القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهذه الأمة خير الأمم كما دل عليه الكتاب والسنة. وأيضا فإنه من تأمّل أحوال المسلمين في خلافة بنى أمية، فضلا عن زمن الخلفاء الراشدين، علم أن أهل ذلك الزمان كانوا خيراً وأفضل من أهل هذا الزمان، وأن الإسلام كان في زمنهم أقوى وأظهر. فإن كان القرن الأول قد جحدوا حق الإمام المنصوص عليه المولى عليهم، ومنعوا أهل بيت نبيهم ميراثهم، وولوا فاسقا وظالما، ومنعوا عادلا عالما، مع علمهم بالحق، فهؤلاء من شر الخلق، وهذه الأمة شر الأمم، لأن هذا فعل خيارها، فكيف بفعل شرارها؟ ! وهنا طريق آخر. وهو أنه قد عُرف بالتواتر، الذي لا يخفى على العامة والخاصة، أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختصاص عظيم، وكانوا من أعظم الناس اختصاصاً به، وصحبة له، وقربا إليه، واتصالا به، وقد صاهرهم كلهم، وما عُرف عنه أنه كان يذمهم ولا يلعنهم، بل المعروف عنه أنه كان يحبهم ويثنى عليهم. وحينئذ: فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرا وباطنا، في حياته وبعد موته. وإما أن يكونوا بخلاف ذلك، في حياته أوبعد موته. فإن كانوا على غير الاستقامة، مع هذا التقرب، فأحد الأمرين لازم: إما عدم علمه بأحوالهم، أو مداهنته لهم. وأيهما كان فهو من أعظم القدح في الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قيل: فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة ... وإن كنت تدر فالمصيبة أعظم وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته وأكابر أصحابه. ومن قد أخبر بما سيكون بعد ذلك، أين كان عن علم ذلك؟ وأين الاحتياط للأمة حتى لا يولّى مثل هذا أمرها؟ ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين؟ فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول، كما قال مالك وغيره: إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 الرسول ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلا صالحاً لكان أصحابه صالحين. ولهذا قال أهل العلم: إن الرافضة دسيسة الزندقة، وإنه وضع عليها. وطريق آخر أن يقال: الأسباب الموجبة لعلىّ ـ إن كان هو المستحق ـ قوية، والصوارف منتفية، والقدرة حاصلة، ومع وجود الداعى والقدرة وانتفاء الصارف يجب الفعل، وذلك أن علياً هو ابن عم نبيهم، ومن أفضلهم نسبا، ولم يكن بينه وبين أحدٍ عداوة: لا عداوة نسب ولا إسلام، بأن يقول القائل: قتل أقاربهم في الجاهلية. وهذا المعنى منتفٍ في الأنصار؛ فإنهم لم يقتل أحداً من أقاربهم، ولهم الشوكة، ولم يقتل من بنى تيم ولا عدى ولا كثير من القبائل أحدا، والقبائل التي قتل منها، كبنى عبد مناف، كانت تواليه، وتختار ولايته، لأنه إليها أقرب. فإذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على ولايته، أو كان هو الأفضل المستحق لها، لم يكن هذا مما يخفى عليهم، وعلمهم بذلك يوجب انبعاث إرادتهم إلى ولايته، إذا لم يكن هناك صارف يمنع، والأسباب كانت مساعدة لهذا الداعى، ولا معارض لها ولا صارف أصلا. ولو قُدِّر أن الصارف كان في نفر قليل، فجمهور المسلمين لم يكن لهم فيها صارف يصرفهم عنه، بل هو قادرون على ولايته. ولو قالت الأنصار: علىُّ هو أحق بها من سعد ومن أبى بكر ما أمكن أولئك النفر من المهاجرين أن يدافعوهم، وقام أكثر الناس مع علىّ، لاسيما وكان جمهور الذين في قلوبهم مرض يبغضون عمر لشدته عليهم، وبغض الكفار والمنافقين لعمر أعظم من بغضهم لعلى بما لا نسبة بينهما، بل لم يعرف أن علياً كان يبغضه الكفّار والمنافقون، إلا كما يبغضون أمثاله. بخلاف عمر، فإنه كان شديدا عليهم، وكان من القياس أن ينفروا عن جهة فيها عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ولهذا لما استخلفه أبو بكر، كره خلافته طائفة، حتى قال له طلحة: ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا؟ فقال: أبا لله تخوفنى؟ أقول: وليت عليهم خير أهلك. فإذا كان أهل الحق مع علىّ، وأهل الباطل مع علىّ، فمن الذي يغلبه إذا كان الحق معه؟ وهب أنهم إذا قاموا لم يغلبوا، أما كانت الدواعى المعروفة في مثل ذلك توجب أن يجرى في ذلك قيل وقال ونوع من الجدال؟ أوليس ذلك أولى بالكلام فيه من الكلام في ولاية سعد؟ فإذا كانت الأنصار بشبهة لا أصل لها طمعوا أن يتأمر سعد، فمن يكون فيهم المحق؟ ونص الرسول الجلى كيف لا يكون أعوانه أطمع في الحق؟ فإذا كان لم ينبز متكلم منهم بكلمة واحدة في ذلك، ولم يّدع داع إلى علىّ: لا هو ولا غيره، واستمر الأمر على ذلك، إلى أن بويع له بعد مقتل عثمان، فحينئذ قام هو وأعوانه فطلبوا وقاتلوا ولم يسكتوا، حتى كادوا يغلبوا ـ عُلم بالاضطرار أن سكوتهم أولا كان لعدم المقتضى، لا لوجود المانع، وأن القوم لم يكن عندهم علم بأن عليا هو الأحق، فضلا عن نص جلى، وأنه لما بدا لهم استحقاقه قاموا معه، مع وجود المانع. وقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعدهم عن الممانعة من معاوية بكثير كثير، لو كان لعلىّ حق. فإن أبا بكر لم يدع إلى نفسه، ولا أرغب ولا أرهب، ولا كان طالبا للرئاسة بوجه من الوجوه، ولا كان في أول الأمر يمكن أحداً القدح في علىّ كما أمكن ذلك بعد مقتل عثمان، فإنه حينئذ نسبه كثير من شيعة عثمان إلى أنه أعان على قتله، وبعضهم يقول: خذله. وكان قتلة عثمان في عسكره، وكان هذا من الأمور التي منعت كثيرا من مبايعته. وهذه الصوارف كانت منتفية في أول الأمر، فكان جنده أعظم، وحقه إذ ذاك ـ لو كان مستحقا ـ أظهر، ومنازعوه أضعف داعياً وأضعف قوة، وليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 هناك داع قوى يدعو إلى منعه، كما كان بعد مقتل عثمان، ولا جند يجمع على مقاتلته، كما كان بعد مقتل عثمان. وهذه الأمور وأمثالها من تأملها تبين له انتفاء استحقاقه إذ ذاك بيانا لا يمكنه دفعه عن نفسه، فلو تبين أن الحق لعلىّ، وطلبه علىّ لكان أبو بكر: إما أن يُسلم إليه، وإما أن يجامله، وإما أن يعتذر إليه. ولو قام أبو بكر وهو ظالم يدافع عليا وهو محق، لكانت الشريعة والعادة والعقل توجب أن يكون الناس مع على المحق المعصوم على أبى بكر المعتدى الظلوم، لو كان الأمر كذلك، لا سيما والنفوس تنفر عن مبايعة من ليس من بيت الولاية، أعظم من نفرتها عن مبايعة أهل بيت المطاع، فالدواعى لعلىّ من كل وجه كانت أعظم وأكثر، لو كان أحق، وهى عن أبى بكر من كل وجه كانت أبعد، لو كان ظالما. لكن لما كان المقتضى مع أبى بكر ـ وهو دين الله ـ قويا، والإسلام في جدته وطراوته وإقباله، كان أتقى لله ألا يصرفوا الحق عمن يعلمون أنه الأحق إلى غيره، ولو كان لبعضهم هوى مع الغير. وأما أبو بكر فلم يكن لأحدٍ معه هوى إلا هوى الدين، الذي يحبه الله ويرضاه. فهذه الأمور وأمثالها من تدبرها علم بالاضطرار أن القوم علموا أن أبا بكر هو الأحق بخلافة النبوة، وأن ولايته أرضى لله ورسوله فبايعوه، وإن لم يكن ذلك لزم أن يعرفوا ويحرفوا، وكلاهما ممتنع عادة ودينا، والأسباب متعددة فهذا المعلوم اليقينى لا يندفع بأخبار لا يُعلم صحتها، فكيف إذا علم كذبها؟ وألفاظ لا تعلم دلالتها، فكيف إذا علم انتفاء دلالتها؟ ومقاييس لا نظام لها، يعارضها من المعقول والمنقول الثابت الإسناد المعلوم المدلول ما هو أقوى وأولى بالحق وأحرى. وهؤلاء الرافضة الذين يدفعون الحق المعلوم يقينا بطرق كثيرة علماً لا يقبل النقيض بشبه في غاية الضعف، هم من أعظم الطوائف الذين في قلوبهم الزيغ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم، كالنصارى والجهمية وأمثالهم من أهل البدع والأهواء، الذين يدعون النصوص الصحيحة الصريحة التي توجب العلم، ويعارضونها بشبه لا تفيد إلا الشك، لو تعرض لم تثبت. وهذا في المنقولات سفسطة كالسفسطة في العقليات، وهو القدح فيما علم بالحس والعقل بشبهة تعارض ذلك. فمن أراد أن يدفع العلم اليقينى المستقر في القلوب بالشبه، فقد سلك مسلك السفسطة، فإن السفسطة أنواع: أحدها: النفى والجحد والتكذيب: إما بالوجود وإما بالعلم به. والثانى: الشك والريب، وهذه طريقة اللاأدرية، الذين يقولون: لا ندرى، فلا يثبتون ولا ينفون، لكنهم في الحقيقة قد نفوا العلم، وهو نوع من النفس فعادت السفسطة إلى جحد الحق المعلوم أو جحد العلم به. والثالث: قول من يجعل الحقائق تبعا للعقائد، فيقول: من اعتقد العالم قديما فهو قديم، ومن اعتقده محدثا فهو محدث، وإذا أريد بذلك أنه قديم عنده ومحدث عنده فهذا صحيح، فإن هذا هو اعتقاده. لكن السفسطة أن يراد أنه كذلك في الخارج. وإذا كان كذلك فالقدح فيما عُلم من أحوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الخلفاء الثلاثة، وما علم من سيرتهم بعده بأخبار يرويها الرافضة، يكذبهم فيها جماهير الأمة من أعظم السفسطة، ومن روى لمعاوية وأصحابه من الفضائل ما يوجب تقديمه على علىّ وأصحابه، كان كاذباً مبطلا مسفسطاً. ومع هذا فكذب الرافضة الذين يروون ما يقدح في إيمان الخلفاء الثلاثة ويوجب عصمة علىّ، أعظم من كذب من يروى ما يُفضَّل به معاوية على علىّ، وسفسطتهم أكثر؛ فإن ظهور إيمان الثلاثة أعظم من ظهور فضل علىّ عَلَىَ معاوية من وجوه كثيرة، وإثبات عصمة علىّ أبعد عن الحق من إثبات فضل معاوية. ثم خلافة أبى بكر وعمر هي من كمال نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسالته، ومما يُظهر أنه رسول حق، ليس ملكا من الملوك؛ فإن عادة الملوك إيثار أقاربهم بالولايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 لوجوه: أحدهما: محبتهم لأقاربهم أكثر من الأجانب , لما في الطباع من ميل الإنسان إلى قرابته. والثانى: لأن أقاربهم يريدون إقامة ملكهم ما لا يريده الأجنبي، لأن في عز قريب الإنسان عز لنفسه، ومن لم يكن له أقارب من الملوك استعان بممالكه ومواليه فقربهم واستعان بهم، وهذا موجود في ملوك المسلمين والكفار. ولهذا لما كان ملوك بنو أمية وبنو العباس ملوكا، كانوا يريدون أقاربهم ومواليهم بالولايات أكثر من غيرهم، وكان ذلك مما يقيمون به ملكهم. وكذلك ملوك الطوائف، كبنى بويه، وبنى سلجق، وسائر الملوك بالشرق والغرب، والشام، واليمن، وغير ذلك. وهكذا ملوك الكفار من أهل الكتاب والمشركين، كما يوجد في ملوك الفرنج وغيرهم، وكما يوجد في آل جنكشخان بأن الملوك تبقى في أقارب الملك، ويقولون: هذا من العظم، وهذا ليس من العظم، أي من أقارب الملك. وإذا كان كذلك فتولية أبى بكر وعمر بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون عمه العباس وبنى عمه على وعقيل وربيعة بن الحارث بن عبد المطلب وأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وغيرهم، ودون سائر بنى عبد مناف: كعثمان بن عفان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد بن العاص وغيرهم من بنى عبد مناف، الذين كانوا أجل قريش قدراً، وأقرب نسبا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ من أعظم الأدلة على أن محمدا عبد الله ورسوله، وأنه ليس ملكا؛ حيث لم يقدم في خلافته أحداً: لا بقرب نسب منه، ولا بشرف بيته، بل إنما قدّم بالإيمان والتقوى. ودل ذلك على أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته من بعده إنما يعبدون الله ويطيعون أمره، لا يريدون ما يريده غيرهم من العلو في الأرض، ولا يريدون أيضا ما أبيح لبعض الأنبياء من الملك. فإن الله خير محمداً بين أن يكون عبداً ورسولاً وبين أن يكون ملكا نبيا فاختار أن يكون عبداً رسولاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وتولية أبى بكر وعمر بعده من تمام ذلك؛ فإنه لو قدم أحداً من أهل بيته لكانت شبهة لمن يظن أنه كان ملكا، كما أنه لو ورث مالا لورثته لكانت شبهة لمن يظن أنه جمع المال لورثته. فلما لم يستخلف أحداً من أهل بيته ولا خلف لهم مالا، كان هذا مما يبين أنه كان من أبعد الناس عن طلب الرياسة والمال، وإن كان ذلك مباحا، وأنه لم يكن من الملوك الأنبياء، بل كان عبد الله ورسوله. كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: " إنى والله لا أعطى أحدا ولا أمنع أحدا، وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ". وقال: " إن ربى خيرنى بين أن أكون عبداً رسولا ً أو نبيا ملكا، فقلت: بل عبدا رسولا ". وإذا كان هذا مما دل على تنزيهه عن كونه من ملوك الأنبياء، فدلالة ذلك على نبوته ونزاهته عن الكذب والظلم أعظم وأعظم. ولو تولى بعده على أو واحد من أهل بيته لم تحصل هذه المصالح والإلطافات العظيمة. وأيضاً فإنه من المعلوم أن الإسلام في زمن علىّ كان أظهر وأكثر مما كان في خلافة أبى بكر وعمر وكان الذين قاتلهم علىّ أبعد عن الكفر من الذين قاتلهم أبو بكر وعمر؛ فإن أبا بكر قاتل المرتدين وأهل الكتاب، مع ما حصل للمسلمين بموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الضعف العظيم، وما حصل من الارتداد لأكثر البوادى، وضعف قلوب أهل الأمصار، وشك كثير منهم في جهاد مانعى الزكاة وغيرهم. ثم عمر تولى قتال أمتين عظيمتين، لم يكن في العادة المعروفة أن أهل الحجاز واليمن يقهرونهم وهما فارس والروم، فقهرهم وفتح بلادهم. وتمم عثمان ما تمم من فتح المشرق والمغرب، ثم فتح بعد ذلك في خلافة بنى أمية ما فتح بالمشرق والمغرب كما وراء النهر والأندلس وغيرهما مما فتح في خلافة عبد الملك. فمعلوم أنه لو تولى غير أبى بكر وعمر بعد موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل علىّ أو عثمان، لم يمكنه أن يفعل ما فعلا؛ فإن عثمان لم يفعل ما فعلا، مع قوة الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 في زمانه، وعلىّ كان أعجز من عثمان، وكان أعوانه أكثر من أعوانهما، وعدوه أقل وأقرب إلى الإسلام من عدوهما، ومع هذا فلم يقهر عدوه، فكيف كان يمكنه قهر المرتدين وقهر فارس والروم، مع قلة الأعوان وقوة العدو؟! وهذا مما يبين فضل أبى بكر وعمر، وتمام نعمة الله بهما على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى الناس بعده، وأن من أعظم نعم الله تولية أبى بكر وعمر بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإنه لو تولى غيرهما كان لم يفعل ما فعلا، إما لعدم القدرة، وإما لعدم الإرادة. فإنه إذا قيل: لِمَ لمْ يغلب علىّ معاوية وأصحابة؟ فلابد أن يكون سبب ذلك: إما عدم كمال القدرة، وإما عدم كمال الإرادة. وإلا فمع كمال القدرة وكمال الإرادة يجب وجود الفعل، ومن تمام القدرة طاعة الأتباع له، ومن تمام الإرادة إرادة ما هو الأصلح الأنفع الأرضى لله ولرسوله. وأبو بكر وعمر كانت قدرتهما أكمل، وإرادتهما أفضل. فبهذا نصر الله بهما الإسلام، وأذل بهما الكفر والنفاق، وعلى رضي الله عنه لم يؤت من كمال القدرة والإرادة ما أوتيا. والله تعالى كما فضّل بعض النبيين على بعض، فضّل بعض الخلفاء على بعض. فلما لم يؤت ما أوتيا، لم يمكنه أن يفعل في خلافته ما فعلا، وحينئذ فكان عن ذلك بموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعجز وأعجز؛ فإنه على أي وجه ُقدر ذلك فإن غاية ما يقول المتشيّع: إن أتباعه لم يكونوا يطيعونه. فيقال: إذا كان الذين بايعوه لم يطيعوه، فكيف يطيعه من لم يبايعه؟ وإذا قيل: لو بايعوه بعد موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفعل بهم أعظم مما فعل أبو بكر وعمر. فيقال: قد بايعه أكثر ممن بايع أبا بكر وعمر ونحوهما، وعدوه أضعف وأقرب إلى الإسلام من عدو أبى بكر وعمر، ولم يفعل ما يشبه فعلهما، فضلا عن أن يفعل أفضل منه. وإذا قال القائل: إن أتباع أبى بكر وعمر رضي الله عنهما أعظم إيمانا وتقوى، فنصرهم الله لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 قيل: هذا يدل على فساد قول الرافضة؛ فإنهم يقولون: إن أتباع أبى بكر وعمر كانوا مرتدين أو فاسقين، وإذا كان نصرهم وتأييدهم لإيمانهم وتقواهم، دل ذلك على أن الذين بايعوهما أفضل من الشيعة الذين بايعوا عليا. وإذا كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامة على، دل ذلك على أنهما أفضل منه. وإن قالوا: إن عليا إنما لم ينتصر لأن أتباعه كانوا يبغضونه ويختلفون عليه. قيل: هذا أيضا يدل على فساد قول الشيعة: إن الذين بايعوا عليا وأقروا بإمامته أفضل ممن بايع أبا بكر وعمر وأقر بإمامتهما، فإذا كان أولئك الشيعة الذين بايعوا عليا عصاة للإمام المعصوم، كانوا من أشر الناس، فلا يكون في الشيعة طائفة محمودة أصلا، ولا طائفة ينتصر بها على العدو، فيمتنع أن يكون على مع الشيعة قادرا على قهر الكفار. وبالجملة فلابد من كمال حال أبى بكر وعمر وأتباعهما، فالنقص الذي حصل في خلافة علىّ من إضافة ذلك: إما إلى الإمام، وإما إلى أتباعه، وإما إلى المجموع. وعلى كل تقدير فيلزم أن يكون أبو بكر وعمر وأتباعهما أفضل من علىّ وأتباعه، فإنه إن كان سبب الكمال والنقص من الإمام ظهر فضلهما عليه، وإن كان من أتباعه كان المقرون بإمامتهما أفضل من المقرين بإمامته، فتكون أهل السنة أفضل من الشيعة، وذلك يستلزم كونهما أفضل منه، لأن ما امتاز به الأفضل أفضل مما امتاز به المفضول. وهذا بين لمن تدبره؛ فإن الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وقاتلوا معهم، هم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه؛ فإن أولئك فيهم من عاش بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وعامة السابقين الأولين عاشوا بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما توفى منهم أو قتل في حياته قليل منهم. والذين بايعوا عليا كان فيهم من السابقين والتابعين بإحسان بعض من بايع أبا بكر وعمر وعثمان. وأما سائرهم فمنهم من لم يبايعه ولم يقاتل معه، كسعد بن أبى وقاص، وأسامة بن زيد، وبن عمر، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وأبى هريرة، وأمثال هؤلاء من السابقين، والذين اتبعوهم بإحسان. ومنهم من قاتله، كالذين كانوا مع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية من السابقين والتابعين. وإذا كان الذين بايعوا الثلاثة وقاتلوا معهم أفضل من الذين بايعوا عليا وقاتلو معه، لزم أن يكون كل من الثلاثة أفضل، لأن عليا كان موجودا على عهد الثلاثة، فلو كان هو المستحق للإمامة دون غيره، كما تقول الرافضة، أو كان أفضل وأحق بها، كما يقوله من يقوله من الشيعة، لكان أفضل الخلق قد عدلوا عما أمرهم الله به ورسوله إلى ما لم يؤمروا به، بل ما نهوا عنه، وكان الذين بايعوا عليا وقاتلوا معه فعلوا ما أمروا به. ومعلوم أن من فعل ما أمر الله به ورسوله كان أفضل ممن تركه وفعل ما نهى الله عنه ورسوله، فلزم لو كان قول الشيعة حقا أن يكون أتباع على أفضل. وإذا كانوا هم أفضل وإمامهم أفضل من الثلاثة، لزم أن يكون ما فعلوه من الخير أفضل مما فعله الثلاثة. وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار، الذي تواترت به الأخبار، وعلمته البوادى والحضار؛ فإنه في عهد الثلاثة جرى من ظهور الإسلام وعلوه، وانتشاره ونموه وانتصاره وعزه، وقمع المرتدين، وقهر الكفار من أهل الكتاب والمجوس وغيرهم ـ ما لم يجر بعدهم مثله. وعلىّ رضي الله عنه فضّله الله وشرّفه بسوابقه الحميدة وفضائله العديدة، لا بما جرى في زمن خلافته من الحوادث، بخلاف أبى بكر وعمر وعثمان فإنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فضلوا مع السوابق الحميدة والفضائل العديدة، بما جرى في خلافتهم من الجهاد في سبيل الله، وإنفاق كنوز كسرى وقيصر، وغير ذلك من الحوادث المشكورة، والأعمال المبرورة. وكان أبو بكر وعمر أفضل سيرة وأشرف سريرة من عثمان وعلى رضي الله عنهم أجمعين. فلهذا كانا أبعد عن الملام وأولى بالثناء العام، حتى لم يقع في زمنهما شئ من الفتن؛ فلم يكن للخوارج في زمنهما لا قول مأثور ولا سيف مشهور، بل كان كل سيوف المسلمين مسلولة على الكفار، وأهل الإيمان في إقبال، وأهل الكفر في إدبار. ثم إن الرافضة ـ أو أكثرهم ـ لفرط جهلهم وضلالهم يقولون: إنهم ومن اتبعهم كانوا كفارا مرتدين، وإن اليهود والنصارى خير منهم، لأن الكافر الأصلى خير من المرتد. وقد رأيت هذا في عدة من كتبهم، وهذا القول من أعظم الأقوال افتراء على أولياء الله المتقين، وحزب الله المفلحين، وجند الله الغالبين. ومن الدلائل الدالة على فساده أن يقال: من المعلوم بالاضطرار، والمتواتر من الأخبار، أن المهاجرين هاجروا من مكة وغيرها إلى المدينة، وهاجر طائفة منهم، كعمر وعثمان وجعفر بن أبى طالب، هجرتين: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة، وكان الإسلام إذ ذاك قليلا، والكفار مستولون على عامة الأرض، وكانوا يؤذون بمكة ويلقون من أقاربهم وغيرهم من المشركين من الأذى ما لا يعلمه إلا الله، وهم صابرون على الأذى، متجرعون لمرارة البلوى، وفارقوا الأوطان، وهجروا الخلان لمحبة الله ورسوله والجهاد في سبيله، كما وصفهم الله تعالى بقوله: " لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ " (سورة الحشر: 8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وهذا كله فعلوه طوعا واختيارا من تلقاء أنفسهم، لم يكرههم عليه مكره، ولا ألجأهم إليه أحد؛ فإنه لم يكن للإسلام إذ ذاك من القوة ما يكره به أحد على الإسلام، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ ذاك ـ هو ومن اتبعه ـ منهيين عن القتال، مأمورين بالصفح والصبر، فلم يسلم أحد إلا باختياره، ولا هاجر أحد إلا باختياره. ولهذا قال أحمد بن حنبل وغيره من العلماء: إنه لم يكن من المهاجرين من نافق، وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لما ظهر الإسلام بالمدينة، ودخل فيه قبائل الأوس والخزرج، ولما صار للمسلمين دار يمتنعون بها ويقاتلون دخل في الإسلام من أهل المدينة وممن حولهم من الأعراب من دخل خوفا وتقية، وكانوا منافقين. كما قال تعالى: " وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ " ... (سورة التوبة: 101) ولهذا إنما ذكر النفاق في السور المدنية، وأما السور المكية فلا ذكر فيها للمنافقين، فإن من أسلم قبل الهجرة بمكة لم يكن فيهم منافق، والذين هاجروا لم يكن فيهم منافق، بل كانوا مؤمنين بالله ورسوله، محبين لله ولرسوله، وكان الله ورسوله أحب إليهم من أولادهم وأهلهم وأموالهم. وإذا كان كذلك علم أن رميهم ـ أو رمى أكثرهم أو بعضهم ـ بالنفاق، كما يقوله من يقوله من الرافضة، من أعظم البهتان، الذي هو نعت الرافضة وإخوانهم من اليهود؛ فإن النفاق كثير ظاهر في الرافضة إخوان اليهود، ولا يوجد في الطوائف أكثر وأظهر نفاقا منه، حتى يوجد فيهم النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم، ممن هو من أعظم الطوائف نفاقا وزندقة وعداوة لله ولرسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وكذلك دعواهم عليهم الردة من أعظم الأقوال بهتاناً؛ فإن المرتد إنما يرتد بشبهة أو شهوة. ومعلوم أن الشبهات والشهوات في أوائل الإسلام كانت أقوى، فمن كان إيمانهم مثل الجبال في حال ضعف الإسلام، كيف يكون إيمانهم بعد ظهور آياته وانتشار أعلامه؟! وأما الشهوة: فسواء كانت شهوة رياسة أو مال أو نكاح أو غير ذلك، كانت في أول الإسلام أولى بالاتباع، فمن خرجوا من ديارهم وأموالهم، وتركوا ما كانوا عليه من الشرف والعز حبا لله ولرسوله، طوعا غير إكراه، كيف يعادون الله ورسوله طلبا للشرف والمال؟! ثم هم في حال قدرتهم على المعاداة، وقيام المقتضى للمعاداة، لم يكونوا معادين لله ورسوله، بل موالين لله ورسوله، معادين لمن عادى الله ورسوله، فحين قوى المقتضى للموالاه، وضعفت القدرة على المعاداة، يفعلون نقيض هذا؟! هل يظن هذا إلا من هو من أعظم الناس ضلالاً؟ وذلك أن الفعل إذا حصل معه كمال القدرة عليه، وكمال الإرادة له وجب وجوده، وهم في أول الإسلام كان المقتضى لإرادة معاداة الرسول أقوى، لكثرة أعدائه وقلة أوليائه، وعدم ظهور دينه وكانت قدرة من يعاديه باليد واللسان حينئذ أقوى، حتى كان يعاديه آحاد الناس ويباشرون أذاه بالأيدي والألسن. ولما ظهر الإسلام وانتشر، كان المقتضى للمعاداة أضعف، والقدرة عليها أضعف. ومن المعلوم أن من ترك المعاداة أولا، ثم عاداه ثانيا لم يكن إلا لتغير إرادته أو قدرته. ومعلوم أن القدرة على المعاداة كانت أولاً أقوى، والموجب لإرادة المعاداة كان أولا أولى، ولم يتجدد عندهم ما يوجب تغير إرادتهم ولا قدرتهم، فعلم علما يقينيا أن القوم لم يتجدد عندهم ما يوجب الردة عن دينهم ألبتة، والذين ارتدوا بعد موته إنما كانوا ممن أسلم بالسيف، كأصحاب مسيلمة وأهل نجد، فأما المهاجرون الذين أسلموا طوعا فلم يرتد منهم ـ ولله الحمد ـ أحد، وأهل مكة لما أسلموا بعد فتحها همَّ طائفة منهم بالردة، ثم ثبتهم الله بسهيل بن عمرو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وأهل الطائف لما حاصرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد فتح مكة، ثم رأوا ظهور الإسلام، فأسلموا مغلوبين، فهموا بالردة، فثبتهم الله بعثمان بن أبى العاص. فأما أهل مدينة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنما أسلموا طوعا، والمهاجرون منهم والأنصار، وهم قاتلوا الناس على الإسلام، ولهذا لم يرتد من أهل المدينة أحد، بل ضعف غالبهم بموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلت أنفسهم عن الجهاد على دينه، حتى ثبتهم الله وقواهم بأبى بكر الصديق رضي الله عنه، فعادوا إلى ما كانوا عليه من قوة اليقين، وجهاد الكافرين، فالحمد لله الذي من على الإسلام وأهله بصديق الأمة، الذي أيد الله به دينه في حياة رسوله، وحفظه به بعد وفاته، فالله يجزيه عن الإسلام وأهله خير الجزاء. انتهى كلام شيخ الإسلام رضي الله تعالى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 الفصل الخامس عقائد تابعة رأينا فيما سبق عقيدتهم في الإمامة، وأثبتنا بطلانها بأدلة صحيحة صريحة، بل قطعية يقينية. وهذه العقيدة الباطلة هي الطامة الكبرى التي دفعتهم إلى كل غلو وضلال، وقد رأيت هذا واضحاً جليا منذ عشرات السنين عندما كنت أدرس للحصول على درجة الماجستير، وكان عنوان الرسالة " فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة ... " ولذلك جعلت رسالة الدكتوراه تحت عنوان " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله " وإن كنا في غنى عن مناقشة ما تبع عقيدة الإمامة من عقائد أخرى، فما بنى على باطل فهو باطل، غير أننا آثرنا توضيح أهم العقائد التابعة، وستكون المناقشة موجزة كل الإيجاز، وهذه العقائد أهمها: عصمة الأئمة، والبداء، والرجعة، والتقية. أولا: عصمة الأئمة يرى الشيعة الاثنى عشرية وجوب عصمة الإمام " بحيث يحصل للمكلفين القطع بأنه حجة الله، وأن قوله قول الله تعالى، وقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وحكمه وجوب طاعته والتسليم له، والرد إليه على جهة القطع. (1) وأهم أدلتهم على وجوب هذه العصمة ما يأتي: - 1.وجوب وجود الإمام لطف من الله سبحانه، فبه يتم ارتفاع القبيح وفعل الواجب، وفعل القبيح والإخلال بالواجب لا يكونان إلا ممن ليس بمعصوم، فلابد على هذا من أن يكون الإمام معصوماً، فهو مكان النبي، متصف بكل صفاته إلا النبوة.   (1) جوامع الكلم 1 / 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 2.الإمام مقتدى به في جميع الشريعة، فلو كان غير معصوم لم نأمن في بعض أفعاله مما يدعونا إليه أن يكون قبيحاً، ويجب علينا موافقته من حيث وجب الاقتداء به، ولا يجوز من الحكيم تعالى أن يوجب علينا الاقتداء بما هو قبيح، فإذا لم يجز ذلك عليه تعالى دل على أن من أوجب علينا الاقتداء به لا يصدر منه فعل القبيح ولا يكون كذلك إلا المعصوم. 3.إذا ثبت لنا عصمته في الظاهر، فلابد من عصمته في الباطن، إذ لا يحسن من الحكيم تعالى أن يولى الإمامة ـ وهى منصب يقتضي التعظيم والتبجيل ـ من يجوز أن يكون مستحقا للعنة والبراءة في باطنه. 4.لابد أن يكون معصوما قبل حال الإمامة لأنه لو لم يكن كذلك لأدى إلى التنفير عنه، وعدم الاطمئنان إليه (1) . وهم يرون كذلك أن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فيهما ما يؤيد اعتقادهم، فكريمة قوله تعالى: " إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "صريحة في لزوم العصمة في الإمام لمن تدبرها جيدا (2) . " ومن ذلك مثل قوله تعالى " أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" وجه الاستدلال العقلى من دليل الموعظة الحسنة أنه سبحانه أخبرهم بأن من يهدى إلى الحق أولى بالاتباع، ومن فعل الذنب لا يكون هادياً إلى الحق حال معصيته ولا بفعله، أما حال معصيته فلا يقبل منه ولا تؤثر موعظته في القلوب، بل تنكر عليه، وذلك موجب لخلاف دعوته إلى الحق، وأما بفعله ففعله ذنب   (1) انظر تلخيص الشافى ص 318، وجوامع الكلم جـ 1 صفحات: 7، 8، 19، 20. (2) انظر أصل الشيعة وأصولها ص 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 والذنب باطل يدعو إلى الباطل، وأما في غير تلك الحال فالعقول تجوز عليه حالاً لمعصيته لما فيها من شائبة النفرة، فلا يتم له هدايته إلى الحق، ولو فرض أنها لا تجوز عليه حال الطاعة حال المعصية، لم يستحق أحقية الاتباع المطلقة المستمرة التي هي مراد في الآية الشريفة، ولو فرض الاستحقاق والحال هذه في الجملة، أو بقول مطلق، لم يكن في الاستحقاق للأتباع مثل إن لم يقع منه ذنب مطلقا، فإذا كان الاتباع إنما هو للهداية للحق والصواب الموجبة للنجاة من عذاب الله وسخطه، وجب في العقل اتباع من لم يجوز عليه العقل شيئاً من المعاصي بالقطع بحصول النجاة في اتباعه، دون من وقع منه الذنب، لعدم القطع بحصول النجاة في اتباعه " (1) . ومعنى هذا أن الإمام غير المعصوم عندما يعصى ويفعل الذنب لا يصلح للدعوة إلى الحق، وفي غير حال المعصية لا يصلح كذلك، لأن العقول تجوز وقوع المعصية منه. وإذا فرض أنها لا تجوز ذلك في حال طاعته فإن غير المعصوم ـ مع هذا ـ ليس أهلا لأن يتبع الاتباع المطلق المستمر. وأما السنة الشريفة فهى ـ في رأيهم ـ مستفيضة في الدلالة على العصمة، بل إنه " ما نشأ القول بعصمة الأئمة إلا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله " (2) . وهم يرون كذلك أن ما ورد في القرآن الكريم من العتابات المروية في حق الأنبياء عليهم السلام ليست مقصودة على ما هو المعروف عند سائر الناس، " فإن المعروف عندهم أن الشخص إذا عاتب آخر، والسيد إذا عاتب عبده، فإنه في تلك الحال واجد عليه أو مريد لعقوبته، لأجل مخالفته لما أمره به أو نهاه عنه، لأنه عاص له، قادم على مخالفة أمره، وأما عتاب الله عز وجل فإنه ليس من هذا القبيل؛ لأن أنبياءه لا يقدمون على مخالفته، وإن ما يقع منهم بمقتضى الطبيعة   (1) جوامع الكلم 1 / 20. (2) الدعوة الإسلامية ص 253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 البشرية ليس مما نهى الله عنه نهى تحريم ليقال كيف يرجحون داعي الطبيعة البشرية على داعي أمر الله وداعي الطبيعة البشرية النفس الأمارة بالسوء، وداعي أمر الله هو العقل. وأصحاب العقول الكاملة لا يطيعون قرين الشيطان. وإنما هو نهى تنزيه وإرشاد ". والنبي أو الولي " قد يقع منه خلاف الأولى لأنه ينافي الكمال، ولا يستلزم النقصان، لأنه بتلك الصفات الحميدة تام قائم في مقامه ومرتبته التي وضعه الله فيها، فإذا وقع منه خلاف الأولى استوجب العقاب والذم من رب الأرباب لعلم ذلك الولي أنه مرجوح لا ينبغى له أن يفعله، فإذا فعله مع علمه بذلك عرف من نفسه التقصير واستحقاق العتاب، لأن الله سبحانه أقامه مقام القدس الذي هو محل الخلافة والسفارة المقتضى لأن يجرى على الحكمة التي هي مقتضى إرادة المولى سبحانه وفعله، فإذا ورد عليه الذم والعتاب انكسر وأناب، فاستحق بانكساره وذله واستغفاره وتوبته تلك الدرجة العالية " (1) . " فتلك العتابات والتوبيخات دالة على عظم شأنهم، وجلالة قدرهم عنده لعظيم اعتنائه عز وجل بهم، فإنه قد يعاتبهم ويلومهم على ما ليس بذنب، وإنما هو تكميل على تكميل، وتنزيه لهم عن ملابسة مالا يليق بمقامهم عنده " (2) . ومن أمثلة ذلك قول الله عز وجل: " عَفَا اللهُ عَنكَ "، فقالوا تفسيرا للعفو: " هذا يستعمل من لطيف المعاتبة، وإن كان العتاب على فعل جائز مثل المراد في هذه الآية، وليس للعفو متعلق إلا التلطف في العتاب " (3) .   (1) جوامع الكلم 1 / 18. (2) المرجع السابق 1 / 19. (3) المرجع السابق 1 / 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وقوله تعالى: " لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ " خرجوا معنى الآية الكريمة على أنه " محمول على ترك الأولى كما تقدم ". وقيل: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنب أمتك بشفاعتك، وحسنت إضافة ذنوب أمته إليه للاتصال بينه وبينهم. وعن الصادق رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال ما كان له ذنب ولا هم بذنب، ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له.. وفي رواية ابن طاووس عنهم عليهم السلام أن المراد: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر عند أهل مكة وقريش، يعنى ما تقدم قبل الهجرة وبعدها، فإنك إذا فتحت مكة بغير قتل لهم ولا استيصال، ولا أخذهم بما قدموه من العداوة والقتال، غفروا ما كانوا يعتقدونه ذنبا لك عندهم متقدماً أو متأخراً، وما كان يظهر من عداوته لهم في مقابلة عداوتهم له. فلما رأوه قد تحكم وتمكن، وما استقصى، غفروا ما ظنوه من الذنوب، ونقل أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله حين كسر الأصنام قالوا: ما كان أحد أعظم ذنباً من محمد، كسر ثلثمائة وستين إلهاً، فقال تعالى: " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ " من عبادتها " وَمَا تَأَخَّرَ"بكسرك إياها، تهكما بهم واستهزاء (1) .   (1) المرجع السابق 1 / 25، والمعروف أن الرسول الكريم لم يعبد الأصنام قط، ولذلك فالمراد بقوله " من عبادتها " أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذنب ـ من وجهة نظر الكفار ـ لأنه قصر في عبادة الأصنام فلم يتخذها آلهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وفي واقعة آدم رضي الله عنه " لا يقال إنه عصى من حيث هو معصوم ـ كما هو حال ما نحن بصدده ـ بل إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة ليتم مقادير الله عز وجل " (1) . وتفسير العصيان بأنه راجع إلى ترك الأولى، وهو ليس بذنب في الحقيقة. نعم يسمى معصية وذنباً وسيئة إذا صدر من أصحاب المراتب العالية في القرب من الله عز وجل كالنبيين، ولهذا ورد: حسنات الأبرار سيئات المقربين (2) . وفي قصة داود رووا عن الرضا أنه قال: " إن داود رضي الله عنه إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقا هو أعلم منه، فبعث الله عز وجل إليه ملكين فتسورا المحراب. فقالا له: خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة، فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب. فعجل داود رضي الله عنه على المدعى عليه فقال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، ولم يسأل المدعى البينة على ذلك، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم حكم " (3) . هذا هو رأي الإمامية في مسألة العصمة، والذي دفعهم إلى كل هذا نظرتهم إلى الإمام على أنه مكان النبي تماما بفارق واحد هو مسألة النبوة! فلولا وجود الإمام لضلت الأمة، وهذا الذي يعصم الأمة من الضلال لابد أن يكون معصوماً. وإن كان هؤلاء الغلاة يقصدون أئمتهم على وجه الخصوص دون غيرهم من سائر أئمة المسلمين، فإن أي إمام من الأئمة في الإسلام كائنا من كان منفذ للشرع وليس مشرعا، والذي يعصم الأمة الإسلامية من الضلال هو القرآن الكريم الذي   (1) جوامع الكلم 1 / 26. (2) نفس المرجع 1 / 27. (3) جوامع الكلم 1 / 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 تعهد الله سبحانه بحفظه " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (1) ثم من بعد ذلك السنة النبوية الشريفة. وما تحتاج إليه الأمة ولا تجده في هذين المصدرين، فإنها تعمل عقلها وتجتهر فيما يعرض لها، فإنها لا تجمع على ضلالة بنص قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) ، وهى التي تعصم الإمام من الخطأ، فالإمام فرد يخطئ ويصيب كسائر البشر من لدن آدم عليه السلام، أما الأمة فهى أحقٍ بأن تصيب. وعندما أرسل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ بن جبل إلى اليمن، فوضه في أن يجتهد بعد الرجوع إلى الكتاب والسنة، ومعاذ ليس معصوماً، فلو وجبت العصمة للإمام لوجبت هنا لنفس الأدلة التي ساقوها: من فعل القبيح وترك الواجب، واتباع الناس له، إلى غير ذلك. ولو وجبت العصمة للإمام، لوجب نصب إمام معصوم لكل بلد، لأن الإمام الواحد لا يكفي، ولوجب استمرار وجود هؤلاء الأئمة المعصومين في كل زمان ومكان وهذا ـ كما يسلم الجميع ـ لم يحدث. فاللطف من الله سبحانه إذا ليس في وجود الإمام المعصوم، وإنما في إرسال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنزال القرآن الكريم وحفظه لهداية الناس.   (1) ... سورة الحجر: الآية التاسعة. (2) ... " لا تجتمع أمتى على ضلالة ": رواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه وغيرهم، واختلف في إسناده فتحدث السخاوى عن رواياته المختلفة ثم قال: " حديث مشهور المتن، ذو أسانيد كثيرة، وشواهد متعددة في المرفوع وغيره ". المقاصد الحسنه للسخاوى ص 460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ونحن إذا تمسكنا بالقرآن الكريم، وبسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلن نضل أبدا كما قال نبينا صلوات الله عليه في حجة الوداع: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا. كتاب الله وسنة نبيه (1) . ويقول تعالى في سورة النساء: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" (فلم يقل: وأطيعوا أولى الأمر، ليبين أن طاعتهم فيما كان طاعة للرسول أيضا، إذ اندراج طاعة الرسول في طاعة الله أمر معلوم، فلم يكن تكرير لفظ الطاعة مؤذنا بالفرق، بخلاف ما لو قيل: أطيعوا الرسول وأطيعوا أولى الأمر منكم، فإنه قد يوهم طاعة كل منهما على حياله. وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح أنه قال " إنما الطاعة في المعروف "، وقال: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "، وقال: " على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ". ولهذا قال سبحانه بعد ذلك: "   (1) راجع الخطبة في السيرة النبوية لابن إسحاق التي جمعها ابن هشام 4، 603 ـ 604. والحديث رواه الإمام مالك في الموطأ، مرسلا، ووصله ابن عبد البر. (انظر تنوير الحوالك 2 / 208) ، ورواه الحاكم عن ابن عباس، وعن أبى هريرة، وبين صحة الحديث ووافقه الذهبي ـ (انظر المستدرك وتلخيصه 1 / 93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً" فلم يأمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله والرسول دون الرد إلى أولى الأمر ... ولو كان غير الرسول معصوماً أو محفوظاً فيما يأمر به ويخبر به لكان ممن يرد إليه مواقع النزاع (1) . فإذا أمر الإمام بالقبيح فليس على الأمة أن تطيعه وتقتدى به؛ لأن ذلك لا يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله، ولا يعقل أن أمة لا تستطيع أن تميز القبيح من غير القبيح، في حين يستطيع ذلك الإمام وحده حتى لو كان طفلا! قال ابن تيمية (2) ، معقبا على القول بعصمة الإمام الثانى عشر: أجمع أهل العلم بالشريعة على ما دل عليه الكتاب والسنة: أن هذا لو كان موجودا لكان من أطفال المسلمين الذين يجب الحجر عليهم في أنفسهم وأموالهم حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد، كما قال تعالى: (3) " وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ " وليس في القرآن الكريم، ولا في أحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يدل على هذه العصمة. فقوله تعالى: (4) " قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ "   (1) جامع الرسائل 1 / 273 ـ 275. (2) المرجع السابق 1 / 263. (3) سورة النساء: الآية السادسة. (4) سورة البقرة: الآية 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ليس فيه معنى العصمة، فهناك فرق كبير بين الظلم وعدم العصمة، فغير المعصوم إذا أخطأ فلم يصر على هذا الخطأ وتاب وأناب إلى الله تعالى فليس بظالم. ثم أين هذا من السهو والنسيان الذي لا يحاسب عليه الإنسان، كما قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "؟ (1) وقوله تعالى (2) " أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى " جزء من آية كريمة جاءت في سياق الاستدلال على إبطال دعوى المشركين فيما أشركوا بالله غيره، وعبدوا من الأصنام والأنداد. قال تعالى: (3) " قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ" فالله سبحانه يهدى للحق وهو أحق أن يتبع، والمشركون ضالون فيما أشركوا بالله، فأين وجوب العصمة للإمام هنا؟! وبصفه عامة كل من يدعو للحق أحق أن يتبع سواء أكان إماماً أم غير إمام، ومن دعا إلى الضلال أحق ألا يتبع.   (1) وقع بهذا اللفظ في كتب كثيرين من الفقهاء والأصوليين. له شاهد جيد أخرجه أبو القاسم الفضل بن جعفر التميمى المعروف بأخى عاصم في فوائده، بسنده عن ابن عباس بلفظ: رفع الله. ورواه ابن ماجه وابن أبى عاصم بلفظ: وضع بدل رفع، ورجاله ثقات، ولذا صححه ابن حبان والحاكم وغيرهما وقال النووى في الروضة وفى الأربعين أنه حسن (انظر المقاصد الحسنة للسخاوى ص 228 ـ 230) . (2) سورة يونس: الآية 35. (3) سورة يونس: الآيتان 34، 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 ويقول تعالى في سورة السجدة: (1) " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ " فإذا كانت العصمة واجبة للأئمة، فهل هؤلاء جميعا ـ الذين ذكرتهم الآية الكريمة ـ معصومون؟! إن القرآن الكريم يبين أن لا عصمة لبشر، فهذا آدم رضي الله عنه أبو البشر قد عصى ربه فغوى كما يبين القرآن الكريم، قال تعالى: (2) " وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" وفي سورة الأعراف: (3) . " فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ"   (1) الآيتان 23، 24. (2) سورة البقرة: الآيات: 35، 36، 37. (3) الآيتان: 22، 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وفي سورة طه (1) : " فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى" فهذه الآيات الكريمة تذكر أن آدم رضي الله عنه قد أطاع الشيطان وعصى الله تعالى فغوى، وظلم نفسه. فلو كان معصوماً كالعصمة التي تدعى للأئمة ما فعل ذلك. وكونه " إنما عصى حين صرف عنه وجه العصمة " (2) يمكن أن يقال مثله عن أي إنسان، فكل إنسان معصوم إذن. وإنما يخطئ عندما يصرف عنه وجه العصمة! وليس الأمر كذلك! وإذا لم يكن ذلك ذنبا من آدم ـ كما قيل ـ فلم حاسبه الله تعالى وعاقبه ثم تاب عليه وهداه؟ ولم عد ذلك الذي فعله ظلماً وخسراناً وغياً؟ يقول ابن تيمية: " من زعم أن الله ذم أحدا من البشر أو عاقبه على ما فعله، ولم يكن ذلك ذنبا، فقد قدح فيما أخبر الله به وما وجب له من حكمته وعدله ". (3) ويقول فخر الدين الرازى ـ وهو يدافع عن مبدأ عصمة الأنبياء ـ إن ما نسب لآدم رضي الله عنه كان قبل النبوة. وأورد رأي أولئك الذين لم يجوزوا صدور المعصية عن الأنبياء قبل النبوة ولكنه لم يستطع أن يسلم بهذا الرأي، وانتهى ... إلى قوله بلزوم أن يكون اطلاق لفظ العصيان على آدم إنما كان لكونه تاركا للواجب (4) .   (1) الآيتان: 121، 122. (2) جوامع الكلم 1 / 26. (3) جامع الرسائل 1 / 275. (4) انظر عصمة الأنبياء ص 12 ـ 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 إن تلك الآيات الكريمة واضحة الدلالة في عدم العصمة، ويزيد ذلك وضوحا لا لبس فيه قول الله تعالى: " وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ. قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " (1) فقتل موسى للرجل، واعتبار ذلك من عمل الشيطان، واعترافه بظلم نفسه، وطلبه المغفرة من الله تعالى، واستجابة الله له، كل هذا لا تتحقق معه عصمة. وفي أكثر من موضع في القرآن الكريم لم يقر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أخطاء وقع فيها. ففي سورة الأنفال: (2) " مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"   (1) سورة القصص، الآيتان: 15، 16. (2) الآية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وفي سورة التوبة: (1) " لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ" وفي سورة الأحزاب (2) "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ " وفي سورة عبس: (3) "عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى " وفي آيات كريمة أخرى ذكر أن له ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذنوباً: قال تعالى: (4) "فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ"   (1) الآيتان: 42، 43. (2) الآية 37. (3) الآيات من 1: 10. (4) سورة غافر الآية: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وقال عز وجل: (1) "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ" وقال سبحانه: (2) " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا" وقال تعالى: (3) " وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ" وتخريج هذه الآيات الكريمة على أنها من باب ترك الأولى لا يتفق مع دعوى العصمة المطلقة. وما روى عن الصادق في الآية الثانية من سورة الفتح أنه قال: " ما كان له ذنب ولا هم بذنب ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له ". (4) يعد مبدأ خطيرا يتنافي مع مبادئ الإسلام كلية، فأين هذا من قوله تعالى: (5)   (1) سورة محمد الآية 19. (2) سورة الفتح، الآيتان 1، 2. (3) سورة الانشراح، الآيتان 2، 3. (4) جوامع الكلم 1 / 25. (5) سورة فاطر، الآية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ" ومن قوله سبحانه: (1) " فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ" فالقرآن الكريم إذن ينفي وجوب هذه العصمة المطلقة لخير البشر أجمعين وهم الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم، وإنما عصمتهم مقيدة محددة، فمثلا " اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه، فلا يقرون على سهو فيه، وبهذا يحصل المقصود من البعثة ". (2) قال الإمام فخر الدين الرازى بعد نقل الآراء المختلفة في القول بعصمة الأنبياء: " والذى نقول: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد. أما على سبيل السهو فهو جائز. (3) فالرازى وقد كتب رسالته ـ كما يقول (4) ـ في النضح عن رسل الله وأنبيائه والذب عن خلاصة خلقه وأتقيائه، لم يدع لهم عصمة كتلك التي ادعيت للأئمة.   (1) سورة الزلزلة، الآيتان: 7، 8. (2) المنتقى ص 84 ـ 85. (3) عصمة الأنبياء ص 4، وانظر الآراء المختلفة حول العصمة في الصفحتين الثانية والثالثة. (4) المرجع السابق ص 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وبالطبع لا يمكن أن تتعارض السنة الشريفة مع هذا المبدأ. لكن الإمامية يستدلون على عصمة الأئمة بكثير من الأحاديث، بعضها صحيح وبعضها لا يمكن الأخذ به، وقد رأينا فيما سبق نظرة الشيعة إلى الإمام ونحن لا يمكن بحال أن نأخذ بها، فهى ترفعه فوق الأنبياء والبشر جميعا! فما وجه الاستدلال في الأحاديث الصحيحة التي استدلوا بها؟ من الأحاديث التي استدلوا بها قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلى: " أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى ". وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " ثم أعطاها علياً. وهذا الحديثان الشريفان ورد معناهما في البخاري ومسلم. (1) أما الحديث الأول فقد ذكر مسلم بإسناده عن سعد بن أبى وقاص قال: " خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بن أبى طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله تخلفنى في النساء والصبيان، فقال: أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى غير انه لا نبي من بعدى ". فالإمام على كرم الله وجهه يشبه هارون رضي الله عنه في الاستخلاف (2) ، وقد استخلف غيره أيضا. وهذا الحديثان الشريفان يبينان مكانة! على رضي الله عنه، وما أسماها من مكانة ولكنهما لو كانا يوجبان عصمة لوجبت لكل الصحابة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فكلهم يحبون الله تعالى، ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحبهم الله   (1) راجع صحيح البخاري: كتاب المناقب. باب مناقب على بن أبى طالب، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة. باب من فضائل على بن أبى طالب. (2) انظر الوشيعة ص م ط وما بعدها ففيه تحليل مفصل لهذا الحديث، وبيان بطلان استدلال الإمامية، وانظر الفصل في الملل ص 94 ـ 95، ومختصر التحفة ص 162 ـ 164، والمنتقى ص 468 ـ 470. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 عز وجل، ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولوجبت العصمة كذلك لكل من استخلف على المدينة، فهم جميعا بمنزلة هارون من موسى في الاستخلاف، ولوجبت أيضا لكثيرين غير من ادعيت لهم، مثال ذلك ما جاء في حق أبى بكر الصديق رضي الله عنه من الأحاديث الصحيحة. روى البخاري ومسلم بإسنادهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن من أمن ... الناس على في صحبته، وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربى لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر " (1) . وأكثر من هذا صراحة ما روياه أيضاً بإسنادهما أن أمرأة أتت النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمرها أن ترجع إليه. قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول الموت. قال عليه الصلاة والسلام: إن لم تجدينى فأتى أبا بكر " (2) . وبمنطق الشيعة نقول: إذا جاءت المرأة ولم تجد النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنها مأمورة بأن تسأل أبا بكر، وتتبعه فيما يقوله لها، فإذا لم يكن معصوماً فربما دلها على قبيح فتتابعه عليه، وهذا غير جائز فلابد إذن أن يكون معصوماً! أظن هذا أكثر منطقية واستدلالاً من استدلال الإمامية، ولكن أحدا لم يقل به، لأن أبا بكر - رضي الله عنه - بشر كسائر البشر، يصيب ويخطئ، والمرأة مأمورة بأن تتبعه فيما يوافق كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأبو بكر - كغيره - منفذ للشرع وليس مشرعاً. وغير هذا كثير فيما ورد عن فضائل الصحابة رضوان الله عليهم (3) .   (1) صحيح البخاري: " كتاب المناقب – باب مناقب المهاجرين، وصحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل أبى بكر الصديق، واللفظ للبخاري. (2) المرجعيين السابقين، وفى مسلم " فإن لم ... " بزيادة الفاء. (3) راجع صحيح البخاري في كتاب المناقب، وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 نخرج من كل هذا إلى أن عصمة الأنبياء ليست مطلقة، فهم بشر معرضون للخطأ والسهو والنسيان، ولكنهم - عليهم السلام - لا يقرون على هذا الخطأ " بل لابد من التوبة والبيان، والاقتداء إنما يكون بما استقر عليه الأمر، فأما المنسوخ، والمنهى عنه، والمتوب عنه، فلا قدوة فيه بالاتفاق، فإذا كانت الأقوال المنسوخة لا قدوة فيها، فالأفعال التي لم يقر عليها أولى بذلك" (1) أما باقي البشر فهى أدنى من هذا بكثير جداً. ودعوى العصمة للأئمة ليس لها سند من الشريعة والعقل، فإنها ترفعهم فوق مستوى الأنبياء عليهم السلام. ولا نقول إن الأئمة جميعاً لا يصلون إلى درجة الأنبياء، فهذا مسلم به، وإنما نقول: إن جميع الأئمة ليس فيهم من يصل إلى منزلة الصديق والفاروق رضي الله عنهما باعتراف الإمام على نفسه كرم الله وجهه، فقد روى الإمام البخاري رضي الله عنه بسنده عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال: " قلت لأبى: أي الناس خير بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر ". (2) قال ابن تيمية: " قد روى هذا عن على من نحو ثمانين طريقاً، وهو متواتر عنه " (3) . والواقع العملي للأئمة يتنافى مع هذه العصمة، مثال ذلك أن الحسن رضي الله عنه هادن مع كثرة أنصاره، والحسين رضي الله عنه حارب مع قلة من أنصاره (4) . فلو كان أحدهما مصيباً، كان الآخر مخطئاً، أي غير معصوم، ولا   (1) جامع الرسائل 1/276. (2) ... صحيح البخاري، كتاب المناقب - باب مناقب المهاجرين. (3) ... جامع الرسائل 1/261. (4) ولذلك حارت فرقة من أصحابه وقالت: قد اختلف علينا فعل الحسن وفعل الحسين، فشكوا في إمامتها، ورجعوا عنها: انظر فرق الشيعة - ص 25-26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 يمكن أن يكون الاثنان مصيبين. فلعل في هذا كله ما يكفى لدحض دعوى العصمة، والله سبحانه يهدينا سواء السبيل. ثانياً: البداء البداء: الظهور والانكشاف، تقول: بدا َبدْوا وُبدُوّا وبَداء وَبدَّا وبداءة، ويستخدم كذلك بمعنى نشأة الرأي الجديد، تقول: بدا له في الأمر بدوا وبداء وبداة: نشأ له فيه رأي. (1) وقد ورد المعنيان في القرآن الكريم، الأول في مثل قوله تعالى: " وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " (2) . وقوله سبحانه وتعالى: (3) ... " وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ". والثانى في قوله تعالى: (4) " ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين ". والبداء بمعنييه يستوجب جهل من يبدو له بالأمر قبل بدائه، ولكن الشيعة ينسبون البداء لله تعالى، فهل معنى ذلك أنهم ينسبون عدم العلم لله؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.   (1) انظر مادة (بدو) في القاموس المحيط ولسان العرب. (2) سورة الزمر: الآية 47. (3) سورة البقرة: الآية 284. (4) سورة يوسف: الآية 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 رأي الكثير من المسلمين هذا الرأي، فرفضوا القول بالبداء، وسلطوا أقلامهم تعصف بالشيعة عصفها بالكفرة الملحدين، وأقاموا من البراهين القاطعة ما يثبت العلم الكامل لله عز وجل. (1) ومما لا جدال فيه أن القول بالبداء بهذا المعنى المرفوض، يُخرج الشيعة قطعاً من ملة الإسلام، ولكنني أرى أنهم لا يقصدون على الإطلاق نسبة الجهل إلى الله سبحانه، فهم يرون أن الله عز وجل يحيط علمه بكل شئ، وأن اللوح المحفوظ المشار إليه بأم الكتاب فيه كل ما كان وما يكون، وذكر لما يثبت وما يمحى ... " يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ"فالمحو والإثبات ليس في أم الكتاب، فنقوشه محفوظة مستمرة. (2) وقد جاء في باب البداء من كتاب الكافي (3) عن أبى عبد الله جعفر الصادق قال: " ما بدا لله في شيء إلا كان في علمه قبل أن يبدو شيء له ".   (1) انظر: الوشيعة ص 110 – 120، والتحفة الاثنا عشريه ص 315 وما بعدها، والنسخ في القرآن الكريم لأستاذنا الدكتور مصطفى زيد رحمه الله ص19-26 جـ 1: وشيخنا لم يذكر الإمامية بالذات، والبداء الذي أنكره لم تقل به الإمامية وإنما ذهبت إليه فرق أخرى من الشيعة كالبدائية، فقد زعمت أن الله سبحانه قد يريد بعض الأشياء ثم يبدو له، ويندم لكونه خلاف المصلحة! وحملت خلافة الثلاثة ومدحهم في الآيات الكريمة على ذلك! انظر مختصر التحفة ص 16. (2) انظر: الدين والإسلام ص 171. (3) ص 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وقال: " إن الله لم يبد له من جهل "وسئل: هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله. قيل: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال: بلى قبل أن يخلق الخلق (1) . يقول الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء: " البداء وإن كان جوهر معناه هو ظهور الشىء بعد خفائه، ولكن ليس المراد به هنا ظهور الشىء لله جل شأنه بعد خفائه عنه، معاذ الله، وأي ذى حريجة ومسكة يقول بهذه المضلة؟ بل المراد ظهور الشيء من الله لمن يشاء من خلقه بعد إخفائه عنهم، وقولنا (بدا لله) أي بدا حكم لله، أو شأن لله " (2) . فالبداء بهذا التفسير لا يتعارض وعلم الله التام بكل شيء، وظهور أحكام لله كانت خافية علينا شيء يسلم به كل المسلمين، وقد نسب البداء إلى الله سبحانه وتعالى في حديث شريف ورد في صحيح البخاري: فقد روى عن أبى هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن ثلاثة في بنى إسرائيل، أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص ... " إلى آخر الحديث الشريف (3) .   (1) عقب أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة - رحمه الله - على نسبة مثل هذه الأخبار إلى الإمام الصادق بقوله: إن هذه الأخبار في مجموعها تدل على أن البداء في نظر الصادق هو أن يظهر للناس ما أكنه الله تعالى في علمه، وذلك لا ينافى علم الله تعالى ". (الإمام الصادق ص 236) . (2) الدين والإسلام ص 173، وانظر كذلك قول الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه " الشيعة والتشيع " ص 53-54 ففيه بيان أن البداء لا يستدعى الجهل وحدوث العلم لذات الله سبحانه. (3) انظر صحيح البخاري - الجزء الرابع - كتاب بدء الخلق: باب ما ذكر عن بنى إسرائيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 فكيف إذن اُعتبر مبدأ خاصا بالشيعة؟ ينافحون عنه، ويبالغون في قيمته حتى أنهم قالوا: " ما عبد الله بشئ مثل البداء "، " ما عظم الله بمثل البداء " (1) . إن توضيحهم لكيفية البداء تكشف عن هذا، فهم يقولون: إن الله جلت قدرته قد يخبر ملائكته، أو رسله المقربين بحادثة ما، ويخفى عنهم أشياء إذا تحققت تغيرت النتيجة، وقد يكون في علمه سبحانه أنها ستتحقق وسيتبع ذلك تغير الحال: مثال هذا: أن يخبرهم بأن فلانا سيموت في الثلاثين من عمره، ويخفى عنهم أن ذلك مقترن بعدم تصدقه، وأنه سيتصدق وسينسأ له في أجله، فعندما يظهر ذلك الذي أخفى يقال: بدا لله فيه أن يمد في أجله، فيكون البداء في التكوين كالنسخ في التشريع (2) . وإذا كنا نعلم الحكمة من النسخ في التشريع، فما الحكمة من هذا البداء؟ وكيف يخبر الله سبحانه وأنبياءه وملائكته بمعلومات ناقصة؟ وعندما يخبرون الناس بهذه المعلومات فما الفرق بينهم وبين المنجمين الكاذبين الضالين ... المضلين؟ (3) . إن الدافع الحقيقى لهذا المبدأ هو أنهم غالوا في أئمتهم، وأحلوهم منزلة فوق البشر كما رأينا من ذى قبل، ونسبوا لهم العصمة وعلم الغيب، فكان لابد من مخرج إذا حدثوا بمغيب فكذبهم الواقع، وكان هذا المخرج هو القول بالبداء!   (1) راجع باب البداء من كتاب الكافى. (2) انظر: الدين والإسلام ص 172 وما بعدها، وانظر كذلك: جوامع الكلم ص 145 من الرسالة القطيفية، والدعوة الإسلامية ص 35 وما بعدها. (3) لهذا وقع الخلاف بين الإمامية في الإخبار: أيجوز أم لا؟ (انظر الدعوة الإسلامية ... ص 37-38) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وأول من نادى به المختار الثقفى، لأنه كان يدعى علم الغيب، فإذا حدثت حادثة على خلاف ما أخبر قال: قد بدا لربكم! (1) . وروى أن أبا الخطاب محمد بن أبى زينب الأسدي الأجدع عندما حارب والى الكوفة عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس جعل القصب مكان الرماح، واستخدم الحجارة والسكاكين، وقال لقومه: قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف. ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لا تضركم، ولا تخل فيكم: فقدمهم عشرة عشرة للمحاربة، فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلاً قالوا له: ما ترى ما يحل بنا من القوم، وما نرى قصبنا يعمل فيهم ولا يؤثر، وقد عمل سلاحهم فينا، وقتل من ترى منا، فقال لهم: إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبي؟ (2) ولهذا جاء في الكافى عن أبى عبد الله: " إن لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه " (3) . وفى رواية أخرى في الكافى أيضا (1/369) : " إذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم به فقالوا: صدق الله، وإذا حدثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا: صدق الله تؤجروا مرتين ". وعلق صاحب الحاشية بقوله: " مرة للتصديق، وأخرى للقول بالبداء "   (1) انظر: النسخ في القرآن الكريم 1/25 –26، وضحى الإسلام 1/354، والإمام الصادق ص: 234، والملل والنحل للشهرستانى 1/132-133. (2) فرق الشيعة ص 70. (3) ص 147 من الكتاب المذكور ج 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فالقول بالبداء، وإن كان لا يتنافى مع علم الله سبحانه الذي وسع كل شئ، إلا أنه اتخذ ذريعة للتضليل بأن الأئمة يعلمون الغيب، فإذا حدث غير ما أخبروا، فإنما قد بد الله! ومصدق الكذب يؤجر مرتين! والمسلمون قاطبة - عدا الشيعة - يرفضون هذا القول، ويكفى لبطلانه مثل قوله تعالى: (1) " وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ " وأمره سبحانه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يقول: (2) " وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ " " قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ " (3) على أن من الشيعة أنفسهم من ينكر علم الأئمة للغيب، بل ينكر نسبة ذلك إلى الشيعة! يقول الشيخ محمد جواد مغنية: وكيف ينسب إلى الشيعة الإمامية القول بأن أئمتهم يعلمون الغيب، وهم يؤمنون بكتاب الله، ويتلون قوله تعالى حكاية عن نبيه: "وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ "، وقوله: " إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ"، وقوله: " قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ". وذكر قول الشيخ الطبرسي المفسر: لقد ظلم الشيعة الإمامية من نسب إليهم القول بأن الأئمة يعلمون الغيب، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق.   (1) سورة آل عمران: الآية 179. (2) سورة الأعراف: الآية 188. (3) الأنعام: الآية 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ثم قال: وإن افترض وجود خبر أو قول ينسب علم الغيب إلى الأئمة وجب طرحه باتفاق المسلمين. ثم ذكر عن الشيعة أنهم لا يدعون لأئمتهم علم الغيب، ولا الإيحاء والإلهام، وأن من نسب إليهم شيئاً من ذلك فهو جاهل متطفل، أو مفتر كذاب (1) . وفى قول الشيخ مغنية ما يبين افتراء من يستجيز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق، ولكنه بعد عن الواقع عندما ذكر أن الشيعة لا يستجيزون هذا، فما أكثر الشيعة القائلين بأن الأئمة يعلمون الغيب! (2) ولولا هذا لما قيل بالبداء. ثالثاً: الرجعة يعتقد الإمامية الاثنا عشرية أن إمامهم الثانى عشر محمدا المهدى، سيرجع بعد غيبته الكبرى، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً. ورأينا أنهم ينتظرون خروجه حتى الآن، رغم مضى أكثر من ألف عام! وبسطنا بعض حججهم وأثبتنا بطلانها، وهذه العقيدة من جوهر الإمامة التي أجمعت عليها هذه الفرقة. والإمامية ليست أول من قال برجوع الإمام بعد غيبته، فأكثر فرق الشيعة رأت أن بعض الأئمة سيعودون بعد موتهم أو غيبتهم، ولهم تفصيلات في ذلك يعحب الباحثون لوجود مثلها بين فرق من المسلمين (3) .   (1) انظر: الشيعة والتشيع: ص 43، 48. (2) في تفسير البداء اعتراف بعلم الغيب، وكذلك يرى أكثر الشيعة أن الأئمة يعلمون الغيب: انظر مثلا حديث السيد كاظم الكفائى في تعقيبه على الأخبار التي تنسب علم الغيب للأئمة. (الحديث آخر هذه الموسوعة) ، وراجع رأي عبد الحسين شرف الدين في ردى على مراجعاته. (3) انظر: جوامع الكلم 1/12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وللإمامية عقيدة أخرى خاصة بالرجعة، وهى رجعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهل بيته قبل يوم القيامة، وكذلك رجعة أعدائهم ومن اغتصبوهم حقهم بحسب زعمهم ليقتصوا منهم، ولهم في ذلك خرافات كثيرة: كظهور جسد أمير المؤمنين على ابن أبى طالب في قرص الشمس، يعرفه الخلائق، وينادى مناد باسمه في السماء، وينادى جبريل أن الحق مع على وشيعته (1) . وألف في موضوع الرجعة كثير من الرافضة، وأطالوا الحديث عنها، وعن إمكانها، وعن أدلة إثباتها، والرد على من ينكرها. كما نرى الحديث عن الرجعة في كتب التفسير والحديث عندهم، والكتب التي تتناول موضوعات عامة. ونضرب مثلا هنا بكتاب: " الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة " لمؤلفه محمد بن الحسن الحر العاملي المتوفى سنة 1104 هـ. نرى في مقدمة الكتاب ذكر تسعة وعشرين كتاباً في موضوع واحد هو إثبات الرجعة!! وفى مراجع المؤلف نرى كثيراً من كتب التفسير والحديث وغيرها. والكتاب كله مثل للغلو والضلال، بل يصل إلى الكفر والزندقة. ولا نرى حاجة للوقوف أمام هذا الكتاب وأمثاله، ويكفى ما بيناه من قبل من بطلان عقيدتهم في الإمامة، وإثبات ضلال القائلين بها. والرجعة إنما هي تابعة لعقيدتهم في الإمامة، وهى من أشد أقوالهم غلواً وضلالاً.   (1) انظر: المرجع السابق ص 13، 41، والشيعة والتشيع ص 55، ضحى الإسلام 3/242، والإمام الصادق ص 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ووجدنا من الشيعة الاثنى عشرية أنفسهم من ينكر هذه العقيدة الخرافية (1) . فهى إذن ليست من المبادئ المجمع عليها، ونحن نرى أن الصواب مع أولئك الذين أنكروها، وأن من قال بها فقد أدخل على الإسلام ما هو منه براء (2) . رابعاً: التقية نقول: اتقيت الشئ وَتقَيْته أتَّقِيته وأتقْيٍةٍ تُقىّ وتقَّية وِتقاء: أي: حِذَرْته (3) ومنها قوله تعالى (4) : " لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً " وفى قراءة: " تقية " (5) ومعنى هذا أن الله سبحانه قد أباح للمؤمنين: إذا خافوا شر الكافرين أن يتقوهم بألسنتهم، فيوافقوهم بأقوالهم وقلوبهم مطمئنة بالإيمان. وقد اتخذت الشيعة التقية مبدأ من مبادئها، و" معنى التقية التي قالوا بها أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد لتدفع الضرر عن نفسك، أو مالك، أو لتحتفظ بكرامتك، كما لو كنت بين قوم لا يدينون بما تدين، وقد بلغوا الغاية في التعصب،   (1) انظر جوامع الكلم 1/13، 41 والشيعة والتشيع ص 55، وضحى الإسلام 3/242، والإمام الصادق ص 240. (2) راجع مناقشة هذه العقيدة، وبيان بطلانها بالأدلة العقلية والنقلية في كتاب: مختصر التحفة الاثنى عشرية ص 200-203 (3) انظر القاموس المحيط ولسان العرب مادة " وقى ". (4) آل عمران: الآية 28. (5) انظر: تفسير البيضاوى ص 70، وإملاء ما من به الرحمن للعكبرى 1/130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 بحيث إذا لم تجارهم في القول والفعل تعمدوا إضرارك والإساءة إليك. فتماشيهم بقدر ما تصون به نفسك، وتدفع الأذى عنك، لأن الضرورة تقدر بقدرها " (1) . واستدلوا على صحة هذا المبدأ بالآية الكريمة السابقة، وبقوله تعالى: (2) " إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ " وبقصة عمار، فقد أخذه المشركون ولم يتركوه حتى سب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكر آلهتهم بخير، ولم يؤثر ذلك في إيمانه، إلى غير ذلك من الأدلة التي تبيح للمؤمن أن يظهر غير ما يضمر حفاظاً على حياته أو عرضه (3) . والتقية في هذه الصورة لا تتعارض ومبادئ الإسلام، فلا ضرر ولا ضرار، والضرورات تبيح المحظورات. ومن يرجع إلى التاريخ ير من الأهوال التي نزلت بالشيعة ما تقشعر منه الأبدان، وتأباه النفوس المؤمنة. ونذكر على سبيل المثال: كتاب مقاتل الطالبيين لأبى الفرج الأصفهانى، فقد ترجم فيه لنيف ومائتين من شهداء الطالبين! فمن العبث إذن أن يعرض الإنسان حياته للهلكة دون أن يكون من وراء ذلك وصول إلى هدف مقدس، أو غاية شريفة. ويرى الإمامية أن " العمل بالتقية له أحكامه الثلاثة " فتارة يجب كما إذا كان تركها يستوجب تلف النفس من غير فائدة، وأخرى يكون رخصة كما لو كان في تركها والتظاهر بالحق نوع تقوية له، فله أن يضحى بنفسه، وله أن يحافظ عليها.   (1) الشيعة والتشيع ص 49. (2) سورة النحل: الآية 106. (3) انظر: الدعوة الإسلامية ص 38 – 39 وأصل الشيعة وأصولها: ص 192 –195، والشيعة والتشيع ص 48-53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وثالثة يحرم العمل بها كما لو كان ذلك موجبا لرواج الباطل، وإضلال الخلق، وإحياء الظلم والجور " (1) والعمل بالتقية في ظل هذه الأحكام لا تنفرد به الإمامية، فلماذا إذن اختصوا بهذا المبدأ، وهوجموا من أجله؟ أرى أن ذلك يرجع إلى الأسباب الآتية: الأول: أنهم غالوا في قيمة التقية، مع أنها رخصة لا يقدم عليها المؤمن إلا اضطراراً. من ذلك ما جاء في كتاب الكافى: عن أبى عبد الله في قوله تعالى: " أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا " قال: بما صبروا على التقية. " وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِئَةَ ". قال: الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة. (فهذا تحريف لمعانى القرآن الكريم) . وعن أبى عبد الله: " إن تسعة أعشار الدين التقية، ولا دين لمن لا تقية له! ". وعنه عن أبيه: " لا والله ما على وجه الأرض شىء أحب إلى من التقية (2) . وعن أبى جعفر: " التقية من دينى ودين آبائى، ولا إيمان لمن لا تقية له ". فمثل هذه الأخبار تنزل التقية منزلة غير المنزلة، فمن ارتآها كذلك فإنما تخلق منه إنساناً جباناً كذوباً، وأين هذا من الإيمان؟!   (1) أصل الشيعة: ص193. (2) انظر: الأصول من الكافى ج 2 باب التقية ص 217-221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 والسبب الثانى: أنهم وقد أحلوها هذه المكانة، فلم يتمسكوا بأحكامها، وتعلقوا بها تعلق المؤمن بإيمانه، وطبقوها في غير حالاتها (1) ، ولنضرب لذلك الأمثال: يرون في التيمم مسح الوجه والكفين، وورد عن أحد أئمتهم أنه سئل عن كيفية التيمم، فوضع يده على الأرض فمسح بها وجهه وذراعيه إلى المرفقين. وقالوا: إن ذلك محمول على ضرب من التقية (2) . فما الذي يدعو إلى هذه التقية؟ إن كثيراً من المسلمين يرون رأيهم في التيمم، فلا ضير عليهم، ولا ضرورة تلجئهم لترك ما يرون صحته ويطبقونه فيما بينهم، والتعبد بما يرونه باطلاً وهم لا يشترطون للجمعة المصر، وروى نحو ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز والأوزاعى والليث ومكحول وعكرمة والشافعى وأحمد (3) . ورووا عن الإمام على أنه قال: لا جمعة إلا في مصر يقام فيه الحدود. وقالوا: إن هذا الخبر قيل تقية (4) . ومن الواضح أنه لا حاجة إلى هذه التقية، ثم من الذي يتقى؟ أعلى كرم الله وجهه؟ وهو الشجاع الذي يأبى التقية إباءه للضيم، واستشهد من أجل مبادئه، وكان لفتاواه الدينية قيمتها عند المسلمين، أمن روى عنه؟ وكيف إذن يتعمدون الكذب على أمير المؤمنين وليست هناك رقاب ستقطع أو أعراض تنتهك بله أدنى ضرر؟!   (1) يقول المؤرخ الهندى سيد أمير على: " إلا أن هذه التقية، وهى الابن الطبيعى للاضطهاد والخوف، قد غدت عادة متأصلة في نفوس الفرس الشيعيين إلى درجة أنهم أصبحوا يمارسونها حتى في الظروف التي لا تكون ضرورية فيها " ص 336 من كتابه: روح الإسلام. (2) انظر: الاستبصار: باب كيفية التيمم: ص 170-171 ج1. (3) انظر: المغنى: 2/174. (4) انظر: الاستبصار: ص 420 ج1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وفى صلاة الجنازة يرون رفع اليدين في كل تكبيرة، ويوافقون في ذلك ابن عمر وعمر بن عبد العزيز والشافعى وأحمد وغيرهم (1) . ولكنهم رووا عن الإمام جعفر عن أبيه قال: كان أمير المؤمنين يرفع يديه في أول التكبير على الجنازة، ثم لا يعود حتى ينصرف. ورووا أيضاً عن أبى عبد الله عن أبيه أن الإمام عليا لا يرفع يديه في الجنازة إلا مرة، يعنى في التكبير. وعقب شيخ طائفتهم الإمام الطوسي على هاتين الروايتين بقوله: " يمكن أن يكونا وردا مورد التقية لأن ذلك مذهب كثير من العامة " (2) . وأشد من هذا عجبا رواياتهم في أكثر أيام النفاس، فهم يرون أن أيام النفاس مثل أيام الحيض، ويتعارض ذلك مع روايات لهم كثيرة مثل ما رووه عن الإمام على قال: النفساء تقعد أربعين يوما. وعن أبى عبد الله: سبع عشرة، وثمانى عشرة، وتسع عشرة، وثلاثين أو أربعين إلى الخمسين، وبين الأربعين إلى الخمسين! وعن أبى جعفر: ثمانى عشرة. فجوز إمامهم الطوسي حمل هذه الأخبار على ضرب من التقية، وقال: لأنها موافقة لمذهب العامة، ولأجل ذلك اختلفت كاختلاف العامة في أكثر أيام النفاس، فكأنهم أفتوا كلا منهم بمذهبه الذي يعتقده (3) . بمثل هذا تكون التقية تضييعاً للعلم، وإخفاء للحق، وترويجاً للكذب. يقول أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة - رحمه الله -: " لا يصح أن تكون التقية لإخفاء الأحكام ومنعها، فإن ذلك ليس موضوع التقية وليس صالحاً لأن   (1) انظر المغنى 2 / 373. (2) الاستبصار ج 1: ص 479، وانظر ص 498. (3) انظر: الاستبصار ج1: باب أكثر أيام النفاس: ص 151 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 يتسمى بها، بل له اسم آخر، وهو كتمان العلم ـ ويوصف معتنقه بوصف لا يوصف به المؤمن " (1) والسبب الثالث: أنهم جعلوا من التقية منفذاً للغلو والانحراف، مثال هذا أن بعضهم حكم بكفر كثير من الصحابة لعداوتهم للإمام على، وقالوا بنجاستهم تبعاً لذلك، وعللوا مخالطة الشيعة لهم بأن طهارتهم مقرونة إما بالتقية، أو الحاجة، وحيث ينتفيان فهم كافرون قطعاً! (2) . ويرون أن الصلاة لا تصح خلف من ليس إمامياً، فكيف إذن كان يصلى الإمام على مثلاً خلف الخلفاء الثلاثة؟ هذا من الأسئلة التي امتنع السيد كاظم الكفائى ان يجيب عنها، وقال: " أبو بكر وعمر أتريد أن يكفرونا؟ " ومثل هذا الغلو الذي أجمعوا عليه يجد التقية أسهل مخرج. فالتقية إذن بهذه الصورة تعد مبدأ ينفرد به الشيعة الاثنا عشرية. ---   (1) الإمام الصادق: ص 245. (2) انظر: مفتاح الكرامة - كتاب الطهارة: ص 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الكتاب الثاني القسم الأول التفسير وأصوله عن أهل السنة د. علي السالوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الجزء الثانى في التفسير وكتبه ورجاله . مقدمة إن الحمد كله لله، نحمده سبحان وتعالى، ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل، ونصلى ونسلم على رسله الكرام، وعلى أولهم خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين. أما بعد: فهذا الجزء الثاني من كتابنا الذي يبين حقيقة الشيعة الاثنى عشرية، حيث كان الجزء الأول دراسة مقارنة في عقيدة الإمامة والعقائد التابعة، وجاء هذا الجزء في التفسير وأصوله، وهو دراسة مقارنة أيضاً، ولذلك جعلته قسمين: القسم الأول: تحدثت فيه عن التفسير وأصوله عند أهل السنة. القسم الثاني: جعلته لبيان التفسير وأصوله عند الشيعة. والقسم الأول يضم ثمانية فصول، والقسم الثاني سبعة فصول. وهذا الجزء طبع من قبل في كتاب مفرد، ولم أجد فيه ما يحتاج إلى الحذف أو الإضافة، غير أن خاتمته عرضت موجزا للبحث، وأشارت إلى نتائجه، فلا حاجة هنا إذن إلى إثبات ما كتبته في الخاتمة. نسأل الله تعالى أن يجعل عملنا خالصا لوجهه، وأن يتقبله منا، إنه نعم المولى ونعم النصير، وهو المستعان، وله الحمد في الأولى والآخرة. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 القسم الأول: التفسير وأصوله عند أهل السنة. الفصل الأول: علم التفسير التفسير في اللغة: التفسير في اللغة راجع إلى معنى الإظهار والكشف والبيان، ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (1) فكلمة: " تفسيرا " هنا يراد بها البيان والوضوح. التفسير في الاصطلاح: قال الزركشى في البرهان التفسير في الاصطلاح: هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها، والإشارات النازلة فيها. ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها. وزاد فيها قوم فقالوا: علم حلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها (2) . وما ذكره الزركشى يحدد ما يقوم به المفسر لكتاب الله المجيد، فعليه أن يبين كل ما ذكر، ويوضحه ويكشف عنه. التأويل: وقد يطلق على التفسير التأويل؛ فتفسير الطبري سماه " جامع البيان عن تأويل أي القرآن "، وعند تفسير الآيات الكريمة يقول: القول في تأويل كذا، أو اختلف أهل التأويل، أو اتفق أهل التأويل ... إلخ.   (1) 33: الفرقان. (2) انظر البرهان: 2 / 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وفى لسان العرب: أول الكلام وتأوله: دبره وقدره، وأوله وتأوله: فسره. وممن ذهب إلى عدم التفرقة بين التفسير والتأويل: أبو عبيد، وأبو العباس أحمد ابن يحيى، وابن الأعرابى، وثعلب: غير أنه قال: التفسير والتأويل واحد، أو هو كشف المراد عن المشكل، والتأويل رد أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر (1) . وأصل التأويل في اللغة من الأول وهو الرجوع لعاقبة الأمر، ومعنى ... قولهم: ما تأويل هذا الكلام؟ أي: إلام تئول العاقبة في المراد به؟ ويقال: آل الأمر إلى كذا: أي صار إليه؛ والمآل: هو العاقبة والمصير. وتقول: أولته فآل: أي صرفته فانصرف، فكأن التأويل صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني. وقيل: أصل التأويل من الإيالة، وهى السياسة، فكأن المؤول للكلام يسوى الكلام ويسوسه، ويضع المعنى فيه موضعه. والمعنى اللغوى للتأويل لا يمنع من إطلاقه على التفسير، ولكن قوماً ذهبوا إلى التفرقة بين التفسير والتأويل: فالماتريدى الذي سمى تفسيره " تأويلات أهل السنة "، مما يرجح أنه لا يفرق بينهما، قال: التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنه عنى باللفظ هذا. والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة. وقال ابن حبيب النيسابورى والبغوى وغيرهما: التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها، تحتمله الآية، غير مخالف للكتاب والسنة، من طريق الاستنباط. والتفسير هو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها.   (1) راجع التفسير والتأويل في لسان العرب، والقاموس المحيط، وكشف الظنون: علم التأويل 1 / 334 , وعلم التفسير 1 / 427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وقال ابن الأثير: المراد بالتأويل: نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلى إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ. وقال الراغب الأصفهانى: التفسير أعم من التأويل، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل، وأكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية، والتفسير يستعمل في الكتب الإلهية وغيرها. وقال السيد الشريف على بن محمد الجرجانى: التفسير علم يبحث فيه عن أحوال كلام الله المجيد من حيث دلالته على مراده، وينقسم إلى تفسير: وهو ما لا يدرك إلا بالنقل؛ كأسباب النزول، والقصص، فهو ما يتعلق بالرواية، وإلى تأويل: وهو ما يمكن إدراكه بالقواعد العربية، وهو ما يتعلق بالدراية، فالقول في الأول بلا نقل خطأ، وكذا القول في الثاني بمجرد التشهى وإن أصاب فيهما (1) . وأمام هذا الخلاف ننظر إلى معنى التأويل كما يفهم من الكتاب والسنة. كلمة تأويل في القرآن الكريم: كلمة تأويل ذكرت في القرآن الكريم سبع عشرة مرة، ففى سورة آل عمران (آية 7) { ... هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا}   (1) انظر حاشيته على تفسير الكشاف للزمخشرى 1 / 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 والمعنى هنا أن الذين في قلوبهم زيغ، أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل، يصرفون المتشابه عن معناه الذي يوافق المحكم إلى ما يوافق أغراضهم وباطلهم، ولا يعلم تأويله الحق الذي يحمل عليه وتفسيره الصحيح إلا الله، والعلماء الثابتون في علمهم المتمكنون يرجعون المتشابه إلى المحكم، ويقولون: كل من المحكم والمتشابه من عند ربنا، فلا يمكن أن يخالف بعضه بعضا. فكلمة تأويله الأولى تعنى تحريف المعنى، ولهذا يأخذون من القرآن الكريم " المتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم " (1) . وكلمة تأويله الثانية تعنى التأويل الحق الذي يحمل عليه المتشابه، وهو المعنى الصحيح الذي لا يتعارض مع المحكم. وفى سورة النساء آية 59: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أحسن تأويلا: أحسن عاقبة ومآلا. وفى سورة الأعراف آية 53: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} والتأويل هنا معناه: عاقبة أمره، وما يئول إليه ما أخبر به سبحانه وتعالى من الوعد والوعيد.   (1) تفسير ابن كثير 1 / 345، وانظره إلى ص 347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وفى سورة يونس آية 39: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه ُ} أي: مآله وعاقبة أمره، وهو خذلانهم في الدنيا، وخلودهم في النار في الآخرة. وفى سورة يوسف وردت الكلمة في ثمانى آيات، أرقامها: 6، 21، 36، 37، 44، 45، 100، 101. ومن هذه الآيات الكريمة: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي: بيان الرؤيا، وهو تفسيرها وعبارتها. ومنها: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} والأولى تعني تعبير الرؤيا، والثانية: نبأتكما بتأويله: أي أخبرتكما بأحواله التي سيكون عليها وماهي. فالتأويل هنا بيان ما هيته وكيفيته (1) ، وقال ابن كثير: يخبرهما يوسف عليه السلام أنهما مهما رأيا في منامهما من حلم فإنه عارف بتفسيره، ويخبرهما بتأويله قبل وقوعه (2) . ومن هذه الآيات الكريمة أيضا: {   (1) انظر الكشاف 2 / 320. (2) انظر تفسيره 2 / 478. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ} . ومنها: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ... } . وفى سورة الإسراء آية 35: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ... } أي: مآلا في الآخرة. وفى سورة الكهف آية 78: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} . وفيها أيضاً آية 82: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرً} والتأويل هنا هو ما ذكره الخضر ـ ـ تفسيراً للأحداث التي رآها موسى ـ ـ وأنكرها، وهى: خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار. كلمة تأويل في السنة المطهرة: وننظر بعد هذا في كتب السنة: 1 ـ روى الإمام أحمد والطبرانى عن ابن عباس أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا له فقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ". وعند البزار: " اللهم علمه تأويل القرآن ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وعند أحمد من وجه آخر عن عكرمة: " اللهم اعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل " (1) . 2 ـ وروى الشيخان أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون على وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك. وعرض على عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره. قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين " (2) . 3 ـ وفى رواية جابر لحجة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " نظرت إلى مد بصري من بين يديه، بين راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، ما عمل به من شيء عملنا به ...... " (3) . 4 ـ وروى الإمام البخاري عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن " (4) تعنى أنه مأخوذ من قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} 5 ـ وفى صحيح البخاري أيضاً: ... فكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول: لا يرث المؤمن الكافر.   (1) انظر فتح الباري 7 / 100 ـ كتاب فضائل الصحابة ـ باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما. (2)) البخاري ـ كتاب الإيمان ـ باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، ومسلم ـ كتاب فضائل الصحابة ـ باب من فضائل عمر رضي الله عنه. (3) سنن ابن ماجه ـ كتاب المناسك ـ باب حجة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ورواه أبو داود والنسائى. (4) البخاري ـ كتاب الأذان ـ باب التسبيح والدعاء في السجود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 قال ابن شهاب: وكانوا يتأولون قول الله تعالى " 72: الأنفال ": {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} ... الآية (1) . قال ابن حجر: قوله " قال ابن شهاب: وكانوا يتأولون إلخ " أي كانوا يفسرون قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} بولاية الميراث، أي يتولى بعضهم بعضا في الميراث وغيره (2) . 6 ـ ومن حديث رواه الإمام أحمد أن الرسول قال: " يتعلمون القرآن فيتأولونه على غير ما أنزل الله عزوجل " (3) . 7 ـ روى الإمام مالك عن كعب الأحبار، أن رجلاً نزع نعليه، فقال: لم خلعت نعليك؟ لعلك تأولت هذه الآية ... {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} ... قال: ثم قال كعب للرجل: أتدرى ما كانت نعلا موسى؟ ... إلخ (4) 8 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر. قال الزهرى: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال: تأولت ما تأول عثمان (5) .   (1) البخاري ـ كتاب الحج ـ باب توريث دور مكة وبيعها. (2) فتح البارى 3 / 452. (3) المسند 4 / 155. (4) الموطأ ـ كتاب اللباس ـ باب ما جاء في الانتعال. والآية الكريمة المذكورة هي رقم 12 من سورة طه. (5) البخاري ـ كتاب تقصير الصلاة ـ باب يقصر إذا خرج من موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 أراد بتأويل عثمان ـ رضي الله عنه ـ ما روى عنه أنه أتم الصلاة بمكة في الحج، والخلاف حول تأويل عثمان يطول ذكره (1) . بعد هذا العرض لما جاء في القرآن الكريم، وفى كتب السنة النبوية المطهرة، نرى أن إطلاق تأويل القرآن على تفسيره لا يتعارض مع ما جاء من استعمال كلمة تأويل في هذين المصدرين، إضافة إلى ما رأيناه من قبل من المعنى اللغوى، مع عدم إغفال أن التأويل منه ما هو باطل فاسد، ومنه ما هو حق صحيح، وكذلك التفسير. التفرقة بين التفسير والتأويل: والذين رأوا التفرقة بين التفسير والتأويل نرى أن فيما ذهبوا إليه نظراً: 1 ـ فكلام الماتريدى يجعل التفسير قاصراً على قول المعصوم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى ما لا يحتاج إلى تفسير! ولعل هذا هو الذي جعله يسمى تفسيره " تأويلات أهل السنة ". ويتعارض هذا مع ما جاء في السنة من أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرف تأويل القرآن الكريم، وأنه يتأول القرآن. 2 ـ ما ذهب إليه النيسابوري والبغوي وغيرهما من قصر التفسير على الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها غير مسلم، فالتفسير بمعناه المفهوم لا يتم بهذا وحده، وإنما لابد من النظر والاستنباط حتى يتم التوضيح والإظهار والبيان، أي التفسير، فما ذكروه من أنه تأويل هو أيضا تفسير، ومثله ما ذكره ابن الأثير. 3 ـ كلام الراغب الأصفهاني لا يمنع اطلاق التأويل على التفسير. 4 ـ كلام الشريف الجرجاني يشير إلى نوعى التفسير المعروفين، وهما: التفسير المأثور أو النقلي، وهو يتعلق بالرواية، والتفسير العقلي، وهو يتعلق   (1) انظر فتح البارى 3 / 570 ـ 572. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 بالدراية، وما ذكره عن كل منهما صحيح، غير أنه سمى أحدهما تفسيراً والآخر تأويلاً، وتفسير القرآن الكريم يجمع الاثنين. وقد بين ابن تيمية سبب الخلاف في فهم المراد بالتأويل فقال: " أصل ذلك أن لفظ التأويل فيه اشتراك بين ما عناه في القرآن، وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف، وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن" (1) ثم بين أن معاني التأويل ثلاثة، فقال: " التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم: هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف وأما التأويل في لفظ السلف فله معنيان: أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالفه، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا، وهذا ـ والله أعلم ـ هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله، ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره: القول في تأويل قوله كذا وكذا، واختلف أهل التأويل في هذه الآية، ونحو ذلك، ومراده التفسير. والمعنى الثاني في لفظ السلف، وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقاً، هو نفس المراد بالكلام، فإن الكلام إن كان طلبا كان تأويله نفس الشئ المخبر به (2) .   (1) ... دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية 1 / 106. (2) المرجع السابق ص 109 ـ 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 التفسير والتأويل والمعنى: وقد يطلق على التفسير أيضاً المعنى؛ فالفراء ـ مثلاً ـ سمى تفسيره " معاني القرآن "، وسئل أبو العباس أحمد بن يحيى عن التأويل فقال: التأويل والمعنى والتفسير واحد، وقال مثل هذا ابن الأعرابي (1) . وروى عن ابن مسعود أنه قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن (2) . وعلى هذا يمكن القول: تفسير الآية كذا، أو تأويلها، أو معناها، وكل هذا تعبير صحيح. غير أننا إذا جئنا إلى العلم القائم بذاته، الذي له نشأته وتطوره، وكتبه ورجاله، فإننا لا نكاد نجد إلا اسماً واحداً تعارف عليه الجميع وهو: " علم التفسير ".   (1) راجع لسان العرب، مادتى " فسر " و" أول ". (2) انظر تفسير الطبري تحقيق شاكر 1 / 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الفصل الثاني: تفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيان السنة للقرآن: قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ... } (1) . وقال عزوجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2) وقال جلت قدرته: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) فالله سبحانه وتعالى كما تكفل بحفظ القرآن الكريم، تكفل كذلك ببيانه. والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فهم القرآن الكريم جملة وتفصيلا، فلم يعزب عنه شئ من علمه. ثم كان عليه أن يبين لصحابته الكرام ما يغيب عنهم. وتفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقرآن الكريم فيه بيان للمجمل، وقد يقيد المطلق أو يطلق المقيد، وقد يخصص العام أو يعمم الخاص، كل ذلك بوحى من الله وأمره، وتعليمه وتوفيقه جلت عظمته كما قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ... } (4) .   (1) 17 ـ 19: القيامة. (2) 44: النحل. (3) 2: يوسف. (4) 3 ـ 5 النجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 القسم الثاني التفسير وأصوله عند الشيعة الاثني عشرية ثلاثة وجوه: قال الإمام الشافعى رضي الله عنه: فلم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ثلاثة وجوه: فأجمعوا منها على وجهين , والوجهان يجتمعان ويتفرقان. أحدهما ما أنزل الله فيه نص كتاب , فبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل ما نص الكتاب. والآخر مثل ما أنزل فيه جملة كتاب , فبين عن الله تعالى معنى ما أراده. وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما. والوجه الثالث: ماسن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما ليس فيه نص كتاب. فمنهم من قال: جعل الله سبحانه له بما افترض من طاعته وسبق في علمه من توفيقه لرضاه، أن سن فيما ليس له فيه نص كتاب. ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كما كانت سنته لتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن فيه من البيوع وغيرها من الشرائع لأن الله قال: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} ، وقال: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحرَّمَ الرِّبَا} وأورد الإمام الشافعى قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه " (1) . عدم كثرة ما يتصل بالتفسير من السنة: ومن المعلوم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين كثيرا من أحكام العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، وغير ذلك مما لم يبين في القرآن الكريم، ولا سبيل إلى معرفته إلا بهذا البيان النبوى، غير أن هذا البيان من الأحاديث المتصلة بالتفسير،   (1) انظر الرسالة للإمام الشافعى: ص 28 ـ 29. والآيتان الكريمتان المذكورتان هما: رقم 188 من سورة البقرة، ورقم 275 من السورة نفسها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 والتى صحت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس كثيراً. وسبب هذا أن الصحابة الكرام كانوا أعلم الناس بالقرآن الكريم؛ فبلغتهم نزل، وهم أفصح العرب، وعاشوا أسباب النزول، فعرفوا ظواهر القرآن الكريم، وتعلموا الأحكام وطبقوها: فعن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن. وعن أبى عبد الرحمن قال: حدثنا الذين كانوا يقرءوننا أنهم كانوا يستقرءون من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا (1) . قال ابن خلدون: " أما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه. وكان ينزل جملا جملا، وآيات آيات، لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع. ومنها ما هو في العقائد الإيمانية، ومنها ما هو في أحكام الجوارح، ومنها ما يتقدم ومنها ما يتأخر ويكون ناسخاً لها. وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبين المجمل، ويميز الناسخ من المنسوخ، ويعرفه أصحابه فعرفوه، وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها " (2) . جمع أحاديث التفسير: وأورد هنا بعض الأحاديث الصحيحة والحسنة المتصلة بالتفسير التي أمكننى جمعها ما استطعت بحول الله تعالى وقدرته وتوفيقه، وأعتمد هنا أساساً على هذه الكتب:   (1) انظر الخبرين في تفسير الطبري 1 / 80 تحقيق شاكر. (2) مقدمة ابن خلدون 3 / 996. ونلحظ أن الدقة تنقصه في قوله " فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه "، وسنرى ـ على سبيل المثال ـ أن بعض الصحابة فهموا بعض الآيات فهما خاطئا، وأن أشياء غابت عن االصحابه كلهم أو بعضهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 أولا: صحيح البخاري ـ وشرحه فتح الباري ـ حيث أخرج الكثير من الأحاديث في كتاب التفسير، قال ابن حجر في نهاية هذا الكتاب في فتح الباري: " اشتمل كتاب التفسير على خمسمائة حديث وثمانية وأربعين حديثا من الأحاديث المرفوعه وما في حكمها، الموصول من ذلك أربعمائة حديث وخمسة وستون حديثاً، والبقية معلقة وما في معناه. المكرر من ذلك فيه وفيما مضى أربعمائة وثمانية وأربعون حديثاً، والخالص منها مائة حديث وحديث، وافقه مسلم على تخريج بعضها ولم يخرج أكثرها لكونها ليست ظاهرة في الرفع، والكثير منها من تفاسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهى ستة وستون حديثا ". وبعد أن ذكر هذه الأحاديث قال: " وفيه من الآثار عن الصحابة فمن بعدهم خمسمائة وثمانون أثراً ". فصحيح البخاري إذن فيه الكثير من الأحاديث المرفوعة وما في حكمها، ومن الآثار كذلك، والأخذ منه يغنينا عن النظر في السند، وإن كنا هنا سنقتصر على الأحاديث المرفوعة فقط. يضاف إلى هذا أن ابن حجر في شرحه يذكر ما يتصل بالموضوع من الأحاديث برواياتها المختلفة، وكذلك الرواة. ثانيا: صحيح مسلم، ومختصره للحافظ المنذرى. وإن كان الإمام مسلم لم يخرج الكثير (1) ، غير أننا نأخذ مما أخرجه لكونه من الصحيح. ثالثا: الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين السيوطي: قال بعد أن تحدث عن طبقات المفسرين، وأوشك على الانتهاء من كتابه: " وإذ قد انتهى بنا القول فيما أردناه من هذا الكتاب فلنختمه بما ورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التفاسير المصرح برفعها إليه ".   (1) أخرج في كتاب التفسير سبعة وخمسين حديثاً، واتفق مع البخاري منها في أربعة عشر حديثاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وبعد أن ذكر قدراً كبيراً من الأحاديث قال: " فهذا ما حضرنى من التفاسير المرفوعة المصرح برفعها، صحيحها وحسنها، وضعيفها ومرسلها ومعضلها، ولم أعول على الموضوعات والأباطيل". وإذ نستعين بما أورده السيوطي في الإتقان إلا أنا لا نأخذ منه إلا الصحيح والحسن سواء أكان ما ذكره مأخوذاً من كتب السنة أم من كتب التفسير. رابعاً: الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي أيضا: وهذا الكتاب يختلف عن سابقيه، فهو في ستة أجزاء من الحجم الكبير، وفيه من الأحاديث الضعيفة والموضوعة أكثر مما فيه من الأحاديث الصحيحة. فلا نزعم أنا قرأناه كله، ولكننا رجعنا إليه في تفسير بعض الآيات الكريمة لأنه يتوسع كثيرا في ذكر الروايات المختلفة، والإشارة إلى من رواها من رجال الحديث والتفسير. خمسة وثلاثون حديثاً: بعد هذا لنبدأ في ذكر أحاديث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدد ما جمعته بلغ خمسة وثلاثين حديثا. 1 ـ عن أبى سعيد بن المعلى قال: " كنت أصلى في المسجد فدعاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلى، فقال: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم} ؟ ثم قال لي: لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، ثم أخذ بيدى، فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثانى والقرآن العظيم الذي أوتيته ". [ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 البخاري ـ كتاب التفسير ـ باب ما جاء في فاتحة الكتاب. وأخرجه الترمذى بسند آخر في فضائل القرآن: باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب، وقال: حسن صحيح. وأخرجه كذلك ابن خزيمة والحاكم: انظر فتح الباري 8 / 157] . 2 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال ". [أخرجه الترمذى في أبواب التفسير: سورة فاتحة الكتاب، وأخرجه أحمد وابن حبان: انظر فتح الباري 8 / 159. ... وذكر السيوطي أخبارا كثيرة ثم قال: قال ابن أبى حاتم: لا أعلم خلافا بين المفسرين في تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى ـ انظر الدر المنثور 1 / 16] . 3 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين ". [البخاري ـ كتاب التفسير ـ سورة البقرة ـ باب: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} وفى رواية " من المن الذي أنزل على بنى إسرائيل " انظر فتح الباري 8 / 164] . 4 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قيل لبنى إسرائيل {ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ... } فبدلوا فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعرة ". [أخرجه الشيخان في كتابي التفسير في صحيحيهما، واللفظ لمسلم، وفى سنن الترمذي دخلوا متزحفين على أوراكهم أي منحرفين. وانظر روايات أخرى في الدر المنثور 1 / 71] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 5 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليكم شهيداً فذلك قوله جل ذكره {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً} والوسط: العدل ". [أخرجه البخاري في كتاب التفسير ـ سورة البقرة: باب: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ... } وأخرجه أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه، وزيد في رواية: " فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلغوا فصدقناه ": انظر فتح الباري 8 / 172] . 6 ـ عن عدى بن حاتم رضي الله عنه قال: " قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين. ثم قال: لا، بل هو سواد الليل وبياض النهار ". [البخاري: باب: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ ... } وأخرجه الترمذى في تفسير الآية الكريمة بلفظ " إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل " وقال: هذا حديث حسن صحيح] . 7 ـ عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حرْثَكُمْ إني شِئْتُمْ ... } يعنى صماماً واحداً. [أخرجه الترمذى وقال: هذا حديث حسن صحيح، ويروى: في صمام واحد] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وعن ابن عباس قال: " جاء عمر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: حولت رحلى الليلة. قال: فلم يرد عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، قال: فأنزلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ إني شِئْتُمْ} أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة ". [أخرجه الترمذى وقال: حسن غريب. وقال ابن حجر في الفتح " ... 8 / 191 ": أخرجه أحمد والترمذى من وجه صحيح. وراجع كثيراً من الأخبار المرفوعة والموقوفة في الدر المنثور ... 1 / 261 ـ 267] . 8 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الخندق: " حبسونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم ـ أو أجوافهم ـ نارا " " شك يحيى بن سعيد القطان أحد الرواه ". [البخاري ـ سورة البقرة: باب " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطىـ وأخرج مسلم عدة روايات في كتاب الصلاة: باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، وفى بعضها " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر "، وعند الترمذى " صلاة الوسطى صلاة العصر " وقال: حسن ... صحيح، ورواه غيرهم: انظر فتح الباري 8 / 195، والإتقان 2 / 192، والدر المنثور 1 / 300 ـ 305] . 9 ـ عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة ولا اللقمتان. إنما المسكين الذي يتعفف. اقرءوا إن شئتم ـ يعنى قوله تعالى {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 [البخاري ـ سورة البقرة ـ باب {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} وروى أحمد وأبو داود والنسائى وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد الرحمن بن أبى سعيد عن أبيه مرفوعاً " من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف "، وفى رواية ابن خزيمة " فهو ملحف "، والأوقية أربعون درهما. ولأحمد من حديث عطاء بن يسار عن رجل من بنى أسد رفعه " ومن سأل وله أوقية أوعدلها فقد سأل إلحافاً ". ولأحمد والنسائى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رفعه " من سأل وله أربعون درهما فهو ملحف " انظر فتح الباري 8 / 202 ـ 203، والدر المنثور 1 / 358 ـ 363] . 10 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه: يعنى بشدقيه ـ يقول: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا هذه الآية {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ} إلى آخر الآية [البخاري ـ سورة آل عمران: باب: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} ، وعند الترمذى: " ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا جعل الله يوم القيامة في عنقه شجاعا "، وقال: حسن صحيح. ورواه أيضاً أحمد والنسائى وابن خزيمة. انظر فتح الباري 8 / 230] . 11 ـ قام أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإنى سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب. [ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 أخرجه ابن أبى شيبة وأحمد وعبد بن حميد والحميدى في مسانيدهم وأبو داود والترمذى وصححه والنسائى وابن ماجه وغيرهم ـ انظر الدر المنثور 2 / 339، والإتقان 2 / 193] . 12 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مفاتح الغيب خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ... } وفى رواية أخرى قال: مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم متى يأتى المطر أحد إلا الله، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله. [انظر البخاري: سورة الأنعام. باب: {وَعِندَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} وسورة الرعد باب: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} وسورة لقمان ـ باب: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} . وروى أحمد والبزار وصححه ابن حبان والحاكم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: خمس لا يعلمهن إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَة} الآية. انظر فتح الباري 8 / 514، والدر المنثور 3 / 15] . 13 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل. وفى رواية أخرى قال: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها. ثم قرأ الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 [انظر البخاري ـ سورة الأنعام: باب {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} ، وباب: {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} . ورواه مسلم وأحمد والترمذى وغيرهم، انظر الإتقان 2 / 194، وفى رواية لمسلم: ثلاث إذا خرجن {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} : طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض. راجع كتاب التفسير من مختصر صحيح مسلم ـ سورة الأنعام باب في قوله تعالى: {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} واقرأ أخباراً كثيرة في الدر المنثور 3 / 57 ـ 62] . 14 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ينادى مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبداً، فذلك قوله عزوجل: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . [مختصر مسلم ـ سورة الأعراف ـ باب في قوله تعالى {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ... } . وأخرجه ابن أبى شيبة وأحمد وعبد بن حميد والدارمى والترمذى والنسائى وآخرون ـ انظر الدر المنثور 3 / 85] . 15 ـ عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال: مر بى عبد الرحمن بن أبى سعيد الخدرى ـ رضي الله عنه، قال: قلت له: كيف سمعت أباك يذكر في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: قال أبى: دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا " لمسجد المدينة ". قال: فقلت: أشهد بأنى سمعت أباك هكذا يذكره. [مختصر صحيح مسلم ـ كتاب الصلاة باب في المسجد الذي أسس على التقوى، وكتاب الحج باب بيان المسجد الذي أسس على التقوى، وأخرجه ابن أبى شيبة وأحمد والترمذى والنسائى وغيرهم. وفي إحدى الروايات: اختلف رجلان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال الآخر هو مسجد قباء، فأتيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألاه، فقال: هو مسجدى هذا. انظر الدر المنثور 3 / 277، والإتقان 2 / 195. ومن المعلوم أن الآية الكريمة إنما نزلت في مسجد قباء، ولكن إذا كان هذا المسجد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى ... بتسميته بذلك. راجع ما قاله ابن تيمية وابن كثير في كتابى: آية التطهير بين أمهات المؤمنين وأهل الكساء: ص 26] . 16 ـ عن صهيب ـ رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا هذه الآية {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ... } قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم تثقل موازيننا، وتبيض وجوهنا، وتدخلنا الجنة، وتزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 [أخرجه أحمد ومسلم والترمذى وابن ماجه وغيرهم، وفى رواية: الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن. انظر الدر المنثور 3 / 305 والإتقان ... 2 / 195] . 17 ـ عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} قال: هي في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له، وفى الآخرة الجنة. وفى رواية: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، فهى بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة الجنة. [أخرجه سعيد بن منصور وابن أبى شيبة وأحمد والترمذى وحسنه وغيرهمـ انظر الدر المنثور 3 / 311 والإتقان 2 / 195 ـ 196] . 18ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يدنى المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه: تعرف ذنب كذا؟ يقول: أعرف، يقول: رب أعرف " مرتين ". فيقول: سترتها في الدنيا، وأغفرها لك اليوم. ثم تطوى صحيفة حسناته. وأما الآخرون ـ أو الكفار ـ فينادى على رءوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم. [البخاري ـ سورة هود ـ باب {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} . وفى مسلم: يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عزوجل حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي رب أعرف. قال: فإنى قد سترتها عليك في الدنيا، وإنى أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رءوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 راجع مختصر صحيح مسلم ـ كتاب التوبة وقبولها ـ باب في النجوى وتقرير العبد بذنوبه. وأخرجه ابن المبارك وابن أبى شيبة وابن جرير وغيرهم ـ انظر الدر المنثور 3 / 325] . 19 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله ليملى للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} . [البخاري ـ سورة هود ـ باب {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} . وفى مسلم: إن الله عزوجل يملى للظالم، فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ ... انظر مختصر صحيح مسلم ـ كتاب الظلم ـ باب في الإملاء للظالم. وأخرج الحديث: الترمذى والنسائى وابن ماجه وغيرهم ـ انظر الدر المنثور 3 / 349] . 20 ـ عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً أصاب من إمرأة قبلة، فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر ذلك له، فأنزلت عليه {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} قال الرجل: أَِلىَ هذا؟ قال: لمن عمل بها من أمتى. [البخاري ـ سورة هود ـ باب: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وفى مسلم: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إني عالجت أمرأة في أقصى المدينة، وإنى أصبت منها ما دون أن أمسها، فأنا هذا، فاقض في ما شئت. فقال له عمر: لقد سترك الله، لو سترت نفسك. قال: فلم يرد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا، فقام الرجل فانطلق، فأتبعه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية: {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} فقال رجل من القوم: يا نبي الله: هذا له خاصة؟ قال: بل للناس كافة. سورة هود ـ باب في قوله تعالى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ... } . وأخرجه أحمد والترمذى والنسائى وغيرهم ـ انظر الدر المنثور 3 / 352] . 21 ـ عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أخبرونى بشجرة تشبه أو كالرجل المسلم لا يتحات ورقها ولا ولا ولا، تؤتى أكلها كل حين، قال ابن عمر: فوقع في نفسى أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم. فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي النخلة ..... [البخاري ـ سورة إبراهيم ـ باب: {كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ ... } . ورواه الترمذى والنسائى والحاكم وابن حبان وأحمد باختلاف يسير عن البخاري ـ انظر الإتقان 2 / 197، وراجع كذلك الدر المنثور 4 / 76 ـ 77 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وفى مسلم: أخبرونى بشجرة شبه أو كالرجل المسلم لا يتحات ورقها، تؤتى أكلها كل حين. مختصر مسلم: كتاب الإيمان ـ باب مثل المؤمن ... ..] . 22 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ... } . [البخاري ـ سورة إبراهيم باب: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} ... ورواه غير البخاري كثير من الأئمة ـ انظر الإتقان 2 / 197 ... والدر المنثور 4 / 78] . 23 ـ عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فضل صلاة الجمع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح. يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} . [البخاري ـ سورة الإسراء ـ باب {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} . وأخرجه عبد الرزاق ومسلم وابن جرير وغيرهم. وأخرج أحمد والترمذى وصححه والنسائى وابن ماجه وآخرون عن أبى هريرة في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار تجتمع فيها. انظر الدر المنثور 4 / 196، والإتقان 2 / 198] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 24 ـ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن موسى قام خطيباً في بنى إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم. فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون ... إلخ. [انظر الخبر بتمامه، وأخباراً أخرى للبخارى وغيره في فتح الباري ... 8 / 409 ـ 425، وانظر الدر المنثور 4 / 229 ـ 240 ومختصر صحيح مسلم ـ كتاب ذكر الأنبياء وفضلهم ـ باب في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام] . 25 ـ عن المغيرة بن شعبة قال: بعثنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرءون {يَا أُخْتَ هَارُونَ} ؟ وموسى قبل عيسى بكذا أوكذا قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم. [أخرجه ابن أبى شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذى والنسائى وغيرهم ـ انظر الدر المنثور 4 / 270 والإتقان 2 / 198] . 26 ـ عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني قد أحببت فلاناً فأحبه، فينادى في السماء، ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قول الله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} . [أخرجه الشيخان وغيرهما ـ انظر الدر المنثور 4 / 287، والإتقان ... 2 / 199] . 27 ـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رجلاً قال: يا نبي الله، يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة. [البخاري ـ سورة الفرقان باب: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ... } . قال ابن حجر: وفى حديث أبى هريرة عند البزار " يحشر الناس على ثلاثة أصناف: صنف على الدواب، وصنف على أقدامهم، وصنف على وجوههم. فقيل: فكيف يمشون على وجوههم " الحديث. ويؤخذ من مجموع الأحاديث أن المقربين يحشرون ركبانا، ومن دونهم من المسلمين على أقدامهم، وأما الكفار فيحشرون على وجوههم. فتح الباري ... 8 / 492. وروى الحديث مسلم وغيره ـ انظر الإتقان 2 / 198. ومختصر مسلم ـ كتاب صفة القيامة ـ باب حشر الكافر على وجهه يوم القيامة] . 28 ـ عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} شق ذلك على أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه ليس بذاك، ألا تسمع إلى قول لقمان لابنه {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . [البخاري سورة لقمان باب {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ورواه أحمد ومسلم وغيرهما ـ انظر الإتقان 2 / 193، والدر المنثور ... 3 / 26. ومختصر صحيح مسلم: كتاب التفسير ـ سورة الأنعام ـ باب في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} ] . 29 ـ عن فروه بن مسيك المرادى ـ رضي الله عنه ـ قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومى بمن أقبل منهم؟ فأذن لي في قتالهم وأمرنى، فلما خرجت من عنده أرسل في أثرى فردنى، فقال: ادع القوم فمن أسلم منهم فاقبل منه، ومن لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك، قال وأنزل في سبأ ما أنزل. فقال رجل: يا رسول الله، وما سبأ؟ أرض أم امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، وأما الذين تشاءموا: فلخم وجذام وغسام وعاملة، وأما الذين تيامنوا فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار. فقال رجل: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة. أخرجه أحمد وعبد بن حميد والبخارى في تاريخه والترمذى وحسنه وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والطبرانى وابن أبى حاتم وابن عدى والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلاً سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سبأ: أرجل هو أم امرأة أم أرض؟ فقال: بل هو رجل ولد عشرة: فسكن اليمن منهم ستة، وبالشام منهم أربعة. فأما اليمانيون: فمذحِج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير، وأما الشاميون: فلخم وجذام وعاملة وغسان. [الدر المنثور 5 / 231، وانظر الإتقان 2 / 200] . 30 ـ عن أبى هريرة ـ رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أنه قال: " ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوماً؟ قال: أبيت. ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 قال: أربعون سنة؟ قال: أبيت. قال: أربعون شهرا؟ قال: أبيت. ويبلى كل شئ من الإنسان إلا عجب ذنبه، فيه يركب الخلق. وفى رواية أخرى. ما بين النفختين أربعون. قال: أربعون يوماً؟ قال: أبيت. قال: أربعون شهراً؟ قال: أبيت. قال: أربعون سنة؟ قال: أبيت. قال: ثم ينزل الله من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل، ليس من الإنسان شئ إلا يبلى، إلا عظماً واحداً. وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة. [البخاري ـ سورة الزمر ـ باب {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} وسورة النبأ ـ باب: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} . وقوله: أبيت: أي امتنعت عن القول بتعيين ذلك لأنه ليس عندى في ذلك توقيف. ولابن مردويه عن الأعمش في هذا الحديث فقال " أعييت " من الإعياء وهو التعب، وكأنه أشار إلى كثرة من يسأله عن تبيين ذلك فلا يجيبه. وفى حديث أبى سعيد عند الحاكم وأبى يعلى: قيل: يا رسول الله ما عجب الذنب؟ قال: مثل حبة خردل. والعجب. عظم لطيف في أصل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو مكان رأس الذنب من ذوات الأربع. وقال العلماء. هذا عام يخص منه الأنبياء، لأن الأرض لا تأكل أجسادهم. (انظر فتح الباري 8 / 552 ـ 553. وانظر الحديث في مختصر صحيح مسلم ـ كتاب الفتن ـ باب ما بين النفختين أربعون ويبلى الإنسان إلا عجب الذنب. وأخرج الحديث أحمد والترمذى وابن ماجه وآخرون. انظر الدر المنثور ... 5 / 336) . 31 ـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه. [البخاري ـ سورة المطففين ـ باب {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقوله: " في رشحه ": بفتحتين أي عرقه لأنه يخرج من البدن شيئا بعد شىء كما يرشح الإناء المتحلل الأجزاء. وفى رواية أخرى: حتى إن العرق يلجم أحدهم إلى أنصاف أذنيه. وفى رواية لمسلم: تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق: فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً. انظر فتح الباري: 8 / 696. ومختصر صحيح مسلم: كتاب صفة القيامةـ باب دنو الشمس من الخلق يوم القيامة. والإتقان: 2 / 203. وأخرجه مالك وعبد بن حميد والترمذى وغيرهم: انظر الدر المنثور 6 / 324] . 32 ـ عن أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس أحد يحاسب إلا هلك. قالت: قلت: يا رسول الله جعلنى الله فداءك، أليس يقول الله عزوجل {فَأَمَّا مَنْ أُوتيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ؟ قال: ذاك العرض يعرضون، ومن نوقش الحساب هلك. [البخاري ـ سورة الانشقاق ـ باب {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ومختصر مسلم ـ كتاب التفسير ـ سورة الانشقاق ـ باب في قولة ... تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وأخرجه أحمد وعبد بن حميد والترمذى وغيرهم: انظر الدر المنثور ... 6 / 329، والإتقان 2 / 203] . 33 ـ عن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، وذكر الناقة والذى عقر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا} إنبعث لها رجل عزيز عارم، منيع في رهطه مثل أبى زمعه عم الزبير بن العوام. [البخاري ـ سورة الشمس، وانظر فتح الباري 8 / 705 ـ 706. وأخرج الحديث: سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذى والنسائى وآخرون ـ انظر الدر المنثور 6 / 357] . 34 ـ عن على بن أبى طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: ما منكم من أحد، وما من نفس منفوسة، إلا كتب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة. قال رجل: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ قال: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآية. وفى رواية أخرى قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ... } الآية. [انظر البخاري ـ سورة الليل ـ من الباب الثالث إلى الباب السابع، وهو الأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 والحديث: أخرجه الجماعة وغيرهم ـ انظر الدر المنثور 6 / 359] . 35 ـ عن أنس رضي الله عنه قال: لما عرج بالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السماء قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر. [البخاري ـ سورة الكوثر ـ الحديث الأول] . وذكر الإمام البخاري حديثين آخرين: أحدهما: عن أبى عبيدة عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قال: سألتها عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قالت: هو نهر أعطيه نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شاطئاه عليه در مجوف آنيته كعدد النجوم. والحديث الآخر عن أبى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. وفى رواية للنسائى لحديث السيدة عائشة: هو نهر أعطيه نبيكم في بطنان الجنة. قلت: ما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها. وقال ابن حجر تعقيباً على الحديث الثالث للبخارى: هذا تأويل من سعيد بن جبير جمع به بين حديثى عائشة وابن عباس. وقد أخرج الترمذى من طريق ابن عمر رفعه: " الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت " الحديث: قال: إنه حسن صحيح. وفى صحيح مسلم: " بينما نحن عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ غفا إغفاءه، ثم رفع رأسه مبتسماً. فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: نزلت على سورة. فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم. {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} إلى آخرها، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربى عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتى يوم القيامة " الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وحاصل ما قاله سعيد بن جبير أن قول ابن عباس أنه الخير الكثير لا يخالف قول غيره أن المراد به نهر في الجنة، لأن النهر فرد من أفراد الخير الكثير، ولعل سعيداً أومأ إلى أن تأويل ابن عباس أولى لعمومه، لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا معدل عنه. [انظر فتح الباري 8 / 732، وراجع مجموع الأحاديث المتصلة بالموضوع في الدر المنثور 6 / 401 ـ 403] . نتائج الجمع: هذه هي الأحاديث الشريفة في التفسير التي أمكن جمعها. وأشرنا من قبل إلى دور السنة بالنسبة للقرآن الكريم، فلا حاجة للإعادة، ولكن نذكر هنا بعض الملاحظات، في ضوء هذه الأحاديث: 1 ـ بين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصحابة الكرام ما لا علم لهم به، ولا طريق إلى معرفته إلا بهذا البيان النبوى، مثل الأمور المتعلقة بالأمم السابقة، وأنبيائهم، أو الأمور الغيبية كبعض ما سيحدث يوم القيامة وأشار إليه القرآن الكريم، واحتاج إلى بيان. 2 ـ ونلاحظ كذلك أن بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فهموا بعض الآيات الكريمة فهما خاطئاً، فصحح لهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما فهموا، وبين لهم مراد الله تعالى، وذلك مثل قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} . وقوله عزوجل: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} . 3 ـ بين الرسولصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قد يغيب عن الصحابة كلهم أو بعضهم، مثل: تعريف المسكين، والصلاة الوسطى، ومفاتح الغيب..إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 4 ـ كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل أحيانا صحابته ليتأكد من صحة فهمهم، كما سأل عن الشجرة الطيبة، والصحابة بدورهم كانوا يسألونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما غاب عنهم، كالسؤال عن " الذين يحشرون على وجوههم "، وعن {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} مع قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من نوقش الحساب هلك ". 5 ـ لعل هذه الأحاديث الشريفة هي أكثر ما صح عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تفسير آيات من كتاب الله العزيز، إلى جانب بيانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أجمل في القرآن الكريم من أحكام العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وغيرها. وهذه الأحاديث قليلة بلا شك، وهى وما يصح مثلها تعتبر وحدها عند جمهور المسلمين الحجة التي لا ترد، لأنها قول المعصوم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهنا يظهر الفرق جلياً بين جمهور المسلمين والشيعة الجعفرية، فالشيعة يعتبرون أئمتهم جميعاً معصومين، فأقوالهم كأقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهم ما للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيان مجمل الكتاب، أو تقييد مطلقه، أو تخصيص عامة، لأن أقوالهم تدخل ضمن مفهوم السنة كمصدر من مصادر التشريع، ولها دورها بالنسبة للقرآن الكريم. ولهذا عندما ندرس كتب التفسير عندهم فإنا سنجد أن بعض التفاسير تعتبر في معظمها حجة عندهم، لأنهم يرون أنها مأخوذة عن الأئمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الفصل الثالث: تفسير الصحابة رضي الله عنهم أعلم الناس بالقرآن: بعد تفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتى تفسير الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهم ـ كما أشرنا من قبل ـ كانوا أعلم الناس بالقرآن الكريم؛ فبلغتهم نزل، وهم أفصح العرب، وعاشوا أسباب النزول، فعرفوا ظاهر القرآن الكريم، وتعلموا الأحكام وطبقوها. الموقوف والمرفوع: وكثير من التفسير المأثور عن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يعتبر في حكم المرفوع وإن لم يكن مرفوعاً. وسبق من قبل كلام ابن حجر في اشتمال كتاب التفسير من صحيح البخاري على خمسمائة حديث وثمانية وأربعين حديثاً من الأحاديث المرفوعة وما في حكمها، وعلى خمسمائة وثمانين أثراً من آثار الصحابة التي لا تأخذ حكم الرفع. فما ينتهى إلى الصحابة إذن قد يأخذ حكم المرفوع وقد يعتبر موقوفاً عليهم. على أن الإمام مسلماً لم يوافق الإمام البخاري على تخريج أكثر أحاديثه لكونها ليست ظاهرة في الرفع. واتفق الشيخان على أن تفسير الصحابى يأخذ حكم المرفوع إذا كان التفسير يتعلق بسبب نزول آية أو نحوه مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا مدخل للرأى فيه: ومشى على هذا الحاكم في علوم الحديث، وابن الصلاح وغيرهما (1) . بعض ما صح من تفسيرهم: وكى نأخذ صورة واضحة لتفسير الصحابة رضي الله عنهم، ننقل هنا بعض ما جاء في كتاب التفسير من صحيح البخاري.   (1) انظر: تدريب الراوى 1 / 192 ـ 194، والإتقان 1 / 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 1 ـ " 4495 " - حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: قلت لعائشة ـ رضي الله عنهاـ زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ... } فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما. فقالت عائشة: كلا، لو كانت كما تقول كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار: كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، فأنزل الله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ... } (1) . 2 ـ " 4498 " حدثنا الحميدى، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، قال: سمعت مجاهداً قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: " كان في بنى إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة {كُتِبَ عَليْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} فالعفو أن يقبل الدية في العمد ... {   (1) نقلنا الأخبار بأرقامها التي وضعها المرحوم محمد فؤاد عبد الباقى كما جاءت في فتح البارى طبع المطبعة السلفية. وكتاب التفسير يقع في الجزء الثامن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يتبع بالمعروف ويؤدى بإحسان ... {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ ... وَرَحْمَةٌ} مما كتب على من كان قبلكم {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قتل بعد قبول الدية ". 3 ـ " 4505 " حدثنى إسحاق، أخبرنا روح، حدثنا زكريا بن إسحاق، حدثنا عمرو بن دينار، عن عطاء، سمع ابن عباس يقرأ: ... {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعمان مكان كل يوم مسكيناً. 4 ـ " 4506 " حدثنا عياش بن الوليد، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قرأ {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: هي منسوخة. 5 ـ " 4507 " حدثنا قتيبة، حدثنا بكر بن معز، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله، عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع، عن سلمة قال: " لما نزلت {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ... } كان من أراد أن يفطر ويفتدى، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها ". 6 ـ " 4512 " حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتو البيت من ظهره فأنزل الله ... {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} . 7 ـ " 4521 " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 حدثنى محمد بن أبى بكر، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، أخبرنى كريب، عن ابن عباس قال: " يطوف الرجل بالبيت ما كان حلالا حتى يهل بالحج، فإذا ركب إلى عرفة فمن تيسر له هديه من الإبل أو البقر أو الغنم ما تيسر له من ذلك أي ذلك شاء، غير إن لم يتيسر له فعليه ثلاثة أيام في الحج وذلك قبل يوم عرفة، فإن كان آخر يوم من الأيام الثلاثة يوم عرفة فلا جناح عليه، ثم لينطلق حتى يقف بعرفات من صلاة العصر إلى أن يكون الظلام ثم ليدفعوا من عرفات، فإذا أفاضوا منها يبلغوا جمعاً الذي يتبرز فيه، ثم ليذكروا الله كثيراً، أو أكثروا التكبير والتهليل قبل أن تصبحوا، ثم أفيضوا فإن الناس كانوا يفيضون، وقال الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} حتى ترموا الجمرة ". 8 ـ " 4528 " حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن ابن المنكدر، سمعت جابراً رضي الله عنه، قال: " كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت {نسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ إني شِئْتُمْ} . 9 ـ " 4568 " حدثنى إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم، عن ابن أبى مليكة، أن علقمة بن وقاص خبره، أن مروان قال لبوا به: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان امرئ فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يعمل معذباً لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه؟ إنما دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهود فسألهم عن شئ فكتموه إياه، وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم. ثم قرأ ابن عباس {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ... } كذلك حتى قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} . 10 ـ " 4573 " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج قال: أخبرنى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: " أن رجلاً كانت له يتيمة فأنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شئ، فنزلت فيه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى} أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفى ماله ". 11 ـ " 4574 " حدثنى عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب قال: " أخبرنى عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى} فقالت: يا بن أختى، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء} قالت عائشة: وقول الله تعالى في آية أخرى {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال، قالت: فنهوا أن ينكحوا عن من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال " 12 ـ " 4590 " حدثنا آدم بن أبى إياس، حدثنا شعبة، حدثنا مغيرة بن النعمان قال: سمعت سعيد بن جبير قال: " آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل وما نسخها شئ ". 13 ـ " 4600 " حدثنا عبيد بن اسماعيل، حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} إلى قوله {وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} قالت عائشة: " هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى في العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية ". 14 ـ " 4601 " حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} ... قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأنى في حل، فنزلت هذه الآية في ذلك ". 15 ـ " 4613 " حدثنا على بن سلمة، حدثنا مالك بن سعير، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: " أنزلت هذه الآية {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ ... } في قول الرجل: لا والله وبلى والله ". 16 ـ " 4682" حدثنى إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج، وأخبرنى محمد بن عباد بن جعفر أن ابن عباس قرأ: {أَلا إِنَّهُمْ تَثْنُونىَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 صُدُورَهُمْ} قلت: يا أبا العباس ما تثنونى صدورهم؟ قال: كان الرجل يجامع امرأته فيستحى أو يتخلى فيستحى فنزلت {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} . ] تثنونى: بفوقانية، وسكون المثلثة، وفتح النون، وسكون الواو، وكسر النون بعدها ياء، على وزن تفعو عل، وهو بناء مبالغة كاعشوشب، لكن جعل الفعل للصدور ـ قاله ابن حجر في الفتح [. 17 ـ " 4683 " حدثنا الحميدى حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال: " قرأ ابن عباس {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} وقال غيره عن ابن عباس " يستغشون " يغطون رءوسهم " سىء بهم " ساء ظنه بقومه " وضاق بهم " بأضيافه " بقطع من الليل " بسواد " إليه أنيب " أرجع ". 18 ـ " 4695 " حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: " أخبرنى عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} قال: قلت: أكذبوا أم كذّبوا؟ قالت عائشة: كذبوا. قلت: فقد استيقنوا بذلك أن قومهم كذبوهم، فما هو بالظن. قالت: أجل لعمرى، لقد استيقنوا بذلك. فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا؟ قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها. قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك ". 19 ـ " 4700 " حدثنا على بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء سمع ابن عباس: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا} قال: " هم كفار أهل مكة ". 20 ـ " 4705 " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} قال: هم أهل الكتا ب جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ". 21 ـ " 4706 " حدثنى عبيد الله بن موسى، عن الأعمش، عن أبى ظبيان، " عن ابن عباس رضي الله عنهما: {كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ} قال: آمنوا ببعض وكفروا ببعض، اليهود والنصارى ". 22 ـ " 4714 " حدثنى عمرو بن على، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان، حدثنى سليمان، عن إبراهيم، عن أبى معمر، عن عبد الله: " إلى ربهم الوسيلة " قال: " كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن، فأسلم الجن، وتمسك هؤلاء بدينهم " زاد الأشجعى، عن سفيان، عن الأعمش: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم} . 23 ـ " 4716 " حدثنا على بن عبد الله، حدثنا سفيان عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسرى به {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} قال: شجرة الزقوم. 24 ـ " 4722 " حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى ... {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} ... قال: نزلت ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مختف بمكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} عن أصحابك فلا تسمعهم {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} . 25 ـ " 4732 " حدثنا الحميدى، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق، قال: سمعت خبابا قال: جئت العاص بن وائل السهمى أتقاضاه حقاً لي عنده، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقلت: لا، حتى تموت ثم تبعث. قال: وإنى لميت ثم مبعوث؟ قلت: نعم. قال: إن لي هناك مالاً وولداً فأقضيك، فنزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} . رواه الثورى وشعبة وحفص وأبو معاوية ووكيع عن الأعمش. 26 ـ " 4753 " حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يحيى، عن عمر بن سعيد ابن أبى حسين قال: حدثنى ابن مليكة قال: استأذن ابن عباس ـ قبيل موتها ـ على عائشة وهى مغلوبة، قالت: أخشى أن يثنى على، فقيل: ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن وجوه المسلمين، قالت: ائذنوا له. فقال: كيف تجدينك؟ قال: بخير إن اتقيت. قال: فأنت بخير إن شاء الله تعالى، زوجة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم ينكح بكرا غيرك، ونزل عذرك من السماء. ودخل ابن الزبير خلافه، فقالت: دخل ابن عباس فأثنى على، وددت إني كنت نسياً منسياً ". 27 ـ " 4806 " حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن العوام قال: سألت مجاهداً عن السجدة في ص فقال: سئل ابن عباس فقال: ... {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ... } ، وكان ابن عباس يسجد فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 28 ـ سورة حم السجدة. قال المنهال، عن سعيد قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف على، قال {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} ، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} ، {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا ـ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ... } فقد كتموا هذه الآية. وقال: {أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} إلى قوله {دَحَاهَا} فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال ... {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ... } إلى {طَائِعِينَ} فذكر في هذه خلق الأرض قبل السماء وقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ـ عَزِيزًا حَكِيمًا ـ سَمِيعًا بَصِيرًا ... } فكأنه كان ثم مضى، فقال: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} في النفخة الأولى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ} {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ... } ثم في النفخة الأخرى {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} وأما قوله ... {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ... ـ ... وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ} فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم. وقال المشركون: تعالوا نقول لم نكن مشركين، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم. فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثاً. وعنده {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} الآية وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحا الأرض، ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 بينهما في يومين آخرين فذلك قوله " دحاها " وقوله {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} فجعلت الأرض وما فيها من شئ في أربعة أيام وخلقت السماوات في يومين. {وَكَانَ اللهُ غَفُورًا} سمى نفسه ذلك، وذلك قوله، أي لم يزل كذلك فإن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد. فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله. 29 ـ " 4818 " حدثنى محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة قال: سمعت طاوساً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ... } فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال ابن عباس: عجلت، إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن بطن من قريش إلا كان فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بينى وبينكم من القرابة. 30 ـ " 4822 " حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق قال: دخلت على عبد الله فقال: إن من العلم أن تقول لما لا يعلم: الله أعلم. إن الله قال لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ... } إن قريشاً لما غلبوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستعصوا عليه قال: اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع {قَالوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ... } فقيل له: إن كشفنا عنهم عادوا، فدعا ربه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 فكشف عنهم فعادوا، فانتقم الله منهم يوم بدر، فذلك قوله تعالى {يَوْمَ تَأْتي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} إلى قوله جل ذكره {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} . 31 ـ " 4933 " حدثنا عمرو بن على، حدثنا يحيى، أخبرنا سفيان، حدثنى عبد الرحمن بن عابس: " سمعت ابن عباس رضي الله عنهما: ... {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} : كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك فنرفعه للشتاء فنسميه القصر {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ... } حبال السفن، تجمع حتى تكون كأوساط الرجال ". 32 ـ 4940 " حدثنا سعيد بن النضر، أخبرنا هشيم، أخبرنا أبو بشر جعفر بن أياس، عن مجاهد قال: قال ابن عباس: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ... } : حالاً بعد حال، قال هذا نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 33 ـ " 4969 " حدثنا عبد الله بن أبى شيبة، حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن حبيب بن أبى ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: " أن عمر رضي الله عنه ـ سألهم عن قوله تعالى {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ... قالوا: فتح المدائن والقصور، قال: ما تقول يا بن عباس؟ قال: أجل أو مثل ضرب لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نعيت له نفسه ". خصائص تفسيرهم: هذا بعض ما جاءنا من تفسير الصحابة رضي الله عنهم، ونكتفى بهذا القدر؛ ففيه بيان لمعالم هذا التفسير. ونلاحظ هنا ما يأتى: 1 ـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 الصحابة الكرام لم يتعرضوا لتفسير القرآن الكريم كله آية آية، وإنما فسروا القليل من الآيات الكريمة التي لم يدرك معناها بعض المسلمين. 2 ـ وإذا كانوا ـ رضي الله عنهم ـ لم يفسروا إلا القليل من الآيات الكريمة، فإنهم فسروا كثيرا من الكلمات، ويبدوا هذا واضحاً جلياً لمن يقرأ كتاب التفسير من صحيح البخاري. 3 ـ تحدثوا عن أسباب النزول، ونحن ندرك العلاقة بين سبب النزول والمعنى المراد. وأشرنا إلى أن مثل هذا التفسير يأخذ حكم المرفوع. 4 ـ تكلموا كذلك عن الناسخ والمنسوخ. 5 ـ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ليسوا سواء في فهم القرآن الكريم وإدراك معانيه؛ وإنما برز منهم من اشتهر بالتفسير كالخلفاء الراشدين الأربعة، وبن عباس، وابن مسعود، وأبى بن كعب، وزيد بن ثابت، وغيرهم، وهؤلاء كما كان لهم دورهم في بيان بعض ما أنزل الله تعالى، كان لهم كذلك دور آخر في تصحيح ما يظهر من فهم خاطئ لبعض الآيات الكريمة، سواء أكان ذاك الخطأ فردياً أم جماعياً، وإن كانت تلك الأخطاء قليلة. وهؤلاء الكرام البررة كانوا يستجيبون لكل من يطلب علمهم، وكانت تشد إليهم الرحال. وقام بعضهم بدور كبير في عصر التابعين كما سنرى إن شاء الله سبحانه. 6 ـ قد نجد شيئاً من الاختلاف أو التعارض في بعض ما ثبت من تفسير الصحابة رضي الله عنهم، غير أن هذا قليل نادر. التدوين: من المعلوم أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يدونوا من التفسير إلا ما كان يكتبه بعضهم في مصاحفهم الخاصة، وهو جد قليل، حتى أخطأ بعض المتأخرين فظنوه من وجوه القرآن الكريم التي نزل بها من عند الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 ويذكر أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ له كتاب في التفسير (1) ، وقد يكون هذا صحيحا، إلا أن مثل هذا الكتاب لم يصلنا، ولم نسمع عن كتاب آخر لأى أحد من الصحابة الكرام، فكيف إذن وصلنا ما أثر عنهم من تفسير؟ تفسير الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ جاءنا عن طريق رجال الحديث، وعن طريق أصحاب التفاسير الذين عنوا بالتفسير المأثور؛ فعندما جاء عصر التدوين، الذي يبدأ من القرن الثاني الهجرى، أخذ علماء الحديث يجمعون ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذوا كذلك يدونون ما أثر عن الصحابة الكرام. وفى بحثهم دونوا ما يتصل بأمور العقيدة، وفروع الشريعة، ودونوا كذلك ما يتصل بالتفسير، فقد اعتبروه باباً من أبواب السنة. وإلى جانب التسليم بأن الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ أفهم الناس بكتاب الله تعالى، فإن رجال الحديث يعتبرون بعض ما يثبت من التفسير عن الصحابة الكرام في حكم المرفوع إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أشرنا في بداية الحديث عن تفسير الصحابة. أما رجال التفسير فإنهم يعلمون أن ما ثبت عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التفسير قليل، فغاية ما يطمحون إليه أن يجدوا من الآثار ما يصل إلى الصحابة رضي الله عنهم. كتاب تنوير المقباس: وبين أيدينا كتاب " تنوير المقباس من تفسير ابن عباس " لأبى طاهر محمد ابن يعقوب الفيروز ابادى صاحب القاموس، وهو يحتوى على تفسير القرآن الكريم كله، أفحقاً وصلنا تفسير جميع أي القرآن الكريم عن ابن عباس رضي الله ... عنهما؟ لنقرأ أولاً شيئاً مما جاء في هذا التفسير.   (1) راجع ترجمة ابن عباس في طبقات المفسرين للداودى، ومعجم المؤلفين 6 / 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 قراءة الكتاب: في سورة الفاتحة فسر البسملة كما يلى: " الباء " بهاء الله وبهجته وبلاؤه وبركته، وابتداء اسمه بارئ. " السين " سناؤه وسموه أي ارتفاعه، وابتداء اسمه سميع. " الميم " ملكه ومجده ومننه على عباده الذين هداهم الله تعالى للإيمان، وابتداء اسمه مجيد. " الله " معناه الخلق يألهون ويتألهون إليه أي يتضرعون إليه عند الحوائج ونزول الشدائد. " الرحمن " العاطف على البر والفاجر بالرزق لهم ودفع الآفات عنهم. " الرحيم " خاصة على المؤمنين بالمغفرة وإدخالهم الجنة، ومعناه الذي يستر عليهم الذنوب في الدنيا، ويرحمهم في الآخرة فيدخلهم الجنة (1) . وفى سورة البقرة قال بأنها مدنية ويقال مكية، ثم بدأ تفسيرها بما يأتى: {ألم} يقول: ألف الله، لام جبريل، ميم محمد، ويقال: ألف آلاؤه، لام لطفه، ميم ملكه، ويقال: ألف ابتداء اسمه الله، لام ابتداء اسمه لطيف، ميم ابتداء اسمه مجيد، ويقال: أنا الله أعلم، ويقال: قسم أقسم به. {ذَلِكَ الْكِتَابُ} : أي هذا الكتاب الذي يقرأ عليكم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لاَ رَيْبَ فِيهِ} لا شك فيه أنه من عندى، فإن آمنتم به هديتم، وإن لم تؤمنوا به عذبتم. ويقال ذلك الكتاب يعنى اللوح المحفوظ، ويقال: ذلك الكتاب الذي وعدتك يوم الميثاق به أن أوحيه إليك، ويقال: ذلك الكتاب: يعنى التوراة والإنجيل، لا ريب فيه: لا شك فيه أن فيهما صفة محمد ونعته (2) .   (1) انظر الصفحة الثانية من التفسير المذكور. (2) انظر الصفحة الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 نتيجة القراءة: هذا بعض ما جاء في هذا التفسير المنسوب لابن عباس، ونلاحظ هنا ما يأتى: 1 ـ بادئ ذى بدء نذكر بأن الثابت عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في التفسير لا يكاد يزيد عن مائة حديث كما قال الإ مام الشافعى (1) ، وهذا الكتاب فيه تفسير لكل آيات القرآن الكريم! 2 ـ في هذا التفسير ـ كما نرى ـ ما لا يصح عن ابن عباس أو غيره من مفسري الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أو أي أحد من الراسخين في العلم، وإنما بعضه أقرب إلى التفسير الباطني والإشاري الذي لا يستند إلى أي أساس علمي صحيح. وبعضه الآخر غير مقبول: كاحتمال أن تكون سورة البقرة مكية، وأن يكون المراد من {ذَلِكَ الْكِتَابُ} شيئاً غير القرآن الكريم. 3 ـ قال الحافظ ابن كثير في فضل {بسم الله الرحمن الرحيم} : روى الحافظ ابن مردويه من طريقين عن إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن مسعر، عن عطية، عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن عيسى بن مريم عليه السلام أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه، فقال له المعلم: اكتب. فقال: ما أكتب؟ قال: بسم الله. قال له عيسى: وما باسم الله؟ قال المعلم: وما أدرى. قال له عيسى: الباء: بهاء الله، والسين: سناؤه، والميم: مملكته، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم الآخرة ". وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلاء الملقب بابن زبريق، عن إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبى مليكة، عمن حدثه عن ابن مسعود، ومسعر، عن عطية، عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكره.   (1) انظر الإتقان 2 / 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 وقال ابن كثير بعد هذا: وهذا غريب جداً، وقد يكون صحيحاً إلى من دون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد يكون من الإسرائيليات لا من المرفوعات والله أعلم (1) . وفى سورة البقرة قال ابن كثير في تفسير {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ... } : قال ابن جريج قال ابن عباس: ذلك الكتاب أي هذا الكتاب، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدى ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج. ثم قال: وقد ذهب بعض المفسرين فيما حكاه القرطبى وغيره أن " ذلك " إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإنزاله عليه، أو التوراة أو الإنجيل، أو نحو ذلك في أقوال عشرة، وقد ضعف هذا المذهب كثيرون والله أعلم. والكتاب القرآن، ومن قال: إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما حكاه ابن جرير وغيره فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع، وتكلف ما لا علم له به (2) . وفى كتاب " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " قال السيوطي: أخرج ابن جرير، وابن عدى في الكامل، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر في تاريخ دمشق، والثعلبى، بسند ضعيف جداً عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن عيسى بن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه. " وذكر ما نقلناه من قبل (3) .   (1) انظر تفسير ابن كثير 1 / 17. (2) انظر المرجع السابق 1 / 39. (3) انظر الدر المنثور 1 / 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وهذا الخبر الذي رفضه ابن كثير والسيوطى يرويه عطية عن أبى سعيد الخدرى: وعطية هذا هو " عطية بن سعد بن جنادة العوفى ". تحدث عنه الإمام أحمد بن حنبل، وعن روايته عن أبى سعيد، فقال بأنه ضعيف الحديث، وأن الثورى وهشيماً كانا يضعفان حديثه، وقال: بلغنى أن عطية كان يأتى الكلبى فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنيه بأبى سعيد، فيقول: قال أبو سعيد فيوهم أنه الخدرى. وقال ابن حبان: سمع عطية من أبى سعيد الخدرى أحاديث، فلما مات جعل يجالس الكلبى، فإذا قال الكلبى: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا، فيحفظه، وكناه أبا سعيد، وروى عنه، فإذا قيل له: من حدثك بهذا؟ فيقول: حدثنى أبو سعيد، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدرى، وإنما أراد الكلبى. قال: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب (1) . وتفسير تنوير المقباس يرويه الكلبى، مما يؤيد استبعاد أن يكون هذا الخبر لأبى سعيد الخدرى، ويؤكد ما ذكر عن عطية من أنه أخذ التفسير عن الكلبى الذي كناه بأبى سعيد ليوهم أنه الخدرى. وفى تفسير الطبري. الذي حققه وعلق حواشيه أستاذنا العلامة محمود محمد شاكر، وراجعه وخرج أحاديثه أخوه الأكبر الشيخ أحمد – رحمهما الله -، نجد الخبر المتعلق بالبسملة المذكور آنفاً، وفى الحاشية نجد في التخريج " هذا حديث موضوع، لا أصل له "، ثم تفصيلاً لبيان هذا الوضع، وإشارة وتعليقاً على ما ذكره ابن كثير والسيوطى (2) .   (1) انظر ترجمة عطية في تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال. وراجع ما كتبته عن عطية في الفصل الثالث من الباب السابق عند مناقشة روايات التمسك بالكتاب والعترة. (2) انظر الكتاب المذكور 1 / 121 ـ 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ونخرج من هذا إلى أن بعض ما جاء في كتاب تنوير المقباس ساقط بالمرة، لا تصح نسبته إلى حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وبعضه ينقضه ويرده ما روى عن ابن عباس نفسه في التفسير من طرق مقبولة. سلسلة الكذب: الفيروز ابادى روى التفسير بإسناده عن محمد بن مروان، عن الكلبى، عن أبى صالح، عن ابن عباس: وإذا نظرنا في هذا السند تبين لنا موضع الكذب على الصحابى الجليل عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما. فمحمد بن مروان هو السدى الأصغر، كوفى: قال عبد السلام بن حازم، عن جرير بن عبد الحميد: كذاب. وقال الدورى، عن ابن معين: ليس بثقة. وقال ابن نمير: ليس بشئ. وقال يعقوب بن سفيان: ضعيف غير ثقة. وقال صالح بن محمد: كان ضعيفا، وكان يضع. وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث، متروك الحديث، لا يكتب حديثه ألبتة. وقال ابن عدى: الضعف على رواياته بين. وقال الجوزجانى: ذاهب. وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا اعتباراً، ولا يحتج به بحال. وقال أبو جعفر الطبري: لا يحتج بحديثه. وقال عبد الله بن نمير: كان السدى كذاباً، ذكره ابن شاهين في الضعفاء. وقال الساجى: لا يكتب حديثه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 هذا بعض ما جاء في ترجمته (1) ، ولا خلاف حول جرحه، ومثل هذا الراوى يكفى لرد ما يروى عن طريقه، فما بالك إذا روى عن الكلبى؟ والكلبى هو محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن عبد الحارث بن عبد العزى، أبو النضر الكوفى. اتفق ثقات أهل النقل على ذمه وترك الرواية عنه في الأحكام والفروع. قال الإمام أحمد: لا يحل النظر في تفسير الكلبى. وقال الحاكم أبو عبد الله: روى عن أبى صالح أحاديث موضوعة. وقال الجوزجانى: كذاب ساقط. وقال ابن حبان: وضوح الكذب فيه اظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه. روى عن أبى صالح التفسير، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس؛ لا يحل الاحتجاج به. وقال أبو صالح: إني لم أقرأ على الكلبى من التفسير شيئاً! ويبدو أن الكلبى نفسه في وقت من حياته أحس بفداحة جرمه، ولذلك قال فيما رواه عنه سفيان الثورى: ما حدثت عن أبى صالح عن ابن عباس فهو كذب، فلا ترووه. وقال ليث بن أبى سليم: كان بالكوفة كذابان: أحدهما الكلبى (2) ، والآخر السدى!   (1) انظر ترجمته في تهذيب 9 / 436، ترجمة رقم 719 والسدى نسبة إلى سدة مسجد الكوفة، ومن الرواة السدى الكبير، وهو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبى كريمة: أحسن حالاً من الصغير، متكلم فيه؛ وثقه بعضهم وضعفه وآخرون. (2) انظر ترجمة الكلبى في تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال ووفيات الأعيان ... 4 / 309 ـ 311، وطبقات المفسرين للداودى ـ ترجمة رقم 491. ومما جاء في ترجمته أنه كان من أتباع عبد الله بن سبأ الذين يقولون إن علياً لم يمت، وإنه راجع إلى الدنيا يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها! * * وفيها أنه اعترف بأنه سبئى، وقال: كان جبرائيل يملى الوحي على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما دخل النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخلاء جعل يملى على على!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 فسلسلة الكذب (1) إذن قد اجتمعت في إسناد هذا التفسير الذي طبع مرات وانتشر بين المسلمين!! غير أن الأستاذ الشيخ محمد حسين الذهبى ـ رحمه الله ـ قد نبه من قبل، وبين هذا الكذب (2) . والكتاب على أي حال لا تصح نسبته إلى ابن عباس، ولا يمثل التفسير في عصر الصحابة رضي الله عنهم. موقف الشيعة من تفسير الصحابة: ويبقى هنا أن نقول بأننا قد عرفنا منزلة التفسير الذي يثبت عن الصحابة الكرام عند جمهور المسلمين، وأن بعض هذا التفسير قد يأخذ حكم المرفوع. أما موقف الشيعة فلا يتفق مع الجمهور. فإذا كان الصحابة من أئمتهم الاثنى عشر فتفسيرهم كتفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون أدنى فرق، لأن لهم ما للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العصمة، وما يثبت عنهم يعتبر داخلاً في مفهوم السنة عند الجعفرية كما ذكرنا في نهاية الحديث عن تفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وينطبق هذا على ثلاثة من الصحابة هم: على بن أبى طالب، وابناه الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم. ولا خلاف حول هذا الحكم بين الجعفرية، فهم مجمعون عليه، أما الخلاف فواقع بالنسبة لغير الثلاثة: فبعض المفسرين يذكر آراء الصحابة ويروى عنهم، وهؤلاء قلة نادرة، أما أكثر مفسرى الجعفرية فإنهم يطعنون في الصحابة الكرام، بل يكفرون من رضي   (1) تحدث السيوطي عن جيد الطرق عن ابن عباس، ثم قال: " وأوهى طرقه طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس، فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروان السدى الصغير فهى سلسلة الكذب " " الإتقان 2 / 189 ". (2) راجع كتابه " التفسير والمفسرون " 1 / 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الله عنهم ورضوا عنه كما سيأتى بالتفصيل في تناولنا لكتب التفسير عندهم، وإنما أردنا إشارة سريعة قبل ترك الحديث عن تفسير الصحابة. ولعل هذا الأمر يزداد وضوحاً عندما نتحدث عن الجرح والتعديل عند الجعفرية، فعلى سبيل المثال: إذا نظرنا في كتاب تنقيح المقال في أحوال الرجال، وهو من أشهر كتب الجرح والتعديل عندهم، ولمؤلفه عبد الله المامقانى منزلة وأى منزلة! إذا نظرنا في هذا الكتاب رزئنا بالآتى: عثمان بن عفان الأموى خليفة العامة ـ أي عامة المسلمين غيرهم ـ ضعيف. عبد الله بن عمر بن الخطاب: خبيث، ضعيف. عبد الرحمن بن عوف من أضعف الضعفاء. المغيرة بن شعبة: في غاية الضعف. معاوية بن أبى سفيان: زندقته أشهر من كفر إبليس. نعمان بن بشير الأنصارى: من أضعف الضعفاء. خالد بن الوليد: صحابى لعين وهكذا!! (1)   (1) راجع ترجمة هؤلاء وغيرهم في الكتاب المذكور، وبإذن الله جلت عظمته سنتحدث بالتفصيل عن الجرح والتعديل عند الجعفرية في الباب التالى عن السنة المطهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 الفصل الرابع: تفسير التابعين حاجة التابعين إلى التفسير: التابعون ـ رضي الله عنهم ـ جاءوا بعد عصر التنزيل فكانوا أكثر حاجة إلى التفسير ممن شهدوا نزول القرآن الكريم، وفيهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبين لهم ما نزل إليهم. فكان على التابعين أن يتعلموا من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ ما أخذوه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما شاهدوه من أسباب النزول، وما فهموه وعملوا به من أي الذكر الحكيم. والصحابة الكرام بدورهم ما كانوا ليكتموا علماً تعلموه، أو فهماً فهموه، سواء منهم من استقر في مواطن التنزيل، ومن رحل إلى الأمصار الإسلامية التي فتحت. جلس التابعون يستفسرون من الصحابة رضوان الله عليهم، حتى أن بعضهم كان يجلس إلى الصحابى ومعه الألواح يستفسر عن كل ما هو في حاجة إليه من فاتحة الكتاب الكريم إلى نهاية آياته البينات (1) . قال مجاهد بن جبر: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية منه، وأسأله عنها فيما نزلت وكيف كانت (2) .   (1) عن ابن أبى مليكة قال: رأيت مجاهداً سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: " اكتب "، حتى سأله عن التفسير كله. انظر دقائق التفسير 1 / 81. (2) انظر الإتقان 2 / 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 مدارس التفسير: واشتهر في ذلك العصر ثلاث مدارس للتفسير، إحداها بمكة المكرمة، والثانية بالمدينة المنورة، والثالثة بالكوفة. قال ابن تيمية: " أما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد، وعطاء بن أبى رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاووس، وأبى الشعثاء، وسعيد بن جبير وأمثالهم. وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم. وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير، وأخذه عنه أيضاً ابنه عبد الرحمن " (1) . وشهرة هذه المدارس لا يعنى أن باقى الصحابة الكرام لم يجلسوا إلى تابعيهم يعلمونهم، أو أن التابعين لم يلجئوا لباقى الصحابة. نواة التدوين: مع أن التفسير ظل يحمل طابع التلقى والرواية، إلا أن نواة التدوين ظهرت في بعض الجهود الفردية، حيث كان بعض التابعين يكتب ما يسمع، وما يفهم نتيجة تمكنه من اللغة، ومعرفته بأساليب القول. وتفسير التابعين نراه مبثوثاً في كتب التفسير التي جاءت بعد ذلك كتفسير الطبري، وفى بعض كتب السنة. والمشهور أن لكل من سعيد بن جبير، ومجاهد   (1) دقائق التفسير 1 / 57. ورجح المرحوم الشيخ الذهبى قيام مدرسة المدينة على أبى بن كعب ـ راجع ما كتبه بإسهاب عن المدارس الثلاث، وعن أشهر المفسرين من التابعين الذين أخذوا التفسير عن أساتذة هذه المدارس من الصحابة، في كتابة " التفسير والمفسرون " ... 1 / 100 ـ 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 ابن جبر، تفسيراً مدوناً (1) . غير أن الأول لم يصلنا تفسيره هذا حتى الآن، أما مجاهد فعثر على مخطوطة لتفسيره، ونسخت في القرن السادس الهجرى، وهيأ الله تعالى لها من يحققها، ويخرجها كتاباً للناس (2) . ولعلنا بدراسة هذا التفسير نأخذ صورة عامة لما كان عليه التفسير في عهد التابعين. تفسير مجاهد: من دراسة التفسير نلاحظ ما يأتى: أولا: التفسير، وإن تناول السور الكريمة كلها تقريبا (3) غير أنه لم يفسر إلا بعض الآيات فقط وهى ليست كثيرة وإن كانت أكثر مما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم، وهذه نتيجة متوقعة، فكلما بعد الناس عن عصر التنزيل كلما احتاجوا إلى المزيد من التفسير والبيان.   (1) ويذكر أن لغيرهما كذلك تفاسير، منهم: رفيع بن مهران أبو العالية الرياحى، والضحاك ابن مزاحم، والحسن البصرى، وعطاء بن أبى رباح، وأبو جعفر الباقر، وغيرهم من التابعين كما نرى في تراجمهم. " راجع ترجمة من سبق وغيرهم في طبقات المفسرين للداودى ". (2) حقق هذه المخطوطة الأستاذ عبد الرحمن الطاهر بن محمد السورتى " مجمع البحوث الإسلامية بباكستان ". وحققها كذلك الأخ الصديق الأستاذ الدكتور محمد عبد السلام. واعتمد كل من المحققين على نسخة واحدة لم يعثرا على غيرها، وذكرت لزميلى الدكتور محمد بأن دار الكتب المصرية فيها نسختان ولعل كلا من الأخوين يرجع إلى النسخة الثانية ليستفاد منها في طبعات تالية إن شاء الله تعالى. (3) قال الدكتور محمد عبد السلام في وصف المخطوطة: ليست كلها عن مجاهد وإنما بها قدر غير يسير عن غيره، بل هناك سور بتمامها لم يذكر شئ عن مجاهد في تفسيرها، وهى: المعارج، نوح، المدثر، القيامة، الدهر، التكاثر، القارعة. ولم يأت بالمخطوطة تفسير للفاتحة، ولا لسورة " الكافرون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ثانيا: معظم ما في التفسير بيان لمعانى كلمات، وهذا يعنى أن التابعين كما كانوا لا يفسرون الآيات التي يظنونها واضحة المعنى، كانوا كذلك يتناولون الآيات التي يرون الحاجة إلى تفسيرها، ويكتفون ببيان معاني الكلمات التي يتوقف عليها فهم المعنى. على أنا نجد أن بعض الكلمات القرآنية المفسرة أوضح معنى بالنسبة لنا من كلمات التفسير. مثال هذا ما جاء في تفسيره لسورة الذاريات: عن مجاهد قال: " المحروم ": المحارف. وعنه: " فجاء بعجل " يقول: حسيل. ولعل هذا يرجع إلى أن بعض الكلمات تشيع في عصر دون عصر، ... ككلمتى: المحارف وحسيل، شاعتا في عصره وكادتا لا تظهران في عصرنا. ثالثا: في تفسير بعض الآيات الكريمة وتوضيح معناها نرى الحديث عن أسباب النزول، مثال هذا ما جاء في تفسير سورة الرعد: عن مجاهد: قال كفار قريش، يا محمد، سير لنا جبالنا فتتسع لنا أرضنا فإنها ضيقة، أو قرب لنا الشام فإنا نتجر إليها، أو أخرج لنا آباءنا من القبور نكلمهم، فأنزل الله عزوجل {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ} إلى آخر الآية. وعن مجاهد في قوله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ ... } قال: قالت قريش حين أنزل {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ... } ما نراك يا محمد تملك من شئ، ولقد فرغ من الأمر، فنزلت: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ ... } تخويفاً ووعيداً لهم، أي إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا، ويحدث في كل شهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 رمضان فيمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء: أرزاق الناس، ومصائبهم، وما يقسم لهم. رابعا: وفى التفسير نرى أحياناً الإشارة الى النسخ: ففي سورة النساء مثلاً: عن مجاهد في قوله: " فئاذوهما " يعنى سبَّاً، ثم نسختها {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ... } " 2: النور ". خامسا: في بعض الحالات نرى خلافاً بين مجاهد وأستاذه ابن عباس، أو بين مجاهد وغيره من التابعين. سادسا: يتعرض التفسير أحيانا لبعض الأحكام الفقهية، مثال هذا ما جاء في سورة النساء من الحديث عن صلاة الخوف وهو ما يلى: عن مجاهد في قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ... } وذلك يوم كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعسفان، والعدو بضحنان، فصلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه الظهر أربع ركعات، ركوعهم وسجودهم وقيامهم وقعودهم جميعاً، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم إذا قاموا للعصر، فأنزل الله عزوجل: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ ... } إلى آخر الآية. فصف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه خلفه صفين، ثم كبر بهم وكبروا جميعاً، ثم سجد الأولون بسجود النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والآخرون قيام، ثم سجد الآخرون، ثم كبر بهم وكبروا جميعاً، فتقدم الصف الآخر واستأخر الصف الأول، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أول مرة، وقصرت صلاة العصر ركعتين. سابعا: بدت الإسرائيليات واضحة في هذا التفسير! وأكثرها يتصل بنبيين هما: موسى وسليمان ـ عليهما السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 هذا ما بدا لي عندما قرأت تفسير مجاهد، ثم أتحفنى زميلى المفضال الدكتور محمد عبد السلام برسالته للدكتوراه " تفسير مجاهد بن جبر " وفى هذه الرسالة جعل الباب الثاني لبيان منهج مجاهد في التفسير. أشار في بداية الباب أن المفسرين من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يفسروا القرآن الكريم كله، وإنما تناولوا قدراً يسيراً من آياته، وأنهم كانوا يقتصرون على توضيح المعنى اللغوى بأوجز لفظ، مع ندرة ما يستنبط من الأحكام الفقهية، وذكر لسبب النزول، وأخذ عن أهل الكتاب في حدود ما سمح به. ثم قال: وهذا كان منهج ابن عباس كبير مفسرى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإذا نحن تتبعنا تفسير تلميذه مجاهد، وجدناه ينهج هذا النهج، ويزيد عليه بما يلى: 1 ـ زيادة القدر المفسر من الأحكام. 2 ـ كثرة ما استنبط من الأحكام. 3 ـ بذر نواة المذاهب الفقهية والكلامية، ولذا وجدنا الشافعى يعتمد على مجاهد في فقهه، والمعتزلة أيضاً يعتمدون عليه فيما ذهبوا إليه من القول بعدم رؤية الله عز وجل. 4 ـ التوسع في الاتصال بأهل الكتاب وسؤالهم. قال: والمدقق في تفسير مجاهد يجده قد أفاد كثيراً من أستاذه ابن عباس، واقتفى أثره ووافقه في تفسير العديد من الآيات، كما أنه كان يخالفه أحياناً، وأبرز تلك المخالفة قول مجاهد بالرأى في بعض الآيات فمنهج مجاهد هو: توضيح المعنى اللغوى بأوجز عبارة، مع ذكر سبب النزول، واستنباط الأحكام، والأخذ عن أهل الكتاب، والقول بالرأى في حدود ما سمح به. ا. هـ. وإن كان لتفسير التابعين منزلته غير أنه ليس بحجة إلا عند إجماعهم، فإذا اختلفوا فليس قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من جاء بعدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 والشيعة الاثنا عشرية يجعلون العصمة لاثنين من التابعين، هما: على بن الحسين زين العابدين، المتوفى سنة 95، وابنه محمد: أبو جعفر الباقر، المتوفى سنة 114، أما غير أئمتهم فلا وزن لتفسيرهم عند الشيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الفصل الخامس: أحسن طرق التفسير بعد أن انتهينا من الحديث عن تفسير التابعين، وقد ذكر الأخذ عن أهل الكتاب، والتفسير بالرأى، نرى أن نقف هنا وقفة عند أحسن طرق التفسير كما يراه غالب الجمهور. وفى هذه الوقفة بيان لقيمة التفسير المأثور عن التابعين، وحديث عن الإسرائيليات، والتفسير بالرأى، وهو ما كان يلزمنا أن نبينه بعد الحديث عن تفسير التابعين، فهذه الوقفة إذن تغنينا عن التكرار. ولعل أنسب ما نثبته هنا هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أيضاً" ما قاله الحافظ ابن كثير، وحاول الالتزام به في تفسيره. قال ابن تيميه رحمه الله تعالى في مقدمة التفسير من فتاواه "ص363: 375 " وطبعت المقدمة كاملة في كتاب مستقل: فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ تفسير القرآن بالقرآن وبالسنة: فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن؛ فما أجمل ... في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر من مكان فقد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له؛ ... بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعى: كل ما حكم به ... رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا} وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وقال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، ولهذا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إلا إني أوتيت القرآن ومثله معه " يعنى السنة. والسنة أيضاً تنزل عليه بالوحى كما ينزل القرآن؛ لا أنها تتلى كما يتلى، وقد استدل الإمام الشافعى وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك. والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: " بم تحكم؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيى. قال: فضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله "، وهذا الحديث في المسانيد والسنن بإسناد جيد. أقوال الصحابة: وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرآن، والأحوال التي اختصوا بها؛ ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح؛ لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين: " مثل عبد الله ابن مسعود "، قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب، قال أنبأنا جابر بن نوح، أنبأنا الأعمش عن أبى الضحى، عن مسروق قال: قال عبد الله ـ يعنى ابن مسعود: والذى لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناوله المطايا لأتيته. وقال الأعمش أيضاً، عن أبى وائل، عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 ومنهم الحبر البحر " عبد الله بن عباس "، ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترجمان القرآن، ببركة دعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له حيث قال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ". وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، أنبأنا وكيع، أنبأنا سفيان، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: قال عبد الله ـ يعنى ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. ثم رواه عن يحيى بن داود، عن إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح أبى الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود أنه قال: نعم الترجمان للقرآن ابن عباس. ثم رواه عن بندار عن جعفر بن عون عن الأعمش به كذلك، فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة، وقد مات ابن مسعود في سنة ثلاث وثلاثين على الصحيح، وعمر بعده ابن عباس ستاً وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود؟ وقال الأعمش، عن أبى وائل: استخلف على عبد الله بن عباس على الموسم فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة ـ وفى رواية سورة النورـ ففسرها تفسيراً لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا. الإسرائيليات: ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين: ابن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: " بلغوا عنى ولو آية، وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج، ومن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو؛ ولهذا كان عبد الله بن عمرو قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك، ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد، فإنها على ثلاثة أقسام: " أحدها " ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح. و" الثاني " ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه. و" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الثالث " ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر دينى، ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في مثل هذا كثيراً، ويأتى عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت، وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا} . وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام، وتعليم ما ينبغى في مثل هذا. فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين، وسكت عن الثالث، فدل على صحته؛ إذ لو كان باطلاً لرده كما ردهما، ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فيقال في مثل هذا: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه؛ فلهذا قال: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا ... } أي لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك، فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام، وأن ينبه على الصحيح منها، ويبطل الباطل، وتذكر فائدة الخلاف وثمرته؛ لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الأهم، فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص؛ إذ قد يكون الصواب في الذي تركه أو يحكى الخلاف ويطلقه، ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضاً، فإن صحح غير الصحيح عامداً فقد تعمد الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ، كذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته، أو حكى أقوالا متعددة لفظاً ويرجع حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان، وتكثر بما ليس بصحيح فهو كلابس ثوبى زور، والله الموفق للصواب. أقوال التابعين: إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين " كمجاهد بن جبر " فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا إبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمتة، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها، وبه قال الترمذى، قال: حدثنا الحسين بن مهدى البصرى، حدثنا عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة. قال: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئاً، وبه إليه قال: حدثنا ابن أبى عمر، حدثنا سفيان بن ... عيينة، عن الأعمش، قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم احتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا طلق بن غنام، عن عثمان المكى، عن ابن أبى مليكة، قال: رأيت مجاهداً سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اِكتب، حتى سأله عن التفسير كله، ولهذا كان سفيان الثورى يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. وكسعيد بن جبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبى رباح، والحسن البصرى، ومسروق بن الأجدع، وسعيد بن المسيب، وأبى العاليه، والربيع بن أنس، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية، فيقع في عباراتهم تباين في الألفاظ يحسبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 من لا علم عنده اختلافاً، فيحكيها أقوالا، وليس كذلك، فإن منهم من يعبر عن الشىء بلازمه أو نظيره، ومنهم من ينص على الشىء بعينه، والكل بمعنى واحد في كثير من الأماكن، فليتفطن اللبيب لذلك، والله الهادي. وقال شعبه بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعنى أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشىء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك. التفسير بمجرد الرأى حرام: فأما " تفسير القرآن بمجرد الرأى فحرام، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ". حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الأعلى الثعلبى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ". وبه إلى الترمذى قال: حدثنا عبد بن حميد، حدثنى حسان بن هلال قال: حدثنا سهيل ـ أخو حزم القطعى، قال: حدثنا أبو عمران الجونى، عن جندب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ "، قال الترمذى هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهل بن أبى حزم. وهكذا روى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم أنهم شددوا في أن يفسر القرآن بغير علم، وأما الذي روى عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن وفسروه بغير علم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 أو من قبل أنفسهم، وقد روى عنهم ما يدل على ما قلنا أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم، فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت بالأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الأمر؛ لكن يكون أخف جرماً ممن أخطأ، والله أعلم. وهكذا سمى الله تعالى القذفة كاذبين، فقال: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فالقاذف كاذب، ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر؛ لأنه أخبر بما لا يحل له الإخبار به، وتكلف ما لا علم له به. والله أعلم. ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به، كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن أبى معمر، قال: قال أبو بكر الصديق: أي أرض تقلنى وأى سماء تظلنى إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم؟! وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمود بن يزيد، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمى، أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله: {وَفاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: أي سماء تظلنى، وأى أرض تقلنى، إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ ـ منقطع. وقال أبو عبيد أيضاً: حدثنا يزيد، عن حميد، عن أنس، أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر. وقال عبد بن حميد: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن يزيد، عن ثابت، عن أنس قال: كنا عند عمر بن الخطاب، وفى ظهر قميصه أربع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 رقاع، فقرأ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: ما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف، فما عليك أن لا تدريه؟ . وهذا كله محمول على أنهما ـ رضي الله عنهما ـ إنما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتاً من الأرض ظاهر لا يجهل؛ لقوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا} . وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية عن ... أيوب، عن ابن أبى مليكة، أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبى أن يقول فيها. إسناده صحيح. وقال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبى مليكه، قال: سأل رجل ابن عباس عن: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} فقال له ابن عباس: فما {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ؟ فقال الرجل إنما سألتك لتحدثنى فقال ابن عباس، هما يومان ذكرهما الله في كتابه، الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم. وقال ابن درير: حدثنى يعقوب ـ يعنى ابن إبراهيم، حدثنا ابن علية، عن مهدى بن ميمون، عن الوليد بن مسلم، قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله فسأله عن آية من القرآن. فقال أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت عنى، أو قال: أن تجالسنى، وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال إنا لا نقول في القرآن شيئاً. وقال الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن. وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال: سأل رجل سعيد ابن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألنى عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه منه شىء، يعنى عكرمة. وقال ابن شوذب: حدثنى يزيد بن أبى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع. وقال ابن جرير: حدثنى أحمد بن عبده الضبى، حدثنا حماد بن زيد حدثنا عبيد الله بن عمر، قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وأنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع. وقال أبو عبيد: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث، عن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبى تأول آية من كتاب الله قط. وقال أيوب وابن عون وهشام الدستوائى، عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلمانى عن آية من القرآن، فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل من القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد. وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ، عن ابن عون عن عبيد الله بن مسلم بن يسار، عن أبيه، قال: إذا حدثت عن الله فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده. حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه. وقال شعبة، عن عبد الله بن أبى السفر، قال: قال الشعبى: والله ما من آية إلا وقد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله. وقال أبو عبيد: حدثنا هشيم، أنبأنا عمر بن أبى زائدة، عن الشعبى، عن مسروق قال: اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله. التفسير بالرأى عن علم: فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه؛ ولهذا روى عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به فكذلك يجب فيما سئل عنه مما يعلمه؛ لقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 تعالى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} ، ولما جاء في الحديث المروى من طرق: " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامه بلجام من نار ". وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان عن أبى الزناد، قال: قال ابن عباس: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله. والله سبحانه وتعالى أعلم. " انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الفصل السادس: التفسير في القرن الثاني وفى القرن الثاني الهجرى بدأ عصر التدوين. ونحن نعلم أن خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز أمر بجمع السنة وتدوينها، وخلافته كانت في العام التاسع والتسعين من القرن الأول، وتوفى في العام الأول من القرن الثاني، وأول من استجاب له ابن شهاب الزهرى المتوفى سنة 124 هـ، وتبعه آخرون، وشاع التدوين في الطبقة التي تلى طبقته، وكان التفسير كما عرفنا باباً من أبواب السنة، ومن هنا كان جمعه وتدوينه. ولم يصلنا مما دُوِن في ذلك القرن إلا القليل: كموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام الشافعى، ومسند أبى داود الطيالسى المتوفى سنة204هـ، وكتاب الآثار لمحمد بن الحسن الشيبانى صاحب الإمام أبى حنيفة. غير أن هذا القرن شهد التفسير كعلم قائم بذاته، ونتحدث هنا عن ثلاثة كتب هي: التفسير الكبير لمقاتل بن سليمان المتوفى سنة 150 هـ، وتفسير يحيى بن سلام المتوفى سنة 200 هـ، ومعانى القرآن لأبى زكريا يحيى بن زياد الفراء المتوفى سنة 207 هـ. أولاً: تفسير مقاتل بن سليمان هذا أول تفسير يصلنا حتى الآن يفسر جميع أي القرآن الكريم، والراجح أن أحداً لم يسبقه في هذا المجال. وسفيان الثورى الذي توفى بعد مقاتل بأحد عشر عاماً طبع تفسيره في مجلد واحد، وهو أقرب ما يكون إلى تفسير مجاهد (1) ، مما يرجح أن طريقة تفسير بعض الآيات والكلمات هي التي كانت لا تزال سائدة   (1) عبد الرحمن السورتى محقق تفسير مجاهد كثيراً ما نراه يشير إلى تفسير سفيان الثورى في الحاشية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 في القرن الثاني، وعلى الأخص في النصف الأول منه قبل أن ينتهى عصر التابعين. في القرن الثاني، وعلى الأخص في النصف الأول منه قبل أن ينتهى عصر التابعين. ومع سبق مقاتل، وضخامة تفسيره الذي يقع في أربعة مجلدات، إلا أن هذا التفسير لم يحتل مكانة علمية عند جمهور العلماء، وذلك لأن مقاتلاً مجروح؛ متهم بالكذب، والتجسيم، وكثرة النقل عن أهل الكتاب. وليس لهذا التفسير من قيمة إلا بمقدار صحة ما فهمه هو من معاني الآيات الكريمة، ولهذا قال الذهبى عنه: متروك الحديث، وقد لطخ بالتجسيم مع أنه كان من أوعية العلم، بحراً في التفسير. ويروى عن الشافعى ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: الناس كلهم عيال على ثلاثة: مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير ابن أبى سلمى في الشعر، وعلى أبى حنيفة في الكلام (1) . ثانياً: تفسير يحيى بن سلام المؤلف والكتاب: يحيى بن سلام بن أبى ثعلبة التميمى ـ مولى لهم ـ يكنى أبا ذكريا، بصرى، قدم مصر وصار إلى إفريقيا وسكنها، وحج منها، وتوفى بمصر بعد رجوعه من الحج في صفر سنة مائتين. قال ابن الجزرى في ترجمته ليحيى: صاحب التفسير. روى الحروف عن أصحاب الحسن البصرى عن الحسن ابن دينار وغيره. وله اختيار في القراءه من طريق الآثار. روى عن حماد بن سلمة، وهمام بن يحيى، وسعيد بن أبى عروبة.   (1) انظر ترجمة مقاتل بن سليمان في تهذيب التهذيب 10 / 279: 285 وطبقات المفسرين للداودى 2 / 330 ـ 331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 قال الدانى: ويقال أنه أدرك من التابعين نحواً من عشرين رجلاً وسمع ... منهم، وروى عنهم. نزل المغرب، وسكن أفريقيا دهراً، وسمع الناس بها كتابه في تفسير القرآن، وليس لأحد من المتقدمين مثله، وكتابه الجامع. وكان ثقة ثبتاً، ذا علم بالكتاب والسنة، ومعرفة اللغة العربية، وكان صاحب سنة، وسمع منه بمصر عبد الله بن وهب، ومثله من الأئمة (1) . وفى ترجمته في لسان الميزان قال ابن حجر: حدث بالمغرب عن سعيد بن أبى عروبة ومالك وجماعة. ضعفه الدارقطنى. وقال ابن عدى: يكتب حديثه مع ضعفه، روى عنه بحر ابن نصر وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أخطأ. وقال سعيد بن عمرو البردعى: قلت لأبى زرعة في يحيى بن سلام المغربى: فقال: لا بأس به، ربما وهم. وقال أبو حاتم الرازى: كان شيخا بصرياً وقع إلى مصر، وهو صدوق. وقال أبو العرب في طبقات القيروان: كان مفسراً، وكان له قدر ومصنفات كثيرة في فنون العلم، وكان من الحفاظ، من خيار خلق الله (2) . نقرأ ما سبق عن يحيى وعن تفسيره، ولكن أين هذا التفسير؟ وما منهجه؟ ولماذا قيل: ليس لأحد من المتقدمين مثله؟ ما كنت أدرى عن هذا التفسير شيئاً. ونحن نعرف أن القرن الثاني شهد طائفة من الأئمة تكلموا في الجرح والتعديل، وكان لهذا أثره في جمع الأخبار، مع التصحيح والتضعيف والترجيح،   (1) غاية النهاية في طبقات القراء لشمس الدين أبى الخير محمد بن محمد ابن الجزرى ... 2 / 373 ترجمة رقم 3848. وانظر طبقات المفسرين للداودى 2 / 371 ترجمة رقم 685. (2) انظر ترجمته أيضاً في ميزان الاعتدال للذهبى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 ولكن ما كنت أعرف أحداً سبق محمد بن جرير الطبري إلى هذا في مجال التفسير كعلم مستقل، مع أن الطبري عاش في القرن الثالث وتوفى أوائل الرابع" 224: 310 " غير إني عندما قرأت كتاب " التفسير ورجاله " لعالم تونس الشيخ محمد الفاضل بن عاشور وجدته يتحدث عن تفسير يحيى بن سلام. وأورد هنا ما كتبه ذلك العالم الفاضل ليستفيد القارئ كما استفدت، وحتى تكون الحلقة متصلة عندما نأتى للحديث عن تفسير الطبري. منهج التفسير في النصف الثاني من القرن الثاني: تحدث الشيخ عن منهج التفسير في النصف الثاني من القرن الثاني الهجرى فقال: كانت أول التفاسير ظهوراً في النصف الثاني من القرن الثاني بعد كتاب عبد الملك بن جريج ـ التفاسير المتوخيه طريقة جمع الأقوال ـ بحسب ما انتهى إلى مؤلفيها من طرق الإسناد. وقد اقتضى ذلك لا محالة اشتمال الكتاب الواحد، في الآية الواحدة على أخبار متخالفة، وآثار متفاوتة الدرجات من حيث مظنة الثبوت لقوة الأسانيد وضعفها. فتطلب ذلك رجوعاً إلى تلك الأخبار بالنقض والتمحيص، ليوضع منها ما يوضع على بساط الطرح والتزييف، ويثبت منها ما يثبت على مدرجة الاعتماد والتحصيل. لا سيما وقد انتهى الكثير منها إلى المؤلفين متبعاً لتعاليق نقدية اتصلت بها وصارت ذيولا لها، منذ أن كانت متناقلة بالطريق الشفهى، قبل أن تدخل حيز التدوين. فأصبح موقف المؤلفين حيال تلك الأخبار، مثل موقف مصنفى السنة من مختلف الحديث، وموقف الفقهاء من متعارض فتاوى فقهاء الصحابة والتابعين، موقفاً يستدعى إدخال عناصر جديدة من المعارف المتصلة بتوضيح البحث، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 إدخال عنصر شخصى من النقد والتقدير، والإسقاط والتحصيل، أو الجمع والتأويل، ينتهى إلى حكم موضوعى فاصل بحسب اجتهاد المؤلف، وتقديره، تتخذ له تلك الأخبار المتخالفة أسانيد ومقومات للاستنتاج كما يتخذ مجموع البينات المتعارضة مع ما يتصل بها من وسائل الإثبات سنداً لقضاء القاضى. وكانت أهم العناصر المرجوع إليها، بالإضافة إلى عنصر الروايات الواردة، عنصرين يتصلان مباشرة باللفظ القرآنى: هما عنصر القراءة وعنصر الإعراب. حلقة الاتصال بين القرنين الأول والثالث: وبعد أن تحدث عن العنصرين، وصلة كل منهما بالتفسير، قال: " وإنه لمما يجدر التنبيه إليه في هذا المقام: أن الذين يشيرون إلى هذه الطريقة وخصائصها من الكاتبين حديثاً في تاريخ التفسير، يبادرون إلى ضرب المثل بتفسير محمد بن جرير الطبري، فيقطعون بذلك اتصال سلسلة التطور في الأوضاع التفسيرية بين القرن الأول والقرن الثالث بإضاعة الحلقة من تلك السلسلة التي تمثل منهج التفسير في القرن الثاني، لأن تفسير ابن جرير الطبري ألف في أواخر القرن الثالث، وصاحبه توفى أوائل القرن الرابع، والحال أن الحلقه التي يتم بها اتصال السلسلة وضاعت عن الكاتبين المحدثين في تاريخ التفسير: من المستشرقين وغير المستشرقين، هي حلقة أفريقية تونسية، بالوقوف عليها يتضح كيف تطور فهم التفسير عما كان عليه في عهد ابن جريج، إلى ما أصبح عليه في تفسير الطبري، ويتضح لمن كان الطبري مديناً له بذلك المنهج الأثرى النظرى الذي درج عليه في تفسيره العظيم. وإنما نعنى بهذا تفسيراً جليلاً من صميم آثار القرن الثاني، وهو أقدم التفاسير الموجودة اليوم على الإطلاق، ألف بالقيروان وروى فيها، وبقيت نسخته الوحيده بين تونس والقيروان، وهو الذي يعتبر مؤسس طريقة التفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 النقدى، أو الأثرى النظرى التي سار عليها بعده ابن جرير الطبري واشتهر بها. ذلك هو تفسير يحيى بن سلام التميمى البصرى الأفريقى المتوفى سنة 200، وهو تفسير يقع في ثلاثين جزءاً من التجزئة القديمة، أي في ثلاث مجلدات ضخمة، مبنى على إيراد الأخبار مسندة، ثم تعقبها بالنقد والاختيار. فبعد أن يورد الأخبار المروية مفتتحاً إسنادها بقوله: " حدثنا " يأتى بحكمه الاختيارى مفتتحاً بقوله: " قال يحيى "، ويجعل مبنى اختياره على المعنى اللغوى، والتخريج الإعرابى، ويتدرج من اختيار المعنى إلى اختيار القراءة التي تتماشى وإياه، مشيراً إلى اختياراته في القراءة بما يقتضى أن له رواية أو طريقاً لا يبعد أن تكون راجعة إلى قراءة أبى عمرو بن العلاء البصرى، لأن يحيى بن سلام بصرى النشأة، وإلى طريقه المختار في القراءة يشير في تفسيره بقوله: " والذى في مصحفنا ". وقد نص ابن الجزرى على أن هذا الكتاب سمع من مؤلفه بإفريقيا، وشهد بأنه كتاب ليس لأحد من المتقدمين مثله، وكذلك نقل عن إمام القراءات أبى عمرو الدانى أنه قال: " ليس لأحد من المتقدمين مثل تفسير ابن سلام ". وذلك ينطق بسبقه إلى طريقه، وابتكاره منهجاً. وقد تلقى هذا التفسير عن مؤلفه فقيه أفريقى هو أبو داود العطار المتوفى سنة 244. وتوجد من هذا التفسير لبلادنا التونسية نسخة عظيمة القدر موزعة الأجزاء، نسخت منذ ألف عام تقريبا، منها: مجلد يشتمل على سبعة أجزاء بالمكتبة العبدلية بجامع الزيتونة الأعظم، وآخر يشتمل على عشرة أجزاء بمكتبة جامع القيروان، ومن مجموعهما يتكون نحو الثلثين من جملة الكتاب. ويوجد جزء آخر لعله يتمم بعض نقص النسخة، هو من المقتنيات الخاصة لبعض العلماء الأفاضل. ولعل فذاذة هذه النسخة التونسية هو الذي يعتذر به للذين أهملوا شأن ابن سلام في مراحل التفسير، وإن كان التعريف بها حاصلاً منذ أكثر من خمسين سنة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 في الجزء الأول من الفهرس التفصيلى للمكتبة العبدلية، وقد أخذت عنها صور لمعهد المخطوطات العربية، وكثير من دور الكتب في المشرق ... والمغرب " ا. هـ. من كلام الشيخ محمد الفاضل بن عاشور نرى أن التفسير في النصف الثاني من القرن الثاني لم يختلف عن الحديث في الاستفادة من الجرح والتعديل، وسلك منهج التصحيح والتضعيف والترجيح. ونسأل الله تعالى أن يهيئ لكتاب التفسير هذا من يحققه ويخرجه للمسلمين. ثالثاً: معاني القرآن للفراء الفراء وإملاء الكتاب: الفراء وهو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمى، ولد بالكوفة سنة 144 هـ، ونشأ بها وتربى على شيوخها، ومنزلته العلمية معروفة: لقب بأمير المؤمنين في النحو، وكان زعيم الكوفيين بعد الكسائى. واستقر به المقام في بغداد، وتوفى سنة 207 هـ. وفى بداية الكتاب يقول راويه أبو عبد الله محمد بن الجهم بن هارون السمرى: " هذا الكتاب فيه معاني القرآن، أملاه علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء ـ يرحمه الله ـ عن حفظه من غير نسخة، في مجالسه أول النهار من أيام الثلاثاوات والجمع في شهر رمضان، وما بعده من سنة اثنتين، وفى شهور سنة ثلاث، وشهور من سنة أربع ومائتين. قال: حدثنا محمد بن الجهم، قال: حدثنا الفراء، قال: تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانية " ا. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الهدف والمنهج: ومن العنوان الذي اختاره الفراء يتضح الهدف من أماليه، فهو لا يريد تفسير القرآن الكريم آية آية، وإنما يقف عند بعض الآيات الكريمة ليفسر مشكل الإعراب والمعانى. ولذلك رأينا الكتاب يزخر بمناقشات نحوية مستفيضة، ووقفات لغوية. وهذا التفسير يعتمد على تمكن صاحبه من اللغة، ومعرفته بأساليبها، وإمامته في النحو، ومعرفته بلهجات العرب، وبالقراءات المختلفة. ولا نكاد نجد فيه اهتماماً بذكر الأخبار المروية عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو الصحابة أو التابعين. ومثل هذا التفسير لا يعد من التفسير المأثور، ولعله أول كتاب يصلنا في التفسير العقلى، وقيمته العلميه تستند إلى مدى التزامه بالمنهج العلمى المقبول لمثل هذا النوع من التفسير، وتمكنه من أدواته ووسائله. ولنذكر شيئا من هذا التفسير يوضح منهجه. بعد قول الفراء السابق " تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه " قال: فأول ذلك اجتماع القراء وكتاب المصاحف على حذف الألف من {بسم الله الرحمن الرحيم} وفى فواتح الكتب، وإثباتهم الألف في قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ... وأخذ يبين سبب هذا، ثم انتقل إلى تفسير أم الكتاب فقال: قوله تعالى: {الْحَمْد للهِ} . اجتمع القراء على رفع الحمد. وأما أهل البدو فمنهم من يقول: {الْحَمْدَ للهِ} ومنهم من يقول {الْحَمْدِ للهِ} . ومنهم من يقول {الْحَمْدُ للهِ} . فيرفع الدال واللام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 وقال: " فأما من نصب ... " وبين وجه كل من الحالات المذكورة. ثم قال: " عليهُم " و" عليهِم ": وهما لغتان، لكل لغة مذهب في العربية. وفصل في بيان سبب ضم الهاء وكسرها، ثم قال: وقوله تعالى: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} . بخفض " غير " لأنها نعت للذين. وبعد أن بين سبب ضبط كلمة " غير " قال: وأما قوله تعالى: {وَلاَ الضَّالِّينَ} فإن معنى " غير " معنى " لا "، فلذلك ردت عليها " ولا " ... إلخ. وهكذا سار الفراء في تفسيره لفاتحة الكتاب (1) . وعند تفسير سورة النور قال: ومن سورة النور بسم الله الرحمن الرحيم: قوله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} ترفع السورة بإضمار هذه سورة أنزلناها. ولا ترفعها براجع ذكرها لأن النكرات لا يبتدأ بها قبل أخبارها، إلا أن يكون ذلك جواباً؛ ألا ترى أنك لا تقول: رجل قام، إنما الكلام أن تقول: قام رجل. وقبح تقديم النكرة قبل خبرها أنها توصل ثم يخبر عنها بخبر سوى الصلة. فيقال: رجل يقوم أعجب إلىّ من رجل لا يقوم: فقبح إذ كنت كالمنتظر للخبر بعد الصلة. وحسن في الجواب؛ لأن القائل يقول: من في الدار؟ فتقول: رجل، وإن قلت: رَجُلٌ فيها فلا بأس؛ لأنه كالمرفوع بالرد لا بالصفة.   (1) راجع التفسير في ج 1 ص 3 ـ 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 ولو نصبت السورة على قولك: أنزلناها سورة وفرضناها كما تقول: مجرداً ضربته كان وجهاً. وما رأيت أحداً قرأ به (1) . وفى سورة النمل قال الفراء: وقوله: {إِنِّي لَا يخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ... } ثم استثنى فقال: {إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ} فهذا مغفور له. فيقول القائل كيف صُير خائفاً؟ قلت: في هذه وجهان: أحدهما أن تقول: إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة. ومن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً يخاف ويرجو: فهذا وجه. والآخر أن تجعل الاستثناء من الذين تُركوا في الكلمة؛ لأن المعنى: لا يخاف المرسلون إنما الخوف على غيرهم. ثم استثنى فقال: إلا من ظلم فإن هذا لا يخاف، يقول: كان مشركاً فتاب وعمل حسناً فذلك مغفور له ليس بخائف. وقد قال بعض النحويين: إن " إلا " في اللغة بمنزلة الواو، وإنما معنى هذه الآية: لا يخاف لدى المرسلون ولا من ظلم ثم بدل حسناً، وجعلوا مثله قول الله: {لِئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ... } أي ولا الذين ظلموا. ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا، لأنى لا أجيز قام الناس إلا عبد الله، وهوقائم؛ إنما الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء قبل إلا. وقد أراه جائزاً أن تقول: عليك ألف سوى ألف آخر، فإن وضعت " إلا " في هذا الموضع صلحت وكانت " إلا " في تأويل ما قالوا. فأما مجردة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا. ولكن مثله مما يكون في معنى إلا كمعنى الواو وليست بها.   (1) راجع ص 243، 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ ... } هو في المعنى: إلا الذي شاء ربك من الزيادة. فلا تجعل إلا " في منزلة " الواو ولكن بمنزلة سوى. فإذا كانت سوى في موضع إلا صلحت بمعنى الواو؛ لأنك تقول: عندى مال كثير سوى هذا، أي وهذا عندى؛ كأنك قلت: عندى مال كثير وهذا. وهو في سوى أنفذ منه في إلا لأنك قد تقول: عندى سوى هذا، ولا تقول: إلا هذا (1) . وفى سورة سبأ: وقوله: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} " 17 " هكذا قرأه يحيى وأبو عبد الرحمن أيضاً. والعوام: {وَهَلْ يُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} . وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم} موضع " ذلك " نصب بـ " جزيناهم ". يقول القائل: كيف خص الكفور بالمجازاة والمجازاة للكافر وللمسلم وكل واحد؟ فيقال: إن جازيناه بمنزلة كافأناه والسيئة للكافر بمثلها وأما المؤمن فيجزى لأنه يزاد ويتفضل عليه ولا يجازى. وقد يقال: جازيت في معنى جزيت، إلا أن المعنى في أبين الكلام على ما وصفت لك؛ ألا ترى أنه قد قال {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم} ولم يقل {جاَزَيْنَاهُم} وقد سمعت جازيت في معنى جزيت وهى مثل عاقبت وعقبت، الفعل منك وحدك. وبناؤها ـ يعنى ـ فاعلت على أن تفعل ويفعل بك (2) .   (1) ج 2 ص 287 ـ 288. (2) ج 2 ص 359. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وأكتفى بهذا القدر، ولعله ـ مع قلته ـ يبين منهج الفراء في تفسيره، وقيمته العلمية. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 الفصل السابع: القرن الثالث وتفسير الطبري القرن الثالث الهجرى يعتبر العصر الذهبى بالنسبة لتدوين السنة؛ فقد شهد ميلاد مسند الإمام أحمد والصحيحين: صحيح البخاري وصحيح مسلم، وسنن أبى داود، والترمذى، وابن ماجه، والنسائى، وغيرها من كتب السنة. ومع أننا رأينا التفسير علماً قائماً بذاته، إلا أن رجال الحديث كانوا يدونون الأخبار المتصلة بالتفسير مع غيرها من الأخبار، فكان هذا خيراً عظيماً بالنسبة للتفسير. وإلى جانب هذا فإن أعظم كتاب في التفسير ظهر في هذا القرن، وهو تفسير أبى جعفر محمد بن جرير الطبري، المسمى " جامع البيان عن تأويل أي القرآن ". الطبري: علمه وكتبه: الطبري هو: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير. وهو ـ كما قال الذهبى ـ الإمام العالم المجتهد، عالم العصر، صاحب التصانيف البديعة، من أهل آمل طبرستان. مولده سنة أربع وعشرين ومئتين، وطلب العلم بعد الأربعين ومئتين، وأكثر الترحال، ولقى نبلاء الرجال، وكان من أفراد الدهر علماً، وذكاء، وكثرة تصانيف، قل أن ترى العيون مثله (1) . كان ثقة، صادقاً، حافظاً، رأساً في التفسير، إماماً في الفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات وباللغة، وغير ذلك (2) .   (1) سير أعلام النبلاء 14 / 267. (2) المرجع السابق 14 / 270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ونقل الذهبى وابن كثير وابن حجر قول الخطيب في تاريخه عن الطبري: كان أحد أئمة العلماء، يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه بمعرفته وفضله. وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره: فكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعانى، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في " أخبار الأمم وتاريخهم "، وله كتاب: " التفسير " لم يصنف مثله ... إلخ (1) . وقال ابن كثير: روى الكثير عن الجم الغفير، ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث، وصنف التاريخ الحافل، وله التفسير الكامل الذي لا يوجد له نظير، وغيرهما من المصنفات النافعة في الأصول والفروع، ومن أحسن ذلك تهذيب الآثار ... إلخ (2) . وقال السيوطي: رأس المفسرين على الإطلاق، أحد الأئمة، جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره ثم قال: وله التصانيف العظيمة، منها: " تفسير القرآن "، وهو أجل التفاسير، لم يؤلف مثله كما ذكره العلماء قاطبة، منهم النووى في تهذيبه، وذلك لأنه جمع فيه بين الرواية والدراية، ولم يشاركه في ذلك أحد لا قبله ولا بعده.. إلخ (3) .   (1) انظر المرجع السابق 14 / 269، والبداية والنهاية 11 / 145، ولسان الميزان ... 5 / 100. (2) انظر البداية والنهاية 11 / 145. (3) انظر طبقات المفسرين للسيوطي: ص 95، 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 والطبرى ـ رأس المفسرين والمؤرخين ـ نجد في ترجمته (1) الحديث عن كتبه، ما تم منها وما لم يتم. وأهم كتبه التي مات قبل تمامها كتابه " تهذيب الآثار"، وهو مطبوع ميسر الرجوع إليه والحمد لله تعالى (2) . عقيدة الطبري: الحديث عن الطبري وعن كتبه يطول كثيراً، والذى يعنينا أساساً هو تفسيره، ولكن ونحن في مجال التفسير المقارن بين الشيعة وأهل السنة نرى من اللازم بيان عقيدة هذا الإمام التي وقع ضجاج كبير حولها، حيث رماه بعضهم بأنه من الشيعة الإمامية، غير أن كتبه تثبت براءته. لما بلغه أن أبا بكر بن أبى داود تكلم في حديث غدير خم، عمل كتاب: " الفضائل "، فبدأ بفضل أبى بكر، ثم عمر، وتكلم على تصحيح حديث غدير خم، واحتج لتصحيحه، ولم يتم الكتاب. وفى الباب السابق ذكرت الروايات المختلفة لهذا الحديث، وبينت ما هو صحيح منها، وما هو مختلف فيه، وما هو ضعيف أو موضوع مصنوع في دار الضرب بالكوفة. ولا أدرى ما الذي صح عند الطبري؟ وربما صحح ما بينت ضعفه أو وضعه. وعندما رجعت لتهذيب الآثار رأيت عدم استبعاد هذا ... الاحتمال: ففى مسند على رضي الله عنه ـ يذكر حديث " أنا دار الحكمة وعلى بابها "، ويقول: " وهذا خبر عندنا صحيح سنده " ولكنه يضيف قوله " وقد يكون على   (1) انظر ترجمته في المراجع السابقه، وأخص سير أعلام النبلاء، وفى غيرها من المراجع مثل: تاريخ بغداد 2 / 162، وطبقات المفسرين للداودى 2 / 106. (2) طبع بتحقيق الدكتور ناصر الرشيد وآخر، ثم حققه شيخنا العلامة محمود محمد شاكر، محقق تفسير الطبري، جزاه الله خيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 مذهب الآخرين سقيماً غير صحيح لعلتين " ثم يذكر تأييداً له حديثاً عن ابن عباس: " أنا مدينة العلم وعلى بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها " (1) . وتصحيح مثل هذه الآحاديث لا يعنى أنه من الإمامية وإلا لما تحدث عن فضل أبى بكر وعمر، فضلاً عن أن يبدأ بهما. ونراه في مسند على يروى أن قاتل الزبير استأذن على على فقال: ليدخل النار، سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لكل نبي حوارى وإن حوارى الزبير بن العوام " (2) ونحن نعرف تكفير الشيعة لمن قاتل علياً، وما رواه الطبري ينقض قولهم. وكان الطبري يكلم ابن صالح الأعلم، وجرى ذكر على رضي الله عنه، ثم قال الطبري: من قال إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامى هدى، أيش هو؟ قال: مبتدع. فقال ابن جرير إنكاراً عليه: مبتدع! مبتدع! هذا يقتل، من قال إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامى هدى يقتل يقتل (3) . وقال الذهبى في ميزان الاعتدال " 3 / 498 " في ترجمة الطبري:. " ثقة صادق، فيه تشيع يسير، وموالاة لا تضر. أقذع أحمد بن على السليمانى الحافظ، فقال: كان يضع للروافض، كذا قال السليمانى: وهذا رجم بالظن الكاذب، بل ابن جرير من كبار أئمة الإسلام المعتمدين، وما ندعى عصمته من الخطأ، ولا يحل لنا أن نؤذيه بالباطل والهوى، فإن كلام العلماء بعضهم في بعض ينبغى أن يتأنى فيه، ولا سيما في مثل إمام كبير، فلعل السليمانى أراد الآتى:   (1) انظر تهذيب الآثار 1 / 89 ـ 90 ـ والحديث الأول رواه الترمذى في الباب الخامس من مناقب على بن أبى طالب، وقال: " هذا حديث غريب منكر " والثاني قال عنه البخاري: " منكر " وقال بوضعه ابن معين وابن الجوزى والذهبى وغيرهم، وصححه الحاكم!! وافتى بحسنه ابن حجر ـ انظر فيض القدير 3 / 46 ـ 47، والمقاصد الحسنة 97، وكشف الخفاء 1 / 235. (2) تهذيب الآثار 1 / 140. (3) انظر سير أعلام النبلاء 14 / 275، ولسان الميزان 5 / 101، وفيه زياده العبارة الأخيرة: " من قال إن ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 محمد بن جرير بن رستم، أبو جعفر الطبري. رافضى ... ". وعقب ابن حجر فقال: " ولو حلفت أن السليمانى ما أراد إلا الآتى لبررت، والسليمانى حافظ متقن، كان يدرى ما يخرج من رأسه، فلا أعتقد أنه يطعن في مثل هذا الإمام بهذا الباطل، والله أعلم. وإنما رمى بالتشيع لأنه صحح حديث غدير خم، وقد اغتر شيخ شيوخنا أبو حيان بكلام السليمانى ... " (1) . هذه كلمة موجزة عن الطبري، وبعد حياة بارك الله تعالى فيها توفى سنة عشر وثلاثمائة، ودفن ببغداد. تفسير الطبري الثناء على الكتاب: ذكرنا آنفا بعض ما جاء في ترجمة أبى جعفر عن تفسيره القيم. ومما جاء عن هذا الكتاب أيضاً أن ابن جرير قال لأصحابه: هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه! فقال: إنا لله! ماتت الهمم. فاختصر ذلك في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ولما أراد أن يملى التفسير قال لهم نحواً من ذلك، ثم أملاه على نحو من قدر التاريخ. وقال الحاكم: سمعت أبا بكر بن بالويه يقول: قال لي أبو بكر بن خزيمة: بلغنى أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير؟ قلت: بلى، كتبته عنه إملاء. قال: كله؟ قلت: نعم. قال: أي سنة؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين ومئتين. قال: فاستعاره منى أبو بكر، ثم رده بعد سنين، ثم قال: لقد نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير.   (1) لسان الميزان 5 / 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وقال أبو محمد الفرغانى: لو ادعى عالم أن يصنف من كتاب التفسير لابن جرير عشرة كتب، كل كتاب منها يحتوى على علم مفرد مستقصى لفعل. وقال أبو حامد الإسفرايينى: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل تفسير محمد بن جرير لم يكن كثيراً. وقال السيوطي في الإتقان " 2 / 190 ": ". . . وبعدهم ابن جرير الطبري، وكتابه أجل التفاسير وأعظمها، ثم ابن أبى حاتم، وابن ماجه، والحاكم، وابن مردويه، وأبو الشيخ ابن حبان، وابن المنذر، في آخرين، وكلها مسندة إلى الصحابة والتابعين وأتباعهم، وليس فيها غير ذلك، إلا ابن جرير؛ فإنه يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، والإعراب، والاستنباط، فهو يفوقها بذلك ". هذه بعض الأقوال التي تبين قيمة هذا الكتاب، ولكنها لا تغنى عن النظر في الكتاب نفسه لنبين منهجه وقيمته العلمية، فلننظر فيه. بيان الطبري لمنهجه: ذكر الطبري في مقدمة التفسير " ص 6 " ما يلى: " ونحن ـ في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه ـ منشئون إن شاء الله ذلك، كتاباً مستوعباً لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه، جامعاً، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافياً، ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه، واختلافها فيما اختلفت فيه منه. ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأختصر ما أمكن من الاختصار فيه ". وفى المقدمة أيضا " ص 73 " نجد " القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن "، ويذكر تحت هذا العنوان ما يبين أن مما أنزل الله تعالى من القرآن ما لا يوصل إلى علم تأويله إلا ببيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن منه ما لا يعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 تأويله إلا الله الواحد القهار، وأن منه مايعلم تأويله كل ذى علم باللسان الذي نزل به القرآن. ثم يذكر أبو جعفر بعد هذا بعض الأخبار التي رويت بالنهى عن القول في تأويل القرآن بالرأى، ويعقب عليها " ص 77: 79 " وبعده نجد " ذكر الأخبار التي رويت في الحض على العلم بتفسير القرآن ومن كان يفسره من الصحابة " ... " ص 80 ". ثم نجد " ذكر الأخبار عن بعض السلف، فيمن كان من قدماء المفسرين محموداً علمه بالتفسير، ومن كان منهم مذموماً علمه به " " ص 90 " وبعد الأخبار نجد ما يأتى: قال أبو جعفر: قد قلنا فيما مضى من كتابنا هذا في وجوه تأويل القرآن، وأن تأويل جميع القرآن على أوجه ثلاثة: أحدها لا سبيل إلى الوصول إليه، وهو الذي استأثر الله بعلمه، وحجب علمه عن جميع خلقه، وهو أوقاتُ ما كان من آجال الأمور الحادثة، التي أخبر الله في كتابه أنها كائنة، مثل: وقت قيام الساعة، ووقت نزول عيسى ابن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، والنفخ في الصور، وما أشبه ذلك. والوجه الثاني: ما خص الله بعلم تأويله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون سائر أمته، وهو ما فيه مما بعباده إلى علم تأويله الحاجة، فلا سبيل لهم إلى علم ذلك إلا ببيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم تأويله. والثالث منها: ما كان علمهُ عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وذلك علم تأويل عربيته وإعرابه، لا يُوصل إلى علم ذلك إلا من قبلهم. فإذا كان ذلك كذلك، فأحق المفسرين بإصابة الحق ـ في تأويل القرآن الذي إلى علم تأويله للعباد السبيلُ ـ أوضحهم حجة فيما تأول وفسر، مما كان تأويله إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون سائر أمته من أخبار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثابته عنه: إما من جهة النقل المستفيض، فيما وُجد فيه من ذلك عنه النقل المستفيض، وإما من جهة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 نقل العدول الأثبات، فيما لم يكن فيه عنه النقل المستفيض، أو من جهة الدلالة المنصوبه على صحته؛ وأصحهم برهاناً ـ فيما ترجم وبين من ذلك ـ ممّا كان مُدركاً علمُه من جهة اللسان: إما بالشواهد من أشعارهم السائرة، وإما من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة، كائناً من كان ذلك المتأول والمفسر، بعد أن لا يكون خارجاً تأويله وتفسيره ما تأول وفسر من ذلك، عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة، والخلف من التابعين وعلماء الأمة ". " ص 92: 93 ". تفسير الطبري لختام فاتحة الكتاب: هذا بعض ما جاء في مقدمته المستفيضة، ولعله يوضح المنهج الذي ارتضاه الطبري لتفسيره. وأضيف هنا شيئاً من هذا التفسير قبل الحديث عنه، وقد يبدو ما أنقله غير مناسب لكثرة صفحاته، غير أنه تفسير آية كريمة واحدة هي الأخيرة من سورة الفاتحة، وما ذكره بعد تفسيرها، وأريد أن يشترك القارئ في الاستنباط حيث يجد نصاً بين يديه، ولهذا أهميته في مجال التفسير المقارن، وما أكثر ما في هذا النص من العلم والنفع! كما رأيت أن أذكر في الحاشية تخريج الأحاديث للشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى، ولكن سأكتفى بالنتائج دون التفصيل حتى لا يزداد المنقول. وإليك ما ذكره الطبري في تفسير قوله تعالى: ... {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} . القول في تأويل قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} : وقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } ، إبانة عن الصراط المستقيم، أي الصراط هو؟ إذ كان كل طريق من طرق الحق صراطاً مستقيماً. فقيل لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 قل يا محمد: أهدنا يا ربنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك، من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين. وذلك نظير ما قال ربنا جلّ ثناؤه في تنزيله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} " سورة النساء: 66: 69 ". قال أبو جعفر: فالذى أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته أن يسألوا ربهم من الهداية للطريق المستقيم، هي الهداية للطريق الذي وصف الله جل ثناؤه صفته. وذلك الطريق، هو طريق الذين وصفهم الله بما وصفهم به في تنزيله، ووعد من سلكه فاستقام فيه طائعاً لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أن يورده مواردهم، والله لا يخلف الميعاد. وبنحو ما قلنا في ذلك رُوى الخبر عن ابن عباس وغيره: 188 ـ حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } يقول: طريق من أنعمت عليهم بطاعتك وعبادتك من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين أطاعوك وعبدوك (1) . 189 ـ حدثنى أحمد بن حازم الغفارى، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن أبى جعفر، عن ربيع: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} ، قال: النبيون (2) . 190 ـ   (1) ضعبف الإسناد. (2) أبوجعفر هو الرازى التميمى: ثقة، تكلم فيه بعضهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 حدثنى القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: {أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} قال: المؤمنين (1) . 191 ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: قال وكيع: ... {أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} ، المسلمين. 192 ـ حدثنى يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد في قوله {صرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } ، قال: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن معه (2) . قال أبو جعفر: وفى هذه الآية دليل واضح على أن طاعة الله جل ثناؤه، لا ينالها المطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم، وتوفيقه إياهم لها. أوَلا يسمعونه يقول: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} ، فأضاف كل ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم؟ فإن قال قائل: وأين تمام هذا الخبر؟ وقد علمت أن قول القائل لآخر: { ... أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} مقتض الخبر عما أنعم به عليه، فأين ذلك الخبر في قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } ؟ وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم؟ قيل له: قد قدمنا البيان ـ فيما مضى من كتابنا هذا ـ عن اجتزاء العرب في منطقها ببعض من بعض، إذا كان البعض الظاهر دالاً على البعض الباطن وكافياً منه. فقوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } من ذلك. لأن أمرَ الله جل   (1) هذا الخبر منقطع بين ابن جريج وابن عباس. (2) عبد الرحمن بن زيد: متأخر من أتباع التابعين، وهو ضعيف جداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ثناؤه عباده بمسألته المعونة، وطلبهم منه الهداية للصراط المستقيم، لما كان متقدماً قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } ... ، الذي هو إبانه عن الصراط المستقيم وإبدال منه ـ كان معلوماً أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمرنا بمسألته الهداية لطريقهم، هو المنهاج القويم والصراط المستقيم، الذي قد قدمنا البيان عن تأويله آنفاً. فكان ظاهرُ ما ظهر من ذلك ـ مع قرب تجاور الكلمتين ـ مغنياً عن تكراره. كما قال نابغة بنى ذبيان: كأنك من جمال بنى أُقْيشٍ ... يُقَعْقَعُ خلف رِجْليه بِشَن يريد: كأنك من جمال أقيش، جمل يقعقع خلف رجليه بشن، فاكتفى بما ظهر من ذكر " الجمال " الدال على المحذوف، من إظهار ما حذف. وكما قال الفرزدق بن غالب: ترى أرباقَهُمْ مُتقَلدِيها إذا صَدِى الحديدُ عَلَى الكُمَاةِ يريد: متقلديها هم، فحذف " هم "، إذ كان الظاهر من قوله أرباقهم، دالاً عليها. والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى. فكذلك ذلك في قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } . ****** القول في تأويل قوله: {غَيرِ المَغضُوبِ عَليهِمْ} : قال أبو جعفر: والقراءة مجمعة على قراءة " غير " بجر الراء منها والخفض يأتيها من وجهين: أحدهما: أن يكون " غير " صفة لـ " الذين " ونعتاً لهم فتخفضها. إذ كان ... " الذين " خفضاً، وهى لهم نعت وصفة. وإنما جاز أن يكون " غير " نعتاً لـ ... " الذين "، و" الذين "، معرفة و" غير " نكرة، لأن " الذين " بصلتها ليست بالمعرفة الموقته كالأسماء التي هي أماراتّ بين الناس، مثل زيد وعمرو وما أشبه ذلك، وإنما هي كالنكرات المجهولات، مثل الرجل والبعير وما أشبه ذلك. فلما كان " الذين " كذلك صفتها، وكانت " غير " مضافة إلى مجهول من الأسماء، نظير " الذين "، في أنه معرفة غير مؤقته، كما " الذين " معرفة غيرمؤقتة ـ جاز من أجل ذلك أن يكون {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ... نعتاً لـ { الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} كما يقال: " لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل "، يراد: لا أجلس إلا إلى من يعلم، لا إلى من يجهل. ولو كان {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} معرفة موقتة، كان غير جائز أن يكون {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} لها نعتاً. وذلك أنه خطأ في كلام العرب ـ إذا وصفت معرفة موقتة بنكرة ـ أن تلزم نعتها النكرة إعراب المعرفة المنعوت بها، إلا على نية تكرير ما أعرب المنعوت بها. خطأ في كلامهم أن يقال: " مررت بعبد الله غير العالم "، فتخفض " غير " إلا على نية تكرير الباء التي أعربت عبد الله. فكان معنى ذلك لو قيل كذلك: مررت بعبد الله، مررت بغير العالم. فهذا أحد وجهى الخفض في {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} . والوجه الآخر من وجهى الخفض فيها: أن يكون " الذين " بمعنى المعرفة الموقتة، وإذا وُجِّه إلى ذلك، كانت " غير " مخفوضةٌ بنية تكرير " الصراط " الذي خُفض " الذين " عليها، فكأنك قلت: صراط الذين أنعمت عليهم، صراط غير المغضوب عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وهذان التأويلان في {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، وإن اختلفا في اختلاف معربيهما، فإنهما يتقارب معناهما. من أجل أن من أنعم الله عليه فهداه بدينه الحق، فقد سلم من غضب ربه، ونجا من الضلال في دينه. فسواء ـ إذ كان سبب قوله {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} غير جائز أن يرتاب، مع سماعه ذلك من تاليه، في أن الذين أنعم الله عليهم بالهداية للصراط غير غاضب ربهم عليهم، مع النعمة التي قد عظمت منته بها عليهم في دينهم؛ ولا أن يكونوا ضلآلا، وقد هداهم الحق ربهم. إذ كان مستحيلا في فطرهم اجتماع الرضا من الله جل ثناؤه عن شخص والغضب عليه في حال واحدة، واجتماع الهدى والضلال له في وقت واحد ـ أًوُصِفَ القوم؛ مع وصف الله إياهم بما وصفهم به من توفيقه إياهم وهدايته لهم، وإنعامه عليهم بما أنعم الله به عليهم في دينهم، بأنهم غير مغضوب عليهم ولا هم ضالون؛ أم لم يوصفوا بذلك. لأن الصفة الظاهرة التي وصفوا بها، قد أنبأت عنهم أنهم كذلك، وإن لم يصرح وصفهم به. هذا، إذا وجهنا {غَيرِ} إلى أنها مخفوضة على نية تكرير {الصِّرَاطَ} الخافض {الَّذِينَ} ، ولم نجعل {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} من صفة {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} ، بل إذا جعلناهم غيرهم. وإن كان الفريقان لا شك منعماً عليهما في أديانهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 فأما إذا وجهنا {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ... } إلى أنها من نعت، {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم} ، فلا حاجة بسامعه إلى الاستدلال، إذ كان الصريح من معناه قد أغنى عن الدليل. وقد يجوز نصب {غَيرِ} في {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، وإن كنت للقراءة بها كارهاً لشذوذها عن قراءة القراء. وإن ما شذ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلا ظاهراً مستفيضاً، فرأى للحق مخالف، وعن سبيل الله وسبيل رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسبيل المسلمين متجانف. وإن كان له ـ لو كان جائزاً القراءة به ـ في الصواب مخرج. وتأويل وجه صوابه إذا نصبت: أن يوجه إلى أن يكون صفة للهاء والميم اللتين في {عَلَيهِمْ} ، العائدة على {الَّذِينَ} . لأنها وإن كانت مخفوضة بـ {عَلَي} فهى في محل نصب بقوله { ... أَنعَمتَ} . فكان تأويل الكلام ـ إذا نصبت {غَيرِ} التي مع {المغضُوبِ عَلَيهِمْ} ـ: صراط الذين هديتهم إنعاما منك عليهم، غير مغضوب عليهم، أي لا مغضوبا عليهم ولا ضالين. فيكون النصب في ذلك حينئذ، كالنصب في {غَيرِ} في قولك: مررت بعبد الله غير الكريم ولا الرشيد، فتقطع " غير الكريم " من " عبد الله "، إذ كان " عبد الله " معرفة موقتة، و" غير الكريم " نكرة مجهولة. وقد كان بعض نحويى البصريين يزعم أن قراءة من نصب {غَيرِ} في {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، على وجه استثناء {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 معاني صفة {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } ، كأنه كان يرى أن معنى الذين قرأوا ذلك نصباً: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } إلا المغضوبَ عليهم ـ الذين لم تنعم عليهم في أديانهم ولم تهدهم للحق ـ فلا تجعلنا منهم. وكما قال نابعة بنى ذبيان: وقفت فيها أصيلا لا أسائلها ... عيت جواباً، وما بالربع من أحد إلا أوارى لأياً ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد والأوارى معلوم أنها ليست من عداد " أحد " في شىء. فكذلك عنده، استثنى {غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِمْ} من {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ... } ، وإن لم يكونوا من معانيهم في الدين في شىء. وأما نحويو الكوفيين، فأنكروا هذا التأويل واستخفوه. وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة، لكان خطأ أن يقال {وَلاَ الضَّالِّينَ} ، لأن " لا " نفى وجحد، ولا يعطف بجحد إلا على جحد. وقالوا: لم نجد في شىء من كلام العرب استثناء يعطف عليه بجحد، وإنما وجدناهم يعطفون على الاستثناء بالاستثناء وبالجحد على الجحد، فيقولون في الاستثناء: قام القوم إلا أخاك وإلا أباك. وفى الجحد: ما قام أخوك ولا أبوك. وأما: قام القوم إلا أباك ولا أخاك. فلم نجده في كلام العرب. قالوا: فلما كان ذلك معدوماً من كلام العرب، وكان القرآن بأفصح لسان العرب نزوله، علمنا ـ إذ كان قوله {وَلاَ الضَّالِّينَ} معطوفا على قوله {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ـ أن {غَيرِ} بمعنى الجحد لا بمعنى الاستثناء، وأن تأويل من وجهها إلى الاستثناء خطأ. فهذه أوجه تأويل {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، باختلاف أوجه إعراب ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وإنما اعترضنا بما اعترضنا في ذلك من بيان وجه إعرابه ـ وإن كان قصدنا في هذا الكتاب الكشف عن تأويل أي القرآن لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله، فاضطرتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه، لتنكشف لطالب تأويله وجوه تأويله، على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته. والصواب من القول في تأويله وقراءته عندنا، القول الأول، وهو قراءة {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} بخفض الراء من {غَيرِ} ، بتأويل أنها صفة لـ {الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} ونعت لهم ـ لما قدمنا من البيان ـ إن شئت، وإن شئت فبتأويل تكرير {صِرَاطَ} كل ذلك صواب حسن. فإن قال قائل: فمن هؤلاء المغضوب عليهم، الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم؟ قيل: هم الذين وصفهم الله جل ثناؤه في تنزيله فقال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} " سورة المائدة: ستين ". فأعلمنا جل ذكره ثمة، ما أحل بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه. ثم علمنا، منة منه علينا، وجه السبيل إلى النجاة من أن يحل بنا مثل الذي حل بهم من المثلات، ورأفة منه بنا. فإن قال: وما الدليل على أنهم أولاء الذين وصفهم الله وذكر نبأهم في تنزيله، على ما وصفت؟ قيل: 193 ـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 حدثنى أحمد بن الوليد الرملى، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الرقى، قال: حدثنا سفيان بن عيينه، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن عدى ابن حاتم، قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المغضوب عليهم، اليهود (1) . 194 ـ حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عباد بن حبيش يحدث، عن عدى بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن المغضوب عليهم اليهود (2) . 195 ـ حدثنى على بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد ابن مصعب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مرى ابن قطرى، عن عدى بن حاتم، قال: سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قول الله عز وجل {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} قال: هم اليهود (3) . 196 ـ حدثنا حميد بن مسعدة السامى، قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا الجريرى، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محاصر وادى القرى، فقال: من هؤلاء الذين تحاصر يا رسول الله؟ قال: هؤلاء المغضوب عليهم اليهود (4) . 197 ـ حدثنى يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد الجريرى، عن عروة، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر نحوه. 198 ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن بديل العقيلى، قال: أخبرنى عبد الله بن شقيق: أنه أخبره من سمع   (1) إسناده صحيح. (2) إسناده صحيح. (3) صحيح الإسناد. (4) هذا الإسناد مرسل، وسيأتى مرسلاً أيضاً 197، 199، ولكنه سيأتى موصولاً 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وهو بوادى القرى، وهو على فرسه، وسأله رجل من بنى القين فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟ ـ قال: المغضوب عليهم. وأشار إلى ... اليهود (1) . 199 ـ حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال حدثنا خالد الواسطى، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر نحوه. 200 ـ حدثنا أبو كريب، قال حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " غير المغضوب عليهم " يعنى اليهود الذين غضب الله عليهم (2) . 201 ـ حدثنى موسى بن هرون الهمدانى، قال: حدثنا عمرو بن طلحة، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدى في خبر ذكره، عن أبى مالك وعن أبى صالح عن ابن عباس ـ وعن مرة الهمدانى عن ابن مسعود ـ وعن ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، اليهود. 202 ـ حدثنا ابن حميد الرازى، قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد، قال: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ ... } ، قال: هم اليهود. 203 ـ حدثنا أحمد بن حازم الغفارى، قال: حدثنا عبد الله، عن أبى جعفر، عن ربيع: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، قال: اليهود. 204 ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين: قال: حدثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} قال: اليهود.   (1) إسناد صحيح، وسيأتى تفسير " الضالين" بهذه الأسانيد 210، 211، 212، 213. (2) لم يخرجوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 205 ـ حدثنى يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن ... زيد: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ} ، اليهود. 206 ـ حدثنى يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنى ابن زيد عن أبيه، قال: المغضوب عليهم اليهود. قال أبو جعفر: واختلف في صفة الغضب من الله جل ذكره: فقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من خلقه، إحلال عقوبته بمن غضب عليه، إما في دنياه وإما في آخرته، كما وصف به نفسه جل ذكره في كتابه فقال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ... } " سورة الزخرف: 55 ". وكما قال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} " سورة المائدة: 60 ". وقال بعضهم: غضب الله على من غضب عليه من عباده، ذم منه لهم ولأفعالهم، وشتم لهم منه بالقول. وقال بعضهم: الغضب منه معنى مفهوم كالذي يعرف من معاني الغضب، غير أنه ـ وإن كان كذلك من جهة الإثبات ـ فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم. لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات، ولكنه له صفة، كما العلم له صفة، والقدرة له صفة، على ما يعقل من جهة الإثبات، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد، التي معارف القلوب، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها. القول في تأويل قوله: {وَلاَ الضَّالِّينَ} : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 قال أبو جعفر: كان بعض أهل البصرة يزعم أن: " لا " مع " الضالين " أدخلت تتميما للكلام، والمعنى إلغاؤها، ويستشهد على قيله ذلك ببيت العجاج: ما كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فعلَهُمُ ... وَالطيبَان أبو بَكْرِ وَلا عُمَرُ فجاز ذلك، إذ كان قد تقدم الجحد في أول الكلام. قال أبو جعفر: وهذا القول الآخر أولى بالصواب من الأول، إذ كان غير موجود في كلام العرب ابتداء الكلام من غير جحد تقدمه بـ " لا " التي معناها الحذف، ولا جائز العطف بها على " سوى " ولا على حرف الاستثناء. وإنما لـ " غير " في كلام العرب معان ثلاثة، أحدهما: الاستثناء، والآخر: الجحد، والثالث: سوى. فإذا ثبت خطأ أن تكون " لا " بمعنى الإلغاء مبتدأ، وفسد أن يكون عطفا على " غير " التي مع " المغضوب عليهم " لو كانت بمعنى " إلا " التي هي استثناء، ولم يجز أيضا أن يكون عطفا عليها لو كانت بمعنى " سوى "، وكانت " لا " موجودة عطفا بالواو التي هي عاطفة لها على ما قبلها ـ صح وثبت أن لا وجه لـ " غير " التي مع " المغضوب عليهم "، يجوز توجيهها إليه على صحة، إلا بمعنى الجحد والنفى، وأن لا وجه لقوله " ولا الضالين " إلا العطف على " غير المغضوب عليهم ". فتأويل الكلام إذا ـ إذ كان صحيحا ما قلنا بالذى عليه استشهدنا ـ اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، لا المغضوب عليهم ولا الضالين. فإن قال لنا قائل: ومن هؤلاء الضالون الذين أمرنا الله بالاستعاذة بالله أن يسلك بنا سبيلهم ونضل ضلالهم؟ قيل: هم الذين وصفهم الله في تنزيله فقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} " سورة المائدة: 77 ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 فإن قال: وما برهانك على أنهم أولاء؟ قيل: 207 ـ حدثنا أحمد بن الوليد الرملى، قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن عدى بن حاتم، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ولا الضالين "، قال: النصارى (1) . 208 ـ حدثنا محمد بن المثنى، أنبأنا محمد بن جعفر، أنبأنا شعبة، عن سماك، قال: سمعت عباد بن حبيش يحدث، عن عدى بن حاتم، قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الضالين النصارى. 209 ـ حدثنى على بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن، قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن مرى بن قطرى، عن عدى بن حاتم، قال: سألت النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قول الله: {وَلاَ الضَّالِّينَ} ، قال: النصارى هم الضالون. 210 ـ حدثنا حميد بن مسعدة السامى، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا الجريرى، عن عبد الله بن شقيق أن رجلا أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محاصر وادى القرى، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الضالون، النصارى. 211 ـ حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد بن الجريرى، عن عروة ـ يعنى ابن عبد الله بن قيس، عن عبد الله بن شقيق، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بنحوه (2) .   (1) هذه الأحاديث والأخبار والآثار 207 ـ 220، في تفسير " الضالين "، سبقت أوائلها في تفسير " المغضوب عليهم "، مع تخريجها، في الأرقام 193 ـ 206، مع شئ من التقديم والتأخير. (2) الحديث 211 ـ سبق هذا الإسناد 197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 212 ـ حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن بديل العقيلى، قال: أخبرنى عبد الله بن شقيق: أنه أخبره من سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وهو بوادى القرى، وهو على فرسه، وسأله رجل من بنى القين، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء؟ ـ قال: هؤلاء الضالون، يعنى النصارى. 213ـ حدثنا القاسم، قال حدثنا الحسين، قال: حدثنا خالد الواسطى، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق: أن رجلا سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محاصر وادى القرى، وهو على فرس: من هؤلاء؟ قال: الضالون. يعنى النصارى. 214 ـ حدثنا محمد بن حميد: قال: حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: " ولا الضالين " قال: النصارى. 215 ـ حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عُمارة قال: حدثنا أبو رَوْق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " ولا الضالين " قال: وغير طريق النصارى الذين أضلهم الله بِفِرْيَتهمْ عليه. قال: يقول: فألهِمنا دينك الحق، وهو لا إله إلا الله وحده لا شريك له، حتى لا تغضب علينا كما غضبت على اليهود، ولا تضلنا كما أضللت النصارى، فتعذبنا بما تعذبهم به. يقول: امنعنا من ذلك برفقك ورحمتك وقدرتك. 216 ـ حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنى حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الضالين، النصارى. 217 ـ حدثنى موسى بن هرون الهمذانى، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السدّىّ في خبر ذكره عن أبى مالك، وعن أبى صالح، عن ابن عباس ـ وعن مرة الهمذانى، عن ابن مسعود ـ وعن ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ولا الضالين "، هم النصارى. 218 ـ حدثنى أحمد بن حازم الغفارى، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، عن أبى جعفر، عن ربيع: " ولا الضالين "، النصارى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 219 ـ حدثنى يونس بن عبد الأعلى، قال: اخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: " ولا الضالين "، النصارى. 220 ـ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، قال: الضالين، النصارى. ***** قال أبو جعفر: فكلّ حائد عن قصد السبيل، وسالك غير المنهج. القويم، فضالٌ عند العرب لإضلاله وجه الطريق. فلذلك سمى الله جل ذكره النصارى ضُلالاً. لخطئهم في الحق منهج السبيل. وأخذهم من الدين في غير الطريق المستقيم. فإن قال قائل: أو ليس ذلك أيضاً من صفة اليهود؟ قيل: بلى. فإن قال: كيف خصَّ النصارى بهذه الصفة، وخصَّ اليهود بما وصفهم به من أنهم مغضوب عليهم؟ قيل: كلا الفريقين ضلاّل مغضوبٌ عليهم، غيَر أن الله جل ثناؤه وسَم كل فريق منهم من صفته لعباده بما يعرفونه به، إذا ذكرهُ لهم أو أخبرهم عنه. ولم يسم ِّواحداً من الفريقين إلا بما هو له صفةٌ على حقيقته، وإن كان له من صفات الذم زيادات عليه. فيظن بعض أهل الغباء من القدرية أن في وصف الله جل ثناؤه النصارى بالضلال، بقوله " ولا الضالين "، وإضافته الضلال إليهم دون إضافة إضلالهم إلى نفسه، وتركه وصفهم بأنهم المضللون، كالذي وصف به اليهود أنهم المغضوب عليهم ـ دلالة على صحة ما قاله إخوانه من جهلة القدرية، جهلاً منه لسعة كلام العرب وتصاريف وجوهه. ولو كان الأمر على ما ظنّه الغبي الذي وصفنا شأنه، لوجب أن يكونَ شأنُ كل موصوفٍ بصفةٍ أو مضاف إليه فعل، لا يجوز أن يكون فيه سبب لغيره، وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 يكون كل ما كان فيه من ذلك لغيره سبب، فالحق فيه أن يكون مضافاً إلى مسببه. ولو وجب ذلك، لوجب أن يكون خطأ قول القائل: " تحركت الشجرة "، إذْ حَّركتها الريح؛ و" اضطربت الأرض "، إذ حركتها الزلزلة، وما أشبه ذلك من الكلام الذي يطول بإحصائه الكلام. وفى قول الله جل ثناؤه: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ... } ... " سورة يونس: 22 " بإضافته الجرى إلى الفلك، وإن كان جريها بإجراء غيرها إياها ـ ما دل على خطأ التأويل الذي تأوله من وصفنا قوله في قوله " ولا الضالين"، وادعائه أن في نسبة الله جل ثناؤه الضلالة إلى من نسبها إليه من النصارى، تصحيحاً لما ادعى المنكرون: أن يكون لله جل ثناؤه في أفعال خلقه سبب من أجله وجدت أفعالهم، مع إبانة الله عز ذكره نصاً في أي كثيرة من تنزيله، أنه المضل الهادي، فمن ذلك قوله جل ثناؤه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ... } " سورة الجاثية: 23 ". فأنبأ جل ذكره أنه المضل الهادي دون غيره. ولكن القرآن نزل بلسان العرب على ما قدمنا البيان عنه في أول الكتاب، ومن شأن العرب إضافة الفعل إلى من وجد منه ـ وإن كان مسببه غير الذي وجد منه ـ أحياناً، وأحياناً إلى مسببه، وإن كان الذي وجد منه الفعل غيره. فكيف بالفعل الذي يكتسبه العبد كسباً، ويوجده الله جل ثناؤه عيناً منشأة؟ بل ذلك أحرى أن يضاف إلى مكتسبه؛ كسباً له، بالقوة منه عليه، والاختيار منه له ـ وإلى الله جل ثناؤه، بإيجاد عينه وإنشائها تدبيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 مسألة يسأل عنها أهل الإلحاد الطاعنون في القرآن: إن سألنا منهم سائل فقال: إنك قد قدمت في أول كتابك هذا في وصف البيان: بأن أعلاه درجة وأشرفه مرتبة، أبلغه في الإبانة عن حاجة المبين به عن نفسه، وأبينه عن مراد قائله، كلام الله جل ثناؤه، لفضله على سائر الكلام بارتفاع درجته على أعلى درجات البيان، فما الوجه ـ إذ كان الأمر على ما وصفت ـ في إطالة الكلام بمثل سورة أم القرآن بسبع آيات؟ وقد حوت معاني جميعها منها آيتان، وذلك قوله {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، إذ كان لا شك أن من عرف ملك يوم الدين، فقد عرفه بأسمائه الحسنى وصفاته المثلى. وأن من كان لله مطيعاً، فلا شك أنه لسبيل من أنعم الله عليه في دينه متبع، وعن سبيل من غضب عليه وضل منعدل. فما في زيادة الآيات الخمس الباقية من الحكمة التي لم تحوها الآيتان اللتان ذكرنا؟ قيل له: إن الله تعالى ذكره جمع لنبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأمته ـ بما أنزل إليه من كتابه ـ معاني لم يجمعهن بكتاب أنزله إلى نبي قبله، ولا لأمة من الأمم قبلهم. وذلك أن كل كتاب أنزله جل ذكره على نبي من أنبيائه قبله، فإنما أنزله ببعض المعاني التي يحوى جميعها كتابه الذي أنزله على نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كالتوراة التي هي مواعظ وتفصيل، والزبور الذي هو تحميد وتمجيد، والإنجيل الذي هو مواعظ وتذكير ـ لا معجزة في واحد منها تشهد لمن أنزل إليه بالتصديق. والكتاب الذي أنزل على نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحوى معاني ذلك كله، ويزيد عليه كثيراً من المعاني التي سائر الكتب غيره منها خال. وقد قدمنا ذكرها فيما مضى من هذا الكتاب. ومن أشرف تلك المعاني التي فضل بها كتابنا سائر الكتب قبله، نظمه العجيب ورصفه الغريب وتأليفه البديع؛ الذي عجزت عن نظم مثل أصغر سورة منه الخطباء، وكلت عن وصف شكل بعضه البلغاء، وتحيرت في تأليفه الشعراء، وتبلدت كسوراً عن أن تأتى بمثله ـ لديه أفهام الفهماء، فلم يجدوا له إلا التسليم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 والإقرار بأنه من عند الواحد القهار. مع ما يحوى، مع ذلك، من المعاني التي هي ترغيب وترهيب. وأمرٌ وزجرٌ، وقصص وجدل ومثل، وما أشبه ذلك من المعاني التي لم تجتمع في كتاب أنزل إلى الأرض من السماء. فمهما يكن فيه من إطالة، على نحو ما في أم القرآن، فلما وصفت قبل من أن الله جل ذكره أراد أن يجمع ـ برصفه العجيب ونظمه الغريب، المنعدل عن أوزان الأشعار وسجع الكهان وخطب الخطباء ورسائل البلغاء، العاجز عن رصف مثله جميع الأنام، وعن نظم نظيره كل العباد ـ الدلاله على نبوة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبما فيه من تحميد وتمجيد وثناء عليه ـ تنبيه العباد على عظمته وسلطانه وقدرته وعظم مملكته، ليذكروه بآلائه، ويحمدوه على نعمائه، فيستحقوا به منه المزيد، ويستوجبوا عليه الثواب الجزيل؛ وبما فيه من نعت من أنعم عليه بمعرفته، وتفضل عليه بتوفيقه لطاعته ـ تعريف عباده أن كل ما بهم من نعمة، في دينهم ودنياهم، فمنه، ليصرفوا رغبتهم إليه، ويبتغوا حاجاتهم من عنده دون ما سواه من الآلهة والأمداد؛ وبما فيه من ذكره ما أحل بمن عصاه من مَثُلاته، وأنزل بمن خالف أمره من عقوبته ـ ترهيب عباده عن ركوب معاصيه، والتعرض لما لا قبل لهم به من سخطه، فيسلك بهم في النكال والنقمات سبيل من ركب ذلك من الهُلاك. فذلك وجه إطالة البيان في سورة أم القرآن، وفيما كان نظيراً لها من سائر سور الفرقان. وذلك هو الحكمة البالغة والحجة الكاملة. 221ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربى، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثنى العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبى السائب مولى زهره، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا قال العبد: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، قال الله: " حمدنى عبدى ". وإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... } ، قال: " أثنى علىّ عبدى ". وإذا قال: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، قال: " مجدنى عبدى. فهذا لي " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ... } إلى أن يختم السورة، قال: " فذاك له " (1) . 222 ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبدة، عن ابن اسحق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبى السائب، عن أبى هريرة ن قال: إذا قال العبد: " الحمد لله "، فذكر نحوه، ولم يرفعه (2) . 223 ـ حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثنا الوليد بن كثير، قال: حدثنى العلاء بن عبد الرحمن مولى الحُرقة عن أبى السائب، عن أبى هريرة، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله (3) . 224 ـ حدثنى صالح بن مسمار المروزى، قال: حدثنا زيد بن الحُباب، قال: حدثنا عنبسة بن سعيد، عن مطرف بن طريف، عن سعد بن إسحق بن كعب بن عجرة، عن جابر بن عبد الله الأنصارى، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال الله عزوجل: " قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين، وله ما سأل ". فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: " حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ... } ، قال: " أثنى على عبدي " وإذا قال: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: " مجدني عبدي " قال: " هذا لي، وله ما بقى " (4) . " آخر تفسير سورة فاتحة الكتاب "   (1) صحيح الإسناد. (2) و (3) صحيح الإسناد، وهذا الحديث ـ بإسناديه الموقوفين ـ مرفوع حكماً. (3) صحيح الإسناد. (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 مدى التزام الطبري بمنهجه: هذا هو تفسير الطبري للآية الأخيرة من سورة الفاتحة، وذكرنا من قبل بعض ما جاء في المقدمة عن المنهج الذي ارتضاه لتفسيره، وخلاصة هذا المنهج هو ما يأتى: أولاً: الاستيعاب لكل ما بالناس إليه الحاجة بحيث يكون كتابه في التفسير جامعاً يكفى عن سائر الكتب غيره. ثانياً: نقل ما اتفق عليه المفسرون، وما اختلفوا فيه، وبيان علل كل مذهب من مذاهبهم، وتوضيح ما صح لديه من ذلك. ثالثاً: ذكر الطبري أن تأويل جميع القرآن على أوجه ثلاثة: أحدها: لا سبيل إلى الوصول إليه. الوجه الثاني: لا يعلم إلا ببيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثالث: ما كان علمه عند أهل اللسان. والوجه الأول يدخل في نهى الطبري عن القول في تأويل القرآن بالرأى. والوجه الثاني يعتمد فيه على صحة النقل. والوجه الثالث: يعتمد فيه على الشواهد من أشعار العرب السائرة، ومنطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة، ويضع الطبري هنا قيداً له أهميته وهو ألا يخرج التأويل عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة، والخلف من التابعين وعلماء الأمة. هذا هو المنهج الذي رأى الطبري الأخذ به لتأليف كتابه في التفسير، فإلى أي مدى التزم بهذا المنهج؟ إذا نظرنا لتفسيره لختام فاتحة الكتاب نراه قسم الآية الكريمة ثلاثة أجزاء، وفى كل جزء يسترشد بكتاب الله تعالى لتوضيح المعنى، فالقرآن الكريم يفسر بعضه بعضاً، ثم يسهب في ذكر الأخبار المسندة التي تؤيد هذا المعنى، وهذه سمة غالبة في تفسيره كله. ومن الإشارة إلى تخريج الأخبار وجدنا منها الصحيح وغير الصحيح. والطبرى عند اختلاف أهل التأويل نراه غالباً يختار ويرجح، ويصحح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ويضعف: مثال هذا ما نقلته من تفسيره في الباب الأول عند الحديث عن الغدير، فتعقيباً على الروايات التي ذكرت في تفسيره لقوله تعالى { ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ... } قال الطبري: " وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روى عن عمر بن الخطاب: أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده، ووهى أسانيد غيره " (1) . ونذكر مثلا آخر يبين هذا المنهج؛ ونراه عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (2) . حيث فسر الآية الكريمة، وقال: " وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل". ثم قال: " ثم اختلفوا في مدة الحين الذي ذكره الله في هذا الموضع: ما هي؟ وما نهايتها؟ ". وذكر الأقوال المختلفة، ثم عقب بقوله: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أعلم المشركين المكذبين بهذا القرآن أنهم يعلمون نبأه بعد حين من غير حد منه لذلك الحين بحد، وقد علم نبأه من أحيائهم الذين عاشوا إلى ظهور حقيقته، ووضوح صحته في الدنيا، ومنهم من علم حقيقته ذلك بهلاكه ببدر، وقبل ذلك، ولا حد عند العرب للحين، لا يجاوز ولا يقصر عنه.   (1) انظر تفسير الطبري للآية الثالثة من سورة المائدة في كتابه بتحقيق شاكر 9/517ـ531، وراجع ما كتبته عن الغدير في الفصل الثاني من الباب الأول، وعبارة الطبري تجدها في ص 104. (2) الآية 88 من سورة ص، وراجع تفسيرها في كتابه 23 / 188 ـ 189 وانظر أيضاً تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ ... } " 51: سبأ " فقد ذكر الأخبار المختلفة، ثم رجح الصحيح منها ـ انظر 22 / 106 ـ 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 فإذ كان ذلك كذلك فلا قول فيه أصح من أن يطلق كما أطلقه الله من غير حصر ذلك على وقت دون وقت. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ". وأيد ما ذهب إليه بخبر عن عكرمة. ومع هذا نرى الطبري أحيانا يأخذ بأخبار غير صحيحة، ونرى هذا مثلا عند تفسير قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (1) ، ولهذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية الكريمة: " ذكر ابن أبى حاتم وابن جرير ههنا آثارا. عن بعض السلف ـ رضي الله عنهم ـ أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحتها، فلا نوردها " (2) . وأخذ الطبري بمثل هذه الأخبار لا يمثل المنهج الذي ارتضاه لنفسه، وإنما يشير إلى الخطأ عند التطبيق. ولقد حاول الطبري أن يلتزم بمنهجه، ومما يبين حرصه على الالتزام بالمنهج ما ذكره عند القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ... } ... " 35: البقرة "، حيث قال: " اختلف أهل التأويل في عين الشجرة التي نهى عن أكل ثمرها آدم، فقال بعضهم: هي السنبلة. ذكر من قال ذلك " (3) . وذكر الطبري اثنى عشر خبرا، ثم قال: " وقال آخرون: هي الكرمة. ذكر من قال ذلك ". وذكر عشرة أخبار، وقال: "   (1) 37: الأحزاب. (2) تفسير ابن كثير 3 / 491. (3) تفسير الطبري بتحقيق شاكر 1 / 516، وانظره إلى ص 521. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 وقال آخرون هي التينة. ذكر من قال ذلك ". وذكر خبرا واحدا، ثم عقب بقوله: " والقول في ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبر عباده أن آدم وزوجه أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عن الأكل منها، فأتيا الخطيئة التي نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها، بعد أن بين الله جل ثناؤه لهما عين الشجرة التي نهاهما عن الأكل منها، وأشار لهما إليها بقوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} ، ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطبين بالقرآن، دلالةً على أي أشجار الجنة كان نهيه آدم أن يقربها، بنص عليها باسمها، ولا بدلالة عليها. ولو كان لله في العلم بأى ذلك من أي رضا، لم يخل عباده من نصب دلالة لهم عليها يصلون بها إلى معرفة عينها، ليطيعوه بعلمهم بها، كما فعل ذلك في كل ما بالعلم به له رضا. فالصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها كما وصفهما الله جل ثناؤه به ولا علم عندنا بأى شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن، ولا في السنة الصحيحة. فأنى يأتى ذلك؟ وقد قيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم، إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به " ا. هـ. هذا كلام الطبري وهو يؤكد ما ذكره في منهجه. وهذا يتصل بوجهين من أوجه التأويل الثلاثة التي ذكرها، وهما: الوجه الأول: الذي لا سبيل إلى الوصول إليه. والثاني: الذي لا يعلم إلا ببيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أما الوجه الثالث، وهو ما كان علمه عند أهل اللسان، فيتضح في تفسيره السابق للآية الأخيرة من فاتحة الكتاب عندما تحدث عما يتصل بمحذوف وهو تمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 الخبر عن النعمة التي أنعمها عليهم، حيث أشار إلى اجتزاء العرب في منطقها ببعض من بعض، واستدل ببيتين، ثم قال: والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى. ويتضح أيضاً في بيانه لقراءة " غير "، وذكره للخلاف بين أهل البصرة وبعض نحويى الكوفة في القول بإلغاء " لا ". ومما يسترعى الانتباه أنه بعد أن ذكر جواز نصب كلمة " غير "، رفض القراءة بالنصب قائلا: " وإن كنت للقراءة بها كارها لشذوذها عن قراءة القراء. وإن ما شذ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلا ظاهرا مستفيضا، فرأى للحق مخالف، وعن سبيل الله وسبيل رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متجانف. وإن كان له ـ لو كان جائزا القراءة به ـ في الصواب مخرج ´ وقول الطبري يؤيد التزامه بالقيد الذي ذكره في هذا الوجه الثالث، حيث اشترط لقبول التأويل ألا يخرج عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة، والخلف من التابعين وعلماء الأمة. ويؤيد هذا أيضا قوله في تأويل قول الله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (1) . حيث قال: قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} يأتيه الرفع من وجهين، والنصب من وجهين. وبعد أن بين الأوجه الأربعة قال: " والقراءة التي هي القراءة، الرفع دون النصب، لأنه ليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين. وإذا قرئ نصبا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم " (2) .   (1) 18: سورة البقرة. (2) تفسير الطبري بتحقيق شاكر 1 / 330. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 ونرى الطبري قبيل الانتهاء من تفسير آخر الفاتحة يرد على القدرية، ثم نراه بعد هذا يقول: " مسألة يسأل عنها أهل الإلحاد الطاعنون في القرآن "، ويذكر المسألة، ويرد على هؤلاء الطاعنين. ويختم الطبري تفسير فاتحة الكتاب بذكر بعض الأخبار في فضلها. وهى أخبار صحيحة الإسناد. ولعل هذا يرينا ما أراده من أن يكون تفسيره مستوعبا لكل ما بالناس إليه الحاجة، جامعا يكفى عن سائر الكتب غيره. ويبين ما نقلناه من قبل في فضل هذا الكتاب القيم، وقيمته العلمية. موقف الطبري من الإسرائيليات: وقبل أن نختم هذه الكلمة الموجزة عن تفسير الطبري نريد أن نعرف موقفه من الإسرائيليات. ولعل أحسن ما نثبته هنا هو ما قاله أستاذنا العلامة الشيخ محمود محمد شاكر- رحمه الله، الذي قضى سنوات من عمره المبارك في تحقيق هذا الكتاب. فبعد أن وصل أستاذنا مع الطبري إلى الآية الثلاثين من سورة البقرة، وانتهى من قول الطبري في تأويل قوله تعالى " خليفة "، والأخبار التي ذكرها في هذا التأويل كتب أستاذنا الكلمة التالية: " تذكرة " تبين لي مما راجعته من كلام الطبري، أن استدلال الطبري بهذه الآثار التي يرويها بأسانيدها، لا يراد به إلا تحقيق معنى لفظ، أو بيان سياق عبارة. فهو قد ساق هنا الآثار التي رواها بإسنادها ليدل على معنى " الخلافة "، و" الخليفة "، وكيف اختلف المفسرون من الأولين في معنى " الخليفة ". وجعل استدلاله بهذه الآثار، كاستدلال المستدل بالشعر على معنى لفظ في كتاب الله. وهذا بين في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 الفقرة التالية للأثر رقم: 605، إذ ذكر ما روى عن ابن مسعود وابن عباس، وما روى عن الحسن في بيان معنى " الخليفة "، واستظهر ما يدل عليه كلام كل منهم. ومن أجل هذا الاستدلال، لم يبال بما في الإسناد من وهن لا يرتضيه. ودليل ذلك أن الطبري نفسه قال في إسناد الأثر: 465 عن ابن مسعود وابن عباس، فيما مضى ص: 353 " فإن كان ذلك صحيحا، ولست أعلمه صحيحا، إذ كنت بإسناده مرتابا ... "، فهو مع ارتيابه في هذا الإسناد، قد ساق الأثر للدلالة على معنى اللفظ وحده، فيما فهمه ابن مسعود وابن عباس ـ إن صح عنهما ـ أو ما فهمه الرواه الأقدمون من معناه. وهذا مذهب لا بأس به في الاستدلال. ومثله أيضا ما يسوقه من الأخبار والآثار التي لا يشك في ضعفها، أو في كونها من الإسرائيليات، فهو لم يسقها لتكون مهيمنة على تفسير أي التنزيل الكريم، بل يسوق الطويل الطويل، لبيان معنى لفظ، أو سياق حادثة، وإن كان الأثر نفسه مما لا تقوم به الحجة في الدين، ولا في التفسير التام لآى كتاب الله. فاستدلال الطبري بما ينكره المنكرون، لم يكن إلا استظهارا للمعانى التي تدل عليها ألفاظ هذا الكتاب الكريم، كما يستظهر بالشعر على معانيها. فهو إذن استدلال يكاد يكون لغويا. ولما لم يكن مستنكرا أن يستدل بالشعر الذي كذب قائله، ما صحت لغته؛ فليس بمستنكر أن تساق الآثار التي يرتضيها أهل الحديث، والتى لا تقوم بها الحجة في الدين، للدلالة على المعنى المفهوم من صريح لفظ القرآن، وكيف فهمه الأوائل ـ سواء كانوا من الصحابة أو من دونهم. وأرجو أن تكون هذه تذكرة تنفع قارىء كتاب الطبري، إذا ما انتهى إلى شىء مما عده أهل علم الحديث من الغريب والمنكر. ولم يقصر أخى السيد أحمد شاكر في بيان درجة رجال الطبري عند أهل العلم بالرجال، وفى هذا مقنع لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 أراد أن يعرف علم الأقدمين على وجهه، والحمد لله أولا وآخرا. " 1 / 453، 454 ". ا. هـ. وفى الآية الكريمة ذاتها عند قول الطبري في تأويل قوله جل ثناؤه خبرا عن ملائكته: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ... } . ذكر الطبري خبراً فيه كثير من الإسرائيليات (1) ، ثم نقده، فعقب أستاذنا بقوله: نقد الطبري دال أيضا على ما ذهبنا إليه من الاستدلال بالآثار كاستدلال المستدل بالشعر. وأنت تراه ينقض هذا الخبر نقضا، ويبين الخطأ في سياقه، وتناقضه في معناه. وهذا بين إن شاء الله (2) . ثم قال الطبري: " وأخشى أن يكون بعض نقلة هذا الخبر هو الذي غلط على من رواه عنه من الصحابة " وبين الطبري بعد هذا تأويل الخبر، ثم قال: " وهذا الذي ذكرنا هو صفة منا لتأويل الخبر، لا القول الذي نختاره في تأويل الآية " فعقب أستاذنا أيضا بقوله: " وهذا أيضا دليل واضح على أن استدلال الطبري بالأخبار والآثار، ليس معناه أنه ارتضاها، بل معناه أنه أتى بها ليستدل على سياق تفسير الآية مرة، وعلى بيان فساد الأخبار أنفسها مرة أخرى؛ وقد أخطأ كثير ممن نقل عن الطبري في فهم مراده وتحامل عليه آخرون لم يعرفوا مذهبه في هذا التفسير " (3) . ومما يؤيد ما ذكره أستاذنا الشيخ شاكر ما يأتى:   (1) انظر الخبر رقم 607 ج 1 ص 458، 460، وقول الطبري بعده. (2) 1 / 462 بالحاشية. (3) تفسير الطبري ـ الحاشية 1 / 462. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} (1) ، نرى الطبري يذكر أخبارا، ولكنه لا يأخذ بها (2) . وفى تأويل قوله عز وجل {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا ... } (3) ، نرى الطبري في ذكره للمراد بالأمانة يثبت أخبارا مختلفة، ثم يأخذ بغير الإسرائيليات (4) . ومثل هذا ما ذكرناه من قبل عند بيان منهجه في قبول الأخبار أو رفضها. ومع هذا كله نراه أحيانا يذكر الإسرائيليات ولا يرفضها، مثل الإسرائيليات التي ذكرها عند تأويل قول الحق تبارك وتعالى {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَينَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدً اً} (5) . ويمكن أن يقال هنا ما قلناه عند الحديث عن زواج الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذ الطبري بأخبار لا تصح. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. ******   (1) 69: الأحزاب. (2) انظر تفسيره 22 / 50 وما بعدها. (3) 72: الأحزاب. (4) انظر تفسيره 22 / 54 وما بعدها. (5) 34: سورة " ص "، وانظر تأويلها في تفسير الطبري 23 / 156 وما بعدها. ورفض الحافظ ابن كثير هذه الإسرائيليات ـ انظر تفسيره 4 / 34 ـ 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 الفصل الثامن: كتب التفسير بعد الطبري لا يتسع المجال للحديث عن كتب التفسير المختلفة بعد الطبري، فإن هذا يطول كثيراً. ويكفى أننا عرفنا ما يتصل بالتفسير منذ النشأة في عصر الرسالة لآخر القرن الثالث الهجرى، ورأينا أحسن طرق التفسير وما يقبل وما يرفض من التفسير المأثور والتفسير العقلى. وهذا الجزء إنما ألف أساساً في مجال التفسير المقارن بين الجمهور، وهم أهل السنة والجماعة، وبين الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية. وما سبق من دراسة يبين أصول التفسير، والاتجاهات المختلفة إلى حد كبير. والتفسير بعد هذه القرون يمكن وضع الضوابط لقبوله أو رفضه في ضوء ما سبق من هذه الدراسة. وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية: أي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة؟ الزمخشرى أم القرطبى؟ أم البغوى؟ أو غير هؤلاء؟ فأجاب: الحمد لله أما التفاسير التي في أيدى الناس فأصحها " تفسير محمد بن جرير الطبري " فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير والكلبى. والتفاسير غير المأثورة بالأسانيد كثيرة، كتفسير عبد الرزاق، وعبد بن حميد، ووكيع، وابن أبى قتيبة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه. وأما التفاسير الثلاثة المسئول عنها فاسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة " البغوى " لكنه مختصر من " تفسير الثعلبى "، وحذف منه الأحاديث الموضوعة، والبدع التي فيه، وحذف أشياء غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وأما " الواحدى " فإنه تلميذ الثعلبى، وهو أخبر منه بالعربية، لكن الثعلبى فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليداً لغيره. وتفسيرة و" تفسير الواحدى: البسيط والوسيط والوجيز " فيها فوائد جليلة، وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها. وأما " الزمخشرى " فتفسيرة محشو بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة ... وأصولهم خمسة ... وهذه الأصول حشا بها كتابه بعبارة لا يهتدى أكثر الناس إليها ولا لمقاصده فيها، مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة، ومن قلة النقل عن الصحابة والتابعين. و" تفسير القرطبى " خير منه بكثير، وأقرب إلى طريقة أهل الكتاب والسنة، وأبعد عن البدعة، وإن كان كل من هذه الكتب لابد أن يشتمل على ما ينقد، لكن يجب العدل بينها، وإعطاء كل ذى حق حقه. و" تفسير ابن عطية ". خير من تفسير الزمخشرى، وأصح نقلاً وبحثاً، وأبعد عن البدع، وإن اشتمل على بعضها، بل هو خير منه بكثير، بل لعله أرجح هذه التفاسير، لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها. وثم تفاسير كثيرة جداً، كتفسير ابن الجوزى، والماوردى " (1) . ا. هـ. من هذا نرى شيخ الإسلام وهو يعطى صورة مجملة للتفاسير، يذكر في البداية، ثم يؤكد في النهاية أن أصحها تفسير الطبري. أما ابن عطية، الذي اثنى ابن تيمية على تفسيرة، فإنا نجده يشير إلى تفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدد من الصحابة والتابعين تحت " باب ما قيل في الكلام في تفسير القرآن، والجرأة عليه، ومراتب المفسرين "، ثم يقول: " ثم حمل تفسير كتاب الله تعالى عدول كل خلف، وألف الناس فيه: كعبد الرزاق، والمفضل، وعلى بن أبى طلحة، والبخارى، وغيرهم.   (1) مجموع فتاوى ابن تيمية 13 / 385 ـ 388. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ثم إن محمد بن جرير الطبري رحمه الله جمع على الناس أشتات التفسير، وقرب البعيد، وشفا في الإسناد " (1) . وابن الجوزى في تفسيره نقل عن مصادر " في طليعتها تفسير ابن جرير، وكتب الحديث، وكتابا ابن قتيبة: مشكل القرآن، وغريب القرآن، وكتب معاني القرآن، ولا سيما كتابا الفراء والزجاج، والحجة: لأبى على الفارسى، ومجاز القرآن: لأبى عبيدة، وكتب ابن الأنبارى في القرآن، وأسماء الله الحسنى: للخطابى، وغيرها " (2) . ومعنى هذا أن ما صح من تفسير مأثور عند ابن الجوزى فهو مستمد من مصدرين رئيسين، هما: تفسير الطبري، وكتب الحديث. ولم يخل تفسيره من الاستشهاد ببعض الأحاديث المنكرة التي لا ... تصح ... إلخ " (3) . والماوردى في تفسيره يذكر الأخبار دون ذكر الأسانيد، ومثله ابن عطية وابن الجوزى، ولذلك وجدت من حقق هذه التفاسير الثلاثة حاولواتخريج هذه الأخبار (4) .   (1) تفسير ابن عطية 1 / 31، وابن عطية توفى سنة 541 هـ. (2) ، (3) زاد المسير في علم التفسير لأبى فرج عبد الرحمن بن الجوزى المتوفى ... سنة 596 ـ انظر مقدمة المحقق ص 4، 5. (3) انظر التفاسير الثلاثة: النكت والعيون للماوردى المتوفى سنة 450 هـ نشرة وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، والمحرر الوجيز لابن عطية طبع في دولة قطر على نفقة أميرها، وتفسير ابن الجوزى نشره المكتب الإسلامى. (4) السمرقندى توفى سنة 373 هـ، والثعلبى سنة 427، أما البغوى فتوفى سنة 510. انظر ما كتبه المرحوم الدكتور الذهبى عن هذه التفاسير في كتابه القيم التفسير والمفسرون ... ج 1 ص 224، 227، 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 والذين سبقوا هؤلاء، كالسمرقندى والثعلبى، الأخبار في تفسيرهم غير مسندة. والبغوى الذي اختصر تفسير الثعلبى لم يذكر الأسانيد أيضاً (1) . والخبر إنما يكون حجة إذا كان مسنداً صحيحاً. وأهم كتاب في التفسير بعد الطبري هو تفسير الحافظ ابن كثير، ومنهجه في التفسير هو منهج شيخه ابن تيمية. وينقل عن شيخ المفسرين ابن جرير، وعن كتب السنة، غير أنه لا يكتفى بالنقل، بل يبين الصحيح وغيره وما يقبل وما يرفض ويحذر من الإسرائيليات وينبه عليها. وهو من أكثر الكتب فائدة وانتشاراً. والسيوطى في كتابه: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، يكتفى بنقل الأخبار، ونسبتها لأصحابها، دون تمييز بين غث وسمين. والتفسير النقلى الذي يعتبر حجة، وحاكماً للتفسير العقلى، يمكن القول بأنه بعد شيخ المفسرين إلى عصرنا يستمد من رافدين رئيسين، هما: كتب السنة، وتفسير الطبري. لذا رأيت أن أقف عنده لأنتقل للقسم الثاني من الكتاب، وهو بيان التفسير عند الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية، والله المستعان، وهو نعم المولى ونعم النصير.   (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 القسم الثاني: التفسير وأصوله عند الشيعة. تحدثت في الجزء السابق عن عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية، رأيناهم يجعلون الإمام كالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عصمته وصفاته وعلمه، ويرون أن الإمامة كالنبوة في كل شئ باستثناء الوحى عند جمهورهم؛ حيث يقولون بأن الأئمة لا يوحى إليهم كالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما يقوم الإلهام مقام الوحى في عصمة الإمام وعدم خطئه، وذهب بعضهم إلى أن أحد الملائكة كان يلازم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليسدده ويرشده ويعلمه، فلما انتقل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الرفيق الأعلى ظل الملك بعده، ولم يصعد ليؤدى الوظيفة نفسها مع الأئمة. ومع هذا الخلاف في القول بالوحى، غير انهم لم يختلفوا في القول بعصمة الأئمة. وبمراجعة التفسير عندهم، أصوله وكتبه، رأيت أن عقيدتهم في الإمامة كان لها أكبر الأثر في وضع الأصول، وفى تناولهم لكتاب الله تعالى، ولعل بيان هذا الأثر كاف شاف في مجال التفسير المقارن بين السنة والشيعة، فحيث لا يوجد أثر لعقيدتهم في الإمامة يصبح تفسيرهم كتفسير غيرهم، وبقدر وجود هذا الأثر بقدر افتراقهم عمن سواهم. والشيعة الاثنا عشرية ليسوا سواء، فمنهم من ينهج منهجا فيه شىء من الاعتدال والابتعاد عن الغلو، وصيانة كتاب الله المجيد، ومنهم الغالى المفترى الكذاب، الذي حاول أن يؤيد عقيدته في الإمامة بتحريف كتاب الله تعالى نصاً ومعنى، وجعل القرآن العظيم كأى كتاب من كتب الفرق الضالة المضلة. وفى هذا القسم الثاني من الجزء الثاني ننتقل للحديث عن التفسير وأصوله عند الشيعة: فنبين أولاً أصول التفسير عندهم ببيان دور الإمام بالنسبة للقرآن المجيد، ثم ننتقل للدراسة التطبيقية، فننظر في كتب التفسير عندهم. وما دام الشيعة ليسوا سواء فإن الدراسة تشمل الكتب التي تمثل الاتجاهات المختلفة، ونبدؤها بدراسة ثلاثة كتب ظهرت في القرن الثالث الهجرى تعتبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 مصادرهم الرئيسة للتفسير المأثور، وإن كانت كلها تمثل أقصى درجة في الغلو والتطرف، والضلال والتضليل. ونتبع هذه الثلاثة نماذج من الكتب الأخرى التي تبين اتجاهات التفسير بعد القرن الثالث إلى العصر الحديث. واستكمالاً للبيان والتوضيح رجعت إلى كتاب " الذريعة إلى تصانيف الشيعة "، فوجدت عشرات الكتب التي يدل العنوان نفسه على غلو المؤلف وضلاله، وكتباً أخرى يظهر فيها هذا الأثر عندما يتحدث عنها صاحب كتاب الذريعة، فرأيت أن أثبت شيئاً مما جاء في كتاب الذريعة هذا. فالقسم الثاني إذن يبين أصول التفسير الشيعى، ويقدم دراسة لبعض كتبهم، وهى ستة عشر كتاباً من القرن الثالث إلى العصر الحديث، ثم نشير إلى عشرات الكتب التي تبين تأثر أصحابها بعقيدة الإمامة. فإذا ضممنا هذا القسم إلى القسم الأول اتضحت الصورة في مجال التفسير المقارن، والله عزوجل هو المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 الفصل الأول: القرآن الصامت والقرآن الناطق الإمام كالنبي: ذكرنا من قبل قول الجعفرية بأن الإمام كالنبى في عصمته وصفاته وعلمه، ولذلك فهم يشيرون إلى القرآن الكريم والإمام بقولهم: ذلك القرآن الصامت وهذا القرآن الناطق، فالإمام هو ـ في رأيهم ـ القرآن الناطق (1) ، ودوره بالنسبة للقرآن الصامت كدور النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء بسواء. مذهب الإخباريين: وما دام القرآن الكريم صامتاً فلابد من الرجوع إلى القرآن الناطق حتى يوضح مراد الله تعالى، ولهذا قال الإخباريون من الجعفرية (2) : لا يجوز العمل   (1) انظر الشيعة والتشيع ص 45، ويزعمون أن الإمام علياً قال: " ذلك القرآن فاستنطقوه فلن ينطق لكم، أخبركم عنه. إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتى إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه مختلفين. فلو سألتمونى عنه لأخبرتكم عنه لأنى أعلمكم ". ... (ص 3 من مقدمة تفسير القمي، وانظر الكافى 1 / 61، 8 / 50) . ويزعمون كذلك أن الإمام الصادق قال: " إن الكتاب لم ينطق ولن ينطق " وأن أباه الباقر قال: " القرآن ضرب فيه الأمثال للناس، وخاطب الله نبيه به ونحن، فليس يعلمه غيرنا ". (تفسير القمي 2 / 295، 425) . (2) ينقسم الجعفرية إلى أصوليين وإخباريين: الأصوليون يعتمدون على الاستنباط والاجتهاد وإعمال العقل، فهم يبحثون ويفكرون بذهنية أصولية، وهم أصحاب علم أصول الفقه عند الجعفرية. والإخباريون لا يعتمدون إلا على متون الأخبار التي تروى عن أئمتهم. ويرى الأصوليون أن الحركة الإخبارية ظهرت في أوائل القرن الحادى عشر على يد الميرزا محمد أمين الاسترابادى، واستفحل أمرها بعده وبخاصة في أواخر القرن الحادى عشر وخلال القرن الثاني عشر، على حين يرى الإخباريون أن الاتجاه الإخبارى كان هو الاتجاه السائد بين الفقهاء الإمامية إلى نهاية عصر الأئمة ولم يتزعزع هذا الاتجاه إلا في أواخر القرن الرابع وبعده ـ* الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 بظاهر القرآن الكريم!! وقال جمهور الجعفرية ـ وهم الأصوليون ـ بحجية الظواهر ولكنهم قالوا: لا يجوز الاستقلال في العمل في بظاهر الكتاب بلا مراجعة الأخبار الواردة عن الأئمة. (1) قول الأصوليين: وناقش الأصوليون الإخباريين فيما ذهبوا إليه: قال صاحب فوائد الأصول بعد أن بين حجية الظواهر: " نسب إلى الإخباريين عدم جواز العمل بظاهر الكتاب العزيز، واستدلوا على ذلك بوجهين، الأول: العلم الإجمالى بتقييد وتخصيص كثير من المطلقات والعمومات الكتابية، والعلم الإجمالى كما يمنع عن جريان الأصول العملية، يمنع عن جريان الأصول اللفظية من أصالة العموم والإطلاق التي عليها مبنى الظهورات. الثاني: الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب. ولا يخفى ما في كلا الوجهين، أما الأول فلأن العلم الإجمالى ينحل بالفحص عن تلك المقيدات والمخصصات، والعثور على مقدار منها يمكن انطباق المعلوم بالإجمال عليها ... وأما الثاني فلأن الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب وإن كانت مستفيضة، بل متواترة، إلا أنها على كثرتها بين طائفتين: طائفة تدل على المنع عن تفسير القرآن بالرأى والاستحسانات الظنية، وطائفة تدل على المنع عن الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب من دون مراجعة أهل البيت الذين نزل الكتاب   (1) *حين بدأ جماعة من علماء الإمامية ينحرفون عن الخط الإخبارى، ويعتمدون على العقل في استنباطهم، ويربطون البحث الفقهى بعلم الأصول تأثراً بالطريقة السنية في الاستنباط، ثم أخذ هذا الانحراف ـ كما يقولون ـ في التوسع والانتشار. والإخباريون الآن قلة قليلة بالنسبة للأصوليين، والقسم الكثير منهم في البحرين، وهم أيضاً عدد قليل (انظر المعالم الجديدة للأصول ص 76 ـ 82، وفقه الشيعة الإمامية 1 / 48 ـ 50 وانظر كذلك موقف الإخباريين من علم الأصول في الحاشية للقمى 2 / 211) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 في بيتهم صلوات الله عليهم، ولا يخفى أن مفاد كل من الطائفتين أجنبى عما يدعيه الإخباريون " (1) . فالإخباريون يمنعون العمل بظاهر الكتاب، والأصوليون يمنعونه كذلك إلاَّ بعد الرجوع إلى أقوال الأئمة، ويندرج تحت هذا الظاهر مثل العام والمطلق وغيرهما مما هو ظاهر في معنى ومحتمل لمعنى آخر، فالعام ظاهر في العموم مع احتمال التخصيص، والمطلق ظاهر في الإطلاق مع احتمال التقييد (2) فيرون إذن وجوب الرجوع إلى الأئمة وما روى عنهم بمعرفة مراد الله عزوجل. قال أحد علمائهم المعاصرين (3) : " لا يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص "، ويوضح هذا بقوله: " لا شك في أن بعض عمومات القرآن الكريم   (1) فوائد الأصول 3 / 48، وانظر كذلك الأصول العامة للفقه المقارن ص 102 ـ 105 وأصول الفقه للمظفر 3 / 130: 134، 138، 141. (2) تحدث أحد علمائهم عن الأصول اللفظية وحددها بخمسة هي: أصالة الحقيقة ـ أي الأصل أن تحمل الكلام على معناه الحقيقى، وأصالة العموم، واصالة الإطلاق، وأصالة عدم التقدير، والأصل الخامس هو أصالة الظهور، وقال عن هذه الأصالة: " موردها ما إذا كان اللفظ ظاهراً في معنى خاص لا على وجه النص فيه الذي يحتمل معه الخلاف، بل كان يحتمل إرادة خلاف الظاهر، فإن الأصل حينئذ أن يحمل الكلام على الظاهر فيه. وفى الحقيقة أن جميع الأصول المتقدمة راجعة إلى هذا الأصل، لأن اللفظ مع احتمال المجاز ـ مثلاً ـ ظاهر في الحقيقة، ومع احتمال التخصيص ظاهر في العموم، ومع احتمال التقييد ظاهر في الإطلاق، ومع احتمال التقدير ظاهر في عدمه، فمؤدى أصالة الحقيقة نفس مؤدى أصالة الظهور في مورد احتمال التخصيص، وهكذا في باقى الأصول المذكورة، فلو عبرنا بدلاً عن كل من هذه الأصول بأصالة الظهور كان التعبير صحيحاً مؤدياً للغرض، بل كلها يرجع اعتبارها إلى اعتبار أصالة الظهور، فليس عندنا في الحقيقة إلا أصل واحد هو أصالة الظهور ". (أصول الفقه للمظفر، 1 / 31 ـ 32) . (3) هو الشيخ محمد رضا المظفر، من كبار علمائهم. انظر كتابه أصول الفقه 1 / 136. وهو الذي نقلنا عنه الأصول اللفظية آنفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 والسنة الشريفة لها مخصصات منفصلة شرحت المقصود من تلك العمومات، وهذا معلوم من طريقة صاحب الشريعة، والأئمة الأطهار ـ عليهم الصلاة والسلام. حتى قيل ما من عام إلا وقد خص. ولذا ورد عن أئمتنا ذم من استبدوا برأيهم في الأحكام، لأن في الكتاب المجيد والسنة عاماً وخاصاً، ومطلقاً ومقيداً، وهذه الأمور لا تعرف إلا من طريق آل البيت، وصاحب البيت أدرى بالذى فيه. وهذا ما أوجب التوقف في التسرع بالأخذ بعموم العام قبل الفحص، واليأس من وجود المخصص، لجواز أن يكون هذا العام من العمومات التي لها مخصص موجود في السنة أو الكتاب لم يطلع عليه من وصل إليه العام. وقد نقل عدم الخلاف بل الإجماع على عدم جواز الأخذ بالعام قبل الفحص واليأس ". ا. هـ. والسنة ـ عند الجعفرية تتسع لتشمل أقوال أئمتهم، وهم مجمعون على الأخذ بما ورد من كلام الأئمة مخصصا لكثير من عمومات القرآن الكريم، ومقيداً لكثير من مطلقاته، وما قام قرينة على صرف جملة من ظواهره، ويعتبرون هذا من الأمور القطعية التي لا يشك فيها أحد (1) . ولكن المخصصات التي ترد عن الأئمة أتعتبر من باب النسخ أم التخصيص؟ خلاف وقع بين الجعفرية! النسخ بعد عصر النبوة: 1 ـ فمنهم من ذهب إلى أن المخصصات ناسخة لحكم العمومات، لأن العام لما ورد وصل وقت العمل به بحسب الغرض، فتأخير الخاص عن وقت العمل لو كان مخصصاً ومبيناً لعموم العام يكون من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة. وهو قبيح من الحكيم، لأن فيه إضاعة للأحكام ولمصالح العباد بلا مبرر. فوجب أن يكون ناسخا للعام، والعام باق على عمومه يجب العمل به إلى حين ورود الخاص، فيجب العمل ثانيا على طبق الخاص (2) .   (1) انظر أصول الفقه للمظفر 1 / 141: 142. (2) المرجع السابق 1 / 143: 144 وعند أهل السنة إذا قصر العام على بعض أفراده يعتبر تخصيصاً عند جمهور الأصوليين، لأن المراد بالتخصيص عندهم بيان أن المراد بالعام* *بعض أفراده، لا فرق بين أن يكون البيان متصلا بالمبين أو منفصلاً عنه ما دام لم يتأخر عن وقت الحاجة إليه، فإذا تأخر كان نسخاً، ولا يكون حينئذ إلاَّكلاماً مستقلاً. أما الحنفية فإنهم يفرقون بين المتصل والمنفصل من الكلام المستقل، فيجعلون الأول مخصصاً ومبيناً، والثاني ناسخاً، لأن الشارع إذا أراد بالعام ـ من أول الأمر بعض أفراده قرنه بما يدل على مراده من المخصصات حتى لا يقع التجهيل الذي يتنزه الشارع الحكيم عنه، فإذا أورد العام من غير مخصص ومبين دل هذا على أن الشارع يريد جميع أفراده ابتداء. فإذا جاء بعد ذلك نص يخرج من العام بعض ما كان داخلاً فيه كان ناسخاً لا مخصصاً، فالخارج من العام بالتخصيص لم يدخل فيه ابتداء، والخارج منه بالنسخ دخل فيه ابتداء ثم أخرج. " انظر أصول التشريع ... ص 244 " وهذا التخصيص أو النسخ عند الحنفية لا يكون إلا إذا وصل الحديث عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى حد التواتر أو الشهرة: أما إن كان خبر واحد فلا يخصصه ولا ينسخه إلا إذا كان عام الكتاب قد خص قبل بقطعى حتى صار بذلك التخصيص ظنياً، ويرى الجمهور أن خبر الواحد يخص عام الكتاب " انظر أصول الفقه للخضرى 184 ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 وكيف يمكن النسخ بعد عصر النبوة وانقطاع الوحى؟ قيل " إن إنقطاع الوحى لا يلازم عدم تحقق النسخ بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه يمكن أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أودع الحكم الناسخ إلى الوصي، وأودع الوصي إلى وصى آخر إلى أن يصل زمان ظهوره وتبليغه. وقد وردت أخبار عديدة في تفويض دين الله تعالى إلى الأئمة، وعقد في الكافى باب في ذلك، وبعد هذا لا يصغى إلى شبهة عدم إمكان تحقق النسخ بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (1) . ومن المعلوم أن حلآل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حلال إلى يوم القيامة، وحرامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرام إلى يوم القيامة، وهم يروون هذا أيضا عن أئمتهم، فأنى يتحقق النسخ؟ يقول السيد أبو القاسم الخوئى ـ مرجعهم السابق بالعراق: " الظاهر منه ـ أي من الخبر ـ عرفاً بيان استمرار الشريعة المقدسة، وأنها لا تنسخ بشريعة أخرى، فالمراد منه أن كل ما يكون إلى يوم القيامة متصفاً بالحلية أو الحرمة فهو   (1) فوائد الأصول 4 / 274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 حلال محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو حرامه، فأحكامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستمرة إلى يوم القيامة، ولا تنسخ بشريعة أخرى " (1) . التخصيص: 2 ـ ومن الجعفرية من جعل هذه المخصصات كاشفة عن اتصال كل عام بمخصصه، فهى ليست تخصيصاً طارئاً بعد عصر النبوة، وإنما اختفت تلك المخصصات المتصلة ووصلت إليهم المخصصات المنفصلة. وقال الشيخ الطوسى: " لكثرة الدواعى إلى ضبط القرائن والمخصصات المتصلة، واهتمام الرواة إلى حفظها ونقلها، فمن المستحيل عادة أن تكون مخصصات متصلة بعد المخصصات المنفصلة وقد خفيت كلها علينا. وأجيب عن هذا بأنه لا وجه لهذه الاستحالة، فإنا نرى أن كثيراً من المخصصات المنفصلة المروية من طرقنا عن الأئمة مروية عن العامة ـ أي جمهور المسلمين - بطرقهم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكشف ذلك عن اختفاء المخصصات المتصلة علينا " (2) . كتمان الحكم تقية أو للتدرج: 3 ـ ومن الجعفرية من ذهب إلى التخصيص كذلك، ولكن على أساس أن هذه المخصصات " هي المخصصات حقيقة، ولا يضر تأخرها عن وقت العمل بالعام، لأن العمومات المتقدمة لم يكن مفادها الحكم الواقعى، بل الحكم هو الذي تكفل المخصص المنفصل ببيانه. وإنما تأخر بيانه لمصلحة كانت هناك في التأخير، وإنما تقدم العموم ليعمل به ظاهراً إلى أن يرد المخصص، فيكون مفاد العموم حكماً ظاهرياً، ولا محذور في ذلك، فإن المحذور إنما هو تأخر الخاص عن وقت العمل بالعام إذا كان مفاد العام حكماً واقعياً لا حكماً ظاهرياً " (3) .   (1) أجود التقريرات ص 512. (2) فوائد الأصول 4 / 274. (3) المرجع السابق 4 / 274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 ويوضح عالم آخر هذا الرأى فيقول: " العام يجوز أن يكون وارداً لبيان حكم ظاهرى صورى لمصلحة اقتضت كتمان الحكم الواقعى، ولو لمصلحة التقية، أو لمصلحة التدرج في بيان الأحكام كما هو معلوم من طريقة النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيان أحكام الشريعة، مع أن الحكم الواقعى التابع للمصالح الواقعية الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية إنما هو على طبق الخاص. فإذا جاء الخاص يكون كاشفاً عن الحكم الواقعى، فيكون مبيناً للعام ومخصصاً له، وأما الحكم العام الذي ثبت أولاً، ظاهراً وصورة، إن كان قد ارتفع وانتهى أمره، فإنه إنما ارتفع لارتفاع موضوعه، وليس هو من باب النسخ " (1) . ثم يعقب على هذا بقوله: " وإذا جاز أن يكون العام وارداً على هذا النحو من بيان الحكم ظاهراً وصورة: فإن ثبت ذلك كان الخاص مخصصاً، أي كان كاشفاً عن الواقع قطعاً. وإن ثبت أنه في حدود بيان الحكم الواقعى للمصالح الواقعية الثابتة للأشياء بعناوينها الأولية، فلا شك في أنه يتعين كون الخاص ناسخاً له. وأما لو دار الأمر بينهما، إذ لم يقم دليل على تعيين أحدهما، فأيهما أرجح في الحمل؟ فنقول الأقرب إلى الصواب هو الحمل على التخصيص " (2) . ومع هذا الترجيح فقد رأى غيره أن هذه الحالة لا يجوز حملها إلا على النسخ (3) . وكتمان الحكم الواقعى تقية هذا أمر غير معروف عن النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أظن الشيعة يقولون به، فما يجوز لمسلم أن يعتقده، فلعلهم أرادوا التقية بالنسبة للأئمة؛ بمعنى أن الإمام يكتم هذا الحكم، لأنه لو أظهره خشى على نفسه وعلى شيعته،   (1) أصول الفقه المظفر 1 / 144. (2) المرجع السابق 1 / 144. (3) انظر الآراء المختلفة والترجيحات في الحاشية على الكفاية 2 / 198: 199، وفوائد الأصول 4 / 273، وأجود التقريرات ص 506: 512 والبيان ص 424: 428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ومن هنا تكون التقية. وهذا الرأى وإن كان غير مقبول أصلاً، إلا أنه يتمشى مع عقيدة الجعفرية. أما التدرج في بيان الأحكام الذي يعتقده الجعفرية فيوضحه عالمهم المشهور محمد الحسين آل كاشف الغطاء بقوله: " يعتقد الإمامية أن لله بحسب الشريعة الإسلامية من كل واقعة حكما حتى أرش الخدش، وما من عمل من أعمال المكلفين من حركة أو سكون إلا ولله فيه حكم من الأحكام الخمسة: الوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والإباحة. وما من معاملة على مال، أو عقد نكاح، ونحوها إلا وللشرع فيه حكم صحة أو فساد. وقد أودع الله سبحانه جميع تلك الأحكام عند نبيه خاتم الأنبياء، وعرفها النبي بالوحى من الله أو الإلهام، ثم إنه ـ سلام الله عليه ـ حسب وقوع الحوادث أو حدوث الوقائع أو حصول الابتلاء، وتجدد الآثار والأطوار، بين كثيرا منها للناس، وبالأخص لأصحابه الحافين به، الطائفين كل يوم بعرش حضوره، ليكونوا هم المبلغين لسائر المسلمين في الآفاق {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) وبقيت أحكام كثيرة لم تحصل الدواعى والبواعث لبيانها، إما لعدم الابتلاء بها في عصر النبوة، أو لعدم اقتضاء المصلحة لنشرها.. والحاصل أن حكمة التدرج اقتضت بيان جملة من الأحكام، وكتمان جملة، ولكنه ـ سلام الله عليه ـ أودعها عند أوصيائه، كل وصى يعهد به إلى الآخر لينشره في الوقت المناسب له حسب الحكمة من عام مخصص، أو مطلق مقيد، أو مجمل مبين، إلى أمثال ذلك، فقد يذكر النبي عاماً ويذكر مخصصه بعد برهة من حياته، وقد لا يذكره أصلا، بل يودعه عند وصيه إلى وقته " (2) .   (1) 143: سورة البقرة. (2) أصل الشيعة وأصولها ص 145 ـ 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 من الواضح البين بعد هذا أن ما ذكره الجعفرية بالنسبة للقرآن الناطق- أي الإمام ـ أثر من آثار عقيدتهم في الإمامة، فأقوالهم هنا لا تصح إلا بصحة عقيدتهم حتى يكون للإمام ما للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البيان والتخصيص والتقييد، بل النسخ، وحتى لا ينتهى التدرج بانقطاع الوحى وانتقال صاحب الرسالة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الرفيق الأعلى، وإنما يبقى دور لمن جعلوهم شركاءه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرسالة. وما ذكره الشيعة هنا ليس مسألة نظرية، وإنما يبين أصول التفسير، والتشريع أيضاً، وسنرى تطبيقاً عملياً لها في كتبهم التي تناولت بالدراسة كتاب الله تعالى، وعند الحديث عن كتبهم سنرى ثلاثة كتب في التفسير ظهرت في القرن الثالث الهجري، وأن هذه الكتب جعلت كتاب الله تعالى أشبه بكتاب من كتب الشيعة، فأكثر الآيات خاصة بالأئمة وولايتهم، وكفر من ينكر هذه الولاية، إلى غير ذلك من الغلو والضلال كما سيتضح، وسنرى هذا في عشرات من كتب التفسير الشيعى الأخرى. والجعفرية لم يبدأوا التفكير في علم الأصول إلا في القرن الرابع الهجري، ولم يدخل هذا العلم دور التصنيف والتأليف إلا في القرن الخامس (1) . إذا عرفنا هذا أمكن القول بأن ما ذكره الشيعة هنا من علم الأصول إنما كان استنتاجاً من تلك الكتب الثلاثة، أو تبريراً لها، حيث إنها كانت تعتمد على روايات تزعم نسبتها للأئمة. *****   (1) راجع التصنيف في علم الأصول ص 54 وما بعدها من كتاب المعالم الجديدة للأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 الفصل الثاني: الظاهر والباطن حجية الظواهر: ذكرنا آنفاً موقف الإخباريين من ظاهر القرآن الكريم، ورد جمهور الجعفرية عليهم. فهم يرون حجية الظهور. قال مرجعهم السابق بالعراق عن حجية ظواهر القرآن: " لاشك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يخترع لنفسه طريقة خاصة لإفهام مقاصده، وأنه كلم قومه بما ألفوه من طرائق التفهيم والتكلم، وأنه أتى بالقرآن ليفهموا معانيه، وليتدبروا آياته، فيأتمروا بأوامره ويزدجروا بزواجره، وقد تكرر في الآيات الكريمة ما يدل على ذلك، كقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} " 47: 24 " (1) وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} " 39: 27 ". وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} " 26 / 192 ". {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِين} " 193: 194 ". {بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُّبِينٍ} " 195 ". وقوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} " 3: 138 ". وقوله تعالى: { ... فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ   (1) يقصد المؤلف بالرقم الأول رقم السورة وهى سورة محمد، وباقى السور التي أشار إلى أرقامها هي على الترتيب: الزمر، الشعراء، آل عمران، الدخان، القمر، النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 يَتَذَكَّرُونَ} " 44: 58 ". وقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} " 54: 17 ". وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ... } " 4: 82 ". إلى غير ذلك من الآيات الداله على وجوب العمل بما في القرآن، ولزوم الأخذ بما يفهم من ظواهره. ومما يدل على حجية ظواهر الكتاب، وفهم العرب لمعانيه، أن القرآن نزل حجة على الرسالة، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تحدى البشر على أن يأتوا ولو بسورة من مثله، ومعنى هذا أن العرب كانت تفهم معاني القرآن من ظواهره، ولو كان القرآن من قبيل الألغاز لم تصح مطالبتهم بمعارضته، ولم يثبت لهم إعجازه، لأنهم ليسوا ممن يستطيعون فهمه، وهذا ينافى الغرض من إنزال القرآن، ودعوة البشر إلى الإيمان به ... إلخ " (1) . وقال عالم آخر عن حجية الظواهر (2) : "هي أوضح من أن يطال فيها الحديث مادام البشر في جميع لغاته قد جرى على الأخذ بظواهر الكلام، وترتيب آثارها ولوازمها عليها، بل لو أمكن أن يتخلى عنها لما استقام له التفاهم بحال، لأن ما كان نصاً في مدلوله مما ينتظم في كلامه لا يشكل إلا أقل القليل. وبالضرورة أن عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان بدعاً من العصور، لينفرد به الناس في أساليب تفاهمهم بنوع خاص من التفاهم لا يعتمد الظهور ركيزة من ركائزه، وما كان للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طريقة خاصة في التفاهم انفرد بها عن معاصريه، وإلا لكانت   (1) البيان للخوئىص 281: 282، وراجعه إلى ص 291. (2) هو العالم محمد تقى الحكيم، أستاذ الأصول والفقه المقارن في كلية الفقه بالنجف بالعراق. انظر كتابه الأصول العامة ص 102: 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 أحدوثة التاريخ، فالقطع بإقرار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطريقتهم في التفاهم كاف في إثبات حجية الظواهر. وقد نزل القرآن بلغة العرب، وتبنى طريقتهم في عرض أفكاره، وكان لكلامه ظاهر يفهمونه ويسيرون على وفقه " (1) . اللجوء للتأويل تأييداً للعقيدة: ومع القول بحجية الظاهر، إلا أنهم ـ كما رأينا من قبل ـ جعلوا للإمام ما للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيان المراد من قول الله تعالى، وتخصيص عامه، وتقييد مطلقه. وفى الجزء الأول وجدنا أنهم لما لم يجدوا من ظاهر القرآن الكريم ما يؤيد عقيدتهم لجئوا إلى التأويل، وناقشناهم فيما ذهبوا إليه فلم نجد لهم دليلا يمكن الاحتجاج به. وإذا كانت العقيدة من أساسها ليس لها ما يؤيدها من كتاب الله تعالى فكيف بما يتبعها من عقائد وتفريعات؟ الباطن: والشيعة الاثنا عشرية لم يقفوا عند حد التأويل الذي أشرنا إليه، فهم ينسبون للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللأئمة أنهم قالوا: إن للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطنا إلى سبعة أبطن، أو إلى سبعين بطناً! (2) وهم لا ينفردون بالقول بأن للقرآن الكريم ظاهرا وباطنا، فقد قيل به قديماً وحديثاً. قال أستاذنا الجليل المرحوم على حسب الله تحت عنوان ظاهر القرآن وباطنه: " إذا سمع المرء كلاماً عربياً تبادر إلى ذهنه ما يدل عليه الكلام بحسب وضعه العربى، فإذا تدبره فقد يفهم منه مقاصد مطوية وأغراضاً خفية، فالمتبادر الأول هو ظاهر الكلام، ويكاد يدركه كل عارف باللغة. والمفهوم الثاني هو باطنه وهو لا يدرك إلا بشىء من التدبر. وللقرآن ظاهر   (1) المرجع السابق ص 102: 103 وانظر كذلك للجعفرية في حجية الظواهر: فوائد الأصول 3 / 47: 48، وأصول الفقه للمظفر 1 / 24، 30: 32، جـ 3 / 129: 130، 134، 141، والمعالم الجديدة للأصول ص 139: 145. (2) انظر الميزان 1 / 5، وانظر الكافى 1 / 374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وباطن بهذا المعنى، وكلاهما مراد، غير أن الثاني لا يعتد به إلا إذا لم يكن مناقضاً للأول، وكان له شاهد من مقاصد الدين ومراميه " (1) . والإمام الغزالى من قبل أفاض في الحديث عن الظاهر والباطن، وقسم الباطن إلى خمسة أقسام: القسم الأول: أن يكون الشىء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه، فيختص بدركه الخواص. القسم الثاني: من الخفيات التي يمتنع الأنبياء والصديقون عن ذكرها، ما هو مفهوم في نفسه لا يكل الفهم عنه، ولكن ذكره يضر بأكثر المستمعين ولا يضر بالأنبياء والصديقين. القسم الثالث: أن يكون الشىء بحيث لو ذكر صريحاً لفهم ولم يكن فيه ضرر، ولكن يكنى عنه على سبيل الاستعارة والرمز. القسم الرابع: أن يدرك الإنسان الشىء جملة ثم يدركه تفصيلاً بالتحقيق والذوق. القسم الخامس: أن يعبر بلسان المقال عن لسان الحال، فالقاصر الفهم يقف على الظاهر ويعتقده نطقاً، والبصير بالحقائق يدرك السر فيه (2) .   (1) أصول التشريع الإسلامى ص 25 ـ 26. (2) راجع هذه الأقسام بالتفصيل، والحديث عن الظاهر والباطن في إحياء علوم الدين: ... 1 / 171 ـ 180، والصوفية لهم حظ معلوم من التأويل! وانظر ما كتبه أستاذنا العلامة المرحوم أبو زهرة عن ظاهر القرآن وباطنه عند الجعفرية، والموازنة بين كلامهم وكلام الغزالى " الإمام الصادق ص 305 ـ 315 ". وراجع الفرق بين قولهم وما ذهب إليه جمهور المفسرين في " التفسير والمفسرون 2 / 28 ـ 32 ". وانظر كذلك أعلام الموقعين " 4 / 310 ـ 320 " ففيه بحث قيم عن التأويل، وراجع فيه رأى ابن رشد، ومهاجمته للغزالى ولغيره من المتأولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 ثلث القرآن في الأئمة! ! وثلثه في عدوهم! ! : فالجعفرية إذن لم ينفردوا بالقول بالباطن جملة، ولكن أثر عقيدتهم في الإمامة ـ إلى جانب ما سبق ـ ظهر في التوسع في القول بالباطن إلى غير حد، حتى أن بعضهم ـ كما سيأتى ـ اعتبر ثلث القرآن فيهم، وثلثه في عدوهم، وبعضهم جعل الربع لا الثلث، وهؤلاء وأولئك نسبوا هذا الضلال للأئمة الأطهار افتراء عليهم، حتى يضلوا غيرهم، وبذلك أخضعوا كتاب الله تعالى لأهوائهم، وحرفوه ليصبح أقرب ما يكون إلى كتاب من كتب الفرق، ولم يفترقوا كثيراً عن الإسماعيلية الباطنية (1) . وعند تناولنا لكتبهم سنرى أنهم مختلفون، فمن ناشد للاعتدال نسبيا مقترب منه، إلى راغب في الضلال هابط إلى الغلو. وقبل الحديث عن هذه الكتب نتحدث عن موضوع جد خطير، حيث يتعلق بصيانة القرآن الكريم من النقص والتحريف.   (1) مما رواه الإسماعيلية عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال " ما نزلت على من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن " ومما رووه عن الإمام الصادق ـ وهو آخر إمام يجمعهم بالجعفرية ـ أنه قال " إنا نتكلم في الكلمة الواحدة سبعة أوجه، فقال الرجل متفكراً: سبعة يا بن رسول الله؟ فقال: نعم.. وسبعين ولو استزادنا لزدناه ". " انظر أساس التأويل ص 30، 37 " وقالوا: " من معجزات وغرائب تأليفه ـ أي القرآن الكريم ـ أنه يأتى بالشىء الواحد وله معنى في ظاهره ومعنى في باطنه، فجعل عزوجل ظاهره معجزة رسوله، وباطنه معجزة الأئمة من أهل بيته، لا يوجد إلا عندهم، ولا يستطيع أحد أن يأتى بباطنه غير الأئمة من ذريته، وهو علم متوافر بينهم مستودع فيهم، يخاطبون كل قوم منه بمقدار ما يفهمون، ويعطون كل أهل حد منه ما يستحقون، ويمنعون منه ما يجب منعه، ويدفعون عنه من استحق دفعه ". " ص 31 ـ 32 أساس ... التأويل ". وإذا كان هذا المنهاج مختصاً بالإسماعيلية الباطنية، فإنا سنرى من دراستنا لكتب الجعفرية أن منها ما لا يرتفع عن هذا الدرك الأسفل، وكل يخضع كتاب الله تعالى لهواه، هذا يجعله إسماعيلياً، وذاك يحرف مثله ولكن ليجعله جعفرياً اثنى عشرياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 الفصل الثالث: القرآن الكريم والتحريف لماذا قالوا بالتحريف؟ بالرجوع إلى كتب الجعفرية نجد جدلاً حول التحريف بين معتدليهم نسبيا وغلاتهم، ونتعرض لهذا الأمر بإيجاز قدر المستطاع قبل الحديث عن كتبهم بشىء من التفصيل: فمن المقطوع به عند جمهور المسلمين أنه {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} (1) وأن الله تعالى هو الذي تعهد بحفظ القرآن الكريم: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) ، ولذا هيأ له، وسيهيئ له من يحفظه إلى يوم القيامة. وقد كتب على عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وجمع ما كتب عند الصديق ثم الفاروق، ثم كان المصحف الإمام الذي كتب في خلافة ذى النورين كما هو معلوم، فحفظ في السطور والصدور على مر القرون، وكلما أصاب المسلمون تقدماً وجهوه قدر استطاعتهم لحفظ كتاب الله تعالى، هذا ما نلمسه جميعا بغير خلاف. والذين حاولوا هدم الإسلام وجهوا مردة شياطينهم للطعن في القرآن المجيد، لكن هيهات، فباءوا بمرارة الفشل، وبغضب ممن علم القرآن. ولا عجب في مسلك هؤلاء الكفار، ولكن العجب كل العجب أن نجد ممن ينتمى إلى الإسلام من يضل ضلال هؤلاء الكفار! فغلاة الاثنى عشرية عز عليهم أن يخلو القرآن الكريم من نصوص ظاهرة صريحة تؤيد عقيدتهم في الإمامة، فلم يكتفوا بالتأويلات الفاسدة كما سنرى، بل أقدموا على جريمة مدبرة، فطعنوا في الصحابة الأكرمين،   (1) 64: يونس. (2) 9: الحجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وعلى الأخص الخلفاء الراشدون الذين سبقوا الإمام علياً، وأرادوا من هذا الطعن الافتراء عليهم بأنهم غير أمناء على تنفيذ الشريعة ونقلها، وحفظ كتاب الله العزيز، ولذا انتهوا من هذا الطعن إلى أنهم اغتصبوا الخلافة، وحرفوا القرآن الكريم حتى لا يفتضح أمرهم، ولا يظهر حق على في الخلافة والأئمة من بعده! ! كتاب فصل الخطاب: ومن أشهر كتب هؤلاء الغلاة كتاب " فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب "، قال مؤلفه حسين بن محمد تقى النورى الطبرسي (1) في ص 2 " هذا كتاب لطيف وسفر شريف، عملته في إثبات تحريف القرآن، وفضايح أهل الجور والعدوان ". وذكر روايات كثيرة تفيدالتحريف منها: " لما انتقل سيد البشر محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من دار الفناء، وفعلا صنما قريش ما فعلا من غصب الخلافة الظاهرية، جمع أمير المؤمنين عليه السلام القرآن كله ووضعه في إزار، وأتى به إليهم وهم في المسجد، فقال لهم: هذا كتاب الله سبحانه، أمرنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أعرضه عليكم لقيام الحجة عليكم يوم العرض بين يدى الله تعالى. فقال فرعون هذه الأمة ونمرودها: لسنا محتاجين إلى قرآنك.. فنادى ابن أبى قحافة بالمسلمين وقال لهم: كل من عنده قرآن من آية أو سورة فليأت بها، فجاءه أبو عبيدة بن الجراح وعثمان، وسعد بن أبى وقاص، ومعاوية بن أبى سفيان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وأبو سعيد الخدرى، وحسان بن ثابت، وجماعات المسلمين، وجمعوا هذا القرآن، أسقطوا ما كان فيه من المثالب التي صدرت عنهم بعد وفاة سيد المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلذا ترى الآيات غير مرتبطة!! والقرآن الذي جمعه   (1) ولد سنة 1254 هـ بإحدى كور طبرستان، وتوفى بالكوفة سنة 1320 هـ، وهو صاحب كتاب مستدرك وسائل الشيعة الذي طبع بالقاهرة مع الوسائل للحر العاملى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 أمير المؤمنين عليه السلام بخطه محفوظ عند صاحب الأمر عجل الله فرجه، فيه كل شىء حتى أرش الخدش " (1) . ومنها ما نسب للإمام الصادق " لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتمونا فيه مسمين " (2) . سورة الولاية في كتاب دبستان المذاهب: ونقل عن صاحب كتاب دبستان المذاهب قوله: " بعضهم يقولون إن عثمان أحرق المصاحف، وأتلف السور التي كانت في فضل على وأهل بيته، منها هذه السورة {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وذكر سورة كاملة مفتراة، ثم عقب عليها بقوله: " ظاهر كلامه أنه أخذها من كتب الشيعة، ولم أجد لها أثراً فيها، غير أن الشيخ محمد بن على بن شهر أشوب المازندرانى ذكر في كتاب المثالب، على ما حكى عنه، أنهم أسقطوا من القرآن تمام سورة الولاية، ولعلها هذه السورة " (3) . هذه نماذج قليلة ذكرناها بنصها، والكتاب كله يخبط في ظلام هذا الضلال، ثم يفترى هذا على أهل البيت الأطهار، فمن أولئك الغلاة المفترون؟ من القائلون بالتحريف؟ قال مؤلف الكتاب السابق: " وقوع التغيير والنقصان فيه هو مذهب الشيخ الجليل على بن إبراهيم القمي شيخ الكلينى، في تفسيره صرح بذلك في أوله، وملأ كتابه من أخباره، مع التزامه في أوله بأن لا يذكر فيه إلا مشايخه وثقاته.   (1) ص 9 ـ 10، ويقصد الضالون بصنمى قريش الصديق والفاروق وفرعون هذه الأمة ونمرودها الفاروق {كَبُرَتْ كَلِمَةً تخرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} " 5: الكهف " ويراد بصاحب الأمر إمامهم الثاني عشر، وفى روايات أخرى يطلق هؤلاء الضالون على الراشدين الثلاثة: عجل هذه الأمة وفرعونها وسامريها انظر ص 155، 156، 218 من الكتاب المذكور. (2) ص 14. (3) انظر ص 156، 157 من فصل الخطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 ومذهب تلميذه ثقة الإسلام الكلينى رحمه الله على ما نسبه إليه جماعة لنقله الأخبار الكثيرة الصريحة في هذا المعنى في كتاب الحجة، خصوصاً كتاب النكت والنتف من التنزيل، وفى الروضة، ومن غير تعرض لردها أو تأويلها (1) . واستظهر المحقق السيد محسن الكاظمى في شرح الوافية مذهبه من الباب الذي عقده فيه وسماه " باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة عليهم السلام "، فإن الظاهر من طريقته أنه إنما يعقد الباب لما يرتضيه. قلت: وهو كما ذكره، فإن مذاهب القدماء تعلم غالباً من عناوين أبوابهم، وبه صرح أيضاً العلامة المجلسى في مرآة العقول. وبهذا يعلم مذهب الثقة الجليل محمد بن الحسن الصفار في كتاب البصائر من الباب الذي له أيضاً فيه، وعنوانه هكذا " باب في الأئمة أن عندهم لجميع القرآن الذي أنزل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "، وهو أصرح في الدلالة مما في الكافى، ومن باب " أن الأئمة محدثون ". وهذا المذهب صريح الثقة محمد بن إبراهيم النعمانى، تلميذ الكلينى صاحب كتاب الغيبة المشهور، في تفسيره الصغير الذي اقتصر فيه على ذكر الآيات وأقسامها، وهو بمنزلة الشرح لمقدمة تفسير على بن إبراهيم، وصريح الثقة الجليل سعيد بن عبد الله القمي في كتاب ناسخ القرآن ومنسوخه كما في المجلد التاسع عشر من البحار، فإنه عقد فيه باباً ترجمته " باب التحريف في الآيات التي هي خلاف ما أنزل الله عزوجل مما رواه مشايخنا رحمة الله عليهم من العلماء من آل محمد " (2) .   (1) انظر دراستنا لكتاب الحجة من الجزء الأول لأصول الكافى، وكذلك دراستنا لروضة الكافى، في كتاب أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله ص 296: 355، وفى الجزء الثالث من هذه الموسوعة. (2) فصل الخطاب ص 25 ـ 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 واستمر المؤلف في ذكر القائلين بالتحريف (1) إلى أن قال: " ومن جميع ما ذكرناه ونقلناه بتتبعى القاصر، يمكن دعوى الشهرة العظيمة بين المتقدمين، وانحصار المخالف فيهم بأشخاص معينين يأتى ذكرهم. قال السيد المحدث الجزائرى في الأنوار ما معناه أن الأصحاب قد أطبقوا على صحة الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة بصريحها على وقوع التحريف في القرآن كلاماً ومادة وإعراباً والتصديق بها " (2) . ثم قال: " ومن جميع ذلك ظهر فساد ما ذكره المحقق الكاظمى من انحصار القائل به في على بن إبراهيم والكلينى، أو مع المفيد وبعض متأخرى ... المتأخرين " (3) . ثم اتهم الصحابة ـ خير أمة أخرجت للناس ـ بالكفر والعناد والجبروت والغباء، ليصل إلى أنهم ليسوا أهلاً لجمعه كما أنزل (4) . وأكثر من ذكر الروايات كرواية الكلينى عن الإمام الصادق: " إن القرآن الذي جاء به جبريل عليه إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعة عشرألف آية " (5) .   (1) وممن ذكرهم محمد بن مسعود العياشى صاحب أحد تفاسيرهم المشهورة، انظر ص 26. (2) المرجع السابق ص 30. (3) المرجع السابق ص 31 ـ 32. (4) انظر ص 82. (5) الكتاب نفسة ص 211، ومعلوم أن القرآن الكريم آياته لا تصل إلى ستة آلاف وثلاثمائة، ومعنى رواية الكلينى أن أكثر من عشرة آلاف آية حذفت. " جاء في البرهان للزركشى " 1 / 251 ": عدد آياته في قول على رضي الله عنه ـ ستة آلاف ومائتان وثمان عشرة. وعطاء: ستة آلاف ومائة وسبع وسبعون. وحميد: ستة آلاف ومائتان واثنتا عشرة. وراشد: ستة آلاف ومائتان وأربع ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وقال: " إن الأخبار الدالة على ذلك ـ أي التحريف ـ تزيد على ألفى حديث، وادعى لاستفاضتها جماعة كالمفيد والمحقق والداماد والعلامة المجلسى وغيرهم (1) . ثم قال: " واعلم أن تلك الأخبار منقولة من الكتب المعتبرة التي عليها معول أصحابنا في إثبات الأحكام الشرعية، والآثار النبوية، إلا كتاب القراءات لأحمد بن محمد السيارى، فقد ضعفه أئمة الرجال، فالواجب علينا ذكر بعض القرائن الدالة على جواز الاستناد لهذا الكتاب " (2) . وقال أحد مفسرى الجعفرية (3) : " أما اعتقاد مشايخنا رحمهم الله في ذلك فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكلينى ـ طاب ثراه ـ أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن، لأنه روى روايات في هذا المعنى في كتابه الكافى، ولم يتعرض لقدح فيها، مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه، وكذلك أستاذه على بن إبراهيم القمي، فإن تفسيره مملو منه، وله علو فيه، وكذلك الشيخ أحمد بن أبى طالب الطبرسي قدس سره، فإنه أيضاً نسج على منوالهما في كتاب الاحتجاج ". وقال أحد كتابهم المعاصرين في مقدمة كتبها لتفسير القمي: " هذا التفسير، كغيره من التفاسير القديمة، يشتمل على روايات مفادها أن المصحف الذي بين أيدينا لم يسلم من التحريف والتغيير، وجوابه أنه لم ينفرد المصنف بذكرها، بل وافقه فيه غيره من المحدثين المتقدمين والمتأخرين عامة وخاصة " (4) . ثم ذكر القائلين بالتحريف فقال بأنهم " الكلينى والبرقى، والعياشى والنعمانى، وفرات بن إبراهيم، وأحمد بن أبى طالب الطبرسي صاحب الاحتجاج،   (1) ص: 227. (2) ص: 228. (3) هو محمد بن مرتضى المدعو بمحسن، انظر كتابه الصافى ج 1 الورقة 19. (4) انظر المقدمة المذكورة ص 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 والمجلسى، والسيد الجزائرى، والحر العاملى، والعلامة الفتونى، والسيد البحرانى، وقد تمسكوا في إثبات مذهبهم بالآيات والروايات التي لا يمكن الإغماض عنها. والذى يهون الخطب أن التحريف اللازم على قولهم يسير جداً مخصوص بآيات الولاية، فهو غير مغير للأحكام ولا للمفهوم الجامع الذي هو روح القرآن، فهو ليس بتحريف في الحقيقة، فلا ينال لغير الشيعة أن يشنع عليهم من هذه الجهة " (1) . معتدلو الشيعة يتصدون لحركة الغلاة: هذه حركة من حركات التشكيك والتضليل قام بها غلاة الشيعة الاثنى عشرية، وسنعود للحديث عن بعض هؤلاء الغلاة عند تناولنا لكتبهم، ولكن المهم هنا هو أن المعتدلين – إلى حد ما - من إخواننا الجعفرية قد تصدوا لهذه الحركة قديماً وحديثاً، وكشفوا القناع عن هذا الباطل، وفندوا مزاعم القائلين بالتحريف، وبينوا أن ما ذكر من روايات منسوبة لأهل البيت ـ تمسك بها القائلون بالتحريف ـ منها ما يحتمل التأويل ولا يفيد وقوع التحريف، والباقى يضرب به عرض الحائط. وأشهر من تصدى منهم لحركة التضليل في القديم محمد بن بابويه القمي، الملقب بالصدوق صاحب كتاب " من لا يحضره الفقيه "، أحد كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الجعفرية، والسيد الشريف المرتضى، وتلميذه الشيخ الطوسى: صاحب تفسير التبيان، وصاحب كتابين من كتب الحديث الأربعة السابقة، وشيخ مفسرى الجعفرية أبى على الفضل بن الحسن الطبرسي (2) . ومما ذكره السيد المرتضى قوله: " القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية، والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية   (1) تفسير القمي ـ المقدمة نفسها ص 23 ـ 24. (2) وفاة هؤلاء على الترتيب: 381، 436، 460، 548 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 حتى عرفوا كل شىء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد " (1) . وقال: " إن القرآن كان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجموعاً مؤلفاً على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له، وأن كان يعرض على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبى بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعاً مرتباً غير مبتور ولا مبثوث، وذكر أن من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته " (2) . وقال الشيخ الطوسى: " أما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به أيضاً، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى، وهو الظاهر في الروايات. غير أنه رويت روايات كثيرة، من جهة الخاصة والعامة، بنقصان كثير من أي القرآن، ونقل شىء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملا، والأولى الإعراض عنها، وترك التشاغل بها، لأنه يمكن تأويلها. ولو صحت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفتين، فإن ذلك معلوم صحته، لا يعترضه أحد من الأمة ولا يدفعه " (3) .   (1) مقدمة مجمع البيان ص 15. (2) المقدمة السابقة ص 15 وانظر رأى الطبرسي في الصفحة ذاتها. (3) التبيان 1 / 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 وقال الصدوق: " اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو ما بين الدفتين: وهو ما في أيدى الناس، وليس بأكثر من ذلك ... ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب " (1) . هذا موقف المعتدلين نسبيا في القديم، أما في الحديث فأكثر شيعة اليوم يتفقون في الظاهر مع جمهور المسلمين في أن القرآن الكريم هو ما بين الدفتين بلا زيادة أو نقصان، ومن شذ برأيه منهم، حتى كاد يخرج عن الإسلام، فلا يعتد به، ولذا قال محمد الحسين آل كاشف الغطاء: يعتقد الشيعة الإمامية " أن الكتاب الموجود في أيدى المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه ـ أي إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ للإعجاز والتحدى، ولتعليم الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم، ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ بنص الكتاب العظيم {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصة أو تحريفة ضعيفة شاذة، وأخبار آحاد، لا تفيد علماً ولا عملاً، فإما أن تؤول بنحو من الاعتبار، أو يضرب بها الجدار " (2) . وعندما خرج صاحب فصل الخطاب بكتابه تصدى له كثير من علماء الشيعة وسفهوا رأيه، وبينوا خطأ ما جاء به جملة وتفصيلاً. منهم ـ على سبيل المثال ـ السيد أبو القاسم الخوئى مرجعهم السابق بالعراق (3) والشيخ محمد جواد البلاغى   (1) رسالته في الاعتقادات: ص 93. (2) أصل الشيعة وأصولها ص 133. (3) انظر كتابه البيان ص 215 ـ 278 وبعد بحثه قال تحت عنوان " النتيجة " ص 278: " ومما ذكرناه: قد تبين للقارئ أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال، لا يقول به إلا من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل، أو من ألجأه إليه بحب القول به، والحب يعمى ويصم، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 النجفى (1) والشيخ محمد تقى الحكيم (2) . فلسنا في حاجة إذن إلى ذكر شبهات الضالين، وبيان بطلانها، فقد تكفل إخواننا الجعفرية بهذا، بل إن الإخباريين الذين يرون صحة جميع الأخبار الواردة عن أهل البيت، ولذا ذهبوا إلى القول بالتحريف، وجدنا منهم من ينكر هذا التحريف. قال مرجعهم السابق بالكويت: " مذهبنا ـ ومذهب كل مسلم ـ بأن القرآن الكريم المتداول بين أيدينا ليس فيه أي تحريف بزيادة أو نقصان، وما ذكر في بعض الأحاديث بأن فيه تحريفاً ونقصاناً فهو مخالف لعقيدتنا في القرآن الذي هو الذكر المحفوظ، والذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " (3) . هذا اتجاه طيب، وهداية مرجوة، فلعل الله عزوجل يهدى باقى إخواننا الجعفرية الصراط المستقيم، وإن كان هؤلاء الذين يمثلون جانب الاعتدال إلى حد ما في المذهب الجعفرى عز عليهم أن يكون الغلاة الضالون القائلون بالتحريف جعفريين، ولذا حاولوا إبعاد هذه التهمة عمن له مكانة عالية بينهم، وإلصاقها بجمهور المسلمين! ومن المقطوع به أن جمهور المسلمين ليس منهم من يقول بالتحريف. فلا نعرف أحداً من جمهور المسلمين يقول بأن الصحابة الكرام أسقطوا شيئاً من القرآن الكريم كما قال غلاة الجعفرية، والجعفرية يدركون هذا تماماً ولذا حاولوا نسبة هذا الجرم الشنيع لغيرهم بقولهم بأن القول بنسخ التلاوة قول بالتحريف، ليصلوا من هذا إلى أن أكثر أهل السنة قائلون بالتحريف!   (1) انظر مقدمته لتفسير شبر ص 16: 19. (2) راجع كتابه الأصول العامة للفقه المقارن ص 107: 117. (3) تعليق على مقال ص 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 ونسخ التلاوة يعنى أن آيات نزلت، ثم أمر الله تعالى برفعها، وقد أتى الله تعالى بمثلها أو بخير منها {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ... } " 106: البقرة " أي أن الشارع الحكيم هو الذي أمر بهذا الرفع. فهذا النسخ لو سلمنا بوجوده فإنه كما يقول أستاذنا الجليل المرحوم الدكتور مصطفى زيد " لا يعتبر مطعناً ولا شبه مطعن في القرآن الكريم الذي تكفل الله ـ عزوجل ـ بحفظه من التغيير والتبديل، وهو الذي جمع بين دفتى المصحف، ولا يعتبر مطعناً ولا شبه مطعن كذلك في الوحى الذي تنزل به جبريل على قلب محمد، ما دام المرفوع منه قد رفع في عهد التنزيل، ولم ترفع منه كلمة واحدة بعد أن انتقل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَـ إلى الرفيق الأعلى. " النسخ في القرآن الكريم 1 / 282: 283 ". فما بين الدفتين هو القرآن الكريم الذي أمرنا بتلاوته وتدبره، وتنفيذ أحكامه، بغير زيادة أو نقصان، فكيف يقال بأن النسخ تحريف؟ على أن الجعفرية الذين تصدوا لحركة التضليل في الماضى قائلون بهذا النسخ، بل مدافعون عنه، فكيف غاب هذا عن شيعة اليوم وهم يخلطون بين النسخ والتحريف ليصلوا إلى مأربهم! ولنذكر مثلاً شيخ الطائفة الطوسى، قال في تفسيره التبيان " 1 / 13 ": " لا يخلو النسخ في القرآن الكريم من أقسام ثلاثة، أحدها: نسخ حكمه دون لفظه.. الثاني ما نسخ لفظه دون حكمه كآية الرجم، فإن وجوب الرجم على المحصنة لا خلاف فيه، والآية التي كانت متضمنه له منسوخة بلا خلاف وهى قوله (والشيخ والشيخة إذا زنيا) .. والثالث: ما نسخ لفظه وحكمه، وذلك نحو ما رواه المخالفون عن عائشة أنه كان فيما أنزل الله عشر رضعات ". وقال في موضع آخر " 1/ 394 ": " وقد أنكر قوم جواز نسخ القرآن، وفيما ذكرناه دليل على بطلان قولهم، وجاءت أخبار متظافرة بأنه كانت أشياء في القرآن نسخت تلاوتها ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 والنوع الثالث لأن روايته عن المخالفين ـ أي غير الجعفرية ـ قال عنه الطوسى بأنه " مجوز وإن لم يقطع بأنه كان "، أما النوع الثاني فإنه يؤيده برواية الشيخ والشيخة، ويقول بأنها رواية مشهورة، فهذه الرواية من روايات الجعفرية كذلك، ورواها أيضا على بن إبراهيم القمي الذي ينسب رواياته إلى الإمامين الباقر والصادق " انظر تفسيره 2 / 95، وانظر كذلك مجمع البيان 1 / 180 ـ 181 لترى اتفاق الطبرسي مع الطوسى في النسخ ". ولسنا بهذا نؤيد إمكان وقوع هذا النسخ أو عدم إمكانه، ولكنا نبين لإخواننا الجعفرية أن شيخ طائفتهم الذي دافع عن القول بعدم التحريف، دافع عن القول بنسخ التلاوة، لأن النسخ من الشارع الحكيم والتحريف من البشر بعد عصر التنزيل، فالنسخ والتحريف مختلفان تماماً، فكيف إذن يغيب هذا عن مرجع الجعفرية السابق بالعراق فيقول: " غير خفى أن القول بنسخ التلاوة هو بعينه القول بالتحريف والإسقاط " " البيان ص 244 " ثم يستمر ليقول: " وعلى ذلك فيمكن أن يدعى أن القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة! لأنهم يقولون بجواز نسخ التلاوة " ثم يقول في ص 225: " قد عرفت أن القول بعدم التحريف هو المشهور، بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم! " ويشير إلى ما ذكره الطبرسي في مجمع البيان " ج 1 ص 15 " من الاستدلال على بطلان القول بالتحريف. ولو استمر مرجع الجعفرية إلى ص 180 لوجد استدلال الطبرسي كذلك على نسخ التلاوة! وما الرأى عند السيد فيمن ذكروا من الضالين القائلين بالتحريف؟ أليسوا من علماء الشيعة؟ أولا يعد أكثرهم عند الشيعة من المحققين؟ كالقمى، والعياشى، والكلينى، والنعمانى، والمجلسى وغيرهم. أفلا يذكر السيد الخوئى ما ذهب إليه في كتابه معجم رجال الحديث ... " ج 1 ص 3 - 64 " من صحة تفسير على بن إبراهيم القمي، شيخ الكلينى، وأن روايات كتاب التفسير هذا " ثابتة وصادرة من المعصومين عليهم السلام، وأنها انتهت إليه بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة "؟ أو لم يقرأ السيد تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 الروايات ليرى فيها النص على القول بتحريف القرآن الكريم؟ وقد حكم هو بصحتها! وإذا صدر هذا منه فماذا تنتظر من غيره؟! (1) وبعد: فقد أوجزت هنا سائلاً الله تعالى ألا أكون تركت ما يجب ذكره، أو ذكرت ما يجب تركه.   (1) بعد قليل يأتى الحديث عن تفسيرى القمي والعياشى الضالين، وانظر ما كتبته عن الكافى للكلينى في كتاب أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 الفصل الرابع: كتب التفسير الشيعي في القرن الثالث ذكرت من قبل أن الجعفرية درجات بين الاعتدال النسبى والغلو فليسوا سواء، وإنا نرى لزاماً علينا الرجوع إلى كتبهم المختلفة لنرى إلى أي مدى أثرت عقيدة الإمامة عندهم في تناولهم لكتاب الله تعالى. وعندما رجعت إلى الكثير من كتبهم وجدت أن القرن الثالث ظهر فيه ثلاثة كتب هي التفسير المنسوب للإمام العسكرى ـ إمامهم الحادى عشر ـ وتفسيرا العياشى، والقمى، وهذه الثلاثة تمثل جانب التطرف في المذهب الجعفرى. ثم يأتى شيخ الطائفة الطوسى " المتوفى سنة 460 هـ " فيخرج كتابه التبيان الذي يمثل جانبا من الاعتدال، ويليه الطبرسي شيخ مفسريهم. والجعفرية بعد هذا منهم من سلك أحد المسلكين، ومنهم من جمع بينهما، أو اقترب من أحدهما. ونتحدث في هذا الفصل عن الكتب الثلاثة التي ظهرت في القرن الثالث، ثم نتحدث عن باقى الكتب في الفصول الأخرى. ***** الكتاب الأول تفسير الحسن العسكرى قصة إملاء الكتاب: التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكرى يرويه أبو يعقوب يوسف بن محمد ابن زياد، وأبو الحسن على بن محمد بن سيار (1) ، ويقولان: إن الإمام أملى عليهما هذا التفسير، ويذكران قصة لهذا الإملاء (2) . وهو تفسير لم يكمل، وإنما يتناول الفاتحة وسورة البقرة إلى قبيل خاتمتها بأربع آيات.   (1) الراويان من الثقات عند الجعفرية ـ انظر ترجمتيهما في تنقيح المقال للمامقانى. (2) انظر الصفحة الثانية وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 غلو وضلال: وهو كتاب يبين عقيدة الإمامة، وما يتصل بها عند غلاة الجعفرية، ويخضع الآيات الكريمة لهذه العقيدة الفاسدة، ذاكراً ما يأباه ديننا الحنيف، وكل عقل سليم لم يمرضه الهوى والضلال. والكتاب مملوء بالافتراء على الله تعالى، وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى أهل البيت الأطهار. فالكتاب إذن ليس تفسيراً بالمعنى الصحيح، وإنما هو كتاب من كتب الفرق الضالة، ولنضرب لذلك الأمثال حتى يحكم القارىء بنفسه. كفر من أنكر ولاية على: جاء في تفسير قوله تعالى: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} " 4: البقرة ". قال الإمام: " قال الحسن بن على: من دفع فضل أمير المؤمنين على جميع من بعد النبي فقد كذب بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وسائر كتب الله المنزلة، فإنه ما نزل شىء منها إلا وأهم ما فيه ـ بعد الأمر بتوحيد الله تعالى والإقرار بالنبوة ـ الاعتراف بولاية على والطيبين من آله. ولقد حضر رجل عند على بن الحسين فقال له: ما تقول في رجل يؤمن بما أنزل الله على محمد، وما أنزل على من قبله، ويؤمن بالآخرة، ويصلى ويزكى، ويصل الرحم، ويعمل الصالحات، ولكنه مع ذلك يقول ما أدرى الحق لعلى أو لفلان، فقال له على بن الحسين: ما تقول أنت في رجل يفعل هذه الخيرات كلها إلا إنه يقول: لا أدرى: النبي محمد أو مسيلمة؟ هل ينتفع بشىء من هذه الأفعال؟ فقال: لا. فقال: وكذلك قال صاحبك هذا، كيف يكون مؤمنا بهذه الكتب من لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 يدرى: أمحمد النبي أم مسيلمة الكذاب؟ وكذلك (1) كيف يكون مؤمناً بهذه الكتب، أو منتفعا به، من لا يدرى أعلى محق أم فلان " (2) . شهادة البساط والسوط والحمار للوصى: وفى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} " 6: البقرة " قال الإمام: " فلما ذكر هؤلاء المؤمنين، ومدحهم بتوحيد الله وبنبوة محمد رسول الله، ووصيه على ولى الله، ذكر الكافرين المخالفين لهم في كفرهم فقال: إن الذين كفروا بما آمن به هؤلاء المؤمنون بتوحيد الله تعالى، وبنبوة محمد رسول الله، وبوصيه على ولى الله، وبالأئمة الطاهرين الطيبين، خيار عباده الميامين، القوامين بمصالح خلق الله تعالى، سواء عليهم ءأنذرتهم وخوفتهم أم لم تنذرهم ولو تخوفهم فهم لا يؤمنون. قال محمد بن على الباقر: إن رسول الله لما قدم المدينة، وظهرت آثار صدقه، وآيات حقه، وبينات نبوته، كادته اليهود أشد كيد: وقصدوه أقبح قصد، يقصدون أنواره ليطمسوها، وحججه ليبطلوها، وكان ممن قصده للرد عليه وتكذيبه مالك بن الصيف، وكعب بن الأشرف، وحيى بن الأخطب، وأبو ياسر بن الأخطب، وأبو لبابة بن عبد المنذر، وشيبة. فقال مالك لرسول الله: يا محمد تزعم أنك رسول الله؟ قال رسول الله: كذلك قال الله خالق الخلق أجمعين. قال: يا محمد لن نؤمن أنك رسوله حتى يؤمن لك هذا البساط الذي تحتنا، ولن نشهد لك أنك من الله جئتنا حتى يشهد لك هذا البساط. وقال أبو لبابة بن عبد المنذر: لن نؤمن لك يا محمد أنك رسول الله، ولا نشهد لك به، حتى يؤمن ويشهد لك به هذا السوط الذي في يدى. وقال كعب الأشرف: لن نؤمن لك أنك رسول الله ولن نصدقك به حتى يؤمن لك هذا الحمار الذي أركبه، فقال رسول الله: إنه ليس للعباد الاقتراح على الله تعالى، بل عليهم التسليم لله،   (1) في الأصل " كك ". (2) ص 32: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 والانقياد لأمره، والاكتفاء بما جعله كافيا. أما كفاكم أن أنطق التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم بنبوتى، ودل على صدقى، وبين فيها ذكر أخى ووصيى وخليفتى في أمتى، وخير ما أتركه على الخلايق من بعدى، على بن أبى طالب؟ فلما فرغ رسول الله من كلامه هذا أنطق الله البساط فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهاً واحداً أحداً صمداً قيوماً أبداً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولم يشرك في حكمه أحداً. وأشهد أنك يا محمد عبده ورسوله، أرسلك بالهدى ودين الحق ليظهرك على الدين كله ولو كره المشركين. وأشهد أن على بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أخوك ووصيك، وخليفتك في أمتك وخير من تركته على الخلايق بعدك، إن من والاه فقد والاك، ومن عاداه فقد عاداك، ومن أطاعه فقد أطاعك، ومن عصاه فقد عصاك " (1) . وتستمر القصة لتبين أن البساط تحرك وأوقع من عليه، وأنه نطق ثانياً ليبين أن الله تعالى أنطقه ليشهد هذه الشهادة، وأنه لا يجلس عليه إلا المؤمنون. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسلمان والمقداد وأبى ذر وعمار: قوموا فاجلسوا عليه، فإنكم بجميع ما شهد به هذا البساط مؤمنون، فجلسوا عليه. وبمثل هذا شهد السوط، ثم الحمار، ثم قال: فلما انصرف القوم من عند رسول الله ولم يؤمنوا أنزل الله يا محمد: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ... } الآية (2) . قصص خرافية: وفى الحديث عن قوله تعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} ... الآية 7: البقرة " قصص خرافية عن على: كسائل طلب منه مساعدته لقضاء دينه فنادته الملائكة   (1) ص 34. (2) انظر ص 34: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 من السماء ليخبر السائل بأن يضع يده على ما يشاء لتكون ذهباً، ففعل وقضى دينه، وبقى له كذا وكذا ... إلخ (1) . يوم الغدير ومابعده: وفى تفسير: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} "8: البقرة " يقول: قال الإمام: قال العالم موسى بن جعفر: "إن رسول الله لما أوقف أمير المؤمنين في يوم الغدير موقفه المشهور " وذكر صاحب التفسير هنا أخذ البيعة من الصحابة وأولهم أبو بكر وبعده عمر، ثم قال: "ثم إن قوماً من متمرديهم وجبابرتهم تواطئوا بينهم لئن كانت لمحمد كائنة ليدفعن هذا الأمر من على، ولا يتركونه له، فعرف الله ذلك من قبلهم، وكانوا يأتون رسول الله ويقولون: لقد أقمت علينا أحب خلق الله إلى الله وإليك وإلينا، فكفيتنا به مؤنة الظلمة لنا والجبارين في سياستنا، وعلم الله من قلوبهم خلاف ذلك من مواطأة بعضهم لبعض، أنهم على العداوة مقيمون، ولدفع الأمر عن مستحقه مؤثرون، فأخبر الله ـ عز وجل ـ محمداً عنهم فقال: يا محمد، ومن الناس من يقول آمنا بالله الذي أمرك بنصب على إماماً وسايساً لأمتك ومدبراً، وماهم بمؤمنين بذلك، ولكنهم تواطئوا على إهلاكك وإهلاكه، يوطنون أنفسهم على التمرد على علىّ إن كانت بك كائنة " (2) . اتهام الشيخين والصحابة بالنفاق والكذب والكفر!! ثم يستمر الكتاب بعد ذلك في جعل الآيات متصلة ببيعة الصحابة للإمام على، واتهام الصحابة الأكرمين ـ وفى مقدمتهم الصديق والفاروق ـ بالنفاق والكذب والكفر!! فعند الحديث عن قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا   (1) انظر ص 36: 41. (2) ص: 41 ـ 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ... } " 9: البقرة " يقول: " قال الإمام: قال موسى بن جعفر: لما اتصل ذلك من مواطأتهم، وقيلهم في على، وسوء تدبيرهم عليه، برسول الله فدعاهم وعاقبهم، فاجتهدوا في الإيمان، وقال أولهم: يا رسول الله، والله ما اعتددت بشىء كاعتدادى بهذه البيعة، ولقد رجوت أن يفتح الله بها لي في قصور الجنان، ويجعلنى فيها من أفضل النزال والسكان. وقال ثانيهم: بأبى أنت وأمى يا رسول الله، ما وثقت بدخول الجنة والنجاة من النار إلا بهذه البيعة، والله ما يسرنى أن نقضتها أو نكثت بعد ما أعطيت من نفسى ما أعطيت، وأن لي طلاع ما بين الثرى إلى العرش. وقال ثالثهم: يا رسول الله، لقد صرت من الفرح والسرور بهذه البيعة والفتح من الآمال في رضوان الله، وأيقنت أنه لو كانت ذنوب أهل الأرض كلها على لمحصت عنى بهذه البيعة. ثم تتابع بمثل هذا الاعتذار من بعدهم من الجبابرة والمتمردين. فقال الله عزوجل لمحمد: يخادعون الله: يعنى يخادعون رسول الله بائتمان خلاف ما في جوانحهم، والذين آمنوا كذلك أيضاً، الذين سيدهم وفاضلهم على بن أبى طالب. ثم قال: وما يخادعون ما يضرون من تلك الخديعة إلا أنفسهم، فإن الله غنى عنهم وعن نصرتهم، ولولا إمهاله لهم لما قدروا على شئ من فجورهم وطغيانهم، وما يشعرون أن الأمر كذلك، وأن الله يطلع نبيه على نفاقهم وكذبهم وكفرهم، ويأمره بلعنهم في لعنة الظالمين الناكثين، وذلك اللعن لا يفارقهم في الدنيا، ويلعنهم خيار عباد الله، وفى الآخرة يبتلون بشدائد عقاب الله " (1) . زعمه بأن الصحابة لا يؤمنون بأى دين!! وهو يرى بأن هؤلاء الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ لا يؤمنون بأى دين!! فمثلاً عند الحديث عن قوله تعالى: {وَإِذَا قيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ   (1) ص: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} " 11 - 12 البقرة " يقول: " قال العالم موسى بن جعفر: إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبيعة في يوم الغدير، لا تفسدوا في الأرض بإظهار نكث البيعة بعباد الله المستضعفين، فتشوشون عليهم دينهم، وتحيرونهم في مذاهبهم، قالوا: إنما نحن مصلحون، لأنا لا نعتقد دين محمد ولا غير دين محمد ... إلخ (1) . دعوة موسى لولاية على!! والكتاب كله تقريباً يدور حول الإمامة وما يتصل بها، وكأن القرآن الكريم ما نزل إلا لدعوة الناس إلى إمامة الإمام على! ثم إن هذه الدعوة ليست قاصرة على أمة محمد ـ صلوات الله عليه ـ فعند قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} ... " 53: البقرة " يقول: " لما أكرمهم الله بالكتاب والإيمان به والانقياد له، أوحى الله بعد ذلك إلى موسى ... يا موسى: تأخذ على بنى إسرائيل أن محمداً خير النبيين وسيد المرسلين، وأن أخاه ووصيه علياً خير الوصيين، لعلكم تهتدون: أي لعلكم تعلمون أن الذي شرف العبد عند الله ـ عزوجل ـ هو اعتقاد الولاية كما شرف به أسلافكم " (2) . قصص خرافية تصلح للأطفال: والكتاب لا يكتفى بهذا الضلال في تحريف القرآن الكريم ليتفق مع هواه وغيه، وإنما يذكر من الخرافات ما يذكرنا بالقصص الخرافية للأطفال! فمثلاً عندما يتحدث عن سبب نزول قوله تعالى: {في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً   (1) ص 44. (2) ص 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ... } " 10: البقرة " يقول: " قال الإمام: قال موسى بن جعفر: إن رسول الله لما اعتذر هؤلاء المنافقون إليه بما اعتذروا، وتكرم عليهم بأن قبل ظواهرهم، ووكل بواطنهم إلى ربهم، لكن جبريل أتاه فقال: يا محمد، إن العلى الأعلى يقرئك السلام ويقول: أخرج بهؤلاء المردة الذين اتصل بك عنهم في على نكثهم لبيعته، وتوطيهم نفوسهم على مخالفتهم علياً، ليظهر من عجايب ما أكرمه الله به من طواعية الأرض والجبال والسماء له، وسائر ما خلق الله، لما أوقفه موقفك وأقامه مقامك، ليعلموا أن ولى الله علياً غنى عنهم، وأنه لا يكف عنهم انتقامه منهم إلا بأمر الله الذي له فيه وفيهم التدبير الذي هو بالغه " (1) . وذكر أنه خرج صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهؤلاء وعلى، حيث استقر عند سفح بعض جبال المدينة، فسأل ربه فانقلبت ذهباً، ثم فضة، ثم انقلبت الأشجار إلى رجال شاكى السلاح، وأسود ونمور وثعابين، وكلها ناجت وصى رسول الله بأنها تحت أمره ... إلخ. فمرضت قلوب القوم لما شاهدوا من ذلك. مضافاً إلى ما كان من مرض حسدهم لعلى بن أبى طالب، فقال الله عند ذلك: {فِي قلُوبِهِم مَّرَضٌ} الآية (2) . معجزات الإمام علي: وعند تفسير قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} " 23: البقرة " يتحدث عن المعنى ـ وهو متصل بالولاية كسائر الآيات ـ ثم يتحدث عن معجزات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعجزات الإمام على، ومن هذه المعجزات التي ذكرها:   (1) ص 42: 43. (2) انظر ص 43: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 الغمامة التي أظلت الرسول الكريم في تجارته للشام، وكان مكتوباً عليها " لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدته بعلى سيد الوصيين، وشرفته بأصحابه الموالين له ولعلى ولأوليائهما، والمعادين لأعدائهما " (1) . ومنها: تسليم الجبال والصخور والأحجار على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتبشيره بوصيه وباب مدينة علمه على بن أبى طالب (2) . ومنها: أن شجرتين تلاصقتا ليقضى الرسول حاجته، وأن نظير هذا كان لعلى بن أبى طالب لما رجع من صفين، حيث تلاصقت شجرتان كان بينهما أكثر من فرسخ (3) . صكوك الغفران: وحتى يغرر بضعاف العقول، وجهلة القوم، ليؤمنوا بهذه الخرافات، ويسيروا في ظلمات هذا الضلال، يصدر صكوك الغفران! وقد بين أن جهنم اعدت للكافرين بولاية على، المنافقين في اظهار الرضا عن البيعة كما أشرنا من قبل. ثم يتعمد الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليكون للصك قيمته حتى يمكن التأثير على هذا الصنف من الناس. اقرأ مثلاً ما كتب عن قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الذِينَ اشْتَرُوُاْ الضلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ... } ... " 16: البقرة "، فإنك تجد الحديث عن البيعة، والافتراء على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه قال: " أما إن من شيعة على لمن يأتى يوم القيامة وقد وضع له في كفة ميزانه من الآثام ما هو أعظم من الجبال الرواسى، والبحار الثبار، يقول الخلائق: هلك هذا العبد، فلا يشكون أنه من الهالكين، وفى عذاب الله من الخالدين. فيأتيه ... النداء من قبل الله عزوجل: يأيها العبد الخاطى الخانى هذه الذنوب الموبقات، فهل   (1) انظر ص 60. (2) انظر ص 61. (3) انظر ص 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 بإذائها حسنات تكافيها فتدخل جنة الله برحمة الله، أو تزيد عليها فتدخلها بوعد الله؟ يقول العبد: لا أدرى، فيقول منادى ربنا عزوجل: فإن ربى يقول ناد إلى عرضات القيامة: ألا إني فلان بن فلان، من أهل بلد كذا وكذا، وقرية كذا وكذا، قد رهنت بسيئات كأمثال الجبال والبحار، ولا حسنات لي بإزائها، فأى أهل هذا المكان لي عنده يد أو عارفة فينعتنى بمجازاتى عنها، فهذا أوان أشد حاجتى إليها. فينادى الرجل بذلك، فأول من يجيبه على بن أبى طالب: لبيك لبيك، أيها الممتحن في محبتى، المظلوم بعداوتى، ثم يأتى هو ومعه عدد كثير وجمع غفير، وإن كانوا أقل عدداً من خصمائه الذين لهم قبله الظلامات، فيقول ذلك العدد: يا أمير المؤمنين، نحن إخوانه المؤمنون، كان بنا باراً ولنا مكرماً، وفى معاشرته إيانا مع كثرة إحسانه إلينا متواضعاً، وقد بذلنا له جميع طاعاتنا، وبذلناها له. فيقول على: فبماذا تدخلون جنة ربكم؟ فيقولون: برحمته الواسعة التي لا يعدمها من والاك يا أخا رسول الله، فيأتى النداء من قبل الله عزوجل: يا أخا رسول الله، هؤلاء إخوانه المؤمنون قد بذلوا له، فأنت ماذا تبذل له؟ فإنى أنا الحاكم ما بينى وبينه من الذنوب، قد غفرتها له بموالاته إياك، وما بينه وبين عبادى من الظلامات فلابد من فصل الحكم بينه وبينهم. فيقول على: يا رب أفعل ما تأمرنى. فيقول الله عزوجل: يا على، اضمن لخصمائه تعويضهم عن ظلاماتهم قبله، فيضمن لهم على ذلك، ويقول لهم: اقترحوا على ما شئتم اعطيكموه عوضاً عن ظلاماتكم قبله. فيقولون: يا أخا رسول الله تجعل لنا ... ثواب نفس من أنفاسك ليلة بيوتك على فراش محمد رسول الله. فيقول على: قد وهبت ذلك لكم. فيقول الله عزوجل: فانظروا يا عبادى الآن إلى ما نلتموه من على بن أبى طالب فدى لصاحبه من ظلاماته، ويظهر لكم ثواب نفس واحد في الجنان من عجايب قصورها وخيراتها: ثم قال رسول الله: أذلك خير نزلاً أم شجرة الزقوم المعدة لمخالفى أخى ووصيي على بن أبى طالب " (1) .   (1) ص: 48 ـ 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 بعد هذا العرض أظن أن القارئ قد تأكد بنفسه مما قلته من أن هذا الكتاب ليس تفسيراً بالمعنى الصحيح، وإنما هو كتاب من كتب الفرق الضالة التي رزئ بها الإسلام، وأنه أثر من آثار الغلو في عقيدة الإمامة. لمن هذا الكتاب؟ يبقى هنا أن نتساءل: لمن هذا الكتاب؟ أهو فعلاً للإمام الحسن العسكرى؟ أظن لا، بل أكاد أقطع بهذا؛ فهذا الرجل الطاهر الصالح ليس كافراً وليس ضالاً، وإنما كفر وضل أولئك الذين غالوا فيه، وفى آبائه الكرام البررة. ومن الشيعة أنفسهم من يرى عدم صحة نسبة الكتاب للإمام، ويطعن في السند، ويرى أنه مشتمل على المناكير. وأشار إلى هذا صاحب كتاب الذريعة عند حديثه عن هذا التفسير، غير أنه أطال في محاولة إثبات أن هذا الكتاب من إملاء الإمام، وسود بهذا تسع صفحات في الجزء الرابع " ص 285: 293 "، وقال عن المناكير التي ذكرنا شيئاً منها: ليس فيه إلا بعض غرائب المعجزات مما لا يوجد في غيره! والكتب التي اطلعت عليها لغير غلاة الشيعة لا تشير إلى هذا التفسير، ولا تنقل عنه، فلو كان عندهم كتاب إمام يرونه القرآن الناطق، لالتزموا بما جاء فيه. ولكن هذا في رأيي لا يكفى، فكان الواجب الإشارة إلى الكتاب وما به من كفر وضلال. ويبقى أن بعض شيعة الأمس واليوم من المتطرفين الغلاة يعتقدون صحة نسبة هذا التفسير للإمام العسكرى، وبعض مفسريهم نقله كاملاً. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 الكتاب الثاني تفسير القمي منزلة الكتاب وصاحبه عند الشيعة: ثانى هذه الكتب الثلاثة تفسير القمي: لأبى الحسن على بن إبراهيم بن هاشم القمي، وهو يشمل القرآن الكريم كله. وصاحب الكتاب (1) كان في عصر الإمام العسكرى، وعاش إلى سنة 307، وهو ثقة عند الشيعة، يعتبر من أجل الرواة عندهم، وقد أكثر من النقل عنه تلميذه محمد بن يعقوب الكلينى في كتابه الكافى، الكتاب الأول في الحديث عند الجعفرية الاثنى عشرية. وقال آقابزرك الطهرانى ـ صاحب الذريعة ـ عن الكتاب بأنه أثر نفيس وسفر خالد مأثور عن الإمامين أبى جعفر الباقر وأبى عبد الله الصادق (2) . وقال السيد طيب الموسوى الجزائرى في مقدمته عنه (3) بأنه " تحفة عصرية، ونخبة أثرية لأنها مشتملة على خصائص شتى قلما تجدها في غيرها، فمنها: 1 - أن هذا التفسير أصل أصوله للتفاسير الكثيرة. 2 - أن رواياته مروية عن الصادقين عليهما السلام مع قلة الوسائط والإسناد، ولهذا قال في الذريعة: " إنه في الحقيقة تفسير الصادقين عليهما ... السلام ". 3 - مؤلفه كان في زمن الإمام العسكرى. 4 - أبوه الذي روى هذه الأخبار لابنه كان صحابياً للإمام الرضا. 5 - أن فيه علماً جماً من فضائل أهل البيت عليهم السلام التي سعى أعداؤهم   (1) انظر ما كتبه الجزائرى عنه في مقدمته لهذا التفسير ص 8. (2) انظر كلمته: ج 1 ص 5 ـ 6 من تفسير القمي، وراجع ما ذكره عن تفسير القمي في الذريعة 4 / 302: 309. (3) راجع ص 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 لإخراجها من القرآن. 6 - أنه متكفل لبيان كثير من الآيات القرآنية التي لم يفهم مرادها تماماً إلا بمعونة إرشاد أهل البيت التالين للقرآن (1) . وبادئ ذى بدء أحب أن أسجل الدهشة والعجب! فكيف يحتل الكتاب وصاحبه هذه المكانة عند إخواننا الجعفرية وهو من أوائل الغلاة الضالين الذين قادوا حركة القول بتحريف القرآن الكريم؟ ! ونقلنا هذا من قبل، ونقلنا كذلك ما ذكره الجزائرى في مقدمته للكتاب من ذهاب القمي إلى القول بتحريف القرآن الكريم ودفاع الجزائرى عنه وعن هذا التحريف (2) !! والقمى في مقدمته لتفسيره يذكر هذا الذي يذهب إليه، ويضرب له أمثلة ببعض آيات يرى أنها محرفة (3) ، والكتاب كله بعد ذلك مملوء بالضلال المضل من ذكر التحريف، والجدل لتخطئة بعض آيات الله تعالى، أو الزعم بفساد الترتيب والنظم (4) .   (1) انظر ص 20. (2) انظر ص 23 ـ 24 من المقدمة المذكورة. (3) راجع مقدمة تفسيره ص 10 ـ 11. (4) انظر مثلاً: ج 1 ص 110، 118، 122، 125، 126، 272 ... . إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 مظاهر الغلو والضلال أثر عقيدة الإمامة في الكتاب يظهر فيما يأتى: أولاً: القول بتحريف القرآن الكريم: ما ذكرناه آنفاً من القول بالتحريف، وبينا من قبل أن عقيدة أولئك الغلاة هي التي دفعتهم إلى ما ذهبوا إليه (1) ونزيد ذلك بياناً بقليل من الأمثلة التي ما أكثرها في هذا التفسير!! نسب للإمام ابى جعفر أنه قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ يا على فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًاً} هكذا نزلت. ... ثم قال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... } (2) . وفى سورة الزخرف قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} (3) . وواضح ان الآيات تتحدث عن المسيح   (1) راجع ص 153 من هذا الفصل. (2) 1 / 142، والآيتان من سورة النساء " 64 ـ 65 "، والخطاب فيهما للرسول الكريم، فجعله القمي للإمام على فزاد " يا على " مرتين، أي أن هذه الزيادة حذفت من القرآن الكريم، وهذا يذكرنا بالفرقة الغرابية ـ من غلاة الشيعة ـ التي قالت بأن الرسالة كانت لعلى فأخطأ جبريل ونزل على محمد!! (3) الآيات 57 ـ 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 عليه السلام، ولكنه يذكر الآية الأخيرة هكذا " إن على إلا عبد ... " ثم يقول: " فمحى اسمه من هذا الموضع " (1) . وفى سورة محمد يروى أن اسم على أسقط في موضعين ذكرهما في كتابه (2) . ثانياً: الطعن في الصحابة: نتيجة لما ذكرته من التلازم بين القول بالتحريف والطعن في خير أمة أخرجت للناس صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين تحملوا معه أعباء الرسالة ونشرها، والدفاع عنها والتضحية من أجلها بالنفس والأهل والمال والوطن، نتيجة هذا التلازم نرى القمي يقدم على هذا الجرم، فيطعن في الصحابة الأكرمين، ويتهمهم بالكفر والنفاق والإشراك ليصل إلى القول بالتحريف، وإسقاط أسماء الأئمة، واغتصاب الخلافة! ولنذكر بعض الأمثلة: في سورة المائدة " الآية السابعة ": {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ ... } يقول القمي: " لما أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الميثاق عليهم بالولايه قالوا سمعنا وأطعنا، ثم نقضوا ميثاقهم ". ثم يقول عن قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ} (3) يعنى نقض عهد أمير المؤمنين (4) .   (1) 2 / 286. (2) انظر 2 / 301 ـ 302. (3) المائدة: الآية: 13 والآية السابقة لها هي، {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ ... } فجعلها القمي لولاية الإمام على، وجعل اللعن للصحابة الأبرار بأنهم نقضوا عهد أمير المؤمنين. (4) 1 / 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 وسورة القصص: {طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (1) وهذه الآيات الكريمة بالنص تتحدث عن موسى وفرعون {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ} ولكن القمي يقول عن فرعون وهامان وجنودهما: " هم الذين غصبوا آل محمد حقهم وقوله " منهم " أي من آل محمد " ما كانوا يحذرون " أي من القتل والعذاب، ولو كانت هذه الآية. نزلت في موسى وفرعون لقال: ونرى فرعون وهامان وجنودهما منه ما كانوا يحذرون أي من موسى، ولم يقل منهم " (2) . وفى سورة الزمر: {وَقَالَ لَهمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} (3) يقول: " أي طابت مواليدكم لأنه لا يدخل الجنة إلا طيب المولد: قال أمير المؤمنين: إن فلاناً وفلاناً غصبوا حقنا واشتروا به الإماء، وتزوجوا به النساء، ألا وإن قد جعلنا شيعتنا من ذلك في حل لتطيب مواليدهم " (4) .   (1) من أول السورة إلى الآية السادسة. (2) 2 / 133، ومعلوم أن ضمير الجمع كضمائر الجمع السابقة تعود على قوم موسى لا عليه هو. (3) الآية 73. (4) 2 / 254، والمراد بفلان وفلان الشيخان الصديق والفاروق حيث اعتبر خلافتهما غصباً، وهذا الافتراء طعن للإمام نفسه، فقد زوج ابنته سيدنا عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وفى سورة الزخرف يقول: نزلت هاتان الآيتان هكذا قول الله تعإلى: {حَتَّى إِذَا جَاءنَا} - يعنى فلاناً وفلاناً ـ يقول أحدهما لصاحبه حين يراه - {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} فقال الله لنبيه: قل لفلان وفلان واتباعهما {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ آل محمد حقهم أَنَّكمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} ثم قال الله لنبيه: {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} ، {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} يعنى من فلان وفلان، ثم أوحى الله إلى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ في على إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يعنى إنك على ولاية على، وعلى هو الصراط المستقيم (1) . وسورة محمد كلها تقريباً تدور حول الطعن والتحريف فأولها: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعمَالَهُمْ} يقول القمي: " نزلت في الذين ارتدوا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغصبوا أهل بيته حقهم، وصدوا عن أمير   (1) 2 / 286، وما ذكره هنا فيه جمع بين الطعن في الشيخين والصحابة وذكر للتحريف، ونص الآيات الكريمة هو: {حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} " 38: 43 ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 المؤمنين وعن ولاية الأئمة، أضل أعمالهم: أي أبطل ما كان تقدم منهم مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجهاد والنصرة " (1) . ثم يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ في على وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} ، هكذا نزلت. " ثم يقول: نزل جبريل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه الآية هكذا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ في على فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . (2) ... وهكذا يستمر في ضلاله. وسورة الرحمن كلها تقريباً تسير على هذا النمط، وإن ركز فيها على اتهام الشيخين بالكفر ودخول النار (3) . هذه نماذج كافية لبيان ما أردنا حتى لا يطول بنا الحديث، نذكره مضطرين، ونسأله تعالى أن يحفظ العقل والدين. ثالثاً: جعل الأئمة هم المراد من كلمات الله: إلى جانب التحريف نجده يؤول كلمات بأن المراد منها الأئمة ـ كلهم أو بعضهم ـ مع أنه لا ذكر لهم ولا إشارة إليهم من قريب أو بعيد في تلك المواضع، بل إن بعضها مختص بالله تعالى:   (1) 2 / 300. (2) 2 / 302. (3) انظر 2 / 344، 346، وهو هنا يستخدم أكثر من رمز من الرموز التي يبدو أنها كانت متداولة بين حزبه السرى في هذا الوقت، فالدولة العباسية التي حكمت عصر القمي ما كانت لتسمح للعلويين بالظهور والمجاهرة بآرائهم. ولعل ظلم الأمويين للشيعة وما لاقوه على أيدى أبناء عمومتهم العباسيين، ساعد على هذا التطرف والضلال، ولكنه لا يبرره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 كقوله تعالى في سورة الزمر " الآية 69 ": {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أي بنور الله عزوجل، ولكن الكتاب يقول: " قال أبو عبد الله: رب الأرض يعنى إمام الآرض، فقلت فإذا خرج يكون ماذا؟ قال: إذاً يستغنى الناس عن ضوء الشمس ونور القمر، ويجتزون بنور الإمام! " (1) . وقوله تعالى في سورة الرعد " الآية 28 ": {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ ... } يقول القمي: " الذين آمنوا: الشيعة، وذكر الله: أمير المؤمنين والأئمة " (1 / 365) . وفى موضع آخر يفسر الذكر بولاية على في قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي} (2 / 47، والآية هي 101: الكهف) . ويفسر الشرك بأنه " من أشرك بولاية على " في قوله تعالى في سورة الشورى " الآية 13 ": {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} ولذا يفسر " ما تدعوهم إليه " بقوله " من ولاية على " (2 / 105) . وفى آخر الرحمن {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجلَالِ وَالْإِكْرَامِ ... } يروى عن أئمته " نحن جلال الله وكرامته " (2 / 346) .   (1) 2 / 253، وهذا القول قريب من أولئك الذين قالوا بألوهية على في حياته فأحرقهم بالنار، فعلى شيعته ومحبيه ـ إن كانوا صادقين أن يحرقوا الكتاب، ويبينوا ضلال صاحبه، لا أن يرفعوه مقاماً عليا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 وبعض الآيات تختص بالقرآن الكريم كمفتتح سورة البقرة {ألم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ... } ، فيقول القمي بأن المراد بالكتاب هنا على بن أبى طالب! (1 / 30) . وفى سورة يونس (الآية 15) {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} يقول القمي: " أو بدله " يعنى أمير المؤمنين على بن أبى طالب، {قلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} ... يعنى في على بن أبى طالب. (1 / 310) . وفيها أيضاً (الآية 64) {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} فيقول: " أي لا يغير الإمامة " (1 / 314) . وقوله تعالى في سورة الإسراء (الآية 73) : {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ... } قال القمي: " يعنى أمير المؤمنين " (2 / 24) . وفى سورة الحج (الآية 55) : {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ ... } أي من القرآن الكريم، فيقول القمي: " أي في شك من أمير المؤمنين ". ويقول كذلك عن (الآية 57) {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} بأن معناها ... " ولم يؤمنوا بولاية أمير المؤمنين والأئمة " (1) .   (1) 2 / 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وفى سورة الطور (الآية 33) : {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ... } يتحدث عنها القمي فيقول: أم يقولون ـ يا محمد تقوله: يعنى أمير المؤمنين، بل لا يؤمنون أنه لم يتقوله ولم يقمه برأيه، ثم قال: فليأتوا بحديث مثله: أي برجل مثله من عند الله (1) . وقد رأينا من قبل أن آيات كريمة خاصة بالرسول وبالمسيح صلوات الله عليهما، حرفها القمي ليجعلها للإمام على. وهناك كذلك ما هو متصل بيوم القيامة فجعل للإمام، جاء في تفسيره (2 / 112) ما يأتى: " إن الليل والنهار اثنتا عشرة ساعة، وإن على بن أبى طالب، أشرف ساعة من اثنتى عشرة ساعة، وهو قول الله تعالى (2) : {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} . وهو لا يكتفى بهذا، وإنما يحاول أن يجعل الإمام هو المراد من كثير من آيات الله تعالى دون نظر إلى ما هو مختص بالله تعالى ورسله وكتبه واليوم الآخر كما رأينا، وما هو مختص بالحيوان أو الجماد حتى يكاد يحط من قدر الإمام وهو يحاول أن يرفعه! انظر مثلاً إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ... } (3) ، فإنك تعجب وقد حاول القمي من قبل أن يرفع الإمام على إلى مرتبة الألوهية، ينزل به هنا إلى مرتبة الحشرات الضارة حيث يجعله المراد من كلمة " بعوضة " (4) .   (1) 2 / 333. (2) 11: الفرقان. (3) سورة البقرة ـ الآية 26. (4) ص 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 بعد هذا لا يستبعد منه أن يجعل الإمام المراد من أي آية يظن أنها تدل على الاهتمام والرفع من قيمة الإمام. ويوضح الجزائرى في مقدمته للكتاب سر هذا التأويل فيقول: " الله تعالى كان عالماً بأعمال أمة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأنهم يلعبون بالدين، ويهتكون بنواميس حماته في كل حين ... فحينئذ لم يؤمن منهم أن لا يبقوا أسامى الأئمة أو فضائلهم في القرآن، فلذا لم يكن بد إلا أن يبينها الله تعالى بالكناية والاستعارة كما هو دأب القرآن وأسلوبه في أكثر آياته، فإن له ظاهراً يتعلق بشىء وباطناً بشىء آخر " (1) . ثم يقول: " ومن هنا قال أبو جعفر: إن القرآن نزل أثلاثاً: ثلث فينا وفى أحبائنا، وثلث في أعدائنا وعدو من كان قبلنا، وثلث سنة ومثل " (2) . ثم عقب على هذا بقوله: " فانكشف مما ذكرنا أن كل ما ورد في القرآن من المدح كناية وصراحة فهو راجع إلى محمد وآله الطاهرين، وكل ما ورد فيه من القدح كذلك فهو لأعدائهم أجمعين، السابقين منهم واللاحقين، ويحمل عليه جميع الآيات من هذا القبيل وإن كان خلافاً للظاهر " (3) . فهذا التأويل الفاسد إذن نتيجة للقول بالتحريف، والطعن في الصحابة الكرام. رابعا: ما يتصل بعقيدة الإمامة 1 ـ الرجعة: القمي يرى أشياء تتصل بعقيدته في الإمامة، ولذا يضمنها تفسيره. فهو مثلا يؤمن بالرجعة، أي رجعة الأئمة قبل يوم القيامة، ورجعة من غصبوهم حقهم ـ على حد زعمه ـ ليقتص الأئمة من أعدائهم. وعلى هذا جعل من الأمور الأساسية التي اشتمل عليها القرآن الكريم الرد على من أنكروا الرجعة.   (1) انظر التفسير 1 / 34. (2) ص 21 من المقدمة المذكورة. (3) انظر مقدمته للتفسير ص 24، 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 واستدل بقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} فقال: " أيحشر الله في القيامة من كل أمة فوجاً ويدع الباقين "؟ ثم قال: ومثله كثير نذكره في مواضعه (1) . ومن هذا الذي ذكره قوله تعالى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (2) . قال: يعنى الرجعة. يرجع إليكم نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمير المؤمنين والأئمة (3) . وفى سورة " ق " (الآية 41) يقول: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمنَادِ} باسم القائم واسم أبيه.. والصيحة ـ صيحة القائم من السماء..والخروج الرجعة (4) . وفى سورة النحل (الآية 22) {فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} قال القمي: يعنى أنهم لا يؤمنون بالرجعة أنها حق {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} ... يعنى أنها كافرة ... {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} يعنى أنهم عن ولاية على مستكبرون (5) .   (1) الموضع السابق ص 24. والآية هي رقم 83: النمل ومعناها أنهم يحشرون فوجاً، أي زمراً، فلا يبقى أحد، ونحن مأمورون بالإيمان بيوم القيامة، لا بيومين: يوم لأئمة الجعفرية ويوم للقيامة. (انظر مناقشة هذه العقيدة وبيان بطلانها بالأدلة العقلية والنقلية في مختصر التحفة الاثنى عشرية ص 200: 203) . (2) 85: القصص. (3) 2 / 147. (4) 2 / 327. (5) 1 / 383. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 ويستمر في تفسيره للسورة الكريمة فيقول: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} من العذاب في الرجعة.. {وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} قال القمي: الكفار كانوا لا يحلفون بالله، وإنما أنزلت في قوم من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل لهم ترجعون بعد الموت قبل القيامة فحلفوا أنهم لا يرجعون (1) . 2 ـ نزول الوحى على الأئمة: والقمى ممن ذهب إلى أن الوحى لم ينقطع بانتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى، لأن الإمام يقوم مقامه! فعند تفسيره لسورة القدر يقول: معنى ليلة القدر أن الله يقدر فيها الآجال والأرزاق، وكل ما يحدث من موت أو حياة، أو خصب أو جدب، أو خير أو شر، كما قال الله فيها {فِيهَا يُفرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ... } إلى سنة. وقال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} تنزل الملائكة وروح القدس على إمام الزمان، ويدفعون إليه ما قد كتبوه من هذه الأمور (2) . ونسب للإمام أبى جعفر أنه سئل: " تعرفون ليلة القدر؟ فقال: وكيف لا نعرف ليلة القدر والملائكة يطوفون بنا فيها " (3) . 3 ـ   (1) 1 / 385. (2) انظر 2 / 431. والآية الكريمة التي استدل بها هي الرابعة من سورة الدخان. ونصها {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وليس فيها " إلى سنة " كما ذكرها. (3) 2 / 432. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 الأئمة يعلمون الغيب: وهو يرى أن الأئمة يعلمون الغيب، ولهذا نراه عند تفسير قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (1) . يقول: يعنى علياً المرتضى من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو منه (2) . فعلم الغيب ليس خاصاً بالله تعالى والمصطفين من الرسل الكرام، وإنما هوـ حسب افترائه ـ خاص بالإمام على مع الله عز وجل! وحتى يظهر أن علم الأئمة يحيط بكل شىء يأتى بأشياء لا سبيل إلى العلم بها في ذلك الوقت، وإن اكتشف بعضها في عصر الكشوف العلمية للكون ومظاهره. وإذا كان كثير من الكشف العلمى يأتى بوجوه جديدة من وجوه الإعجاز القرآنى، ويستحيل التناقض بين نظرية علمية صحيحة وبين القرآن الكريم، إلا أن هذه الكشوف كشفت عن كذب القمي ومفترياته. فهو ينسب للإمام على أنه قال: " الأرض مسيرة خمسمائة عام، والشمس ستون فرسخاً في ستين فرسخاً، والقمر أربعون فرسخاً في أربعين فرسخاً، بطونهما يضيئان لأهل السماء، وظهورهما يضيئان لأهل الأرض، والكواكب كأعظم جبل على الأرض " (3) ! ويزعم أن الإمام على بن الحسين بين علة كسوف الشمسين بوجود بحر بين السماء والأرض، إذا كثرت ذنوب العباد، وأراد الله أن يستعتبهم بآية، أمر الملائكة الموكلين فجعلوا الشمس أو القمر في ذاك البحر (4) .   (1) 26 / 27: الجن. (2) 2 / 390. (3) 2 / 17. (4) انظر 2 / 14 ـ 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 وفى موضع آخر ينسب للأئمة أن الأرض على الحوت، والحوت على الماء، والماء على الصخرة، والصخرة على قرن ثور أملس، والثور على الثرى (1) . وفى أول سورة الشورى {حم عسق} يقول: " قاف جبل محيط بالدنيا من زمرد أخضر، فخضرة السماء من ذلك الجبل " (2) . 4 ـ نفى العلم عمن اشتهروا به من غيرهم: والقمى لا يكتفى بمثل هذه المفتريات ليبين إحاطة الأئمة بكل شىء علماً، ولكن تحدث عن غيرهم ممن لهم مكانتهم العلمية لينفى عنهم ما اشتهروا به من العلم، حتى لا يبقى في المجال العلمى إلا أئمة الجعفرية! فمثلا ابن عباس اشتهر بأنه حبر الأمة وترجمان القرآن، انظر إلى هذا القمي وهو يتحدث عن ابن عباس، بل عن أبيه عم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نسب للإمام أبى جعفر الباقر أنه قال: جاء رجل إلى أبى على بن الحسين فقال: إن ابن عباس يزعم أنه يعلم كل آية نزلت في القرآن في أي يوم نزلت، وفيمن نزلت، فقال أبى: سله فيمن نزلت، {وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي   (1) انظر 2 / 58 ـ 59. (2) 2 / 268، وفى سورة " ق " قال " ق: جبل محيط بالدنيا من وراء يأجوج ومأجوج " (2 / 323) . ومما يضحك ـ ومن شر البلية ما يضحك ـ أن نجد في عصرنا من يؤمن بهذه الخرافات والأكاذيب، بل يتخذ منها دليلاً على علم الأئمة وعصمتهم!! " انظر مثلاً ج 2 حاشية ... ص 15 ـ 16، 58 ـ 59 " والروايات لو ثبتت لأثبتت لأهل البيت وحاشاهم ـ الجهل والافتراء! ولكن ما أكثر المتظاهرين بحب آل البيت وآل البيت منهم براء! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (1) وفيمن نزلت: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} (2) وتستمر الرواية لتذكر بأن الرجل ذهب إلى ابن عباس فسأله، فلم يجبه، بل أورد أسئلة أخرى، فبين الإمام سبب النزول بقوله: بأن الآية الأولى نزلت في ابن عباس وفى أبيه، والثانية نزلت في أبيه (3) ! ! 5 ـ أحكامهم الفقهية كالمتعة والخمس: ثم لا ينسى القمي ما ارتبط بعقيدته من الأحكام الفقهية، فيعرضها بطريقة يأباها كتاب الله تعالى، ففى سورة مريم " الآية 83 ": {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا ... } قال: نزلت في مانعى الخمس والزكاة (4) .   (1) 72: الإسراء. (2) 34: هود. (3) انظر 2 / 23. وأظن أن هنا كذلك سبباً دفيناً، فالتاريخ يذكر لنا تنازعاً حدث بين العباس وابن أخيه على ـ رضي الله تعالى عنهما، ويذكر لنا أيضاً أن ابن عباس تولى إمارة البصرة في خلافة ابن عمه الإمام على، ثم ترك البصرة مغاضباً، وتبادل مع ابن عمه رسائل اتهامات: فلعل القمي سمع بهذا فرأى أن يأتى بهذه الفرية ليهاجم من تجرأ على المعصوم أبى الأئمة! ] انظر متنازع العباس وابن أخيه في صحيح مسلم ـ كتاب الجهاد والسير باب حكم الفئ. وانظر الكتب المتبادلة بين الإمام على وابن عمه في أنساب الأشراف للبلاذرى ... 1 / 192 ـ 194، وفى " على وبنوه " لطه حسين ص 125 ـ 128، وانظر أحد كتب الإمام هذه في نهج البلاغة ص 323 ـ 324 [. (4) 2 / 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وفى سورة ق " الآية 26 ": {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} قال: "هو ما قالوا نحن كافرون بمن جعل لكم الإمامة والخمس " (1) . وفى سورة النساء يحرف الآية الرابعة والعشرين فيقول {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ إلى أجل مسمى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ويعقب بقوله: فهذه الآية دليل على المتعة (2) . خامساً: أسباب النزول: في ذكر القمي لأسباب النزول نرى أثر الإمامة واضحاً، ولنضرب بعض الأمثلة: 1 ـ تحالف الصحابة مع إبليس: في سورة سبأ " الآية 20 " {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ... } قال: لما أمر الله نبيه أن ينصب أمير المؤمنين للناس في قوله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ في على} (3) بغدير خم فقال: " من كنت مولاه فعلى مولاه "، فجاءت الأبالسة إلى إبليس الأكبر، وحثوا التراب على رءوسهم، فقال لهم إبليس: ما لكم؟ فقالوا: إن هذا الرجل قد عقد اليوم عقدة لا يحلها شىء إلى يوم القيامة.   (1) 2 / 326. (2) 1 / 136، ونص الآية الكريمة {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ... } . (3) " في على " زيادة من تحريفهم، وقد ضمت الرواية إلى التحريف اتفاق الصحابة الكرام مع إبليس على نقض البيعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 فقال لهم إبليس: كلا، إن الذين حوله قد وعدونى فيه عدة لن يخلفونى، فأنزل الله على رسوله {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} الآية (1) . 2 ـ البيعة يوم الغدير: وعن البيعة أيضاً عند قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} (2) يقول: كان سبب نزولها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا إلى بيعة علىّ يوم غدير خم، فلما بلغ الناس وأخبرهم في على ما أراد الله أن يخبره، رجعوا الناس فاتكأ معاوية على المغيرة بن شعبة وأبى موسى الأشعرى، ثم أقبل يتمطى نحو أهله ويقول: ما نقر لعلى بالولاية أبداً، ولا نصدق محمداً مقالته.. فصعد رسول الله المنبر وهو يريد البراءة منه، فأنزل الله {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ... } (3) فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يسمه (4) . 3 ـ مصير من غصبوا الولاية: وفى قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} (5) ، قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الذين غصبوا آل محمد حقهم، فيعرض عليهم أعمالهم، فيحلفون به أنهم لم يعملوا فيها شيئاً كما حلفوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدنيا   (1) 2 / 201. (2) الآية 31 من سورة القيامة، وهى وسبأ مكيتان، وموقف الغدير بلا خلاف حتى بين الشيعة أنفسهم كان بعد حجة الوداع. (3) سورة القيامة الآية 16 وهى تتحدث عن القرآن الكريم، فالآيات التالية لها هي {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . (4) 2 / 397. (5) 18: المجادلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 أن لا يردوا الولاية في بنى هاشم، وحين هموا بقتل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العقبة!! فلما أطلع الله نبيه وأخبره، حلفوا له أنهم لم يقولوا ذلك، ولم يهموا به، حتى أنزل الله على رسوله (1) : {يحلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ... } (2) . 4 ـ القائم يطالب بدم الحسين: وفى سورة الحج (الآية: 39) : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} .. قال: إن العامة ـ أي جمهور المسلمين ـ يقولون نزلت في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أخرجته قريش من مكة، وإنما هي للقائم إذا خرج يطلب بدم الحسين (3) . ولا يقتصر أثر عقيدة الإمامة ـ على مثل ما سبق مما يتصل بالإمامة والأئمة، وإنما يتعداه إلى اتهام غيرهم، ومحاولة سلب فضائلهم، ولنذكر لهذا المثل التالى: 5 ـ حادث الإفك اتهام لأم المؤمنين لا تبرئة إلهية لها!! حادث الإفك معروف مشهور، ونزل القرآن الكريم بتبرئة أم المؤمنين السيدة عائشة، فعز على القمي أن يبرئ الله تعالى صلحبه الجمل، وابنة أبى بكر أول من اغتصب الخلافة في رأيه! ولهذا قام القمي بإفك جديد، فجعل من الحديث عن   (1) 74: التوبة. (2) 2 / 358. (3) 2 / 84 ـ 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 الإفك اتهاماً للسيدة عائشة لا تبرئة لها!! فعند قوله تعالى: ... {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ... } (1) الآية قال: فإن العامة رووا أنها نزلت في عائشة، وما رميت به في غزوة بنى المصطلق من خزاعة، وأما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية، وما رمتها به بعض النساء المنافقات ". ثم ذكر رواية عن الإمام أبى جعفر أنه قال: " لما مات إبراهيم بن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حزن عليه حزناً شديداً، فقالت منافقة: ما الذي يحزنك عليه؟ فما هو إلا ابن جريج! فبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً وأمره بقتله " (2) . وفى سورة الحجرات ذكر قصة اتهام فلانة لمارية، وأمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً بأن يقتل جريجاً، وأن هذا كان سبب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية (3) . وفى سورة التحريم قال عن كلمة " أبكاراً " التي جاءت في ختام الآية الخامسة " عرض عائشة لأنه لم يتزوج ببكر غير عائشة " (4) . وبعد هذا في نفس الصفحة ورد ما يأتى: " ثم ضرب الله مثلا فقال {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} (5) فقال: والله ما عنى بقوله فخانتاهما إلا الفاحشة،   (1) سورة النور آية: 11. (2) 2 / 99. (3) انظر 2 / 318 ـ 319 والآية هي " 6 ". (4) 2 / 377. (5) 10: التحريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 وليقيمن الحد على فلانة فيما أتت في طريق ... وكان فلان يحبها، فلما أرادت أن تخرج إلى ... قال لها فلان: لا يحل لك أن تخرجى من غير محرم، فزوجت نفسها من فلان " (1) . وإذا كان القمي ذكر بأن الخاصة ـ أي الشيعة ـ رووا أن فلانة، وهى إحدى المنافقات، جاءت بالإفك، ولم يصرح باسمها، فإن غيره من الجعفرية قد صرح باسمها وقال بأنها عائشة (2) . وضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط يعتبره الجعفرية تعريضاً بالسيدتين عائشة وحفصة من أمهات المؤمنين (3) ، والقمى هنا يؤكد أن الخيانة المرادة هي الفاحشة، ثم مهد لإلصاقها بمن برأها الله تعالى! سادساً: القرآن كتاب تاريخ اثنى عشرى!! عندما آلت الخلافة إلى الإمام على كرم الله وجهه ـ لم تسلم له، وخاض عدة معارك، ولاقى الشيعة بعد ذلك ما لاقوا في ظل الحكم الأموى. وقد تحدثت كتب التاريخ عن ذلك مفصلاً، ولكن القمي يحاول أن يغير من طبيعة القرآن الكريم ليصله بكتب التاريخ عند الجعفرية، فتسمع عن البصرة والجمل وبنى أمية من وجهة النظر الجعفرى، ولنضرب لذلك الأمثال. 1 ـ أصحاب الجمل والبصرة: في سورة الأعراف (الآية 40) : {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ... } ...   (1) منقول بالنص وفيه النقط. (2) انظر تفسير شبر ص 338. (3) بل يعتبره بعضهم تصريحاً لكفرهما، قال المجلسى: " لا يخفى على الناقد البصير والفطن الخبير ما في تلك الآيات من التعريض بل التصريح بنفاق عائشة وحفصة وكفرهما! ". " بحار الأنوار 22 / 33 ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 ولن يلج الجمل في سم الخياط، فالكفار إذن لن يدخلوا الجنة، ولكن القمي إذا به يقول " نزلت هذه الآية في طلحة والزبير والجمل جملهم " (1) ! ويقول أيضا: إن أصحاب الجمل نزلت فيهم (الآية: 12) من سورة التوبة {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ ... } الآية (2) . وفى سورة النجم يقول بأن المؤتفكة هي البصرة، وقال: ائتفكت بأهلها مرتين، وعلى الله تمام الثالثة، وتمام الثالثة في الرجعة (3) . وفى سورة الحاقة يقول بأن البصرة أيضاً هي المؤتفكات (4) . 2 ـ بنو أمية: أما بنو أمية فإنا نصادفهم كثيراً ونحن نقرأ هذا التفسير العجيب، وما دام ثلث القرآن في أعداء الجعفرية ـ كما زعموا ـ فلابد إذن أن يكون للأمويين نصيب كبير! انظر مثلا تفسيره لقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (5) . يقول: نزلت في بنى أمية، فهم أشر خلق الله، هم الذين كفروا في باطن القرآن، فهم لا يؤمنون (6) .   (1) 1 / 230. (2) انظر 1 / 283، وتكملة الآية الكريمة {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ... . (3) انظر 2 / 340 ـ 341. (4) انظر 2 / 384. (5) الأنفال: الآية 55. (6) 1 / 279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 ولهذا نجد كثيرا من الآيات التي تتناول الكفار يجعلها لبنى أمية (1) . 3 ـ بنو السباع: والقمى عاش في العصر العباسى الأول، والعلويون رأوا الحكم يذهب لغيرهم، ثم لم يسلموا من ظلم ذوى القربى، فالعباسيون ـ من وجهة النظر الجعفرية ـ لا يفترقون كثيراً عن الأمويين، ولكن القمي لا يستطيع أن يصرح بهم عند الحديث عن كفرهم فيسميهم بنى السباع بدلاً من بنى العباس (2) . 4 ـ الاتفاق على قتل على! وعندما تناول بعض الأحداث التاريخية الأخرى وضع قصصاً خيالية غريبة، فمثلا عند قوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ... } (3) نراه يتحدث عن ذلك في خمس صفحات، ويأتى بقصيدة يقول بأن السيدة فاطمة الزهراء ـ رضي الله تعالى عنها ـ احتجت بها على الصديق، وكذلك احتج الإمام على، وخاف الصديق من ضياع الحكم نتيجة هذا الموقف، فبعث إلى الفاروق الذي أشار بقتل على! وأمر خالد بن الوليد بقتله فوافق خالد، إلى آخر تلك الخرافة (4) . 5 ـ كفر أصحاب بيعة الرضوان: وعندما تحدث عن صلح الحديبية قال " فلما. أجابهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الصلح أنكر عامة أصحابه، وأشد ما كان إنكاراً فلان، فقال يا رسول الله، ألسنا   (1) انظر مثلاً: ج 1 ص 156، 196، 211، 371، وج 2 ص 68، 80، 123، 242، 243، 255، 384. (2) انظر 2 / 242. (3) سورة الروم الآية 38. (4) انظر 2 / 155: 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 على الحق وعدونا على الباطل؟ فقال: بلى! قال: فنعطى الذلة في ديننا؟ ... قال: إن الله وعدنى ولن يخلفنى. قال لو أن معى أربعين رجلاً لخالفته " (1) . والمعروف أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ صاحب الجزء الأول من هذه المناقشة، فافترى القمي هذه الزيادة المنكرة " لو أن معى أربعين رجلا لخالفته "، وقال بأن عامة أصحابه الذين أنكروا الصلح أكثروا القول على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لهم: إن لم تقبلوا الصلح فحاربوهم. ويزيد فريته بأنهم حاربوا فعلاً، وهزموا هزيمة قبيحة، إلى أن قام على بسيفه فتراجعت قريش (2) . ثم يستمر ليقول بأن عامة الصحابة هؤلاء هم الذين عناهم الله تعالى بقوله: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} (3) . وهكذا يستمر هذا القمي ليجعل عامة أصحاب بيعة الرضوان من أصحاب النار، وهم الذين رضي الله عنهم بنص القرآن الكريم، ويطعن في ترتيب آيات سورة الفتح ليصل إلى ضلاله (4) ! 6 ـ الفرق الأخرى: ونراه كذلك يخضع القرآن الكريم للحديث عن الفرق الأخرى، فمثلا عند قوله تعالى {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ   (1) 2 / 311 ـ 312. وفى الأصل: فقال نعم! (2) انظر 2 / 312. (3) انظر 2 / 315، والآية الكريمة ـ هي السادسة من سورة الفتح. (4) انظر 2 / 315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 وُجُسْوَدَّوههُم مُّةٌ} (1) يقول: " من ادعى أنه إمام وليس بإمام يوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة ... . وإن كان علوياً فاطمياً " (2) . 7 ـ القائم وجيش السفيانى: وكثير من فرق الشيعة قالت بعودة بعض الأئمة قبل يوم القيامة، ومنهم من وقف عند إمام معين، وقال بأنه لم يمت وإنما أظهر موته تقية، إلى غير ذلك مما تذكره كتب التاريخ. وكان من صدى هذا أن بعض الأمويين قالوا بعودة رجل منهم أسموه السفيانى: فزاد بعض الجعفرية خرافة أخرى وهى أن المهدى عندما يرجع سيقابل جيش السفيانى ويهزمه! وإذا بنا نجد هذا في تفسير القمي! فعند قوله تعالى {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} (3) قال: هم والله أصحاب القائم، يجتمعون والله إليه في ساعة واحدة، فإذا جاء إلى البيداء يخرج إليه جيش السفيانى، فيأمر الله الأرض فتأخذ أقدامهم، وهو قوله {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ} (4) يعنى بالقائم (5) . وفى قوله تعالى: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} ... (6) قال يعنى ما يحدث من أمر القائم والسفيانى (7) .   (1) 60: الزمر. (2) 2 / 251. (3) 8: هود. (4) سبأ: 51 / 52. (5) 2 / 205. (6) 113: طه. (7) 2 / 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وبهذا يصبح تفسير القمي مرجعاً من مراجع التاريخ لغلاة الجعفرية! سابعا: طرق التغرير والتضليل: والقمى قد خالف ظاهر القرآن الكريم، وحرف معانيه إلى جانب القول بتحريف نصه، وأتى بما لا يحتمله كتاب الله تعالى بل يعارضه، وخالف ما أجمعت عليه الأمة في أكثر الآيات وما يتعلق بها، وجعل أكثرها ـ مكية ومدنية ـ متعلقة ببيعة غدير خم التي قال الجعفرية أنفسهم بأنها بعد حجة الوداع. وزعم أن صفوة هذه الأمة كفار ومشركون ومنافقون، إلى غير ذلك مما يبرأ منه الإسلام والعقل السليم. ورأينا من قبل كيف حاول صاحب التفسير المنسوب للإمام العسكرى أن يغرر بضعاف العقول، وجهلة القوم، ليؤمنوا بخرافاته، ويسيروا في ظلمات ضلاله. والقمى هو الآخر قد حاول القيام بنفس الدور فسلك لذلك عدة طرق: 1 ـ جل آرائه نسبها للأئمة وعلى الأخص الإمامان الباقر والصادق. كما أشرنا في مقدمة الحديث عن الكتاب. 2 ـ ذهب إلى أن القرآن الكريم لا يفهم معناه ولا يدرك مراده إلا عن طريق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهؤلاء الأئمة. نسب للإمام على ـ كرم الله وجهه ـ أنه قال: " ذلك القرآن فاستنطقوه، فلن ينطق لكم، أخبركم عنه، إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتى إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه مختلفين، فلو سألتمونى عنه لأخبرتكم عنه لأنى أعلمكم " (1) ونسب للإمام الصادق أنه قال: إن الكتاب لم ينطق، ولن ينطق، ولكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هو الناطق بالكتاب، قال الله {هَذَا بكتابنا يَنطِقُ   (1) المقدمة ص 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ... } فقال أحدهم: إنا لا نقرؤها هكذا، فقال الإمام: هكذا والله نزل بها جبريل على محمد، ولكنه فيما حرف من كتاب الله تعالى (1) . ونسب للإمام الباقر أنه قال: " القرآن ضرب فيه الأمثال للناس، وخاطب الله نبيه به ونحن، فليس يعلمه غيرنا " (2) . وذهب إلى أن من لا يقبل تأويل الكتاب فهو مشرك كافر (3) . 3 - وضع أسساً غريبة للتفسير، فإلى جانب القول بأن القرآن أصابه التحريف، ولا يؤخذ تأويله إلا عن طريقهم، نراه يذهب إلى أن هناك آيات لا يعرف تأويلها إلا بعد وقت نزولها! ويتحدث عن هذا النوع فيقول: " وأما ما تأويله بعد تنزيله فالأمور التي حدثت في عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعده من غصب آل محمد حقهم، وما وعدهم الله به من النصر على أعدائهم، وما أخبر الله به من أخبار القائم وخروجه، وأخبار الرجعة والساعة " (4) . ويذهب إلى أن هناك آيات " مما خاطب الله به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمعنى لأمته، وهو قول الصادق: إن الله بعث نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإياك أعنى واسمعى يا جارة " (5) . وذهب إلى ما هو أبعد من هذا، فقال بأن هناك " ما هو مخاطبة لقوم ومعناه لقوم آخرين! فقوله {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ أنتم يا معشر   (1) انظر 2 / 95، ونص الآية الكريمة {هَذَا كتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ... } " الجاثية: 29 " فحرف الآية الكريمة لأنها تعارضت مع ما ذهب إليه. (2) 2 / 425. (3) انظر 2 / 260. (4) مقدمة تفسيرة ص 14. (5) مقدمة تفسيرة ص 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 أمة محمد فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ... } ، فالمخاطبة لبنى إسرائيل، والمعنى لأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) ". وبهذه الأسس استطاع أن يحرف القرآن الكريم نصاً ومعنى ليصل إلى ضلاله. 4 - وقد ذهب إلى تكفير غير المعتنقين عقيدته في الإمامة، الرافضين لتحريفه، لم ينس ـ من وقت لآخر في تفسيره ـ بيان أن الشيعة سيدخلون الجنة حتى فساقهم العصاة! فمثلاً في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} (2) الآية، يقول بأن الله سبحانه وتعالى يدفع بمن يعمل كل فريضة من الشيعة عمن لا يعملها، ولو أجمعوا على الترك لهلكوا (3) . وفى سورة طه " الآية 108 " ... { ... وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ... } يذكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع لعصاة الشيعة، فكلهم يدخل الجنة (4) . وفى سورة المؤمنون " الآية: 100 ": {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يقول: البرزخ هو أمر بين أمرين، وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة.. وهو قول الصادق: والله ما أخاف عليكم إلا البرزخ، فأما إذا صار الأمر إلينا فنحن أولى بكم (5) .   (1) نفس المقدمة ص 16، والآية هي الرابعة من سورة الإسراء، والتحريف واضح. (2) 40: الحج. (3) 1 / 83. (4) انظر 2 / 64: 65. (5) 2 / 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 وفى سورة غافر " الآية الثالثة " {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} قال: ذلك خاصة لشيعة أمير المؤمنين (1) . وفى سورة ق " الآية 24 ": {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} يقول بأن الآية الكريمة مخاطبة للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى، ويبين أنهما في منزلة خاصة دون الخلق جميعا؛ وأن رضوان يأتى بمفاتيح الجنة فيأخذها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعطيها علياً وكذلك يفعل مالك بمفاتيح جهنم، فيأخذ على المفاتيح ويقعد إلى شفير جهنم، فتنادى: ياعلى جزنى، قد أطفأ نورك لهيبى! فيقول لها على: ذرى هذا وليى، وخذى هذا عدوى! فلجهنم يومئذ أشد مطاوعة لعلى من غلام أحدكم لصاحبه (2) . وفى سورة الرحمن " الآية 39 ": {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ} قال: ... " منكم "، يعنى من الشيعة. معناه أنه من تولى أمير المؤمنين، وتبرأ من أعدائه عليهم لعائن الله، وأحل حلاله، وحرم حرامه، ثم دخل في الذنوب ولم يتب في الدنيا، عذب لها في البرزخ، ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه يوم القيامة (3) . وفى سورة الحاقة " الآية 19 ": {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} قال: كل أمة يحاسبها إمام زمانها، ويعرف الأئمة أولياءهم وأعداءهم بسيماهم، وهو قوله تعالى {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} (4) ، وهم الأئمة ... {   (1) 2 / 254. (2) انظر 2 / 324 ـ 326. (3) 2 / 345. (4) 46: الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} فيعطون أولياءهم كتابهم بيمينهم فيمرون إلى الجنة بلا حساب، ويعطون أعداءهم كتابهم بشمالهم فيمرون إلى النار بلا حساب " (1) . ***** الكتاب الثالث تفسير العياشى: منزلة العياشى كالقمى تلك أهم آثار الإمامة في تفسير القمي الذي يمثل جانب الغلو والتطرف في هذه العقيدة كتفسير العسكرى. والتفسير الثالث الذي طالعنا به القرن الثالث هو تفسير العياشى، لمحمد بن مسعود العياشى، المتوفى في حدود سنة 320 هـ، والذى يعد من الثقات عند الشيعة الاثنى عشرية (2) .   (1) 2 / 384. ذكرنا من قبل عند الحديث عن التحريف قول السيد أبى القاسم الخوئى ـ المرجع الأعلى للجعفرية بالعراق: إن الروايات التي ذكرها القمي في تفسيره صحيحه، فهى ثابتة وصادرة من الأئمة المعصومين، وانتهت إليه بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة! ولا ندرى كيف يمكن الجمع بين هذه الروايات الصحيحة في نظر السيد الخوئى وبين ما ذهب إليه هو من القول بعدم تحريف القرآن الكريم، وغير ذلك مما يتعارض مع هذه الروايات؟ ! (2) هو أبو النضر محمد بن مسعود بن عياش السلمى السمرقندى، المعروف بالعياشى - انظر ترجمته في تنقيح المقال، وهدية العارفين 2/32، ومعجم المؤلفين 12/20. وفى كتاب " بهجة الآمال في شرح زبدة المقال " ذكره المؤلف ضمن علماء الجعفرية الذين يرجع إلى أقوالهم في الجرح والتعديل، وقال عنه: " جليل القدر، واسع الأخبار، بصير بالرواية، مطلع بها، ثقة صدوق، من عيون هذه الطائفة وكبارها ... إلخ " انظر ص 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وفى صدر التفسير كتب محمد حسين الطباطبائى (1) مقدمة حول الكتاب ومؤلفه، قال فيها: " وقد بعث الله رجالاً من أولى النهى والبصيرة، وذوى العلم والفضلة، على الاقتباس من مشكاة أنوارهم – أي الأئمة – والأخذ والضبط لعلومهم وآثارها، وإبداع ذخائرها في كتبهم، وتنظيم شتاتها في تأليفهم، ليذوق بذلك الغائب من منهل الشاهد، ويرد به اللاحق مورد السابق. وإن من أحسن ما ورثناه من ذلك كتاب التفسير المنسوب إلى شيخنا العياشى رحمه الله، وهو الكتاب القيم الذي يقدمه الناشر اليوم إلى القراء الكرام. فهو لعمرى أحسن كتاب ألف قديماً في بابه، وأوثق ما ورثناه من قدماء مشايخنا من كتب التفسير بالمأثور. أما الكتاب فقد تلقاه علماء هذا الشأن منذ ألّف إلى يومنا هذا – ويقرب من أحد عشر قرناً – بالقبول من غير أن يذكر بقدح أو يغمض فيه بطرف. وأما مؤلفه الشيخ الجليل أبو النضر محمد بن مسعود بن العياش التميمى الكوفى السمرقندى، من أعيان علماء الشيعة، وأساطين الحديث والتفسير بالرواية، من عاش في أواخر القرن الثالث من الهجرة النبوية. أجمع كل من جاء بعده من أهل العلم على جلالة قدره وعلو منزلته وسعة فضله، وإطراء علماء الرجال متسالمين على أنه ثقة عين صدوق في حديثه، ومن مشايخ الرواية، يروى عنه أعيان المحدثين: كشيخنا الكشى صاحب الرجال وهو من تلامذته، وشيخنا جعفر بن محمد بن مسعود العياشى وهو ولده ... إلخ ". منهج العياشى وأهدافه كالقمى: من هذا نرى أن العياشى وتفسيره عند الشيعة في منزلة تشبه منزلة القمي وتفسيره.   (1) صاحب كتاب الميزان في تفسير القرآن – سيأتى الحديث عن كتابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 بدراسة تفسير العياشى يظهر لنا أنه كان يسير مع القمي في طريق واحد، فلا فرق بينهما في المنهج والأهداف، والغلو والتطرف والضلال، وما أخذناه على تفسير القمي يتسم به أيضاً تفسير العياشى، وإليك البيان: أولاً: القول بتحريف القرآن الكريم يشترك العياشى مع القمي في محاولة التشكيك في كتاب الله العزيز، والدعوة إلى القول بتحريفه. ولذلك وجدنا صاحب كتاب " فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب " يذكر العياشى مع القائلين بالتحريف، ويقول بأنه روى في أول تفسيره أخباراً عامة صريحة في التحريف، وأن نسبة القول بالتحريف إلى العياشى كنسبة القول به إلى على بن إبراهيم القمي، بل صرح بنسبته إلى العياشى جماعة كثيرة (1) . وينقل عن العياشى بعض الأخبار التي استدل بها على التحريف. منها ما رواه عن الإمام الصادق أنه قال: " لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتمونا فيه مسمين " (2) . ومنها ما رواه عن الإمام الباقر أنه قال: تنزل جبرائيل بهذه الآية على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هكذا: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللهُ في علي بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللهُ ((3) وفى تفسير العياشى نجد كثيراً من مثل هذا الضلال: فتحت عنوان " ما عنى به الأئمة من القرآن " (1/13) يذكر عدة أخبار، منها الخبر السابق عن الإمام الصادق، ويرويه أيضاً عن الإمام الباقر، كما يروى   (1) انظر فصل الخطاب ص 26. (2) المرجع السابق ص 14. (3) المرجع نفسه ص 232، والآية الكريمة هي رقم 90 من سورة البقرة، وحرفها بزيادة " في علي ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 عن الإمام الباقر أنه قال أنه قال: " لولا أنه زيد في كتاب الله ونقص منه ما خفى حقنا على ذى حجى، ولو قد قام قائمنا فنطق صدقه القرآن ". وعن الإمام الصادق: " إن القرآن قد طرح منه أي كثيرة، ولم يزد فيه إلاَّ حروف، وقد أخطأت بها الكتبة، وتوهمتها الرجال ". وفى أول سورة البقرة يروى العياشى عن الصادق أنه قال: (كتاب على لا ريب فيه) . وعن عمر بن يزيد، قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، فقال: كذبوا، ما هكذا هي! إذا كان ينسى وينسخها أو يأتى بمثلها لم ينسخها. قلت: هكذا قال الله. قال: ليس هكذا قال تبارك وتعالى. قلت: فكيف قال؟ قال: ليس فيها ألف ولا واو، قال: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها مثلها، يقول: ما نميت من إمام أو ننسه ذكره نأت بخير منه من صلبه مثله (1) . وفى تفسير العياشى لسورة النساء يذكر الرواية التالية: عن جابر قال: قلت لمحمد بن على: قول الله في كتابه {الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ (قال: هما والثالث والرابع وعبد الرحمن وطلحة، وكانوا سبعة عشر رجلاً. قال: لما وجّه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه وعمّار بن ياسر رحمه الله إلى أهل مكة قالوا: بعث هذا الصبى، ولو بعث غيره يا حذيفة إلى أهل مكة؟ وفى مكة صنايدها، وكانوا يسمّون عليَّا الصبى لأنه كان اسمه في كتاب الله الصبى لقول الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا   (1) الآية الكريمة هي رقم 106 من سورة البقرة، وحرفها ليصل إلى تأويله الذي يعد تحريفاً آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 وهو صبى وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) فقالوا: والله الكفر بنا أولى مما نحن فيه، فساروا فقالوا لهما، وخوَّفوهما بأهل مكة، فعرضوا لهما وغلَّظوا عليهما الأمر، فقال علىّ صلوات الله عليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، ومضى، فلما دخلا مكَّة أخبر الله نبيه بقولهم لعلىّ وبقول علىّ لهم، فأنزل الله بأسمائهم في كتابه، وذلك ... قول الله {ألم تر إلى الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ((2) إلى قوله: {وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} وإنما نزلت ألم تر إلى فلان وفلان لقوا عليُّا وعماراً فقال إنَّ أبا سفيان وعبد الله بن عامر وأهل مكة قد جمعوا لكم فاخشوهم فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، وهما اللذان قال الله: {الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} ‘إلى آخر الآية، فهذا أول كفرهم.. والكفر الثاني قول النبي عليه وعلى آله السلام: يطلع عليكم من هذا الشعب رجل فيطلع عليكم بوجهه؛ فمثله عندالله كمثل عيسى، لم يبق منهم أحد إلاَّ تمنى أن يكون بعض أهله، فإذا بعلىّ قد خرج وطلع بوجهه وقال: هو هذا، فخرجوا غضاباً وقالوا: ما بقى إلاَّ أن يجعله نبيَّا، والله الرجوع إلى آلهتنا خير ممّا نسمع منه في ابن عمّه، وليصدّنا علىّ إن دام هذا، فأنزل الله ... {وَلَمَّا ضرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} إلى آخر الآية فهذا الكفر الثاني. وزاد الكفر بالكفر حين قال الله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ   (1) الآية 33 من سورة فصلت، وحرفها بزيادة " وهو صبى ". (2) 173: آل عمران، وتبدأ بقول {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ} بدون: {ألم تر إلى} ، وقول العياشى ... " وإنما نزلت ... " فيه تحريف يذكرنا بكلام مسيلمة الكذاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ... } فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا علىُّ أصبحت وأمسيت خير البريَّة، فقال له الناس: هو خير من آدم ونوح ومن إبراهيم ومن الأنبياء، فأنزل الله ... {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ} إلى {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قالوا: فهو خير منك يا محمد؟ قال الله: {قُلْ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ولكنَّه خير منكم وذريَّته خير من ذريتكم، ومن اتَّبعه خير ممَّن اتبعكم، فقاموا غضاباً وقالوا: زيادة الرجوع إلى الكفر أهون علينا مما يقول في ابن عمه، وذلك قول الله {ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا (. وفى تفسير سورة النحل يروى العياشى عن أبى جعفر أنه قال: نزل جبرائيل هذه الآية هكذا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ في على قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (1) ويروى عن إسماعيل الحريرى قال: قلت لأبى عبد الله: قول الله: ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ (قال البغى: اقرأ كما أقول لك يا إسماعيل {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى حقه ... } قلت: جعلت فداك إنَّا لا تقرأ هكذا في قراءة زيد، قال ولكنّا نقرأها هكذا في قراءة علىّ، قلت، فما يعنى بالعدل؟ : شهادة أن لا إله إلاَّ الله، قلت: والإحسان؟ قال: شهادة أن محمداً رسول الله،   (1) 2/257، والآية الكريمة رقم 24 من سورة النحل، وحرفها بزيادة " في على ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 قلت: فما يعنى بإيتاء ذى القربى حقّه، قال: أداء إمامة إلى إمام بعد إمام، {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} قال: ولاية فلان وفلان (1) . ثانياً الطعن في الصحابة الكرام: الرواية التي ذكرتها دون اختصار من تفسير العياشى لسورة النساء لبيان موقفه من تحريف القرآن الكريم توضح أمرين آخرين، هما طعنه في خير أمة أخرجت للناس، الصحابة الكرام الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وعلى الأخص من بشر منهم بالجنة غير على رضي الله عنه، كالشيخين، وذى النورين، وطلحة والزبير، والأمر الآخر موقفه من أسباب النزول، ومفتريات هذا الضال الممجوجة ليتفق سبب النزول مع ضلاله. وإذا كانت الرواية وضعها العياشى ليقول بأن الخلفاء الراشدين الثلاثة، وغيرهم من خيرة الصحابة، كفروا في حياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه يرى ويروى أن الصحابة الكرام جميعاً ارتدوا عن الإسلام بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاَّ ثلاثة هم: المقداد وأبو ذر وسلمان الفارسى (2) . وتفسيره مملوء محشو بالطعن في الصحابة وتكفيرهم، ونذكر بعض الأمثلة: يروى عن جابر قال: سألت أبا عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} قال:   (1) 2/267، والآية الكريمة هي التسعون في سورة النحل، وحرفها بزيادة " حقه "، ثم جاء التأويل الذي ذهب إليه ليكون تحريفاً آخر، وطعناً في الصديق والفاروق، والصحابة الكرام لأنهم بايعوا كلاً منهما، وهو قول هذا الضال: " ولاية فلان وفلان ". (2) انظر تفسير الصافى ج 1 ورقة 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 فقال هم أولياء فلان وفلان (1) ، اتخذوهم أئمة من دون الإمام الذي جعل الله للناس، فلذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَاب إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ} إلى قوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} قال: ثم قال أبو جعفر: والله يا جابر هم أئمة الظلم وأشياعتهم (2) . وفى رواية أخرى: أعداء على هم المخلدون في النار أبد الآبدين، ودهر الداهرين (3) . وروى عن عبد الله النجاشى قال: سمعت أبا عبد الله يقول: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} يعنى والله فلاناً وفلاناً {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} إلى قوله ... {تَوَّابا رَّحِيمًا} يعنى والله النبي وعليًّا بما صنعوا، أي لو جاءوك بها يا علىّ فاستغفروا مما صنعوا، {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ثم قال أبو عبد الله: هو والله   (1) يقصد الخلفاء الراشدين الثلاثة، ومن بايعهم. (2) تفسير العياشى 1/72، والآيات الكريمة في سورة البقرة من 165/167، ومن الواضح أنها تتحدث عن المشركين عبده الأوثان " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً ... . "، فجعلها العياشى: من دون الإمام. (3) تفسير العياشى 1/72، والآيات الكريمة في سورة البقرة من 165/167، ومن الواضح أنها تتحدث عن المشركين عبده الأوثان " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً ... . "، فجعلها العياشى: من دون الإمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 على بعينه {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ} على لسانك يا رسول الله يعنى به ولاية علي {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} لعلى بن أبى طالب (1) . وروى عن أبى عبد الله قال: والله لو أن قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثم لم يسلموا إلينا لكانوا بذلك مشركين (2) . وروى عن جابر عن أبى جعفر قال: سألته عن هذه الآية { ... وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} قال: اَّلذين يدعون من دون الله الأول والثاني والثالث، كذَّبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: والوا علياً واتبعوه، فعادوا علياً ولم يوالوه، ودعوا الناس إلى ولاية أنفسهم، فذلك قول الله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ} ... قال: وأما قوله: (لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا} فإنه يعنى: لايعبدون شئياً، {وَهُمْ يُخْلَقُونَ ... } ، فإنه يعنى وهم يعبدون، وأما قوله {أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء} يعنى كفارغير مؤمنين، وأما قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} فإنه يعنى أنهم لا يؤمنون، أنهم   (1) و (2) ا /255، والآيات الكريمة من سورة النساء: من 63 إلى 65، وقبل هذه الآيات جاء قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} ، فجعل العياشى النفاق لخير الناس بعد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهما أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 يشركون، {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فإنه كما قال الله، وأما قوله {فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} فإنه يعنى لايؤمنون بالرجعة أنها حق، وأما قوله {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} فإنه يعنى قلوبهم كافرة، وأما قوله: {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} فإنه يعنى عن ولاية على مستكبرون، قال الله لمن فعل ذلك وعيداً منه {لاَ جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عن ولاية على} (1) . ثالثاً جعل الأئمة هم المراد من كلمات الله: في أصول التفسير عند العياشى نجد العنوان التالي (2) "في ما أنزل القرآن " وتحت هذا العنوان يذكر روايات منها: عن أبى جعفر قال: نزل القرآن على أربعة أرباع. ربع فينا، وربع في عدونا، وربع فرايض وأحكام، وربع سنن وأمثال، ولنا كرائم القرآن. وعن أمير المؤمنين قال: نزل القرآن أثلاثاً: ثلث فينا وفى عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرايض وأحكام. ونجد عنواناً آخر، وهو: " ما عنى به الآئمة من القرآن " (3) وأشرنا إلى هذا العنوان من قبل، وذكرنا بعض رواياته لبيان التحريف.   (1) 2/256: 257، والآيات الكريمة في سورة النحل: من 20إلى 23، وحرفها بزيادة " عن ولاية على " ويقصد بالأول والثاني والثالث: الخلفاء الراشدين المهديين، وبدلاً من أن يستحل دم هذا العياشى أجمعت طائفته على توثيقه وعلو منزلته!! وما وجدنا أحداً من دعاة التقريب يطعن فيه! فماذا يراد بالتقريب إذن؟! (2) تفسير العياشى 1 / 9. (3) 1/13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 وأضيف بعض الروايات الأخرى: عن أبى عبد الله قال: من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكب الفتن. وعن أبى جعفر قال: لنا حق في كتاب الله المحكم من الله، لومحوه فقالوا ليس من عندالله، أو لم يعلموا، لكان سواه. وعنه أيضاً: إذا سمعت الله ذكر أحداً من هذه الأمة بخير فنحن هم، وإذا سمعت الله ذكر قوماً بسوء ممن مضى فهم عدونا. وعن على بن أبى طالب رضي الله عنه قال: سموهم بأحسن أمثال القرآن، يعنى عترة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا عذب فرات فاشربوا، وهذا ملح أجاج فاجتنبوا. وعن عمر بن حنظلة، عن أبى عبد الله، عن قول الله {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} ؟ فلما رآنى أتتبع هذا وأشباهه من الكتاب قال: حسبك، كل شئ في الكتاب من فاتحته إلى خاتمته مثل هذا فهو في الأئمة عنى به. هذه بعض الأصول التي وضعها العياشى، ونسبها للأئمة الأطهار حتى يحكم فريته. وفى ظلماتها يمكن معرفة ما عليه هذا التفسير من جعل الأئمة هم المراد من كثير من كلمات القرآن الكريم، وحصر هذا يطول ذكره، ويكفى أن نذكر بعض الأمثلة: يروى العياشى عن سلام عن أبى جعفر في قوله: {آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا} قال: إنما عنى بذلك عليَّا والحسن والحسين وفاطمة، وجرت بعدهم في الأئمة. قال: ثم يرجع القول من الله في الناس فقال: {فَإِنْ آمَنُواْ} يعنى الناس ... { الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 بِمِثْلِ مَآ آمَنتُم بِهِ} يعنى عليَّا وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من بعدهم {فَقَدِ اهْتدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} (1) . وعن أبى عبد الله في قول الله {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً} قال: الصبغة معرفة أمير المؤمنين بالولاية في الميثاق (2) . وعن بريد بن معوية العجلى عن أبى جعفر قال: قلت له {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} قال نحن الأمَّة الوسطى، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجّتْه في أرضه (3) . وعن أبى عبد الله في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} ، قال: أتمهن بمحمد وعلى والأئمة من ولد على (4) . وعن أبى جعفر أن الولاية هي المراد من قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ} (5)   (1) 1 / 62، والآيتان الكريمتان في سورة البقرة: 136، 137، وقبلهما {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . (2) 1/62، والآية الكريمة هي رقم 138 من سورة البقرة، أي بعد الآيات السابقة. (3) 1/62، والآية الكريمة هي رقم 143 من السورة نفسها. (4) 1/57، الآية الكريمة هي رقم 124 من السورة نفسها أيضاً. (5) 1 /330، والآية الكريمة هي رقم 66 من سورة المائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 وعن أبى عبد الله، وعن أبيه، أن أصحاب القائم - أي الإمام الثاني عشر-هم الأمة المعدودة التي قال الله في كتابه: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} (1) . وعن أبى جعفر أن علياً هو المراد من كلمة النور في قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ} (2) . وعن أبى عبد الله في قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ، قال: هم الأئمة (3) . وعن أبى جعفر: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} : وهو محمد، {وَالإِحْسَانِ} : وهو على، {وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} : وهو قرابتنا. أمر الله العباد بمودتنا وإيتائنا، ونهاهم عن الفحشاء والمنكر: من بغى على أهل البيت، ودعا إلى غيرنا (4) . والعياشى يرفع الأئمة لمرتبة الألوهية كالقمى: فعند تفسير قوله تعالى {لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} يروى العياشى عن أبى عبد الله أنه قال: يعنى بذلك: ولا تتخذوا إمامين إنما هو إمام واحد (5) .   (1) 2/140، 141، والآية الكريمة الثامنة من سورة هود. (2) 2 / 31، والآية الكريمة هي رقم 157 من سورة الأعراف. (3) 2 / 256، والآية الكريمة هي رقم 16 من سورة النحل. (4) 2 / 267، وسبق من قبل ذكر رواية أخرى عن أبى عبد الله في التحريف لهذه الأية. (5) 2 / 261، والآية الكريمة هي رقم 51 من سورة النحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 وعند قوله عز وجل: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} (1) ، بقوله: طائعين للأئمة. وفى قوله سبحانه: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (2) ، يروى العياشى أن العمل الصالح: المعرفة بالأئمة، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا: التسليم لعلى، ولا يشرك معه في الخلافة من ليس له ذلك، ولا هو من أهله (3) . هذه نماذج كافية لبيان أن العياشى كالقمى في هذا الضلال، وكل ما قيل عن القمي يمكن أن نراه من خلال هذه النماذج، وأختمها بما ختمت به دراستى عن العياشى في كتاب " أثر الإمامة في الفقه الجعفرى وأصوله: ص 208، 209 ": وفى سورة هود يتحدث عن سبب نزول آيات من 12 إلى 24 فيقول: دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمير المؤمنين في آخر صلاته، رافعاً بها صوته يسمع الناس، يقول اللهم هب لعلى المودة في صدور المؤمنين، والهيبة والعظمة في صدور المنافقين فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} (4) بنى أمية. فقال رمع (5) : والله لصاع من تمر في شن بال أحب إلى مما سأل محمد ربه، أفلا سأله ملكاً يعضده؟ أو كنزاً يستظهر به على فاقته؟ فأنزل الله فيه عشر آيات من هود   (1) 238: البقرة. (2) 110: سورة الكهف. (3) انظر ما سبق في كتابى: أثر الإمامة في الفقه الحعفرى وأصوله – ص 205. (4) 96، 97: سورة مريم. (5) قال المجلسى: " رمع كناية عن عمر لأنه مقلوبه " بحار الأنوار 36/101 " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 أولها {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} إلى {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} ولاية على ... {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} إلى {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} في ولاية على {فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} لعلى ولايته {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} يعنى فلاناً وفلاناً {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} أمير المؤمنين {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً} قال: كان ولاية على في كتاب موسى { ... أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} في ولاية على {إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} إلى قوله: {وَيَقُولُ الأَشْهَادُ} {هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ} إلى قوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (1) . *****   (1) بحار الأنوار 36 / 100-101، والآيات ثلاث عشرة لا عشر آيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 الفصل الخامس التبيان للطوسي وتفاسير الطبرسي أصول التفسير عند الطوسى والطبرسى: وننتقل بعد هذا الحديث عن أولئك الذين يمثلون شيئا من الاعتدال عند مفسرى الجعفرية، وأول هؤلاء شيخ الطائفة في زمانه أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى (1) . وإذا كان الصدوق والشريف المرتضى من الجعفرية الذين سبقوا للتصدى لحركة التضليل والتشكيك في كتاب الله تعالى، فإن الطوسى أول من تصدى لهذه الحركة بطريقة عملية، حيث ألف تفسيره الكبير" التبيان "، فبين أن القرآن الكريم هو ما بين الدفتين بغير زيادة أو نقصان كما نقلنا من قبل، ثم وضع أسساً للتفسير، وطبقها في تفسيره، فصان كتاب الله تعالى من التحريف في المعنى إلى درجة كبيرة. وننقل هنا ما ذكره الطوسى فيما يتعلق بالتفسير. قال في كتابه التبيان " 1 / 4 - 6 ": " اعلم أن الرواية ظاهرة في أخبار أصحابنا بأن تفسير القرآن لا يجوز إلاَّ بالأثر الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن الأئمة - رضي الله عنهم، الذين قولهم حجة كقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن القول بالرأى فيه لا يجوز والذى نقول في ذلك: إنه لا يجوز أن يكون في كلام الله تعالى وكلام نبيه تناقض وتضاد.   (1) ولد الطوسى سنة 385 هـ، وهاجر إلى العراق فهبط بغداد، ثم انتقل إلى الكوفة والنجف، كان ينتمى أولاً إلى مذهب الشافعى، ثم أخذ الكلام والأصول عن الشيخ المفيد رأس الإمامية. له كثير من الكتب. توفى سنة 460. راجع ترجمته في هدية العارفين 2 / 72 " جعل له تفسيري الطبرسي! " ومعجم المؤلفين 9/202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 وقد قال الله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) وقال {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (2) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلسَانِ قَوْمِهِ} ) (3) وقال: {وفيه تبيان كل شئ} (4) {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (5) ، فكيف يجوز أن يصفه بأنه عربى مبين، وأنه بلسان قومه، وأنه بيان للناس، ولا يفهم بظاهره شىء. وهل ذلك إلاَّ وصف له باللغز والمعمى الذي لا يفهم المراد به إلاَّ بعد تفسيره وبيانه. وذلك منزه عنه القرآن. وقد مدح الله أقواماً على استخراج معاني القرآن فقال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (6) ، وقال في قوم يذمهم حيث لم يتدبروا القرآن ولم يتفكروا في معانيه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (7) ، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتى أهل بينى "، فبين أن الكتاب حجة، كما أن العترة حجة، وكيف يكون حجة ما لايفهم به شىء؟ وروى عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إذا جاءكم عنى حديث، فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط " وروى مثل ذلك   (1) الزخرف: 3. (2) الشعراء: 195. (3) إبراهيم: 4. (4) نص الآية {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} " النحل: 89 ". (5) الأنعام: 38. (6) النساء: 83. (7) محمد: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 عن أئمتنا - رضي الله عنهم-، وكيف يمكن العرض على كتاب الله، وهو لا يفهم به شىء؟ وكل ذلك يدل على أن ظاهر هذه الأخبار متروك. والذى نقول به: إن معاني القرآن على أربعة أقسام: أحدها: ما اختص الله تعالى بالعلم به، فلا يجوز لأحد تكلف القول فيه ولا تعاطى معرفته، وذلك مثل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} (1) ، ومثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (2) إلى آخرها. فتعاطى معرفة ما اختص الله تعالى به خطأ. وثانيها: ما كان ظاهره مطابقاً لمعناه فكل من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناها، مثل قوله تعالى: " وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ " (3) ، ومثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (4) ، وغير ذلك. وثالثها: ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلاً، مثل قوله تعالى: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ((5) ، ومثل قوله تعالى {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ   (1) الأعراف: 187. (2) لقمان: 34. (3) النعام: 151. (4) أول سورة الإخلاص. (5) البقرة ... : 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (1) ، {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (2) ، وقوله ... {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعلُومٌ} (3) ، وما أشبه ذلك. فإن تفصيل أعداد الصلاة وعدد ركعاتها، وتفصيل مناسك الحج وشروطه، ومقادير النصاب في الزكاة لا يمكن استخراجه إلاَّ ببيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووحى من جهة الله تعالى، فتكلف القول في ذلك خطأ ممنوع منه، يمكن أن تكون الأخبار متناولة له. ورابعها: ما كان اللفظ مشتركاً بين معنيين فما زاد عنهما، ويمكن أن يكون كل واحد منهما مراداً. فإنه لا ينبغى أن يقدم أحد به فيقول: إن مراد الله فيه بعض ما يحتمل لأمور، وكل واحد يجوز أن يكون مراداً على التفصيل، والله أعلم بما أراد. ومتى كان اللفظ مشتركاً بين شيئين، أو ما زاد عليها، ودل الدليل على أنه لايجوز أن يريد إلاَّوجهاً واحداً، جاز أن يقال: إنه هو المراد. ومتى قسمنا هذه الأقسام نكون قد قبلنا هذه الأخبار، ولم نردها على وجه يوحش نقلتها والمتمسكين بها، ولا منعنا بذلك من الكلام في تأويل الآى جملة. وقال في موضع آخر: " ينبغى لمن تكلم في تأويل القرآن أن يرجع إلى التاريخ، ويراعى أسباب نزول الآية على ما روى، ولا يقول على الآراء والشهوات " (4)   (1) آل عمران: 97. (2) الأنعام ... : 141. (3) المعارج: 24. (4) التبيان 9 / 325 - 326. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 الفرق بينهما وبين الجمهور: هذا ما ذكره الشيخ الطوسى، وهو يتفق مع جمهور المفسرين فيما عدا حديثه عن المشترك، حيث جعل للأئمة ما للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن هذا ليس بمستغرب منه، لأنه يتفق مع عقيدته في الإمامة. ولم يجعل للصحابة الكرام دوراً في التفسير، وهم الذين تلقوه عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والقرن الذي تلاه - أي القرن السادس الهجرى - ظهر فيه إمام المفسرين عند الجعفرية أبو على الفضل بن الحسن الطبرسي (1) الذي أخرج كتاباً في التفسير هو " مجمع البيان "، ثم ألف كتاباً آخر أصغر منه أسماه " جوامع الجامع "، وله كتاب ثالث (2) . وقد سلك مسلك الشيخ الطوسى، وتأثر به إلى حد كبير، فهما يمثلان جانب الاعتدال النسبى عند مفسرى الجعفرية في القديم كما أشرنا من قبل. ومع أنهما يمثلان شيئا من الاعتدال، إلاَّ أن تناولهما لكتاب الله تعالى لم يسلم من التأثر بعقيدتهما في الإمامة، وأهم مظاهر التأثر نراها فيما يأتى: أولاً: اللجوء لتأويل بعض آيات الكتاب المجيد للاستدلال على عقيدة الإمامة: فالذين ذهبوا إلى القول بنحريف القرآن المجيد لم يضطروا للاستدلال على عقيدتهم عن طريق التأويل ما دام هؤلاء الغلاة قد زعموا أن القرآن الكريم نص على الإمامة التي يعتقدونها، أما هما فقد وقفا طويلاً أمام بعض آيات الله تعالى: يؤولان ويجادلان لإثبات عقيدتهم، مثال هذا ما نقلناه عنهما في الجزء الأول، وذلك عند الحديث عن آية الولاية والتطهير وعصمة الأئمة.   (1) توفى سنة 548 هـ. (2) قال صاحب الذريعة " 4 / 310 ": تفسير الكاف الشاف من كتاب الكشاف، أو الوجيز، هو ثالث تفاسير الطبرسي. والكتاب المذكور وجدته في مكتبة لندن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 ثانياً: ذكرهما لبعض القراءات الموضوعة والشاذة ذات الصلة بالمذهب: مثال هذا ما جاء في تفسير سورة آل عمران عند قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (1) ، فإنهما يذكران أن قراءة أهل البيت " وآل محمد على العالمين " (2) . وفى سورة الفرقان عند قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا للْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (3) ، يفسرها الطوسى بقوله: " بأن يجعلهم ممن يقتدى بأفعالهم الطاعات "، ولكنه يذكر أن قراءة أئمتهم {وَاجْعَلْ لنَا من الْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (4) . والطبرسى يذكر للإمام الصادق أقوالاً في هذه الآية الكريمة يجعلها خاصة بأئمة الجعفرية. كقول الإمام فيها: " إيانا عنى " وقوله: " هذه فينا ". ولا يكتفى بهذا بل يذكر ما يتفق مع الغلاة القائلين بالتحريف، فيخطئ ما جاء بالمصحف الشريف ليصل إلى القراءة التي ذكرها الطوسى، والرواية هي: " عن أبى بصير قال: قلت: واجعلنا للمتقين إماماً، فقال: - أي الإمام الصادق: " سألت ربك عظيماً، إنما هي: واجعل لنا من المتقين إماماً " (5) .   (1) الآية 33. (2) انظر التبيان 2 / 441، ومجمع البيان 2 / 433. (3) الآية 74. (4) انظر التبيان 7 /512. (5) انظر جوامع الجامع ص 326. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 وفى قوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (1) ، يقول الطوسى: " بالريح والملائكة "، وقيل بعلى، وهى قراءة ابن مسعود، وكذلك هو في ... مصحفه " (2) . وقال الطبرسي: " وكفى الله المؤمنين القتال بالريح والجند، وعن ابن مسعود أنه كان يقرأ: وكفى الله المؤمنين القتال بعلى " (3) . وفى قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (4) ، يذكران قراءة لتأييد رأى فقهى ارتبط بالمذهب الجعفرى، وهو إباحتهم لزواج المتعة، هذه القراءة هي زيادة " إلى أجل مسمى " بعد " فما استمعتم به منهن " (5) }   (1) سورة الأحزاب الآية 25. (2) التبيان 8 / 331. (3) جوامع الجامع ص 370. (4) النساء: الآية 24. (5) انظر التبيان 6 / 166، وجوامع الجامع ص 83 – 84 وراجع تحريف القمي لها الذي ذكرناه في ص 188. وقد روى الشيعة – وغيرهم – أن حمزة أحد القراء السبعة، قرأ على الإمام جعفر الصادق " انظر مجمع البيان 1 /12 ". وفى غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزرى ذكر أن جعفر ابن محمد لم يخالف حمزة في شىء من قراءته إلاَّ في عشرة أحرف. وبمراجعة هذه الأحرف لا نجد قراءة مما ذكره معتدلو الشيعة فضلاً عن غلاتهم، ولا نجد فيها أي أثر للإمامة. ونجد بعد الأحرف قول الإمام جعفر: " هكذا قراءة على بن أبى طالب ". " انظر الكتاب المذكور ... 1 / 196 ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 {) . ثالثاً: أسباب النزول: في ذكرهما لبعض أسباب النزول يبدو أثر الإمامة واضحاً، فمثلاً عند قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} (1) ، يذكر الطوسى سبب النزول فيقول: روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال يوماً لعلى: " لولا إني أخاف أن يقال فيك ما قالت النصارى في عيسى لقلت فيك قولاً لا تمر بملأ إلاَّ أخذوا التراب من تحت قدميك، أنكر ذلك جماعة من المنافقين وقالوا: لم يرض أن يضرب له مثلاً إلاَّ بالمسيح، فأنزل الله الآية " (2) . أما الطبرسي فيذكر سبباً آخر، قال: " المروى عن أهل البيت أن أمير المؤمنين قال: جئت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إلى ثم قال: يا على، إنما مثلك في هذه الأمة مثل عيسي ابن مريم، أحبه قوم وأفرطوا في حبه فهلكوا، وأبغضه قوم وأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا، فعظم ذلك عليهم وضحكوا، فنزلت الآية " (3) وفى سورة النحل " الآية 91 ": {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} قال   (1) 57: الزخرف، والسورة الكريمة مكية، فكيف غاب هذا عن الطوسى وهو يذكر هذه الرواية، ويتحدث عن المنافقين! أوجدت جماعات المنافقين في العهد المكى!! (2) التبيان 9 / 209 -210. (3) جوامع الجامع ص 436، وانظر مجمع البيان 9 / 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 الطبرسي بأن الإمام الصادق قال: " نزلت هذه الآية في ولاية على والبيعة له حين قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلموا على علىّ بإمرة المؤمنين (1) وفى سورة القلم قال الطبرسي: " لما رأت قريش تقديم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً قالوا: افتتن به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ} إلى قوله: {بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} ، وهم النفر الذين قالوا ما قالوا، {وَهُوَ أَعلَمُ بِالْمُهْتَدِين} ، على بن أبى طالب " (2) وسورة عبس سبب نزولها معروف مشهور، ولكن الطوسى يرفض ما ذكره المفسرون (3) ، ويذهب إلى أنها " نزلت في رجل من بنى أمية كان واقفاً مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أقبل ابن مكتوم تنفر منه وجمع نفسه وعبس في وجهه، وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله تعالى ذلك وأنكر معاقبة على ذلك " (4) وإذا وجدنا بين أسباب النزول ما يتصل بالإمام على وبيعته، وهو لم يصح من طريق، ويقطع برفضه كون النزول في مكة، وسياق الآيات الكريمة كذلك، إلاَّ أنا نجد الأمر يختلف بالنسبة لغير أبى الحسن، مثال هذا ما جاء في سورة الليل: فالطبرسى يورد رواية تبين أن أبا الدحداح هو المراد من قوله تعالى: ... {   (1) جوامع الجامع ص 249، وسورة النحل نزلت في العهد المكى كذلك، والبيعة المزعومة قالوا إنها كانت بعد حجة الوداع! (2) المرجع السابق ص 504، وسورة القلم ليست مكية فحسب، بل من أوائل ما نزل، فهى بعد العلق: أول سور القرآن الكريم نزولاً، وقت أن كان على بن أبى طالب - رضي الله تعالى عنه - صبياً! (3) انظر التبيان 10 /268. (4) المرجع السابق 10 / 269. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى} ثم يقول ... " وعن ابن الزبير قال: إن الآية نزلت في أبى بكر، لأنه اشترى المماليك الذين أسلموا مثل بلال وعامر بن فهيرة وغيرهما، وأعنقهم، والأولى أن تكون الآيات محمولة على عمومها في كل من يعطى حق الله من ماله " (1) أما الطوسى فإنه لا يذكر سبباً للنزول (2) . رابعاً: جعل الأئمة هم المراد من كلمات الله: ذكرنا من قبل أن أولئك الغلاة الذين عز عليهم خلو القرآن من ذكر الأئمة ووجوب ولايتهم، ذهبوا إلى القول بالتحريف وإسقاط أسماء الأئمة وآيات الولاية. وهنا نجد الدافع نفسه يدفع الطوسى والطبرسى إلى شئ آخر هو اللجوء إلى تأويل كثير من أي القرآن الكريم حتى يكون للأئمة والولاية ذكر، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة التي ما أكثرها! في سورة النساء " الآية 83 " {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} ، يروى الطبرسي عن أئمته أن " فضل الله ورحمته النبي وعلى عليهما السلام " (3) .   (1) انظر مجمع البيان 10 / 501 - 502. (2) انظر التبيان 10 / 363 وما بعدها، وحمل الآيات على عمومها لا ينفى سبب النزول، فكما هو معلوم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وشتان بين موقفهما هنا وموقفهما من الآيات التي وضع المفترون أسباباً لنزولها تتصل بأئمتهم. (3) جوامع الجامع ص 92، ولكن الطوسى لم يشر لعلى. انظر التبيان 3 / 274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 وفى نفس السورة " الآية 159 " {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بهِ قَبْلَ مَوْتِه} ، يروى الطبرسي عن الإمامين الباقر والصادق: " حرام على روح امرئ أن تفارق جسدها حتى ترى محمداً وعلياً بحيث تقر عينها أو تسخن " (1) . وفى سورة الأعراف " الآية 44 " {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، فينقل الطبرسي عن تفسير القمي، عن الإمام الرضا أنه قال: المؤذن أمير المؤمنين على. ويذكر كذلك أن الإمام عليا قال: أنا ذلك المؤذن، وعن ابن عباس: إن لعلى في كتاب الله أسماء لا يعرفها الناس. ويقول الطبرسي أيضاً: فهو المؤذن بينهم يقول: ألا لعنة الله على الذين كذبوا بولايتى واستخفوا بحقى (2) . وعند الحديث عن أصحاب الأعراف في الآيات التالية يقول الطوسى بأن علياً قسيم الجنة والنار، ويزعم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يا على، كأنى بك يوم القيامة وبيدك عصا موسى، تسوق قوماً إلى الجنة وآخرين إلى النار " (3) .   (1) نفس المرجع ص 101، وأنكر الطوسى هذا قائلاً " لم يجر لمحمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر فيما تقدم، ولا ها هنا ضرورة موجبة لرد الكناية عليه، وما هذه صورته لا تجوز الكناية عنه " التبيان ... 3 /387. (2) انظر مجمع البيان ط مكتبة الحياة 8 / 63، والآية الكريمة التالية التي تحدثت عن أولئك الظالمين هي " الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالأخرة كافرون ". ولا ندرى أين على وولايته هنا؟ على أن الطوسى لم يذكر علياً هنا. انظر التبيان 4 / 406. (3) التبيان 4 / 411، ومن المعلوم – كما نص القرآن الكريم في أكثر من موضع – أن مثل هذا الأمر يكلف به الملائكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 ويروى الطبرسي عن أمير المؤمنين قال: " نحن نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار، فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار " (1) . وفى سورة النمل " الآية 82 ": {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} ، يذكر الطبرسي أن الإمام علياً هوهذه الدابة، وينقل عن تفسير العياشى ما يفيد هذا (2) وفى سورة محمد " الآية 30 ": {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} يروى الطبرسي أن لحن القول بغضهم على بن أبى طالب (3) وفى سورة ق " الآية 24 ": {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} ، يزعم الطبرسي أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا كان يوم القيامة يقول الله لي ولعلى: " ألقيا في النار من أبغضكما، وأدخلا في الجنة من أحبكما ". وذلك قوله عز اسمه: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} (4) . ونجد الطوسى والطبرسى لا يقتصران في التأويل على ذكر الإمام على، فقد جعلا لغيره من الأئمة نصيباً، ومن أمثلة هذا ما نقرؤه عند تأويلهما لقوله تعالى في   (1) جوامع الجامع ص 146. (2) انظر مجمع البيان ط مكتبة الحياة 20 / 251، والطوسى أشار إلى أنها من الإنس ولكنه لم يذكر علياً ولا غيره. انظر التبيان 8 / 119 -120. (3) انظر مجمع البيان 9 / 106 ولكن الطوسى لم يشر لهذا، انظر التبيان 9 / 305. (4) مجمع البيان 9 / 147 ولكن الطوسى أيضاً لم يذكر هذا – انظر التبيان 9 / 366 – 367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 سورة البقرة " الآية 37 ": {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} ، فالطوسى بعد أن ذكر الروايات المختلفة في تأويل الكلمات يقول: " في أخبارنا توسله - أي آدم- بالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهل بيته، وكل ذلك جائز " (1) . والطبرسى بعد ذكره لتلك الروايات يقول: " قيل - وهى رواية تختص بأهل البيت عليهم السلام - إن آدم رأى مكتوباً على العرش أسماء معظمة مكرمة، فسأل عنها، فقيل له: هذه الأسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى، والأسماء: محمد وعلى وفاطمة والحسن والحسين، فتوسل آدم عليه السلام إلى ربه بهم في قبول توبته ورفع منزلته " (2) . ونجد الزعم كذلك بأن الأئمة هم حبل الله (3) في قوله تعالى في سورة آل عمران " الآية 103 ": {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} . وهم المخاطبون في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} (4) فيرويان عن أئمتهما أن هذا أمر لكل واحد من الأئمة أن يسلم الأمر إلى ولى الأمر بعده (5) .   (1) التبيان 1 / 169. (2) مجمع البيان 1 / 89. (3) ذكر الطبرسي في المراد بحبل الله ثلاثة أقوال: أحدها بأنه القرآن، وثانيها أنه دين الإسلام، وثالثها أنه أئمة الجعفرية، ثم قال: والأولى حمله على الجميع، وأيد قوله بإحدى روايات الغدير التي أثبتنا عدم صحتها في أكثر من كتاب – انظر مجمع البيان 2 / 482. أما الطوسى فلم يذكر القول الثالث: انظر التبيان 2 / 545 – 546. (4) 58: النساء. (5) انظر التبيان 3 / 234، جوامع الجامع ص 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 وهم أولو الأمر في الآية التي تلتها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (1) وفى الآية الثالثة والثمانين من نفس السورة: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ} (2) . وهم أهل الذكر (3) {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} " الأنبياء: 7 ". وهم المصطفون (4) {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} " فاطر: 32 ". وهم من أذن له الرحمن (5) {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} " النبأ: 38 ". والأئمة الذين ورد ذكرهم كثيراً في هذين التفسيرين نجد لولايتهم حظاً من التأويل، فعند قوله تعالى في سورة البقرة " الآية 208 ": {   (1) راجع التبيان 3 / 236-237، وجوامع الجامع ص 89. (2) راجع التبيان 3 / 273، وجوامع الجامع ص 89. (3) انظر التبيان 7 / 232، وجوامع الجامع ص 289. (4) انظر التبيان 8 / 243، وجوامع الجامع ص 389. (5) انظر مجمع البيان 9 / 427، والطوسى لم يشر لهذا – انظر التبيان 10 / 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، يرويان عن أصحابهما أن السلم الدخول في الولاية (1) . وفى الآية السابعة من سورة المائدة: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} . يرويان دخول الولاية في المراد بالميثاق (2) . وفى سورة طه " الآية 82 ": {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} ، يرويان أن الاهتداء إلى الولاية (3) . وسورة محمد " الآية 26 ": {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} ، روى الطبرسي أن ما نزل الله في الولاية (4) . وإمامهم الثاني عشر - الإمام المهدى - نجد له ذكراً خاصاً. فعند قوله تعالى في سورة البقرة " الآية الثالثة ": {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، نراهما يدخلان في الإيمان بالغيب ما رواه أصحابهما من زمان غيبة المهدى ووقت خروجه (5) .   (1) راجع التبيان 2 / 185، ومجمع البيان 2 / 302. (2) راجع التبيان 3 / 459 – 460، وجوامع الجامع ص 106. (3) انظر التبيان 7 / 196، وجوامع الجامع ص 284. (4) انظر مجمع البيان 1 / 105، والطوسى لم يشر للولاية " انظر التبيان 9 / 304 – 305 ". (5) انظر التبيان 9 / 255، ومجمع البيان 1 / 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 وفى سورة الأنبياء " الآية: 105 ": {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} ، يروى الطبرسي عن الإمام الباقر، أن هؤلاء الوارثين هم أصحاب المهدى في آخر الزمان (1) . وفى سورة النور " الآية 55 ": {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} ، يرويان عن أئمتهم " هم والله شيعتنا أهل البيت، يفعل ذلك بهم على يد رجل منا، وهو مهدى هذه الأمة " (2) . وفى سورة الفتح " الآية 28 ": {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ، يذكر " أنه إذا خرج المهدى صارالإسلام في جميع البشر، وتبطل الأديان كلها " (3) . وبعد: فهذه أهم آثار الإمامة في تفسير هذين الشيخين: الطوسى والطبرسى، وإن كان الثاني (- كما يظهر (- أكثر تأثراً من شيخ الطائفة، وهما وإن لم يجنبا كتاب الله تعالى هذه الناحية الطائفية -التي ليس لها مستند من كتاب ولا سنة كما أثبتنا - إلاَّ أنهما مع هذا من أكثر الشيعة اعتدالاً، أو أقلهم غلواً.   (1) جوامع الجامع ص 296، وروى الطوسى عن الإمام نفسه قال: " إن ذلك وعد للمؤمنين بأنهم يرثون جميع الأرض " " التبيان 7 / 284 ". (2) جوامع الجامع ص 318، وانظر التبيان 7 / 457. (3) التبيان 9 / 336، وانظر مجمع البيان 9 / 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 ويبدو البون شاسعاً عند المقارنة بينهما وبين من سبقهما من الغلاة. ولذلك جاء القول بالاعتدال النسبى أو إلى حد ما نتيجة المقارنة بغلاتهم الضالين، وإلا فجانب الغلو والتطرف فيهم، وفى أمثالهم، واضح بين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 الفصل السادس التفسير بعد الطوسي والطبرسي أولاً: تفسير الصافى: ذكرنا من قبل أن الشيعة بعد هذا في تناولهم لكتاب الله تعالى منهم من سلك منهجا فيه شئ من الاعتدال، أو سلك مسلك الغلو، ومنهم من جمع بين المسلكين أو اقترب من أحدهما. ومن الكتب التي اطلعت عليها: تفسير الصافى، لمحمد بن مرتضى المدعو بمحسن. انتهى مؤلفه من كتابته سنة 1075 هـ. وقد حاول أن يأتى بكل ضلالة جاءت في الكتب الثلاثة التي رزئ بها القرن الثالث الهجرى، والتي تحدثنا عنها، وهى تفاسير الحسن العسكرى والعياشى والقمى، وزاد كذلك في النقل عن بعض الكتب الأخرى كروايات التحريف والتأويلات الفاسدة التي رواها الكلينى في كتابه الكافى. فهذا الكتاب إذن يمثل جانب الغلو والتطرف، ويعد استمراراً لحركة التضليل والتشكيك، ولذلك نقرأ فيه القول بتحريف القرآن الكريم، ومهاجمة الصحابة الأكرمين، والتأويلات التي تجعل من كتاب الله تعالى كتاباً من كتب فرق الغلاة، وغير ذلك مما ذكرناه عند تناولنا للكتب الثلاثة. فهو يرى أن تفسير القرآن الكريم لا يصح إلاَّ عن طريق أئمة الجعفرية " فكل ما لايخرج من بيتهم فلا تعويل عليه " (1) والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسره لرجل واحد هو الإمام على (2) ، ويهاجم من يأخذ التفسير المروى عن الصحابة لأن " أكثرهم كانوا يبطنون النفاق، ويجترئون على الله، ويفترون على رسول الله في عزة وشقاق " (3) .   (1) تفسير الصافى ج 1 ورقة 2. (2) انظر التفسير المذكور ج 4 ورقة 11، وانظر ج 1 ورقات 6، 7، 8 " نبذ مما جاء في أن علم القرآن كله إنما هو عند أهل البيت ". (3) تفسير الصافى ج 1 ورقة 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 وهو يرى أن جل القرآن إنما نزل في أئمة الجعفرية، وفى أوليائهم، وأعدائهم (1) . ويذكر روايات كثيرة في تحريف القرآن الكريم (2) ، بل يزعم أن في القرآن الكريم من التنافر والتناكر ما يدل على التحريف. مثال هذا ما نصه: " وأما ظهورك على تناكر قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} (3) ، وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء، ولا كل النساء أيتاماً، فهو مما قدمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن، وبين القول في اليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن " (4) . وصاحب الصافى يعقب على روايات التحريف بقوله: " المستفاد من مجموع هذه الأخبار، وغيرها من الروايات عن طريق أهل البيت، أن القرآن الذي بين   (1) انظر ج 1 الورقة الثامنة وما بعدها. (2) انظر ج 1 الورقة إلى 18، والتفسير كله مملوء بذكر آيات كثيرة محرفة. (3) 3: النساء. (4) ج 1 الورقتان 17، 18. قال ابن كثير في تفسير الآية الكريمة " إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه ". وذكر سبب النزول كما رواه الإمام البخاري، عن عائشة رضي الله عنها: " أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عذق، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شئ، فنزلت فيه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى} أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفى ماله. ثم ذكر عن الإمام البخاري أن عروة بن الزبير سأل عن الآية الكريمة فقالت: " يابن أختى، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلاَّ أن يقسطوا إليهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن " (انظر تفسيره 1 / 449 ـ 450) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 أظهرنا ليس بتمامه كما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله، ومنه ما هو مغير محرف، وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة، منها اسم علىّ في كثير من المواضع، ومنها لفظْة آل محمد غير مرة. ومنها أسماء المنافقين في مواضعها، ومنها غير ذلك. وأنه ليس أيضاً على الترتيب المرضى عند الله وعند رسوله " (1) . ولا يكتفى بذكر هذه الروايات، والتعقيب عليها، ولكن يذكر آراء الطبرسي والصدوق والطوسى في عدم التحريف، ويرد عليهم بما يبين مدى غلو هذا الضال المضل (2) . ومن أحاديثه عن الصحابة - رضوان الله تعالى عنهم، أنهم كانوا أهل ردة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلاَّ ثلاثة هم: المقداد وأبو ذر وسلمان الفارسى! وأن أربعة اجتمعوا على قتل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسم، هم: أبو بكر وعمر وابنتاهما عائشة وحفصة (3) !! والكتاب كله يسير في ظلمات الضلال، ولنزد ذلك بياناً ببعض الأمثلة: في أول سورة البقرة: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} ينقل عن العياشى عن الإمام الصادق أنه قال: " كتاب على لا ريب فيه "، ويعقب على هذا بقوله: " ذاك تفسيره، وهذا تأويله، وإضافته الكتاب إلى على بيانية، يعنى أن   (1) ج 1 الورقة 18. (2) انظر ج 1 الورقتين 19، 20، ومن رده يظهر اعتقاده بأن عندهم قرآناً غير القرآن الكريم الذي بأيدى المسلمين، وأن ما بين الدفتين هو المحرف، وأما قرآنهم فليس بمحرف!! والعجيب أن هذا المتظاهر بالإسلام وحب آل البيت، بدلاً من أن يستباح دمه وتحرق كتبه، نراه احتل مكاناً عالياً عند كثير من الشيعة الاثنى عشرية! . وتفسيره مطبوع ومنتشر في الوسط الشيعى! (3) انظر هذه المفتريات العجيبة في ج 1 ورقة 148، ج 4 ورقة 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 ذلك إشارة إلى على. والكتاب عبارة عنه، والمعنى أن ذاك الكتاب الذي هو على لا مرية فيه ". ثم يفسر المتقين بأنهم الشيعة، ويقول: " وإنما خص المتقين بالاهتداء به لأنهم المنتفعون به " (1) . وعند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} (2) يقول: " كابن أبى وأصحابه، وكالأول والثاني وأضرابهما من المنافقين، الذين زادوا على الكفر الموجب للختم والغشاوة والنفاق، ولا سيما عند نصب أمير المؤمنين للخلافة والإمامة " (3) . ثم يذكر ما نقلناه من قبل عن تفسير الحسن العسكرى لهذه الآية الكريمة، وذكره للغدير، وخيانة خير أمة أخرجت للناس (4) . وفى تفسيره لسورة القدر نراه يتفق مع القمي وينقل عنه ما ذكرناه من قبل، بل يزيد عنه بأن وجود القرآن متعلق بوجود الإمام!! وكلامه بالنص بعد أن ذكر رواية عن الإمام أبى عبد الله بأنه لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن: " وذلك لأن في ليلة القدر ينزل كل سنة من تبيين القرآن وتفسيره ما يتعلق بأمور تلك السنة إلى صاحب الأمر، فلو لم يكن ليلة القدر لم ينزل من أحكام القرآن ما لا بد منه في القضايا المتجددة، وإنما لم ينزل ذلك إذا لم يكن من ينزل عليه، وإذا لم يكن من ينزل عليه لم يكن قرآناً، لأنهما متصاحبان لن يفترقا حتى يردا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوضه كما ورد في الحديث المتفق عليه " (5) .   (1) ج 1 ورقة 30. (2) ج 1 ورقة 31 – ويريد بالأول والثاني الخليفتين – رضي الله تعالى عنهما. أفضل المسلمين بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما ثبت في النص المتواتر عن الإمام على كرم الله وجهه. (3) راجع ص 168. (4) انظر ج 4 ورقة 177. (5) ج 1 ورقة 23 – والحديث الذي أشار إليه هو الذي أثبتنا عدم صحته من أي طريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 إذن يمكن القول بأن تفسير الصافى لا يقل غلواً عن التفاسير الثلاثة بل زاد عنها. ثانياً: البرهان في تفسير القرآن وممن عاصر صاحب الصافى السيد هاشم البحرانى " توفى سنة 1107 أو سنة 1109 " وله كتاب " البرهان في تفسير القرآن " جمع فيه كثيراً من الروايات الجعفرية في تفسير القرآن الكريم (1) . والكتاب لا يختلف كثيراً عن تفسير الصافى، فهو يسير في طريق الضلال نفسه، يحرف كتاب الله تعالى نصاً ومعنى، ويطعن في حفظة الكتاب الكريم، وحملة الشريعة من الصحابة الكرام الأطهار، ويذكر من الروايات المفتراة ما يؤيد ضلاله. ونستطيع أن ندرك منهج هذا التفسير الضال المضل، وأثر الإمامة فيه، من الأبواب التي نراها في الجزء الأول قبيل البدء في تفسير السور الكريمة، ومن الأخبار التي أثبتها البحرانى في هذا الكتاب، فلنضرب بعض الأمثلة. ذكر البحرانى " باب في أن القرآن لم يجمعه كما أنزل إلاَّ الأئمة، وعندهم تأويله ". وتحت هذا الباب نجد ستة وعشرين خبراً (2) . وفى " باب فيما نزل عليه القرآن من الأقسام " (3) يذكر عن أمير المؤمنين أنه قال: نزل القرآن أثلاثاً: ثلث فينا وفى عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام. وعن أبى عبد الله: إن القرآن نزل على أربعة أرباع.   (1) راجع اتجاه التأليف في تلك الفترة ص 82 - 83 من كتاب المعالم الجديدة للأصول. (2) انظر ص 15-17. (3) انظر ص 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 ويذكر " باب في أن القرآن نزل بإياك أعنى واسمعى يا جارة " (1) و" باب فيما عنى به الأئمة في القرآن "، وفيه، لو قرئ القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمين كما سمى من قبلنا (2) . ويقول البحرانى: وأما ما هو على خلاف ما أنزل الله فهو قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ... وأما ما هو محرف منه قوله: {لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ في على} كذا نزلت (3) . وأما ما تأويله بعد تنزيله: فالأمور التي حدثت في عصر النبيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعده، في غصب آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقهم، وما وعدهم الله تعالى من النصرة على أعدائهم، وما أخبر الله سبحانه به نبيه من أخبار القائم وخروجه، وأخبار الرجعة (4) . وأما ما هو مخاطبة لقوم ومعناه لقوم آخرين فقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ} أنتم يا معشر أمة محمد (5) .   (1) انظر ص22. (2) انظر ص 22، 23. (3) ص 34، والآية الكريمة التي حرفها هذا المفترى الضال نصها هو " لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه " (166: سورة النساء) ". (4) ص 35. (5) ص 36، والآية الكريمة المذكورة هي الرابعة من سورة الإسراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 وأما الرد على من أنكر الرجعة فقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا} (1) ومن هذا يتضح منهج هذا البحرانى، ونزيد لك بياناً بشئ مما جاء في تفسيره للآيات الكريمة. مما جاء في تفسيره للفاتحة: " غير المغضوب عليهم النصاب، والضالين: الشكاك الذين لا يعرفون الإمام ". ويروى عن أبى جعفر أنه قال: " إن الله عز وجل خلق جبلاً محيطاً بالدنيا، زبرجدة خضراء، وإنما خضرة السماء من خضرة ذلك الجبل، وخلق خلفه خلقاً لم يفترض عليهم شيئاً مما افترض على خلقه من صلاة وزكاة، وكلهم يلعن رجلين من هذه الأمة سماهما ". ويروى عنه أيضاً أنه قال: " من وراء شمسكم هذه أربعون عين شمس، ما بين عين شمس إلى عين شمس أربعون عاماً، فيها خلق كثير، ما يعلمون أن الله تعالى خلق آدم أو لم يخلقه. وإن من وراء قمركم هذا أربعون قرصاً، وبين القرص إلى القرص أربعون عاماً، فيها خلق كثير لا يعلمون أن الله - عز وجل- خلق آدم أو لم يخلقه، قد ألهموا كما ألهمت النحلة لعنة الأول والثاني في كل الأوقات، وقد وكل بهم ملائكة متى لم يلعنوا عذبوا " (2) .   (1) ص 37، والآية الكريمة في سورة النمل 83 {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُون} . (2) انظر ص 47، ولاحظ بها أخباراً أخرى متشابهة. ويقصد هذا الضال بالأول والثاني خير الناس بعد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الخليفتين الراشدين أبا بكر وعمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 وفى أول سورة البقرة يذكر ما رأيناه من قبل في تفسير الصافى فيقول " كتاب على لا ريب فيه " (1) . وهكذا نرى من هذه الأمثلة القليلة (2) أن هذا التفسير كسابقه يسير في طريق الضلال، ويعتبر امتداداً للحركة التي منى بها القرن الثالث، ويمثل جانب الغلو والتطرف. ثالثاً: بحار الأنوار وممن عاصر صاحبى الصافى والبرهان المولى محمد باقر المجلسى، المتوفى سنة 1111، وهو من أشهر علماء الجعفرية، وله مكانته عندهم. وللمجلسى موسوعته الكبرى " بحار الأنوار "، تحدث فيها عن أشياء كثيرة، يعنينا منها هنا ما يتصل بكتاب الله تعالى، وأثر الإمامة فيه والمجلسى لم يؤلف بحاره للتفسير، وإنما لخدمة المذهب الجعفرى الاثنى عشرى، فالحديث عن القرآن الكريم جاء من هذا الباب. وقد جعل كتاباً للإمام تحته مئات الأبواب، ضمتها مجموعة من أجزاء البحار. ومن هذه الأبواب " أبواب الآيات النازلة فيهم ": أي في الأئمة كما يزعم، وهى تقع في أكثر من ستمائة صفحة في جزأين (3) . ومنها كذلك " أبواب الآيات النازلة في شأنه الدالة على فضله وإمامته "، أي في شأن الإمام على، وهى تقع فيما يقرب من أربعمائة وخمسين صفحة في جزأين كذلك (4) . ويكفى أن نذكر عناوين بعض هذه الأبواب ليظهر مدى غلو هذا الضال، فمن أبوابه:   (1) انظر ص 53. (2) راجع أيضاً الخبر، الذي نقلناه من تفسير الميزان نقلاً عن هذا التفسير ص 260. (3) الجزءان هما: ج 23 من ص 167 إلى أخر الجزء ص 393، وج 24 كله وعدد صفحاته 402. (4) ج 35 من ص183 إلى آخر الجزء ص 436، وج 36 من أوله إلى ص 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 باب أنهم - أي الأئمة - آيات الله وبيناته وكتابه (1) ، وأن الأمانة في القرآن الإمامة (2) ، وأنهم أنوار الله تعالى وتأويل آيات النور فيهم (3) ، وتأويل المؤمنين والإيمان والمسلمين والإسلام بهم وبولايتهم ... والكفار والمشركين والكفر والشرك والجبت والطاغون واللات والعزى والأصنام بأعدائهم ومخالفيهم (4) ، وأنهم خير أمة وخير أئمة أخرجت للناس (5) ، وأنهم جنب الله ووجه الله ويد الله ... وأمثالها (6) ، وأنه - أي الإمام علياً - المؤمن والإيمان والدين والإسلام والبينة والسلام وخير البرية في القرآن الكريم ... وأعداؤه " الكفر والفسوق والعصيان" (7) ، وأنه أنزل فيه - صلوات الله عليه - الذكر والنور والهدى والتقى في القرآن (8) ، وأنه النبأ العظيم والآية الكبرى (9) . والمجلسى ينقل عن التفاسير الثلاثة الضالة التي ظهرت في القرن الثالث الهجرى، وعن غيرهما من كتب غلاة الشيعة، ولكنه لا يكتفى بالنقل، وإنما كثيراً ما يذكر رأيه سواء في هذه الأجزاء أو في غيرها من كتابه البحار. وإذا كان تأليف الأبواب على هذه الصورة يدل على فساد عقيدته التي تنزل به إلى درك الغلاة، فإن ذكر الآراء يكشف عن حقيقته بوضوح يمنع المماحكة وخلق الأعذار، وهاك بعض ما جاء في كتابه.   (1) باب 11 ج 23 ص 206 - 211. (2) باب 16 ج 23 ص 273 – 283. (3) باب 18 ج 3 ص 204 - 205. (4) باب 21 ج 23 ص 354 - 390. (5) باب 46 ج 24 ص 153-158. (6) باب 53 ج 24 ص 191- 203. (7) باب 13 ج 35 ص 336 - 352. (8) باب 20 ج 35 ص 394 - 407. (9) باب 25 ج 36 ص 1-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 نقل عن الكافى ثلاث روايات عن الإمام أبى جعفر قال: نزل جبريل بهذه الآية على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللهُ} في على " بَغْيا"" ... وقال: نزل جبرائيل بهده الآية على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هكذا: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} في على {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} وقال: نزل بهذه الآية هكذا: {يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا أنَزَّلْنَا} في علىّ {نُورًا مُّبِينًا} وبعد هذه الروايات قال المجلسى (1) : بيان: قوله: " على عبدنا في على ع " لعله كان شكهم فيما يتلوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شأن على " ع "، فرد الله عليهم بأن القرآن معجزة، ولا يمكن أن تكون من عند   (1) انظر الروايات وبيانه في ج 23 ص 372 – 373، ويظهر من السند المذكور أن الكلينى – صاحب الكافى – نقل هذه الروايات الثلاث عن شيخه على بن إبراهيم القمي. والتحريف الأول في الأية 90 من سورة البقرة، والثاني في الأية 23 من السورة ذاتها. أما الرواية الثالثة فإنها أخذت صدر الأية 47 من سورة النساء مع وضع كلمة " أنزلنا " بدلاً من " نزلنا " ثم وضع التحريف، ثم كان الختام هو عجز الآية 174 من نفس السورة! ومع هذا فالقمى والكلينى والمجلسى من علماء الشيعة الاثنى عشرية الأعلام!! المعتدلون منهم والمتطرفون على السواء، يثنون على الثلاثة كل الثناء! حتى دعاة التقريب! ما وجدنا أحداً منهم يقول في الثلاثة إلاَّ ما قاله شيعتهم! فكيف يكون التقريب؟ أنؤمن بهذا الكفر ونتبع هؤلاء الضالين؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 غيره. وأما الأية الثالثة فصدرها في أوائل سورة النساء هكذا: {يَا أَيهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم} وآخرها في آخر تلك السورة هكذا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} ، ولعله سقط من الخبر شئ، وكان اسمه " ع " في الموضعين، فسقط آخر الأولى وأول الثانية من البين، أو كان في مصحفهم عليهم السلام إحدى الآيتين كذلك، ولا يتوهم أن قوله {مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم} في الأولى ينافى ذلك، إذ يمكن أن يكون على هذا الوجه أيضاً الخطاب إلى أهل الكتاب، فإنهم كانوا مبغضين لعلى " ع " لكثرة ما قتل منهم، وكان اسمه " ع" مثبتاً عندهم في كتبهم كاسم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذا قوله {أُوتُواْ الْكِتَابَ} ، وإن احتمل أن يكون المراد بالكتاب القرآن. وذكر المجلسى بعد هذا روايات أخرى عن الكافى أيضاً فيها آيات محرفة كذلك، وقال عن التحريف في بعضها: " يحتمل التنزيل والتأويل "، واحتمل في موضع آخر وجود الآيات المحرفة في مصحف خاص بأئمتهم كما ذكر من قبل (1) . ثم أورد المجلسى ثلاث روايات من الكافى عن الإمام أبى عبد الله جعفر الصادق هي (2) : عنه في قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} قال: نزلت في فلان وفلان وفلان وفلان: آمنوا بالنبىصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول   (1) انظر 23 / 374. (2) راجعها في 23 / 375 – 376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 الأمر، وكفروا حيث عرضت عليهم الولاية حين قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كنت مولاه فعلى مولاه، ثم آمنوا بالبيعة لأمير المؤمنين رضي الله عنه، ثم كفروا حيث مضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يقروا بالبيعة، ثم ازدادوا كفراً بأخذهم من بايعه بالبيعة لهم، فهؤلاء لم يبق فيهم من الإيمان شيء. وعنه في قول الله تعالى " 25: محمد ": {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} فلان وفلان وفلان، ارتدوا عن الإيمان في ترك ولاية أمير المؤمنين رضي الله عنه، قلت: قوله تعالى " 26: محمد " {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} قال: ... نزلت والله فيهما وفى أتباعهما، وهو قول الله عز وجل الذي نزل ... به جبرائيل " ع " على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} ... في على {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} قال: دعوا بنى أمية إلى ميثاقهم ألا يصيروا الأمر فينا بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يعطونا من الخمس شيئاً، وقالوا: إن أعطيناهم إياه لم يحتاجوا إلى شئ، ولا يبالوا ألاَّ يكون الأمر فيهم، فقالوا: سنطيعكم في بعض الأمر الذي دعوتمونا إليه، وهو الخمس ألا نعطيهم منه شيئاً، وقوله " كرهوا ما نزل الله " والذى نزل الله ما افترض على خلقه من ولاية أمير المؤمنين، وكان معهم أبو عبيدة، وكان كاتبهم، فأنزل الله: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم} " 79: 80 الزخرف ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 والرواية الثالثة أنه قال في قوله تعالى " 25: الحج ": {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} ، نزلت فيهم: حيث دخلوا الكعبة، فتعاهدوا وتعاقدوا على كفرهم، وجحودهم بما نزل في أمير المؤمنين رضي الله عنه، فألحدوا في البيت بظلمهم الرسول ووليه، فبعداً للقوم الظالمين. وبعد هذه الرواية قال المجلسى: بيان: قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} أقول: الآية في سورة النساء (1) هكذا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} ، وفى سورة آل عمران (2) هكذا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ} ، ولعله - ضم جزءاً من إحدى الآيتين إلى جزء من الأخرى لبيان اتحاد مفادها، ويحتمل أن يكون في مصحفهم " ع " هكذا، والظاهر أن المراد بالإيمان في الموضعين الإقرار باللسان فقط، وبالكفر الإنكار باللسان أيضاً، كما صرح به في تفسير على بن إبراهيم. قوله: بأخذهم من بايعه بالبيعة: لعل المراد بالموصول أمير المؤمنين رضي الله عنه، والمستتر في قوله: بايعه راجع إلى أبى بكر، والبارز إلى الموصول، ويحتمل أن يكون المستتر راجعاً إلى الموصول، والبارز إليه، أي أخذواالذين بايعوا أمير المؤمنين يوم الغدير بالبيعة لأبى بكر، ولعله أظهر.   (1) الآية 137. (2) الآية التسعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 قوله: فلان وفلان وفلان: هذه الكنايات يحتمل وجهين: الأول أن يكون المراد بها بعض بنى أمية كعثمان وأبى سفيان ومعاوية، فالمراد بالذين كرهوا ما نزل الله أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، إذ ظاهر السياق أن فاعل " قالوا " الضمير الراجع إلى " الذين ارتدوا " والثاني أن يكون المراد بالكنايات أبا بكر وعمر وأبا عبيدة، وضمير " قالوا " راجعاً إلى بنى أمية بقرينة كانت عند النزول، والمراد بالذين كرهوا الذين ارتدوا، فيكون من قبيل وضع المظهر في موضع المضمر. نزلت والله فيهما: أي في أبى بكر وعمر، وهو تفسير للذين كرهوا. وقوله: وهو قول الله: تفسير لما نزل الله، وضمير " دعوا " راجع إليهما وأتباعهما، " وقالوا " أي هما وأتباعهما. قوله، في بعض الأمر: لعلهم لم يجترئوا أن يبايعوهم في منع الولاية فبايعوهم في منع الخمس، ثم أطاعوهم في الأمرين جميعاً، ولا يبعد أن تكون كلمة " في " على هذا التأويل تعليلية، أي نطيعكم بسبب الخمس لتعطونا منه شيئا. وقوله: " كرهوا ما نزل الله " إعادة للكلام السابق لبيان أن ما نزل الله في على هو االولاية، إذ لم يظهر ذلك مما سبق صريحاً، ولعله زيدت الواو في قوله: " والذى " من النساخ، وقيل: قوله مرفوع على قول الله من قبيل عطف التفسير، فإنه لا تصريح في المعطوف عليه، بأن النازل فيهما في أتباعهما كرهوا أم قالوا (1) . وبعد أن انتهى المجلسى من بيانه السابق ذكر عشرات الروايات التي تحمل التحريف لكتاب الله تعالى، والتكفير لمن رضي الله عنهم ورضوا عنه من الصحابة الكرام البررة، ثم قال: اعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده " ع " وفضل عليهم غيرهم، يدل على أنهم كفار مخلدون في   (1) 23 / 376 - 378. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 النار (1) . ثم أورد ما يؤيد به رأيه، فقال: " قال الشيخ المفيد قدس الله روحه - في كتاب المسائل: اتفقت الإمامية على أن من أنكر إمامة أحد من الأئمة، وجحد ما أوجبه الله تعالى له من فرض الطاعة، فهو كافر ضال مستحق للخلود في النار، وقال في موضع آخر: اتفقت الإمامية على أن أصحاب البدع كلهم ... كفار، وأن على الإمام أن يستتيبهم عند التمكن بعد الدعوة لهم، وإقامة البينات عليهم، فإن تابوا من بدعهم، وصاروا إلى الصواب وإلا قتلهم لردتهم عن الإيمان، وأن من مات منهم على ذلك فهو من أهل النار ". ومن هذا نرى أن كتاب بحار الأنوار للمجلسى يعتبر امتداداً لحركة التضليل والتشكيك في كتاب الله العزيز، ويمثل جانب الغلو والتطرف عند الجعفرية الاثنى عشرية (2) . رابعاً: تأويل الآيات الباهرة والمجلسى ليس أول من عنى بجمع الآيات التي أجرم الضالون من طائفته بتحريفها في اللفظ أو المعنى، فمن قبله مثلاً شرف الدين بن على النجفى الذي ألف كتاباً أسماه " تأويل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة "، ونقل المجلسى عنه بعض رواياته (3) .   (1) 23 / 390، وفى موضع آخر عقد المجلسى باباً كاملاً أسماه " باب كفر الثلاثة ونفاقهم وفضائح أعمالهم " ويعنى بالثلاثة الخلفاء الراشدين!! (انظر كتابة 8 / 208 إلى 252 طبع حجر ". (2) الشيخ محمد جواد عالم شيعى معاصر، له مؤلفاته في فقه المذاهب الخمسة، حيث اعتبر المذهب الجعفرى مذهباً خامساً، ونرى شيئاً من الاعتدال في كثير من مؤلفاته. أشارهذا العالم إلى بعض " المؤلفات الشيعية التي بحثت التراث الإسلامي والديني والسياسي على أساس العلم، ونطقت بالصدق وكلمة " الحق " هكذا قال بالنص، ومن تلك المؤلفات بحار الأنوار للمجلسى!! ترى: أيدرى ما في البحار أم لا يدرى؟! " انظر فضائل الإمام على ص 247 ". (3) انظر مثلاً بحار الأنوار 23 / 168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 والكتاب لا يجمع الآيات تحت أبواب - كما فعل المجلسى، وإنما يسير بترتيب السور الكريمة. وفى ذكره لبعض آيات سورة البقرة يجمع أكثر ما جاء به من التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكرى. والتحريف في النص يكثر نقله عن القمي، وتلميذه الكلينى. ولسنا في حاجة لذكر أمثلة، فالكتاب كله صورة واضحة لهذا الضلال والإضلال (1) . وسيأتى ذكر لكثير من كتبهم مثل هذا الكتاب. خامساً: تفسير شبر: ويبدو أن حركة التضليل والتشكيك كانت أقوى من الحركة المضادة، ذلك أن الكتب الضالة التي ظهرت في القرن الثالث منها كتاب ينتسب إلى إمام، وآخر لمفسر يوثقونه كل توثيق، أحد تلاميذه هو الكلينى، صاحب كتاب الحديث الأول عند الجعفرية، وقد نقل عن شيخه القمي مئات الروايات في التحريف والتكفير وغير ذلك، والثالث للعياشى وهو في مكانة القمي عندهم، ولهذا ما وجدت أو قرأت من كتاب من كتب التفسير الجعفرى يصل إلى كتاب التبيان للطوسى في اعتداله النسبى أو قلة غلوه (2) . ولكن ظهر بعض التفاسير التي لم ترتفع إلى هذا المستوى، ولم تنزل إلى ذلك الدرك الأسفل. ومن هذه الكتب تفسير القرآن الكريم للسيد عبد الله شبر (3) . ولنتبين أهم آثار الإمامة في هذا التفسير ومدى غلوه نعرض ما يأتى:   (1) الكتاب مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم 38 مواعظ شيعة، ومصور بمكتبة جامعة الدول العربية تحت رقم 97 تاريخ. (2) ربما ظهر شئ في السنوات الأخيرة لا علم لي به، وسيأتى الحديث عن التفسير الكاشف لمغنيه، وتفسير البيان لمرجعهم الحالى بالعراق. (3) توفى سنة 1242 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 أولا ً: بالنسبة للقول بتحريف القرآن الكريم أو عدم تحريفه لم أجد لشبر نصاً صريحاً، ولكن يبدو أنه يميل إلى القول بالتحريف، ويظهر هذا الترجيح مما يكثر منه على أنه من القراءات، ومن هذه القراءات. في سورة آل عمران الآيات 102، 104، 110، فالآية الأولى ... هي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} ولكن شبراً يذكر أنها قرئت " تقية " و" مسلّمون " وواضح أن تحريف التقوى بالتقية لتأييد مبدأ من مبادئ الجعفرية، وأما الكلمة الأخرى فيقول عنها شبر " وقرئ بالتشديد أي منقادون للرسول ثم للإمام من بعده " (1) . والآية الثانية {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} يبدل كلمة " أمة " بأئمة (2) أي أئمة الجعفرية. وكذلك فعل في الآية الثالثة {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} فيقول: " هم آل محمد عليهم السلام، وقرئ كنتم خير أئمة " (3) .   (1) تفسير شبر ص 96. (2) انظر تفسيره ص 96. (3) ص 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 وفى سورة الحجر " الآية 41 ": {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتقِيمٌ} يبدل الجار والمجرور باسم الإمام على فيقول " صراط عَلِىٍّ بالإضافة (1) . وفى سورة الحج " الآية 52 ": {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} يقول شبر: " وعنهم أي أئمته أو محدث بفتح الدال، هو الإمام يسمع الصوت ولا يرى الملك (2) . وغير هذا كثير (3) . ومما يرجح كذلك انضمام شبر إلى القائلين بالتحريف، موقفه من الآية التاسعة من سورة الحجر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} حيث أولها بقوله: " وإنا له لحافظون عند أهل الذكر واحداً بعد واحد إلى القائم أو في ... اللوح ... وقيل الضمير للنبى " (4) . ثانياً: نجد شبراً ممن يطعن في الصحابة الأبرار، وأمهات المؤمنين الطاهرات: فمثلاً آيات سورة النور التي تحدثت عن الإفك لتبرئة أم المؤمنين السيدة عائشة - رضي الله عنها، نرى شبراً يجعل فيها اتهاماً لمن برأها الله تعالى فيقول: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} تحمل معظمه {مِنْهُمْ} من الآفكين {   (1) تفسيره ص 264. (2) ص 328، ومعنى هذا التحريف أن الإمام مرسل يوحى إليه! (3) راجع مثلاً ص 146، 212، 353، 425. (4) قال الأستاذ محمد حسين الذهبى رحمه الله: " نجد شبراً يعتقد بأن القرآن بدل وحرف، ولما اصطدم بقوله تعالى في الآية التاسعة من سورة الحجر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} نجده يتفادى هذا الاصطدام بالتأويل " ثم نقل تأويله للآية الكريمة. " انظر التفسير والمفسرون ... 2 / 191 ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 لَهُ عذَابٌ عَظِيمٌ} في الآخرة. أو في الدنيا بجلدهم، نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة من أنها حملت بإبراهيم من جريج القبطى، وقيل في عائشة" (1) . وفى سورة التوية " الآية 40 ": {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ... } يعز على شبر أن ينزل من السماء تكريم لأبى بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه ولا يكتفى بنفى هذا التكريم، بل يفترى على الله تعالىمرة أخرى، ويجعل من الآية الكريمة اتهاماً لأفضل المسلمين بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك يقول: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} ولا مدح فيه إذ قد يصحب المؤمن الكافر كما: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} (2) {لاَ تَحْزَنْ} : فإنه خاف على نفسه، وقبض واضطرب حتى كاد أن يدل عليهما، فنهاه عن ذلك { ... إِنَّ اللهَ مَعَنَا} عالم بنا ( {فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ} طمأنينة {عَلَيْه} ِ على الرسول، وفى إفراده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها ههنا مع اشتراك المؤمنين معه حيث ذكرت ما لايخفى (3) .   (1) ص 238، وراجع ما ذكرناه عن الإفك الذي جاء به القمي ص 190. (2) 37: الكهف. (3) ص 204 ومن الواضح البين أن صحبة الكافر غير صحبة الصاحب المختار، فالاتهام هنا اتهام لمن اختاره صاحباً. ومن الواضح البين كذلك أن أي مؤمن يقل إيمانه عن الصديق بدرجات ودرجات يدرك أن موته يعنى موت رجل، وأن موت الرسول الكريم يعنى موت رسالة، وما أكثر الذين ضحوا في سبيل الرسالة والرسول! فكيف يخاف الصديق على نفسه ولا يخاف على من أرسل رحمة للعالمين! وخوف أبى بكر - رضي الله عنه _ على الرسول* *الأكرم كان ظاهراً عندما سبقه إلى الغار ليستبرئه، وعندما كان يتقدمه ويتأخر عنه ... إلخ - أما ذكر إنزال السكينة عليه وليس عليهما فيكفى أن نذكر ما قاله أحد علمائهم عند قوله تعالى ... {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} " 37: البقرة قال الطبرسي: إنما قال " فتاب عليه " ولم يقل عليهما لأنه اختصر وحذف للإيجاز والتغليب، كقوله سبحانه وتعالى: " 62 التوبة: {وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضوهُ} ، ومعناه أن يرضوهما، وقوله " آخر الجمعة ": {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَ ... } وكقول الشاعر: رمانى بأمر كنت منه ووالدى بريا ومن حول الطوى رمانى وقول الآخر: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأى مختلف فكذلك معنى الآية: فتاب عليهما. " مجمع البيان 1 / 89، وراجع نقض ابن تيمية لما ذهب إليه أمثال شبر في ص 557 من المنتقى ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 ثالثاً: نجد شبراً يغالى في أئمته، ويخضع القرآن الكريم لهذا الغلو، فيضيف إلى التحريف في النص تحريفاً في المعنى. انظر مثلاً تأويله لسورة القدر حيث يقول: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} : جبرائيل أو خلق أعظم من الملائكة {بِإِذْنِ رَبِّهِم} يأمره كل سنة إلى النبي وبعده إلى أوصيائه، {مِّن كُلِّ أَمْرٍ} : بكل أمر قدر في تلك السنة أو من أجله، {سَلَامٌ هِيَ} : قدم الخبر للحصر أي ما هي إلاَّ سلامة أو سلام؛ لكثرة سلام الملائكة فيها على ولى الأمر (1) . وفى سورة المعارج، بعد أن ذكر أنها مكية، يقول:   (1) ص 562. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 {سَأَلَ سَائِلٌ} : دعا داع، {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} : نزلت لما قال بعض المنافقين يوم الغدير: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فرماه الله بحجر فقتله (1) . وفى الآية الثامنة من سورة هود يقول: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} : أوقات قليلة، قال الصادق: هي أصحاب المهدى عدة أصحاب أهل بدر (2) . هذا بعض ما جاء في تفسير شبر، وأظنه يكفى لبيان أثر الإمامة فيه، وهو وإن كان في منزلة بين المنزلتين، إلاَّ أنه إلى الغلو أقرب، وعن الاعتدال أكثر بعداً. سادساً: كنز العرفان وبعد الانتهاء من النظر في تلك الكتب، نأتى إلى لون آخر من التفاسير، وهى تختص بآيات الأحكام فقط، رجعت إلى كتابين أحدهما يمثل جانب الاعتدال النسبى، والآخر سار في طريق الغلاة. الكتاب الأول هو " كنز العرفان في فقه القرآن "، لمقداد بن عبد الله السيورى الحلى (3) ، والكتاب ينتصر للأحكام التي استقر عليها رأى الشيعة الجعفرية، مخالفين بها كل المذاهب أو بعضها، فمثلاً عند قوله تعالى:   (1) ص 531. (2) ص 228. (3) عاش إلى أوائل القرن التاسع الهجرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} (1) ، نراه يقف طويلاً عند عجز الآية، محاولاً إثبات أن الواجب مسح الرجلين لا غسلهما (2) . وعند قوله عز وجل {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (3) ، حاول أن يثبت وجوب رد السلام في أثناء الصلاة (4) . والانتصار للفقه الشيعى الجعفرى من باحث جعفرى أمر متوقع، بل لا ينتظر غيره، ولكنه ينتهى أحياناً إلى آراء أثر الإمامة يبدو فيها واضحاً، ومن أمثلة هذه الأراء ما يأتى: عند قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (5) ينتهى إلى أن في الآية أحكاماً هي: أن المشركين أنجاس نجاسة عينية لا حكمية، وأن آثارهم وكل ما باشروه برطوبة نجس أيضاً، وأنه لا يجوز دخولهم المسجد الحرام، وكذا باقى المساجد لنصوص الأئمة. ثم يقول: " لا فرق بينهم وبين الكفار عندنا في جميع ما تقدم للإجماع المركب، فإن كل من قال بنجاستهم عيناً قال بنجاسة كل كافر، ولأن أهل الذمة مشركون " (6) . وبالبحث عن باقى الكفار عندهم نجد أن الجعفرية توسعوا في   (1) سورة المائدة: 6. (2) انظر ص 9، 10. (3) سورة النساء: 86. (4) انظر ص 70 - 71. (5) التوبة: 28. (6) انظر ص: 21 - 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 مفهوم الكفر فحكموا بكفر كثير من المسلمين، حتى أن بعضهم اعتبر غير الجعفرى كافراً مشركاً (1) . وفى قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) : يذكر مشروعية الصلاة على الآل تبعاً للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجواز الصلاة عليهم " لا تبعاً له بل إفراداً كقولنا اللهم صلى على آل محمد، بل الواحد منهم لا غير "، وأن الصلاة عليهم واجبة في الصلاة، ومستحبة في غيرها، ثم يقول: " والذين يجب الصلاة عليهم في الصلاة، هم الأئمة المعصومون لإطباق الأصحاب على أنهم هم الآل، ولأن الأمر بذاك مشعر بغاية التعظيم المطلق الذي لا يستوجبه إلاَّ المعصومون، وأما فاطمة عليها السلام فتدخل أيضاً لأنها بضعة منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". ويذكر كذلك أن أئمته هم القائمون مقام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن مقام إمامتهم اغتصب (3) . وفى قوله سبحانه: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} (4) . ينتهى إلى أحكام منها قوله: " وجوب القصر، وإن كان عاماً لظاهر الآية، لكنه عندنا مخصوص بما عدا المواضع الأربعة: مسجد مكة، والمدينة، وجامع   (1) انظر حكم سؤر الآدمى في الجزء الرابع من هذه الموسوعة، وراجع كذلك آراء من سبق الحديث عنهم من غلاة مفسريهم، وانظر ما كتبناه عن أصول الكافى وروضته في الجزء التالي. (2) سورة الأحزاب: الآية 56. (3) انظر كتابه ص 58 – 61. (4) النساء: الآية 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 الكوفة، والحاير الشريف، وعليه إجماع أكثر الأصحاب، لأن الإتمام فيها ... أفضل، لكونها مواضع شريفة تناسب التكثير من العبادة فيها " (1) . سابعا ً: زبدة البيان ذلك هو الكتاب الأول، أما الكتاب الثاني فهو " زبدة البيان في أحكام القرآن"، لأحمد بن محمد الشهير بالمقدسى الأردبيلى (2) ولنتبين مدى غلوه، وأثر الإمامة فيه نعرض ما يأتى: - في كتاب الطهارة ذكر أن الإيمان المطلق عند الجعفرية يدخل فيه التصديق والإقرار " بالولاية والإمامة والوصاية لأهل البيت (ع) بخصوص كل واحد واحد " (3) . ثم قال: فلنشر إلى ما يدل على كون أمير المؤمنين " ع " إماماً، وهو غير محصور، ونقتصر على نبذ منه. منه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (4) . ومما قاله في الآية الكريمة: " ظاهر أنها في أمير المؤمنين وأصحابه الذين ارتدوا بعده من الخوارج، ومحاربيه يوم الجمل وصفين وغيره ". واستمر لبيان أنها فيه، واستدل بأحاديث لا تصلح للاستدلال هنا، وبأخرى موضوعة، إلى أن قال: وبالجملة الأوصاف كلها موجودة فيه، ويؤيد كونها فيه قوله تعالى متصلاً بالآية المذكورة:   (1) ص 88، وجامع الكوفة فيه محراب أمير المؤمنين على رضي الله عنه، وفيه ضربه بالسيف الشقى اللعين عبد الرحمن بن ملجم. " راجع ما كتب عن المسجد ونظرة الشيعة في الجزء الرابع ". والمسجد الرابع هو الحاير الحسينى بكربلاء. (2) توفى سنة 993 هـ. (3) ص 10. (4) سورة المائدة: الآية 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} مع إجماع المفسرين على أنها في شأنه (1) . وفى كتاب الصلاة عاد الأردبيلى للحديث عن الآية الخامسة والخمسين من سورة المائدة {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ} ليستدل بها على إمامة أمير المؤمنين، والأئمة الأحد عشر من ولده الذين تصدقوا في حال ركوعهم كذلك (2) . وفى كتاب الطهارة ذكر قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (3) ، واستدل بها على وجوب عصمة الأئمة (4) . وفى كتاب النكاح: ذكر أول سورة التحريم، وتحدث عن أسباب النزول، ثم قال: " وفى السبب شئ عظيم لحفصة، ولعائشة أعظم، حيث كذبت وغدرت وفتنت، وأمرت بهذه المناكير، وحصل الأذى للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك (5) . واستدلالاً بالآية الخامسة {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} ...   (1) انظر الكتاب ص 10 – 14، وراجع ما كتبته عن آية الولاية في الجزء الأول. (2) انظر ص 107 - 110. (3) سورة البقرة: الآية 124. (4) انظر 47 - 48. (5) ص 565. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 قال: " وبالجملة هذه تدل على عدم اتصافهما بهذه الصفات، واتصاف غيرهما بها (1) . وبعد ذلك تحدث عن ضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط، ثم قال: ... " ولعل فيه تسلية للنبى وغيره من المؤمنين، بأنه لا يستبعد حصول امرأة غير صالحة للنبى وغيره، ودخولها النار، مع كون جسدها مباشراً لجسده، ووجود الزوجية، وهى صريحة في ذلك، والمقصود واضح فافهم. وكذا رجاء من يتقرب بتزويجه وزوجيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا كانت أم حبيبة بنت أبى سفيان أخت معاوية أيضاً عنده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهى أحدى زوجاته، وأبوها كان أكبر رءوس الكفار، وصاحب حروبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخرى صفية بنت حيى بن أخطب بعد أن أعتقها، وقد قتل أبوها على الكفر، وأخرى سودة بنت زمعة، وكان أبوها مشركاً ومات عليه، وقيل: قد زوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنتيه قبل البعثة بكافرين يعبدان الأصنام" (2) .   (1) ص: 571. (2) ص 575، وجاء في الحاشية: " قيل هما رقية وزينب كانتا بنتى هالة أخت خديجة، ولما مات أبوهما ربيتا في حجر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنسبتا إليه كما كانت عادة العرب في نسبة المربى إلى المربى. وهما اللتان تزوجهما عثمان بعد موت زوجيهما ". وفى كتاب منهاج الشريعة، الذي ألفه محمد مهدى للرد على منهاج السنة النبوية ... لابن تيمية، جاء الحديث عن أختى الزهراء - رضي الله عنهن - في أكثر من موضع، ومما قاله: " ما زعمه - أي ابن تيمية - من أن تزويج بنتيه لعثمان فضيلة له من عجائبه من حيث ثبوت المنازعة في أنهما بنتاه " " 2 / 289 ". وقال: " لم يرد شئ من الفضل في حق من زعموهن شقيقاتها بحيث يميزن به ولو عن بعض النسوة " " 2 / 290 ". وقال: " قد عرفت عدم ثبوت أنهما بنتا خير الرسل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعدم وجود فضل لهما تستحقان به الشرف والتقدم على غيرهما " (2 / 291) . ولا أدرى كيف يستطيع من يهاجم بنات النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يزعم أنه محب لآل البيت؟ وكيف يقبل إخواننا الشيعة وجود أمثال هؤلاء بينهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 بعد هذا لسنا في حاجة إلى ذكر المزيد لبيان أن هذا الكتاب يمثل جانب الغلو والتطرف والضلال. ثامناً: الميزان بعد الحديث عن كتب للجعفرية الاثنى عشرية ظهرت في القرون السابقة أرى أن ننظر فيما كتب علماؤهم المعاصرون، لنرى إلى أي مدى لا يزال التأثر بعقيدة الإمامة في تناولهم لكتاب الله العزيز. ومن أكثر الكتب انتشاراً وشهرة، ولها مكانتها عند شيعة اليوم كتاب ... " الميزان في تفسير القرآن ": للسيد محمد حسين الطباطبائى (1) . وأهم آثار الإمامة في هذا الكتاب تبدو فيما يأتى: - أولا ً: عندما ينتصر لعقيدته في الإمامة، أو لشئ متصل بها، يقف من التحريف موقفاً غير حميد، ففى الحديث عن آية التطهير سبق أن أوردت قوله الذي يفيد احتمال وضع الصحابة للآيات في غير موضعها حيث قال " 16 / 330 ": " الآية لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النبي، ولا متصلة بها، وإنما وضعت بينها: إما بأمر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو عند التأليف بعد الرحلة " (2) . وعند الحديث عن موقف شبر من التحريف ذكرت ما نسبه لأئمته من زيادة كلمة " أو محدث " بعد قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} ، وذكرت كذلك تفسير شبر للمحدث بأنه الإمام يسمع الصوت ولا يرى الملك. وصاحب الميزان نراه يقول: " الروايات في معنى المحدث عن أئمة أهل البيت   (1) سبق ثناؤه على تفسير العياشى - الضال المضل - بدلاً من أن يكفره، مما يبين اتجاه صاحب تفسير الميزان هذا: فلم ينكر تحريفه للقرآن الكريم، ولا تكفيره للصحابة الكرام، ولا غير ذلك من ضلاله الذي بيناه. (2) راجع ما كتب عن آية التطهير في الجزء الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 كثيرة جداً، رواها في البصائر والكافى والكنز والاختصاص وغيرها. وتوجد في روايات أهل السنة أيضاً " (1) . وإذا كان قوله ينحصر في معنى المحدث، إلاَّ أن روايات أئمته التي أشار إليها تتناول زيادة الكلمة في الآية الكريمة ومعناها (2) . أما روايات أهل السنة فنجدها في الصحيحن وغيرهما: ففى البخاري " قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، فإن يك في أمتى أحد فإنه عمر " (3) . وفى مسلم: عن عائشة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: " قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يك في أمتى منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم. قال ابن وهب: تفسير محدثون ملهمون " (4) . وفى الترمذى أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " قد كان يكون الأمم محدثون، فإن يك في أمتى أحد فعمر بن الخطاب " وزاد الترمذى: " قال سفيان بن عيينة: محدثون يعنى مفهون " (5) . فهذه الروايات إذن ليس فيها تحريف للقرآن الكريم، أو زعم استمرار الوحى وسماع صوته. وعند قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (6) .   (1) الميزان 3 / 240. (2) انظر الكافى 1 / 176 – 177 " باب الفرق بين الرسول والنبى والمحدث ". (3) انظر كتاب المناقب – باب مناقب عمر بن الخطاب. (4) انظر كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل عمر. (5) راجع أبواب المناقب – باب مناقب عمر. (6) سورة النساء: الآية 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 روى عن أئمته بأنها إنما نزلت {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ إلى أجل مسمى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، ثم يعقب بقول عام يبين رأيه في هذه الرواية وأمثالها حيث يقول: " لعل المراد بأمثال هذه الروايات الدلالة على المعنى المراد من الآية دون النزول اللفظى " (1) . فهو إذن لا يجزم بالتحريف أو عدمه، أي أنه في منزلة بين القمي والطوسى. ثانياً: بينا لجوء الطوسى والطبرسى لتأويل بعض أي القرآن الكريم للاستدلال على عقيدة الإمامة، وهنا نجد صاحب الميزان يزيد عنهما غلواً وافتراء، فمثلاً آية الولاية التي تحدثنا عنها في الجزء الأول، نرى الطباطبائى يتناولها في أكثر من عشرين صفحة محاولاً أن يثبت بها الولاية، وضلال من لا يشاركه عقيدته، ويذكر أن علياً حاج أبا بكر بها فاعترف بأن الولاية لعلى (2) . وعند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (3) . نراه يقول: " على الناس أن يطيعوا الرسول فيما بينه بالوحى، وفيما يراه من الرأى، وأما أولو الأمر منهم - كائنين من كانوا - لا نصيب لهم من الوحى، وإنما شأنهم   (1) 4 / 308. (2) راجع تفسيره 6 / 2: 24. (3) سورة النساء: الآية 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 الرأى الذي يستصوبونه، فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم وقولهم، ولذلك لما ذكر وجوب الرد والتسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خص الله والرسول ". (1) ثم قال: " وبالجملة لما لم يكن لأولى الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع، ولا عندهم إلا ما لله ورسوله من الحكم - أعنى الكتاب والسنة - لم يذكرهم الله سبحانه وتعالى ثانيا، عند ذكر الرد. فلله تعالى إطاعة واحدة وللرسول وأولى الأمر إطاعة واحدة " (2) . ويبدو الاعتدال هنا في اختصاص الوحى بالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولكنه جعل رأى أولى الأمر كرأى الرسول سواء بسواء، وطاعتهم داخلة في طاعة الرسول، لينتهى من هذا إلى وجوب عصمتهم والنص عليهم، وأنهم هم أئمة الجعفرية! وذكر روايات تؤيد ما ذهب إليه، فأحال كتاب الله تعالى إلى كتاب من كتب الإمامة عند الجعفرية. ونكتفى هنا بذكر إحدى رواياته، وتعقيبه عليها، ليتضح مدى الغلو والافتراء، وهاك نص الرواية: " في تفسير البرهان عن ابن بابويه، بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصارى. لما أنزل الله عز وجل على نبيه محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " "" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ "" " قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال: هم خلفائى ياجابر، وأئمة المسلمين من بعدى، أولهم على بن أبى طالب، ثم الحسين، ثم على بن الحسين، ثم محمد بن على المعروف في التوراة بالباقر، ستدركه ياجابر، فإذا لقيته فأقرئه منى السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم على بن موسى، ثم محمد بن على، ثم على بن محمد، ثم الحسين بن   (1) 4 / 413. (2) 4 / 414، وانظره إلى ص 439. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 على، ثم سميى محمد وكنيى، حجة الله في أرضه، وبغيته في عباده، ابن الحسن ابن على، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه بالإيمان. قال جابر: فقلت له: يارسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي والذى بعثنى بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلاها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله ومخزون علم الله فاكتمه إلا عن أهله! " ثم عقب الطباطبائى بقوله: " وعن النعمانى.. عن على ما في معنى الرواية السابقة، ورواها على بن إبراهيم بإسناده عن سليم عنه، وهناك روايات أخر من طرق الشيعة وأهل السنة! ومنها ذكر إمامتهم بأسمائهم، من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى كتاب ينابيع المودة، وكتاب غاية المرام للبحرانى، وغيرهما " (1) . ثالثاً: وهو يتحدث عن منهجه في التفسير، واستدلاله بالروايات قال: " وضعنا في ذيل البيانات متفرقات من أبحاث روائية، نورد فيها ما تيسر لنا إيراده من الروايات المنقولة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأئمة أهل البيت عليهم السلام، من طرق العامة والخاصة. وأما الروايات الواردة عن مفسرى الصحابة والتابعين فإنها على ما فيها من الخلط والتناقض لا حجة فيها على مسلم " (2) . وبالاطلاع على هذه الأبحاث الروائية وجدنا أنه لا يفترق كثيراً عن القمي والعياشى وأضرابهما، وعنهم أخذ أكثر رواياته، ولنضرب بعض الأمثلة:   (1) 4 / 435 – 436، وانظر تفسيره إلى ص 439 تجد روايات أخرى موضوعة كذلك – لتأييد ما ذهب إليه من عقيدة أثبتنا بطلانها في أكثر من كتاب. (2) 1 / 11 -12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 من هذه الروايات " أن آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له، وبإدخاله الجنة، قال: هل خلق الله بشراً أفضل منى؟ فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه فناداه، ارفع رأسك يا آدم، وانظر إلى ساق العرش، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوباً: لا إله إلاَّ الله، محمد رسول الله، على بن أبى طالب أمير ... المؤمنين، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟ فقال عز وجل: يا آدم، هؤلاء ذريتك، وهم خير منك ومن جميع خلقى، ولولاهم ما خلقتك، ولا الجنة ولا النار، ولا السماء ولا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد، فأخرجك عن جوارى، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم، فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهى عنها، وتسلط على حواء فنظرت إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم، فأخرجهما الله تعالى من جنته، وأهبطهما من جواره إلى الأرض ". ثم عقب صاحب الميزان بقوله: " وقد ورد هذا المعنى في عدة روايات، بعضها أبسط من هذه الرواية وأطنب، وبعضها أجمل وأوجز " (1) . وروى عن الكلينى في قوله تعالى " 37: البقرة ": {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} قال: " سأله بحق محمد وعلى وفاطمة والحسن والحسين ". وعقب يقوله: " وروى هذا المعنى أيضاً الصدوق والعياشى والقمى وغيرهم " (2) .   (1) 1 / 144- 145. (2) 1 / 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 وروى عن الكلينى أيضاً: " إن الله أعز وأمنع من أن يظلم، أو ينسب نفسه إلى الظلم، ولكنه خلطنا بنفسه، فجعل ظلمنا ظلمه، وولايتنا ولايته، ثم أنزل الله بذلك قرآناً على نبيه فقال: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (1) وعن الكافى كذلك: " إذا جحدوا ولاية أمير المؤمنين فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " (2) . وعن العياشى أن الإمام الصادق قال: " الذين باءوا بسخط من الله هم الذين جحدوا على وحق الأئمة منا أهل البيت، فباءوا بسخط من الله " (3) . وعنه كذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (4) عن الإمام الصادق: نحن نعنى بها، والله المستعان، إن الواحد منا إذا صارت إليه لم يكن له أو لم يسعه إلاَّ أن يبين للناس من يكون بعده (5) . وعن العياشى أيضاً أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " لا دين لمن لا تقية له " (6) .   (1) 1 / 193، والآية هي رقم 57 من سورة البقرة، 160: الأعراف. (2) 1/ 219. (3) 4 /73. (4) البقرة: الآية 159. (5) الميزان: 1 / 397. (6) 3 / 174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 وعن القمي والكافى في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} ، رويا أنها نزلت في ولاية الإمام على (1) . ومن هذا كله يتضح أثر الإمامة في هذا التفسير، وهو بلا شك أكثر غلواً من تفسير الطوسى، بل من الطبرسي، وأبحاثه الروائية نقلها من القمي والعياشى والكلينى وغيرهم، فهو في هذا لا يكاد يفترق عن باقى الضالين. تاسعاً: التفسير الكاشف إذا كان التبيان للطوسى - كما رأينا - هو أكثر الكتب اعتدالاً أو أقلها غلواً، فإن عصرنا شهد بعض الكتب في التفسير الشيعى لا تقل عنه اعتدالا، ولا تزيد عنه غلوا. من هذه التفاسير كتابان: أحدهما " التفسير الكاشف " للعالم الجعفرى اللبنانى المشهور: محمد جواد مغنية، ومظاهر الاعتدال نراها فيما يأتى: أولاً: في بيانه لمنهجه في التفسير، حيث يقول: اعتمدت - قبل كل شىء - في تفسير الآية وبيان المراد منها على حديث ثبت في سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنها ترجمان القرآن، والسبيل إلى معرفة معانيه: ... {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (2) . فإذا لم يكن حديث من السنة اعتمدت ظاهر الآية، وسياقها، لأن المتكلم الحكيم يعتمد في بيان مراده على ما يفهمه المخاطب من دلالة الظاهر، كما أن المخاطب بدوره يأخذ بهذا الظاهر، حتى يثبت العكس. وإذا أوردت آية ثانية في معنى الأولى، وكانت أبين وأوضح، ذكرتهما معاً، لغاية التوضيح، لأن مصدر القرآن واحد، ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض.   (1) انظر 9 / 59 - 60، والآية الكريمة في سورة الأنفال: الآية 24. (2) سورة الحشر: الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 وإذا تعارض ظاهر اللفظ مع حكم العقل وبداهته، أولت اللفظ بما يتفق مع العقل باعتباره الدليل والحجة على وجوب العمل بالنقل. وإذا تعارض ظاهر اللفظ مع إجماع المسلمين في كل عصر ومصر على مسألة فقهية حملت الظاهر على الإجماع، كقوله تعالى (إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ((1) ، حيث دلت " فاكتبوه " على الوجوب، والإجماع قائم على استحباب كتابة الدين، فأحمل الظاهر على الاستحباب دون الوجوب. أما أقوال المفسرين فلم أتخذ منها حجة قاطعة، ودليلاً مستقلاً، بل مؤيداً ومرجحاً لأحد الوجوه إذا احتمل اللفظ لأكثر من معنى، فلقد بذل المفسرون جهوداً كبرى للكشف عن معاني القرآن وأسراره وإبراز خصائصه وشوارده، وأولوا كتاب الله من العناية ما لم يظفر بمثلها كتاب في أمة من الأمم قديمها أو حديثها. وإن في المفسرين أئمة كباراً في شتى علوم القرآن التي كانت الشغل الشاغل للمسلمين في تاريخهم الطويل، فإذا لم تكن أقوال هؤلاء الأقطاب حجة، كقول المعصوم، فإنها تلقى ضوءاً على المعنى المراد، وتمهد السبيل إلى ... تفهمه (2) . ثانياً: في التزامه بهذا المنهج إلى حد كبير: مثال هذا ما ذكره في تفسير الفاتحة عند قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} قال: " جاء في بعض الروايات أن المغضوب عليهم هم اليهود،   (1) 282: سورة البقرة، والآية كتبت في التفسير الكاشف خطأ حيث سقط منها " إلى أجل مسمى ". (2) 1 / 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 والضالين هم النصارى، ولكن لفظ الآية عام لا تخصيص فيه، ولا استثناء، فكل مطيع تشمله نعمة الله ورحمته، وكل عاص ضال ومغضوب عليه " (1) . وعند تفسير الآيات من " 111 إلى 113 " من سورة البقرة، أشار إلى أن اليهود والنصارى يكفر بعضهم بعضاً، ثم وضع عنواناً نصه: " أيضاً المسلمون يكفر بعضهم بعضاً "، وتحت هذا العنوان قال: وإذا كان اليهود بحكم الطائفة الواحدة، لأن التوراة تعترف بعيسى، والإنجيل يعترف بموسى، فبالأولى أن تكون السنة والشيعة طائفة واحدة، حقيقة وواقعة: لأن كتابهم واحد، وهو القرآن، لا قرءانان، ونبيهم واحد، وهو محمد، لا محمدان، فكيف إذن يكفر بعض من الفريقين إخوانهم في الدين؟ ولو نظرنا إلى هذه الآية: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} (2) ، ولو نظرنا إليها بالمعنى الذي بيناه، واتفق عليه جميع المفسرين، ثم قسنا من يرمى بالكفر أخاه المسلم ـ لو نظرنا إلى الآية، وقسنا هذا بمقياسها لكان أسوأ حالاً ألف مرة من اليهود والنصارى.. (لقد كفر اليهود النصارى وكفر النصارى اليهود، {وَهُمْ يتْلُونَ الْكِتَابَ} أي التوراة والإنجيل، فكيف بالمسلم يكفر أخاه المسلم، وهو يتلو القرآن؟ فليتق الله الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب، وقلوبهم عمى عن معانيه ... ومراميه (3) .   (1) 1 / 35. (2) سورة البقرة: الآية 113. (3) 1 / 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 وفى تفسير سورة الأنفال " الآيات 72: 75 " تحدث عن المهاجرين والأنصار فقال: ما قرأت شيئاً أبلغ من وصف الإمام زين العابدين " ع " للمهاجرين والأنصار وهو يناجى ربه، ويطلب لهم الرحمة والرضوان بقوله: " اللهم أصحاب محمد خاصة الذين أحسنوا، وأبلوا البلاء الحسن في نصره، وكاتفوا وأسرعوا إلى وفادته، وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا له، حيث أسمعهم حجة رسالاته، وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته، وقاتلوا الآباء والأبناء في تثبيت نبوته، وانتصروا به، ومن كانوا منطوين على محبته، يرجون تجارة لن تبور في مودته ... فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك ... وكانوا مع رسولك لك إليك ". وبعد أن ذكر الشيخ مغنية قول الإمام قال: ملحوظة: هذه المناجاة جاءت في الصحيفة السجادية التي تعظمها الشيعة، وتقدس كل حرف منها، وهى رد مفحم لمن قال: إن الشيعة ينالون من مقام الصحابة (1) . وفى تفسير سورة الرعد " الآيات 35: 38 " قال تحت عنوان " الشيعة الإمامية والصحابة ": دأب بعض المأجورين والجاهلين على إثارة الفتن والنعرات بين المسلمين لتشتيت وحدتهم وتفريق كلمتهم، دأبوا على ذلك عن طريق الدس والافتراء على الشيعة الإمامية، وذلك بأن نسبوا إليهم النيل من مقام الصحابة، وتأليه على، والقول بتحريف القرآن الذي يهتز له العرش ... وما إلى ذلك من الكذب والبهتان ... (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ((2) قال الطبرسي: " يريد الله سبحانه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين آمنوا به، وصدقوه   (1) 3 / 515. (2) سورة الرعد: الآية 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 وأعطوا القرآن، وفرحوا بإنزاله " ... ولو كانوا ينالون من مقام الصحابة لاتجه شيخهم الطبرسي في تفسير هذه الآية إلى غير هذا الوجه (1) . وفى تفسير سورة التحريم يقول عن الآية الرابعة: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} : أي مالت إلى الحق، ثم يقول مشيراً إلى حفصة وعائشة من أمهات المؤمنين: فإن تابتا وأصلحتا فقد مال قلباهما إلى أمر الله والإخلاص لرسوله، وإن أصرتا على التعاون ضد الرسول فإن الله وليه وناصره، وأيضاً يعينه ويؤازره جبريل، وجميع الملائكة والمؤمنين الصالحين (2) .   (1) 4 / 412. نلاحظ على إخواننا الشيعة الذين يتجهون نحو الاعتدال والابتعاد عن الغلو، أنهم يتجاهلون الواقع ويقعون في التناقض، والصحابة الكرام، رضي الله عنهم ورضوا عنه، لهم مقام معلوم عند الله تعالى، وعند جمهور المسلمين. وما نقله الشيخ مغنية مدحاً في الصحابة هو عين الحق بلا أدنى ريب، ولكننا نلاحظ أن ما ذكره في تفسير سورتى الأنفال والرعد كأنما جاء للدفاع عن الشيعة لا الصحابة! فالشيخ مغنية نفسه أثنى على كتاب بحار الأنوار للمجلسى أيما ثناء، ورأينا من قبل في دراستنا لهذا الكتاب أن صاحبه يرى تحريف القرآن الكريم، ويكفر الصحابة وعلى الأخص الخلفاء الراشدون الثلاثة. وأشرت من قبل بعد دراسة ... تفسير القمي الضال المضل إلى التناقض الذي وقع فيه السيد أبو القاسم الخوئى - مرجع الشيعة السابق بالعراق - حيث ذهب إلى صحة جميع روايات هذا التفسير، والخوئى يقطع بعدم تحريف القرآن الكريم، والقمى يجزم بتحريفه، ويكفر الصحابة ويلعنهم، والكلينى صاحب كتاب الكافى أعظم كتاب عندهم - ذهب مذهب شيخه القمي في التكفير والتحريف. فكان على الشيخ مغنية - وأمثاله ممن ينشدون الاعتدال - ألا يتجاهلوا الواقع، وألا يقعوا في التناقض، كان عليهم إذن أن يهاجموا القمي والكلينى والعياشى والمجلسى وأمثالهم، ويبينوا أن هؤلاء ليسوا من شيعة الإمام زين العابدين، وغيره من الأئمة الأطهار، فضلاً عن أن يكونوا من أعلام الشيعة الثقات، كان عليهم هذا بدلاً من أن يهاجموا من يذكر الواقع والحقيقة!! (2) 7 / 364. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 وبعد تفسير سورة الليل يقول: قال الشيخ محمد عبده: روى المفسرون هنا أسبابأ للنزول، وأن الآيات نزلت في أبى بكر، ومتى وجد شىء من ذلك في الصحيح لم يمنعا من التصديق به مانع، ولكن معنى الآيات لا يزال عاماً (1) . من هذا نرى أن الشيخ مغنية في تفسيره يمثل جانب الاعتدال النسبى عند الجعفرية في المنهج والتطبيق، وبالطبع لا يخلو تفسيره من التأثر بعقيدته في الإمامة، فعلى سبيل المثال: نراه ينسب لأمير المؤمنين على بن أبى طالب - رضي الله عنه - أنه قال: " ذاك القرآن الصامت وأنا القرآن الناطق " (2) ، وناقشنا هذا من قبل (3) . كما نراه يتحدث عن عصمة أهل البيت (4) ، وعن الإمامة وفكرة العصمة (5) . ويتحدث عن المهدى المنتظر في أكثر من موضع (6) ، غير أنه كان يذكر بعض الأحاديث التي صحت عن طريق أهل السنة (7) .   (1) 7 / 576. (2) 1 / 10، 1 /39. (3) راجع ص 135 وما بعدها. (4) انظر 1 /88. (5) 1 / 196 - 199. (6) انظر 1 / 206، 5 / 57، 5/ 302. (7) ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو داود في سننه، واعترف الشيخ مغنية بصحته، وهو: " قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو لم يبق من الدنيا إلاَّ يوم واحد، لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً من أهل بيتى، يواطئ اسمه اسمى، واسم أبيه اسم أبى، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً " " 5/302 "، والشيخ مغنية هنا وقع في التناقض الذي أشرنا إليه من قبل، لأن هذا الحديث الشريف يخالف عقيدته في المهدى، حيث يعتقد أنه محمد بن الحسن العسكرى، وليس محمد بن عبد الله الذي سيبعث قبيل الساعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 ويتحدث عن التقية ويقول: " من خص التقية بالشيعة فقط، وشنع بها عليهم، فهو إما جاهل، وإما متحامل " (1) . ويفصل القول في الحديث عن الخمس، ويهاجم أبا سفيان وحفيده يزيد، ذاكرا قول الشاعر: فابن حرب للمصطفى وابن هند ... لعلى وللحسين يزيد (2) وفى تفسير سورة آل عمران " الآيات 33: 37 " يضع هذا العنوان: " فاطمة ومريم "، ويذكر تحته حقاً وباطلاً، ويشير إلى أن فاطمة كمريم، وعلى كزكريا، كان كلما دخل عليها وجد عندها رزقاً من عند الله تعالى (3) . وفى تفسير سورة النساء " الآيتين 95، 96 " يتحدث عن تفسير الآيتين، وتحت عنوان: " على وأبو بكر "، يجادل ليصل إلى أفضلية على بحهاده وعلمه، وفى آخر جدله العقيم يقول: منزلة على من العلم لا تدانيها منزلة واحد من الصحابة على الإطلاق، وكفى شاهداً على ذلك ما تواتر عن الرسول الأعظم " أنا مدينة العلم وعلى بابها ". وقد حفظ التراث الإسلامى من علم على ما لم يحفظه لأبى بكر، ولا لغيره من الصحابة (4) .   (1) وانظر بحث التقية والأسباب التي جعلتها مبدأ خاصاً بالشيعة في الفصل الخامس من الجزء السابق. (2) انظر 3 / 482-484. (3) انظر 2 / 50-51. (4) انظر 2 / 414 - 416. والحديث الذي ذكر أنه متواتر، قال عنه الدار قطنى في العلل: هذا حديث مضطرب غير ثابت، وقال الترمذى: منكر، وقال البخاري: ليس له وجه صحيح، وقال يحيى بن معين: كذب لاأصل له، وذكره ابن الجوزى في الموضوعات " انظر كشف الخلفاء 1 /203 - 205 وراجع فيه الآراء المختلفة حول هذا الحديث، وانظر أيضاً: فيض القدير 3/47046، والمقاصد الحسنة 97، وذكرت تخرج الحديث من قبل. * *وروى الإمام البخاري بسنده عن محمد بن الحنفية قال: " قلت لأبى: أي الناس خير بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال " ثم عمر " قال ابن تيمية: قد روى هذا عن على من نحو ثمانين طريقا، وهو متواتر عنه. " انظر جامع الرسائل1 / 261 " واذكر هذا هنا من باب التذكير، فليس هنا مجال لمناقشة مثل هذه الآراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 وفى سورة المائدة: وعند تفسير الآية الثالثة من السورة، تحت عنوان " إكمال الدين وإتمام النعمة "، نراه يتظاهر بأنه يعرض رأى كل من الشيعة والسنة فقط، لينتهى من هذا إلى خلافة على ‍‍ (ويشير إلى كتاب الغدير ككتاب قيم، وأن هذا الكتاب ذكر رواة حديث الغدير، وهم 120 صحابياً، 840 تابعاً، 360 إماماً وحافظاً للحديث، وفيهم الحنفى والشافعى وغيرهما، كل ذلك نقله عن كتب ... السنة (1) . وعند تفسير الآية الخامسة والخمسين من السورة {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} يذكر كغيره أنها نزلت في على بن أبى طالب (2) . ثم يعود إلى الغدير عند تفسير الآية السابعة والستين من سورة المائدة أيضاً {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ... } ويذكر أن الشيعة استدلوا بأحاديث رواها أهل السنة (3) .   (1) انظر 3 /13-15، وراجع ما كتبته فيما سبق عن الغدير في الفصل الثالث من الجزء الأول، وفيه إشارة لكتاب الغدير المذكور، وبعض أكاذيبه وافتراءاته، وإثبات أن حديث الغدير في التمسك بالكتاب والعترة كوفى المنشأ ‍‍، ليس له طريق إلاَّ عن المجروحين من شيعة الكوفة! (2) انظر 3 / 81 وانظر مناقشة ما ذهبوا إليه في الجزء السابق. (3) انظر 3 / 96 - 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 وعند تفسير الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} يذكر ما ذهب إليه الشيعة، وبين أدلتهم، محاولاإثبات صحة ما ذهبوا إليه (1) . وفى سورة الشورى، عند تفسير الآية الثالثة والعشرين: {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} ، يقول عن البحر المحيط: هم على وفاطمة والحسن والحسين، ويقول أيضاً: ونقل بعض المفسرين رواية، في سندها معاوية، ومؤدى هذه الرواية أن معنى الآية: قل يا محمد لقريش: ناشدتكم الرحم أن لا تؤذونى. ثم أخذ يناقش ليثبت أنها في الأربعة (2) .   (1) انظر 6 / 216 - 218. (2) انظر 6 /522 -523. وما ذكره عن البحر المحيط لا يمثل رأى أبى حيان، ولا يبين أنه يرى صحة هذا الخبر، فأبو حيان جمع أخباراً - صحيحة أو غير صحيحة - وأثبتها في تفسيره، ومنها هذا الخبر الذي لا يقبل، فالسورة مكية، أي أنها نزلت قبل أن يولد الحسن والحسين بسنوات، أما إذا أردنا أن نبحث عن الصحيح فإنا نرى الإمام البخاري يروى في صحيحه بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله {إلا المودة في القربى} فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال ابن عباس: عجلت، إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن بطن من قريش إلاَّ كان له فيهم قرابة، فقال: إلاَّ أن تصلوا ما بينى وبينكم من القرابة، " كتاب التفسير سورة حم عسق باب {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} وقال ابن حجر في فتح البارى في شرحه لهذا الخبر: قال ابن عباس: عجلت: أي أسرعت في التفسير، وهذا الذي جزم به سعيد بن جبير قد جاء عنه من روايته عن ابن عباس مرفوعاً، فأخرج الطبري وابن أبى حاتم، من طريق قيس بن الربيع، عن الأعمش عن سعيد بن جبير، * * عن ابن عباس قال: لما نزلت قالوا: يا رسول الله، من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ الحديث، وإسناده ضعيف، وهو ساقط لمخالفته هذا الحديث الصحيح. أما ذكر الشيخ مغنية لمعاوية، يريد أن يلمزه، ففيه بعد عن الحق، فعلى الرغم مما حدث بينه وبين سيدنا على لم يرد عن طريقه حديث واحد فيه طعن للإمام على، وكل الأحاديث التي صحت عن طريق معاوية ليس فيها أي مطعن، وقد جمع ابن الوزير- وهو من علماء الشيعة الزيدية - ما روى عن طريق معاوية في الصحاح الستة، وأثبت صحته من طرق ليس فيها معاوية. رضي الله عنه. " انظر الروض الباسم في الذب عن سنة أبى القاسم 2/114 - 119". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 هذه بعض الأمثلة التي تبين أثر الإمامة في هذا التفسير، ومع هذا كله فالشيخ مغنية يمثل جانب الاعتدال إلى حد ما في عصرنا الحديث، وتفسيره يبين منهجه الذي يمثل الحق في بعض جوانبه، غير أنه لا يخلو من الغلو والضلال. عاشراً: البيان والكتاب الثاني الذي يمثل جانب الاعتدال، والبعد عن الغلو إلى حد ما ظهر في عصرنا هذا، هو " البيان " في تفسير القرآن " ألفه السيد أبو القاسم الموسوى الخوئى "، المرجع السابق للجعفرية بالعراق. ومع أن الكتاب لم يظهر منه إلاَّ المجلد الأول الذي يشمل المدخل وتفسير الفاتحة، إلاَّ أننا انتهينا إلى هذا الرأى لما يأتى: أولا ً: جاء في مقدمة الكتاب: " سيجد القارئ إني لا أحيد في تفسيرى هذا عن ظواهر الكتاب ومحكماته، وما ثبت بالتواتر أو بالطرق الصحيحة من الآثار الواردة عن أهل بيت العصمة من ذرية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما استقل به العقل الفطرى الصحيح الذي جعله الله حجة باطنة كما جعل نبيه - صلى الله عليه وعلى آله-وأهل بيته المعصومين عليهم السلام حجة ظاهرة، وسيجد القارئ أيضاً إني كثيراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 ما أستعين بالآية على فهم أختها، وأسترشد القرآن إلى إدراك معاني القرآن، ثم أجعل الأثر المروى مرشداً إلى هذه الاستفادة (1) . ... وفى بيانه لأصول التفسير قد فصل ما أجمله هنا (2) . ثانيا: أنه قد أسهب وأفاض في إثبات صيانة القرآن الكريم من التحريف (3) ، وهو لا يكفر المخالفين لطائفته، بل يرى ويروى أن الإسلام يدور مدار الإقرار بالشهادتين (4) . ثالثاً: أنه أفاض كذلك في الحديث عن حجية ظواهر القرآن (5) . رابعاً: أنه التزم بمنهجه هذا في تفسيره لفاتحة الكتاب، والقارئ لتفسيره يلمس هذا بوضوح. ومع هذا فأثر الإمامة نراه في قوله بصحة إطلاق الأسماء الحسنى على الأئمة (6) ، وبوجوب طاعتهم والخضوع لهم والتوسل بهم (7) ، وفضل السجود على التربة الحسينية (8) وجواز تقبيل قبورهم وتعظيمها (9) ، وأن عبادتهم لله تعالى لا   (1) ص 22. (2) انظر ص 421: 427. (3) راجع ص 215: 278. (4) راجع ص 509، 563، 564. (5) انظر ص281 -291. (6) انظر ص 461. (7) راجع ص 499، 501، 502. (8) راجع ص 505. (9) انظر 508. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 يرقى إليها إلاَّ المعصوم (1) ، وأنهم المأذون لهم في الشفاعة فيشفعون للشيعة، فلا يردهم ربهم عز وجل (2) . هذا ما جاء في ثنايا تفسيره تأثراً بعقيدته، وهو لا ينزله عن مرتبة الطوسى في تبيانه. وبالطبع نتمنى أن يجعلوا ما يتصل بالإمامة في كتب أخرى غير كتب التفسير، ولكن السيد الخوئى إذا أتم تفسيره على المنهج الذي بينه فإنه أفضل بكثير من الكتب المنتشرة في الوسط الجعفرى الآن. وبعد: فهذه الكتب تمثل منهجين مختلفين في التفسير عند شيعة اليوم، يبين أحدهما أن الوسط الجعفرى لما يتطهر من أولئك الذين يخضعون كتاب الله العزيز لأهوائهم وشهواتهم تأثراً بعقيدتهم في الإمامة، ويكشف الآخر عن وجود من ينشد الاعتدال، ويحكم العقل لا الهوى إلى حد ما، وإن لم يخل من الغلو والضلال.   (1) انظر ص 510. (2) انظر ص 515. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 الفصل السابع نظرة عامة لباقي كتب التفسير بعد الدراسة السابقة لستة عشركتابا من كتب التفسير الشيعى ننظر في " الذريعة إلى تصانيف الشيعة " لأقابزرك الطهرانى، لمزيد من التوضيح. في كتاب الذريعة نجد الإشارة إلى عدد كبير جداً من كتب التفسير الشيعى، ونجد عنوان بعض هذه الكتب يغنى عن النظر فيها، فهى مثل ما ذكرته من قبل عند الحديث عن كتاب " تأويل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة ". وبعض هذه الكتب لا يظهر أثر الإمامة في العنوان ولكن يظهر هذا الأثر عند الإشارة إلى موضوع الكتاب , ونذكر هنا عدداً من هذه الكتب التي حاول أصحابها إخضاع كتاب الله المجيد لأهوائهم، كما نثبت شيئاً من تعليق صاحب كتاب الذريعة. وترتيب الكتاب ألفبائى، فلا حاجة لذكر الأجزاء والصفحات. (1) آيات الأئمة: فارسى، في بيان الآيات المتعلقة بالإمامة، وفضائل الأئمة، لمؤلفه مير محمد على الأريجانى الطهرانى المتوفى بها سنة 1323. (2) آيات الأئمة: وذكر في حرف التاء بعنوان " تفسير آيات الأئمة " فارسى. قال صاحب الذريعة: في ذكر آيات تستخرج منها بالزبر والبينات أسماء الأئمة، وبعض أوصافهم وخصوصياتهم، للعالم الكامل ميرزا على نقى الهمدانى، المتوفى عام 1297. (3) الآيات البينات: أو: بيان الآيات بالزبر والبينات: قال: للمولى المعاصر يوسف بن أحمد بن يوسف الجيلانى النجفى، استخرج فيه بالزبر والبينة أسامى المعصومين الأربعة عشر، وبعض خصوصياتهم من ستين آية من آيات القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 قلت: مراده بالمعصومين الذين أشركهم مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الأئمة الاثنا عشر، والسيدة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها. ونلاحظ ثناءه على الضالين، ورضاه وإعجابه بضلالهم، ومشاركته لهم في الغلو والتضليل، وهذا واضح بيّن ملازم لصاحب الذريعة، وسيأتى ما يؤكد هذا. (4) آيات الحجة والرجعة: قال: في تفسير الآيات المتعلقة بهم، مع بيان واف، والنكات الدقيقة، وذكر الروايات المروية عنهم في تفسيرها وتأويلها للعلامة الشيخ محمد على بن المولى حسن على الهمدانى الحاير، المولود سنة 1293. رأيت النسخة الأصلية عنده، استخرج فيها 313 آية من القرآن الشريف على عدد أصحاب الحجة وأنصاره وقت ظهوره. قلت: يشير هنا إلى خرافة الإمام الثاني عشر التي ذكرتها في الجزء السابق، ومثل هذا كتاب " ما نزل من القرآن في صاحب الزمان " لأبى عبد الله الجوهرى أحمد بن محمد " انظر إيضاح المكنون 2 /421 "، وغير هذا كتب أخرى سيأتى ذكرها. (5) الآيات النازلة في ذم الجائرين على أهل البيت: للمولى حيدر على الشروانى. (6) الآيات النازلة في فضائل العترة الطاهرة: قال: وهى 500 آية من القرآن في فضائل أمناء الرحمن، جمعها مع تفسيرها وبيانها الشيخ تقى الدين عبد الله حاجى ... ويأتى في حرف الميم كتب كثيرة تحت عنوان ما نزل في أهل البيت، أو في على، أو في صاحب الزمان، كلها في هذا الموضوع. (7) آيات الولاية: فارسى، لميرزا أبى القاسم بن محمد الشيرازى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 قال: فسر فيه إحدى وألف آية من كتاب الله العزيز النازلة: خمسمائة منها في حق أهل البيت وولايتهم باتفاق المفسرين - هكذا قال المفترون (- والباقى حسب تفاسير أهل البيت الذين نزل فيهم القرآن، وهم أعرف به، من طرق أصحابنا الإمامية خاصة. قلت: إذن يقصد اتفاق المفسرين جميعاً لا مفسرى فرقته خاصة (قدرة عجيبة على الافتراء (( (8) تأويل الآيات: لأبى إسحاق بن مجير الأصفهانى. وآخر: للسيد الأمير روح الأمين الحسينى الأصفهانى. (9) تأويلات القرآن: لكمال الدين أبى الغنائم عبد الرزاق الكاشانى، المتوفى سنة 730. (10) تأويل الآيات التي تعلق بها أهل الضلال: للمولى عبد الرشيد بن الحسينى بن محمد الإسترابادى. قال: وله كتاب " مناقب النبي والأئمة ". قلت: ماذا يريد بأهل الضلال؟ لعله يقصد خير أمة أخرجت للناس كما سيظهر من موقفهم من قوله تعالى في سورة الليل {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَىالَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} ، حيث إنها نزلت في أبى بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. (11) تأويل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة: فارسى، لمحمد تقى بن محمد باقر الطهرانى الأصفهانى، المتوفى سنة 1322. قلت: سبق الحديث عن كتاب بالعربية يحمل العنوان نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 (12) تأويل الآيات الظاهرة في فضل العترة الطاهرة: للسيد شرف الدين على الحسينى الإسترابادى، المتوفى سنة 940. قال: جمع فيه تأويل الآيات التي تتضمن مدح أهل البيت، ومدح أوليائهم، وذم أعدائهم من طرقنا، وطرق أهل السنة ـ هكذا قال ((وينقل فيه عن كنز الفوائد للشيخ الكراكجى المتوفى سنة 449، وعن كتاب ما نزل من القرآن في أهل البيت لابن الجحام، الذي سمع منه الدلعكبرى سنة 328، وعن كشف الغمة للأربلى المتوفى سنة 692، وعن كتب العلامة الحلى. (13) تأويل الآيات النازلة: قال: في فضل أهل البيت وأوليائهم، يقرب من عشرين ألف بيت لبعض الأصحاب ... قال الفيض في أول كتاب الصافى: إن جماعة من أصحابنا صنفوا كتباً في تأويل القرآن على هذا النحو، جمعوا فيها ما ورد عنهم في تأويل آيه: إما بهم، أو بشيعتهم، أو بعدوهم، على ترتيب القرآن، وقد رأيت منها كتاباً يقرب من عشرين ألف بيت. (14) تأويل ما نزل في النبي وآله. (15) تأويل ما نزل في شيعتهم. (16) تأويل ما نزل في أعدائهم: قال: هذه الثلاثة كلها لأبى عبد الله محمد بن العباس المعروف بابن الجحام، الذي سمع منه الدلعكبرى سنة 328. وذكر الشيخ - أي الطوسى - في رجاله ثمانية كتب أخرى له أيضاً، لكن النجاشى لم يذكر منها إلا كتاب " المقنع " و" والدواجن " و" ما نزل من القرآن في أهل البيت "، وهذا الكتاب هو الذي مر أنه ينقل عنه السيد شرف الدين على في كتابه " تأويل الآيات الظاهرة " أحاديث كثيرة. (17) تفسير الآيات البينات النازلة في فضائل أهل بيت سيد الكائنات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 فارسى، للسيد مصطفى بن أبى القاسم الموسوى النجفى - ولد سنة 1320. (18) تفسير الأئمة لهداية الأمة: لمحمد رضا بن عبد الحسين النصيرى الطوسى، عاش في القرن الحادى عشر. قال: وتفسيره هذا كبير، يقال إنه في ثلاثين مجلداً. وديدن هذا المفسر أن يذكر عدة آيات، مع ترجمتها إلى الفارسية، ثم يشرع في تفسير الآيات على ما هو المأثور، وترجمة الأحاديث بالفارسية، ثم تفسيرها بالعربية. وينقل غالباً عن تفسيرى العياشى والبيضاوى، وينقل عن كتب الاحتجاج للطبرسى، وتمام تفسير الإمام العسكرى، وتمام تفسير القمي ... إلخ. و" مختصر تفسير الأئمة ". لمؤلف الأصل، وهو فارسى محض، في ست مجلدات. (19) تفسير أبى الجارود: قال: اسمه زياد بن منذر، المتوفى سنة 150، وتنسب إليه الزيدية الجارودية، ويروى تفسيره عن الإمام الباقر أيام استقامته. قلت: يقصد قبل أن يصبح زيدياً، ولعل الصواب: أيام ضلاله البعيد، والإمام الباقر رضي الله عنه برىء مما في هذا التفسير؛ فالقمى أخرجه في تفسيره الذي تحدثنا عنه بالتفصيل. (20) تفسير الحافظ محمد بن مؤمن النيسابورى: ذكر المؤلف أنه استخرج تفسيره من اثنى عشر تفسيراً قال صاحب الذريعة: ويأتى كتاب: " نزول القرآن في شأن على " للشيخ محمد بن مؤمن الشيرازى، والظاهر أنه هو الحافظ المذكور. (21) تفسير المصابيح بما نزل من القرآن في أهل البيت: لأبى العباس أحمد بن الحسن الإسفرائينى. (22) تفسير المنشى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 قال: لعله للأمير محمد رضا الحسينى منشى الممالك، المعاصر للشيخ الحر، والساكن بأصفهان حين تأليف " الأمل " سنة 1097، وصفه فيه بأنه كبير أكثر من ثلاثين مجلداً، عربى وفارسى، جمع فيه الأحاديث وترجمتها، ويظهر من بعض هذه الخصوصيات أنه غير تفسير الأئمة السابق ذكره، وإن شاركه في بعضها. (23) تفسير النعمانى: قال: هو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جعفر، تلميذ ثقة الإسلام الكلينى. جعل مقدمة تفسيره روايات رواها بإسناده إلى الإمام الصادق، وهى التي دونت مفردة مع خطبة مختصرة وتسمى بـ " المحكم والمتشابه "، طبعت في إيران، وقد أوردها بتمامها العلامة المجلسى في مجلد القرآن من البحار. قلت: الكلينى، الذي يراه الشيعة ثقة الإسلام، بينت مدى ضلاله وافترائه في الجزء الثالث، وهو تلميذ القمي الذي سبق الحديث عن تفسيره، ويأتى النعمانى ليكمل سلسلة الضلال، وعلامتهم المجلسى تحدثنا عنه في هذه الدراسة من قبل، ويبقى تقديرنا وإجلالنا للعالم العابد المجتهد الإمام الصادق، المبرأ مما نسبه إليه هؤلاء الضالون. (24) تفسير ميرزا هادى: قال: ابن السيد على، من احفاد مير كلان الهروى البجستانى الخراسانى الحائرى المعاصر، وهو تكميل لتفسير على بن إبراهيم القمي بإيراد الأحاديث المروية، من طرق العامة - أي غير فرقته - المطابقة لروايات الأئمة المذكورة في تفسير القمي. قلت: وأى روايات تطابق ما جاء في تفسير هذا الضال ما لم تكن من الروايات الموضوعة؟ (25) تفسير آية {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} " 124: سورة البقرة ": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 قال: للمولى محمد رفيع الكيلانى، المتوفى بها سنة 1161، وتفسيره هذا جزء لطيف في الإمامة، وإثبات عصمة الإمام. قلت: ذكرت أقوالهم في هذه الآية الكريمة، وبينت بطلان ما ذهبوا إليه في الجزء السابق، وبينت أن العصمة التي جعلوها لأئمتهم لم يصل إليها خير البشر وهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام. (26) تفسير آية {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} " 69: آل عمران ": لميرزا محمد التنكابنى، قال في قصصه إنه يقرب من ألف بيت. قلت: قد يبدو عجيباً أن نورد هذا الكتاب في هذا الموضع، فما علاقة الإمامة بالحديث عن بيت الله الحرام بمكة المكرمة ـ زاده الله تعظيماً وتشريفاً؟! ولكنى وجدتهم يقولون هنا: " وفيه بيان تأويله بكربلاء "! فذكرنى هذا بقول شاعر هؤلاء القوم الذي ذكره صاحب كتاب الأرض والتربية الحسينية: ومن حديث كربلا والكعبة ... بان لكربلا علو الرتبة ولنا أن نسأل: أفيكون التقريب وداره بالقاهرة لنؤمن بهذا الكفر الصراح؟ أم يجب أن يكون في طهران لتنقية عقيدتهم حتى يكونوا مثلنا؟ (27) تفسير آية التطهير {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} " 33: الأحزاب ": ذكر صاحب الذريعة أربعة كتب بهذا العنوان، أحدها فارسى. وقولهم في هذه الآية الكريمة ناقشته بتوسع في الجزء السابق. (28) تفسير آية ""وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى"": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 ذكر صاحب الذريعة كتابين بهذا العنوان. قلت: الذي دفعهم للكتابة هو ما روى أن الآية الكريمة وما بعدها نزلت في أبى بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، كما روى البزار عن ابن الزبير، والحاكم عن الزبير، وابن أبى حاتم عن عروة. وخير البشر بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ثبت بالتواتر عن على نفسه رضي الله عنهما - يعتبر في نظر هؤلاء القوم مغتصباً للخلافة، ولذلك جعلوه تحت الآيات التي تتحدث عن الكفار والمنافقين، والجبت والطاغوت، وأرادوا أن يبعدوا عنه هذه الآيات الكريمة من سورة الليل. (29) تفسير آية الكرسى: لعطاء الله بن محمود الحسينى. قلت: لا يبدو أي نوع من الربط بين آية الكرسى التي يتحدث فيها رب العزة عن نفسه، وبين الإمامة، غير أننى وجدت في الذريعة القول بأن في هذا التفسير دلالة على تشيع المؤلف، وقوة فهمه، وكثرة علمه، وأنه لا يبعد أن يكون من علماء الدولة الصفوية. ورأينا من قبل أن بعض هؤلاء رفع الأئمة لمرتبة الألوهية، كما أننا نعرف ما أصاب الإسلام على يد الدولة الصفوية الشيعية. (30) تفسير آية {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} " 110: آل عمران ": لحسين بن دلدار على. قلت: مر من قبل تحريفهم لهذه الآية الكريمة، حيث ذكروا أنها نزلت هكذا " كنتم خير أئمة ... "، وجعلوها لأئمتهم. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 هذه بعض كتب التفسير التي ذكرها صاحب الذريعة في الهمزة تحت كلمة " آيات "، وفى التاء تحت كلمتى " تأويل " و" تفسير ". ونجد غير هذه الكتب في مواضع أخرى، فمثلاً نراه يقول في الجزء الرابع ص 318: " تفسير نور الأنوار ومصباح الأسرار "، و" نور التوفيق "، و" نور الثقلين "، كلها تأتى - أي تأتى في النون. ويقول في الجزء نفسه " ص 268 ": " تفسير تنزيل الآيات الباهرة "، وكذا " التنزيل " متعددا، و" التنزيل في أمير المؤمنين "، و" التنزيل من القرآن "، و" التنزيل والتعبير "، يأتى الجميع بعنوان: " التنزيل ". وقال في الجزء الثالث بعد الحديث عن " تأويل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة ": قد ذكرنا في الجزء الأول آيات الأئمة، وآيات الفضائل، والآيات النازلة في فضائل العترة الطاهرة، وآيات الولاية، وغيرها. ويأتى في حرف الميم ما يقرب من عشرين كتاباً من تأليفات قدماء المحدثين، بعنوان ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين، أو في أهل البيت، أو في الحجة، أو في الخمسة وغيرها، وكل واحد من هذه الكتب يصح أن يعد من كتب الحديث، لأنه دون فيه نوع خاص من الأحاديث، أي خصوص ما روى عنهم عليهم السلام في بيان الآيات التي نزلت في فضائل أهل البيت عليهم السلام ومناقبهم، ويصح أن يعد من كتب التفسير: لأنه يذكر فيه تفسير تلك الآيات وتأويلها، وشرحها، وبيان المراد منها، ولا سيما مع ترتيب تلك الآيات في أكثر هذه الكتب على ترتيب سور القرآن من سورة فاتحة الكتاب إلى سورة الناس كما هو الترتيب في كتب التفاسير. والداعى إلى إفراد القدماء والمتأخرين هذا النوع من الأحاديث واستقلالها بالتأليف هو تخصيص النصف أو الثلث أو الربع من الآيات الشريفة التي وردت أخبار كثيرة على اختلافها في التعبير بأنها نزلت في أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ومواليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 وأعدائهم، وقد أورد الفيض بعضها بالمقدمة الثالثة في أول الصافى، وذكر وجه عدم التنافى بينها، ودون كل منهم ما وصل إليه من هذا النوع من الحديث ليعرف الناس تفاصيلها. قلت: سبق الحديث عن كتاب الصافى، وبيان ما وصل إليه من ضلال وتضليل. وما يقوله صاحب الذريعة هنا يؤكد ما قلته عن صاحب تفسير الصافى وأمثاله من غلاة الشيعة الاثنى عشرية. ومن يقرأ الذريعة يلحق مؤلفها بهؤلاء الغلاة الضالين، وقوله آنفاً خير شاهد. وبعد كل ما سبق أعتقد أن معالم التفسير الشيعى الاثنى عشرى قد اتضحت إلى حد كبير، فدراستنا لستة عشر كتاباً من القرن الثالث إلى العصر الحديث بينت اتجاهات التفسير خلال هذه القرون. ونظرتنا إلى ثلاثين كتاباً مما جاء في كتاب الذريعة، جعلت الصورة أكثر وضوحاً، وهذه الكتب منها ما كان في النصف الأول من القرن الثاني، وهو تفسير أبى الجارود، ومنها ما هو في العصر الحديث. وتفسير أبى الجارود الذي نقله القمي يشير إلى أن حركة التشكيك والتضليل بدأت مع بداية عصر التدوين، والتفاسير الحديثة الكثيرة تشير إلى استمرار هذه الحركة الضالة، وعدم توقفها. وإلى جانب الثلاثين كتاباً، ذكرت إشارة صاحب الذريعة لعشرين كتاباً في موضع واحد، وتعليقه على ما جاء بها، وهذا يدل على ضخامة هذه الحركة الضالة، وربما يعطى السمة الغالبة للتفسير الشيعى، نسأل الله تعالى الهداية والرشاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 خاتمة الجزء الثاني الحمد لله الذي أعاننا، وهدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله. وبعد أن تم بتوفيق الله - عز وجل - ما أردنا من بيان التفسير وأصوله عند أهل السنة، وعند الشيعة الاثنى عشرية، أقدم هنا موجزاً للبحث، وأشير إلى نتائجه. قسمت هذا البحث قسمين: القسم الأول: تحدثت فيه عن التفسير وأصوله عند أهل السنة. والقسم الثاني: جعلته لبيان التفسير وأصوله عند الشيعة. والقسم الأول يضم ثمانية فصول: في الفصل الأول تحدثت عن علم التفسير، وبينت المراد من التفسير والتأويل. وفى الفصل الثاني تحدثت عن تفسير الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالسنة المطهرة هي المبينة للقرآن الكريم، وجمعت أحاديث التفسير، الصحيح منها والحسن، دون الضعيف والموضوع، فبلغت خمسة وثلاثين، وذكرت بعض الملاحظات في ضوء ما جمعت، وأشرت إلى أن الشيعة أشركوا مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العصمة من رأوهم أئمة لهم، فجعلوا أقوالهم كأقوال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا أدنى فرق. وفى الفصل الثالث تحدثت عن تفسير الصحابة، أعلم الناس بالقرآن، وأشرت إلى ما يأخذ حكم المرفوع من تفسيرهم، ثم جمعت بعض ما صح من تفسيرهم، وبينت خصائصه، ثم تحدثت عن التدوين، وأثبت أن كتاب تنوير المقباس ليس صحيح النسبة لابن عباس، ومن الخطأ شيوعه، وطبعه مرات على أنه تفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، وختمت الفصل بإشارة سريعة لموقف الشيعة من ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، وختمت الفصل بإشارة سريعة لموقف الشيعة من تفسير الصحابة الكرام. وجعلت الفصل الرابع لتفسير التابعين، فبينت أنهم أكثر حاجة للتفسير من الصحابة، وأشرت إلى مدارس التفسير في عصرهم، وإلى بدء التدوين، ثم تحدثت عن تفسير مجاهد، وبينت خصائص تفسير التابعين من خلال النظر في تفسيره. ثم رأيت أن يكون الفصل الخامس وقفه لبيان أحسن طرق التفسير عند الجمهور، وفى هذه الوقفة بيان لقيمة التفسير المأثور عن التابعين، وحديث عن الإسرائيليات، والتفسير بالرأى، وهو ما كان يلزمنا أن نبينه بعد الحديث عن تفسير التابعين، فأغنت الوقفة عن التكرار. ورأيت أن أنسب ما أثبته في هذا الفصل هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو أيضاً ما قاله الحافظ ابن كثير، وحاول الالتزام به في تفسيره. وفى الفصل السادس: تحدثت عن التفسير في القرن الثاني، وبينت منهجه، وتناولت ثلاثة كتب ظهرت في هذا القرن، وهى: تفسير مقاتل بن سليمان، ولم أقف عنده؛ حيث إن مؤلفه مجروح، وتفسير يحيى بن سلام، الذي يعتبر حلقة الاتصال بين القرنين الأول والثالث، ومعانى القرآن للفراء، الذي يعد نموذجاً للتفسير العقلى. والفصل السابع: جعلته للقرن الثالث، وتفسير الطبري، وقد وقفت طويلاً عند شيخ المفسرين الإمام الطبري، وعند كتابه الذي يعتبر أفضل ما كتب في مجال التفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 والفصل الثامن أشرت فيه إلى كتب التفسير بعد الطبري. وبينت إمكان الاستغناء عن الوقوف عندها، لا لأنه يطول جداً فقط، ولكن أيضاً لأن التفسير المأثور - بعد الطبري - الذي هو حجة يستمد أساساً من مصدرين رئيسين، هما: كتب الحديث والآثار، وكتاب تفسير الطبري. وكان هذا الفصل ختاماً للقسم الأول في التفسير وأصوله عند أهل السنة. وانتقلت بعد هذا إلى القسم الثاني الذي جعلته للتفسير وأصوله عند الشيعة الاثنى عشرية، وتحت هذا القسم سبعة فصول، تسبق بكلمة تمهيدية فيها إشارة إلى أننى بمراجعة التفسير عندهم، أصوله وكتبه، رأيت أن عقيدتهم في الإمامة كان لها أكبر الأثر في وضع الأصول، وفى تناولهم لكتاب الله العزيز، وأن بيان هذا الأثر يكفى في مجال التفسير المقارن؛ فحيث لا يوجد أثر لعقيدتهم في الإمامة يصبح تفسيرهم كتفسير غيرهم، وبقدر وجود هذا الأثر بقدر افتراقهم عمن سواهم. والفصل الأول جعلت عنوانه: " القرآن الصامت والقرآن الناطق "، حيث جعلوا القرآن الكريم صامتاً لا ينطق! والإمام هو القرآن الناطق، فلا يؤخذ القرآن إلاَّ عن طريقه! والإمام كالنبى في عصمته وعلمه! وأشرت إلى مذهب الإخباريين الذين يقفون عند الأخبار دون إعمال للعقل، والأصوليين منهم الذين خالفوا الإخباريين، وذكرت قول بعضهم بالنسخ بعد عصر النبوة، وأن الحكم يمكن ألاَّ يبين في وقته من باب التقية، أو من باب التدرج في التشريع، فيمكن - بحسب زعمهم - ألاَّ يبين الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض الأحكام، ويتركها لأئمتهم الاثنى عشر لبيانها في وقتها المناسب!! هكذا زعموا! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 والفصل الثاني جعلته للظاهر والباطن، فأشرت إلى الخلاف عندهم حول حجية الظواهر، وإلى اللجوء للتأويل تأييداً للعقيدة، وإلى حقيقة الباطن عندهم، وقرب قولهم من الإسماعيلية الباطنية، وبعده عن قول الجمهور، ثم أشرت إلى قولهم بأن ثلث القرآن، أو ربعه، في الأئمة، وثلثه، أو ربعه، في مخالفيهم! والفصل الثالث أو جزت فيه الحديث عن قول غلاتهم بتحريف القرآن الكريم، فبينت سبب لجوئهم لهذا القول، حيث عز عليهم أن يخلو كتاب الله المجيد من ذكر أئمتهم وعقيدتهم، وتحثدت عن أشهر كتاب عندهم في هذا المجال، وهو " فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب "، وذكرت بعض أسماء القائلين بالتحريف، ويدخل فيهم - بكل أسف - أكبر علمائهم الأعلام! كالقمى، صاحب كتاب من أهم كتب التفسير عندهم، يرون صحة كل ما جاء به، وتلميذه الكلينى، صاحب الكافى، كتاب الحديث الأول عندهم كالبخارى عندنا، والعياشى، وغيرهم. وبينت أن من أنفسهم من - الشيعة تصدوا لحركة الغلاة قديماً وحديثاً، غير أن المحدثين منهم وقعوا في تناقض عجيب أشرت إليه. وبدأت بعد هذا في دراسة كتب التفسير الشيعى، فجعلت الفصل الرابع لكتب القرن الثالث، وهى أقدم كتب وصلت إليها، وتغنى عما سبقها: مثال هذا تفسير أبى الجارود الذي يعدونه تفسير الإمام الباقر - وحاشاه، والذى كان في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني، هذا التفسير لم أعثر عليه، غير أن القمي في القرن الثالث نقله في تفسيره. وتحدثت في هذا الفصل عن ثلاثة كتب: الكتاب الأول: تفسير الحسن العسكرى، وهو يمثل الغلو والضلال والخرافات، فهو يكفر الصحابة الكرام، وعلى الأخص أبو بكر وعمر، ويتهمها والصحابة بالنفاق والكذب إلى جانب الكفر، ويذكر أن منكر ولاية على كافر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 وأن موسى دعا لهذه الولاية، ويذكر أن علياً له معجزات كثيرة، ويأتى بقصص خرافية لا تصلح إلاَّ للأطفال ليبين ما زعمه من معجزات، ثم يصدر صكوك الغفران لمن آمن بخرافاته وضلاله وسار خلفه في ظلمات هذا الكفر. ولذلك ذكرت تنزيه الإمام العسكرى - فيما أرى - من أن يكون صاحب هذا الكتاب، وأشرت إلى أن هذا الرأى يراه أيضاً بعض الشيعة، ولكن شيعة الأمس واليوم منهم من يرى صحة نسبة الكتاب للإمام! ولو صحت النسبة لقلنا بكفره لا بإمامته. والكتاب الثاني هو تفسير القمي، وقد أطلت الوقوف عند هذا الكتاب، فله ولصاحبه المنزلة العليا عند الشيعة، غلاتهم ومعتدليهم، الإخباريين والأصوليين، في عصرنا وما قبله، وهذا أمر نجد له ما يبرره عند الغلاة الضالين، ولكن لم نجد له تفسيراً عند المعتدلين نسبيا ودعاة التقريب. فالكتاب محشو بتحريف القرآن الكريم نصاً ومعنى، تنزيلاً وتأويلاً، والطعن في الصحابة، وجعل الأئمة هم المراد من كلمات الله البينات، وما يتصل بعقيدة الإمامة كالرجعة، ونزول الوحى على الأئمة وعلمهم للغيب. وفى أسباب النزول يزعم تحالف الصحابة مع إبليس، ويشير إلى البيعة يوم الغدير، ومصير من غصبوا الولاية بزعمه، وأن القائم سيطالب بدم الحسين، ويجعل حادث الإفك اتهاماً لأم المؤمنين لا تبرئة إلهية لها، ونراه يحيل كتاب الله تعالى إلى كتاب في التاريخ للشيعة الاثنى عشرية، فترى أصحاب الجمل والبصرة، وتسمع عن بنى أمية وبنى السباع؛ أي العباس، والاتفاق على قتل علىّ، وكفر أصحاب بيعة الرضوان، وتجد الحديث عن الفرق الأخرى، وعن القائم وجيش السفيانى. ثم تراه يسلك طرقاً مختلفة للتغرير بضعاف العقول، وإضلال خلق الله من جهلة القوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 وهذا الكتاب الذي جمع كل هذه المصائب والرزايا يعتبر من أهم مصادر التفسير المأثور عند الشيعة الاثنى عشرية، فانظر وتأمل وقارن!! وهو الذي وقع في أيدى المستشرقين فاتخذوه سلاحاً لضرب الإسلام، والطعن في المعجزة الكبرى، ومع هذا فصاحب التفسير ينتسب للإسلام!! والكتاب الثالث هو تفسير العياشى، وهذا الكتاب كسابقه منزلة ومنهجاً وأهدافاً، وقد بينت هذا. وبعد الفصل الرابع جعلت الفصل الخامس لتفسير التبيان للطوسى، وتفاسير الطبرسي. والطوسى والطبرسى يمثلان جانب الاعتدال النسبى والبعد عن الغلو إلى حد ما بينت أصول التفسير عندهما، والفرق بينهما وبين الجمهور، ومع الاعتدال النسبى، ظهر أثر الإمامة في اللجوء للتأويل استدلالاً للعقيدة، وفى ذكرهما للقراءات الموضوعة والشاذة ذات الصلة بالمذهب، وفى روايتهما لأسباب النزول، وفى جعلهما الأئمة هم المراد من كلمات الله تعالى عند تأويل بعض الآيات، ورأيت أن شيخ الطائفة الطوسى أكثر اعتدالاً وأقل غلواً من الطبرسي. والفصل السادس جعلته للحديث عن كتب التفسير بعد الطوسى والطبرسى، تحدثت فيه عن عشرة كتب تمثل الاتجاهات المختلفة للتفسير، فبعد الطوسى والطبرسى وجدنا منهم من يسير في طريق الغلو والضلال، ويستمد التفسير من كتب القرن الثالث الثلاثة، وما شابهها ككتاب الكافى للكلينى، ومنهم من سلك طريق الاعتدال النسبى والبعد عن الغلو والتطرف إلى حد ما ومنهم من اقترب من أحد الطريقين مبتعداً عن الآخر. والكتب العشرة تبين هذه الاتجاهات، وثلاثة منها تبين اتجاه التفسير في العصر الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 وختمت هذا القسم بالفصل السابع الذي خصصته لنظرة عامة لباقى كتب التفسير من خلال كتاب " الذريعة إلى تصانيف الشيعة "، وذلك حتى نستكمل ما أردنا بيانه. وجدت في الذريعة عشرات من كتب التفسير الشيعى يدل العنوان نفسه على غلو المؤلف وضلاله، وكتباً أخرى يظهر فيها هذا الأثر عندما يتحدث عنها صاحب كتاب الذريعة. وهذا القدر الهائل من الكتب الضالة يشير إلى ضخامة حركة الغلاة، ومدى تأثيرها في الوسط الشيعى الاثنى عشرى، بل ربما يعطى السمة الغالبة للتفسير الشيعى، وقد أشرت لهذا في ختام الفصل. بعد هذا كله أعتقد أن الصورة أصبحت واضحة تماماً، ولسنا في حاجة إلى مزيد بيان. ومما أمرنا بتلاوته: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ( " 89: الأعراف " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 الجزء الثالث في الحديث وعلومه وكتبه ورجاله . مقدمة الحمد لله الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، والحمد لله الذى لا يؤَّدى شكرُ نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب على مؤدِّى ماضي نعمه بأدائها: نعمة حادثة يجب عليه شكره بها. ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته الذى هو كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه. أحمده حمداً كما ينبغى لكرم وجهه وعز جلاله، وأستعينه استعانة من لاحول له ولا قوة إلا به، وأستهديه بهداه الذى لا يضل من أنعم به عليه، وأستغفره لما أزلفت وأخرت. استغفار من يقر بعبوديته ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله (1) . وبعد: فهذا هو الجزء الثالث من كتابنا الذى يبين حقيقة الشيعة الاثنى عشرية، حيث كان الجزء الأول دراسة مقارنة في عقيدة الإمامة والعقائد التابعة، وكان الجزء الثانى في التفسير المقارن وأصوله، وجاء هذا الجزء ليتناول الحديث وعلومه وكتبه، وقسمت هذا الجزء إلى قسمين: القسم الأول: في الحديث وعلومه عند الجمهور القسم الثانى: في الحديث وعلومه وكتبه عند الشيعة والقسم الأول يضم عشرة فصول: الفصل الأول: وضحت فيه ما جاء في القرآن الكريم بينا لا يحتاج إلى بيان، وما جعل بيانه للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان الفصل تحت عنوان " بيان الكتاب والسنة ". والفصل الثانى عنوانه " السنة وحى "، وقد أثبت هذا.   (1) نقلت ما سبق من مقدمة الإمام الشافعي لكتابه " الرسالة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 والفصل الثالث لبيان " اعتصام السلف بالسنة "، فذكرت من الأخبار الصحيحة ما يبين هذا الاعتصام. والفصل الرابع عن " تدوين السنة " وبينت فيه أن من السنة المشرفة ما وصلنا مدوناً في عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنها ما دون في عهد الصحابة رضى الله تعالى عنهم والتابعين لهم بإحسان إلى أن بدأ التدوين الرسمى بأمر خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز ـ– رضى الله تعالى عنه. ثم جاء عصر التدوين في منتصف القرن الثانى الهجرى، ووصلنا من كتب القرن الثانى بعض الكتب، ثم كان القرن الثالث العصر الذهبى لتدوين السنة المطهرة، وكثير مما دون في القرنين الأول والثانى مما لم يصلنا جاءنا عن طريق ما دون في القرن الثالث. وفى الفصل الخامس تحدثت عن " الجرح والتعديل "، فبينت الأسس العلمية التي قام عليها الجرح والتعديل عند جمهور المسلمين، ونقلت آراء الأئمة الأعلام، وما جاء في أول كتب ألفت في هذا الموضوع، وبينت موقف الجمهور من الفرق المختلفة. وفى الفصل السادس نقلت " حوار الإمام الشافعى لفرقة ضلت " حيث أنكرت العمل بالسنة المطهرة، والاكتفاء بالقرآن الكريم، وشككت في حجية السنة، وانتهى الحوار بإبطال شبهات هذه الفرقة، وتسليم من حاوره الإمام الشافعى بصحة ما قاله الإمام. وفى الفصل السابع أشرت إلى ضلال الطاعنين في السنة الذين جاءوا " بعد الإمام الشافعي "، وعلى الأخص في القرنين الثالث والرابع. ولم أرد استقصاء واستيعاب حركات التشكيك والتضليل في كل العصور، فهذا أمر يطول جداً، ويكفى فيه النماذج، ولذلك جعلت الفصل الثامن لما وجد " في عصر السيوطى "، حيث تحدث الإمام السيوطى عن الطاعنين في عصره من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 الزنادقة والرافضة، فألف كتابه " مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة " للرد على هؤلاء الضالين المضلين. ثم جعلت الفصل التاسع تحت عنوان " الطاعنون في العصر الحديث " فبينت أصناف هؤلاء الضالين، ومدى خطر كل طائفة. وختمت هذا القسم بالفصل العاشر، أشرت فيه إلى راوية الإسلام، وأحفظ من روى الحديث في دهره، وهو " أبو هريرة ". رضى الله تعالى عنه، حيث وجدنا المستشرقين، وتلامذتهم من العلمانيين، وكذلك الزنادقة والرافضة، كل هؤلاء الذين أرادوا هدم الإسلام من أساسه أخذوا يطعنون في هذا الصحابى الجليل الذى حفظ لنا سنة رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتركت الحديث عنه للبحث الملحق بهذا الجزء، وهو بحث: السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم انتقلت إلى القسم الثانى الذى تناول الحديث وعلومه وكتبه عند الشيعة، ويضم ستة فصول في الفصل الأول تحدثت عن " التدوين عند الشيعة "، فبينت انقسام الشيعة إلى عدة فرق عند موت كل إمام، وكل فرقة كانت تضع من الأحاديث ما تؤيد به عقيدتها، وما كانت أية فرقة تستطيع أن تضع أحاديث في إمام لم يولد بعد، فإنها لا تعلم الغيب مهما زعم الزاعمون من غلاة وزنادقة هذه الفرق. وعند موت الإمام الحسن العسكرى، وهو الحادى عشر، ولم يعرف له ولد، ولم يترك عقبا، وقسمت تركته، انقسم الشيعة عندئذ إلى أكثر من عشر فرق، وكلها وضعت عقيدتها على أساس عدم وجود ولد للحسن العسكرى ما عدا فرقة واحدة مع فرقة الشيعة الاثنى عشرية، حيث زعمتا أن له عقبا، وقالت الاثنا عشرية مقالتها في الإمام الثانى عشر، وهو ما بينته في الجزء الأول من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 انتهيت من هذا الفصل إلى أن جميع الأخبار التي تذكر أسماء الأئمة الاثنى عشر كلها وضعت واختلقت بعد موت الإمام العسكرى، ووجدت أن الواقع العملى يؤيد ما انتهيت إليه حتى بالنسبة لما يعرف عندهم بالأصول الأربعمائة، وهى تسبق كتبهم الأربعة التي ألفت في القرنين الرابع والخامس. وانتقلت إلى الفصل الثانى، وعنوانه " الجرح والتعديل عند الشيعة والرافضة "، وأردت من هذا العنوان أن نفرق بين معتدلى الشيعة وغلاة الرافضة. فمن أوائل الكتب كتاب " علوم الحديث " للحاكم المعروف بتشيعه، وبالنظر في الكتاب وجدنا الحاكم يتفق مع جمهور المسلمين، ومثله من الشيعة النسائى صاحب السنن، وابن عبد البر، وغيرهم. أما الرافضة، الذين رفضوا الإمام زيد بن على بن الحسين لثنائه على الشيخين أبى بكر وعمر، واعترافه بإمامتهما، هؤلاء الرافضة تأثروا بعقيدتهم الباطلة في الإمامة فربطوا الجرح والتعديل بموقف الرواة من عقيدتهم، ولذلك جرحوا وفسقوا جمهور الصحابة الكرام، بل وصل الأمر إلى تكفير خير البشر بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق، وتكفير أمة الإسلام التي اعترفت بإمامتهما واقتدت بسنتهما بعد سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكرت من كتب الجرح والتعديل عند هؤلاء الرافضة ما يبين ضلالهم، بل كفرهم وزندقتهم. والفصل الثالث تناول " مفهوم السنة عندهم "، وهو يختلف عما أجمعت عليه الأمة، حيث إنهم أشركوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره من أئمتهم، وجعلوا أقوالهم وأفعالهم كالمعصوم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون أدنى فرق، فهم يرونهم معصومين كالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء أكان من اعتبروه إماماً كبيراً أم صغيراً، أم لا يزال طفلا في الخرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 يلهو ويعبث كما يلهو الأطفال ويعبثون، فلهوه وعبثه سنة تشريعية ملزمة لأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالقرآن الكريم!! " انظر كيف يفترون على الله الكذب "!! والفصل الرابع تحدثت فيه عن " مراتب الحديث "، وهى عندهم أربعة: الصحيح والحسن والموثق والضعيف، وكلها مبنية على آرائهم الضالة في الجرح والتعديل. والفصل الخامس تحدثت فيه عن " التعارض والترجيح "، وهو يوضح أسباب ابتعاد هذه الفرقة الضالة عن الأمة الإسلامية، حيث يرجحون ما خالف الأمة وإن وافق الكتاب والسنة، ويعتبرون الأخذ بما خالف جمهور المسلمين رشداً، بل من علامات الإيمان! وبينت من قبل مفهوم الإيمان والكفر عند هؤلاء الرافضة أتباع عبد الله بن سبأ لعنه الله تعالى، وسيأتى لهذا مزيد بيان في هذا الجزء والجزء الذى يليه. أما الفصل السادس، وهو الفصل الأخير في هذا القسم فتحدثت فيه عن " الكتب الأربعة "، أى المعتمدة عندهم، وهى: الكافى للكلينى، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسى. ولما كان الكافى هو الكتاب الأول عندهم أشبه بصحيح البخارى عند المسلمين، وهو يشتمل على الأصول والفروع، ويقع في ثمانية أجزاء، أما الكتب الثلاثة الأخرى فتقتصر على الفروع فقط دون الأصول، فلذلك رأيت أن يكون الحديث أولاً عن الجزء الأول من أصول الكافى، وثانياً عن الجزء الثانى من أصول الكافى، وثالثاً عن روضة الكافى، ثم أخيراً يكون الحديث عن فروع الكافى والكتب الثلاثة الأخرى. وهذه الكتب الأربعة كتبت بعد عصر الأئمة الاثنى عشر في ظلمات عقيدتهم الباطلة، وقد بينت الدراسة ما في هذه الكتب من باطل وزيغ وضلال وعلى الأخص كتابهم الأول حيث سلك الكلينى منهج شيخه على بن إبراهيم القمى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 تحريف القرآن الكريم، وتكفير الصحابة الكرام، وعلىالأخص أبو بكر وعمر خير البشر بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تولاهما ورضى بخلافتهما الراشدة. والقارئ لهذا القسم يعجب أشد العجب لوجود مثل هذا الزيغ والضلال والزندقة لفرقة تنتمى إلى الإسلام، وتبذل أقصى ما تستطيع لنشر هذا الفساد بين المسلمين. وبقراءة هذا الجزء بقسميه يبدو واضحاً جلياً بيناً الفرق بين المنهج العلمي للجمهور في الحديث وعلومه ومنهج غلاة الرافضة وزنادقتهم، ويشترك مع الجمهور معتدلو الشيعة من غير الرافضة. ويبقى بعد هذا أصول الفقه وهو ما نتحدث عنه في الجزء الرابع إن شاء الله تعالى. " سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 القسم الأول الحديث وعلومه عند الجمهور الفصل الأول: بيان الكتاب والسنة نزل القرآن الكريم مفرقاً في ثلاث وعشرين سنة، قال تعالى في سورة الإسراء: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (1) والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما يقرأ القرآن الكريم على الناس فإنما يقرأ ويبين مراد الله تعالى. وكان منهج الصحابة رضى الله تعالى عنهم كما قال ابن مسعود " كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نعلم ما بهن ونعمل بهن فتعلمنا العلم والعمل جميعاً "، وكانوا يأخذون عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يخفى عليهم من هذا العلم. وفى العهد المكى الذى نزلت فيه سورة الإسراء نزل قوله تعالى في الآية التاسعة والثمانين من سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} . وفى الآية الرابعة والأربعين من سورة النحل أيضاً نزل قوله عز وجل: {أنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، فما البيان الذى جاء به القرآن الكريم؟ وما بيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وما العلاقة بين البيانين؟ أولاً: من القرآن ما جاء البيان نصا لا يحتاج إلى بيان آخر: كقوله تبارك وتعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (2) .   (1) الآية: 106. (2) 196: سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 فحرف الواو كما يأتى للجمع قد يأتى للإباحة، فيحتمل أن يكون المتمتع مخيراً بين صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، فمنع هذا الاحتمال بمزيد من البيان ... " تلك عشرة كاملة " ومثل هذه الآية الكريمة ما يعرف في أصول الفقه: بالمحكم أو المفسر إذا كان التفسير من القرآن الكريم نفسه وهو كثير، وما كان قطعى الدلالة لا يحتمل التأويل وهو أكثر. ثانياً: في الآية الكريمة السابقة الذكر ذكر العمرة والحج، ولكن كيف نؤديهما؟ وفى قوله عز وجل {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} بيان أن الصلاة مفروضة، وأن الزكاة مفروضة ولكن ما عدد الصلوات المفروضة؟ وكيف تؤدى؟ وما مواقيتها؟ إلى غير ذلك مما يتعلق بالصلاة، وكذلك ما يتعلق بالزكاة. كل هذا بينه الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله –ـ عز وجل ـ الذكر بإحكام الفرض وترك للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيان ما أنزل. وهذا أمر واضح جلى لا يحتاج إلى وقفة فلا يستطيع أحد أن ينكره. ومثل هذا بيان ما كان ظنى الدلالة محتملاً للتأويل: كمطلق يقيد وعام يخصص إلى غير ذلك مما هو معلوم مشهور. ثالثاً: جاءت السنة المطهرة بما ليس فيه نص من كتاب الله تبارك وتعالى، وبيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو عن الله تعالى، فقد بين القرآن الكريم وجوب طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فكل من قبل عن الله فرائضه فى كتابه: قبل عن رسول الله سننه بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه. ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل لما افترض الله من طاعته. فيجمع القبول لما في كتاب الله ولسنة رسول الله القبول لكل واحد منهما عن الله وإن تفرقت فروع الأسباب التي قبل بها عنهما " (1) .   (1) الرسالة للإمام الشافعى: ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 والآيات الكريمة التي تبين وجوب طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنها من طاعة الله عز وجل، وتحذر من مخالفة أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآيات كثيرة نكتفى هنا بذكر بعضها. القرآن الكريم يأمر بطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحذر من معصيته. قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} " الحشر: 7 " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ ... تَأْوِيلاً} " النساء: 59 " {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} " الأحزاب: 36 " {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} " النساء: 80 " {إِنَّ الذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} " الفتح: 10 " {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} " النساء: 65 " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ... " النور: 63 " {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} ... " النور: 51، 52 " فهذه الآيات الكريمة فرضت طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مقرونة بطاعة الله عز وجل، ومذكورة وحدها، وحذرت من يعصى أمر رسول الله وحكمت عليه بالضلال المبين وبعدم الإيمان، فطاعة الرسول الكريم طاعة الله تبارك وتعالى. إذن بيان السنة من بيان كتاب الله العزيز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 الفصل الثاني: السنة وحي ولا يكون مثل هذا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا إذا كان معصوماً لا ينطق عن الهوى، وهو ما بينه القرآن الكريم حيث قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3 - 4:النجم) . وقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} (52 - 53: الشورى) . وفى آيتين كريمتين إحداهما تخاطب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأخرى تخاطب المؤمنين جاء البيان بأن الله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب والحكمة، وسيأتى في كلام للإمام الشافعى إثبات أن الحكمة هي السنة، والآيتان هما قوله تعالى: {وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (113: النساء) ، وقوله عز وجل: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} (231: البقرة) . وإذا كان القرآن الكريم وحياً منزلا أمرنا باتباعه والتعبد به وتلاوته فإن السنة المطهرة من الوحى المنزل الذى أمرنا باتباعه دون التعبد والتلاوة. وروى عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يبين وجوب طاعته ويحذر من معصيته. فقد روى أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجة والحاكم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمرى مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه " وفى رواية لهم أيضاً " يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثى فيقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 بينى وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراماً حرمناه. وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله " (1) . وفى خطبته الشريفة في حجة الوداع حث على التمسك بالكتاب والسنة حيث قال: " وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً أمرا بينا كتاب الله وسنة نبيه (2) . وروى أبو داود في مراسيله عن حسان بن عطية قال: " كان جبريل رضي الله عنه ينزل على رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن " (3) . وروى الدارمى عن محمد بن كثير عن الأوزاعى عن حسان قال: " كان جبريل ينزل على النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن " (4) .   (1) انظر الروايتين وبيان الشيخ أحمد شاكر لصحة الإسناد في الرسالة ص 89: 91. (2) راجع الخطبة في السيرة النبوية لابن اسحاق التي جمعها ابن هشام 4 / 603 – 604 والحديث رواه الإمام مالك في الموطأ مرسلا ووصله ابن عبد البر (انظر تنوير الحوالك 2 / 208) ورواه الحاكم عن ابن عباس وعن أبى هريرة وبين صحة الحديث ووافقه الذهبى (انظر المستدرك وتلخيصه 1 / 93) . (3) انظر قواعد التحديث للقاسمى ما روى أن الحديث من الوحى – ص 59 وراجع حكم مراسيل أبى داود في رسالته إلى أهل مكة في وصف سننه ص 24 – 25، 32. (4) سنن الدارمى 1 / 117. وهذه الروية من المراسيل عن حسان أيضاً، وهو ثقة. قال خالد بن نزار: قلت للأوزاعى: حسان بن عطية عن من قال؟ فقال لى: مثل حسان كنا نقول له: عن من؟ ... (انظر تهذيب التهذيب 2 / 251) . والحديث ذكره السيوطى في كتابه مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة – ص 31 وقال: أخرجه البيهقى بسنده عن حسان بن عطية وأخرجه الدارمى. * *وفى الحاشية أضاف المعلق: نعيم بن حماد في زوائده، وابن نصر في السنة، والخطيب في الفقيه والمتفقة، وفى الكفاية، وابن عبد البر في الجامع وغيرهم. ثم قال: وإسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 ورواه الخطيب البغدادى في الكفاية (ص12) بسنده عن حسان بن عطية أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 الفصل الثالث: اعتصام السلف بالسنة كان السلف الصالح متمسكاً بسنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمسكهم بالقرآن الكريم، فالكل وحى واجب الاتباع. ففى صحيح البخارى نجد كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ومما جاء في هذا الكتاب: " وكانت الأئمة بعد النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". ويوضح ما سبق ما رواه الإمام الدارمى في باب التورع عن الجواب فيما ليس في كتاب ولا سنة: من هذه الروايات أن أبا بكر الصديق - رضى الله تعالى عنه - كان إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضى بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى به، فأن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتانى كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد لله الذى جعل فينا من يحفظ عن نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به. وموقف الصديق من ميراث الجدة معلوم مشهور حيث توقف " لا أجد لك في كتاب الله شيئاً " إلى أن بلغه حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطاها السدس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 من روايات سنن الدارمى أيضاً أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب إلى شريح: إذا جاءك شئ في كتاب الله فاقض به ولا يلتفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به. ومنها أن ابن عمر لقى جابر بن زيد فقال له: يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت. ومنها أن عبد الله بن مسعود قال: أتى علينا زمان لسنا نقضى ولسنا هناك، وأن الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله، فإن جاءه ما ليس فى كتاب الله ولم يقض به رسول الله فليقض بما قضى به الصالحون. ومما يبين ما جاء في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح البخارى ما رواه هو ومسلم وأحمد وغيرهم أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: أذكر الله امرأ سمع من النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنين شيئا؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جارتين لى –ـ يعنى ضرتين ـ فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنينا ميتا، فقضى فيه رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغرة، فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره. وقال غيره: إن كدنا أن نقضى في مثل هذا برأينا. وروى الإمام الشافعى بسنده عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قضى في الإبهام بخمس عشرة وإلى التي تليها بعشر، وفى الوسطى بعشر، وفى التي تلى الخنصر بتسع، وفى الخنصر بست. ثم قال الشافعى: لما كان معروفاً - والله أعلم - عند عمر أن النبى قضى في اليد بخمسين، وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع، نزلها منازلها، فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف، فهذا قياس على الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 فلما وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم، فيه: أن رسول الله قال: " وفى كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل " صاروا إليه. ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم - والله أعلم - حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله. وفى الحديث دلالتان: أحدهما: قبول الخبر، والآخر: أن يقبل الخبر في الوقت الذى يثبت فيه، وإن لم يمض عمل من الأئمة بمثل الخبرالذى قبلوا. ودلالة على أنه لو مضى أيضاً عمل من أحد من الأئمة ثم وجد خبر عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخالف عمله لترك عمله لخبر رسول الله. ودلالة على أن حديث رسول الله يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده. ولم يقل المسلمون قد عمل فينا عمر بخلاف هذا بين المهاجرين والأنصار، ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافه ولا غيركم، بل صاروا إلى ما وجب عليهم من قبول الخبر عن رسول الله وترك كل عمل خالفه. ولو بلغ عمر هذا صار إليه، إن شاء الله كما صار إلى غيره فيما بلغه عن رسول الله، بتقواه لله، وتأديتة الواجب عليه، في اتباع أمر رسول الله وعلمه، وبأن ليس لأحد مع رسول الله أمر، وأن طاعة الله فى اتباع رسول الله. ثم أيد الإمام الشافعى قوله السابق فروى بسنده أن عمر بن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا، حتى أخبره الضحاك ابن سفيان أن رسول الله كتب إليه: أن يورث امرأة أشيم الضبابى من ديته، فرجع إليه عمر (1) . ولمكانة السنة عند الصحابة الكرام وجدنا منهم من يرحل لطلب حديث واحد:   (1) انظر الرسالة ص 422: 426، واقرأ في الحاشية تعليق الشيخ أحمد شاكر وتخريجه للروايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 روى البخارى في الأدب المفرد بسنده عن ابن عقيل، أن جابر بن عبد الله حدثه أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فابتعت بعيرا، فشددت إليه رحلى شهرا حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعث إليه أن جابرا بالباب. فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم. فخرج فاعتنقنى. قلت: حديث بلغنى لم أسمعه، خشيت أن أموت أو تموت.. إلخ (1) . وروى الحميدى في مسنده (1 / 189) وبسنده عن عطاء بن أبى رباح: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر وهو بمصر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يبق أحد سمعه من رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره وغير عقبة. فلما قدم أتى منزل مسلمة بن مخلد الأنصارى وهو أمير مصر، فأخبر به، فعجل وخرج إليه فعانقه، ثم قال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبق أحد سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرى وغير عقبة، فابعث من يدلنى على منزله. فقال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فأخبر عقبة به، فعجل فخرج إليه فعانقه وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال حديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبق أحد سمعه غيرى وغيرك في ستر المؤمن. فقال عقبة: نعم، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من ستر مؤمنا في الدنيا على خزيه ستره الله يوم القيامة ". فقال له أبو أيوب: صدقت، ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعاً إلى المدينة فما أدركته جايزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر. هذان مثلان فيهما من الدلالة ما يكفى ويغنى، والرحلة في طلب الحديث معلومة مشهورة.   (1) انظر الأدب المفرد 2 / 433، باب المعانقة. ورواه الحاكم في المستدرك ... (4 / 574 – 575) ، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى على التصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 الفصل الرابع: تدوين السنة من المعلوم أن الرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن كتابة أحاديثه الشريفة، وأنه كذلك أباح، وأمر بمثل هذه الكتابة، وبالطبع لا يمكن أن يجتمع النهى والإباحة والأمر مع اتحاد الزمان والأحوال. والمتتبع لهذا يجد أن النهى صدر في أول الأمر حتى لا يختلط شىء بكتاب الله تعالى كما يبدو، أو لأية حكمة أخرى. والصحيح في النهى ينحصر في حديث واحد رواه الإمام مسلم في كتاب الزهد من صحيحه، تحت باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، ورواه بسنده، عن أبى سعيد الخدرى، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تكتبوا عنى، ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه، وحدثوا عنى ولا حرج، ومن كذب على - قال همام: أحسبه قال متعمداً: فليتبوأ مقعده من النار ". وقال الإمام النووى في شرح الحديث الشريف: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تكتبوا عنى غير القرآن ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه " قال القاضى: كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم: فكرهها كثيرون منهم، وأجازها أكثرهم. ثم أجمع المسلمون على جوازها، وزال ذلك الخلاف. واختلفوا في المراد بهذا الحديث الوارد في النهى، فقيل هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب، ويحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لايوثق بحفظه، كحديث " اكتبوا لأبى شاه "، وحديث صحيفة على رضى الله عنه، وحديث كتاب عمرو بن حزم الذى فيه الفرائض والسنن والديات، وحديث كتاب الصدقة، ونصب الزكاة الذى بعث به أبو بكر رضى الله عنه أنسا رضى الله عنه حين وجهه إلى البحرين، وحديث أبو هريرة أن ابن عمرو بن العاص كان يكتب ولا أكتب، وغير ذلك من الأحاديث، وقيل: إن حديث النهى منسوخ بهذه الأحاديث، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 النهى حين خيف اختلاطه بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن في الكتابة. وقيل: إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ في صحيفة واحدة والله أعلم " (1) . والأحاديث التي أشار إليها الإمام النووى جاءت بعد حديث النهى عن الكتابة، ومن هنا قيل بالنسخ، ولذلك عندما ورد الحديث في مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذرى عقب الشيخ الألبانى بقوله: " هذا منسوخ بأحاديث كثيرة فيها الأمر بكتابة الحديث النبوى " (2) . والرامهرمزى الذى ولد في النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى، وتوفى سنة 360 هـ، تحدث عن التدوين في كتابه المحدث الفاصل بين الراوى والواعى (ص 363: 402) تحت عنوان " باب الكتاب " وذكر بإسناده ستة أحاديث. أولها عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: لما فتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة قام في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " إن الله تعالى حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلى، وإنما أحلت لى ساعة من نهار، وأنها لا تحل لأحد كان بعدى، لا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفتدى، وإما أن يقتل فقال العباس: إلا الأذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا، فقال: " إلا الأذخر ". فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال: اكتبه لى يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اكتبوا لأبى شاه ". قال المديد: قلت للأوزاعى: ما قوله اكتبوا لأبى شاه؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.   (1) راجع بيان عدم صحة باقي الأحاديث التي تنهى عن كتابة العلم في كتاب دراسات في الحديث النبوي وتاريخ تدوينه للدكتور محمد مصطفى الأعظمى، ص 76، وما بعدها. (2) انظر 2 / 252 حديث رقم 1861، وتعليق الشيخ الألباني، والحافظ المنذرى ذكره في كتاب العلم لا الزهد، واختلف اسم الباب أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 أما باقى الأحاديث فكلها عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضى الله تعالى عنهما، وهى: 1 ـ قلت: يا رسول الله، أقيد العلم؟ قال: " نعم "، قلت: وما تقييده؟ قال: " الكتاب ". 2 ـ قلت: يا رسول الله، أكتب ما أسمعه منك؟ قال " نعم " قلت: في الغضب والرضا؟ قال: " نعم، فإنى لا أقول إلا حقا " 3 ـ قلنا: يا رسول الله، إنا نسمع منك أشياء لا نحفظها، أفلا نكتبها؟ قال: " بلى فاكتبوها ". 4 ـ عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قيدوا العلم بالكتاب ". 5 ـ قلت: يا رسول الله، إنى أسمع منك الشئ أفأكتبه؟ قال: " نعم فاكتبه " قلت: إنك تغضب وترضى؟ قال: " إنى لا أقول في الرضا والغضب إلا حقا" (1) . والحديث الأول ـ حديث أبى هريرة ـ أخرجه الإمام البخارى في كتاب العلم، باب كتابة العلم، وفيه أخرج ثلاثة أحاديث أخرى، أحدها عن أبى جحفة قال: قلت لعلى: هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما فى هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر. وأخرج عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه قوله: ما من أصحاب النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد أكثر حديثاً عنه منى، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب. والحديث الرابع في الباب جاء عن ابن عباس -رضى الله عنهما - قال: لما اشتد بالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعه قال: " ائتونى أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ".   (1) انظر الأحاديث من رقم 315 إلى 319، وتخريجها ص 364: 365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 ومن المعلوم المشهور كتابة عبد الله بن عمرو التي أشار إليها أبو هريرة، وصحيفته " الصادقة " التي أخذها من في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفى أحاديث عبد الله بن عمرو من مسند الإمام أحمد نجد أربع روايات صحيحة تثبت هذه الكتابة، منها قوله: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أريد حفظه، فنهتنى قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شىء تسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر، يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " اكتب، فوالذى نفسى بيده ما خرج منى إلا حق " (1) وفى رواية: " ما خرج منه إلا حق " (2) . وفى رواية ثالثة: " فإنه لا ينبغى لى أن أقول في ذلك إلا حقاً " (3) . وفى الأخيرة من الروايات الصحيحة: " .... فإنى لا أقول فيهما إلا حقا " (4) وعقب الشيخ أحمد شاكر على الحديث الأول ببيان صحته، وذكر ما يتصل بتخريجه، ثم انتقل للحديث عن الكتابة في عهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... ، فاكتفى بإثبات ما قاله ابن القيم في تعليقه على اختصار المنذرى لسنن أبى داود، وهو ما يأتى: - " قد صح عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النهى عن الكتابة والإذن فيها. والإذن متأخر، فيكون ناسخا لحديث النهى، فإن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في غزاة الفتح: اكتبوا لأبى شاه، يعنى خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها، وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة، وحديثه متأخر عن النهى، لأنه لم يزل يكتب، ومات وعنده كتابته وهى الصحيفة التي   (1) المسند ـ بشرح الشيخ شاكر جـ 10، رواية رقم 6510، وفى الحاشية بيان صحتها. (2) ، (3) ، (4) حـ 11، وأرقام الروايات هي: 6802، 6930، 7020، وفى الحاشية بين الشيخ شاكر صحة هذه الروايات. (3) (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 كان يسميها الصادقة. ولو كان النهى عن الكتابة متأخرا لمحاها عبد الله، لأمر النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمحو ما كتب عنه غير القرآن. فلما لم يمحها وأثبتها دل أن الإذن في الكتابة متأخر عن النهى عليها، هذا واضح والحمد لله. وقد صح عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لهم في مرض موته: ائتونى باللوح والدواة والكتف، لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا. وهذا إنما يكون كتابة كلامه بأمره، وإذنه. وكتب النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمرو بن حزم كتابا عظيما، فيه الديات وفرائض الزكاة وغيرها. وكتبه في الصدقات معروفة مثل كتاب عمر بن الخطاب، وكتاب أبى بكر الصديق الذى دفعه إلى أنس رضى الله عنه. وقيل لعلى: هل خصكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشئ؟ فقال: لا والذى فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا ما في هذه الصحيفة، وكان فيها العقول، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر. وإنما نهى النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كتابة غير القرآن في أول الإسلام، لئلا يختلط القرآن بغيره، فلما علم القرآن وتميز، وأفرد بالضبط والحفظ، وأمنت عليه مفسدة الاختلاط، أذن في الكتابة. وقد قال بعضهم: إنما كان النهى عن كتابة مخصوصة، وهى أن يجمع بين كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة، خشية الالتباس. وكان بعض السلف يكره الكتابة مطلقا. وكان بعضهم يرخص فيها حتى يحفظ، فإذا حفظ محاها. وقد وقع الاتفاق على جواز الكتابة وإبقائها. ولولا الكتابة ما كان بأيدينا اليوم من السنة إلا أقل القليل ا. هـ. وفى مقدمة ابن الصلاح (ص 87) جاء عنوان: " في كتاب الحديث وكيفية ضبط الكتاب وتقييده ". وقال: " اختلف الصدر الأول - رضى الله عنهم - في كتابة الحديث، فمنهم من كره كتابة الحديث والعلم، وأمروا بحفظه، ومنهم من أجاز ذلك. وممن روينا عنه كراهة ذلك: عمر، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو موسى، وأبو سعيد الخدرى في جماعة آخرين من الصحابة والتابعين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 وذكر حديث أبى سعيد الخدرى، وقال: " وممن روينا عنه إباحة ذلك أو فعله: على، وابنه الحسن، وأنس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص في جمع آخرين من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم أجمعين. ومن صحيح حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدال على جواز ذلك حديث أبى شاه ... إلخ ". ثم قال (ص 88) : " ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة والله أعلم " (1) . وفى الباعث الحثيث (ص 132) سلك الحافظ ابن كثير منهج ابن الصلاج، وذكر قوله فيما رواه عن الصحابة رضى الله تعالى عنهم، ثم قال: " وقد حكى إجماع العلماء في الأعصار المتأخرة على تسويغ كتابة الحديث وهذا مستفيض شائع ذائع، من غير نكير ". وفى التعليق على ما ذكره الحفاظ بين الشيخ أحمد شاكر أن القول الصحيح هو ما ذهب إليه أكثر الصحابة من جواز الكتابة، وذكر حديث أبى سعيد في النهى، ثم قال: إن النهى منسوخ بأحاديث أخرى دلت على الإباحة، وذكر عددا من هذه الأحاديث، وقال: " وهذه الأحاديث، مع استقرار العمل بين أكثر الصحابة والتابعين، ثم اتفاق الأمة بعد ذلك على جوازها: كل هذا يدل على أن حديث أبى سعيد منسوخ، وأنه كان في أول الأمر حيث خيف اشتغالهم عن القرآن، وحين خيف اختلاط غير   (1) اختصر الإمام النووى كتاب ابن الصلاح فى كتابه " الإرشاد " ثم اختصره فى " التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير والنذير " وهو الذى شرحه السيوطى فى كتابه " تدريب الراوى فى شرح تقريب النواوى ". وفى الجزء الثانى من كتاب السيوطى (ص 64) بدأ الحديث عن كتابة الحديث وضبطه، وفى شرحه فصل القول فى اختلاف السلف من الصحابة والتابعين، والجمع بين حديث النهى والأحاديث الأخرى. (انظر كتابه إلى ص 68) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 القرآن بالقرآن. وحديث أبى شاه في أواخر حياة النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك إخبار أبى هريرة، وهو متأخر الإسلام، أن عبد الله بن عمرو كان يكتب، وأنه هو لم يكن يكتب يدل على أن عبد الله كان يكتب بعد إسلام أبى هريرة، ولو كان حديث أبى سعيد في النهى متأخراً عن هذه الأحاديث في الإذن والجواز، لعرف ذلك عند الصحابة يقينا صريحاً. ثم جاء إجماع الأمة القطعى يعد قرينة قاطعة على أن الإذن هو الأمر الأخير، وهو إجماع ثابت بالتواتر العملى، عن كل طوائف الأمة بعد الصدر الأول رضى الله عنهم أجمعين ". ا. هـ مما سبق نرى أن تدوين السنة بدأ في حياة الرسول نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنها ما كتب بأمره وبين يديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن المعلوم أن الاتجاه العام إلى جمع السنة المشرفة وتدوينها في الدولة الإسلامية إنما كان في عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رضى الله تعالى عنهم، وكانت مبايعته بالخلافة في صفر سنة تسع وتسعين، ووفاته فى رجب سنة إحدى ومائة، وهذا يعنى أن الجمع كان لكل من المكتوب منها والمحفوظ، مع مراعاة الإسناد الذى شرفت به وانفردت خير أمة أخرجت للناس. فالجمع إذن لم يكن للمحفوظ وحده، كما لم يكن لهذا المحفوظ قيمة علمية بغير الإسناد المتصل المرفوع إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الجزائرى في توجيه النظر إلى أصول الأثر (ص 7: 8) . قال البخارى في صحيحه فى كتاب العلم: " وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبى بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاكتبه، فإنى خفت دروس العلم، وذهاب العلماء "، وابو بكر هذا كان نائب عمر بن عبد العزيز في الإمرة والقضاء على المدينة. روى عن السائب بن يزيد، وعباد بن تميم، وعمرو بن سليم الزرقى. وروى عن خالته عمرة، وعن خالدة ابنة أنس، ولها صحبة. قال مالك: لم يكن أحد بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبى بكر ابن حزم.. وكتب إليه عمر بن عبد العزيز أن يكتب له من العلم ما عند عمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 والقاسم فكتبه له. وأخذ عنه معمر، والأوزاعى، والليث، ومالك وابن أبى ذئب، وابن إسحق، وغيرهم. وكانت وفاته فيما قاله الواقدى وابن سعد وجماعة سنة عشرين ومائة، وأول من دون الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز محمد بن مسلم ابن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب المدنى، أحد الأئمة الأعلام، وعالم أهل الحجاز والشام. أخذ عن ابن عمر، وسهل بن سعد، وأنس بن مالك، ومحمود بن الربيع، وسعيد بن المسيب، وأبى أمامة ابن سهل، وطبقتهم من صغار الصحابة وكبار التابعين، وأخذ عنه معمر، والأوزاعى، والليث، ومالك، وابن أبى ذئب وغيرهم. ولد سنة خمسين وتوفى سنة أربع وعشرين ومائة. قال عبد الرزاق: سمعت معمرا يقول: كنا نرى أناقد أكثرنا عن الزهرى حتى قتل الوليد بن يزيد فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب من خزائنه يقول من علم الزهرى، ثم شاع التدوين في الطبقة التي تلى طبقة الزهرى. ولوقوع ذلك في كثير من البلاد وشيوعه بين الناس اعتبروه الأول فقالوا: كانت الأحاديث في عصر الصحابة وكبار التابعين غير مدونة فلما انتشر العلماء في الأمصار وشاع الابتداع دونت ممزوجة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين. وأول من جمع ذلك ابن جريج بمكة، وابن إسحق أو مالك بالمدينة: والربيع ابن صبيح أو سعيد بن أبى عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة، وسفيان الثورى بالكوفة والأوزاعى بالشام، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن، وجرير بن عبد الحميد بالرى، وابن المبارك بخراسان. وكان هؤلاء في عصر واحد، ولا يدرى أيهم سبق. قال الحافظ ابن حجر: " إن ما ذكر إنما هو بالنسبة إلى الجمع في الأبواب، وأما جمع حديث إلى مثله في باب واحد فقد سبق إليه الشعبى، فإنه روى عنه قال: هذا باب من الطلاق جسيم، وساق فيه أحاديث". وتلا المذكورين كثير من أهل عصرهم إلى أن رأى بعض الأئمة إفراد أحاديث النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة وذلك على رأس المائتين، فصنف عبيد الله بن موسى العبسى الكوفى مسندا، وصنف مسدد البصرى مسندا، وصنف أسد بن موسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 مسندا، وصنف نعيم بن حماد الخزاعى مسندا، ثم اقتفى الحفاظ آثارهم: فصنف الإمام أحمد مسندا، وكذلك إسحاق بن راهويه وعثمان بن أبى شيبة، وغيرهم. ولم يزل التأليف في الحديث متتابعا إلى أن ظهر الإمام البخارى وبرع في علم الحديث وصار له فيه المنزلة التي ليس فوقها منزلة، فأراد أن يجرد الصحيح ويجعله في كتاب على حدة ليخلص طالب الحديث من عناء البحث والسؤال، فألف كتابه المشهور وأورد فيه ما تبين له صحته. وكانت الكتب قبله ممزوجا فيها الصحيح بغيره بحيث لا يتبين للناظر فيها درجة الحديث من الصحة إلا بعد البحث عن أحوال رواته وغير ذلك مما هو معروف عند أهل الحديث، فإن لم يكن له وقوف على ذلك اضطر إلى أن يسأل أئمة الحديث عنه. فإن لم يتيسر له ذلك بقى ذلك الحديث مجهول الحال عنده، واقتفى أثر الإمام البخارى في ذلك الإمام مسلم ابن الحجاج. وكان من الآخذين عنه والمستفيدين منه، فألف كتابه المشهور، ولقب هذان الكتابان بالصحيحين، فمعظم انتفاع الناس بهما، ورجعوا عند الاضطراب إليهما، وألفت بعدهما كتب لا تحصى، فمن أراد البحث عنها فليرجع إلى مظان ذكرها. هذا وقد توهم أناس مما ذكر آنفا أنه لم يقيد في عصر الصحابة وأوائل عصر التابعين بالكتابة شىء غير الكتاب العزيز، وليس الأمر كذلك، فقد ذكر بعض الحفاظ أن زيد بن ثابت ألف كتابا في علم الفرائض، وذكر البخارى في صحيحه أن عبد الله بن عمرو كان يكتب الحديث ... إلخ. ا. هـ والتوهم الذى أشار إليه صاحب توجيه النظر أنه ليس له أساس علمى، وكان المنهج العلمي والواقع العملى يستلزمان إزالة هذا التوهم، فلم يقف الأمر عند ثبوت الكتابة عن طريق الأخبار الصحيحة، بل وصل إلينا بعض ما كتب، وطبع وانتشر: مثال هذا صحيفة همام بن منبه التي كتبها سماعا من راوية الإسلام الأول أبى هريرة رضى الله تعالى عنه، نقلا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد نشرها المجمع العلمي العربى بدمشق، وطبعت عدة مرات بتحقيق الدكتور محمد حميد الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 وأخرجها من قبل الإمام أحمد في مسنده (حـ 2 ص 312: 318) ، وعندما قام الشيخ أحمد شاكر رحمه الله.. بتحقيق وشرح المسند طبع خمسة عشر جزءا، وتوفى قبل طبع الجزء السادس عشر، وهو الذى يبدأ بصحيفة همام. وفى المسند أيضاً أحاديث كثيرة من صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، كما طبع تفسير مجاهد بن جبر، تلميذ ابن عباس رضى الله عنهم، وصلة التفسير بالسنة واضحة معلومة. بل إن كتب النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلنا كثيرمن نصوصها، وعثر على بعض النسخ الأصلية التي كتبت في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ففى كتاب الأموال لأبى عبيد - على سبيل المثال - يوجد " باب كتب العهود التي كتبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لأهل الصلح " (ص 244) ، ويروى أبو عبيد بإسناده تحت هذا الباب نصوص سبعة كتب، وفى كتاب الأموال لابن زنجوية يوجد " كتاب العهود التي كتبها رسول الله ... صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لأهل الصلح " (2 / 449) ، وهو قريب مما ذكره أبو عبيد. وجمع الدكتور محمد حميد الله ما استطاع من كتب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأثبت نصوصها، وبين مصادرها، وذكر ما يوجد من أصولها وعرض صوراً لكتبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كل من: النجاشى، وهرقل، والمقوقس، وكسرى، وغيرهم (1) . بعد هذا كله كيف يبقى أى توهم، أو أدنى شك في ثبوت الكتابة في عصر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة الكرام من بعده؟!   (1) انظر كتابه " مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة " وانظر صور كتب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. في الطبعة الخامسة ص 102، 108، 123، 137، 141، 147، 162، 225. وانظر كذلك: ما جمعه من كتب في عهد الخلفاء الراشدين رضى الله تعالى عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 كان الواجب إذن أن يزال هذا التوهم، ولا يبقى أى شك أو لبس، ولكن العجيب الغريب أن الأمر زاد واستشرى، طعنا في السنة المشرفة، وتشكيكا في صحتها، والذين تولوا كبره المستشرقون وتلامذتهم الذين اتخذوهم أربابا من دون الله، والجهلة بمكانة السنة المطهرة وحجيتها وعلومها. وقد صنفت كتب عديدة في الرد على هؤلاء الطاعنين. وحتى لا يطول بنا الحديث عن التدوين أكتفى بالإشارة إلى كتاب واحد وبعض ما جاء فيه، وذلك هو " دراسات في الحديث النبوى وتاريخ تدوينه " للدكتور محمد مصطفى الأعظمى، جعل المؤلف الباب الثالث حول كتابة الأحاديث النبوية (ص 71: 83) ، وانتهى منه إلى نتيجة وهى أن المسلمين كانت قد أصبحت لديهم إمكانيات واسعة تمكنهم من كتابة الأحاديث النبوية، ولم يكن ثمة عائق خارجى يقف في وجه تقييد العلم. وجعل عنوان الباب الرابع " تقييد الحديث من عصر النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى منتصف القرن الثانى الهجرى على وجه التقريب "، وهذا الباب يقع في مائتين واثنتين وأربعين صفحة (84: 325) ، وقسمه إلى أربعة فصول: الفصل الأول لكتابة الصحابة والكتابة عنهم: ذكر فيه اثنين وخمسين من الصحابة الذين كتبوا أو كتب عنهم الأحاديث النبوية، ورد على الشبه التي تشكك فيما انتهى إليه، وعلى سبيل المثال ذكر أسماء عشرة كتاب كتبوا عن أبى هريرة، ومنهم همام بن منبه صاحب الصحيفة التي وصلتنا كاملة، وأشرت إليها من قبل، وأربعة عشر كتبوا عن جابر بن عبد الله، وهو نفسه من المؤلفين الأوائل، وتسعة كتبوا عن ابن عباس، أما هو فكانت كتبه حمل بعير، وهكذا. والفصل الثانى عنوانه: " تابعيو القرن الأول وكتاباتهم والكتابة عنهم "، وأثبت من هؤلاء ثلاثة وخمسين. والفصل الثالث جعله المؤلف لكتابة صغار التابعين والكتابة عنهم، وذكر من هؤلاء التابعين تسعة وتسعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 أما الفصل الأخير من هذا الباب فكان لكتابة بعض صغار التابعين وأتباع التابعين والكتابة عنهم، وبلغ عدد من ذكرهم هنا اثنين وخمسين ومائتين. وبهذا يتضح بدء الكتابة في عصر النبوة، واتصالها واتساعها دون توقف حتى ما جاء ما عرف بعصر التدوين في القرن الثانى الهجرى. وقبل هذا الباب قال المؤلف (ص 76) : " في ضوء دراستنا هذه نستطيع أن نقول أن كل من نقل عنه كراهية كتابة العلم فقد نقل عنه عكس ذلك أيضاً، ما عدا شخصاً أو شخصين، وقد ثبت كتابتهم أو الكتابة عنهم، كما يتضح ذلك بمراجعة الباب الرابع من هذا الكتاب " وممن نقل عنهم كراهية كتابة العلم، وتحدث المؤلف عنهم في هذا الباب، ليثبت كتابتهم أو الكتابة عنهم: 1 ـ أبو سعيد الخدرى (1) . 2 ـ أبو موسى الأشعرى (2) . 3 ـ زيد بن ثابت (3) . 4 ـ عبد الله بن مسعود (4) . 5 ـ عمر بن الخطاب: وقد أفاض في الحديث عنه، وذكر سبع قضايا نقلت عن عمر وأسىء فهمهما، واستدل بها على عدم أخذه بالسنة النبوية، ورد المؤلف على هذا كله، وذكر من الأدلة ما هو كاف شاف، ثم تحدث عن جهود عمر لنشر السنة، وعن كتابته للسنة (5) .   (1) انظر ص 95 رقم 6. (2) انظر ص 96 رقم 8. (3) انظر ص 108 رقم 22. (4) انظر ص 125 رقم 39. (5) راجع ما كتبه بالتفصل ص 131: 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 الفصل الخامس: الجرح والتعديل تكفلت كتب علوم الحديث ببيان ما يتصل بالجرح والتعديل، ولعل أول كتاب ألف في علوم الحديث هو المحدث الفاصل بين الراوى والواعى للرامهرمزى، المتوفى سنة 360 هـ. ولكن قبل هذا بكثير كان لبعض الأئمة الأعلام ما يتصل بالجرح والتعديل من أحكام عامة، وبيان لمن تقبل روايتهم ومن ترد وذكر لأسماء كثير من هؤلاء الرواة. وتوسع بعضهم في ذكر هذه الأسماء فيما يعرف بكتب الرجال، ومن أقدمها وأنفعها ما كتبه الإمام البخارى في تاريخه الكبير، وفى الضعفاء، وكان أثره واضحاً، وكتاب الجرح والتعديل لابن أبى حاتم المتوفى سنة 327 هـ. وكتب علوم الحديث حفظت لنا آراء الأئمة من الجرح والتعديل، ولكن قبل أن ننظر في هذه الكتب أريد أن أثبت هنا بعض ما جاء في غيرها سابقا لها، وأكتفى ببعض ما كتبه ثلاثة من الأئمة: أولهم الإمام الشافعى، صاحب كتاب الرسالة، الذى يعد أول ما صنف في أصول الفقه، وفى هذا الكتاب، تحدث الإمام عن خبر الواحد فقال: ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا منها: أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدث به، عالما بما يحيل معانى الحديث من اللفظ، وأن يكون ممن يؤدى الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى، لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته الحديث، حافظا إن حدث به من حفظه، حافظا لكتابه إن حدث من كتابه. إذ شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم، بريا من أن يكون مدلسا: يحدث عن من لقى ما لم يسمع منه، ويحدث عن النبى ما يحدث الثقات خلافه عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 النبي. ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه، حتى ينتهى بالحديث موصولا إلى النبى أو إلى من انتهى به إليه دونه، لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه، ومثبت على من حدث عنه، فلا يستغنى في كل واحد منهم عما وصفت. (ص 370: 372) . ثم قال بعد هذا: ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في روايته. وليست تلك العورة بالكذب فنرد بها حديثه، ولا النصيحة في الصدق، فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق. فقلنا: لا نقبل من مدلس حديثاً حنى يقول فيه " حدثنى " أو " سمعت " (ص 379: 380) . وقال أيضاً: ومن كثر غلطه من المحدثين، ولم يكن له أصل كتاب صحيح، لم نقبل حديثه، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادة لم نقبل شهادته. وأهل الحديث متباينون: فمنهم المعروف بعلم الحديث، بطلبه وسماعه من الأب والعم وذوى الرحم والصديق، وطول مجالسة أهل التنازع فيه. ومن كان هكذا كان مقدما في الحفظ، إن خالفه من يقصر عنه، كان أولى أن يقبل حديثه ممن خالفه من أهل التقصير عنه. ويعتبر أهل الحديث بأن إذا اشتركوا في الحديث عن الرجل بأن يستدل على حفظ أحدهم بموافقة أهل الحفظ، وعلى خلاف حفظه بخلاف حفظ أهل الحفظ له. وإذا اختلفت الرواية استدللنا عن المحفوظ منها والغلط بهذا، ووجوه سواه، تدل على الصدق والحفظ والغلط. (الرسالة: ص 382: 383) . ونأتى بعد الإمام الشافعى إلى الإمام مسلم، حيث تحدث في مقدمة صحيحه عن حال بعض الرواة وبين طبقاتهم. وبعد أن بين من تقبل أحاديثهم قال (ص 45) : " فأما ما كان منها عن قوم هم عند أهل الحديث متهمون، أو عند الأكثر منهم، فلسنا نتشاغل بتخريج حديثهم ". وسمى بعضهم وقال: " وأشباههم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 ممن اتهم بوضع الأحاديث وتوليد الأخبار، وكذلك من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط، أمسكنا أيضا عن حديثهم. وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضا خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها. فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله ولا نستعمله " (ص: 46) . ويأتى بعد هذا باب النهى عن الرواية عن الضعفاء، والاحتياط في تحملها، ثم باب بيان أن الإسناد من الدين، وبين فيه وجوب عدم الأخذ إلا عن الثقة الثبت، ونبه إلى أمر هام حيث روى عن أبى الزناد قوله: " أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله " (1) . وعن يحيى بن سعيد القطان قال: " لم نر الصالحين في شئ أكذب منهم في الحديث "، وفسر الإمام مسلم هذا بقوله: يجرى الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب. وقال النووى في شرحه: معناه ما قاله مسلم أنه يجرى الكذب على ألسنتهم ولا يتعمدون ذلك، لكونهم لا يعانون صناعة أهل الحديث، فيقع الخطأ في رواياتهم ولا يعرفونه، ويروون الكذب ولا يعلمون أنه كذب. وقد قدمنا أن مذهب أهل الحق أن الكذب هو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو: عمدا كان أو سهوا أو غلطا (2) . وفى الكشف عن معايب رواة الحديث أورد مسلم بعض الأخبار التي تذكر أسماء بعض الكذابين والوضاعين، ومن هؤلاء جابر بن يزيد الجعفى، وروى عن غير واحد أن جابرا كان يؤمن بالرجعة، وفسرها النووى بقوله: معنى   (1) صحيح مسلم 1 / 72. وقال النووى: أبو الزناد اسمه عبد الله بن ذكوان، وكان الثورى يسميه: أمير المؤمنين في الحديث. (2) انظر ص 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 إيمانه بالرجعة هو ما تقوله الرافضة وتعتقده بزعمها الباطل أن عليا ـ كرم الله وجهه ـ في السحاب، فلا نخرج - يعنى مع من يخرج من ولده حتى ينادى من السماء: أن اخرجوا معه، وهذا نوع من أباطيلهم، وعظيم من جهالاتهم اللائقة بأذهانهم السخيفة وعقولهم الواهية (ص: 85) . ومما رواه مسلم أيضاً أن جابرا قال: إن عندى لخمسين ألف حديث، ما حدثت منها بشئ. ثم حدث يوما بحديث فقال: هذا من الخمسين ألفا، وفى خبر زاد أنها عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفى خبر أيضاً قال جابر: عندى سبعون ألف حديث عن أبى جعفر عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها. وروى عن الإمام سفيان بن عيينه أنه قال: سمعت رجلا سأل جابرا عن قوله - عز وجل: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (1) ، فقال جابر: لم يجئ تأويل هذه الآية. قال سفيان: وكذب. فقلنا لسفيان: وما أراد بهذا؟ فقال: لإن الرافضة تقول أن عليا في السحاب، فلا نخرج مع من خرج من ولده حتى ينادى مناد من السماء، يريد عليا أنه ينادى: اخرجوا مع فلان. يقول جابر: فذا تأويل هذه الآية، وكذب، كانت في إخوة يوسف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروى عن سفيان أيضاً قال: سمعت جابرا يحدث بنحو من ثلاثين ألف حديث، ما أستحل أن أذكر منها شيئا وأن لى كذا وكذا (2) .   (1) سورة يوسف: الآية 80. (2) انظر الأخبار المتصلة بجابر في صحيح مسلم 1 / 85 - 87. ووفاته كانت سنة 128 هجرية في عصر الإمام الصادق، والأخبار التي وضعها افتراء على الأئمة لا تذكر أسماء من يأتى بعده، ولذلك ذكر عليا في السحاب، ولم يذكر اسم من يخرج من ولده، أما الذين وضعوا الروايات بعد إمامهم الثانى عشر في النصف الثانى من القرن الثالث وما بعدها فإنهم ذكروا* *خروجه. وللرجعة معنى آخر أيضاً عند الشيعة كما سبق بيانه في الفصل الخامس من الجزء الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 ثم ذكر الإمام مسلم عدداً غير قليل ممن لا تقبل روايتهم (1) ، ثم قال: " وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمى رواة الحديث، وأخبارهم عن معايبهم، كثير يطول الكتاب بذكره على استقصائه، وفيما ذكرنا غاية لمن تفهم وعقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا. وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن   (1) ذكرت ما يتصل بجابر لنقارن بين ما قاله الأئمة الأعلام من طعن فيه وبيان لأكاذيبه، وبين ما يقوله الشيعة الاثنا عشرية: فهم يعتبرونه من اصحاب الأصول الأربعمائة التي نتحدث عنها في القسم الثانى، وجاء في ترجمته عندهم ما يأتى: وثقه بن الغضايرى وغيره، وروى الكشى وغيره أحاديث كثيرة تدل على مدحه وتوثيقه وروى فيه ذم يأتى ما يصلح جوابا عنه في زرارة، وضعفه بعض علمائنا، والأرجح توثيقه. وقال الشيخ: له أصل، وروى أنه روى سبعين ألف حديث عن الباقر، وروى مائة وأربعين ألف حديث، والظاهر أنه ما روى أحد بطريق المشافهة عن الأئمة أكثر مما روى جابر، فيكون عظيم المنزلة عندهم لقولهم: اعرفوا منازل الرجال منا على قدر رواياتهم عنا (وسائل الشيعة: 20 / 151) . وترجمة زرارة بن أعين التي أشار إليها صاحب الوسائل هنا جاء فيها ما يأتى: ... وروى أحاديث في ذمه ينبغى حملها على التقية، بل يتعين، وكذا ما ورد في حق أمثاله من أجلاء الإمامية بعد تحقق المدح من الأئمة (وسائل الشيعة ك 20 / 196) . وجاء في حاشية الوسائل (19 / 338) . جابر بن يزيد الجعفى من أصحاب الإمامين الباقر والصادق، تابعى روى عنهما، مات أيام الصادق سنة 128 هجرية، له كتب وأصل، وروى أن الصادق ترحم عليه، وقال: إنه كان يصدق علينا، وكان باب الإمام الباقر، وفيه أحاديث كثيرة رواها الكشى وغيره تدل على مدحه وعظيم شأنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 معايب رواة الحديث وناقلى الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا، لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتى بتحليل أو تحريم ... إلخ. (1) وللإمام مسلم في بيان علل الحديث كتاب التمييز: بين فيه الدواعى إلى الجرح والتعديل، ثم أورد باب ما جاء في الترقى في حمل الحديث وأدائه والتحفظ من الزيادة فيه والنقصان (ص 127) . وبعد هذا أخذ يبين علل بعض الأخبار والروايات كالخطأ أو الوهم في الإسناد أو المتن، أو فيهما معا، وأشار إلى شىء من التصحيف، وما يدفعه الأخبار الصحاح، ثم قال بعد هذا كله (ص 171) : " واعلم رحمك الله، أن صناعة الحديث، ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم إنما هي لأهل الحديث خاصة، لأنهم الحفاظ لروايات الناس، العارفين بها دون غيرهم، إذ الأصل الذى يعتمدون لأديانهم السنن والآثار المنقولة، من عصر إلى عصر من لدن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عصرنا هذا، فلا سبيل لمن نابذهم من الناس، وخالفهم في المذهب، إلى معرفة الحديث ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار، من نقال الأخبار وحمال الآثار. وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح. وإنما اقتصصنا هذا الكلام لكى ننبه من جهل مذهب أهل الحديث ممن يريد التعلم والتنبه على تثبيت الرجال وتضعيفهم فيعرف ما الشواهد عندهم، والدلائل التي بها ثبتوا الناقل للخبر من نقله، أو سقطوا من أسقطوا منهم. والكلام في تفسير ذلك يكثر، وقد شرحناه في مواضع غير هذا، وبالله التوفيق، في كل ما نؤم ونقصد ". وبعد الإمامين الشافعى ومسلم نأتى إلى الثالث وهو ابن أبى حاتم في كتابه الجرح والتعديل الذى أشرت إليه من قبل، حيث جعل لكتابه مقدمة بدأها ببيان   (1) انظر مقدمة صحيح مسلم ص 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 مرتبة النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بمعرفة السنة وأئمتها، ثم تحدث عن التمييز بين الرواة وبيان طبقاتهم، فقال (ص 5: 7) التمييز بين الرواة: قال أبو محمد: فلما لم نجد سبيلاً إلى معرفة شئ من معانى كتاب الله ولا من سنن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا من جهة النقل والرواية، وجب أن نميز بين عدول الناقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم، وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة. ولما كان الدين هو الذى جاءنا عن الله عز وجل وعن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنقل الرواة حق علينا معرفتهم، ووجب الفحص عن الناقلة والبحث عن أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة والثبت في الرواية مما يقتضيه حكم العدالة في نقل الحديث وروايته، بأن يكونوا أمناء في أنفسهم، علماء بدينهم، أهل ورع وتقوى وحفظ للحديث وإتقان به وتثبت فيه، وأن يكونوا أهل تمييز وتحصيل لا يشوبهم كثير من الغفلات، ولا تغلب عليهم الأوهام فيما قد حفظوه ووعوه، ولا يشبه عليهم بالأغلوطات. وأن يعزل عنهم الذين جرحهم أهل العدالة وكشفوا لنا عن عوراتهم في كذبهم وما كان يعتريهم من غالب الغفلة وسوء الحفظ وكثرة الغلط والسهو والاشتباه، ليعرف به أدلة هذا الدين وأمناء الله في أرضه على كتابه وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم هؤلاء أهل العدالة، فيتمسك بالذى رووه، ويعتمد عليه، ويحكم به، وأهل الغفلة والنسيان والغلط ورداءة الحفظ، فيكشف عن حالهم وينبأ عن الوجوه التي كان مجرى روايتهم عليها، إن كذب فكذب، وإن وهم فوهم، وإن غلط فغلط، وهؤلاء هم أهل الجرح فيسقط حديث من وجب منهم أن يسقط حديثه ولا يعبأ به ولا يعمل عليه، ويكتب حديث من وجب كتب حديثه منهم على معنى الاعتبار، ومن حديث بعضهم الآداب الجميلة والمواعظ الحسنة والرقائق والترغيب والترهيب هذا أو نحوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 طبقات الرواة: ثم احتيج إلى تبيين طبقاتهم ومقادير حالاتهم وتباين درجاتهم ليعرف من كان منهم في منزلة الانتقاد والجهبذة والتنقيب والبحث عن الرجال والمعرفة بهم - وهؤلاء هم أهل التزكية والتعديل والجرح. ويعرف من كان منهم عدلا في نفسه من أهل الثبت في الحديث والحفظ له والإتقان فيه - فهؤلاء هم أهل العدالة. ومنهم الصدوق فى روايته الورع فى دينه الثبت الذى يهم أحياناً وقد قبله الجهابذة النقاد ـ فهذا يحتج بحديثه أيضاً. ومنهم الصدوق الورع المغفل الغالب عليه الوهم والخطأ والسهو والغلط – فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب، ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام. ومنهم من قد ألصق نفسه بهم ودلسها بينهم ـ ممن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال منهم الكذب، فهذا يترك حديثه ويطرح روايته ويسقط ولا يشتغل به. وبعد هذا تحدث ابن أبى حاتم عن الصحابة الكرام فقال (ص 7: 8) الصحابة: فأما أصحاب رسول الله فهم الذين شهدوا الوحى والتنزيل وعرفوا التفسير والتأويل. وهم الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه، فرضيهم له صحابة وجعلهم لنا أعلاما وقدوة، فحفظوا عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما بلغهم عن الله عز وجل وما سن وشرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدب، ووعوه وأتقنوه، ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده - بمعاينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله وتلقفهم منه واستنباطهم عنه، فشرفهم الله عز وجل بما من عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة، فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز، وسماهم عدول الأمة فقال عز ذكره في محكم كتابه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 عَلَى النَّاسِ} ففسر النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الله عز ذكره قوله " وسطا " قال: عدلا. فكانوا عدول الأمة، وأئمة الهدى وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة. وندب الله عز وجل إلى التمسك بهديهم والجرى على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم فقال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية (1) . ووجدنا النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حض على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدناه يخاطب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال: نضر الله امرأ سمع مقالتى فحفظها ووعاها حتى يبلغها غيره. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبته: فليبلغ الشاهد منكم الغائب. وقال: بلغوا عنى ولو آية وحدثوا عنى ولا حرج. ثم تفرقت الصحابة رضى الله عنهم في النواحى والأمصار والثغور وفي فتوح البلدان والمغازى والإمارة والقضاء والأحكام، فبث كل واحد منهم في ناحيته وبالبلد الذى هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحكموا بحكم الله عز وجل، وأمضوا الأمور على ما سن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأفتوا فيما سئلوا عنه مما حضرهم من جواب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نظائرها من المسائل، وجردوا أنفسهم مع تقدمة حسن النية والقربة إلى الله تقدس اسمه لتعليم الناس الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام حتى قبضهم الله عز وجل رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين. وبعد الصحابة قال عن التابعين (ص 8: 9) . التابعون: فخلف بعدهم التابعون الذين اختارهم الله عز وجل لإقامة دينه وخصهم بحفظ فرائضه وحدوده وأمره ونهيه وأحكامه وسنن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآثاره،   (1) التلاوة {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} النساء: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 فحفظوا عن صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما نشروه وبثوه من الأحكام والسنن والآثار وسائر ما وصفنا الصحابة به رضى الله عنهم، فأتقنوه وعلموه وفقهوا فيه فكانوا من الإسلام والدين ومراعاة أمر الله عز وجل ونهيه بحيث وضعهم الله عز وجل، ونصبهم له إذ يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} " الآية " حدثنا عبد الرحمن محمد بن يحيى، أنا العباس بن الوليد الترسى، نايزيد بن زريع، ثنا سعيد، عن قتادة قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} التابعين. فصاروا برضوان الله عز وجل لهم وجميل ما أثنى عليهم بالمنزلة التي نزههم الله بها عن أن يلحقهم مغمز، أو تدركهم وصمة، لتيقظهم وتحرزهم وتثبتهم، ولأنهم البررة الأتقياء الذين ندبهم الله عز وجل لإثبات دينه وإقامة سنته وسبله، فلم يكن لاشتغالنا بالتمييز بينهم معنى، إذ كنا لا نجد منهم إلا إماما مبرزا مقدما في الفضل والعلم ووعى السنن وإثباتها ولزوم الطريقة واحتبائها، رحمة الله ومغفرته عليهم أجمعين - إلا ما كان ممن ألحق نفسه بهم ودلسها بينهم ممن ليس يلحقهم، ولا هو في مثل حالهم: لا في فقه ولا علم ولا حفظ ولا إتقان، ولا ثبت ممن ذكرنا حالهم وأوصافهم ومعانيهم في مواضع من كتابنا هذا، فاكتفينا بها وبشرحها في الأبواب مستغنية عن إعادة ذكرها مجملة أو مفسرة في هذا المكان. وفى ص 9، 10 جاء الحديث عن أتباع التابعين ومراتبهم: أتباع التابعين: ثم خلفهم تابعو التابعين وهم خلف الأخيار وأعلام الأمصار في دين الله عز وجل، ونقل سنن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحفظه وإتقانه، والعلماء بالحلال والحرام، والفقهاء في أحكام الله عز وجل وفروضه وأمره ونهيه، فكانوا على مراتب أربع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 مراتب الرواة: فمنهم الثبت الحافظ الورع المتقن الجهبذ الناقد للحديث - فهذا الذى لا يختلف فيه ويعتمد على جرحه وتعديله، ويحتج بحديثه وكلامه في الرجال. ومنهم العدل في نفسه، الثبت في روايته، الصدوق في نقله، الورع في دينه، الحافظ لحديثه المتقن فيه، فذلك العدل الذى يحتج بحديثه، ويوثق في نفسه. ومنهم الصدوق الورع الثبت الذى يهم أحيانا وقد قبله الجهابذة النقاد - فهذا يحتج بحديثه. ومنهم الصدوق الورع المغفل، الغالب عليه الوهم والخطأ والغلط والسهو - فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام. وخامس قد ألصق نفسه بهم ودلسها بينهم ممن ليس من أهل الصدق والأمانة، ومن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال أولى المعرفة منهم الكذب -– فهذا يترك حديثه ويطرح روايته. انتهى المنقول من كلام ابن أبى حاتم. وننتقل بعد هذا إلى كتب علوم الحديث: وأولها المحدث الفاصل للرامهرمزى المتوفى سنة 360هـ. ومما جاء في موضوعنا ما أثبته تحت عنوان: " القول فيمن يستحق الأخذ عنه " بدأه بما يبين رأى الإمام مالك حيث قال: القول فيمن يستحق الأخذ عنه: حدثنا عبد الله بن الصقر السكرى، ثنا إبراهيم بن المنذر الجزامى، ثنا ... معن - وقال مرة محمد بن صدقة الفدكى أحدهما أو كلاهما - قال: سمعت مالك بن أنس يقول: لا يؤخذ العلم عن أربعة، ويؤخذ ممن سوى ذلك: لا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من سفيه معلن بالسفه وإن كان من أروى الناس، ولا من رجل يكذب في أحاديث الناس وإن كنت لا تتهمه أن يكذب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث. قال الحزامىّ: فذكرت ذلك لمطرف بن عبد الله فقال: ما أدرى ما تقول، غير أنى أشهد لسمعت مالكا يقول: أدركت ببلدنا هذا - يعنى المدينة - مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة، يحدثون، فما كتبت عن أحد منهم حديثا قط. قلت: لم يا عبد الله؟ قال: لأنهم لم يكونوا يعرفون ما يحدثون. قال: وقال مالك: كنا نزدحم على باب ابن شهاب (ص 403: 404) . وانتقل المؤلف بعد هذا إلى الإمام الشافعى، حيث نقل عنه ما ذكرته من قبل، ثم قال: قال الشافعى: وكان ابن سيرين والنخعى وغير واحد من التابعين يذهبون إلى ألا يقبلوا الحديث إلا عن من عرف. قال الشافعى: وما لقيت أحدا من أهل العلم يخالف هذا المذهب (ص 405) . وجاء بعد هذا بآراء آخرين غير مالك والشافعى. وبعد الرامهرمزى يأتى كتاب علوم الحديث للحاكم المعروف بتشيعه، ولكنه لم يكن رافضيا، ولذلك أترك النقل منه هنا وأبقيه عند الحديث عن الجرح والتعديل عند الشيعة الاثنى عشرية ليتضح الفرق بين الشيعة والرافضة. ومن الكتب المتقدمة فى علوم الحديث الكفاية في علم الرواية، لأبى بكر أحمد بن على بن ثابت، المعروف بالخطيب البغدادى، والمتوفى سنة 463 هـ. وتحدث عن الرواية عن أهل الأهواء والبدع فقال (ص 125) : والذى يعتمد عليه في تجويز الاحتجاج بأخبارهم اشتهر من قبول الصحابة أخبار الخوارج وشهاداتهم ومن جرى مجراهم من الفساق بالتأويل، ثم استمرار عمل التابعين والخالفين بعدهم على ذلك لما رأوا من تحريهم الصدق وتعظيمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 الكذب، وحفظهم أنفسهم عن المحظورات من الأفعال، وإنكارهم على أهل الريب والطرائق المذمومة، ورواياتهم الأحاديث التي تخالف آراءهم ويتعلق بها مخالفوهم في الاحتجاج عليهم، فاحتجوا برواية عمران بن حطان وهو من الخوارج، وعمرو بن دينار، وكان ممن يذهب إلى القدر والتشيع وكان عكرمة إباضياً، وابن أبى نجيح وكان معتزليا، وعبد الوارث بن سعيد وشبل بن عياد، وسيف بن سليمان، وهشام الدستوائى، وسعيد بن أبى عروبة وسلام بن مسكين، وكانوا قدرية وعلقمة بن مرثد، وعمرو بن مرة، ومسعر بن كدام، وكانوا مرجئة، وعبيد الله بن موسى وخالد بن مخلد، وعبد الرزاق بن همام وكانوا يذهبون إلى التشيع، في خلق كثير يتسع ذكرهم، دوّن أهل العلم قديما وحديثاً رواياتهم واحتجوا بأخبارهم فصار ذلك كالإجماع منهم، وهو أكبر الحجج في هذا الباب وبه يقوى الظن في مقاربة الصواب. باب ذكر بعض المنقول عن أئمة أصحاب الحديث في جواز الرواية عن أهل الأهواء والبدع قد اسلفنا الحكاية عن أبى عبد الله الشافعى في جواز قبول شهادة أهل الأهواء غير صنف من الرافضة خاصة، ويحكى نحو ذلك عن أبى حنيفة إمام أصحاب الرأى وأبى يوسف القاضى. وبعد هذا ذكر عدة روايات منها: بسنده عن حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعى يقول: لم أر أحدا من أهل الأهواء أشهد بالزور من الرافضة (ص: 126) . وعن أبى يوسف قال: أجيز شهادة أهل الأهواء أهل الصدق منهم إلا الخطابية والقدرية الذين يقولون أن الله لا يعلم الشئ حتى يكون. وعن ابن المبارك قال: سأل أبو عصمة أبا حنيفة: ممن تأمرنى أن أسمع الآثار؟ قال: من كل عدل في هواه إلا الشيعة، فإن أصل عقيدتهم تضليل أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن أتى السلطان طائعا، أما إنى لا أقول إنهم يكذبونهم أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 يأمرونهم بما لا ينبغى ولكن وطأوا لهم حتى انقادت العامة بهم. فهذان لا ينبغى أن يكونا من أئمة المسلمين (ص: 126) . وعن عبد الرحمن بن مهدى قال: من رأى رأيا ولم يدع إليه احتمل، ومن رأى رأيا ودعا إليه فقد استحق الترك (ص: 127) . وقيل لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله سمعت من أبى قطن القدرى؟ قال: لم أره داعية، ولو كان داعية لم اسمع منه. قلت ـ أى الخطيب البغدادى: إنما منعوا أن يكتب عن الدعاة خوفا أن تحملهم الدعوة إلى البدعة والترغيب فيها على وضع ما يحسنها كما حكينا في الباب الذى قبل هذا عن الخارجى التائب قوله: كنا إذا هوينا أمرا صيرناه حديثا (ص: 128) . وعن أبى داود قال: ليس في أصحاب الأهواء أصح حديثا من الخوارج، ثم ذكر عمران بن حطان، وأبا حسان الأعرج (ص: 130) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 الفصل السادس: حوار الإمام الشافعي لفرقة ضلت إذا كان السلف الصالح متمسكاً بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمسكهم بكتاب الله العزيز، فإن فرقة شذت في عصر الإمام الشافعى فردت سنة رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورأت أنها لا تقوم على الكتاب الذى أنزله الله تبياناً لكل شئ. وأشار الإمام الشافعى إلى هذه الفرقة، وذكر حواره مع واحد منها في كتاب جماع العلم في الجزء السابع من كتابة الأم. وقد بدأ الإمام كتاب جماع العلم بقوله: لم أسمع أحداً نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتسليم لحكمه، بأن الله عز وجل لم يجعل لمن بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن سواهما تبع لهما، وأن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحد، لا يختلف في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله تعالى. ثم قال رحمه الله وجزاه خيراً: باب حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها قال الشافعى رحمه الله تعالى: قال لى قائل يُنسب إلى العلم بمذهب أصحابه ... .. وذكر الشافعى قوله بأن القرآن نزل تبياناً لكل شىء، بلسان عربى مبين، وأن الأحاديث تعتمد على من يجوز عليهم الكذب، والخطأ، والنسيان، والغلط. فبين الإمام أن السنة وحى، لا يمكن الاستغناء عنها؛ فلا يستقيم أمر الدين بغيرها، ولا نعرف أحكام العبادات والمعاملات وغيرها إلا بها. وأنه يحتاط فى قبولها أكثر مما يحتاط فى قبول الأقوال التى تستباح بها الدماء والأموال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 والأعراض. واستمر الإمام فى حواره الممتع المقنع حتى اهتدى ذاك الضال. وهذا الحوار نقلته تاماً فى بحث " السنة بيان الله على لسان رسوله " وهو ملحق بهذا الجزء، ولذلك أكتفى به، وأحيل عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 الفصل السابع: بعد الإمام الشافعى هذا هو حوار الإمام الشافعى الذى هدى من حاوره بعد ضلال، ولكن هداية هذا الرجل لا تعنى عدم ضلال الطائفة. ويأتى القرن الثالث، الذى توفى الإمام الشافعى في العام الرابع من بدايته، ليكون العصر الذهبى لجمع السنة وتنقيتها وتدوينها، حيث دون مسند الإمام أحمد، والصحيحان، وكتب السنن الأربعة، وغيرها من الكتب الآخرى: كسنن سعيد بن منصور، والدارمى، ومسانيد إسحاق بن راهويه، وبقى بن مخلد، والبزار، وأبى يعلى. غير أن ذاك القرن ضم أيضاً من حاول هدم السنة المطهرة. ننظر مثلا إلى كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ. فنراه جعل كتابه في الرد على أعداء أهل الحديث، والجمع بين الأخبار التي ادعوا عليها التناقض والاختلاف، والجواب عما أوردوه من الشبه على بعض الأخبار المتشابهة أو المشكلة بادئ الرأى. ولا يكتفى ابن قتيبة بالرد على الشبه، وبيان سوء فهم من أثاروا تلك الشبه، وإنما يتحدث عن الأشخاص أنفسهم الذين أثاروها حتى يعرف القارئ سبب عدائهم لأهل الحديث. فيذكر منهم النظام ويقول: وجدنا النظام شاطرا من الشطار، يغدو على سكر، ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها، ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات ... إلخ وذكر أن النظام خرج على إجماع الأمة، وطعن في أبى بكر وعمر وعلى وابن مسعود وأبى هريرة، ثم عقب ابن قتيبة بعد هذا بقوله: هذا هو قوله- أى ... النظام - في جلة أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورضى عنهم، كأنه لم يسمع بقول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 عز وجل في كتابه الكريم " محمد رسول الله والذين معه " إلى آخر السورة، ولم يسمع بقول الله عز وجل في كتابه الكريم " محمد رسول الله والذين معه " إلى آخر السورة، ولم يسمع بقوله تعالى {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ [ (1) . وبعد حديثه عن النظام، ورده عليه يقول: ثم نصير إلى قول أبى هذيل العلاف فنجده كذابا أفاكا ... إلخ وهكذا استمر ابن قتيبة في كتابه. وكان أسوأ وأشد خطرا من هؤلاء الذين تحدث عنهم الرافضة الذين اتخذوا لأنفسهم سنة خاصة تختلف عن مفهوم السنة عند الأمة، فأشركوا مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العصمة ووجوب الاتباع أشخاصاً اعتبروهم أئمة طائفتهم، ووضعوا الأخبار في ظلمات هذا المفهوم، وفى ظلماته أيضاً كتبوا في الجرح والتعديل. شهد القرن الثالث ثلاثة من كتب التفسيرهي تفاسير العسكرى والقمى والعياشى التي تحدثنا عنها من قبل في الجزء الثانى، وبالرجوع إليها وجدنا أنها تطعن في خير الناس: صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رضى الله عنهم ورضوا عنه، وتذكر أن القرآن الكريم حرف نصا ومعنى، وجاء الطعن والقول بالتحريف في روايات مفتريات اعتبروها صحيحة بمقياسهم. وألف كتاب رابع وهو الكافى للكلينى تلميذ القمى، واعتبر هذا الكتاب الكتاب الأول في الحديث عندهم، وعندما قرأته وجدت صاحبه قد ضل ضلالاً بعيداً، ووضع من المفتريات ما لايستطيع أن يتصوره أى مسلم، وسيأتى الحديث عنه بالتفصيل. وعندما رجعت لكتب الجرح والتعديل عندهم وجدت آثار هذه الظلمات: فصاحب الكتاب الرابع ثقة الإسلام! وشيخه ليس ثقة فحسب، بل كل من وثقهم   (1) راجع حديثه عن النظام، ومناقشته له في ص 17: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 وروى عنهم فهم ثقات، ولا يعتبر الحديث صحيحا إلا إذا كان الرواة كلهم جميعا من طائفتهم، والجرح عندهم سيئ للغاية، وسيتضح هذا جليا في الفصول التالية. ***** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 الفصل الثامن: في عصر السيوطي وفى هذه العجالة التي لاتهدف إلى الحصر والاستقصاء، ننتقل من القرن الثالث إلى القرن التاسع، فنرى الإمام السيوطى يؤلف كتابا تحت عنوان " مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة "، وبين سبب تأليف كتابه فقال: اعلموا - يرحمكم الله - أن من العلم كهيئة الدواء، ومن الأراء كهيئة الخلاء، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة، وإن مما فاح ريحه في هذا الزمان وكان دارساً - بحمد الله تعالى - منذ أزمان، وهو أن قائلا رافضيا زنديقا أكثر في كلامه أن السنة النبوية والأحاديث المروية - زادها الله علواً وشرفاً - لا يحتج بها، وأن الحجة في القرآن خاصة، وأورد على ذلك حديث " وما جاءكم عنى من حديث فاعرضوه على القرآن، فإن وجدتم له أصلاً فخذوا به وإلا فردوه " (1)   (1) ذكر الإمام الشافعى في رسالته، تحت باب العلل في الأحاديث، قول قائل: أفتجد: حجة على من روى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما جاءكم عنى فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فلم أقله "؟ وأجاب: " فقلت له: ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغر ولا كبر، فيقال لنا: قد ثبتم حديث من روى هذا فى شئ " (الرسالة: 224 ـ 225) . وقال السخاوى في تخريج الحديث: قال الدار قطنى: إن أشعث تفرد به. انتهى. وهو شديد الضعف، والحديث منكر جداً، استنكره العقيلى وقال: إنه ليس له إسناد يصح. (المقاصد الحسنة 1 / 36) . وذكر العجلونى قول السخاوى، وقال: قال الصغائى: هو موضوع (انظر كشف الخفاء 1 / 86) . وقال ابن حزم في رواية لحديث عرض السنة على القرآن: رواه الحسين بن عبد الله، وهو ساقط متهم بالزندقة (الأحكام: المجلد الأول ص 250) . وفى رواية أخرى رواها أشعث قال: أشعث بن بزار كذاب ساقط لا يؤخذ حديثه (252) وتتبع الروايات المختلفة للحديث، = = وبين سبب رفضه لها، ثم قال: أول ما نعرض على القرآن الحديث الذى ذكرتموه، فلما عرضناه وجدنا القرآن يخالفه، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} ، وقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} ، وقال تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيما} . ونسأل قائل هذا القول الفاسد: في أى قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات؟ وأن المغرب ثلاث ركعات؟ إلخ ص (252 ـ 253) ، ثم قال ابن حزم " ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر، لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الأمة على كفرهم ". (ص 253 ـ 254 من الإحكام المجلد الأول) . وقال الشيخ شاكر في تخريج الحديث: هذا المعنى لم يرد فيه صحيح ولا حسن، بل وردت فيه ألفاظ كثيرة، كلها موضوع أو بالغ الغاية في الضعف حتى لايصلح شئ منها للاحتجاج أو الاستشهاد. ثم أفاض في بيانه - انظر حاشية ص 224 - 225 من الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 هكذا سمعت الكلام بجملته منه، وسمعه منه خلائق غيرى، فمنهم من لايلقى لذلك بالاً، ومنهم من لايعرف أصل هذا الكلام، ولا من أين جاء، فأردت أن أوضح للناس أصل ذلك، وأبين بطلانه، وأنه من أعظم المهالك. فاعلموا - رحمكم الله - أن من أنكر حديث النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قولا كان أو فعلاً بشرطه المعروف في الأصول - حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى، أو مع من يشاء الله من فرق الكفرة. روى الإمام الشافعى - رضى الله عنه - يوما حديثا، وقال أنه صحيح، فقال له قائل: أتقول به يا أبا عبد الله؟ فاضطرب وقال: يا هذا! أرأيتنى خارجا من كنيسة؟ أرأيت في وسطى زنارا؟ أروى حديثا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... ولا أقول به؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 وأصل هذا الرأى الفاسد أن الزنادقة وطائفة من الرافضة ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن، وهم في ذلك مختلفو المقاصد، فمنهم من كان يعتقد أن النبوة لعلى، وأن جبريل - رضي الله عنه - أخطأ في نزوله إلى سيد المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً، ومنهم من أقر للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنبوة، ولكن قال: إن الخلافة كانت حقا لعلى ... إلخ. ثم قال السيوطى بعد ذلك: وهذه آراء ما كنت استحل حكايتها، لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد الذى كان الناس في راحة منه من أعصار. وقد كان أهل هذا الرأى موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة فمن بعدهم، وتصدى الأئمة الأربعة وأصحابهم في دروسهم ومناظراتهم للرد عليهم، وسأسوق إن شاء الله جملة من ذلك والله الموفق (1) . والكتاب طبع في ستين ومائة صفحة، فارجع إليه. تعقيب قد يقال: كيف ذكر السيوطى أن الرافضة تنكر الاحتجاج بالسنة وعندها أربعة كتب معتمدة في السنة؟ والجواب أن الرافضة أرادوا هدم السنة المشرفة التي بين أيدى المسلمين حتى لا يبقى إلا كتبهم التي يتداولونها فيما بينهم والتي وضعت لتأييد عقيدتهم الباطلة كما سيتضح من دراستها، والله تعالى أعلم.   (1) انظر الكتاب المذكور: ص 11 - 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 الفصل التاسع: الطاعنون في العصر الحديث وننتقل بعد هذا إلى عصرنا الحديث، حيث زات الطامة، وكثر الطاعنون، وهم أصناف: فمنهم بقايا الفرق، وأشرت إلى بعض آنفًا، وهم لا يكتفون بما فى كتب من ضلال، ولكنهم من وقت لآخر يثيرون ما يريدون به هدم السنة: كالطعن في صحابى جليل راوية، أو راو أجمعت الأمة على توثيقه، أو كتاب صحيح تلقته الأمة بالقبول ... إلخ. والرافضة أكثرها طعنًا، وجرأة على الله تعالى، وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فمنهم من يطعن لجهله ما يتصل بالسنة، فيتشكك ويشكك فى ثبوتها، وهو لا يدرى أن البشرية كلها فى تاريخها الطويل لم تعرف علما نقل من جيل إلى جيل بالدقة التي نقل بها حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو رجع إلى كتب مصطلح الحديث، وعلم الرجال، وشروح السنة، لاستراح وأراح. ومنهم من دفعه هذا الجهل إلى القول بأن القرآن الكريم وحده يكفى، مستدلاًّ بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} . وهذا جهل بالكتاب والسنة معًا، ووقوع فيما حذر منه الله عز وجل، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وردة إلى قول الطائفة التي ذكرها الإمام الشافعى. ولو أن هؤلاء قرءوا حوار الشافعى، وتدبروا ما ذكرنا من آيات كريمة، وأحاديث شريفة، لأدركوا مدى ضلالهم وبعدهم عن سواء السبيل، والعجيب أن هؤلاء أسموا أنفسهم بالقرآنيين، والقرآن نفسه يشهد على بطلان دعواهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 ومنهم من جعل عقله حكما لرفض أحاديث صحت سندا ومتنا، بل في أرقى مراتب الصحاح، كالأحاديث الثابتة المتعلقة بالغيبيات مثل الجنة والنار، وعلامات الساعة، والملائكة والجن. ومن المعلوم أن النقل الصحيح لا يتعارض مع العقل السليم، ولكن كيف نقيس الغائب على الشاهد، وكيف نحكم العقل في أمور لا نعرف شيئا عنها إلا بالنقل الصحيح؟ فمتى ثبت النقل لزم التسليم. أحيانا ترى جاهلا مغروراً يقف أمام حديث متفق عليه ويقول: هذا مرفوض عقلا! وكان عليه أن يسأل نفسه: أكان البخارى ومسلم وأحمد وغيرهم بلا عقول؟ بل أعاشت الأمة أربعة عشر قرناً بغير عقل حتى جاء بعقله ليستدرك عليها؟ ومن أسوأ الطاعنين في عصرنا المستشرقون، وأشد منهم خطراً تلامذتهم المقلدون التابعون لهم: والمستشرقون طعنوا في القرآن الكريم نفسه كما أشرت من قبل، أما السنة فقد أنكروا وجود سنة يتصل سندها إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا بأن أقصى اتصال الأسانيد ينقطع ويتوقف عند نهاية القرن الأول. ومعنى ذلك أن السنة بحسب زعمهم تعتبر اختراعاً من اختراعات المسلمين المتأخرين، أرادوا أن يثبتوا أحكاما فنسبوها للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم لم ينسوا أن يطعنوا فيمن كان لهم دور كبير في السنة، فمثلا طعنوا في أبى هريرة الصحابى الجليل رضى الله عنه، الذى روى عنه أكثر من ثمانمائة من الصحابة والتابعين، وهو كما قال الشافعى " أثبت من روى الحديث فى دهره ". وطعنوا في ابن شهاب الزهرى، الإمام الحجة الثبت، أول من استجاب لعمر بن عبد العزيز في جمع السنة ... وهكذا. ثم ظهر اتجاه آخر عندهم، اعتبره بعضهم هدما للفكر الاستشراقى، ولذلك ثاروا على القائلين به، مع أنه في النهاية يصل إلى البهتان نفسه. ويقوم هذا الاتجاه الخبيث على الاعتراف أولا بأن السنة لها أصل، وذلك حتى يضلل جهلة المسلمين بالتظاهر بأنه لا ينكر وجود أصل للسنة، ولكن بعد هذا الاعتراف تأتى محاولة الهدم، فيقولون: إن المدارس الإسلامية الأولى لم تستطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 أن تحدد ما يعتبر من أقوال محمد وما لا يعتبر من أقواله، لأن السند لم يكن معروفا عندهم، فكانت كلمة سنة تعنى الرأى المقبول لدى جمهور علماء المدرسة، ثم نسبوا هذه الأقوال المقبولة لدى المدرسة إلى الصحابة حتى تكون أكثر قبولا، ثم نسبوها بعد ذلك إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) . ومعنى هذا أنهم يريدون أن يصلوا في النهاية إلى التشكيك في السنة كلها. هؤلاء القوم لا يعرفون الإسناد، فكتبهم المقدسة ذاتها بغير إسناد، ولذلك فهى محرفة مزورة، ولكن لا شك أنهم قرءوا عن جمع السنة وتنقيتها، وشروط رجال الحديث، وعرفوا أن الأمة الإسلامية فاقت الخلق جميعا بهذا الإسناد، ولكن ماذا تنتظر من مستشرق يهودى أو صليبى حاقد على الإسلام وأهله، مريد هدمه ما استطاع إلى ذلك سبيلاّ؟ فلا تنتظر من أعداء الإسلام إلا مثل هذه المحاولات. وإن كنا مطمئنين تماما إلى أنهم لن يصلوا إلى ما يريدون، فالله عز وجل لم يترك حفظ القرآن الكريم كما ترك غيره للأحبار والرهبان فضيعوه، وإنما تعهد بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، كما تعهد ببيانه {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، ومن تمام حفظ القرآن الكريم حفظ السنة المطهرة، وهى المبينة له.   (1) بين هذا الاتجاه مفصلا الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا في إحدى محاضرات رئاسة المحاكم الشرعية بدولة قطر لعام 1405 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 الفصل العاشر: أبو هريرة رضى الله تعالي عنه في عصرنا وجدنا المستشرقين من الصليبيين والصهيونيين، ومعهم العلمانيون والرافضة، يجترءون على راوية الإسلام الأول سيدنا أبى هريرة - رضى الله تعالى عنه وأرضاه. وهؤلاء جميعا ليس بينهم وبين الصحابى الجليل عداء خاص، وإنما العداء للسنة المشرفة التى كان الصحابى الجليل أحفظ من رواها في دهره كما قال الإمام الشافعى، والعداء للإسلام نفسه، فلا يقوم بغير السنة المطهرة وفى المؤتمر الثانى لجمعية إحياء التراث الإسلامى الذى عقد بالكويت في شوال سنة 1405، وخصص للسنة المطهرة، ألقيت محاضرة عن منزلة السنة وشبهات حول الحديث، وبعد المحاضرة ظهر أثر حملات التشكيك في أسئلة الحاضرين، وظهرت الحيرة فيما يتصل بهذا الصحابى الجليل. ولا أستطيع هنا أن أقدم ترجمة له، فسيرته العطرة أفردها أكثر من عالم في كتاب أو أكثر، ويكفى ذكر بعض الحقائق من باب الذكرى، فإنها تنفع المؤمنين، حتى يعرف القارئ الكريم من قال فيهم الإمام ابن خزيمة " إنما يتكلم في أبى هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معانى الأخبار ". وما أريد أن أثبته هنا كتبته في بحث " السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وهذا البحث نشر في مجلة مركز السيرة والسنة بجامعة قطر، ثم رأيت أن ألحقه بهذا الجزء الثالث، وبذلك يمكن الرجوع إليه، ولا حاجة للتكرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 القسم الثاني: الحديث وعلومه وكتبه عند الشيعة الفصل الأول: التدوين عند الشيعة تحدثنا من قبل عن تدوين السنة المطهرة، وأثبتنا أن التدوين بدأ في حياة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم تتابع التدوين بعد ذلك وظل متصلا دون توقف حتى جاء ما عرف بعصر التدوين في القرن الثانى الهجرى. وكتب السنة التي بين أيدينا يرجع بعضها إلى القرن الأول الهجرى، ووصلنا الكثير مما دون في القرن الثانى، أما القرن الثالث فيعتبر العصر الذهبى لتدوين السنة المشرفة. والفرق التي ظهرت في تاريخ الإسلام، ولها عقائد خاصة بها، لم تظهر كتبها إلا بعد استقرار عقائدها، ووضوحها لدى معتنقيها. وهذا أمر بدِهى، أن الكتب إنما توضع لتأييد هذه العقائد، والدعوة لها، فلابد أن تسبق العقائد هذه الكتب. بل إن هناك مرحلة تلى العقائد وتسبق الكتب، وهى وضع الأخبار وتناقلها والاحتجاج بها قبل أن تجمع في كتاب، وقبل أن يوضع كتاب مرة واحدة. فبالنسبة للشيعة مثلا وجدنا بعد موت كل إمام حدوث تفرق جديد، فكانت كل فرقة تحتج بأخبار تؤيد ما انتهت إليه في تلك المرحلة، إلى أن تصل إلى الإمام الأخير الذى تستقر عنده آراؤها، وما كانت أى فرقة لتضع أخباراً في إمام إلا بعد ولادته، لأنها لا تعلم الغيب في واقع الأمر، وإن زعم منها من زعم أنه يعلم مثل هذا العلم. وللبيان أثبت بعض ما جاء في كتاب من كتب الشيعة أنفسهم، وهو كتاب فرق الشيعة للحسن بن موسى النوبختى، وسعد بن عبد الله القمى، والاثنان عاشا في القرن الثالث، وأدركا بداية القرن الرابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 يبين الكتاب تفرق الشيعة بعد موت الإمام جعفر الصادق، ومما جاء فيه: لما توفى أبو عبد الله بن محمد، افترقت بعده شيعته ست فرق وكانت وفاته بالمدينة في شوال سنة ثمان وأربعين ومائة، وهو ابن خمس وستين سنة، وكان مولده في سنة ثلاث وثمانين، ودفن في القبر الذى دفن فيه أبوه وجده في البقيع، وكانت إمامته أربعا وثلاثين سنة إلا شهرين، وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبى بكر بن قحافة. ففرقة منها قالت: إن جعفر بن محمد حى لم يمت، ولا يموت حتى يظهر ويلى أمر الناس، وهو القائم المهدى، وزعموا أنهم رووا عنه أنه قال: إن رأيتم رأسى قد أهوى عليكم من جبل فلا تصدقوا فإننى أنا صاحبكم، وأنه قال لهم: إن جاءكم من يخبركم عنى أنه مرضنى وغسلنى وكفننى ودفننى فلا تصدقوه، فإنى صاحبكم، صاحب السيف، وهذه الفرقة تسمى الناووسية، وسميت بذلك لرئيس لهم من أهل البصرة يقال له فلان بن فلان الناووس. وفرقة زعمت: أن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل بن جعفر، وأنكرت موت إسماعيل في حياة أبيه، وقالوا: كان ذلك على جهة التلبيس من أبيه على الناس، لأنه خاف فغيبه عنهم، وزعموا: أن إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض، ويقوم بأمور الناس، وأنه هو القائم لأن أباه أشار إليه بالإمامة بعده، وقلدهم ذلك له، وأخبرهم أنه صاحبهم والإمام لا يقول إلا الحق، فلما أظهر موته علمنا أنه قد صدق، وأنه القائم لم يمت. وهذه الفرقة هي الإسماعيلية الخالصة. وأم إسماعيل وعبد الله ابنى جعفر بن محمد هي فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن على بن أبى طالب. وأمها أسماء بنت عقيل بن أبى طالب. وفرقة ثالثة زعمت: أن الإمام بعد جعفر هو ابنه محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأمه أم ولد، وقالوا إن الأمر كان لإسماعيل في حياة أبيه، فلما توفى قبل أبيه جعل جعفر بن محمد الأمر لمحمد بن إسماعيل، وكان الحق له، ولا يجوز غير ذلك لأن الإمامة لا تنتقل من أخ إلى أخ بعد الحسن والحسين، ولا تكون إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 في الأعقاب، ولم يكن لأخوى إسماعيل عبد الله وموسى في الإمامة حق، كما لم يكن لمحمد بن الحنفية فيها حق مع على بن الحسين. وأصحاب هذه المقالة يسمون المباركية، برئيس لهم كان يسمى المبارك مولى إسماعيل بن جعفر. فأما الإسماعيلية الخالصة فهم الخطابية أصحاب أبى الخطاب محمد بن أبى زينب الأسدى الأجدع. وقد دخلت منهم فرقة في فرقة محمد بن إسماعيل، وأقروا بموت إسماعيل بن جعفر في حياة أبيه، وهم الذين خرجوا في حياة أبى عبد الله جعفر بن محمد فحاربوا عيسى بن موسى بن محمد بن عبد الله بن العباس، وكان عاملا على الكوفة، فبلغه عنهم أنهم أظهروا الإباحات، ودعوا إلى نبوة " أبى الخطاب "، وأنهم مجتمعون في مسجد الكوفة قد لزموا الأساطين يرون الناس أنهم لزموها للعبادة، فبعث إليهم رجلا من أصحابه في خيل ورجال ليأخذهم ويأتيه بهم، فامتنعوا عليه وحاربوه، وكانوا سبعين رجلاً، فقتلهم جميعاً فلم يفلت منهم إلا رجل واحد أصابته جراحات فسقط بين القتلى فعد فيهم، فلما جن الليل خرج من بينهم فتخلص، وهو أبو سلمة سالم بن مكرم الجمال الملقب بأبى خديجة. وذكر بعد ذلك أنه قد تاب ورجع، وكان ممن يروى الحديث، فحارب عيسى محاربة شديدة بالحجارة والقصب والسكاكين التي كانت مع أتباعه، وجعلوا القصب مكان الرماح، وقد كان أبو الخطاب قال لهم: قاتلوهم فإن قصبكم يعمل فيهم عمل الرماح والسيوف، ورماحهم وسيوفهم وسلاحهم لايضركم ولا يعمل فيكم، ولا يحتك في أبدانكم، فجعل يقدمهم عشرة عشرة للمحاربة، فلما قتل منهم نحو ثلاثين رجلا، قالوا له ياسيدنا، ما ترى ما يحل بنا من القوم؟ وما ترى قصبنا لا يعمل فيهم ولا يؤثر، وقد يكسر كله، وقد عمل سلاحهم فينا وقتل من ترى منا؟ فذكر رواة العامة أنه قال لهم إن كان قد بدا لله فيكم فما ذنبى؟ وقال رواة الشيعة أنه قال لهم: يا قوم قد بليتم وامتحنتم، وأذن في قتلكم وشهادتكم، فقاتلوا على دينكم واحسابكم، ولا تعطوا بلدتكم فتذلوا مع أنكم لا تتخلصون من القتل، فموتوا كراما أعزاء واصبروا فقد وعد الله الصابرين أجراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 عظيما، وأنتم الصابرون. فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم، وأسر أبو الخطاب، فأتى به عيسى بن موسى، فأمر بقتله فضربت عنقه في دار الرزق على شاطئ الفرات وأمر بصلبه وصلب أصحابه فصلبوا، ثم أمر بعد مدة بإحراقهم فأحرقوا، وبعث برءوسهم إلى المنصور، فأمر بها فصلبت على باب مدينة بغداد ثلاثة أيام، ثم أحرقت. فلما فعل ذلك قال بعض أصحابه: إن أبا الخطاب لم يقتل، ولا قتل أحد من أصحابه، وإنما لبس على القوم وشبه عليهم، وإنما حاربوا بأمر أبى عبد الله جعفر ابن محمد، وخرجوا متفرقين من أبواب المسجد ولم يرهم أحد، ولم يجرح منهم أحد، وأقبل القوم يقتل بعضهم بعضا على أنهم يقتلون أصحاب أبى الخطاب، وإنما يقتلون أنفسهم، حتى جن عليهم الليل، فلما أصبحوا نظروا في القتلى فوجدوهم كلهم منهم، ولم يجدوا من أصحاب أبى طالب قتيلا ولا جريحا، ولا وجدوا منهم أحدا. وهذه الفرقة هي التي قالت: إن أبا الخطاب كان نبياً مرسلاً، أرسله جعفر بن محمد، ثم إنه صيره بعد ذلك حين حدث هذا الأمر من الملائكة - لعن الله من يقول هذا. ثم خرج بعد ذلك من قال بمقالته من أهل الكوفة وغيرهم إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بعد قتل أبى الخطاب، فقالوا بإمامته وأقاموا عليها. وصنوف الغالية افترقوا بعده على مقالات كثيرة، واختلفوا في رئاسات أصحابهم ومذاهبهم، حتى تراقى بعضهم إلى القول بربوبيته، وأن الروح التي صارت في آدم ومن بعده من أولى العزم من الرسل صارت فيه. وقالت فرقة منهم: إن روح جعفر بن محمد تحولت عن جعفر في أبى الخطاب، ثم تحولت بعد غيبة أبى الخطاب في محمد بن إسماعيل بن جعفر، ثم ساقوا الإمامة على هذه الصفة في ولد محمد بن إسماعيل. وتشعبت منهم فرقة من المباركية ممن قال بهذه المقالة، تسمى القرامطة، وإنما سميت بهذا برئيس لهم من أهل السواد من الأنباط كان يلقب بقرمطويه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 وكانوا في الأصل على مقالة المباركية ثم خالفوهم وقالوا لا يكون بعد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله إلا سبعة أئمة: على بن أبى طالب وهو إمام رسول، والحسن والحسين، وعلى بن الحسين، ومحمد بن على، وجعفر بن محمد، ومحمد بن إسماعيل بن جعفر وهو الإمام القائم المهدى، وهو رسول. وزعموا أن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله انقطعت عنه الرسالة في حياته في اليوم الذى أمر فيه بنصب على بن أبى طالب رضي الله عنه للناس بغدير خم، فصارت الرسالة في ذلك اليوم إلى أمير المؤمنين وفيه، واعتلوا في ذلك بخبر تأولوه، وهو قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله: من كنت مولاه فعلى مولاه، وأن هذا القول منه خروج من الرسالة والنبوة، وتسليم منه ذلك لعلى بن أبى طالب بأمر الله عز وجل، وأن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله بعد ذلك صار مأموما لعلى بن أبى طالب، محجوجا به، فلما مضى على رضي الله عنه صارت الإمامة في الحسن، ثم صارت من الحسن في الحسين، ثم صارت في على بن الحسين، ثم في محمد بن على، ثم كانت في جعفر بن محمد، ثم انقطعت عن جعفر في حياته فصارت في إسماعيل بن جعفر كما انقطعت الرسالة عن محمد صلى الله عليه وآله في حياته. ثم إن الله عز وجل بدا له في إمامة جعفر وإسماعيل فصيرها في محمد بن إسماعيل، واعتلوا في ذلك بخبر رووه عن جعفر بن محمد أنه قال: ما رأيت مثل بداء لله في إسماعيل، وزعموا أن محمد بن إسماعيل حى ... لم يمت وأنه غائب مستتر في بلاد الروم، وأنه القائم المهدى، ومعنى القائم عندهم أنه عندهم أنه يبعث بالرسالة، وبشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد صلى الله عليه وآله، وأن محمد بن إسماعيل من أولى العزم، وأولو العزم عندهم سبعة: " نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم، وعلى رضي الله عنه، ومحمد بن إسماعيل " على معنى أن السموات سبع، وأن الأرضين سبع، وأن الإنسان بدنه سبع: يداه ورجلاه، وظهره، وبطنه، وقلبه، وأن رأسه سبع: عيناه وأذناه، ومنخراه، وفمه وفيه لسانه وفمه بمنزلة ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 صدره الذى فيه قلبه، والأئمة سبع كذلك وقلبهم محمد بن إسماعيل، واعتلوا في نسخ شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله وتبديلها، بأخبار رووها عن أبى عبد الله جعفر بن محمد أنه قال: لو قام قائمنا علمتم القرآن جديداً " وأنه قال: إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء "، ونحو ذلك من أخبار القائم، وزعموا أن الله تبارك وتعالى جعل لمحمد بن إسماعيل جنة آدم، ومعناها عندهم الإباحة للمحارم وجميع ما خلق في الدنيا، وهو قول الله عز وجل {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} (البقرة: 35) يعنى محمد بن إسماعيل وأباه إسماعيل، {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} (البقرة: 35) أى موسى بن جعفر بن محمد، وولده من بعده، ومن ادعى منهم الإمامة، وزعموا أن محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيين الذى حكاه الله عز وجل في كتابه، وأن الدنيا اثنتا عشرة جزيرة في كل جزيرة حجة، وأن الحجج اثنا عشر، ولكل حجة داعية، ولكل داعية يد، يعنون بذلك أن اليد رجل له دلائل وبراهين يقيمها كدلائل الرسل، ويسمون الحجة الأب، والداعية الأم، واليد الابن يضاهئون قول النصارى في ثالث ثلاثة، أن الله الأب والمسيح الابن، وأمه مريم، فالحجة الأكبر هو الرب، وهو الأب، والداعية هي الأم، واليد هو ... الابن –- كذب العادلون بالله وضلوا ضلالا بعيداً، وخسروا خسرانا مبينا. وزعموا أن جميع الأشياء التي فرضها الله تعالى على عباده، وسنها نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله، وأمر بها ظاهر وباطن، وأن جميع ما استعبد الله به العباد في الظاهر من الكتاب والسنة، أمثال مضروبة، وتحتها معان هي بطونها، وعليها العمل، وفيها النجاة، وأن ما ظهر منها هي التي نهى عنها، وفى استعمالها الهلاك والشقاء وهى جزء من العقاب الأدنى، عذب الله بهم قوما، وأخذهم به ليشقوا بذلك، إذ لم يعرفوا الحق، ولم يقوموا به ولم يؤمنوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 وهذا أيضاً مذهب عامة أصحاب أبى الخطاب - ومع ذلك استحلوا استعراض الناس بالسيف وسفك دمائهم، وأخذ أموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك على مذهب البيهسية والأزارقة من الخوارج، في قتل أهل القبلة وأخذ أموالهم والشهادة عليهم بالكفر، واعتلوا في ذلك بقول الله تعالى عز وجل {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة: 5) قالوا: إن قتلهم يجب أن يكون بمنزلة نحر الهدى وتعظيم شعائر الله، وتأولوا في ذلك قول الله {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} (الحج: 32) . ورأوا سبى النساء وقتل الأطفال، واعتلوا في ذلك بقول الله تبارك وتعالى {لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح: 26) ، وزعموا أنه يجب عليهم أن يبدأوا بقتل من قال بالإمامة ممن ليس على قولهم، وخاصة من قال بإمامة " موسى بن جعفر " وولده من بعده، وتأولوا في ذلك قول الله تعالى {قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} (التوبة: 123) ، فالواجب أن يبدأوا بهؤلاء ثم بسائر الناس، وعددهم كثير إلا أنه لا شوكة لهم ولا قوة، وكانوا كلهم بسواد الكوفة واليمن أكثر، ونواحى البحر واليمامة وما والاها، ودخل فيهم كثير من العرب فقووا بهم وأظهروا أمرهم، ولعلهم أن يكونوا زهاء مائة ألف. وقالت الفرقة الرابعة من أصحاب أبى عبد الله جعفر بن محمد: إن الإمام بعد جعفر ابنه محمد، وأمه أم ولد يقال لها حميدة، وهو موسى وإسحق بنو جعفر بن محمد لأم واحدة. وتأولوا في إمامته خبرا، وزعموا أن بعضهم روى لهم أن محمد بن جعفر دخل ذات يوم على أبيه وهو صبى صغير، فدعاه أبوه فعدا إليه فكبا في قميصه، ووقع لحر وجهه، فقام إليه جعفر وقبله، ومسح التراب عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 وجهه، ووضعه على صدره، وقال: سمعت أبى يقول: إذا ولد لك ولد يشبهنى، فسمه باسمى، فهو شبيهى وشبيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله وعلى سنته، فجعل هؤلاء الإمامة في محمد بن جعفر، وفى ولده من بعده. وهذه الفرقة تسمى السميطية، وتنسب إلى رئيسهم يقال له " يحيى بن أبى السميط "، وقال بعضهم هم الشميطية لأن رئيسهم كان يقال له يحيى بن أبى شميط. والفرقة الخامسة منهم قالت: الإمامة بعد جعفر في ابنه عبد الله بن جعفر الأفطح، وذلك أنه كان عند مضى جعفر أكبر ولده سنا، وجلس مجلس أبيه بعده، وادعى الإمامة بوصية أبيه، واعتلوا أى الأفطحية بحديث يروونه عن أبيه وعن جده أنهما قالا: الإمامة في الأكبر من ولد الإمام: فمال إلى عبد الله والقول بإمامته جل من قال بإمامة أبيه، غير نفر يسير عرفوا الحق وامتحنوا عبد الله بالمسائل في الحلال والحرام والصلاة والزكاة والحج وغير ذلك فلم يجدوا عنده علما، وهذه الفرقة القائلة بإمامة عبد الله بن جعفر هي " الفطحية" وسموا بذلك لأن عبد الله كان أفطح الرأس، وقال بعضهم كان أفطح الرجلين، وقال بعض الرواة أنهم نسبوا إلى رئيس لهم من أهل الكوفة يقال له عبد الله بن فطيح. ومال إلى هذه الفرقة عامة مشايخ الشيعة وفقهائها، ولم يشكوا في أن الإمامة في عبد الله بن جعفر وفى ولده من بعده. فلما مات عبد الله ولم يخلف ذكراً، ارتاب القوم واضطربوا وأنكروا الروايات الكثيرة عن على بن الحسين ومحمد بن على وجعفر بن محمد من أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسنين، ولا تكون إلا في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى انقضاء الدنيا، فرجع عامة الفطحية عن القول بإمامته سوى قليل منهم، إلى القول بإمامة موسى بن جعفر. وقد كانت جماعته من شيعة عبد الله قد رجعوا في حياته عن إمامته لروايات وقفوا عليها رووها عن جعفر أنه قال " إن الإمامة بعدى في ابنى موسى، وأنه دل عليه، وأشار إليه، وأعلمهم في عبد الله أمورا لا يجوز أن تكون في الإمام ولا يصلح من كانت فيه للإمامة، وروى بعضهم أن جعفر قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 لموسى: يابنى إن أخاك سيجلس مجلسى ويدعى الإمامة بعدى فلا تنازعه ولا تتكلمن فإنه أول أهلى الذين لحقوا بى. فلما توفى عبد الله رجعت شيعته عن القول به، وثبتت طائفة على القول بإمامته ثم بإمامة موسى بن جعفر من بعده. وعاش عبد الله بعد أبيه سبعين يوما أو نحوها. وقالت الفرقة السادسة منهم: إن الإمام هو موسى بن جعفر بعد أبيه، وانكروا إمامة عبد الله، وخطأوه في فعله وجلوسه مجلس أبيه وادعائه الإمامة. هذا هو التفرق الذى حدث بعد موت الإمام جعفر الصادق. وأضيف هنا ما جاء في الكتاب عن تفرق الشيعة بعد الإمام الحادى عشر، وهو الحسن العسكرى: قال المؤلفان في بيان هذا التفرق: وتوفى ولم ير له خلف ولم يعرف له ولد ظاهر، فاقتسم ما ظهر من ميراثه أخوه جعفر وأمه، وهى أم ولد يقال لها عسفان، ثم سماها أبوه حديثا، فافترق أصحابه من بعده فرقا: ففرقة منها قالت: إن الحسن بن على حى لم يمت، وإنما غاب، وهو القائم، ولا يجوز أن يموت الإمام ولا ولد له، ولا خلف معروف ظاهر، لأن الأرض لا تخلو من إمام، وقد ثبتت إمامة الحسن بن على، والرواية قائمة أن للقائم غيبتين فهذه الغيبة إحداهما، وسيظهر ويعرف ثم يغيب غيبة أخرى، وذهبوا في ذلك إلى بعض مذاهب الواقفة على موسى بن جعفر. وإذا قيل لهذه الفرقة: ما الفرق بينكم وبين الواقفة؟ قالوا إن الواقفة أخطأت في الوقوف على موسى لما ظهرت وفاته لأنه توفى عن خلف قائم أوصى إليه وهو الرضا رضي الله عنه، ولأنه رحمه الله عليه توفى عن بضعة عشر ذكرا، كل إمام ظهرت وفاته كما ظهرت وفاة آبائه وله خلف ظاهر معروف فهو ميت لا محالة، وإنما القائم المهدى الذى يجوز الوقوف على حياته من ظهرت له وفاة عن غير خلف، فيضطر شيعته إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 الوقوف عليه إلى أن يظهر، لأنه لا يجوز موت إمام بلا خلف، فقد صح أنه غاب. وقالت الفرقة الثانية: إن الحسن بن على مات وعاش بعد موته، وهو القائم المهدى، واعتلوا في ذلك برواية اعتلت بها فرقة من واقفة موسى بن جعفر رووها عن جعفر بن محمد، أنه قال: إنما سمى القائم قائما لأنه يقوم بعدما يموت، فالحسن بن على قد مات ولا شك في موته، ولا خلف له، ولا وصى موجود، فلا شك أنه القائم، وأنه حى بعد الموت، لأن الأرض لا تخلو من حجة ظاهر، فهو رضي الله عنه غائب مستتر، وسيظهر ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. وإنما قالوا إنه حى بعد الموت، وأنه مستتر خائف لأنه لا يجوز عندهم أن تخلو الأرض من حجة قائم على ظهرها، عدل حى ظاهر أو خائف مغمور، للخبر الذى روى عن على بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال في بعض خطبه: " اللهم إنك لا تخلى الأرض من حجة لك ظاهر أو مغمور، لئلا تبطل حججك وبيناتك ". فهذا دليل على أنه عاش بعد موته. وليس بين هذه الفرقة والفرقة التي قبلها فرق أكثر من أن هذه صححت موت الحسن بن على رضي الله عنه، وأن الأولى قالت إنه غاب وهو حى وأنكرت موته، وهذه أيضاً شبيهة بفرقة من الواقفة على موسى بن جعفر رضي الله عنه. وإذا قيل لهم: من أين قلتم هذا، وما دليلكم عليه، رجعوا إلى تأول الروايات. وقالت الفرقة الثالثة: إن الحسن بن على توفى ولا عقب له، والإمام بعده أخوه، جعفر، وإليه أوصى الحسن، ومنه قبل جعفر الوصية وعنه صارت إليه الإمامة. فلما قيل لهم إن الحسن وجعفر ما زالا متهاجرين متصارعين متعاديين طول زمانهما، وقد وقفتم على صنايع جعفر ومخلفى الحسن، وسوء معاشرته له في حياته، ولهم من بعد وفاته في اقتسام مواريثه، قالوا: إنما ذلك بينهما في الظاهر، فأما في الباطن فكانا متراضيين، متصافيين، لا خلاف بينهما، ولم يزل جعفر مطيعا له، سامعا منه، فإذا ظهر فيه شىء من خلافه فعن أمر الحسن، فجعفر وصى الحسن، وعنه أفضت إليه الإمامة. ورجعوا إلى بعض قول الفطحية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 في عبد الله وموسى وزعموا أن موسى بن جعفر إنما كان إماما بوصية أخيه عبد الله إليه، وعن عبد الله صارت إليه الإمامة لا عن أبيه، وأقروا بإمامة عبد الله بن جعفر وثبوتها بعد إنكارهم لها وجحودهم إياها، وأوجبوا فرضها على أنفسهم ليصححوا بذلك مذهبهم. وكان رئيسهم والداعى لهم إلى ذلك رجل من أهل الكوفة من المتكلمين يقال له على الطاحى الخزار، وكان مشهورا في الفطحية، وهو ممن قوى إمامة جعفر وأمال الناس إليه، وكان متكلما محجاجا، وأعانته على ذلك أخت الفارس بن حاتم بن ماهويه القزوينى، غير أن هذه أنكرت إمامة الحسن بن على رضي الله عنه، وقالت إن جعفرا أوصى أبوه إليه لا إلى الحسن. وقالت الفرقة الرابعة: إن الإمام بعد الحسن هو جعفر، وأن الإمامة صارت إليه من قبل أبيه، لا من قبل أخيه محمد ولا من قبل الحسن. ولم يكن محمد إماما، ولا الحسن أيضاً، لأن محمدا توفى في حياة أبيه، وتوفى الحسن ولا عقب له، وكان مدعيا مبطلا، والدليل على ذلك أن الإمام لا يموت حتى يوصى ويكون له خلف، والحسن قد توفى ولا وصى له، ولا ولد، فادعاؤه الإمامة باطل، والإمام لا يكون من لا خلف له ظاهر معروف مشار إليه، ولا يجوز أيضاً أن تكون الإمامة في الحسن وجعفر لقول أبى عبد الله جعفر بن محمد وغيره من آبائه صلوات الله عليهم أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام، فدلنا ذلك على أن الإمامة لجعفر، وأنها صارت إليه من قبل أبيه لا من قبل أخويه. أما الفرقة الخامسة: فإنها رجعت إلى القول بإمامة محمد بن على المتوفى في حياة أبيه، وزعمت أن الحسن وجعفر ادعيا ما لم يكن لهما، وأن أباهما لم يشر إليهما بشىء من الوصية والإمامة. ولا روى عنه في ذلك شىء أصلا، ولا نص عليهما بشىء يوجب إمامتهما، ولا هما في موضع ذلك وخاصة جعفر: فإن فيه خصالا مذمومة، وهو بها مشهور، ولا يجوز أن يكون مثلها في إمام عدل. وأما الحسن فقد توفى ولا عقب له، فعلمنا أن محمدا كان الإمام، قد صحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 الإشارة من أبيه إليه، والحسن قد توفى ولا عقب له، ولا يجوز أن يموت إمام بلا خلف، ثم رأينا جعفر في حياة الحسن وبعد مضيه، ظاهر الفسق، غير صائن لنفسه، معلنا بالمعاصى، وليس هذا صفة من يصلح للشهادة على درهم، فكيف يصلح لمقام النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله، لأن الله عز وجل لم يحكم بقول شهادة من يظهر الفسق والفجور، فكيف يحكم له بإثبات الإمامة مع عظم فضلها وخطرها وحاجة الخلق إليها. وإذ هي السبب الذى يعرف به دينه ويدرك رضوانه، فكيف تجوز في مظهر الفسق، وإظهار الفسق لا يجوز تقية، هذا ما لايليق بالحكيم عز وجل، ولا يجوز أن ينسب إليه تبارك وتعالى، فلما بطل عندنا أن تكون الإمامة تصلح لمثل جعفر، وبطلت عمن لا خلف له، لم يبق إلا التعلل بإمامة أبى جعفر محمد بن على أخيهما، إذ لم يظهر منه إلا الصلاح والعفاف، وإن له عقبا قائما معروفا، مع ما كان من أبيه من الإشارة بالقول مما لا يجوز بطلان مثله، فلابد من القول بإمامته وأنه القائم المهدى، أو الرجوع إلى القول ببطلان الإمامة أصلا، وهذا مما لايجوز. وقالت الفرقة السادسة: إن لحسن بن على ابنا سماه محمدا، ودل ... عليه، وليس الأمر كما زعم من ادعى أنه توفى ولا خلف له، وكيف يكون إمام قد ثبتت إمامته ووصيته، وجرت أموره على ذلك، وهو مشهور عند الخاص والعام، ثم توفى ولا خلف له، ولكن خلفه قائم وولد قبل وفاته بسنين، وقطعوا على إمامته وموت الحسن، وأن اسمه محمد، وزعموا أن أباه أمر بالاستتار في حياته مخافة عليه، فهو مستتر خائف في تقية من عمه جعفر وغيره من أعدائه وأنها إحدى غيباته، وأنه هو الإمام القائم، وقد عرف في حياة أبيه ونص عليه، ولا عقب لأبيه غيره، فهو الإمام لا شك فيه. وقالت الفرقة السابعة: بل ولد للحسن ولد بعده بثمانية أشهر، والذين ادعوا له ولدا في حياته كاذبون مبطلون في دعواهم، لأن ذلك لو كان، لم يخف كما لم يخف غيره، ولكنه مضى ولم يعرف له ولد، ولا يجوز أن يكابر في مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 ذلك ويدفع العيان والمعقول والمتعارف. وقد كان الحبل فيما مضى قائماً ظاهراً ثابتا عند السلطان، وعند سائر الناس، وامتنع من قسمة ميراثه من أجل ذلك، فقد ولد له ابن بعد وفاته بثمانية أشهر، وقد كان أمر أن يسمى محمداً. وأوصى بذلك وهو مستور لا يرى. واعتلوا في تجويز ذلك وتصحيحه بخبر يروى عن أبى الحسن الرضا رضي الله عنه، أنه قال: ستبتلون بالجنين في بطن أمه والرضيع، فهذا هو. وقالت الفرقة الثامنة: أنه لا ولد للحسن أصلاً، لأنا قد امتحنا ذلك وطلبناه بكل وجه وفتشنا عنه سرا وعلانية وبحثنا عن خبره في حياة الحسن بكل سبب فلم نجده ولو جاز لنا أن نقول في مثل الحسن بن على وقد توفى ولا ولد له ظاهر معروف أن له ولدا مستوراً لجازت مثل هذه الدعوى في كل ميت عن غير خلف، ولجاز مثل ذلك في النبى صلى الله عليه وآله، أن يقال خلف ابنا نبيا رسولا، ولجاز أن تدعى الفطحية أن عبد الله بن جعفر بن محمد خلف ولدا ذكرا إماما، وأن أبا الحسن الرضا رضي الله عنه خلف ثلاثة بنين غير أبى جعفر، أحدهم الإمام، لأن مجىء الخبر بوفاة الحسن بلا عقب، كمجىء الخبر بأن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله لم يخلف ذكرا من صلبه ولا خلف عبد الله بن جعفر ابنا ولا كان للرضا أربعة بنين، فالوالد قد بطل لا محالة. ومع ذلك فهناك حبل قائم ... فإنه لا يجوز أن يمضى الإمام ولا خلف له فتبطل الإمامة وتخلو الأرض من الحجة. واحتج أصحاب الولد على هؤلاء بالخبر الذى روى عن جعفر أن القائم يخفى على الناس حمله وولادته، وقالوا أنكرتم علينا أمرا وقلتم بمثله قلتم إن هناك حبلا قائما. فإن كنتم اجتهدتم في طلب الولد فلم تجدوه فأنكرتموه لذلك فقد طلبنا معرفة الحبل وتصحيحه أشد من طلبكم، واجتهدنا فيه أشد من اجتهادكم، فاستقصينا في ذلك غاية الاستقصاء فلم نجده، فنحن في الولد لذلك أصدق منكم، لأنه قد يجوز في العقل والعادة والتعارف أن يكون للرجل ولد مستور لا يعرف في الظاهر ثم يعرف بعد ذلك ويصح نسبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 وقال المنكرون: الأمر الذى ادعيتموه منكر شنيع ينكره عقل كل عاقل، ويدفعه التعارف والعادة مع ما فيه من كثرة الروايات الصحيحة عن الأئمة الصادقين، أن الحبل لا يكون أكثر من تسعة أشهر، وقد مضى للحبل الذى ادعيتموه سنون، وأنكم على قولكم بلا صحة ولا بينة. وقالت الفرقة التاسعة: إن الحسن بن على قد صحت وفاته كما صحت وفاة آبائه بتواطؤ الأخبار التي لايجوز تكذيب مثلها، وكثرة المشاهدين لموته وتواتر ذلك عن الولى له والعدو، وهذا ما لا يجب الارتياب فيه، وصح بمثل هذه الأسباب أنه لا خلف له فلما صح عندنا الوجهان ثبت أنه لا إمام بعد الحسن ابن على، وأن الإمامة انقطعت وذلك جائز في المعقول والقياس والتعارف، كما جاز أن تنقطع النبوة بعد محمد، فلا يكون بعد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله نبى، فكذلك جاز أن تنقطع الإمامة لأن الرسالة والنبوة أعظم خطراً وأجل والخلق إليها أحوج، والحجة بها ألزم، والعذر بها أقطع، لأن معها البراهين الظاهرة والأعلام الباهرة، ومع ذلك فقد انقطعت، فكذلك يجوز أن تنقطع الإمامة. واعتلوا في ذلك بخبر يروى عن الصادق أن الأرض لا تخلو من حجة، إلا أن يغضب الله على أهل الأرض بمعاصيهم، فيرفع عنهم الحجة إلى وقت، فهذا عندنا ذلك الوقت، والله يفعل ما يشاء، وليس في قولنا هذا بطلان الإمامة. وهذا أيضاً جائز من وجه آخر كما جاز أن لا يكون قبل النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله فيما بينه وبين عيسى رضي الله عنه نبى، ولا وصى، ولما رويناه من الأخبار أنه كانت بين الأنبياء فترات، ورووا ثلاثمئة سنة وروى مائتا سنة، ليس فيها نبى ولا وصى، وقد قال الصادق رضي الله عنه: إن الفترة هي الزمان الذى لا يكون فيه رسول ولا إمام، والأرض اليوم بلا حجة، إلا أن يشاء اللع فيبعث القائم من آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله، فيحيى الأرض بعد موتها، كما بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله على حين فترة من الرسل، فجدد ما درس من دين عيسى ودين الأنبياء قبله صلى الله عليهم، فكذلك يبعث القائم إذا شاء عز وجل والحجة علينا إلى أن يبعث القائم - وظهوره: الأمر والنهى المتقدمان والعلم الذى في أيدينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 مما خرج عنهم إلينا، والتمسك بالماضى، مع الإقرار بموته، كما كان أمر عيسى رضي الله عنه ونهيه، وما خرج من علمه واعلم أوصيائه، والتمسك بالإقرار بنبوته وبموته، والإقرار بمن ظهر من أوصيائه، حجة على الناس قبل ظهور نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله. وهذه الفرقة لا توجب قيام القائم، ولا خروج مهدى، وتذهب في ذلك إلى بعض معانى البداء. وقالت الفرقة العاشرة: إن محمد بن على، الميت في حياة أبيه، كان الإمام بوصية من أبيه، وإشارته ودلالته ونصه على اسمه وعينه، ولا يجوز أن يشير إمام قد ثبتت إمامته وصحت على غير إمام، فلما حضرت الوفاة محمدا لم يجز أن يوصى ولا يقيم إماما، ولا يجوز له أن يوصى إلى أبيه، إذ إمامة أبيه ثابتة عن جده ولا يجوز أيضاً أن يأمر مع أبيه وينهى ويقيم من يأمر معه ويشاركه. وإنما ثبتت له الإمامة بعد مضى أبيه، فلما لم يجز إلا أن يوصى فقد أوصى إلى غلام لأبيه صغير كان في خدمته يقال له نفيس، وكان عنده ثقة أمينا، ودفع إليه الكتب والوصية، وأمره إذا حدث به حدث الموت أن يؤدى ذلك كله إلى أخيه جعفر، ما فعل الحسين بن على بن أبى طالب رضي الله عنه، لما خرج إلى الكوفة، فقد دفع كتبه والوصية وما كان عنده من السلاح وغيره إلى أم سلمة زوج النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله واستودعها ذلك كله، وأمرها أن تدفعه إلى على بن الحسين الأصغر إذا رجع إلى المدينة، فلما انصرف على بن الحسين من الشام إليها، دفعت إليه جميع ذلك، وسلمته له، فهذا بتلك المنزلة في الإمامة لجعفر بوصية " نفيس " إليه عن محمد أخيه، فإن نفيسا لما خاف على نفسه لما علم أهل الدار قصته وأحسوا بأمره وحسدوه، ونصبوا له وبغوه الغوائل، وخشى أن تبطل الإمامة وتذهب الوصية دعا جعفرا وأوصى إليه، ودفع إليه جميع ما استودعه أخوه الميت في حياة أبيه، ودفع إليه الوصية على نحو ما أمره، وهكذا ادعى جعفر أن الإمامة صارت إليه من قبل محمد أخيه، لا من قبل أبيه وهذه الفرقة تسمى النفيسية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 وقالت فرقة من النفيسية أنكروا إمامة الحسن رضي الله عنه: لم يوص أبوه إليه، ولا غير وصيته إلى محمد ابنه، وهذا عندهم جائز صحيح، فقالوا بإمامة جعفر من هذا الوجه وناظروا عليها. وهذه الفرقة تتقول على أبى محمد الحسن بن على رضي الله عنه تقولا شديداً، وتكفره وتكفر من قال بإمامته، وتغلو في القول في جعفر، وتدعى أنه القائم، وتفضله على أمير المؤمنين على ابن أبى طالب رضي الله عنه وتقدمه على الحسن والحسين وجميع الأئمة، وتعتل في ذلك: أن القائم أفضل الخلق بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله. وأخذ نفيس ليلا وألقى في حوض كان في الدار كبير فيه ماء كثير، فغرق فيه فمات وهذه الفرقة هي النفيسية الخالصة. وقالت الفرقة الحادية عشرة منهم: لما سئلوا عن ذلك وقيل لهم ما تقولون في الإمام: أهو جعفر أم غيره؟ قالوا: لا ندرى ما نقول في ذلك أهو من ولد الحسن أم من إخوته فقد اشتبه علينا الأمر ولسنا نعلم أن للحسن بن على ولدا أم لا، أم الإمامة صحت لجعفر أم لمحمد، وقد كثر الاختلاف، إلا أنا نقول إن الحسن بن على كان إماما مفترض الطاعة ثابت الإمامة، وقد توفى رضي الله عنه وصحت وفاته، وأن الأرض لا تخلو من حجة، ونحن نتوقف ولا نقدم على القول بإمامة أحد بعده إذ لم يصح عندنا أن له خلفا وخفى علينا أمره حتى يصح لنا الأمر ويتبين، ونتمسك بالأول كما أمرنا أنه إذا هلك الإمام، ولم يعرف الذى بعده فتمسكوا بالأول حتى يتبين لكم الآخر، فنحن نأخذ بهذا ونلزمه، ولا ننكر إمامة أبى محمد، ولا ننكر موته، ولا نقول إنه رجع بعد موته، ولا نقطع على إمامة أحد من ولد غيره ولا ننتميه حتى يظهر الله الأمر إذا شاء ويكشفه ويبينه لنا، وهذه الفرقة لا تثبت لجعفر بن على إمامة أحد من ولده ولا من غيره، بوجه من الوجوه ولا تثبت إمامة إمام إلا بوصية أبيه إليه، ووصية ظاهرة، ولم تثبت لجعفر وصية ظاهرة ولا باطنة، وكل إمام اختلف المؤتمون به في مخرج إمامته ممن هي، وممن أوصى إليه، ومن أقامه فهى باطلة لا تثبت، وأصحاب جعفر يختلفون في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 إمامة جعفر ومخرجها، فبعضهم يقول إنها له بوصية أبيه إليه وإقامته، وبعضهم يدعيها له من قبل أخيه محمد الميت في حياة أبيه، وبعضهم يدعيها له عن أخيه. وقالت الفرقة الثانية عشرة: منهم وهم الإمامية: ليس القول كما قال هؤلاء كلهم، بل الله عز وجل في الأرض حجة من ولد الحسن بن على بن محمد ابن على الرضا، وأمر الله بالغ، وهو وصى لأبيه قائم بالأمر بعده هاد للأمة مهدى على المنهاج الأول والسنن الماضية، ولا تكون الإمامة في الأخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام ولا يجوز ذلك، ولا تكون إلا في عقب الحسن بن على بن محمد إلى فناء الخلق وانقطاع أمر الله ونهيه ورفعه التكليف عن عباده متصلا ذلك ما اتصلت أمور الله. ولو كان في الأرض رجلان، لكان أحدهما الحجة، ولو مات أحدهما لكان الآخر الحجة ما اتصل أمر الله، ودام نهيه في عباده وتكليفه قائما في خلقه. ولا يجوز أن تكون الإمامة في عقب من لم تثبت له إمامة، ولم تلزم العباد به حجة ممن مات في حياة أبيه، ولا في ولده ولا في وصى له من أخ ولا غيره، ولو جاز ذلك لصح مذهب أصحاب إسماعيل بن جعفر ابن محمد ولثبتت إمامة ابنه محمد بن إسماعيل بعد مضى جعفر بن محمد، وكان من قال بها من المباركية والقرامطة محقا مصيبا في مذهبه، وهذا الذى ذكرناه هو المأثور عن الأئمة الصادقين مما لا دفع له بين هذه العصابة من الشيعة الإمامية، ولا شك فيه عندهم ولا ارتياب لصحة مخرج الأخبار المروية فيه وقوة أسبابها، وجودة أسانيدها وثقة ناقليها. ولا يجوز أن تخلو الأرض من حجة، ولو خلت ساعة لساخت الأرض ومن عليها ولا يجوز شئ من مقالات هذه الفرق كلها، فنحن متمسكون بإمامة الحسن بن على، مقرون بوفاته، معترفون بأن له خلفا من صلبه، وأن خلفه هو الإمام من بعده، حتى يأذن الله عز وجل له فيظهر ويعلن أمره، كما ظهر وعلن أمر من مضى قبله من آبائه، إذ الأمر لله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء، ويأمر بما يريد من ظهور وخفاء، ونطق وصموت، كما أمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله في حال نبوته بترك إظهار أمره، والسكوت والإخفاء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 أعدائه والاستتار وترك إظهار النبوة التي هي أجل وأعظم وأشهر من الإمامة، فلم يزل كذلك سنين إلى أن أمره بإعلان ذلك، وعند الوقت الذى قدره تبارك وتعالى، فصدع بأمره وأظهر الدعوة لقومه، ثم بعد الإعلان بالرسالة، وإقامة الدلائل المعجزة والبراهين الواضحة اللازمة بها الحجة وبعد أن كذبته قريش وسائر الخلق من عرب وعجم، وما لقى من الشدة ولقيه أصحابه من المؤمنين، أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وأقام هو مع قومه حتى توفى أبو طالب فخاف على نفسه وبقية أصحابه، فأمره الله عند ذلك بالهجرة إلى المدينة، وأمره بالاختفاء في الغار والاستتار من العدو، فاستتر أياما، خائفا مطلوبا، حتى أذن الله له وأمره بالخروج، وكما قال أمير المؤمنين رضي الله عنه: اللهم إنك لا تخلى الأرض من حجة لك على خلقك ظاهراً معروفا، أو خافياً مغموداً كيلا تبطل حجتك وبيناتك. وبذلك أمرنا، وبه جاءت الأخبار الصحيحة المشهورة عن الأئمة الماضين، وليس للعباد أن يبحثوا عن أمور الله ويقفوا أثر ما لا علم لهم به، ويطلبوا إظهاره، فستره الله عليهم وغيبه عنهم وقال الله عز وجل لرسوله {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ... (الإسراء: 36) ، فليس يجوز لمؤمن ولا مؤمنة طلب ما ستره الله، ولا يجوز ذكر اسمه ولا السؤال عن مكانه حتى يؤمر بذلك، إذ هو رضي الله عنه مغمود خائف مستور بستر الله تعالى، وليس علينا البحث عن أمره، بل البحث عن ذلك وطلبه محرم ولا يحل، لأن في طلب ذلك وإظهار ما ستره الله عنا وكشفه وإعلان أمره والتنويه باسمه معصية لله والعون على سفك دمه رضي الله عنه ودماء شيعته وانتهاك حرمته، أعاذ الله من ذلك كل مؤمن ومؤمنة برحمته وفى ستر ذلك والسكون عنه حقنها وصيانتها وسلامة ديننا والانتهاء إلى أمر الله وأمر وأئمتنا وطاعتهم. وفقنا الله وجميع المؤمنين بطاعته ومرضاته بمنه ورأفته، ولا يجوز لنا ولا لأحد من المؤمنين أن يختار إماما برأيه ومعقوله واستدلاله، وكيف يجوز هذا وقد حظره الله جل وتعالى على رسله وأنبيائه وجميع خلقه، فقال في كتابه إذ لم يجعل الاختيار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 إليهم في شىء من ذلك {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) ، وقال {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (القصص: 68) ، وإنما اختيار الحجج والأئمة إلى الله عز وجل وإقامتهم إليه فهو يقيمهم ويختارهم ويخفيهم إذا شاء ويظهرهم ويعلن أمرهم إذا أراد ويسترهم إذا شاء فلا يبديهم، لأنه تبارك وتعالى أعلم بتدبيره في خلقه وأعرف بمصلحتهم، والإمام أعلم بأمور نفسه وزمانه وحوادث أمور الله منا. وقد قال أبو عبد الله الصادق رضي الله عنه: " وهو ظاهر الأمر، معروف المكان، لا ينكر نسبه ولا تخفى ولادته وذكره شائع مشهور في الخاص والعام: من سمانى باسم فعليه لعنة الله " ولقد كان الرجل من شيعته يلقاه في الطريق فيحيد عنه ولا يسلم عليه تقية، فإذا لقيه أبو عبد الله شكره على فعله وصوب له ما كان منه وحمده عليه، وذم من تعرف إليه وسلم عليه وأقدم عليه بالمكروه من الكلام. وكذلك وردت الأخبار عن أبى إبراهيم موسى بن جعفر رضي الله عنه من منع تسميته مثل ذلك، وكان أبو الحسن الرضا يقول: لو علمت ما يريد القوم منى لأهلكت نفسى عندى بما لايوثق دينى، بلعب الحمام والديكة وأشباه ذلك، هذا كله لشدة التستر من الأعداء ولوجوب فرض استعمال التقية فكيف يجوز في زماننا هذا ترك استعمال هذا مع شدة الطلب وجور السلطان وقلة رعايته لحقوق أمثالهم، ومع ما لقى رضي الله عنه من " صالح بن وصيف " لعنه الله، وحبسه إياه ولأهل بيته، والأمر بقتله، وطلب الشيعة، وما نالهم منه من الأذى والتعنت، وتسميته من لم يظهر خبره ولا اسمه وخفيت ولادته. وقد رويت أخبار كثيرة: أن القائم تخفى على الناس ولادته ويخمل ذكره ولا يعرف اسمه ولا يعلم مكانه ولا يعرف إلا أنه لا يقوم حتى يظهر ويعرف أنه إمام ابن إمام، ووصى ابن وصى، يؤتم به قبل أن يقوم، ومع ذلك فإنه لابد من أن يعلم أمره ثقاته وثقات أبيه، وإن قالوا، لأن الإشارة بالوصية من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 إمام إلى إمام بعده لا تصح ولا تثبت إلا بشهود عدول من خاصة الأولياء أقل ذلك شاهدان فما فوقهما، إلا أن لا يكون للإمام الماضى إلا ولد واحد فيستغنى بذلك عن الإشارة إليه على ما يروى عن أبى جعفر محمد بن الرضا. ومع هذا فإن الرضا لم يدع الإشارة إليه، والوصية والإشهاد على ذلك لأنه لابد منه، إذ السنة جارية من رسول الله بذلك، ومن الأئمة من بعده، وإذ قد فعله أمير المؤمنين بالحسن وفعله الحسن بالحسين مع وصية رسول الله وإشارته إليه أن الإمامة في عقب الحسن بن محمد ما اتصلت أمور الله ولا ترجع إلى أخ، ولا عم، ولا ابن عم، ولا ولد ولد مات أبوه في حياة جده، ولا يزول عن ولد الصلب، ولا يكون أن يموت إمام إلا ولد له لصلبه وله ولد. فهذه سبيل الإمامة، وهذا المنهاج الواضح والفرض الواجب اللازم الذى لم يزل عليه الإجماع من الشيعة الإمامية الصحيحة التشيع عليه، وعلى ذلك كان إجماعنا إلى يوم مضى الحسن بن على رضوان الله عليه. وقالت الفرقة الثالثة عشرة: مثل مقالة الفطحية، والفقهاء منهم أهل الورع والعبادة، مثل عبد الله بن بكير بن أعين ونظرائه، فزعموا: أن الحسن بن على توفى، وأنه كان الإمام بعد أبيه بوصية أبيه إليه، وأن جعفر بن على هو الإمام بعده، كما كان موسى بن جعفر إماما بعد عبد الله بن جعفر، للخبر الذى روى: أن الإمامة فى الأكبر من ولد الإمام إذا مضى، وأن الخبر الذى روى عن الصادق رضي الله عنه: أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام صحيح لا يجوز غيره، وإنما ذلك إذا كان للماضى خلف من صلبه فإنها لا تخرج منه إلى أخيه، بل تثبت في خلفه، وإذا توفى ولا خلف له رجعت إلى أخيه ضرورة، لأن هذا معنى الحديث عندهم، وكذلك قالوا في الحديث الذى روى: أن الإمام لا يغسله إلا إمام، وأن هذا عندهم صحيح لا يجوز غيره، وأقروا أن جعفر بن محمد رضي الله عنه غسله موسى، وادعوا أن عبد الله أمره بذلك لأنه كان الإمام بعد عبد الله، فلذلك جاز أن يغسله موسى، فهذه الأخبار بأن الإمام لا يغسله إلا الإمام صحيحة جائزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 على هذا الوجه، فهؤلاء الفطحية الخلص الذين يجيزون الإمامة في أخوين إذا لم يكن الأكبر منهما خلف ولدا، والإمام عندهم " جعفر بن على " على هذا التأويل ضرورة، وعلى هذه الأخبار والمعانى التي وصفناها ... مما سبق نلاحظ ما يأتى: - 1 ـ عندما وقفت الناوسية عند الإمام الصادق، واعتبرته القائم المهدى، بدأت في وضع الأخبار التي تؤيد عقيدتها، ولم تستطع أن تقوم بهذا قبل موته. 2 ـ والإسماعيلية الخالصة قامت بمثل هذا بالنسبة لإسماعيل بن جعفر. 3 ـ والمباركية جعلت الإمامة لمحمد بن إسماعيل بن جعفر، ويذكر التاريخ تفرقها بعد ذلك لعدة فرق، ومنهم القرامطة الذين زعموا أن محمد بن إسماعيل هو خاتم النبيين، واستباحوا المحارم وجميع ما خلقه الله!! ومع وضوح كفرهم استدلوا بما يؤيد عقيدتهم. 4 ـ والفرقة الرابعة التي قالت بإمامة محمد بن جعفر، وفى ولده من بعده، وضعت من الأخبار ما يدل على إمامته، ولم تستطع أن تضع ما ينص على أسماء من يأتى بعده. 5 ـ والفرقة الخامسة وضعت أيضاً من الأخبار ما يدل على إمامة عبد الله بن جعفر، ولم تستطع أن تضع ما ينص على أسماء من يأتى بعده. فلما مات ولم يخلف ذكرا حدث التفرق المذكور، وأنكر القوم ما أنكروا من الروايات، ووضعوا روايات جديدة تتفق مع العقيدة الجديدة، وانظر مثلا إلى هذه الرواية: قال جعفر لموسى: " يا بنى إن أخاك - يقصد عبد الله - سيجلس مجلسى، ويدعى الإمامة بعدى، فلا تنازعه ولا تتكلمن، فإنه أول أهلى الذين لحقوا بى ". فهذه الرواية التي ذكرت للاستدلال على إمامة موسى بن جعفر لم توضع قبل موت عبد الله بن جعفر، لأن الوضاعين من هؤلاء الشيعة لم يكونوا يعرفون من الذى سيموت قبل الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 6 ـ والفرقة السادسة التي قالت بإمامة موسى بن جعفر بعد أبيه صارت بعد وفاته خمس فرق. ولعل في هذا ما يكفى لبيان ما أردت بيانه. فالشيعة الاثنا عشرية التي نتحدث عنها كانت انبثاقا من إحدى الفرق الخمس السابقة، وخمس الفرق كلها كانت إحدى الفرق الست السابقة. وكل فرقة من الفرق الخمسة افترقت بعد ذلك عدة فرق. وإذا واصلنا المسيرة نجد أن الشيعة اتباع الحسن العسكرى - الإمام الحادى عشر عند الاثنى عشرية - انقسمت بعد موته إلى ما يقرب من عشرين فرقة، وكل فرقة تضع من الأخبار ما يؤيد عقيدتها الجديدة، ولا يمكن وضع هذه الأخبار قبل وفاة الإمام. ونلحظ أن كل هذه الفرق أكدت أن الحسن العسكرى لا خلف له ما عدا فرقة مع فرقة الإمامية. ومعنى هذا أن الشيعة الاثنى عشرية لم تبدأ في وضع الأخبار التي تتصل بالاثتى عشر إماما إلا بعد الحسن العسكرى، أى في النصف الثانى من القرن الثالث. وبعد هذا تبدأ مرحلة الكتب. والواقع العملى يؤيد ما بينته هنا، فكتب الحديث الأربعة المعتمدة عندهم أولها ظهر في القرن الرابع، وهو الكافى، ثم جاء بعده باقى الكتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 الأصول الأربعمائة قال مؤلف كتاب " دراسة حول الأصول الأربعمائة " ص 7: بلغ الرواة عنه – أى الإمام الصادق – أربعة آلاف رجل، وانصرفت طائفة كبيرة من هؤلاء لضبط ما رووه عن الإمام سماعاً في كتاب خاص في مواضيع الفقه والتفسير والعقائد وغيرها، وقد اصطلح التاريخ الشيعى على تسمية هذه الكتب بالأصول، كما حصرها في أربعمائة أصل، وهذا ما نعنيه بالأصول الأربعمائة. ا. هـ وتحدث المؤلف بعد هذا مباشرة عن الاختلاف حول تحديد مفهوم الأصل، ثم ذكر أسماء أصحاب الأصول، ولكن عددهم لم يبلغ الثمانين، ثم قدم دراسة حول الأصول بصفة عامة، ثم تعريفاً مقتضباً للأصول الموجودة كاملة، أو الموجود قسم منها، وبلغ العدد ثمانية وعشرين. وانتهى بعد ذلك إلى نتيجة البحث فقال: - " وقد توصلنا من هذا البحث إلى النتائج التالية ": أولاً: أن الأصل مما اصطلح عليه علماء الشيعة في القرن الخامس الهجرى. ثانياً: أن المحدثين ذكروا في تحديد مفهوم الأصل أقوالاً كانت في الغالب مجرد حدس وتخمين كما صرح بذلك السيد محسن الأمين. وأن لكلمة الأصل معنيين: الأول: المعنى الاصطلاحي وهو عبارة عن الحاوى للحديث المروى سماعاً من الإمام الصادق (ع) غالبا ومن تأليف رواته (ع) وقد استشهدنا لذلك بنصوص المتقدمين، وأن أغلب من ذكرهم الطوسى والنجاشى في أصحاب الأصول هم من أصحاب الإمام الصادق (ع) ودراسة الأصول الموجودة. الثانى: المعنى اللغوى بمعنى المصدر والمرجع – كما في عصرنا – وذلك حيث تستعمل في غير كتب الحديث من العلوم المختلفة أو تستعمل قبل القرن الخامس الهجرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 ثالثاً: تحديد زمن التأليف بعصر الإمام الصادق (ع) أى من روى عنه (ع) وينافى ذلك أن يروى عن أبيه الباقر (ع) أو ابنه الكاظم (ع) . رابعاً: إن أريد من الأصل مفهومه اللغوى فأصول أحاديث الشيعة عدداً ستة آلاف وستمائة – تقريباً. وإن أريد مفهومه الاصطلاحى المذكور فلا يزيد على المائة عددا والمذكور منها في فهرستى الطوسى والنجاشى لا تزيد على نيف وسبعين أصلاً. خامساً: أن أعيان الأصول قد أهملت نظراً لاحتواء الكتب الأربعة وجوامع الحديث لهذه الأصول وغيرها من مصادر أحاديث الشيعة، ولأجل ذلك استغنى المحدثون عن الأصول بأعيانها لوجود مضامينها ورواياتها في هذه الكتب المتأخر تأليفها زمناً عن زمن تأليف الأصول ولم أقف – حسب تتبعي – للأصول التي ذكرها الشيخ الطوسى على اكثر من ثلاثة أصول موجودة اليوم، ومن الكتب التي وصفت بأنها أصول على أكثر من سبعة وعشرين كتاباً، وعسانى أوفق للاطلاع عليها في المستقبل. ويقول الشهيد الثانى بهذا الصدد: كان قد استقر أمر الإمامية على أربعمائة مصنف سموها أصولاً فكان عليها اعتمادهم، وتداعت الحال إلى أن ذهب معظم تلك الأصول ولخصها جماعة في كتب خاصة تقريبا على المتناول، وأحسن ما جمع منها الكافى والتهذيب والاستبصار ومن لا يحضره الفقيه. انتهى كلام المؤلف. ولو صح كلامه فإنه يعنى أن التدوين كان للآراء والاجتهادات الفقهية وغيرها، كما كان للأحاديث التي رواها الإمام الصادق، والشيعة يرون أن كل ما صدر عنه يعتبر من السنة، ولكن الإمام الصادق نفسه لا يمكن أن يرى العصمة لنفسه أو حق التشريع، ويندر أن يوجد في عصره من يرى عصمته إلا الغلاة. فما يصح نقله عن الإمام الصادق لا يختلف عما ثبت عن الأئمة الأربعة: أبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد، وغيرهم من الأئمة الأعلام إلا فيما نراه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 الاختلاف بين هؤلاء الأئمة المجتهدين أنفسهم. أما ما يدون في عصر الإمام الصادق افتراء عليه فإن الافتراء لا يتجاوز عصره والعصور السابقة، ولا يمكن أن يتصل بمن يأتى بعده مما يعد في علم الغيب. ولسنا هنا في حاجة إلى دراسة هذه الأصول، أو البحث عن أصحابها، ولكن الذى يعنينا هو أن ما يخص الشيعة الاثنى عشرية لم يظهر في هذا العصر حتى يدون، ولذا عجبت كل العجب من عنوان أحد هذه الأصول، وقد ذكره المؤلف في ص 47، والعنوان: " مقتضب الأثر في الأئمة الاثنى عشر "! ... ومن غير الممكن على الإطلاق أن يوضع هذا العنوان فى عصر الإمام الصادق، فما كان أحد في وقته يعرف أسماء من يأتى بعده، حيث لا يعلم الغيب إلا الله، ولكن يمكن أن يوضع هذا العنوان بعد الإمام الحادى عشر، وتنسب الأقوال المفتراة إلى الصادق أو غيره، هذا هو الواقع الذى يمكن أن يكون. فلو نسب هذا العنوان إلى من عاش في عصر الصادق فإن هذا يعنى أن واضع العنوان يفتري على من عاش في عصر الإمام. وعلى كل حال بعد قراءة العنوان جاء ما يلي: " تأليف أحمد بن محمد بن عياش الجوهرى، المتوفى سنة 401 هـ ". إذن عاش المؤلف بعد الإمام الحادى عشر، بل بين وفاة كل منهما قرن ونصف، فهذا هو الذى يتفق مع ما سبق بيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 الفصل الثاني: الجرح والتعديل عند الشيعة والرافضة رأينا من قبل الجرح والتعديل عن الجمهور، والموقف من الرواية عن أهل البدع، وما يتصل بالعدالة والضبط. والصحابة الكرام، خير أمة أخرجت للناس، شهد لهم ربهم عز وجل وكفى بالله شهيدا، وشهد لهم الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أعظمها من شهادة! ولذلك فهم ليسوا في حاجة إلى شهادة بعد الله تعالى ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدالتهم أمر معلوم مسلم به عند جمهور المسلمين. ومن طعن فيهم ممن ينتسب إلى الإسلام كاد أن يخرج عن الملة إن لم يكن قد خرج بالفعل. وتبعاً للجرح والتعديل عند الفرق يحكم على الأحاديث، وتؤلف الكتب. وقبل أن أبين الجرح والتعديل عند سلف عبد الحسين، وأثر هذا في كتبهم التي قال إنها مقدسة، وصحاح متواترة، أردت أن أوضح موقف الحاكم ـ كما جاء في كتابه معرفة علوم الحديث، وهو شيعى لكنه غير رافضى، حتى لا نخلط بين موقف الشيعة وموقف الرافضة. تحدث الحاكم عن أصح الأسانيد فقال (ص 55) : إن أصح أسانيد أهل البيت: جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن على إذا كان الراوى عن جعفر ثقة. وأصح أسانيد الصديق: إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم عن أبى بكر. وأصح أسانيد عمر: الزهرى عن سالم عن أبيه عن جده. وأصح أسانيد المكثرين من الصحابة لأبى هريرة: الزهرى عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة، ولعبد الله بن عمر مالك عن نافع عن ابن عمر، ولعائشة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن القاسم بن محمد ابن أبى بكر، عن عائشة. سمعت أبا بكر أحمد بن سلمان الفقية يقول: سمعت جعفر بن أبى عثمان الطيالسى يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة ترجمة مشبكة بالذهب. ومن أصح الأسانيد أيضاً محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب بن زهرة القرشى عن عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد القرشى عن عائشة. وأصح أسانيد عبد الله بن مسعود: سفيان بن سعيد الثورى عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم بن يزيد النخعى عن علقمة بن قيس النخعى عن عبد الله بن مسعود. وأصح أسانيد أنس: مالك بن أنس عن الزهرى عن أنس. وأصح أسانيد المكيين: سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر. وأصح أسانيد اليمانيين: معمر عن همام بن منبه عن أبى هريرة. ومما ذكره الحاكم نرى أنه لا يختلف عن جمهور المسلمين في نظرته للصحابة الكرام، وفى التوثيق بصفة عامة على خلاف ما نراه عند الرافضة. وفى ص 56 يقول: إن أوهى أسانيد أهل البيت: عمرو بن شمر، عن جابر الجعفى، عن الحارث الأعور، عن على. وفى ص 63 تحدث عن معرفة فقه الحديث فقال: " فأما فقهاء الإسلام، أصحاب القياس والرأى والاستنباط والجدل والنظر، فمعروفون في كل عصر وأهل كل بلد. ونحن ذاكرون بمشيئة الله في هذا الموضع فقه الحديث عن أهله ليستدل بذلك على أن أهل هذه الصنعة من تبحر فيها لا يجهل فقه الحديث، إذ هو نوع من أنواع هذا العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 فمن أشرنا إليه من أهل الحديث محمد بن مسلم الزهرى " وذكر الحاكم بإسناده بعد هذا عن مكحول قال: " ما رأيت أحداً أعلم بسنة ماضية من ... الزهرى ". وفى ص 240 بدأ الحديث عن النوع التاسع والأربعين فقال: " هذا النوع من هذه العلوم معرفة الأئمة الثقات المشهورين من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة، والتبرك بهم وبذكرهم من الشرق إلى الغرب ". وأول من ذكرهم من هؤلاء الأئمة الإمام الزهرى. وفى عصرنا وجدنا الرافضة والمستشرقين – لهدف واحد خبيث – يطعنان في هذا الإمام الجليل. ومن الأئمة الأعلام الذين ذكرهم: الإمام سفيان الثورى (ص 245) ، وسيأتى في نماذج من الجرح والتعديل ما قاله الرافضة في هذا الإمام. ومستدرك الحاكم معروف مشهور، وسبق الإشارة إليه، غير أنه جمع الصحيح والحسن والضعيف والموضوع. وممن عرف بالتشيع كذلك النسائى، صاحب السنن، أحد الكتب الستة المعتمدة عند جمهور المسلمين، وعبد الرزاق صاحب المصنف، وابن عبد البر، صاحب الكتب الكثيرة النافعة. (انظر منهاج السنة لابن تيمية ج 7 ص 13، 373) ، ومنهج هؤلاء في الجرح والتعديل يعتبر من منهج الجمهور. أما أسلاف عبد الحسين فإن منهجهم تأثر بعقيدتهم في الإمامة، فكما رفضوا الخلافة الراشدة للشيخين وذى النورين، رفضوا ما ثبت عنهم من أخبار، وطعنوا فيهم وفيمن لم يقل بقول عبد الله بن سبأ في الوصى بعد النبى، ولذلك طعنوا وجرحوا من شهد لهم ربهم عز وجل والرسول المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفى ظلمات هذه الجهالة ألفت كتبهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 نماذج من الجرح والتعديل الجرح والتعديل عند هؤلاء القوم – كما رأينا – يرتبط بعقيدتهم الباطلة في الإمامة، ووضعت كتبهم – كما سنرى – لتأييد هذه العقيدة. وكتب الرجال عندهم طعنت في خير جيل عرفته البشرية وجرحت صحابة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورضى عن الصحابة الكرام البررة. ولم يسلم من الطعن إلا من اشتهر في التاريخ بولائه لعلى ابن أبى طالب. وقولهم بعصمة الأئمة جعلهم لا ينظرون إليهم على أنهم رواة ثقات بل جعلوهم مصدرا للتشريع، فأقوالهم سنة واجبة الاتباع كسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دون أدنى فرق، وأشرت إلى هذا من قبل. وسأكتفى هنا ببيان بعض النماذج مما جاء في كتب الرجال عندهم. وأصول هذه الكتب الرجالية خمسة هي: رجال البرقى، ورجال الكشى، ورجال الشيخ الطوسى، وفهرسته، ورجال النجاشى. وقد رجع إلى هذه الأصول وغيرها عبد الله الماماقانى في كتابه " تنقيح المقال في علم الرجال ". والمؤلف يلقبونه بالعلامة الثانى آية الله، أما علامتهم الأول فهو ابن المطهر الحلى الذى رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية. كما أشرت من قبل، وكتاب تنقيح المقال من أكبر الكتب حجماً ومكانة عندهم. وإليك بعض النماذج مما جاء في هذا الكتاب. 1 ـ على بن ابى طالب: أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام، مناقبه وفضائله لا يسع البشر عدها وإحصاءها، قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربى. وقد ورد أنه لو كان البحر مداداً، والأشجار أقلاماً وأوراق الأشجار قرطاساً، والجن والإنس كتاباً، لما أحصوا مناقبه!! (جـ 2 ص 264) . 2 ـ محمد بن أبى بكر بن أبى قحافة: جليل القدر عظيم المنزلة من خواص على رضي الله عنه وحوارييه. أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس لا من قبل أبيه. من أنجب النجباء، من أهل بيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 سوء. بايع أمير المؤمنين على البراءة من أبيه، ومن الخليفة الثانى، وقال له: أشهد أنك إمام مفترض الطاعة، وأن أبى في النار ... إلخ. (انظر ترجمته في ملحق الجزء الثانى ص 57، 58 وينسب الرافضة هذه الأقوال للإمامين الباقر والصادق، وحاشاهما - رضى الله تعالى عنهما - أن ينطقا بمثل هذا الكفر الذى لا يقوله إلا عبد الله بن سبأ وأمثاله وأتباعه) 3 ـ عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوى خليفة العامة: بالغت العامة في مدحه، ومن لاحظ ترجمته المتفرقة وأمعن النظر فيها لم يعتمد على خبره ... إلخ (2/ 201) 4 ـ عبد الله بن عمرو بن العاص: كان كأبيه في الرأى والنفاق، والكذب على الله ورسوله، والخروج مع معاوية بصفين، وكفى بذلك جرحا ... إلخ (2 / 200، وفى ترجمته أخذ الرافضى يلعنه ويلعن أباه!) . 5 ـ عبد الرحمن بن عوف: في ترجمته اتهام له ولذى النورين عثمان بن عفان - رضى الله تعالى عنهما، وفى نهاية الترجمة قال: لا أعتمد على روايته، لأن من خان في الأصول لا يوثق به في الفروع (2/146: 147) 6 ـ خالد بن الوليد: تعاقد مع أبى بكر على قتل على رضي الله عنه، ثم ندم أبو بكر خوفاً من الفتنة، سماه العامة سيف الله، والأحق بتسميته سيف الشيطان ... زنديق، أشهر من كفر إبليس في العداوة لأهل البيت.. إلخ. (اقرأ ترجمته 1 / 394 تجد هذا الكفر والضلال والمفتريات وغيرها) . 7 ـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 أنس بن مالك: جاء في ترجمته أنه كان من المنحرفين عن على رضي الله عنه، الكاتمين لمناقبه حباً للدنيا، فدعا عليه بالعمى فكف بصره، وأنه كان يكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! . (انظر أكاذيب وأباطيل هؤلاء الرافضة في ترجمته 1 /154: 155) . 8 ـ النعمان بن بشير: كان منحرفا عن على رضي الله عنه، وعدواً له، فزندقته لا شك فيها.. إلخ (3 / 272، وفى الترجمة غير هذا من التكفير واللعن لهذا الصحابى الجليل ولغيره من الكرام البررة) . 9 ـ معاذ بن جبل: في ترجمته أنه مالأعدو الله أبا بكر وعمر، على ولى الله على بن أبى طالب، والبشرى بالنار له ولأبى بكر وعمر وأبى عبيدة وسالم، وأن الصحابة هلكوا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أربعة.. إلى غير ذلك مما لا يصدر إلا عن الكفار والضالين. (انظر هذا الضلال في ترجمته 3 / 220: 221) . 10 ـ سفيان الثورى: إذا كان هؤلاء القوم قد طعنوا وكفروا خير الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم الصحابة الكرام، وخيرهم جميعا الشيخان الصديق والفاروق، رضى الله تعالى عنهم جميعاً، إذا كان الأمر قد انحط إلى هذا الدرك الأسفل، فلا نعجب بعد هذا إذا طعنوا في أئمة المسلمين بعد الصحابة. ففى ترجمة الإمام سفيان الثورى يذكرون أكاذيب ينسبونها إلى الإمام الصادق افتراء على الله تعالى وعلى الصادق رضى الله عنه، ثم يعقبون عليها بما يأتى: يتبين أمران: - أحدهما: أن سفيان الثورى كذاب خبيث مدلس معاند يهودى، قد آثر دنياه على آخرته على علم منه بذلك بنص الصادق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 والآخر: أن مذهب العامة ـ أى جمهور المسلمين ـ مبنى على الأكاذيب!! من بدايته إلى نهايته، أعاذنا الله تعالى من ذلك، ولا جمع الله بيننا وبينهم في الدنيا ولا الآخرة. (انظر 2/37: 38) . وبعد .... فلعل هذه التراجم ـ مع قلتها ـ كافية لبيان منهج الرافضة في الجرح والتعديل، واجترائهم على الله عز وجل، وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى الصحابة الكرام، وعلى أئمة المسلمين سواء أكانوا من أهل البيت الأطهار أم من غيرهم. وإذا جئنا إلى التطبيق العملى فإنا نرى هذا المنهج مطبقا في كتبهم التي قال عنها الرافضى عبد الحسين إنها مقدسة، متواترة صحيحة، وما هي إلا هدم للإسلام أصوله وفروعه، وامتداد لمآرب عبد الله بن سبأ. وفى الجزء الرابع في خاتمة الكتاب سنجد مثل هذه التراجم عندما نتحدث عن أبى القاسم الخوئى المرجع الأعلى للشيعة في العراق، وعن كتابه معجم رجال الحديث، مما يبين استمرار غلو الرافضة وزندقتهم حتى عصرنا إلا من عصم ربى من معتدلى الشيعة غير الرافضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 الفصل الثالث: مفهوم السنة عندهم قال أحد علمائهم المعاصرين: - " السنة في اصطلاح الفقهاء: قول النبى أو فعله أو تقريره " ثم قال: " أما فقهاء الإمامية بالخصوص - فلما ثبت لديهم أن المعصوم من آل البيت يجرى قوله مجرى قول النبى، من كونه حجة على العباد واجب الاتباع - فقد توسعوا في اصطلاح السنة إلى ما يشمل قول كل واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره، فكانت السنة باصطلاحهم: قول المعصوم أو فعله أو تقريره. والسر في ذلك أن الأئمة من آل البيت - عليهم السلام - ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبى والمحدثين عنه، ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقات في الرواية، بل لأنهم هم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبى لتبليغ الأحكام الواقعية، فلا يحكون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي، وذلك من طريق الإلهام كالنبى من طريق الوحى أو من طريق التلقى من المعصوم قبله كما قال مولانا أمير المؤمنين رضي الله عنه: علمنى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألف باب من العلم ينفتح لى من كل باب ألف باب. (1) وعليه فليس بيانهم للأحكام من نوع رواية السنة وحكايتها، ولا من نوع الاجتهاد في الرأى والاستنباط من مصادر التشريع بل هم أنفسهم مصدر   (1) اقرأ هذا القول المنسوب لأمير المؤمنين في الفصل السادس ص 154، 155 واقرأ في الرواية ذاتها: " إن عندنا علم ما كان، وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ... وما يحدث بالليل والنهار، الأمر من بعد الأمر، والشىء بعد الشىء إلى يوم القيامة " ومعلوم أن الإمام علياً - رضى الله عنه - لم يختص بعلم دون سائر الأمة ولا ادعى هذا لنفسه فضلا عن أن يزعم أنه يعلم ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. ولكن إذا وجد من أله عليا، فليس بمستغرب أن يوجد من ينسب هذا العلم له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 للتشريع، فقولهم (سنة) لا حكاية السنة. وأما ما يجىء على لسانهم أحياناً من روايات وأحاديث عن نفس النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهى إما لأجل نقل النص عنه كما يتفق في نقلهم لجوامع كلمه، وإما لأجل إقامة الحجة على الغير، وإما لغير ذلك من الدواعى. وأما إثبات إمامتهم، وأن قولهم يجرى مجرى قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو بحث يتكفل به علم الكلام " (1) . وما أظننا بحاجة إلى بيان أثر الإمامة هنا، فهى أوضح من أن يطال فيها الحديث، فجعلوا الإمام كالنبى المرسل: العصمة لهم جميعاً، والسنة قول المعصوم أو فعله أو تقريره يستوى في هذا أن يكون المعصوم هو الرسول الكريم وأن يكون أحد أئمة الجعفرية. ولذلك رأينا من قبل أنهم جعلوا للإمام ما للنبى المصطفى من بيان القرآن الكريم وتقييد مطلقة، وتخصيص عامة. ورأينا كذلك أن الإخباريين منعوا العمل بظاهر القرآن الكريم لأنهم لا يستمدون شريعتهم إلا مما ورد عن أئمتهم. وحتى يكون الإمام مصدراً للتشريع قائماً بذاته جعل له الإلهام مقابلاً للوحى بالنسبة للرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذا العالم الجعفرى ـ مع شططه ـ يمثل جانب الاعتدال النسبى، فقد رأينا غيره يذهب إلى بقاء الوحى مع الأئمة وإن لم ينزل بقرآن جديد. وما ذكره هذا العالم لا يصح إلا بما أشار إليه في الفقرة الأخيرة من إثبات إمامة الأئمة، وأن قولهم يجرى مجرى قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ما أثبتنا خلافه في الجزء الأول.   (1) أصول الفقه لمحمد رضا المظفر 3 /51 -52. وانظر: الأصول العامة للفقه المقارن ص 122، واقرأ فيه كذلك: سنة أهل البيت ص 145 وما بعدها، وراجع تجريد الأصول ص 47، وضياء الدراية ص 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 الفصل الرابع: مراتب الحديث الإخباريون من الجعفرية ـ وهم قلة قليلة ـ لا علم لهم بمصطلح الحديث، فهم يتلقون بالقبول كل ما ورد عن أئمتهم في كتب الحديث المعتمدة عندهم، بل يرون تواتر " كل حديث وكلمه بجميع حركاتها وسكناتها الإعرابية والبنائية وترتيب الكلمات والحروف " (1) وكتب الحديث هذه أربعة ظهرت في القرنين الرابع والخامس، وأصحابها يرون صحة ما أثبتوا في كتبهم. والجعفرية الاثنا عشرية ظلوا قرابة ثلاثة قرون بعد ظهور هذه الكتب لا يفترقون كثيراً عن النزعة الإخبارية، فأول من وضع مصطلح الحديث وبين مراتبه عندهم هو الحسن بن المطهر الحلى الملقب بالعلامة الذى توفى سنة 726 هـ (2) . والحديث عند جمهور الجعفرية ينقسم إلى متواتر وأخبار آحاد. وأثر عقيدتهم الباطلة يظهر في المتواتر باشتراطهم " أن لا يكون ذهن السامع مشوباً بشبهة أو تقليد يوجب نفى الخبر ومدلوله " (3) وندرك الأثر هنا عندما نراهم يقولون: " بهذا الشرط يندفع احتجاج مخالفينا في المذهب على انتفاء النص على أمير المؤمنين رضي الله عنه - بالإمامة " (4) فإذا ما نقل بالتواتر أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ينص على إمامة أحد من بعده فالاتهام يوجه إلى السامعين، وبذلك يصلون إلى هدفهم   (1) تنقيح المقال في أحوال الرجال ص 183. (2) انظر ضياء الدراية: ص23. (3) المرجع السابق: ص 17. (4) انظر حاشية الصفحة السابقة من نفس المرجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 بعدم حجية هذا النقل. وعلى العكس من هذا نراهم يذهبون إلى تواتر حديث الثقلين والغدير (1) . فعقيدة الإمامة توجههم في رفض الأخذ بالتواتر أو رفع غيره إلى مرتبته، ما دام الخبر متعلقاً بهذه العقيدة. وأخبار الآحاد عندهم تنقسم إلى أربع مراتب، هي أصول الأقسام وإليها يرجع كل تقسيم آخر، وهذه المراتب هي: الصحيح، والحسن، والموثق، والضعيف. فأما الصحيح عندهم فهو " ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامى عن مثله في جميع الطبقات حيث تكون متعددة " (2) . وزاد بعضهم في التعريف أن يكون العدل ضابطاً، ورأى صاحب مقباس الهداية أن قيد العدل يغنى عن ذلك، فمن ليس ضابطا فليس بعدل (3) أى أنهم متفقون على أن شروط الصحة هي: - 1. اتصال السند إلى المعصوم بدون انقطاع. 02 أن يكون الرواة إماميين في جميع الطبقات. 03 وأن يكونوا كذلك عدولا ضابطين. وأثر الإمامة هنا يبدو إلى جانب تحديد المعصوم - في اشتراط إمامية الراوى، فالحديث لا يرقى لمرتبة الصحيح ما لم يكن الرواة من الجعفرية الاثنى عشرية في جميع الطبقات. وأول واضع لأقسام الحديث عندهم يوضح سبب هذا الاشتراط بقوله: " لا تقبل رواية الكافر، وإن علم من دينه التحرز عن الكذب، لوجوب التثبت عند الفاسق، والمخالف من المسلمين، إن كفرناه فكذلك، وإن علم منه تحريم الكذب - خلافاً لأبى الحسن لاندراجه تحت الآية، وعدم علمه لا يخرجه عن الاسم، ولأن   (1) انظر الأصول العامة للفقه المقارن: ص 196. (2) مقباس الهداية في علم الدراية ص 33، وضياء الدراية ص 21. (3) انظر الموضع السابق من مقباس الهداية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 قبول الرواية تنفيذ الحكم على المسلمين، فلا يقبل كالكافر الذى ليس من أهل القبلة. احتج أبو الحسن بأن أصحاب الحديث قبلوا أخبار السلف كالحسن البصرى وقتادة وعمر بن عبيد، مع علمهم بمذهبهم، وإنكارهم على من يقول بقولهم، والجواب المنع من المقدمتين، ومع التسليم فنمنع الإجماع عليه وغيره ليس بحجة. والمخالف غير الكافر لا تقبل روايته أيضاً لاندراجه تحت اسم الفاسق " (1) . ويقول الماماقانى (2) : " الموافق للتحقيق هو أن العدالة لا تجامع فساد العقيدة وأن الإيمان شرط في الراوى ". ويقول أيضاً: " وهو الذى اختاره العلامة في كتبه الأصولية وفاقاً للأكثر لقوله تعالى: - {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [ (3) ولا فسق أعظم من عدم الإيمان، والأخبار الصريحة في فسقهم بل كفرهم لا تحصى كثرة ". يستفاد مما سبق: أن الإيمان شرط في الراوى، وخبر الفاسق يجب التأكد من صحته، وغير الجعفرى كافر أو فاسق، فخبره لا يمكن بحال أن يكون صحيحاً، وهنا لا يبدو أثر الإمامة فحسب بل يظهر التطرف والغلو والزندقة. ويأتى بعد الصحيح: الحسن:، وهو " ما اتصل سنده إلى المعصوم بإمامى ممدوح مدحاً مقبولا معتداً به، غير معارض بذم، من غير نص على عدالته، مع تحقق ذلك في جميع مراتب رواة طريقة، أو في بعضها. (4)   (1) تهذيب الوصول إلى علم الأصول ص 77 - 78. (2) هو صاحب كتاب تنقيح المقال في علم الرجال، وكتاب مقباس الهداية في علم الدراية وله مكانته عند الجعفرية وعلى الأخص في هذا المجال، والنقل من كتابه الأول ص 207. (3) 6: الحجرات. (4) مقباس الهداية: ص 34، ضياء الدراية: ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 ويستفاد من هذا النص أنهم يشترطون للحسن: 1. اتصال السند إلى المعصوم بدون انقطاع. 2. أن يكون جميع الرواة إماميين. 3. وأن يكون ممدوحين مدحاً مقبولاً معتداً به، دون معارضة بذم، وبالطبع الذم غير المقبول لا يعتد به. 4. ألا ينص على عدالة الراوى، فلو كان الرواة عدولاً لأصبح الحديث صحيحا كما عرفنا من دراستنا للصحيح. 5. تحقق ذلك في جميع مراتب رواة طريقه، أو في بعضها. يفهم من هذا أن جميع الرواة غير ثابتى العدالة، أو بعضهم كذلك والآخرين عدول، فالمعروف أن الحديث يحمل على أدنى مرتبة في الرواة - فلو فقد شرطا آخر غير العدالة لما أصبح حسناً. ويقول صاحب ضياء الدراية (ص 24) : " ألفاظ المدح على ثلاثة أقسام ": - ما له دخل في قوة السند، مثل صالح وخير. - ما له دخل في قوة المتن لا في السند، مثل فهيم وحافظ. - ما ليس له دخل فيهما، مثل شاعر وقارئ. فالأول يفيد في كون السند حسنا أو قويا، والثانى ينفع في مقام الترجيح، والثالث لا عبرة له في المقامين، بل هو من المكملات ". ويقول عن الجمع بين القدح والمدح (الصفحة ذاتها) : " القدح بغير فساد المذهب قد يجامع المدح لعدم المنافاة بين كونه ممدوحاً من جهة، ومقدوحاً من جهة أخرى ". وأثر عقيدة الإمامة في هذا النوع يبدو فيما يأتى: 1. اشتراط إمامية الراوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 2. قبول رواية الإمامى غير ثابت العدالة، ورفض رواية غير الإمامى كائناً من كان، وبالغاً ما بلغ من العدالة والتقوى والورع. 3. قبول رواية الإمامى الممدوح المقدوح أحياناً بشرط ألا يكون القدح بفساد المذهب، وفساد المذهب يعنى الخروج عن الخط الجعفرى: فهذا قدح لا يغتفر (1) . ويأتى بعد الحسن الموثق، وهو: " ما اتصل سنده إلى المعصوم بمن نص الأصحاب على توثيقه، مع فساد عقيدته، بأن كان من أحد الفرق المخالفة للإمامية، وإن كان من الشيعة، مع تحقق ذلك في جميع رواة طريقه أو بعضهم مع كون الباقين من رجال الصحيح " (2) . وهذا التعريف يفيد اشتراط ما يأتى: 1. اتصال السند إلى المعصوم. 2. أن يكون الرواة غير إماميين، ولكنهم موثقون من الجعفرية على وجه الخصوص. 3. أو يكون بعضهم كذلك، والآخرون من رجال الصحيح، حتى لا يدخله ضعف آخر، فيكفى أن دخل في الطريق من ليس بإمامى. وأثر عقيدة الإمامة هنا يبدو فيما يأتى: - 1. جعل الموثق بعد الصحيح والحسن لوجود غير الجعفرية في السند. 2. التوثيق لا يكون إلا من الجعفرية أنفسهم، ولذلك قال صاحب ضياء ... الدراية: (3) " توثيق المخالف لا يكفينا، بل الموثق عندهم ضعيف عندنا، والمدار في الموثق إنما هو توثيق أصحابنا ".   (1) أنظر في ألفاظ الذم والقدح، والمذاهب الفاسدة في نظر الجعفرية: ضياء الدراية: ... ص 50: 53. (2) مقباس الهداية: ص 35، وراجع ضياء الدراية: 24 -25. (3) حاشية 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 ويوضح المامقانى توثيق أصحابه بقوله: " يمكن معرفة غير الإمامى الموثق بأن يكون الإمام قد اختاره لتحمل الشهادة أو أدائها، في وصية، أو وقف، أو طلاق، أو محاكمة، أو نحوها، أو ترحم عليه أو ترضاه، أو أرسله رسولاً إلى خصم له أو غير خصمه، أو ولاه على وقف أو على بلدة، أو اتخذه وكيلاً، أو خادماً ملازماً، أو كاتباً، أو أذن له في الفتيا والحكم أو أن يكون من مشايخ الإجازة (1) أو تشرف برؤية الإمام الثانى عشر الحجة المنتظر أو نحو هذا " (2) . فالتوثيق إذن لا يخرج عن النطاق الجعفرى الاثنى عشرى. 3. مع هذا النوع من التوثيق لا يدخل السند مع الموثقين إلا رجال الصحيح، وعلى الرغم من ذلك يبقى هذا القسم في المرتبة الثالثة. وبعد الموثق يأتى: الضعيف، وهو " ما لم يجتمع فيه شرط أحد الأقسام السابقة، بأن اشتمل طريقة على مجروح بالفسق ونحوه، أو على مجهول الحال، أو ما دون ذلك كالوضاع " (3) . وفى الحديث عن الصحيح رأينا كيف أنهم اعتبروا غير الجعفرى كافراً أو فاسقاً فروايته ضعيفة غير مقبولة. ولا تقبل من غير الجعفرى إلا من نال توثيق الجعفرية.   (1) قد جرى على ألسنة أهل الفن وصف بعض الرجال بكونه شيخ الإجازة وآخر بأنه شيخ الرواية، وفرق صاحب التكملة بينهما بأن الأول من ليس له كتاب يروى ولا رواية تنقل، بل يجيز برواية كتاب غيره، ويذكر في السند لمجرد اتصال السند قال: فلو كان ضعيفاً لم يضر ضعفه. والثانى: هو من تؤخذ الرواية منه ويكون في الأغلب صاحب كتاب بحيث يكون هو أحد من تستند إليه الرواية وهذا تضر جهالته في الرواية وتشترط في قبولها عدالته، وانظر كذلك ضياء الدراية ص 57: 59. (2) انظر: تنقيح المقال: ص 210 ـ 211. (3) مقباس الهداية: 35، وراجع ضياء الدراية: ص 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 وعلى هذا الأساس يرفضون الأحاديث الثابتة عن الخلفاء الراشدين الثلاثة وغيرهم من أجلاء الصحابة، والتابعين، وأئمة المحدثين والفقهاء، ما داموا لا يؤمنون بعقيدة الإمامية الاثنى عشرية. فالروايات التي يدخل في سندها أى من هؤلاء الصديقين الصالحين الأئمة الأعلام الأمناء، تعتبر روايات ضعيفة في نظر هؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون حديثا (1) .   (1) وجدنا من شيعة اليوم من يرى النظر إلى ذوات الرواة لا إلى مذاهبهم ولكنهم لما يغيروا شيئاً. نسأل الله تعالى أن يوفقهم للعمل بما ينفع الإسلام والمسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 الفصل الخامس: التعارض والترجيح روى الكلينى في أصول الكافى عن عمر بن حنظلة قال: " سألت أبا عبد الله عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان، وإلى القضاة، أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً، وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} (1) قلت: فكيف يصنعان؟ قال ينظران إلى ما كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإنى قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله. قلت: فإن كان كل رجل اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكون الناظرين في حقهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما: اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر. قال - قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا، لا يفضل واحد منهما على الآخر؟   (1) 60: النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 قال: ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذى حكما به المجمع عليه من أصحابك فيأخذ به من حكمنا. ويترك الشاذ الذى ليس بمشهور عند أصحابك. قلت: فإن كان الخبران عنكما (1) مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة، وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة. قلت: جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفاً حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة والآخر مخالفاً لهم بأى الخبرين يؤخذ؟ قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد. فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل، حكامهم وقضاتهم، فيترك، ويؤخذ بالآخر. قلت: فإن وافق حكامهم الخبران جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (2) . هذه الرواية يسميها الجعفرية الرافضة مقبولة ابن حنظلة، وفى باب الترجيح عندهم هى " العمدة في الباب، المقبولة التي قبلها العلماء بأن راويها صفوان بن يحيى الذى هو من أصحاب الإجماع، أى الذين أجمع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم: كما رواها المشايخ الثلاثة في كتبهم " (3) . ويقول المظفر: " من الواضح أن موردها التعارض بين الحاكمين، لا بين الراويين، ولكن لما كان الحكم والفتوى في الصدر الأول يقعان بنص الأحاديث، لا أنهما يقعان بتعبير من المحاكم أو المفتى كالعصور المتأخرة استنباطاً من   (1) يقصد الباقر والصادق. (2) الكافى 1 / 67 - 68. (3) أصول الفقه للمظفر: 3 / 217 ويعنى بالمشايخ الثلاثة أصحاب كتب الحديث عندهم وهم: الكلينى والصدوق والطوسى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 الأحاديث تعرضت هذه المقبولة للرواية والراوى، لارتباط الرواية بالحكم. ومن هنا استدل بها على الترجيح للرواية المتعارضة " (1) . ثم يقول بعد بيان انحصار دليل مخالفة العامة في هذه المقبولة: والنتيجة أن المستفاد من الأخبار أن المرجحات المنصوصة ثلاثة: الشهرة وموافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة. وهذا ما استفاده الشيخ الكلينى في مقدمة الكافى (2) . وهذه المقبولة التي اعتبرت العمدة في باب الترجيح بصفة عامة، والدليل الوحيد على مخالفة العامة ـ–أى جمهور المسلمين ـ– بصفة خاصة، أقول: هذه المقبولة مرفوضة من وجهة نظرنا لما يأتى: 1. أنها اعتبرت كل حاكم أو قاض غير جعفرى اثنى عشرى طاغوتاً أمرنا أن نكفر به بنص القرآن الكريم. 2. أنها اعتبرت أخذ الحق الثابت سحتاً ما دام أخذه عن طريق هؤلاء الحكام والقضاة. 3. أنها جعلت حكم الحكم الجعفرى الرافضى كحكم الله تعالى، ومن لم يقبله فكأنما أشرك بالله سبحانه. 4. أنها تدعو إلى مخالفة جمهور المسلمين حتى عند ظهور موافقتهم للكتاب والسنة.   (1) المرجع السابق: 3 / 219. (2) نفس المرجع: 3 /223. وقال السيد حسين الموسوى: لو فرضنا أن الحق كان مع العامة في مسألة ماذا يجب علينا أن نأخذ بخلاف قولهم؟ أجابني السيد محمد باقر الصدر مرة فقال: فنعم يجب الأخذ بخلاف قولهم، لأن الأخذ بخلاف قولهم. وإن كان خطأ فهو أهون من موافقتهم، على افتراض وجود الحق عندهم في تلك المسألة. " كشف الأسرار ص 92 ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 فالإمام الصادق أعمق إيماناً، وأرفع شأنا من أن يصدر منه هذه الجهالة، وإنما تصدر هذه الرواية عن غال، يفترى على الأئمة، يريد لأمة الإسلام أن تفترق ولا تتحد. وبعد هذا نرى أثر عقيدة الإمامة في باب الترجيح عند الجعفرية يظهر فيما يأتى: 1. جعلوا المشهور عندهم مقدما على غيره، حتى قدموه على ما وافق الكتاب والسنة، فالمشهور الجعفرى المخالف للكتاب والسنة مقدم على غيره الموافق للكتاب والسنة. ثم " إنهم لا يزالون يقدمون المشهور على غيره ولو كان راوى الغير أعدل وأصدق " (1) وهذا مما جعل غلاة الجعفرية يسيرون إلى أهدافهم من طريق ممهد، ولنضرب لهذا مثلا لعله كاف لما أردنا توضيحه. صاحب كتاب " فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب " قال عن الروايات التي يرى أنها تثبت - على حد افترائه - تحريف القرآن الكريم: " الأخبار الدالة على ذلك تزيد على ألفى حديث، وادعى استفاضتها جماعة كالمفيد، والمحقق والداماد، والعلامة المجلسى وغيرهم " (2) فهذه روايات جعفرية مشهورة مستفيضة، فلما تعارضت مع كتاب الله تعالى: حيث أخبر سبحانه بأنه الحافظ لكتابه العزيز ولا تبديل لكلماته، حرفوا معناه كما رأينا من قبل في الجزء الثانى، فهؤلاء القوم لم يناقضوا أنفسهم هنا، فهم غلاة في المبدأ وغلاة في التطبيق. ولكن الذين يمثلون جانب الاعتدال النسبى عند الجعفرية أبوا أن يهدم   (1) فوائد الأصول: 4 / 291 وقال المظفر بعد حديث عن المفاضلة بين المرجحات: " والنتيجة أنه لا قاعدة هناك تقتضي تقديم أحد المرجحات على الآخر، ما عدا الشهرة التي دلت المقبولة على تقديمها " (أصول الفقه 3 /227) . (2) ص 227 من الكتاب المذكور وهو ينقل هذا عن ضال مثله ثم أخذ يؤيده، راجع ما ذكرناه عن هذا الكتاب في الجزء السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 الإسلام من أساسه فرفضوا الأخذ بهذه الروايات، وكان عليهم إذن أن يغيروا المبدأ حتى لا يناقضوا أنفسهم عند التطبيق. فهم يتفقون مع الغلاة في تقديم المشهور، واختلفوا معهم عندما جاء المشهور الجعفرى لتقويض البناء الإسلامى. 2. جعلوا من المرجحات مخالفة العامة، أى عامة المسلمين، فما خالف الأمة الإسلامية أولى بالقبول عندهم مما وافقهم، استناداً إلى المقبولة المرفوضة فهى مستندهم الوحيد، وهى التي تزعم أن الإمام الصادق قال: ما خالف العامة ففيه الرشاد. ولعل هذا من أخطر المبادئ التي جعلت بين الجعفرية الرافضة وسائر الأمة الإسلامية هوة ـ– سحيقة عميقة ـ– فابتعد الجعفرية كثيراً عن الخط الإسلامى الصحيح، لأنهم استقروا " على تقديم مخالف العامة على موافقهم، من غير ملاحظة المرجحات السندية وجوداً وعدماً، حتى لو كان الخبر مستفيضاً يحملونه على التقية عند التعارض " (1) . والحمل على التقية هنا يعنى أن الخبر في ذاته لا يحمل قرائن التقية لأنهم يقولون: " الذى يكون من الشرائط لحجية الخبر هو أن لا يكون في الخبر قرائن التقية بحيث يستفاد من نفس الخبر أنه صدر تقية، والذى يكون مرجحاً، مجرد المخالفة والموافقة للعامة من دون أن يكون في الخبر الموافق قرائن التقية " (2) . وهم يعودون بهذا المبدأ الهدام إلى عصر الصحابة الكرام: فيقولون: " بأن الرشد في خلافهم، وأن قولهم في المسائل مبنى على مخالفة أمير المؤمنين رضي الله عنه فيما يسمعونه منه " (3) . ثم يقولون: " التعليل بأن الرشد في خلافهم محتمل لوجوه:   (1) الحاشية على الكفاية 2 / 203. (2) فوائد الأصول 4 / 293. (3) الحاشية على الكفاية 2 / 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 الأول - أن يكون إصابة الواقع غالباً في مخالفتهم، فهم غالباً في ضلالة وبعد عن الواقع. والثانى - أن يكون نفس مخالفتهم رشداً، فالمخالفة لهم حسن ذاتاً. والثالث - أن يكون ذلك من جهة صدور الخبر الموافق تقية، فيكون الأخذ بالخبر المخالف رشداً من باب تمامية وجه صدوره بخلاف الموافق " (1) . وبعد: فإنا لا نعجب عندما ينفث غلاة الجعفرية الرافضة وزنادقتهم سمومهم بمثل هذه الأقوال، ولكن لا ندرى كيف يصبح هذا المبدأ مقبولا عند الجعفرية جميعاً؟ وكنا ننتظر، من معتدليهم نسبياً ودعاة التقريب منهم، أن يقفوا موقفاً يتفق مع اعتدالهم الظاهرى، ودعوتهم للتقريب بين المذاهب الإسلامية. ونضرب مثلا هنا - والأمثلة جد كثيرة - يبين كيف تمكن واضعو هذا المبدأ من توجيه المذهب الجعفرى وجهة بعيدة عن أمة الإسلام في كثير من الأحكام، وبالطبع على غير أساس من الحق، والمثل هو ما رواه الكلينى: " عن زرارة بن أعين، عن أبى جعفر قال: سألته عن مسألة فأجابنى، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابنى، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابنى وأجاب صاحبى، فلما خرج الرجلان قلت يا بن رسول الله، رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان، فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه، فقال: يا زرارة: إن هذا خير لنا، وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا، ولكان أقل لبقائنا وبقائكم " (2) . فهنا إذن ثلاث فتاوى تعطى أحكاماً مختلفة لمسألة واحدة، ولا أساس لهذا الاختلاف سوى عدم اجتماع الشيعة على حكم واحد، حتى لا يكشف أمرهم،   (1) المرجع السابق 2 /193. (2) الكافى 1 /65، على أنا نرى عدم صدور هذا من سيدنا الباقر رضى الله تعالى عنه، فمتن الرواية يعنى أنه يفتى بغير دليل من كتاب أو سنة بل يتعمد المخالفة والتضليل فى أحكام الله تعالى: فهذه الرواية كأختها المقبولة المرفوضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 فيصبحوا عرضة للقتل. ولكن هذه الفتاوى عند الجعفرية الاثنى عشرية سنة ومصدر تشريع، فعند الترجيح يؤخذ بما خالف الأمة الإسلامية، ويترك ما وافقها، حتى إذا كان المتروك موافقاً للكتاب والسنة: على أن هذا ما حضره زرارة ويمكن أن يأتى آخرون، فتكثر الروايات، وتختلف الأحكام بغير دليل شرعى، والترجيح لما خالف جمهور المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 الفصل السادس: الكتب الأربعة للجعفرية الاثنى عشرية كتب كثيرة تروى عن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذلك عن أئمتهم، ولكن الذى يعنينا هنا الكتب المعتمدة لديهم، فغير المعتد ليس بحجة لهم أو عليهم. وهذه الكتب المعتمدة أربعة: أولها (الكافى) لأبى جعفر محمد بن يعقوب الكلينى، الملقب بحجة الإسلام وثقته، المتوفى سنة 329 هـ. والثانى (فقيه من لا يحضره الفقيه) لمحمد بن بابويه القمى، الملقب بالصدوق، المتوفى سنة 381 هـ. والآخران هما (التهذيب) و (الاستبصار) ، وكلاهما لمحمد بن الحسن الطوسى شيخ الطائفة، المتوفى سنة 460 هـ. والكافى له المقام الأعلى عند الجعفرية، يقول عبد الحسين المظفر في مقدمته لأصول الكافى: " ولما كان البحث يدور حول كتابنا هذا، فقد عرفت ما سجله على صفحاته مؤلفه من الأحاديث التي يبلغ عددها زهاء سبعة عشر ألف حديث، وهى أول موسوعة إسلامية استطاع مؤلفها أن يرسم بين دفتيها مثل هذا العدد من الأحاديث، وقد كلفته هذه المجموعة أن يضحى من عمره عشرين سنة قضاها في رحلاته متنقلا من بلدة إلى أخرى، لا يبلغه عن أحد مؤلف، أو يروى حديثا، إلا وشد الرحال إليه، ومهما كلفه الأمر فلا يبرح حتى يجتمع به، ويأخذ عنه، ولذلك تمكن من جمع الأحاديث الصحيحة. وهذه الأحاديث التي جاءت في الكافى جميعها ذهب المؤلف إلى صحتها، ولذلك عبر عنها بالصحيحة " (1) .   (1) ص 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 ويقول: " ويعتقد بعض العلماء أنه عرض على القائم رضي الله عنه (يعنى الإمام الثانى عشر) فاستحسنه وقال: كاف لشيعتنا " (1) . " وقد اتفق أهل الإمامة، وجمهور الشيعة على تفضيل هذا الكتاب، والأخذ به والثقة بخبره، والاكتفاء بأحكامه. وهم مجمعون على الإقرار بارتفاع درجته وعلو قدره، على أنه القطب الذى عليه مدار روايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان إلى اليوم، وعندهم أجل وأفضل من جميع أصول الأحاديث " (2) . فلا خلاف إذن بين الجعفرية حول مكانة الكافى، ولكنا ذكرنا من قبل أن مراتب الحديث المعروفة عند متأخرى الجعفرية ظهرت على يد علامتهم الحلى، أى بعد الكلينى بقرابة أربعة قرون، والكلينى يذهب إلى أن كل ما جمعه في الكافى صحيح، فماذا يعنى بالصحيح هنا؟ يوضح هذا أحد كتابهم فيقول: " إن الصحيح عند المتقدمين هو الذى يصح العمل به والاعتماد عليه، ولو لم يكن من حيث سنده مستوفياً للشروط التي ذكرناها، والصحيح في عرف المتأخرين هو الجامع لتلك الشروط " (3) . ثم يقول بعد حديث عن الكلينى وكتابه: " المتحصل من ذلك أن الذين اعتمدوا على الكافى، واعتبروا جميع مروياته حجة عليهم فيما بينهم وبين الله سبحانه، هؤلاء لم يعتمدوا عليها إلا من حيث الوثوق والاطمئنان بالكلينى الذى اعتمد عليها، وكما ذكرنا فإن وثوق الكلينى بها لم يكن مصدره بالنسبة إلى جميعها عدالة الرواة، بل كان في بعضها من جهة القرائن التي تيسر له الوقوف عليها نظراً لقرب عهده بالأئمة عليهم السلام، ووجود الأصول المختارة في عصره.   (1) ص 19. (2) ص 20. (3) دراسات في الكافى للكلينى والصحيح للبخاري لهاشم معروف الحسنى ص 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 هذا بالاضافة إلى عنصر الاجتهاد والذى يرافق هذه البحوث في الغالب. يؤيد ذلك أن الكلينى نفسه لم يدع بأن مرويات كتابه كلها من الصحيح المتصل سنده بالمعصوم بواسطة العدول، فإنه قال في جواب من سأله تأليف كتاب جامع يصح العمل به، والاعتماد عليه، قال: وقد يسر لى الله تأليف ما سألت، وأرجو أن يكون بحيث توخيت. وهذا الكلام منه كالصريح في أنه قد بذل جهده في جمعه وإتقانه، معتمدا على اجتهاده وثقته بتلك المجاميع والأصول الأربعمائة التي كانت مرجعاً لأكثر المتقدمين عليه، ومصدراً لأكثر مرويات كتابه " (1) . ويقول الحسنى أيضا: " والشئ الطبيعى أن تتضاءل تلك الثقة التي كانت للكافى - على مرور الزمن بسبب بعد المسافة بين الأئمة عليهم السلام وبين الطبقات التي توالت مع الزمن بمجئ دور العلامة الحلى: انفتح باب التشكيك في تلك الروايات على مصراعيه بعد أن صنف الحديث إلى الأصناف الأربعة، فتحرر العلماء من تقليد المتقدمين فيما يعود إلى الحديث، وعرضوا مرويات الكافى وغيره على أصول علم الدراية وقواعده، فما كان منها مستوفياً للشروط المقررة أقروا العمل به والاعتماد عليه، وردوا ما لم تتوفر فيه الشروط المطلوبة. وعلى هذا الأساس، توزعت أحاديث الكافى التي بلغت ستة عشر ألف حديث ومائة وتسعة وتسعين حديثاً على النحو التالي:   (1) المرجع السابق: ص 126 والأصول الأربعمائة يراد بها ما اشتمل على كلام الأئمة، أو روى عنهم بلا واسطة كما يعتقد الجعفرية، ويعتقدون كذلك أن ما في هذا الأصول قد جمع في الكتب الأربعة المعتمدة عندهم. (انظر ضياء الدراية الباب العاشر ص 71 وما بعدها وص 86، وراجع الفصل الأول من هذا القسم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 الصحيح منها خمسة آلاف واثنان وسبعون حديثاً، والحسن مائة وأربعة وأربعون حديثاً، الموثق ألف ومائة وثمانية وعشرون حديثاً، القوى (1) ثلاثمائة وحديثان والضعيف تسعة آلاف وأربعمائة وخمسة وثمانون حديثاً (2) . ومما تجدر الإشارة إليه أن اتصاف هذا المقدار من روايات الكافى بالضعف لا يعنى سقوطها بكاملها عن درجة الاعتبار، وعدم جواز الاعتماد عليها في أمور الدين، ذلك لأن وصف الرواية بالضعف من حيث سندها، وبلحاظ ذاتها لا يمنع من قوتها من ناحية ثانية كوجودها في أحد الأصول الأربعمائة، أو بعض الكتب المعتبرة، أو موافقتها للكتاب والسنة، أو لكونها معمولاً بها عند العلماء وقد نص أكثر الفقهاء أن الرواية الضعيفة إذا أشتهر العمل بها والأعتماد عليها تصبح كغيرها من الروايات الصحيحة وربما تترجح عليها في مقام التعارض (3) . والكافى يقع في ثمانية أجزاء تضم الأصول والفروع: فالأصول وهى التي تتصل بالعقائد، تقع في الجزأين الأول والثانى. والفروع في الفقه تقع في خمسة أجزاء، أما الجزء الأخير وهو الروضة، فيقول عنه الدكتور حسين على محفوظ: لما أكمل الكلينى كتابه هذا، وأتم رد مواده إلى فصولها، بقيت زيادات كثيرة من خطب أهل البيت، ورسائل الأئمة وآداب الصالحين وطرائف الحكم وألوان العلم مما لاينبغى تركه، فألف هذا المجموع الأنف، وسماه (الروضة)   (1) في ضياء الدراية: قد يقال للموثق (القوى) لقوة الظن بجانبه بسبب توثيقه، قال المامقانى: وهو وإن كان صحيحاً لغة ولكنه خلاف الاصطلاح. ونقل عن غيره أن القوى هوالمروى الإمامي غير الممدوح ولا المذموم. وعرفه غير أحد من المتأخرين، بأنه ما خرج عن الأقسام المذكورة ولم يدخل في الضعيف. ثم قال: وكيف ما كان عده الأكثر من أقسام الموثق، وبعضهم جعله أصلاً مستقلاً (انظر ص 25) . (2) ويبقى ثمانية وستون بغير ذكر؟ (3) دراسات في الكافى: ص 129 – 130 وراجع ما كتب آنفاً عن الترجيح وعلى الأخص مخالفة العامة التي لم يشر لها هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 لأن الروضة منبت أنواع الثمر، ومعدن ألوان الزهر. والروضة على كل حال مرجع قيم وأصل شريف ... إلخ (1) . هذا هو الكافى، الكتاب الأول عند الجعفرية، أما الكتب الثلاثة الأخرى فإنها تقتصر على الروايات المتصلة بالأحكام الفقهية، أى أنها تلتقى مع الفروع من الكافى. ولذلك عندما نبحث عن أثر عقيدة الإمامة في الكتب الأربعة سندرس أولاً الأصول مع الروضة، ثم نجعل الفروع من الكافى مع بقية الكتب الأربعة. وأصحاب هذه الكتب سبق الحديث عنهم في الجزء الثانى عندما عرضنا ما دار بين الجعفرية حول تحريف القرآن الكريم ونقصه، فالغلاة الضالون الذين ذهبوا إلى وقوع التحريف والنقص استندوا إلى روايات من الكافى كتلك التي ذكرها زاعماً نسبتها إلى الإمام الصادق وهى " إن القرآن الذى جاء به جبرئيل رضي الله عنه إلى محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبعة عشر ألف آية "، أى أن أكثر من عشرة آلاف آية أسقطت من كتاب الله تعالى: وكذلك ألصقت التحريف بكثير من آى القرآن الكريم، كما استندوا إلى روايات مشابهة جاءت في غير الكافى كما بينا. وعندما بحثنا عن الغلاة الضالين الذين قاموا بحركة التشكيك في كتاب الله تعالى وجدنا القول عندما ضاق انحصر في على بن إبراهيم القمى الذى تحدثنا عنه وعن تفسيره وفى تلميذه الكلينى، وكلما اتسع أضيف إليهما غيرهما، أى الكلينى من أوائل الغلاة الذين قادوا حركة التضليل والتشكيك في كتب الله العزيز. وعندما بحثنا عمن تصدى لهذه الحركة الضالة وجدنا الصدوق والطوسى من الأوائل الذين سبقوا إلى هذا الفضل (2) والإشارة هنا إلى ما سبق الحديث عنه تغنى عن الخوض في هذا الموضوع خوضا نجتنبه قدر الإمكان إلا ما دعت الضرورة إليه، فالكافى مملوء بهذا الضلال المضل، وعلى الأخص في الأصول والروضة، وهى الأجزاء التي   (1) مقدمة الروضة ص 9. (2) راجع الجز ءالثانى من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 نبدأ الآن الحديث عنها، وبيان ما بها من ضلال وزيع تأثراً بعقيدة الرفض الباطلة، وبما نادى به ابن سبأ اللعين. أولا: الجزء الأول من أصول الكافى عندما ننظر فى الجزء الأول من أصول الكافى نجد أن أكثر من ثلثيه يقع تحت عنوان (كتاب الحجة) ، قال الكلينى فى خطبة الكافى " ووسعنا قليلاً كتاب الحجة، وإن لم نكمله على استحقاقه لأنا كرهنا أن نبخس حظوظه كلها، وأرجو أن يسهل الله ـ جل وعز ـ إمضاء ما قدمنا من النية، إن تأخر الأجل صنفنا كتاباً أوسع وأكمل منه، نوفيه حقوقه كلها " (ص 9) . والكتاب كما يبدو من عنوانه يتعلق بالحجة أى الإمام، فالكتاب نفسه إذن أثر من آثار عقيدة الإمامة الباطلة! وننظر فى أبواب كتاب الحجة هذا فنرى " باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدث " (ص 167) . والرواية الأولى: عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عن قول الله عز وجل وكان " رسولاً نبياً " ما الرسول وما النبي؟ قال النبي الذي يرى في منامه، ويسمع الصوت ولا يعاين الملك. والرسول الذي يسمع الصوت، ويرى في المنام ويعاين الملك. قلت " الإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصوت ... ولا يرى، ولا يعاين الملك، ثم تلا هذه الآية] وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ [ولا محدث (1) . وضم الباب ثلاث روايات أخرى (2) .   (1) الآية الكريمة نصها: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (52: الحج) وحرفها الكلينى ليصل إلى أن الإمام مرسل يوحى إليه. (2) انظر ص 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 وذكر الكلينى بعد هذا ثلاث روايات بأن " الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حتى يعرف ". وفى " باب أن الأرض لا تخلو من حجة " (ص 178 –179) ذكر الكلينى ثلاث عشرة رواية منها: عن أبى عبد الله: أن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإن نقصوا شيئاً أتمه لهم (1) . وعنه: أن الله أجل وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل. وعنه أيضاً: لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت. وعن أبى جعفر: لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله. وفى " باب أنه لو لم يبق فى الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة " ... (179-180) ذكر خمس روايات منها: ... " عن أبى عبد الله: لو كان الناس رجلين لكان أحدهما الإمام وقال: إن آخر من يموت الإمام لئلا يحتج أحد على الله عز وجل – أنه تركه بغير حجة لله عليه ". ... وذكر الكلينى أربع عشرة رواية فى " باب معرفة الإمام والرد إليه " (ص 180-185) منها: " عن أبى حمزة عن أبى جعفر قال: إنما يعبد الله من يعرف الله فأما من لايعرف الله فإنما يعبده هكذا ضلالاً. قلت: جعلت فداك فما معرفة الله؟ قال: تصديق الله عز وجل، وتصديق رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموالاة على والائتمام به وأئمة الهدى والبراءة إلى الله عز وجل من عدوهم، هكذا يعرف الله عز وجل " (2) .   (1) ومعنى هذا أن إمامهم الثانى عشر يقوم بهذا الدور الآن. (2) ص 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 وعن أبى عبد الله: " كان أمير المؤمنين إماماً ثم كان الحسن إماما ثم كان الحسين إماماً، ثم كان على بن الحسين إماماً ثم كان محمد بن على إماماً، من أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى: ومعرفة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (1) . وترى الكلينى بعد هذا يحرف معانى بعض آي القرآن الكريم ليؤيد ما سبق وليصل إلى الافتراء بأن أصحاب الثلاثة ضلوا أى أصحاب الخلفاء الراشدين الثلاثة. وفى " باب فرض طاعة الأئمة " يذكر سبع عشرة رواية، منها ما نسبه للإمام الصادق: " نحن الذين فرض الله طاعتنا، لا يسع الناس إلا معرفتنا، ولا يعذر الناس بجهالتنا من عرفنا كان مؤمناً، ومن أنكرنا كان كافراً ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاً " (2) . وفى " باب فى أن الأئمة شهداء الله عز وجل على خلقه " (ص 190 - 191) يذكر خمس روايات ويحرف معانى بعض آيات القرآن الكريم، ليجعل أئمة الجعفرية الرافضة هم الشهداء على الناس. وفى " باب أن الأئمة هم الهداة " (191 - 192) يذكر أربع روايات، ويحرف معنى الآية السابعة من سورة الرعد " إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" فيؤول كلمة هاد بأنها الإمام على، ثم أئمة الشيعة الجعفرية من بعده. وفى " باب أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه " (ص 192-193) يذكر ست روايات منها: عن أبى جعفر عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال تبارك وتعالى: " استكمال حجتى على الأشقياء من أمتك من ترك ولاية على والأوصياء من بعدك، فإن فيهم سنتك   (1) ص 181. (2) ص 187، وانظر الباب: ص 185: 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 وسنة الأنبياء من قبلك، وهم خزانى على علمى من بعدك ". ثم قال الرسول: " لقد أنبأنى جبريل رضي الله عنه بأسمائهم وأسماء آبائهم ". وفيها: " عن أبى عبد الله إن الله عز وجل خلقنا فأحسن خلقنا وصورنا فأحسن صورنا وجعلنا خزانه فى سمائه وأرضه، ولنا نطقت الشجرة، وبعبادتنا عبد الله عز وجل، ولولانا ما عبد الله ". وفى " باب أن الأئمة خلفاء الله عز وجل فى أرضه وأبوابه التى منها يؤتى " (ص 193-194) يذكر الكلينى ثلاث روايات ويذكر أن الأئمة المراد من قول الله تعالى:] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ [ (55: النور) . وفى " باب أن الائمة نور الله عز وجل " (ص 194-196) يذكر هذه الروايات: عن أبى خالد الكابلى، عن أبى جعفر:] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [ (1) . قال: يا أبا خالد، النور والله نور الأئمة من آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يوم القيامة، وهم والله نور الله الذى أنزل، وهم نور الله فى السموات والأرض. والله يا أبا خالد لنور الإمام فى قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار، وهم والله ينورن قلوب المؤمنين، ويحجب الله عز وجل نورهم عمن يشاء فتظلم قلوبهم، والله يا أبا خالد لا يحبنا عبد ويتولانا حتى يطهر الله قلبه، ولا يطهر الله قلب عبد حتى يسلم لنا ويكون سلماً لنا، فإذا كان سلماً لنا سلمه الله من شديد الحساب، وآمنه من فزع يوم القيامة الأكبر ".   (1) التغابن: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 وعن أبى عبد الله فى تفسير النور فى (الآية 157) من الأعراف " النور في هذا الموضع على أمير المؤمنين والأئمة ". وعن أبى جعفر فى] نُورًا تَمْشُونَ بِهِ [ (الحديد: 28) يعنى إماماً ... تأتمون به. وعن صالح بن سهل الهمدانى قال: قال أبو عبد الله فى قول الله ... تعالى:] اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ [. فاطمة عليها السلام ... ] فِيهَا مِصْبَاحٌ [الحسن] الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ [الحسين] الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [فاطمة كوكب درى بين نساء أهل الدنيا] يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ ... مُّبَارَكَةٍ} إبراهيم رضي الله عنه {لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} لا يهودية ولا نصرانية {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ [يكاد العلم ينفجر بها] وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ [إمام منها بعد إمام] يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء [يهدى الله للأئمة من يشاء] وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ [ (1) . قلت: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ [قال: الأول وصاحبه {يَغْشَاهُ مَوْجٌ [الثالث ... ] مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ [الثانى {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [معاوية لعنه الله وفتن بين أمية] إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ [المؤمن فى ظلمه فتنتهم] لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ   (1) النور: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 اللَّهُ لَهُ نُورًا [إماماً من ولد فاطمة عليها السلام] فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ [إمام يوم القيامة (1) . وقال فى قوله تعالى] يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم [ (2) أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبأيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة. وعن على بن جعفر عن أخيه موسى مثله. وعن أبى الحسن] يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [، (3) قال: يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين بأفواههم ... " والله متم نوره: والله متم الإمامة، والإمامة هي النور وذلك قوله عز وجل:] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [ (4) قال: النور هو الإمام. وفى " باب أن الأئمة هم أركان الأرض " (196-198) يروى الكاينى: عن أبى عبد الله: ما جاء به على آخذ به، وما نهى عنه أنتهى عنه، جرى له من الفضل مثل ما جرى لمحمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولمحمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفضل على جميع من خلق   (1) يقصد الكلينى بالأول والثاني والثالث الخلفاء الراشدين رضى الله تعالى عنهم، وفى الآية التى ذكرها من سورة النور " 40 "، ولكنه ذكر أجزاء منها ونصها {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} ، ومع ظهور زندقة الكلينى وموقفه من خير البشر بعد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يطلق عليها الرافضة: حجة الإسلام. (2) الحديد: 12. (3) الصف: 8. (4) التغابن: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 الله عز وجل، المتعقب عليه في شىء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله. كان أمير المؤمنين باب الله الذى لا يؤتى إلا منه، وسبيله الذى من سلك بغيره هلك، وكذلك يجرى لأئمة الهدى واحداً بعد واحد، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها، وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى، وكان أمير المؤمنين كثيراً ما يقول: أنا قسيم الله بين الجنة والنار، وأنا الفاروق الأكبر، وأنا صاحب العصا والميسم، ولقد أقرت لى جميع الملائكة والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمدرضي الله عنه، ولقد حملت على مثل حمولته وهى حمولة الرب، وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعى فيكسى، وأدعى فأكسى، ويستنطق وأستنطق فأنطق على حد منطقه، ولقد أعطيت خصالاً ما سبقنى إليها أحد قبلى: علمت المنايا والبلايا والأنساب، وفصل الخطاب، فلم يفتنى ما سبقنى، ولم يعزب عنى ما غاب عنى، أبشر بإذن الله وأؤدى عنه، كل ذلك من الله مكننى فيه بعلمه (1) . وذكر الرواية السابقة أيضاً بطريق آخر، وذكر مضمونها بطريق ثالث، وفيها أن الأئمة " جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بهم، والحجة البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى ". ثم ذكر رواية مماثلة عن أبى جعفر، وفيها أن الإمام علياً قال: " وإنى لصاحب الكرات (2) ودولة الدول، وإنى لصاحب العصا والميسم، والدابة التي تكلم الناس ".   (1) مما جاء في الحاشية. صاحب العصا: أى عصا موسى التي صارت إليه من شعيب، وإلى شعيب من آدم، يعنى هي عندى أقدر بها على ما قدر عليه موسى. الميسم: المكواة، لما كان بحبه وبغضه يتميز المؤمن من المنافق، فكأنه كان يسم على جبين المنافق بكى النفاق. المنايا والبلايا: آجال الناس ومصائبهم فلم يفتنى ما سبقنى: أى علم ما مضى. ما غاب عنى: أى علم ما يأتى. (2) في الحاشية فسرها بقوله: أى الرجعات إلى الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 وفى " باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته " (ص 198-205) يذكر الكلينى فيما يرويه: إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل رضي الله عنه بعد النبوة ... فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها الله تعالى النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال جل وتعالى] إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [ (1) فكانت له خاصة فقلدها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً بأمر الله تعالى على رسم مما فرض الله. فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله تعالى] وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ [ (2) فهى في ولد على خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبى بعد محمد، فمن أين يختار هؤلاء الجهال الإمام المطهر من الذنوب، والمبرأ من العيوب، المخصوص بالعلم الموسوم بالحلم، نظام الدين، وعز المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين. الإمام واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضل الوهاب، فمن ذا الذى يبلغ معرفة الإمام، أو يمكنه اختياره.. راموا إقامة الإمام بعقول حائرة ناقصة، وآراء مضلة، فلم يزدادوا منه إلا بعداً، قاتلهم الله أنى يؤفكون، ولقد راموا صعباً، وقالوا إفكاً وضلوا ضلالاً بعيداً، ووقعوا في الحيرة، إذ تركوا الإمام عن بصيرة، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين. رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأهل بيته إلى اختيارهم، والقرآن يناديهم] وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ   (1) آل عمران: 68. (2) الروم: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [ (1) وقال عز وجل:] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [ (2) وقال:] مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ [إلى] إِن كَانُوا صَادِقِينَ [ (3) . وأن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح صدر لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاماً، فلم يعى بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيد موفق مسدد، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار. وفى " باب أن الأئمة ولاة الأمر وهم الناس المحسودون الذين ذكرهم الله عز وجل " (ص 205 - 206) يذكر الكلينى خمس روايات منها: إن الإمام الباقر سئل عن قول الله تعالى:] أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [ (4) فكان جوابه:] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً [، يقولون لأئمة الضلالة والدعاة إلى النار: هؤلاء أهدى من آل محمد سبيلا ... ] أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ [يعنى الإمامة والخلافة.] فَإِذًا لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [نحن الناس الذين عنى الله. ... ]   (1) القصص: 68. (2) الأحزاب: 36. (3) القلم: 36 ـ 41. (4) النساء: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ [ (1) نحن الناس المحسودون على ما آتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعين. وفى " باب أن الأئمة هم العلامات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه " (ص 206 –- 207) يذكر ثلاث روايات. وفى " باب أن الآيات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه هم الأئمة " (ص 207) يذكر ثلاث روايات، يحرف بها معانى بعض آى القرآن الكريم كما فعل في الباب السابق. وفى " باب ما فرض الله - عز وجل، ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. من الكون مع الأئمة" (ص 208 - 210) ، يذكر سبع روايات، روايتين أن الأئمة هم مراد الله تعالى من قوله:] اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [ (2) . وينسب خمساً من الروايات للرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيزعم أنه قال: من سره أن يحيا حياتى، ويموت ميتتى، ويدخل الجنة. فليتول على بن أبى طالب وأوصياءه من بعده. وفى بعضها: لقد أتانى جبرائيل بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وأحبائهم والمسلمين لفضلهم. وفى رواية أخرى: إلى الله أشكو أمر أمتى، المنكرين لفضلهم، القاطعين فيهم صلتى، وأيم الله ليقتلن ابنى، لا أنا لهم الله شفاعتى. ونجد تحريف الكلينى لمعانى بعض آيات القرآن المجيد في الأبواب التالية " باب أن الذكر الذين أمر الله الخلق بسؤالهم هم الأئمة " (ص 210-212) ثلاث روايات. " باب أن من وصفه الله تعالى في كتابه بالعلم هو الأئمة " (ص 212، روايتان) . "   (1) النساء: 51 ـ 54. (2) التوبة: 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 باب أن الراسخين في العلم هم الأئمة " (ص 213، ثلاث روايات) . " باب أن الأئمة قد أوتوا العلم وأثبت في صدورهم " (ص 213 - 214خمس روايات) . " باب في أن من اصطفاه الله من عباده، وأورثهم كتابه هم الأئمة " (ص 214 -215، أربع روايات) . " باب أن القرآن يهدى للإمام " (ص 216، روايتان) . " باب أن النعمة التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الأئمة " (ص 217، أربع روايات) . " باب أن المتوسمين الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه هم الأئمة والسبيل فيهم مقيم " (ص 218-219، خمس روايات) . ويذكر الكلينى روايتين في " باب أن الأئمة في كتاب الله إمامان: إمام يدعو إلى الله، وإمام يدعو إلى النار " (ص 215-216) وأولى الروايتين هي: عن أبى حعفر: لما نزلت هذه الآية "] يَوْمَ نَدْعُو كلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [ (1) قال المسلمون: يا رسول الله، ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟ قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدى أئمة على الناس من الله من أهل بيتى، يقدمون فى الناس فيكذبون، ويظلمهم أئمة الكفر والضلال وأشياعهم، فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو منى ومعى وسيلقانى، ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس منى ولا معى، وأنا منه برىء. وفى" باب عرض الأعمال على النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأئمة " (ص 219- 220) يذكر ست روايات منها: عن عبد الله بن أبان الزيات، وكان مكينا عند الرضا قال: قلت للرضا: ادع الله لى ولأهل بيتى، فقال: أو لست أفعل؟ والله إن أعمالكم لتعرض على في كل   (1) الإسراء: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 يوم وليلة قال: فاستعظمت ذلك، فقال لى: أما تقرأ كتاب الله عز وجل] وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [ (1) قال: هو والله على بن أبى طالب (2) . وفى " باب أن الطريقة التي حث على الاستقامة عليها ولاية على " (ص 220) ، يذكر روايتين. وفى " باب أن الأئمة معدن العلم، وشجرة النبوة ومختلف الملائكة " (ص 221) يذكر ثلاث روايات. وفى " باب أن الأئمة ورثة العلم، يرث بعضهم بعضاً العلم " (ص 221 ـ 223) يذكر ثمانى روايات. وفى " باب أن الأئمة ورثوا علم النبى وجميع الأنبياء والأوصياء، الذين قبلهم " (ص 223- 226) يذكر سبع روايات، منها: كتب الرضا: أما بعد، فإن محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أمين الله في خلقه، فلما قبض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كنا أهل البيت ورثته، فنحن أمناء الله في أرضه عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب، ومولد الإسلام (3) ، وإنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان، وحقيقة النفاق. وإن شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، أخذ الله علينا وعليهم الميثاق، يردون موردنا ويدخلون مدخلنا، ليس على ملة الإسلام غيرنا وغيرهم ... ] كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ [ (من أشرك بولاية على) ]   (1) التوبة: 105. (2) في الحاشية لم يرفض هذا الافتراء البين، وإنما علق على الرواية: يعنى علياً وأولاده الأئمة " وانما خص علياً بالذكر لأنه كان خاصة الموجود في زمان المأمورين بالعمل مشافهة. (3) في الحاشية: مولد الإسلام: أى يعلمون كل من يولد هل يموت على الإسلام أو على الكفر، وقيل موضع تولده ومحل ظهوره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [ (من ولاية على) إن الله (يا محمد) ] وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ [ (1) . من يجيبك إلى ولاية على. عن أبى الحسن الأول (2) أن الله يقول:] وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [ (3) ، ثم قال:] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [ (4) فنحن الذين اصطفانا الله عز وجل، أورثنا هذا الذى فيه تبيان كل شىء (5) . وفى " باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها " (ص 227 - 228) يذكر روايتين تفيدان معنى الباب. ويذكر الكلينى ست روايات في " باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة، وأنهم يعلمون علمه كله " (ص 228-229) . والجزء الأول من الباب يتفق مع ما ذكرناه من ذهاب الكلينى إلى وقوع النقص في كتاب الله تعالى، والجزء الأخير يذكرنا بما قلنا عن القرآن الناطق (6) .   (1) الشورى: 13، والآية محرفة، فنصها {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} . (2) هو إمامهم السابع موسى بن جعفر. (3) النمل: 75. (4) فاطر: 32. (5) ومعنى هذا أنه ما من غائبة في السماء والأرض إلا يعلمها أئمة الجعفرية، فالكلينى هنا يجعل علمهم فوق مستوى المخلوقات ويسويهم برب العالمين. (6) راجع الجزء الثانى من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 وفى " باب ما أعطى الأئمة من اسم الله الأعظم " (ص 230) يذكر ثلاث روايات تفيد أن الذى أحضر عرش بلقيس كان عنده حرف واحد من اسم الله الأعظم، وهو ثلاثة وسبعون حرفا، على حين أن أئمة الجعفرية عندهم اثنان وسبعون، واستأثر الله سبحانه بحرف واحد. وفى " باب ما عند الأئمة من آيات الأنبياء " (ص 231-232) يذكر خمس روايات هي: عن أبى جعفر: كانت عصا موسى لآدم فصارت إلى شعيب، ثم صارت إلى موسى بن عمران، وإنها لعندنا، وإن عهدى بها آنفا وهى خضراء كهيئتها حين انتزعت من شجرتها، وإنها لتنطق إذا استنطقت، أعدت لقائمنا يصنع بها ما كان يصنع موسى، وإنها لتروع وتلقف ما يأفكون، وتصنع ما تؤمر به، إنها حيث أقبلت تلقف ما يأفكون. يفتح لها شعبتان: إحداهما في الأرض والأخرى في السقف وبينهما أربعون ذراعا، تلقف ما يأفكون بلسانها. وعن أبى عبد الله: ألواح موسى عندنا، وعصا موسى عندنا، ونحن ورثة النبيين. وعن أبى عبد الله: قال أبو جعفر: إن القائم إذا قام بمكة وأراد أن يتوجه إلى الكوفة نادى مناديه: ألا لا يحمل أحد منكم طعاما ولا شرابا، ويحمل حجر موسى بن عمران وهو وقر بعير، فلا ينزل منزلا إلا انبعث عين منه، فمن كان جائعا شبع، ومن كان ظامئا روى، فهو زادهم حتى ينزلوا النجف من ظهر الكوفة. وعن أبى جعفر: خرج أمير المؤمنين ذات ليلة بعد عتمة وهو يقول: همهمة همهمة وليلة مظلمة، خرج عليكم الإمام وعليه قميص آدم، وفى يده خاتم سليمان، وعصا موسى. والرواية الأخيرة تبين أن قميص يوسف جاء إبراهيم من الجنة، فحماه من النار، وأن هذا القميص عندهم من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 وفى " باب ما عند الأئمة من سلاح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومتاعه " (ص232-237) يذكر تسع روايات تفيد أن الأئمة عندهم كل ما ترك الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفى بعض الروايات أن من هذا المتاع ما هو من الجنة، وفى رواية عن أمير المؤمنين أن رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمه حماره قائلاً: " بأبى أنت وأمى: إن أبى حدثنى، عن أبيه عن جده، عن أبيه، أنه كان مع نوح في السفينة، فقام إليه نوح فمسح على كفله، ثم قال: يخرج من صلب هذا الحمار حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم. فالحمد لله الذى جعلنى ذلك الحمار " (1) .   (1) قال العالم الشيعى المعتدل السيد حسين الموسوى: وعندما نقرأ في كتبنا المعتبرة نجد فيها عجباً عجاباً، قد لا يصدق أحدنا إذا قلنا: إنَّ كتبنا معاشر الشيعة - تطعنُ بأهل البيت عليهم السلام، وتطعن بالنبى صلى الله عليه وآله وإليك البيان: وذكر هذه الرواية ثم قال: هذه الرواية تفيدنا بما يأتى: 1- الحمار يتكلم ( 2- الحمار يخاطب رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: فداك أبى وأمى (مع أنّ المسلمين هم الذين يفدون رسول الله صلوات الله عليه بآبائهم وأمهاتهم لا الحمير. 3- الحمار يقول: " حدثنى أبى عن جدى إلى جده الرابع " (مع أن بين نوح ومحمد ألوف السنين، بينما يقول الحمار إنّ جده الرابع كان مع نوح في السفينة. كنا نقرأ " أصول الكافى " مرة مع بعض طلبة الحوزة في النجف على الإمام الخوئى، فرد الإمام الخوئى قائلاً: انظروا إلى هذه المعجزة، نوح سلام الله عليه يخبر بمحمد - عليه السلام - وبنبوتّه قبل ولادته بألوف السنين. بقيت كلمات الإمام الخوئى تتردد في مسمعى مدة وأنا أقول في نفسى: كيف يمكن أن تكون هذه معجزة وفيها حمارُ يقول لرسول الله صلى الله عليه وآله: بأبى أنت وأمى؟ (وكيف يمكن لأمير المؤمنين سلام الله عليه أن ينقل مثل هذه الرواية؟ ( لكنى سكت كما سكت غيرى من السامعين ا. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 وفى " باب أن مثل سلاح رسول الله مثل التابوت في بنى إسرائيل " (ص 238) ذكر أربع روايات، وهى تفيد أن أى أهل بيت وجد التابوت على بابهم أوتوا النبوة، ومثلهم من صار إليه السلاح، فإنه يؤتى الإمامة. وفى " باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة " (ص 238 ـ 242) ذكر الكلينى ثمانى روايات هي: 1- عن أبى بصير قال: دخلت على أبى عبد الله رضي الله عنه فقلت له: جعلت فداك إننى أسألك عن مسألة، ههنا أحد يسمع كلامى؟ قال: فرفع أبو عبد الله رضي الله عنه سترا بينه وبين بيت آخر فاطلع فيه ثم قال: يا أبا محمد سل عما بدا لك. قال: قلت: جعلت فداك إن شيعتك يتحدثون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم عليا رضي الله عنه باباً يفتح له منه ألف باب؟ قال: فقال يا أبا محمد، علم رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا رضي الله عنه ألف باب يفتح من كل باب ألف باب. قال: قلت هذا والله العلم. قال: فنكث ساعة في الأرض ثم قال: إنه لعلم وما هو بذاك. قال: ثم قال: يا أبا محمد، وإن عندنا الجامعة، وما يدريهم ما الجامعة؟ قال: قلت: جعلت فداك وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعا بذراع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإملائه من فلق فيه، وخط على بيمينه، فيها كل حلال وحرام وكل شىء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش. وضرب بيده إلى فقال: تأذن لى يا أبا محمد؟ قال: قلت: جعلت فداك إنما أنا لك فاصنع ما شئت، قال: هذا والله العلم، قال: إنه لعلم وليس بذاك. ثم سكت ساعة ثم قال: وإن عندنا الجفر، وما يدريهم ما الجفر؟ قال: قلت: ومال الجفر؟ قال وعاء من أدم، فيه علم النبيين والوصيين، وعلم العلماء الذين مضوا من بنى إسرائيل، قال: قلت إن هذا هو العلم، قال: إنه لعلم وليس بذاك. ثم سكت ساعة ثم قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام، وما يدريهم ما مصحف فاطمة رضي الله عنه؟ قال: قلت: وما مصحف فاطمة عليها السلام؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 قال مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، قال: قلت هذا والله العلم، قال: إنه لعلم وما هو بذاك. ثم سكت ساعة ثم قال: إن عندنا علم ما كان وعلم ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، قال: قلت: جعلت فداك هذا والله أعلم. قال: إنه لعلم وليس بذاك. قال: قلت: جعلت فداك فأى شئ العلم؟ قال: ما يحدث بالليل والنهار، الأمر من عبد الأسر، والشىء بعد الشىء إلى يوم القيامة. 2- عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه يقول: تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، ذلك أننى نظرت في مصحف فاطمة عليها السلام قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: إن الله تعالى لما قبض نبيه عليه الصلاة والسلام دخل على فاطمة عليها السلام من وفاته من الحزن ما لايعلمه إلا الله عز وجل، فأرسل الله إليها ملكا يسلى غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: إذ أحسست بذلك وسمعت الصوت، فقولى لى. فأعلمته بذلك، فجعل أمير المؤمنين رضي الله عنه يكتب كلما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفا. قال: ثم قال: أما إنه ليس فيه شىء من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون. 3- عن الحسن بن أبي العلاء قال: سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه يقول: إن عندي الجفر الأبيض: قلت: فأي شىء فيه؟ قال: زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، ومصحف إبراهيم رضي الله عنه، والحلال والحرام، ومصحف فاطمة ما أزعم أن فيه قرآنا، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلي أحد، حتى فيه الجلدة، ونصف الجلدة، وربع الجلدة، وأرش الخدش. وعندى الجفرالأحمر، قال: قلت: وأي شئ في الجفر الأحمر؟ قال السلاح، وبذلك إنما يفتح للدم يفتحه صاحب السيف للقتل. فقال له عبد الله بن أبي يعفور: أصلحك الله أيعرف هذا بنو الحسن؟ فقال: أي والله كما يعرفون الليل أنه ليل، والنهارأنه نهار، ولكنهم يحملهم الحسد على الجحود والإنكار، ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيراً لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 4- عن سليمان بن خالد قال: قال أبوعبد الله: إن في الجفرالذين يذكرونه لما يسوؤهم، لأنهم لا يقولون الحق (1) والحق فيه، فليخرجوا قضايا على وفرائضه إن كانوا صادقين، وسلوهم عن الخالات والعمات، وليخرجوا مصحف فاطمة عليها السلام، فإن فيه وصية فاطمة عليها السلام، ومعه سلاح رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن الله عز وجل يقول: {فأتوا بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (2) . 5- عن أبى عبد الله: هو (آي الجفر) جلد ثور مملوء علما، قال له فالجامعة؟ قال: تلك صحيفة طولها سبعون ذراعا في عرض الأديم مثل فخذ الفالج فيها كل ما يحتاج الناس إليه، وليس من قضية إلا وهى فيها، حتى أرش الخد ش. إن فاطمة مكثت بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسة وسبعين يوما، وكان داخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرئيل عليه السلام يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان على يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة. 6- عن أبى عبد الله قال: إن عندنا كتابا إملاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوخط على صحيفة فيها كل حلال وحرام. 7- عبد الملك بن أعين قال لأبى عبد الله: إن الزيدية والمعتزلة قد أطافوا بمحمد بن عبد الله فهل له سلطان؟ فقال: والله إن عندى لكتابين فيهما تسمية كل نبى وكل ملك يملك الأرض، لا والله مامحمد بن عبد الله في واحد منهما. 8- كتاب فاطمة: ليس من ملك يملك الأرض إلا وهو مكتوب فيه باسمه واسم أبيه، وما وجدت لولد الحسن فيه شيئا.   (1) أى فى المسائل إذا سئلوا عنها، وقوله: والحق فيه يعنى في الجفر وهو خلاف ما يقولون. وقوله فليخرجوا إلخ يعنى ليس عندهم ولا يدرون ما فيه من ذلك (الحاشية) . (2) 4: الأحقاف، والآية هكذا: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 وفي" باب في أن الأئمة يزدادون في ليلة يوم الجمعة " (ص 253-254) يذكر ثلاث روايات عن أبى عبد الله منها: إذا كان ليلة الجمعة وافي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العرش ووافي الأئمة معه ووافينا معهم، فلا ترد أرواحنا إلى أبداننا إلا بعلم مستفاد، ولولا ذلك لأفقدنا. وفي " باب لولا أن الأئمة يزدادون لنفد ما عندهم " (ص254 -255) يذكرأربع روايات. ويذكر أربع روايات كذلك تحت " باب أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التى خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل " (ص 255-256) وفى "باب نادر فيه ذكر الغيب " (256 –257) يذكر أربع روايات، منها رواية تعجب لوجودها في هذا الكافى، وهى: عن أبى عبد الله: " يا عجبا لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل. لقد هممت بضرب جاريتى فلانة فهربت منى، فما علمت في أى بيوت الدار هي ". كلمة حق جرى بها قلم لا يعرف الحق، لذا كان عجيبا، ولكن سرعان ما زال هذا العجب، فالراوية التالية عن نفس الإمام أنه سئل " الإمام يعلم الغيب؟ فقال: لا ولكن إذا أراد أن يعلم الشئ أعلمه الله ذلك " فالكلينى إذن لم يذكر الراوية الأولى للأخذ بها، ولكن ليهدم هذا المعنى المستقر في أخلاد المؤمنين ببيان أن الأئمة لا يعلمون الغيب إلا بإرادتهم عن طريق الله سبحانه، فما أهون أن يعلم مكان الجارية إذا أراد! والأبواب التالية توضح ما أراده الكلينى: " باب أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا " (ص 158) فيه ثلاث روايات. " باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم " ... (ص 258 –260) فيه ثمانى روايات. " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم الشىء " (ص 260-262) فيه ست روايات. " باب جهات علوم الأئمة " (ص264) فيه ثلاث روايات تفيد أن هذه الجهات هي الوارثة والإلهام. " باب أن الأئمة لو ستر عليهم لأخبروا كل امرئ بما له وعليه " (ص 264-265) فيه روايتان. وفى " باب أن الله عز وجل لم يعلم نبيه علما إلا أمره أن يعلمه أمير المؤمنين وأنه كان شريكه في العلم " (ص362) يذكر ثلاث روايات. وفى " باب التفويض إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى الأئمة في أمر الدين (ص 265-268) يذكر عشر روايات. وفى " باب في أن الأئمة بمن يشبهون ممن مضى، وكراهية القول فيهم بالنبوة " (1) (ص 268-270) ، يذكر سبع روايات. وفى " باب أن الأئمة محدثون مفهمون " (ص 270-271) يذكر خمس روايات. وفى " باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمة " (ص 271- 272) يذكر ثلاث روايات تفيد أن هذه الأرواح خمس: روح الإيمان وروح القوة، وروح الشهوة، وروح الحياة، والخامسة روح القدس وهى خاصة بالأنبياء " فإذا قبض النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتقل روح القدس فصار إلى الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو، والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو وروح القدس كان يرى به " (2) .   (1) معنى هذا جواز القول بنبوة أئمة الجعفرية. فالقول لا يتعدى حكم الكراهة! (2) في الحاشية فسر الجزء الأخير بقوله " يعنى ما غاب عنه في أقطار الأرض وما في عنان السماء وبالجملة ما دون العرش إلى ما تحت الثرى ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 وفى " باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة " (ص 273-274) يذكر ست روايات، منها أن الإمام الصادق قال عن قوله تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [ (1) قال: " خلق من خلق الله - عز وجل - أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده " ومنها أن الإمام الصادق قال: ما سبق أيضاً عن قوله تعالى] وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [ (2) وأنه كذلك قال: منذ أنزل الله عز وجل ذلك الروح على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما صعد إلى السماء وأنه لفينا. وفي " باب وقت ما يعلم الإمام جميع علم الإمام الذي كان قبله " (ص274-275) يذكر ثلاث روايات. وفي " باب أن الأئمة في العلم والشجاعة والطاعة سواء" (ص275) يذكر ثلاث روايات ويحرف معنى آية كريمة. وفي " باب أن الإمام يعرف الإمام الذي يكون من بعده، وأن قول الله تعالى] إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [ (3) فيهم عليهم الصلاة والسلام نزلت " (ص 276 ـ 277) يذكر سبع روايات، ويحرف معنى آيات أخريات: وفى " باب أن الإمامة عهد من الله عزوجل معهود من واحد إلى واحد " (ص 277 ـ 279) ، يذكر أربع روايات منها:   (1) الشورى: 52. (2) الإسراء: 85. (3) 58: النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 عن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبد الله فذكر الأوصياء وذكرت إسماعيل فقال: لاوالله يا أبا محمد، ما ذاك إلينا، وما هو إلا إلي الله عز وجل، ينزل واحد بعد واحد (1) . وفي " باب أن الأئمة لم يفعلوا شيئا ولا يفعلون إلا بعهد من الله عز وجل، وأمر منه لا يتجاوزونه " (ص279-284) يذكر أربع روايات مطولة، والكلينى هنا يخرج لنا بطريقة جديدة في الافتراء على الله عز وجل، فالروايات تفيد أن جبرئيل – رضي الله عنه - نزل على محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتاب كل إمام يفك خاتما، وينفذ ما بالجزء الذى يخصه من الكتاب. ومن هذه الروايات: عن أبي عبد الله: أن الوصية نزلت من السماء على محمد كتابا (2) لم ينزل على محمد كتاب مختوم إلا الوصية، فقال جبرئيل: يا محمد هذه وصيتك في أمتك عند أهل بيتك فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أى أهل بيتى يا جبرئيل؟ قال: نجيب الله منهم وذريته، ليرثك علم النبوة كما ورثه إبراهيم رضي الله عنه، وميراثه لعلى وذريتك من صلبه. قال: وكان عليها خواتيم، قال ففتح على الخاتم الأول ومضى لما فيها، ثم فتح الحسن الخاتم الثاني ومضى لما أمر به فيها، فلما توفي الحسن فتح الحسين الخاتم الثالث فوجد فيها أن قاتل فاقتل وتقتل واخرج بأقوام للشهادة، لا شهادة لهم إلا معك، قال: ففعل ... إلخ. ومنها ... وأن الحسين قرأ صحيفته التى أعطيها، وفسر له ما يأتى بنعى وبقى فيها أشياء لم تقض، فخرج للقتال..وكانت تلك الأمور التى بقيت أن الملائكة سألت الله تعالى في نصرته فأذن لها، ومكثت تستعد للقتال وتتأهب لذلك حتى   (1) أراد الكلينى من هذه الرواية إبطال ما ذهبت إلية الطائفة الأخرى من الأمامية وهى طائفة الإسماعيلية. (2) أي مكتوبا بخط إلهي مشاهد من عالم الأمر كما أن جبرئيل - عليه السلام - كان ينزل عليه في صورة آدمي مشاهد من هناك (هذا تفسير الحاشية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 قتل، فنزلت وقد انقضت مدته وقتل، فقالت الملائكة: يارب أذنت لنا في الانحدار وأذنت لنا في نصرته، فانحدرنا وقد قبضته، فأوحى الله إليهم: أن الزموا قبره حتى تروه قد خرج فانصروه، وابكوا عليه وعلى ما فاتكم من نصرته، فإنكم قد خصصتم بنصرته وبالبكاء عليه، فبكت الملائكة تعزيا وحزنا على ما فاتهم من نصرته، فإذا خرج يكونون أنصاره. وفي " باب الأمور التى توجب حجة الإمام (ص284-285) يذكر ست روايات تفيد أن الأمور هي: الفضل، والوصية والسلاح وأن يكون الإمام أكبر ولد أبيه ما لم يكن فيه عاهة كإسماعيل بن جعفر. ومن هذه الروايات: الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس، ولا طير ولا بهيمة، ولا شئ فيه الروح، فمن لم يكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام. وفي " باب ثبات الأمانة في الأعقاب، وأنها لاتعود في أخ ولا عم ولا غيرهما من القرابات (ص285-286) يذكر خمس روايات، ويستثنى الحسين من عدم العودة في الأخ. وفي " باب ما نص الله عز وجل ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأئمة واحدا فواحدا " (ص 286-292) يذكر سبع روايات وفي إحداها إبطال إمامة محمد بن الحنفية. وفي " باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين " (ص292-297) يذكر تسع روايات، وفيها تحريف لبعض آى القرآن الكريم نصا ومعنى، وفيها تخطئة وإنكار لنص آيه كريمة، وتعريض بالشيخين: الصديق والفاروق رضى الله تعالى عنهما، وبأنهما ارتدا.. إلخ. ويعقد الكليني بعد هذا أحد عشر بابا كل باب للإشارة والنص على أحد الأئمة بحسب الترتيب الزمني إلى أن يصل إلي الإمام الثاني عشر في باب الإشارة والنص إلي صاحب الدار في (ص329) ويضمن هذه الأبواب ثلاثة وتسعين رواية؟ ! وبعد الباب الأخير يأتي " باب في تسمية من رآه " (ص329-332) يذكر خمس عشرة رواية لتسمية من رأى إمامهم الأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 وباب في النهى عن الاسم (ص332-333) يذكر أربع روايات وفيها: لا يرى جسمه ولا يسمى اسمه. " وباب نادر في حال الغيبة " (ص333-335) فيه ثلاث روايات. " وباب في الغيبة " (ص335-343) يذكر الكليني فيه إحدى وثلاثين رواية يستفاد منها أن إمامهم الثاني عشر يشهد المواسم ويرى الناس ولا يرونه. وأن له غيبتين ... إلخ. وفي بعض الروايات تحريف لمعاني آيات من القرآن الكريم، وفي بعض التحريف تحديد لزمن الغيبة، ففي قوله تعالى " فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس" (1) يروى روايتين أن المراد هو " إمام يخنس سنة ستين ... ومائتين " (2) . وفي" باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة " (ص343 – 367) يذكر تسع عشرة رواية منها: رواية بطريقين عن أبي جعفر: أن محمد بن على المسمى بابن الحنفية طلب من على بن الحسين بعد استشهاد أبيه الحسين ألا ينازعه في الإمامة لأنه أحق بها. ولكن عليا خوف عمه من عقاب الله تعالى، وطلب الاحتكام للحجر الأسود، فسأل ابن الحنفية الحجر فلم يجبه، فقال على بن الحسين لو كنت إماما لأجابك، ثم سأل على الحجر فتحرك حتى كاد أن يزول عن موضعه، ثم أنطقه الله عز وجل بلسان عربي مبين، وشهد بأن الوصية لعلى (3) . وفي رواية عن موسى بن جعفر أنه أثبت إمامته لمن طلب الإثبات بأن أمر شجرة لتأتيه، فجاءت تخد الأرض خدا حتى وقفت بين يديه، ثم أشار إليها فرجعت (4) .   (1) 15-16: التكوير. (2) ص 341. (3) أنظر ص 348. (4) أنظر ص 353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 وعن محمد بن على الرضا: أن عصا في يده نطقت وقالت: إن مولاي إمام هذا الزمان وهو الحجة (1) . وفي " باب كراهية التوقيت " (ص 368-369) يذكر سبع روايات، الأولى هي: - عن أبي جعفر: إن الله تبارك وتعالى قد كان وقت هذا الأمر في السبعين، فلما أن قتل الحسين اشتد غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخره إلى أربعين ومائة، فحدثناكم فأذعتم الحديث، فكشفتم قناع الستر، ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا، ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. وفي رواية: إذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم به فقولوا: صدق الله، وإذا حد ثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا: صدق الله تؤجروا مرتين (2) . وفي " باب التمحيص والامتحان " (ص369-371) يذكر ست روايات. وفي " باب من عرف إمامه لم يضره تقدم هذا الأمر أو تأخر" ... (ص371-372) يذكر سبع روايات وفي" باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل، ومن جحد الأئمة أو بعضهم، ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل " (ص372-374) يذكر اثنتي عشرة رواية، وهذه الروايات يستفاد منها أن غير أئمة الجعفرية الرافضة كفار وإن كانوا فاطميين علويين، ومن تبعهم كان مشركا بالله. وفي الروايات تحريف لمعانى آيات ذكرت، وتكفير لفلان وفلان، أي الصديق والفاروق – ومن والاهما، وقاعدة عامة لظاهر القرآن وباطنه " وأن القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الحق ".   (1) أنظر ص 353. (2) في الحاشية: (مرة للتصديق وأخرى للقول بالبداء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 وفي " باب من مات وليس له إمام من أئمة الهدى " (ص376-377) يذكر أربع روايات تفيد أنه يموت ميتة جاهلية. وفي " باب فيمن عرف الحق من أهل البيت ومن أنكر " (ص377-378) يذكر أربع روايات منها: عن الرضا: الجاحد منا له ذنبان، والمحسن له حسنتان. وفي " باب ما يجب على الناس عند مضى الإمام (ص 378-380) يذكر ثلاث روايات. وفي " باب أن الإمام متى يعلم أن الأمر قد صار إليه " (ص380-382) يذكر ست روايات. وفي " باب حالات الأئمة في السن " (ص382-384) يذكر ثماني روايات. وفي " باب أن الإمام لا يغسله إلا إمام من الأئمة " (1) (ص384-385) يذكر ثلاث روايات. وفي " باب مواليد الأئمة (ص385-389) يذكر ثماني روايات منها: عن أبي عبد الله: إن الله تبارك وتعالى إذا أحب أن يخلق الإمام أمر ملكا فأخذ شربة من ماء تحت العرش فيسقيها أباه، فمن ذلك يخلق الإمام، فيمكث أربعين يوما وليله في بطن أمه لا يسمع الصوت. ثم يسمع بعد ذلك الكلام، فإذا ولد بعث ذلك الملك فيكتب بين عينيه: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم " (115: الأنعام) فإذا مضى الإمام الذي كان قبله رفع لهذا منار من نور ينظر به إلى أعمال الخلائق فبهذا يحتج الله على خلقه (2) وفي الباب أكثر من راوية تفيد هذا المعنى باختلاف في مكان الكتابة.   (1) ولذلك فهم يرون أن الإمام الثاني عشر عندما يموت يكون الحسين قد رجع إلي الحياة فيقوم بغسله ‍‍‍‍‍‍‍ ... ! ‍‍‍‍‍‍‍ (2) ص 387. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 وفي " باب خلق أبدان الأئمة وأرواحهم وقلوبهم " (ص389-390) يذكر أربع روايات منها: عن أبي جعفر: إن الله خلقنا من أعلى عليين، وخلق قلوب شيعتنا مما خلقنا، وخلق أبدانهم من دون ذلك، فقلوبهم تهوى إلينا لأنها خلقت مما خلقنا، ثم تلا هذه الآية:] كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [ (1) وخلق عدونا من سجين، وخلق قلوب شيعتهم مما خلقهم منه، وأبدانهم من دون ذلك، فقلوبهم تهوى إليهم لأنها خلقت مما خلقوا منه، ثم تلا هذه الآية] كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ [ (2) . وفي " باب التسليم وفضل المسلمين " أى للأئمة (ص390-392) ، يذكر ثماني روايات. وفي " باب أن الواجب على الناس بعد ما يقضون مناسكهم، أن يأتوا الإمام ... فيسألون عن معالم دينهم، ويعلمونه ولا يتهم ومودتهم له " (ص392-393) يذكر ثلاث روايات منها: نظر أبو جعفر إلى الناس يطوفون حول الكعبة فقال: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية، إنما أمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا إلينا يعلمونا ولا يتهم ومودتهم، ويعرضوا علينا نصرتهم. ومنها أنه نظر إلى أبي حنيفة وسفيان الثوري في ذلك الزمان وهم حلق في المسجد فقال: هؤلاء الصادون عن دين الله بلا هدى من الله ولا كتاب مبين، إن هؤلاء الأخابث لو جلسوا في بيوتهم، فجال الناس فلم يجدوا أحدا يخبرهم عن   (1) 18 -21 المطففين. (2) 7- 9 المطففين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 الله تبارك وتعالى، وعن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يأتونا فنخبرهم عن الله تبارك وتعالى، ... وعن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي " باب أن الأئمة تدخل الملائكة بيوتهم، وتطأ بسطهم وتأتيهم بالأخبار " (ص393-394) ، يذكر أربع روايات. وفي " باب أن الجن يأتيهم: فيسألونهم عن معالم دينهم ويتوجهون في أمورهم " (ص394-397) يذكر سبع روايات تفيد معنى الباب، وأن بعض الناس رأوا الجن يخرجون من عند الأئمة، وفي رواية: إن ثعبانا جاء وأمير المؤمنين يخطب، فأمر بعدم قتله، وصعد الثعبان إليه فقال أمير المؤمنين من أنت؟ فقال الثعبان: عمرو بن عثمان خليفتك على الجن، وإن أبي مات، وأوصاني أن آتيك فأستطلع رأيك..إلخ. وفي " باب في الأئمة أنهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود (1) ولا يسألون البينة " ص (397-398) يذكر خمس روايات. وفي " باب أن مستقى العلم من بيت آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (ص398-399) يذكر روايتين. وفي " باب أنه ليس شىء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الأئمة وأن كل شىء لم يخرج من عندهم فهو باطل " (ص399-400) . يذكر ست روايات. وفي " باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستعصب " (ص401-402) يذكر خمس روايات. وفي " باب ما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم ومن هم؟ " (ص403-405) يذكر خمس روايات تؤيد فرقته الرافضة.   (1) وليس بشريعة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!! الحنين إلى عبد الله بن سبأ، اليهودى أول من قال بفكرة الوصى بعد النبى!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 وفي " باب ما يجب من حق الإمام على الرعيه وحق الرعيه على الإمام " (ص405-407) يذكر سبع روايات. وفي " باب أن الأرض كلها للإمام " (407-410) يذكر ثماني روايات تفيد معنى الباب، وأن الله تعالى أورث أئمة الجعفرية الأرض كلها، فأداء الخراج يجب أن يكون لهم. ومما جاء في " باب نادر" (ص411-412) : عن جابر عن أبي جعفر قال: قلت له: لم سمى أمير المؤمنين؟ قال: الله سماه وهكذا أنزل في كتابه: ] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [وأن محمداً رسولى وأن علياً أمير المؤمنين؟ (1) . وفي " باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية " (ص412-436) ، يذكر الكلينى اثنتين وتسعين رواية: ويبدو من العنوان أن الكلينى أراد هنا أن يخضع كتاب الله لهواه، فيحرف معناه ليؤيد عقيدته في الإمامة، أراد إذا أن يجعل آيات الله تعالى تتحدث عن أئمة الجعفرية. ولكن الكلينى لم يكتف بهذا فسلك مسلك شيخه على بن إبراهيم القمي صاحب التفسير الضال المضل الذي تحدثنا عنه، ولذا ترى الكلينى هنا يحرف نصوص آيات قرآنية، ويطعن في الصحابة الكرام بصفة عامه، فيصمهم بالكفروالردة والنفاق، ويطعن في الخلفاء الراشدين الثلاثة بصفة خاصة باعتبار أنهم – كما يفتري - اغتصبوا الولاية من أمير المؤمنين، ويطعن في الشيخين بصفة أخص. والروايات التى تحمل تحريف نصوص الآيات الكريمة هي الروايات أرقام 8، 23، 25، 26، 27، 28، 31، 32، 43، 47، 48، 58، 59، 60، 62، 63، 64، 91.   (1) الآية الكريمة في سورة الأعراف (172) والجزء الأخير " وأن محمدا رسولي وأن عليا أمير المؤمنين " زيادة من الكلينى ليثبت ضلاله " الله سماه وهكذا أنزل في كتابه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 والطعن في الصحابة الكرام البررة في أكثر الروايات، أما الروايات التي تطعن في الخلفاء الراشدين الثلاثة فهي أرقام:17، 42، 73، 83. والروايات التى تطعن في أبي بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما –هي:3، 14، 43، 79. ونكتفى هنا بذكر رواية واحدة من روايات الباب، وهي الرواية رقم 91 (ص442-435) وهي: عن محمد بن الفضيل عن إمامهم الحادى عشر: قال: سألته عن قول الله عز وجل] يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [قال: يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين بأفواههم. قلت] وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [قال: والله متم الإمامه لقوله عز وجل] فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [فالنور هو الإمام: قلت] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [قال: هو الذي أمر رسوله بالولاية لوصيه والولاية هي دين الحق، قلت:] لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [قال: يظهر على جميع الأديان عند قيام القائم، قال ... الله:] وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [ولاية القائم] وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [بولاية على، قلت: هذا تنزيل؟ قال: نعم أما هذا الحرف فتنزيل وأما غيره فتأويل. قلت:] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [قال: إن الله تبارك وتعالى سمى من لم يتبع رسوله في ولاية وصيه منافقين، وجعل من جحد وصية إمامته كمن جحد محمدا، وأنزل بذلك قرآنا: يا محمد] إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ [ (بولاية وصيك) قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين (بولاية على) لكافرون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله (والسبيل هو الوصي) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 إنهم ساء ما كانوا يعملون. ذلك بأنهم آمنوا (برسالتك) وكفروا (بولاية وصيك) فطبع (الله) على قلوبهم فهم لا يفقهون " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله " قال: وإذا قيل لهم ارجعوا إلى ولاية على يستغفر لكم النبي من ذنوبكم " لووا رءوسهم " قال الله " ورأيتهم يصدون: (عن ولاية على) وهم مستكبرون " عليه. ثم عطف القول من الله بمعرفته بهم فقال. ] سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [يقول الظالمين لوصيك. قلت:] أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [قال: إن الله ضرب مثل من حاد عن ولاية على كمن يمشي على وجهه لا يهتدى لأمره وجعل من تبعه سويا على صراط مستقيم، والصراط المستقيم أمير المؤمنين. قال: قلت:] إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [قال يعنى جبرئيل عن الله في ولاية على قال: قلت:] وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ [قال: قالوا: إن محمدا كذاب على ربه وما أمره الله بهذا في على فأنزل الله بذلك قرآنا فقال (إن ولاية على) تنزيل من رب العالمين. ولو تقول علينا (محمد) بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين " ثم عطف القول فقال: إن (ولاية على) لتذكرة للمتقين (العالمين) وإنا لنعلم أن منكم مكذبين. وإن (عليا) لحسرة على الكافرين. وإن (ولايته) لحق اليقين. فسبح (يا محمد) باسم ربك العظيم " يقول اشكر ربك العظيم الذي أعطاك هذا الفضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 قلت: قوله:] لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ [قال الهدى الولاية، آمنا بمولانا فمن أمن بولاية مولاه] فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا [قلت: تنزيل قال: لا تأويل قلت: قوله] لَا أَمْلِكُ لكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا [قال إن رسول الله دعا الناس إلى ولاية على فاجتمعت إليه قريش فقالوا: يا محمد اعفنا من هذا، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا إلى الله ليس إلى، فاتهموه، وخرجوا من عنده فأنزل الله] قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ (إن عصيته) أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ [ (في على) قلت: هذا تنزيل قال: نعم ثم قال توكيدا:] وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (في ولاية على) فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [قلت " حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا " يعنى بذلك القائم وأنصاره، قلت " واصبر على ما يقولون" قال: يقولون فيك ] وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [] وَذَرْنِي (يا محمد) وَالْمُكذِّبِينَ (بوصيك) أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [قلت: إن هذا تنزيل؟ قال: نعم.. إلخ (1) . وفي " باب فيه نتف وجوامع من الرواية في الولاية " (436 ـ 438) ، يذكر تسع روايات يستفاد منها أن ولاية أئمة الجعفرية الإمامية الرافضة ولاية الله تعالى جاء بها كل الأنبياء، وكتبت فى جميع صحفهم، ويؤمن بها ما لا يحصى   (1) لترى التحريف راجع سورة: التغابن (8) ، والمنافقين (1، 3، 5، 6) والحاقة (43، 46، 48، 52) والجن (21، 24) ، والمزمل (10، 11) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 من الملائكة، منكرها كافر، وجاهلها ضال، ومن اتخذ معهم أئمة آخرين كان مشركاً، ومن جاء بهذه الولاية دخل الجنة. وفى " باب فى معلافتهم أولياءهم والتفويض إليهم " (ص 438 ـ 439) ، يذكر ثلاث روايات هى: 1- عن أبي عبد الله: إن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين وقال له: إني أحبك وأتولاك، فكذبه. فكرر ثلاثا فقال له: كذبت ما أنت كما قلت، إن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام، ثم عرض علينا المحب لنا، فوالله ما رأيت روحك فيمن عرض، فأين كنت؟ فسكت الرجل عند ذلك ولم يراجعه". وفي رواية أخرى قال ابو عبد الله: كان في النار. 2- عن أبي حعفر: إنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق. 3-عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله قال سألته عن الإمام فوض الله إليه كما فوض إلى سليمان بن داود؟ فقال نعم. وذلك أن رجلا سأله عن مسألة فأجابه فيها، وسأله آخر عن تلك المسألة فأجابه بغير جواب الأول، ثم سأله آخر فأجابه بغير جواب الأولين ثم قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ (أعط) بِغَيْرِ ... حِسَابٍ} (1) وهكذا هي فى قراءة على.. إلخ. وفي أبواب التاريخ " يذكر الكلينى روايات نرى في الحاشية رفضا لبعضها وطعنا في سندها، ولكن أثر الإمامه يبدو كذلك فيما لم يطعن، فيه، مثال هذا ما رواه أن أبا جعفر المنصور أمر بإحراق دار الإمام جعفر الصادق، فخرج يتخطى النار، ويمشى فيها، ويقول: أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن إبراهيم خليل الله (2) . وفي " باب ما جاء في الاثنى عشر والنص عليهم (ص252-535) يذكر الكلينى عشرين رواية، نذكر هنا نص إحدى الروايات:   (1) 39 سورة ص، ولكنه حرفها فجعل (أعط) بدلا من (أمسك) . (2) أنظر ص 473. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 عن أبي بصير، عن أبي عبد الله، قال: قال أبي لجابر بن عبد الله الأنصاري: إن لي إليك حاجة فمتى يخف عليك أن أخلو بك فأسألك عنها؟ فقال له جابر: أى الأوقات أحببته، فخلا به في بعض الأيام فقال له: يا جابر أخبرنى عن اللوح الذى رأيته في يد أمي فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أخبرتك به أمي أنه في ذلك اللوح المكتوب؟ فقال جابر: أشهد بالله أنى دخلت على أمك فاطمة عليها السلام في حياة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهنيتها بولادة الحسن ورأيت في يديها لوحا أخضر، ظننت أنه من زمرد، ورأيت فيه كتابا أبيض، شبه لون الشمس، فقلت لها: بأبي وأمي يا بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما هذا اللوح؟ فقالت هذا لوح أهداه الله إلى رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه اسم أبي واسم بعلى واسم ابنى واسم الأوصياء من ولدى، وأعطانيه أبي ليبشرنى بذلك. قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة عليها السلام فقرأته واستنسخته. فقال له أبي: فهل لك ياجابر أن تعرضه على؟ فقال: نعم فمشى معه أبي إلى منزله فأخرج صحيفة من رق فقال: يا جابر انظر في كتابك لأقرأ أنا عليك. فنظر جابر في نسخته فقرأه فما خالف حرف حرفا فقال جابر: فأشهد بالله أنى هكذا رأيته في اللوح مكتوبا. ونص الكتاب هو: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لمحمد نبيه ونوره وسفيره وحجابه ودليله نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين، عظم يا محمد أسمائى، واشكر نعمائي ولا تجحد آلائي، إني أنا الله لا إله إلا أنا، قاصم الجبارين ومديل المظلومين وديان الدين، إني أنا الله لا إله إلا أنا فمن رجا غير فضلي، أو خاف غير عدلي، عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. فإياى فاعبد وعلىّ فتوكل، إنى لم أبعث نبياً فأكملت أيامه وانقضت مدته إلا جعلت له وصيا. وإنى فضلتك على الأنبياء وفضلت وصيك على الأوصياء وأكرمتك بشبليك وسبطيك حسن وحسين، فجعلت حسنا معدن علمى بعد انقضاء مدة أبيه، وجعلت حسينا خازن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 وحيي، وأكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد وأرفع الشهداء درجة. جعلت كلمتى التامة معه وحجتي البالغة عنده، بعترته أثيب وأعاقب، أولهم على سيد العابدين، وزين أوليائي الماضين، وابنه شبه جده المحمود: محمد الباقر علمى والمعدن لحكمتى، سيهلك المرتابون في جعفر الراد عليه كالراد على، حق القول منى لأكرمن مثوى جعفر ولأسرنه في أشياعه وأنصاره وأوليائه، أتيحت بعد موسى فتنة عمياء حندس لأن خيط فرضى لاينقطع، وحجتي لا تخفي، وأن أوليائي يسقون بالكأس الأوفي، من جحد واحداً منهم فقد جحد نعمتي، ومن غير آية من كتابي فقد افترى على، ويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة موسى عبدى وحبيبي، وخيرتي في على، وليي وناصري، ومن أضع عليه أعباء النبوة، وأمتحنه بالاضطلاع بها، يقتله عفريت مستكبر يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح إلى جنب شر خلقي ـ حق القول منى لأسرنه بمحمد ابنه وخليفته من بعده ووارث علمه، فهو معدن علمي وموضع سري، وحجتي علي خلقي. لا يؤمن عبد به إلا جعلت الجنة مثواه، وشفعته في سبعين من أهل بيته كلهم قد استوجبوا النار، وأختم بالسعادة لابنه على وليي وناصري والشاهد في خلقي وأمينى على وحيي، أخرج منه الداعي إلى سبيلي، والخازن لعلمي الحسن وأكمل ذلك بابنه " م ح م د " رحمة للعالمين، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب فيذل أوليائي في زمانه، وتتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوس الترك والديلم، فيقتلون ويحرقون، ويكونون خائفين مرعوبين، وجلين تصبغ الأرض بدمائهم، ويفشو الويل والرنة في نسائهم، أولئك أوليائي حقا، بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس، وبهم أكشف الزلازل وأدفع الآصار والأغلال، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 قال عبد الرحمن بن سالم: قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك إلا هذا الحديث لكفاك فصنه إلا عن أهله (1) .   (1) ذكرنا من قبل في هذا الفصل أن الكلينى خرج بطريقة جديدة في الافتراء على الله عز وجل. عندما ذكر روايات تفيد أن جبريل نزل على محمد - عليهما السلام - بكتاب مختوم، كل إمام يفك خاتما، وينفذ ما بالجزء الذي يخصه من الكتاب، وهنا يعود الكلينى مرة أخرى إلى هذا النوع من الافتراء وأرى إبداء الملاحظات الآتية: 1ـ هذا الافتراء لايقل ضلالا عن القول بتحريف القرآن الكريم، فالقرآن الكريم نزل مشافهة، والكلينى - وقد أعظم الفرية - يزعم أن تعيين أئمة الجعفرية الاثنى عشرية نزل مكتوبا بخط إلهي، فتضييع الأمر الإلهي المكتوب بخط الله تعالي لا يقل عن تضييع الأمر الإلهي غير المكتوب، والأمة التي تضيع أمرا مكتوبا غير أمينه على نقل أمر غير مكتوب، ومن هنا يتضح هدف الكلينى وهو تقويض البناء الإسلامى من أساسه ولكن هيهات. 2 ـ وقف بعض الجعفرية من القول بتحريف القرآن الكريم موقفا محمودا كما رأينا، ولكنهم لم يقفوا نفس الموقف من افتراء الكلينى الذي لا يقل خطورة عن القول بالتحريف والنقصان من القرآن المجيد. ولعل بعضهم وقف نفس الموقف ولم أطلع عليه، وذكرت رواية الكلينى المفتراة لصديقنا العالم الجعفرى السيد طالب الرفاعى فقال " إننا ندين الله تعالى بهذا "، ومعنى هذا أن الجعفرية متفقون على قبول رواية الكلينى الضالة المضلة. 3- بعد أن بين الخوئى المرجع الأعلى بالعراق أن احتمال وقوع التحريف من الشيخين مقطوع بعدمه قال: وأما احتمال وقوع التحريف من عثمان فهو أبعد من الدعوى الأولى، لأن الإسلام قد انتشر فى زمان عثمان على نحو ليس فى إمكان عثمان أن ينقص من القرآن شيئا، ولا فى إمكان من هو أكبر شأناً من عثمان، ولأن تحريفه إن كان للآيات التى لا ترجع إلى الولاية ولا تمس زعامة سلفه بشىء، فهو بغير سبب موجب، وإن كان للآيات التى ترجع إلى شىء من ذلك فهو مقطوع بعدمه، لأن القرآن لو اشتمل على شىء من ذلك وانتشر بين الناس لما وصلت الخلافة إلى عثمان ... ... (البيان ص 237) . ونقول لإخواننا الجعفرية: ألا ينطبق كلام السيد أبى القاسم الخوئى على رواية الكلينى ... المفتراة؟ فلو صحت لما خرجت الإمامة عن أئمة الجعفرية، ولما استطاع أحد أن يمنع الأمة الإسلامية من تنفيذ أمر مكتوب بخط إلهى، وكان يكفى الإمام عليا إظهار الكتاب والمطالبة بتنفيذه. * * 4 ـ قال تعالى فى سورة النساء (الأية 153) {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} وقال عز وجل فى الأية السابعة من سورة الأنعام: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} وقال سبحانه فى سورة الإسراء (90-93) {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} . فالذين طلبوا من الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنزال صحيفة مكتوبة من السماءهم أهل الكتاب والكفار، ولم يجابوا لهذا المطلب، ويوضح شيخ طائفتهم الطوسى سبب عدم إنزال الكتاب بقوله فى تفسير آية الأنعام: " أخبر الله تعالى فى هذه الآية أنه لو نزل على نبيه كتاباً - يعنى صحيفة مكتوبة - فى قرطاس حتى يلمسوه بأيدهم ويدركوه بحواسهم، لأنهم سألوا النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتيهم بكتاب يقرءونه من الله إلى فلان بن فلان أن آمن بمحمد وأنه لو أجابهم إلى ذلك لما آمنوا، ونسبوه إلى السحر لعظم عنادهم وقساوة قلوبهم، وعزمهم على أن لايؤمنوا على كل حال، وعرفه أن التمساهم هذه الآيات ضرب من العنت، ومتى فعلوا ذلك اصطلمهم واستأصلهم، وليس تقتضى المصلحة ذلك لما علم فى بقائهم من مصلحة المؤمنين، وعلمه بمن يخرج من أصلابهم من المؤمنين، وأن فيهم من يؤمن فيما بعد ". (التبيان 4 /82) . فلو نزل مثل هذا الكتاب لما كان التعبيربقوله تعالى {وَلَوْ نَزَّلْنَا} ولكان هذا كافياً لأهل الكتاب والكفار فضلا عن المسلمين وداعياً لاصطلام المكذبين واستئصالهم، ولكن شيئا من هذا لم يحدث، إنما أراد الكلينى بفريته أن يصور خير أمة أخرجت للناس بأنها أكثر كفراً وتكذيباً من أهل الكتاب والكفار حتى أن أمراً إلهياً مكتوباً نزل وكذبته. 5- فات الكلينى أن الإمامة بعد الصادق كانت لابنه إسماعيل فلما مات فى حياة أبيه انتقلت إلى موسى، وظل الإسماعيلية على الرأى الأول، وقال الجعفرية بالبداء هنا، فهو لم يحكم الفرية حيث لم يشر لهذا وإنما جعلها لموسى مباشرة، ولكن لم يفته أن يجعل بعض الألقاب كالباقر* *بتسمية من الله تعالى، وأن يجعل الإمام الأخير بحروف منفصلة حتى لا يذكر اسمه حسب ما يذهب إليه الجعفرية. (انظر الكافى 1/332 باب فى النهى عن الاسم) ويبقى من الملاحظات الكثير، ومن شاء فلينظر فى الكتاب المفترى وفى كتاب الله العزيز المعجزة الكبرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 وفى " باب صلة الإمام " (ص537-538) يذكر سبع روايات منها: عن أبى عبد الله: ما من شئ أحب إلى الله من إخراج الدراهم إلى الإمام وأن الله ليجعل له الدرهم فى الجنة مثل جبل أحد، ثم قال: إن الله يقول فى كتابه: ... ] مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [ (1) . قال: هو والله فى صلة الإمام خاصة. وعنه: درهم يوصل به الإمام أفضل من ألفى درهم فيما سواه من وجوه البر. وفى " باب الفىء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه " ... (538-549) يكتب الكلينى صفحة عن الباب، ثم يذكر ثمانياً وعشرين رواية منها: عن الإمام الصادق " نحن قوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال، ولنا صفو المال " (2) . ويفسر ابنه موسى الكاظم ـ كما يزعم الكلينى ـ صفو المال بقوله: " للإمام صفو المال: أن يأخذ من هذه الأموال صفوها، الجارية الفارهة، والدابة الفارهة، والثوب والمتاع بما يحب أو يشتهى، فذاك له قبل القسمة وقبل إخراج الخمس " (3) .   (1) 245: البقرة، والآية الحادية عشرة من سورة الحديد {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يروى الكلينى كذلك أنها نزلت فى صلة الإمام خاصة. وما يوصل به الإمام يوصل به علماء الجعفرية بعد عصر الأئمة. (2) ص 546. (3) ص 540. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 وعن الإمام الصادق أيضاً: " من أين دخل على الناس الزنى؟.. من قبل خمسنا أهل البيت إلا شيعتنا الأطيبين، فإنه محلل لهم لميلادهم " (1) . وبانتهاء هذا الباب ينتهى كتاب الحجة. وإذا نظرنا فى بقية الجزء الأول فإنا نراه لا يخلو من التأثر بعقيدة الإمامة. مثال هذا: ما يطالعنا فى خطبة الكتاب " دعوا ما وافق القوم فإن الرشد فى خلافهم " (2) ، وفى كتاب فضل العلم " يغدو الناس على ثلاثة أصناف: عالم ومتعلم وغثاء، فنحن العلماء وشيعتنا المتعلمون وسائر الناس غثاء " (3) ، والرواية عن الإمام الصادق. وعن ابنه موسى " لعن الله أبا حنيفة، وكان يقول: قال على، وقلت " (4) ، وعن الإمام على: " ذلك القرآن فاستنطقوه.. ولن ينطق لكم، ... أخبركم عنه.. إلخ " (5) . وعن سليم بن قيس الهلالى قال: قلت لأميرالمؤمنين: إنى سمعت من سلمان والمقداد وأبى ذر شيئاً من تفسير القرآن وأحاديث عن نبى الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير ما فى أيدى الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت فى أيدى الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبى الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنتم تخالفونهم فيها، وتزعمون أن ذلك كله باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متعمدين، ويفسرون القرآن بآرائهم، قال فأقبل على فقال: قد سألت فافهم الجواب، إن فى أيدى الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً،   (1) ص 546. (2) ص 8، راجع المقبولة التى نقلناها من هذا الجزء وناقشناها فى الحديث عن الترجيح. (3) ص 34. (4) ص 56. (5) انظر ص 61، وراجع ما كتبناه عن القرآن الناطق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 ومحكماً ومتشابهاً ووهماً، وقد كذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عهده حتى قام خطيباً فقال: أيها الناس قد كثرت على الكذابة، كمن كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ثم كذب عليه من بعده، وإنما آتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس: ... رجل منافق يظهر الإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثر ولا يتحرج أن يكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متعمداً، فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه ولم يصدقوه، ولكنهم قالوا هذا قد صحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورآه وسمع منه وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله، وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبره، ووصفهم بما وصفهم، فقال عز وجل:] وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ ... لِقَوْلِهِمْ [ (4: المنافقون) ، ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة. ورجل سمع من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه ولم يتعمد كذباً. ورجل ثالث سمع من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا أمر به، ثم نهى عنه، وهو لا يعلم - أو سمعه ينهى عن شئ، ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ. وآخر رابع لم يكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مبغض للكذب خوفاً من الله وتعظيماً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم ينسه، بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وعلم الناسخ من المنسوخ.. وقد كنت أدخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 كل يوم دخلة، وكل ليلة دخلة، فيخلينى فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيرى (1) . وتنظر مثلا فى باب النوادر من كتاب التوحيد (ص 143-146) تجد ... ما يأتى: عن الحارث بن المغيرة النصرى قال: سئل أبو عبد الله عن قول الله تبارك وتعالى] كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [ (88: القصص) فقال: ما يقولون فيه؟ قلت يقولون يهلك كل شىء إلا وجه الله، فقال: سبحان الله! لقد قالوا قولاً عظيماً، إنما عنى بذلك وجه الله الذى يؤتى منه. وعن أبى جعفر: " نحن المثانى الذى أعطاه الله نبينا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن وجه الله نتقلب فى الأرض بين أظهركم، ونحن عين الله فى خلقه، ويده المبسوطة بالرحمة على عباده، عرفنا من عرفنا، وجهلنا من جهلنا وإمامة المتقين ". وعن أبى عبد الله فى قول الله عز وجل:] وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ ... بِهَا [ (180: الأعراف) قال: نحن والله الأسماء الحسنى التى لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا. وعنه: إن الله خلقنا فأحسن خلقنا وصورنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه فى عباده، ولسانه الناطق فى خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة ... والرحمة، ووجهه الذى يؤتى منه وبابه الذى يدل عليه وخزانه فى سمائه   (1) ص 62: 64، وفى الحاشية (ص63) " أى أئمة الضلال بسبب وضع الأخبار أعطوا هؤلاء المنافقين الولايات، وسلطوهم على الناس " فالكلينى هنا يريد بافترائه اتهام الخلفاء الراشدين الثلاثة بأنهم أئمة ضلال والذين تولوا الإمارة فى عهدهم من الصحابة الكرام، كانوا منافقين، وصلوا إلى الإمارة بتعمد الكذب على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشجعهم الخلفاء على هذا الكذب بجعلهم عمالا لهم. وأراد الكلينى إيجاد سند يؤيد غلاة الجعفرية الذين انفصلوا عن الأمة الإسلامية بإسناد الرواية للإمام على كرم الله وجهه وبرأه مما قال زنادقة الرافضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 وأرضه، بنا أثمرت الأشجار، وأينعت الثمار، وجرت الأنهار، وبنا نزل غيث السماء وينبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبد الله، ولولا نحن ما عبد الله. وعن أسود بن سعيد قال: كنت عند أبى جعفر فأنشأ يقول ابتداء منه من غير أن أسأله: نحن حجة الله، ونحن باب الله، ونحن لسان الله، ونحن وجه الله ونحن عين الله فى خلقه، ونحن ولاة الله فى عباده. وعن أمير المؤمنين: أنا عين الله وأنا يد الله، وأنا جنب الله وأنا باب الله. وعن أبى الحسن موسى:] يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ [ ... (الزمر:56) قال: جنب الله أمير المؤمنين، وكذلك ما كان بعده من الأوصياء بالمكان الرفيع إلى أن ينتهى الأمر إلى آخرهم. وعن أبى جعفر: بنا عبد الله وبنا عرف الله وبنا وحد الله تبارك وتعالى ومحمد حجاب الله تبارك وتعالى. وعن أبى جعفر:] وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ (57: البقرة، 160: الأعراف) قال: إن الله تعالى أعظم وأعز وأجل وأمنع من أن يظلم ولكن خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته حيث يقول:] إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ [ (55: المائدة) يعنى الأئمة منا. ثانياً: الجزء الثانى من أصول الكافى بعد عرضنا للجزء الأول أعتقد أننا لسنا في حاجة إلى أن نطيل الحديث عن الجزء الثانى، ذلك أن هذا الجزء يتحدث في جملته عن الإيمان والكفر، والجزء السابق بين مفهوم الإيمان والكفر عند الكلينى، وأمثاله من غلاة الفرقة الضالة وزنادقتهم. كما رأينا في كثير من رواياته، فقد ربط الإيمان والكفر بإمامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 الجعفرية الإمامية فالمؤمن بها هو المؤمن، ومنكرها كافر، إلى غير ذلك مما رأينا. فهذا الجزء إذن يعتبر امتدادا للجزء الأول، فيكفى أن نورد بعض الأمثلة لنرى أن الكلينى ظل سائرا في نفس الطريق الذى رسمه لنفسه تأثراً بعقيدته في الإمامة. من هذه الأمثلة ما رواه عن أبى جعفر قال: " إن الله تبارك وتعالى حيث خلق ماء عذبا وماء أجاجا فامتزج الماءان، فأخذ طينا من أديم الأرض فعركه عركا شديداً، فقال لأصحاب اليمين وهم كالذريدبون: إلى الجنة بسلام، وقال لأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالى، ثم قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ثم أخذ الميثاق على النبيين، فقال: ألست بربكم وأن هذا محمد رسولى، وأن هذا على أمير المؤمنين؟ قالوا: بلى فثبت لهم النبوة. وأخذ الميثاق على أولى العزم أننى ربكم، ومحمد رسولى، وعلى أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمرى وخزان علمى – عليهم ... السلام -، وأن المهدى أنتصر به لدينى، وأظهر به دولتى، وانتقم به من أعدائى، وأعبد به طوعا وكرها. قالوا: أقررنا يارب وشهدنا. ولم يجحد آدم ولم يقر، فثبتت العزيمة لهؤلاء الخمسة فى المهدى، ولم يكن لآدم عزم على الإقرار به وهو قوله عز وجل: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} قال: إنما هو فترك (1) . ثم أمر نارا فأججت، فقال لأصحاب الشمال: ادخلوها، فهابوها. وقال لأصحاب اليمين: ادخلوها فدخلوها فكانت عليهم بردا   (1) جاء في الحاشية: أى معنى النسيان هنا الترك، لأن النسيان غير مجوز على الأنبياء عليهم السلام. أو كان في قراءتهم عليهم السلام فترك مكان فنسى، ولعل السر في عدم عزم آدم على الإقرار بالمهدى استبعاده أن يكون لهذا النوع الإنسانى اتفاق على أمر واحد " والآية الكريمة في سورة طه: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 وسلاما. فقال أصحاب الشمال: يارب أقلنا فقال قد أقلتكم اذهبوا فادخلوها فهابوها، ثم ثبتت الطاعة والولاية والمعصية (1) . وعنه أيضاً قال: " إن الله عز وجل خلق الخلق فخلق من أحب مما أحب، وكان ما أحب أن خلقه من طينة الجنة، وخلق من أبغض مما أبغض وكان ما أبغض أن خلقه من طينة النار. ثم بعثهم في الظلال. فقلت. وأى شئ الظلال؟ فقال: ألم تر إلى ظلك في الشمس شيئا وليس بشئ. ثم بعث منهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار بالله عز وجل: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (2) ثم دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعضهم وأنكر بعض. ثم دعوهم إلى ولايتنا، فأقر بها والله من أحب وأنكر من أبغض وهو قوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} (3) . ثم قال أبو جعفر رضي الله عنه: كان التكذيب ثم (4) . وعنه كذلك قال: " بنى الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم يناد بشئ كما نودى بالولاية " (5) . وفى رواية أخرى زاد: فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه، يعنى الولاية (6) .   (1) ص 8. (2) الزخرف: 87. (3) يونس: 74. (4) ص10. (5) ص 18. (6) ص 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 وعن عجلان أبى صالح قال: " قلت لأبى عبد الله رضي الله عنه: أوقفنى على حدود الإيمان. فقال الخمس وأداء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وولاية ولينا، وعداوة عدونا، والدخول مع الصادقين " (1) . وعن زرارة عن أبى جعفر قال: " بنى الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية. قال زرارة: قلت وأى شئ من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن، والوالى هو الدليل عليهن. أما لو أن رجلا قام ليله، وصام نهاره، وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره، ولم يعرف ولاية ولى الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله جل وعز حق في ثوابه، ولا كان من أهل الإيمان " (2) . والكلينى لا يكتفى بربط الإيمان والكفر بالإمامة ولكن يربطهما كذلك بمبادئ الجعفرية، استمع إليه مثلا وهو يروى عن الإمام الصادق: " إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له " " التقية من دين الله "، " والله ما عبد الله بشئ أحب إليه من الخبء. قلت: وما الخبء؟ قال التقية "، " التقية من دينى ودين آبائى ولا إيمان لمن لا تقية له " (3) . وكتاب الإيمان والكفر في أصول الكافى يبدأ من أول الجزء الثانى إلى صفحة 464، وعدد رواياته 1609، وباقى الجزء يقع في 210 صفحة ويتناول ثلاثة كتب، منها كتاب فضل القرآن، ونورد هنا بعض الروايات التي ذكرها الكافى في هذا الكتاب. روى عن سعد الخفاف قال: قلت " جعلت فداك يا أبا جعفر، وهل يتكلم القرآن؟ فتبسم ثم قال: رحم الله الضعفاء من شيعتنا، إنهم أهل تسليم ثم قال لهم: يا سعد والصلاة تتكلم ولها صورة وخلق تأمر وتنهى. قال سعد: فتغير لذلك لونى   (1) ص18. (2) ص 18-19. (3) انظر هذه الروايات في ص 217-219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 وقلت: هذا شئ لا أستطيع أنا أتكلم به في الناس. فقال أبو جعفر: وهل الناس إلا شيعتنا؟ فمن لم يعرف الصلاة فقد أنكر حقنا. ثم قال يا سعد أسمعك كلام القرآن؟ قال سعد: فقلت: بلى صلى الله عليك فقال: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " فالنهى كلام، والفحشاء والمنكر رجال ونحن ذكر الله، ونحن أكبر " (1) . وعن أبى عبد الله قال: " لا والله لا يرجع الأمر والخلافة إلى آل أبى بكر وعمر أبدا، ولا إلى بنى أمية أبدا، ولا في ولد طلحة والزبير أبدا، وذلك أنهم نبذوا القرآن وأبطلوا السنن، وعطلوا الأحكام. وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار " (2) . ويروى الكلينى عن أبى عبد الله أيضاً: " إن القرآن نزل أربعة أرباع: ربع حلال، وربع حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم وفصل ما بينكم " (3) . إلا أنه يروى عن أبى جعفر: " نزل القرآن أربعة أرباع: ربع فينا، وربع في عدونا، وربع سنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام " (4) . ويروى عن أمير المؤمنين: " نزل القرآن أثلاثا: ثلث فينا وفى عدونا، وثلث سنن وأمثال، وثلث فرائض وأحكام " (5) .   (1) ص 598 وانظر الخبر من بدايته ص 596. (2) ص 600 -601. (3) ص 627. (4) ص 628. (5) ص 627. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 769 وروى عن الفضيل بن يسار قال: قلت لأبى عبد الله رضي الله عنه: " إن الناس يقولون: إن القرآن نزل على سبعة أحرف. فقال: كذبوا أعداء الله ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد " (1) . وروى الكلينى أن أبا عبد الله قال: " نزل القرآن بإياك أعنى واسمعى يا جارة " (2) . وعن أحمد بن محمد بن أبى نصر قال: " دفع إلى أبو الحسن رضي الله عنه مصحفا وقال: لا تنظر فيه، ففتحته وقرأت فيه " لم يكن الذين كفروا " فوجدت فيه اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم. قال: فبعث إلى: ابعث إلى بالمصحف " (3) . وعن سالم بن سلمة قال: " قرأ رجل على أبى عبد الله رضي الله عنه وأنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد الله رضي الله عنه: كف عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم، فإذا قام القائم رضي الله عنه قرأ كتاب الله عز وجل على حده، وأخرج المصحف الذى كتبه على رضي الله عنه وقال: أخرجه على رضي الله عنه إلى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم: هذا كتاب الله عز وجل كما أنزله الله على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله، وقد جمعته من اللوحين. فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه، فقال: أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبدا، وإنما كان على أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه " (4) .   (1) ص 630. (2) ص 631. (3) ص 631. (4) ص 633، ومعنى هذا – بحسب فرية الكلينى – أن للشيعة مصحفا آخر، أشرنا إلى ضلاله المبين عند الحديث عن القرآن الكريم والتحريف في الجزء الثانى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 770 ويختم الكلينى كتاب فضل القرآن برواية عن أبى عبد الله جعفر الصادق أنه قال: " إن القرآن الذى جاء به جبرئيل رضي الله عنه إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله سبعة عشر آلف آية " (1) . بعد هذا أعتقد أن هذه الأمثلة ـ على قلتها ـ تكفى لبيان ما أردنا إيضاحه. ثالثاً: روضة الكافى بعد الانتهاء من الأصول يجىء دور الجزء الثامن من الكافى وهو الروضة وننظر في هذه المسماة بالروضة فنرى الكلينى مواصلا السير يخبط في ظلمات جهالته وضلاله، يدفعه غلوه في عقيدته في الإمامة. فالكلينى يظل مصرا على قوله بتحريف القرآن، ونراه هنا، وهو يزعم نسبة هذا الافتراء للأئمة الكرام، يتخذ من الأساليب ما يؤيد فريته، فمثلا يصور أحد الأئمة قارئا لآية تخالف ما بين الدفتين، فيأتى الراوى المذكور في السند ليقول: ... " جعلت فداك، إنا نقرؤها هكذا " فيجيب الإمام على حد زعمه قائلاً: " هكذا والله نزل به جبرئيل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكنه فيما حرف من كتاب الله " (2) . أو قائلا: " هكذا والله نزل بها جبرئيل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهكذا والله مثبت في مصحف فاطمة عليهما السلام " (3) . أو يزعم أنه قال: " هذا مما أخطأت فيه الكتاب " (4) .   (1) ص 634، والمعروف أن القرآن الكريم لا يصل إلى سبعة الآف آية، فأين الباقى أيها الكلينى؟! (2) ص 50. (3) ص 58. (4) ص 205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 771 أو قال " هكذا نقرؤها وهكذا تنزيلها " (1) . وأحياناً يذكر تعليلا ليثبت التحريف (2) أو يؤيد أن كلمة موجودة في الآية وهى غير موجودة (3) . وأحياناً يأتى بافتراء ليثبت التحريف بصفة عامة، استمع إليه وهو ينسب حديثا لأحد الأئمة قال: لا تلتمس دين من ليس من شيعتك ولا تحبن دينهم، فإنهم الخائنون الذين خانوا الله ورسوله، وخانوا أماناتهم. وتدرى ما خانوا أماناتهم؟ ائتمنوا على كتاب الله فحرفوه، وبدلوه، ودلوا على ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم، فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (4) . هذا بالنسبة للتحريف في نص القرآن الكريم، أما التحريف في المعنى فإنا لا نكاد نجد آية تعرض لها الكلينى إلا حرف معناها، ولذلك فهو يضع قاعدة عامة تؤيد هذا التحريف، فينسب لأحد الأئمة أنه قال: " ما من آية نزلت تقود إلى الجنة، وتذكر أهلها بخير، إلا وهى فينا وفى شيعتنا، وما من آية نزلت تذكر أهلها بشر، وتسوق إلى النار، إلا وهى في عدونا ومن خالفنا.. ليس على مالة إبراهيم إلا نحن وشيعتنا، وسائر الناس من ذلك براء " (5) . عن أبى عبد الله في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} قال: قتل على بن أبى طالب وطعن الحسن {وَلَتَعْلُنَّ   (1) ص 387. (2) انظر ص 316. (3) انظر ص 205. (4) ص 124-125 ولاحظ هذا الربط بين التحريف وترك الولاية. (5) ص 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 772 عُلُوًّا كَبِيرًا} قال: قتل الحسين {فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا} : فإذا جاء نصر دم الحسين {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ} قوم يبعثهم الله قبل خروج القائم، فلا يدعون وترا لآل محمد إلا قتلوه {وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً} خروج القائم، {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} خروج الحسين في سبعين من أصحابه، عليهم البيض المذهب، لكل بيضة وجهان، المؤدون إلى الناس أن الحسين قد خرج حتى لا يشك المؤمنون فيه، وأنه ليس بدجال ولا شيطان، والحجة القائم بين أظهرهم، فإذا استقرت المعرفة في قلوب المؤمنين أنه الحسين جاء الحجة الموت، فيكون الذى يغسله ويكفنه ويحنطه ويلحده فى حضرته الحسين بن على، ولا يلى الوصى إلا الوصى (1) . وعن عبد الله بن النجاش قال: سمعت أبا عبد الله رضي الله عنه يقول في قول الله ... عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا} يعنى الله فلانا وفلانا (2) . {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} يعنى والله النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله وعليا رضي الله عنه " مما صنعوا " (3) أى لو جاءوك بها يا على فاستغفروا الله مما صنعوا، واستغفر لهم   (1) ص 206، والآيات المذكورة من سورة الإسراء (4-6) . (2) " فلانا وفلانا " يقصد هذا الكلينى الشيخين: الصديق والفاروق. (3) " مما صنعوا " زيادة ليست من الآية الكريمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 773 الرسول، لوجدوا الله توابا رحيما {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فقال أبو عبد الله: هو والله على بعينه {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ} على لسانك يا رسول الله (1) ، يعنى به من ولاية على ... {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} لعلى (2) . وينسب الكلينى للإمام على خطبا يبرأ منها الإمام، ويبرأ ممن وضعها افتراء عليه. انظر إلى " خطبة الوسيلة " (3) ، تجد غلوا في الأئمة وتكفيرا لمن أنكر إمامتهم، واتهاما للصديق والفاروق ولصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبيان أن إمهال الله لهم كإمهاله سبحانه لعاد وثمود وأضرابهم، وأن المصير واحد. وانظر إلى " خطبة الطالوتية " (4) تجد اتهاما للصحابة الكرام الذين سينزل بهم على حد زعمه ما نزل بالأمم من قبلهم، لصدهم عن الحق، وتركهم الوصى   (1) هذه زيادة أيضاً وجعل " قضيت " للمتكلم لا للمخاطب لتناسب هذا التحريف وجاء في الحاشية: " الظاهر أنه كان في مصحفهم عليهم السلام على صيغة المتكلم ويحتمل أن يكون بيانا لحاصل المعنى، أى المراد بقضاء الرسول ما يقضى الله على لسانه ". (2) ص 336 والآيات المذكورة هي 63-65: من سورة النساء وانظر مثل هذا التحريف في صفحات 35-36-50-51-57-58-107-128-160-179-184-200-224-230-286-302-304-313-330-334-338. (3) ص 18:30. (4) ص 31:33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 774 الذى به أمروا. وتجد قوله: " أما والله لو كان لى عدة أصحاب طالوت أو عدة أهل بدر وهم أعداؤكم - لضربتكم بالسيف حتى تئولوا إلى الحق " (1) . وتجد بعد هذا: " ثم خرج من المسجد فمر بصيرة فيها نحو ثلاثين شاه فقال: والله لو أن لى رجالا ينصحون لله عز وجل ولرسوله بعدد هذه الشياه لأزلت ابن أكلة الذبان عن ملكه " (2) . وتجد كذلك: " لولا عهد عهده إلى النبى الأمى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأوردت المخالفين خليج المنية ولأرسلت عليهم شآبيب صواعق الموت، وعن قليل يعلمون " (3) . وانظر إلى خطبته بعد مقتل ذى النورين تجد حديثا عن الجبابرة وهامان وفرعون وعثمان (4) وتجد القول: قام الثالث (5) كالغراب، همه بطنه، ويله لو قص جناحاه وقطع رأسه كان خيرا له: شغل عن الجنة، والنار أمامه (6) . والكلينى لا يقتصر على خطب وأقوال تفترى على سيدنا على - رضى الله تعالى عنه - ولكنا نرى أثرا للغلو كذلك في الحديث عن الإمام على، مثال هذا:   (1) ص 32. (2) جاء في الحاشية (ص 33) : " الذبان: جمع ذباب، وكنى بابن أكلتها عن سلطان الوقت فإنهم كانوا في الجاهلية يأكلون من كل خبيث نالوه " والمراد بسلطان الوقت الصديق خير من خلف الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (3) ص 33 وهذا القول: إلى جانب ما فيه من الضلال يحمل التناقض البين. وفى الخطبة السابقة كذلك تناقض حاول في الحاشية إزالته بأن الإمام كان يعلم ما سيكون (انظر ص 27) . (4) انظر ص 67. (5) يقصد الخليفة الثالث الذى بشره الصادق الأمين بالجنة. (6) ص 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 775 إنه كان في يوم ميلاد الرسول الكريم بشر أبو طالب زوجته بقوله: أما إنك ستلدين غلاما يكون وصى هذا المولود (1) . وأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال " إن عليا يحملكم على الحق، فإن أطعتموه ذللتم، وإن عصيتموه كفرتم بالله " (2) . وأن حرب على شر من حرب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) . وأن من يشهد للأنبياء جعفر وحمزة، أما على فهو أعظم منزلة من ذلك (4) وأن عليا كتم وبايع مكرها (5) ، وأنه أشار إلى الأرض عندما اضطربت وقال لها: اسكنى مالك، ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما إنها لو كانت التي قال الله عز وجل لأجابتنى ولكن ليست بتلك (6) ، وأنه أعتق ألف مملوك (7) . وفى الحديث عن إمامهم الثانى عشر يروى الكلينى عن الإمام الباقر أنه قال: إن الجاحد لصاحب الزمان كالجاحد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أيامه (8) . وعنه أيضاً: " إذا قام القائم عرض الإيمان على كل ناصب فإن دخل فيه بحقيقة وإلا ضرب عنقه، أو يؤدى الجزية كما يؤديها اليوم أهل الذمة، ويشد على وسطه الهميان ويخرجهم من الأمصار إلى السواد " (9) .   (1) ص 302. (2) ص 66. (3) انظر ص 252. (4) انظر ص 267. (5) انظر ص 295. (6) ص 255. (7) انظر ص 163، 165، 364، وواضح أن أبا الحسن لم يكن له دور في مجال الاعتاق وأن الدور الكبير كان لأبى بكر في مكة، ومن هنا جاء اختلاق هذا الخبر. (8) ص 18. (9) ص 227 والهميان: شداد السراويل والمنطقة وكيس للنفقة يشد في الوسط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 776 وعن أبى عبد الله الصادق، " إن قائمنا إذا قام مد الله عز وجل لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لايكون بينهم وبين القائم يريد أن يكلمهم فيسمعون وينظرون إليه وهو في مكانه " (1) . وعنه أيضاً عندما سئل: متى فرج شيعتكم؟ فقال: إذا اختلف ولدا العباس، ووهى سلطانهم، وطمع فيهم من لم يكن يطمع فيهم، وخلعت العرب أعنتها، ورفع كل ذى صيصية صيصيته، وظهر الشامى وأقبل اليمانى وتحرك الحسنى وخرج صاحب هذا الأمر من المدينة إلى مكة بتراث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " (2) . والكلينى يكثر من الحديث عن الجعفرية الإمامية ومخالفيهم ونستطيع أن نعرف الطابع العام لهذا الحديث ما دمنا قد عرفنا أنه ربط الإيمان بالولاية.   (1) ص 240. (2) ص 224 والكلينى هنا يجعل ظهور إمامهم الثانى عشر بعد ضعف الدولة العباسية التي عاش أثناء حكمها، وقد مضى على سقوطها لا ضعفها أكثر من سبعة قرون حتى وقتنا هذا، والكلينى كان يدرك أن أكذوبته لا ينكشف أمرها إلا بعد موته، إذن فليكذب ولا حرج!! ومن أكاذيبه التي كشفت كذلك: رواياته عن الأرض، ومظاهر الطبيعة كهبوب الرياح والحر والبرد. راجع ص 89، 271، 306 وراجع مثل هذه الروايات التي نقلناها عن شيخه القمى في الجزء السابق. وانظر تفسير القمى (ص 89) تجد تعليقا على رواية أن الأرض على حوت والحوت على الماء والماء على صخرة ... إلخ والتعليق هو: " في هذا الحديث رموز إنما يحلها من كان من أهلها. وذلك لأن حديثهم صعب مستعصب ". فالله سبحانه وتعالى يسر القرآن للذكر والرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ما نزل إلينا، أما أئمة الجعفرية فحديثهم صعب مستعصب! فإذا افترى عليهم من الأقوال ما يناقض الواقع أو العقل أو الشرع فلتقبل هذه الأقوال بدلا من أن يضرب بها وبراويها عرض الحائط، ولنتشكك نحن في عقولنا وفهمنا لأن حديثهم صعب مستعصب!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 777 فالإمامية الرافضة كلهم يدخلون الجنة ولا يدخل النار منهم أحد (1) ، وهم وحدهم دون غيرهم المغفور لهم (2) وغير الجعفرى كافر (3) ولا توبة بغير الولاية (4) والناصب شر ممن ينتهك المحارم كلها (5) لا يبالى صلى أم زنى (6) وأبو حنيفة ناصب (7) . وحضور مساجد غير الجعفرية الاثنى عشرية والمشى إليها كفر بالله العظيم إلا من مشى إليها وهو عارف بضلالهم (8) . ويروى الكلينى عن الإمام الكاظم: " إلينا إياب هذا الخلق وعلينا حسابهم فما كان لهم من ذنب بينهم وبين الله عز وجل حتمنا على الله في تركه لنا فأجبنا إلى ذلك، وما كان بينهم وبين الناس استوهبناه منهم، وأجابوا إلى ذلك، وعوضهم الله عز وجل " (9) ويروى عن أبى جعفر بأن على بن أبى طالب ينزل أهل الجنة منازلهم ويزوجهم، ويدخل أهل النار النار، وأبواب الجنة والنار إليه (10) .   (1) راجع ص: 36، 78، 141، 366. (2) راجع ص 33-34. (3) انظر ص 107، 254، 270، 337 وراجع مثلا حديثه عن الشيعة ومخالفيهم في صفحات: 146، 212، 224، 236، 237، 244، 285، 333. (4) انظر ص 128. (5) ص 101. (6) ص 160. (7) ص 292. (8) ص 389 ولذلك فالجعفرية لهم مساجدهم الخاصة نتيجة للدور الذى قام به الكلينى وأمثاله. (9) ص 162. وانظر إلى قول الكلينى وإلى قول الله عز وجل في نهاية سورة الغاشية {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} . (10) انظر ص 159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 778 وبمثل هاتين الروايتين يريد الكلينى أن يؤكد ما ذهب إليه من حديثه عن الجعفرية ومخالفيهم. والكلينى الذى سلك مسلك شيخه القمى فى محاولة التشكيك فى كتاب الله تعالى، والطعن فى الصحابة الكرام، نراه هنا يعود مرة أخرى للطعن فى نقلة الشريعة، وحملة رسالة الإسلام بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد مر شىء منه فى الصفحات السابقة، ولكن المتصفح لروضة الكافى يجد الكثير من هذا الطعن، مثال هذا: ما رواه من أن المسلمين ارتدوا بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا ثلاثة هم: المقداد وأبو ذر وسلمان، وأنهم أصبحوا أهل جاهلية، وبمثابة من عبد العجل، وكل حاكم قبل القائم فهو طاغوت يعبد من دون الله (1) . وما رواه من أن الشيخين كافران منافقان سخرا من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستهزءا به ورمياه بالجنون وأنهما صنما هذه الأمة (2) . وما رواه كذلك هذا المفترى الضال الزنديق: من أن أبا بكر أضمر وهو فى الغار أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساحر، وأن أول عداوة بدت منه للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى على، وأول خلاف منه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بقبا فى الهجرة، وأول من بايعه إبليس حيث جاء على هيئة شيخ كبير (3) . وإلى جانب ما سبق نرى الكلينى متأثراً بعقيدته الباطلة فى الإمامة عندما يأتى بروايات لها صلتها بالموضوعات التاريخية، فإلى جانب الحديث عن البيعة أو النص على الأئمة كما رأينا نرى موضوعات أخرى فمثلاً:   (1) انظر ص 125، 245، 253، 295، 296. (2) انظر ص 28، 102، 103، 124، 189، 216، 245، 318، 334، 336، 387. (3) راجع ص: 263، 340، 343، 344. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 779 ذكرنا فى الجزء السابق شيئاً عن خرافة السفيانى (1) ونجد هنا ذكراً له فى عدد من الروايات (2) . والشيعة الإمامية يسمون الرافضة لسبب تاريخى معروف (3) ولكن الكلينى يروى أن الله تعالى سماهم بهذا الاسم (4) . واسم الجعفرية نسبة إلى الإمام جعفر، فنرى الكلينى هنا يرى أن الجنة فيها نهر يقال له جعفر على شاطئه الأيمن درة بيضاء فيها ألف قصر، فى كل قصر ألف قصر لمحمد وآل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) . وهكذا نرى روضة الكافى لا تكاد تقل عن أصوله تأثراً بعقيدة الإمامة. وبعد هذا العرض لأصول الكافى وروضته نستطيع أن نقول: 1 ـ إن الكلينى اتخذ من السنة بمفهومها عنده وسيلة لإثبات عقيدته فى الإمامة ورأيه فى الأئمة وما يتصفون به. ووسيلة كذلك لبيان بطلان ما ذهب إليه غير الجعفرية الذين لم يأخذوا بعقيدته فى الإمامة، وأنهم مهما تعبدوا فهم فى النار، فعبادتهم غير مقبولة فى زعم الكلينى، على حين أن الجعفرية جميعاً بغير استثناء سيدخلون الجنة ولا تمسهم النار مهما ارتكبوا من الموبقات والآثام، ومهما كان خطؤهم فى حق الله تعالى أو فى حق عباده.   (1) راجع حديثنا عن تفسير القمى. (2) راجع ص 209، 264، 274، 310، 331. (3) كان الإمام زيد بن على بن الحسين يثنى على أبى بكر وعمر، وقال: إنى لا أقول فيهما إلا خيراً، وما سمعت أبى يقول فيهما إلا خيراً، وإنما خرجت على بنى أمية الذين قاتلوا جدى الحسين " فعندما سمع شيعة الكوفة قوله فارقوه ورفضوا مقالته حتى قال لهم: رفضتمونى، ومن يومئذ سموا " رافضة ". انظر الفرق بين الفرق ص 25، والملل والنحل 1 / 155. (4) انظر ص 34. (5) انظر ص 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 780 والكلينى من أجل هذا كله نراه يفترى آلاف الروايات وينسبها للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولآل بيته الأطهار. وفى بحثنا للإمامة فى الجزء الأول عندما وصلنا إلى دلالة السنة اعتمدنا على ثمانية كتب لم نضم إليها كتاب الكافى، وأظننى الآن لست فى حاجة لتأييد وجهة نظرى. 2 ـ والكلينى اتخذ من السنة كذلك وسيلة لتحريف كتاب الله تعالى نصاً ومعنى، وقد نهج هنا منهج شيخه على بن إبراهيم القمى، صاحب التفسير الضال المضل الذى تحدثنا عنه فى الجزء السابق، ونهج منهجه كذلك فى الطعن فى الصحابة الكرام: نقلة الشريعة وحملة رسالة الإسلام بعد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وخص بمزيد من الطعن الذين تولوا الخلافة الراشدة قبل الخليفة الرابع الإمام على رضى الله تعالى عنهم أجمعين وأرضاهم. 3 ـ والكلينى أقدم على ما لا يقل خطورة وضلالاً عن القول بتحريف القرآن الكريم ونقصه حيث افترى على الله الكذب فزعم أنه جل شأنه أنزل كتباً من السماء بخط إلهى تؤيد فرقته الجعفرية. 4 ـ والكلينى يضمن كتابه بعض الأحداث التاريخية، ويذكرها بحسب هواه، ويفسرها بما يشتهى، وبما يشبع غيه وضلاله. رابعاً ـ فروع الكافى وبقية الكتب قلنا إن الفروع من الكافى تشتمل على الروايات المتصلة بالأحكام الفقهية وهى بهذا تلتقى مع كتاب الصدوق " فقيه من لا يحضره الفقيه " وكتابى الطوسى " التهذيب والاستبصار ". وبعد أن انتهينا من الحديث عن أثر عقيدة الإمامة فى أصول الكافى وروضته لسنا فى حاجة إلى التوسع فى بيان أثر الإمامة فى الفروع والكتب الثلاثة ما دامت هذه كلها متعلقة بالفقه، فالفقه خصصناه بالجزء الرابع، والآراء التى تأثرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 781 بالإمامة تعتمد بصفة عامة على ما جاء فى هذه الكتب. إذن يمكن القول بأن أثر الإمامة فى الفقه يبين إلى حد كبير أثر الإمامة فى فروع الكافى والكتب الثلاثة الأخرى. ولنأخذ مثلاً أثر الإمامة فى " كتاب الحج " كما نراه فى الفقه وفى كتب الحديث الأربعة عند الجعفرية. فأما الفقه فنجد أنهم يرون أن غير الجعفرى الإمامى إذا حج ثم صار جعفرياً فيستحب أن يعيد الحج. ولا يصح للجعفرى أن ينوب فى الحج عن غير الجعفرى إلا إذا كان أباه، وفى الزيارة يستحب استحباباً مؤكداً زيارة الأئمة، وفى الدعاء يستحب أن يكون بالأدعية المأثورة، إلى غير ذلك مما سيظهر من دراستنا للحج فى الجزء اللاحق. وننظر إلى ما كتبه المحمدون الثلاثة ـ أصحاب الكتب الأربعة فى كتاب الحج من كتبهم فنراهم يذكرون ما يدل على هذه الأحكام: فيروى الثلاثة عن الإمام الصادق: عن رجل حج ولا يدرى، ولا يعرف هذا الأمر ثم من الله عليه بمعرفته والدينونة به أعليه حجة الإسلام؟ فقال: قد قضى فريضة الله عزوجل والحج أحب إلي (1) . وفى " باب الحج عن المخالف " (2) يروى الكلينى عن وهب قال: قلت لأبى عبد الله: " أيحج الرجل عن الناصب؟ فقال: لا، فقلت: فإن كان أبى؟ قال: فإن كان أباك فنعم ". ويروى أن الإمام الهادى كتب " لا يحج عن الناصب ولا يحج به ".   (1) انظر فقيه من لا يحضره الفقيه 2 / 263 والاستبصار 2 / 145. (2) راجع الكافى 4 / 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 782 وفى فضل الزيارة وثوابها يروى الكلينى والقمى أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للحسن: يا بنى من زارنى حياً أو ميتاً، أو زار أباك أو زار أخاك أو زارك كان حقاً علي أن أزوره يوم القيامة فأخلصه من ذنوبه (1) . ويرويان عن أبى جعفر أنه قال: " من تمام الحج لقاء الإمام " (2) . ويروى الكلينى والطوسى عن يونس بن أبى وهب قال: " دخلت المدينة فأتيت أبا عبد الله فقلت: جعلت فداك، أتيتك ولم أزر أمير المؤمنين؟ قال: بئس ما صنعت، لولا أنك من شيعتنا ما نظرت إليك، ألا تزور من يزوره الله مع الملائكة، ويزوره الأنبياء ويزوره المؤمنون " (3) . ويروى القمى والطوسى عن الإمام الصادق قال: " إن الله تبارك وتعالى يبدأ إلى زوار قبر الحسين بن على بن أبى طالب عشية عرفة، قيل له: قبل نظره إلى أهل الموقف؟ قال نعم، قيل وكيف ذلك؟ قال: لأن فى أولئك أولاد زنى وليس فى هؤلاء أولاد زنى " (4) . ويروى القمى عن البيزنطى قال: قرأت كتاب أبى الحسن الرضا: أبلغ شيعتى أن زيارتى تعدل عند الله تعالى ألف حجة. قال: قلت لأبى جعفر ـ يعنى ابنه ـ ألف حجة؟ قال: إى والله وألف ألف حجة لمن زاره عارفاً بحقه (5) . ويروى الثلاثة عن الإمام الصادق: يا سدير تزور قبر الحسين فى كل يوم؟ قلت: جعلت فداك لا. قال: فما أجفاكم! قال: فتزورونه فى كل جمعة؟ قلت: لا قال: فتزورونه فى كل شهر؟ قلت لا: قال فتزورونه فى كل سنة: قلت قد يكون ذلك. قال: يا سدير ما أجفاكم للحسين! أما علمت أن لله عزوجل ألفى ألف   (1) انظر الفقيه 2 / 354. (2) انظر الكافى 4 / 580. (3) الفقيه 2 / 347. (4) المرجع السابق 2 / 349. (5) انظر الكافى 4 / 589 والفقيه 2 / 361 ـ 362. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 783 ملك شعث غبر يبكون ويزورونه لا يفترون؟ وما عليك يا سدير أن تزور قبر الحسين فى كل جمعة خمس مرات وفى كل يوم مرة؟ قلت: جعلت فداك إن بيننا وبينه فراسخ كثيرة. فقال لى: اصعد فوق سطحك ثم تلتفت يمنة ويسرة ثم ترفع رأسك إلى السماء ثم تنحو نحو القبر وتقول: السلام عليك يا أبا عبد الله السلام عليك ورحمة الله وبركاته. تكتب لك زورة، والزورة حجة وعمرة (1) . وروى الكلينى عن بشير الدهان قال: قلت لأبى عبد الله: " ربما فاتنى الحج فأعرف (2) عند قبر الحسين فقال: أحسنت يا بشير، أيما مؤمن أتى قبر الحسين عارفاً بحقه فى غير يوم عيد كتب الله له عشرين حجة وعشرين عمرة مبرورات مقبولات، وعشرين حجة وعمرة مع نبى مرسل أو إمام عدل، ومن أتاه فى يوم عيد كتب الله مائة حجة ومائة عمرة ومائة غزوة مع نبى مرسل أو إمام عدل. (3) قال: قلت له: كيف لى بمثل الموقف؟ قال: فنظر إلى شبه المغضب ثم قال لى: يا بشير إن المؤمن إذا أتى قبر الحسين يوم عرفة واغتسل من الفرات ثم توجه إليه كتب الله له بكل خطوة حجة بمناسكها، ولا أعلمه إلا قال: وغزوة (4) . وذكر الكلينى بعد هذا عشر روايات لم يقل فضل زيارة قبر الحسين فى إحداها عن عشرين حجة، وفى أكثر من رواية قال: من أتى قبر أبى عبد الله عارفاً بحقه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (5) .   (1) انظر الكافى 4 / 589 والفقيه 2 / 361 ـ 362. (2) عرف: أى وقف بعرفات ولكنه هنا جعله عند قبر الحسين. (3) فى هذا حث على ترك الحج وزيارة قبر الحسين، وسيأتى أنه يمكن أن تسقط فريضة الحج بزيارة قبر الحسين. (4) الكافى 4 / 580. (5) انظر الكافى 4 / 580: 583. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 784 وبالنسبة للأدعية المأثورة روى الثلاثة فيما يقال عند زيارة قبر أمير المؤمنين: السلام عليك يا ولى الله، أنت أول مظلوم، وأول من غصب حقه.. جئتك عارفاً بحقك، مستبصراً بشأنك معادياً لأعدائك ومن ظلمك.. لعن الله من خالفك، ولعن الله من افترى عليك وظلمك، ولعن الله من غصبك، ولعن الله من بلغه بذلك فرضى به، أنا إلى الله منهم برىء. لعن الله أمة خالفتك وأمة جحدتك وجحدت ولايتك، وأمة تظاهرت عليك، وأمة قتلتك، وأمة حادت عنك وخذلتك. الحمد لله الذى جعل النار مثواهم وبئس الورد المورود، وبئس ورد الواردين، وبئس الدرك المدرك. اللهم ألعن قتلة أنبيائك، وقتلة أوصياء أنبيائك بجميع لعناتك، وأصلهم حر نارك، اللهم العن الجوابيت والطواغيت والفراعنة واللات والعزى والجبت وكل ند يدعى من دون الله، وكل مفتر. اللهم العنهم وأشياعهم وأتباعهم وأولياءهم وأعوانهم ومحبيهم لعناً كثيراً. أشهد أنك جنب الله، وأنك باب الله، وأنك وجه الله الذى يؤتى منه، وأنك سبيل الله. أشهد أن من قاتلكم وحاربكم مشركون، ومن رد عليكم فى أسفل درك من الجحيم (1) . ومما رواه القمى عند زيارة قبر الحسين: " بكم تنبت الأرض أشجارها وبكم تخرج الأشجار أثمارها، وبكم تنزل السماء قطرها، وبكم يكشف الله الكرب، وبكم ينزل الله الغيث، وبكم تسبح الأرض التى تحمل أبدانكم. لعنت أمة قتلتكم، وأمة خالفتكم، وأمة جحدت ولايتكم، وأمة ظاهرت عليكم، وأمة شهدت ولم تنصركم، الحمد لله الذى جعل النار مأواهم وبئس الورد المورود " (2) .   (1) انظر الكافى 4 / 569 والفقيه 2 / 252. (2) الفقيه 2 / 359. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 785 هذه بعض روايات كتاب الحج التى بدا فيها أثر الغلو فى عقيدة الإمامة. وكان لهذه الروايات صداها فى الفقه الجعفرى، ولكن نجد روايات أخرى يبدو فيها هذا الأثر، أثر الغلو فى العقيدة، ولا أثر لها فى الفقه. مثال هذا ما رواه الكلينى عن الحارث عن أبى جعفر قال: " كنت دخلت مع أبى الكعبة، فصلى على الرخامة الحمراء بين العمودين فقال: بهذا الموضع تعاقد القوم إن مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو قتل ألا يردوا هذا الأمر فى أحد من أهل بيته أبدا. قال: قلت: ومن كان؟ قال: كان الأول والثانى وأبو عبيدة بن الجراح وسالم بن الحبيبة (1) . وما رواه أيضاً عن حسان الجمال قال: حملت أبا عبد الله من المدينة إلى مكة، فلما انتهينا إلى مسجد الغدير نظر إلى ميسرة المسجد فقال: ذلك موضع قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: من كنت مولاه فعلى مولاه. ثم نظر إلى الجانب الآخر فقال: ذلك موضع فسطاط أبى فلان وفلان وسالم مولى أبى حذيفة وأبى عبيدة الجراح. فلما رأوه رافعاً يديه قال بعضهم: انظروا إلى عينيه تدور كأنهما عينا مجنون، فنزل جبرئيل بهذه الآية: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ} (2) . وبعد: فهذه الأمثلة القليلة توضح الاتجاه العام لتأليف هذه الكتب تأثراً بعقيدة الإمامة؛ وما يقال عن أثر الإمامة فى الفقه الجعفرى أقل مما يقال عن   (1) الكافى 4 / 454. والمراد بالأول والثانى الخليفتان الصديق والفاروق. (2) الكافى 4 / 566 ـ 567 والآيتان آخر سورة القلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 786 أثرها فى هذه الكتب الأربعة، ففى الكتب مزيد من التأثر بالغلو فى عقيدة الإمامة، ومزيد من الكفر والضلال والزندقة. وإذا كان هؤلاء أعداء الإسلام الذين أرادوا هدمه من الداخل كما يتضح بجلاء من كتبهم وآرائهم ومعتقداتهم فمن الواضح البين أنهم اتخذوا شعار حب آل البيت الأطهار ستاراً لهدفهم وعدائهم، ومن اللازم الذى لا ينفك أبداً أن عداءهم للإسلام وأهله يستتبع عداءهم لآل البيت الأطهار، وهذا العداء يظهر من وقت لآخر من حيث أرادوا كتمانه: انظر مثلاً إلى زواج عمر بن الخطاب ابنة على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنهم، وما سبق من قولهم " ذاك فرج غصبناه "، وقولهم بأن علياً وافق خوفاً من تهديد عمر! إن أمة الإسلام تعرف علياً الشجاع المقدام الذى لا يخشى أحداً إلا الله عزوجل، والرافضة يصورونه هنا جباناً ذليلاً مهاناً!! وانظر إلى عثمان بن عفان ذى النورين، وهو من آل البيت، وزواجه من ابنتى الرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يراع الرافضة مكانتهما من أبيهما صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذوا يتحدثون عنهما بعبارات ساقطة، بل شكوا فى نسبهما كما بينا فى الجزء الأول. ثم انظر إلى حب آل البيت الأطهار للخلفاء الراشدين الثلاثة رضى الله تعالى عنهم: فهذا على بن أبى طالب يختار أسماء الثلاثة لثلاثة من أبنائه، وهم أبو بكر الذى قتل بين يدى أخيه الحسين، وعمر، وعثمان الذى قتل أيضاً مع أخيه الحسين. ومن أحفاد على بن أبى طالب: أبو بكر بن الحسن الذى قتل بين يدى عمه الحسين، وعمر بن الحسن الذى قتل كذلك مع أخيه وعمه الحسين. وعمر بن الحسين الذى قتل بين يدى أبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 787 (انظر معجم رجال الحديث للخوئى، ففيه ترجمة هؤلاء جميعاً) . أفترى رافضة الأمس أو اليوم يسمون أحد أسماء هؤلاء الثلاثة؟ أم أنهم ـ لعنهم الله تعالى ـ لا يذكرون أى اسم من الأسماء الثلاثة إلا مع اللعن والتكفير؟! كسر الصنم أو تحطيم الصنم العالم الشيعى المعروف آية الله العظمى البرقعى هاله موقف إخوانه الشيعة من كتاب الكافى، على الرغم مما فيه. وقد بينت أنه قائم على هدم الإسلام كله، بكتابه الكريم، وسنته المشرفة المطهرة، وحماته الصحابة الكرام البررة، متخذاً منهج ابن سبأ اللعين. فآية الله العظمى البرقعى هاله تقديس إخوانه الشيعة لهذا الكتاب، فألف كتاباً كبيراً أسماه: كسر الصنم، أو تحطيم الصنم والمقصود بالصنم هنا كتاب الكافى، ولقد أحسن كثيراً فى اختيار العنوان؛ فالرافضة بالنسبة لهذا الكتاب كعبدة الأصنام بالنسبة للصنم، فكما حطمت الأصنام يجب أن يحطم هذا الكتاب الصنم! (1)   (1) أكبر لقب عند الشيعة هو " آية الله العظمى "، والذين يحملون هذا اللقب خمسة فقط، فمن مات منهم يختارون بدلا منه أحدا ممن يلقب بلقب " آية الله "، وعددهم أربعون. وعندما سجن الخمينى في أيام الشاه، ومات أحد الخمسة، رأى الأربعة ـ ومنهم البرقعى ـ اختيار* *الخمينى حتى يخرج من سجنه؛ لأن القانون لا يسمح بسجن من يحمل لقب " آية الله العظمى "، ولكن يمكن أن تحدد إقامته. البرقعى رأى أن يقرأ ما كتبه ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهما ممن يهاجمهم الشيعة، فشرح الله ـ عزوجل ـ صدره، وبدأ يصرح بهذا لإخوانه. ويظهر ما اقتنع بأنه الحق، ويبطل الباطل الذى نشأ عليه، ومن هنا جاء تأليف كتابه كسر الصنم، وترجم بعض ما كتبه ابن تيمية إلى الفارسية. ولأنه آية الله العظمى فلا يسجن حددت إقامته حتى مات. وقد حدثنى بهذا أحد الإخوة الكرام الذين عاشوا فى إيران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 788 فلعل الشيعة يثوبون إلى رشدهم، ويتنبهون إلى هذا الخطر بعد أن نبههم عالم من أكبر علمائهم، نسأل الله جلت قدرته أن يتوب عليهم ليتوبوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 789 ملحق الجزء الثالث: السنة بيان الله تعالى على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- بحث نشر في مجلة السيرة والسنة بجامعة قطر تقديم الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون. والحمد لله الذى لا يؤدى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه، توجب على مؤدى ماضى نعمه بأدائها: نعمة حادثة يجب عليه شكره بها. ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته. الذى هوكما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه. أحمده حمداً كما ينبغى لكرم وجهه وعز جلاله. وأستعينه استعانة من لا حول ولا قوة إلا به. وأستهديه بهداه الذى لا يضل من أنعم به عليه. وأستغفره لما أزلفت وأخرت، استغفار من يقر بعبوديته، ويعلم أنه لا يغفر ذنبه ولا ينجيه منه إلا هو. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله (1) . أما بعد: فقد نزل القرآن الكريم مفرقاً فى ثلاث وعشرين سنة، قال تعالى فى سورة الإسراء: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (2) .   (1) نقلت هذا من مقدمة الإمام الشافعى لرسالته فى أصول الفقه. (2) الآية: 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 790 والرسول ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. عندما يقرأ القرآن الكريم على الناس فإنما يقرأ، ويبين مراد الله تعالى. وكان منهج الصحابة. رضى الله تعالى عنهم ـ كما قال ابن مسعود: " كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نعلم ما بهن، ونعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً. " وكانوا يأخذون عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يخفى عليهم من هذا العلم. وفى العهد المكى الذى نزلت فيه سورة الإسراء، نزل قوله تعالى فى الآية التاسعة والثمانين من سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} . وفى الآية الرابعة والأربعين من سورة النحل أيضاً نزل قوله عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} . فما البيان الذى جاء به القرآن الكريم؟ وما بيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وما العلاقة بين البيانين؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 791 بيان الكتاب والسنة أولاً: من القرآن الكريم ما جاء البيان نصاً لا يحتاج إلى بيان آخر: كقوله تبارك وتعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1) . فحرف الواو كما يأتى للجمع قد يأتى للإباحة، فيحتمل أن يكون المتمتع مخيراً بين صيام ثلاثة أيام فى الحج وسبعة إذا رجع، فمنع هذا الاحتمال بمزيد البيان {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} . ومثل هذه الآية الكريمة ما يعرف فى أصول الفقه: بالمحكم، أو المفسر. إذا كان التفسير من القرآن الكريم نفسه، وهو كثير. وما كان قطعى الدلالة لا يحتمل التأويل، وهو أكثر. ثانياً: فى الآية الكريمة السابقة ذكر العمرة والحج، ولكن كيف نؤديهما؟ فى قوله عز وجل: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} بيان أن الصلاة مفروضة، وأن الزكاة مفروضة ولكن ما عدد الصلوات المفروضة؟ وكيف تؤدى؟ وما مواقيتها؟ إلى غير ذلك مما يتعلق بالصلاة، وكذلك ما يتعلق بالزكاة.   (1) الآية 196: سورة البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 792 كل هذا بينه الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله عزوجل ـ الذكر بإحكام الفرض، وترك للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيان ما أنزل. وهذا أمر واضح جلى لا يحتاج إلى وقفة؛ فلا يستطيع أحد أن ينكره. ومثل هذا بيان ما كان ظنى الدلالة، محتملاً للتأويل، كمطلق يقيد، وعام يخصص، إلى غير ذلك مما هو معلوم مشهور. ثالثاً: جاءت السنة المطهرة بما ليس فيه نص من كتاب الله تبارك وتعالى، وبيان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو عن الله تعالى؛ فقد بين القرآن الكريم وجوب طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " فكل من قَبِل عن الله فرائضه فى كتابه، قبل عن رسول الله سننه، بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه. ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل، لما افترض الله من طاعته. فيجمع القبولُ لما فى كتاب الله ولسنة رسول الله، القبولَ لكل واحد منهما عن الله، وإن تفرقت فروع الأسباب التى قبل بها عنهما " (1) . والآيات الكريمة التى تبين وجوب طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنها من طاعة الله عزوجل، وتحذر من مخالفة أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه الآيات كثيرة، نكتفى هنا بذكر بعضها. القرآن الكريم يأمر بطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحذر من معصيته قال الله سبحانه وتعالى: { ... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} . (7: الحشر) .   (1) الرسالة للإمام الشافعى ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 793 وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (59 النساء) . وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} (36: ... الأحزاب) . وقال: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} (80: النساء) . وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (10: الفتح) . وقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65: النساء) . وقال: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ ... أَلِيمٌ} (63: النور) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 794 وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (51 ـ 52: النور) فهذه الآيات الكريمة فرضت طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقرونة بطاعة الله عزوجل، ومذكورة وحدها، وحذرت من يعصى أمر رسول الله، وحكمت عليه بالضلال المبين، وبعدم الإيمان، فطاعة الرسول الكريم طاعة الله تبارك وتعالى. إذن بيان لسنة من بيان كتاب الله العزيز. السنة وحى ولا يكون مثل هذا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا إذا كان معصوماً لا ينطق عن الهوى، وهو ما بينه القرآن الكريم حيث قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3، 4: النجم) . وقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} (52، 53: الشورى) . وفى آيتين كريمتين: إحداهما تخاطب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأخرى تخاطب المؤمنين، جاء البيان بأن الله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب والحكمة، وسيأتى فى كلام للإمام الشافعى إثبات أن الحكمة هى السنة. والآيتان هما قوله تعالى:] وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (113: النساء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 795 وقوله عزوجل: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ... } (231: البقرة) . وإذا كان القرآن الكريم وحياً منزلاً أمرنا باتباعه، والتعبد به وتلاوته، فإن السنة المطهرة من الوحى المنزل الذى أمرنا باتباعه دون التعبد والتلاوة. وروى عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يبين وجوب طاعته، ويحذر من معصيته. فقد روى أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجه والحاكم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمرى، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدرى، ما وجدنا فى كتاب الله اتبعناه ". وفى رواية لهم أيضاً: " يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته، يحدث بحديثى، فيقول: بينى وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرمناه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله " (1) . وفى خطبته الشريفة فى حجة الوداع حث على التمسك بالكتاب والسنة حيث قال: " وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً، كتاب الله وسنة نبيه " (2) .   (1) انظر الروايتين، وبيان الشيخ أحمد شاكر لصحة الإسناد، فى الرسالة ص 89: 91. (2) راجع الخطبة فى السيرة النبوية لابن إسحاق التى جمعها ابن هشام 4 / 603 ـ 604، والحديث رواه الإمام مالك فى الموطأ مرسلاً، ووصله ابن عبد البر ـ (انظر تنوير الحوالك 2 / 208) . ورواه الحاكم عن ابن عباس، وعن أبى هريرة، وبين صحة الحديث ووافقه الذهبى. ... (انظر المستدرك وتلخيصه 1 / 93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 796 وروى أبو داود فى مراسيله عن حسان بن عطية قال: " كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن " (1) . وروى الدارمى عن محمد بن كثير، عن الأوزاعى، عن حسان قال: " كان جبريل ينزل على النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسنة كما ينزل عليه القرآن " (2) ورواه الخطيب البغدادى فى الكفاية (ص 12) بسنده عن حسان بن عطية أيضاً. اعتصام السلف بالسنة كان السلف الصالح متمسكاً بسنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمسكهم بالقرآن الكريم، فالكل وحى واجب الاتباع. ففى صحيح البخارى نجد " كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة " ومما جاء فى هذا الكتاب: " وكانت الأئمة بعد النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستشيرون الأمناء من أهل العلم فى الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره، اقتداء بالنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".   (1) انظر قواعد التحديث للقاسمى ـ ما روى أن الحديث من الوحى ـ ص 59، وراجع حكم مراسيل أبى داود فى رسالته إلى أهل مكة فى وصف سننه ـ ص 24 ـ 25، 32. (2) سنن الدارمى 1 / 117. وهذه الرواية من المراسيل عن حسان أيضاً، وهو ثقة. قال خالد بن نزار: قلت للأوزاعى: حسان بن عطيه عن من قال؟ فقال لى: مثل حسان كنا نقول له: عن من؟ ! ... (انظر تهذيب التهذيب 2 / 251) . والحديث ذكره السيوطى فى كتابه " مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة ـ ص 31 " وقال: أخرجه البيهقى بسنده عن حسان بن عطيه، وأخرجه الدارمى ـ وفى الحاشية أضاف المعلق: نعيم بن حماد فى زوائده، وابن نصر فى السنة، والخطيب فى الفقيه والمتفقه، وفى الكفاية، وابن عبد البر فى الجامع، وغيرهم، ثم قال: وإسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 797 ويوضح ما سبق ما رواه الإمام الدارمى فى باب التورع من الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة. من هذه الروايات أن أبا بكر الصديق ـ رضى الله تعالى عنه ـ كان إذا ورد عليه الخصم نظر فى كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضى بينهم قضى به، وإن لم يكن فى الكتاب وعلم من رسول الله فى ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتانى كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى فى ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذى جعل فينا من يحفظ عن نبينا. فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به. وموقف الصديق من ميراث الجدة معلوم مشهور، حيث توقف " لا أجد لك فى كتاب الله شيئاً " إلى أن بلغه حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعطاها السدس. ومن روايات سنن الدارمى أيضاً أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، كتب إلى شريح " إذا جاءك شىء فى كتاب الله فاقض به ولا يلتفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس فى كتاب الله فانظر سنة رسول الله فاقض بها، فإن جاءك ما ليس فى كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به ". ومنها أن ابن عمر لقى جابر بن زيد فقال له: " يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة، فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت ". ومنها أن عبد الله بن مسعود قال: " أتى علينا زمان لسنا نقضى ولسنا هنالك، وإن الله قد قدر من الأمر أن قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما فى كتاب الله عز وجل، فإن جاءه ما ليس فى كتاب الله فليقض بما قضى به رسول الله، فإن جاءه ما ليس فى كتاب الله ولم يقض به رسول الله فليقض بما قضى به الصالحون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 798 ومما يبين ما جاء فى كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح البخارى ما رواه هو ومسلم وأحمد وغيرهم، أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: أذكر الله امرأ سمع النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى الجنين شيئاً؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة، فقال: كنت بين جارتين لى، يعنى ضرتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنيناً ميتاً، فقضى فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغرة، فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره. وقال غيره: إن كدنا أن نقضى فى مثل هذا برأينا. وروى الإمام الشافعى بسنده عن سعيد بن المسيب: " أن عمر بن الخطاب قضى فى الإبهام بخمس عشرة، وفى التى تليها بعشر، وفى الوسطى بعشر، وفى التى تلى الخنصر بتسع، وفى الخنصر بست ". ثم قال الشافعى: لما كان معروفاً ـ والله أعلم ـ عند عمر أن النبى قضى فى اليد بخمسين، وكانت اليد خمسة أطراف مختلفة الجمال والمنافع، نزلها منازلها، فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف، فهذا قياس على الخبر. فلما وجدنا كتاب آل عمرو بن حزم، فيه: أن رسول الله قال: " وفى كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل "، صاروا إليه ولم يقبلوا كتاب آل عمرو بن حزم ـ والله أعلم ـ حتى يثبت لهم أنه كتاب رسول الله. وفى الحديث دلالتان: أحدهما: قبول الخبر والآخر: أن يقبل الخبر فى الوقت الذى يثبت فيه، وإن لم يمض عمل من الأئمة بمثل الخبر الذى قبلوا. ودلالة على أنه لو مضى أيضاً عمل من أحد من الأئمة، ثم وجد خبر عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخالف عمله، لترك عمله لخبر رسول الله. ودلالة على أن حديث رسول الله يثبت بنفسه، لا بعمل غيره بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 799 ولم يقل المسلمون قد عمل فينا عمر بخلاف هذا بين المهاجرين والأنصار، ولم تذكروا أنتم أن عندكم خلافه ولا غيركم، بل صاروا إلى ما وجب عليهم من قبول الخبر عن رسول الله، وترك كل عمل خالفه. ولو بلغ عمر هذا صار إليه، إن شاء الله، كما صار إلى غيره فيما بلغه عن رسول الله، بتقواه لله، وتأديته الواجب عليه فى اتباع أمر رسول الله، وعلمه، وبأن ليس لأحد مع رسول الله أمر، وأن طاعة الله فى اتباع أمر رسول الله. ثم أيد الإمام الشافعى قوله السابق، فروى بسنده أن عمر بن الخطاب كان يقول: " الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا "، حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله كتب إليه: " أن يورث امرأة أشيم الضبابى من ديته، فرجع إليه عمر " (1) . ولمكانة السنة عند الصحابة الكرام، وجدنا منهم من يرحل لطلب حديث واحد. روى البخارى فى الأدب المفرد بسنده عن ابن عقيل، " أن جابر بن عبد الله حدثه، أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فابتعت بعيراً، فشددت إليه رحلى شهراً، حتى قدمت الشام. فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أن جابراً بالباب. فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم. فخرج فاعتنقنى. قلت: حديث بلغنى لم أسمعه، خشيت أن أموت أو تموت ... إلخ " (2) . وروى الحميدى فى مسنده (1 / 189) ، وبسنده عن عطاء بن أبى رباح قال: خرج أبو أيوب إلى عقبة بن عامر، وهو بمصر، يسأله عن حديث سمعه   (1) انظر الرسالة ص 422: 426، واقرأ فى الحاشية تعليق الشيخ أحمد شاكر وتخريجه للروايات. (2) انظر الأدب المفرد 2 / 433 ـ باب المعانقة. ورواه الحاكم فى المستدرك (4 /574 ـ575) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى على التصحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 800 من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يبق أحد سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيره وغير عقبة، فلما قدم أتى منزل مسلمة بن مخلد الأنصارى، وهو أمير مصر، فأخبر به، فجعل فخرج إليه فعانقه، ثم قال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يبق أحد سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غيرى وغير عقبة، فابعث من يدلنى على منزله. قال: فبعث معه من يدله على منزل عقبة، فأخبر عقبة به فعجل فخرج إليه فعانقه، وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يبق أحد سمعه غيرى وغيرك فى ستر المؤمن. قال عقبة: نعم، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من ستر مؤمناً فى الدنيا على خزية ستره الله يوم القيامة ". فقال له أبو أيوب: صدقت. ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعاً إلى المدينة، فما أدركته جايزة مسلمة بن مخلد إلا بعريش مصر. هذان مثلان، فيهما من الدلالة ما يكفى ويغنى، والرحلة فى طلب الحديث معلومة مشهورة. حوار الإمام الشافعى لفرقة ضلت إذن كان السلف الصالح متمسكاً بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تمسكهم بكتاب الله العزيز، غير أن فرقة شذت فى عصر الإمام الشافعى، فردت سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورأت أنها لا تقدم مع الكتاب الذى أنزله الله تبياناً لكل شىء. وأشار الإمام الشافعى إلى هذه الفرقة، وذكر حواره مع واحد منها فى كتاب جماع العلم، فى الجزء السابع من كتابه الأم (ص 250) . وقد بدأ الإمام كتاب جماع العلم بقوله: لم أسمع أحداً نسبه الناس، أونسب نفسه إلى علم، يخالف فى أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتسليم لحكمه، بأن الله عز وجل لم يجعل لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 801 بعده إلا اتباعه. وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا كتاب الله أو سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله تعالى علينا، وعلى من بعدنا وقبلنا، فى قبول الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحد لا يختلف فى أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله تعالى. ثم قال رحمه الله وجزاه خيراً: باب حكاية قول الطائفة التى ردت الأخبار كلها قال الشافعى رحمه الله تعالى: قال لى قائل ينسب إلى العلم بمذهب أصحابه: أنت عربى، والقرآن نزل بلسان من أنت منه، وأنت أدرى بحفظه، وفيه لله فرائض أنزلها، لو شك شاك ـ قد تلبس عليه القرآن بحرف منها ـ استتبته، فإن تاب وإلا قتلته. وقد قال الله عز وجل فى القرآن: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} . فكيف جاز عند نفسك، أو لأحد فى شىء فرض الله ـ أن يقول مرة: الفرض فيه عام، ومرة: الفرض فيه خاص، ومرة: الأمر فيه فرض، ومرة: الأمر فيه دلالة، وإن شاء: ذو إباحة؟ وأكثر ما فرقت بينه من هذا عندك حديث ترويه عن رجل عن آخر عن آخر، أو حديثان أو ثلاثة، حتى تبلغ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد وجدتك ومن ذهب مذهبك لا تبرءون أحداً لقيتموه وقدمتموه فى الصدق والحفظ، ولا أحداً لقيت ممن لقيتم ـ: من أن يغلط وينسى ويخطئ فى حديثه. بل وجدتكم تقولون بغير واحد منهم: أخطأ فلان فى حديث كذا، وفلان فى حديث كذا. ووجدتكم تقولون، لو قال رجل لحديث أحللتم به وحرمتم من علم الخاصة: لم يقل هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنما أخطأتم أو من حدثكم، وكذبتم أو من حدثكم ـ: لم تستتيبوه، ولم تزيدوا: على أن تقولوا: بئس ما قلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 802 أفيجوز أن يفرق بين شىء من أحكام القرآن، وظاهره واحد عند من سمعه ـ: يخبر من هو كما وصفتم فيه؟ وتقيمون أخبارهم مقام كتاب الله، وإنكم تعطون بها وتمنعون بها؟ قال: فقلت: إنما نعطى من وجه الإحاطه، أو من جهة الخبر الصادق، وجهة القياس. وأسبابها عندنا مختلفة، وإن أعطينا بها كلها فبعضها أثبت من بعض. قال: ومثل ماذا؟ قلت: إعطائى من الرجل بإقراره، وبالبينه، وإبائه اليمين وحلف صاحبه. والإقرار أقوى من البينة، والبينة أقوى من إباء اليمين ويمين صاحبه. ونحن وإن أعطينا عطاء بها واحداً فأسبابها مختلفة. قال: وإذا قمتم على أن تقبلوا أخبارهم، وفيهم ما ذكرت من أمركم بقبول أخبارهم، وما حجتكم فيه على من ردها؟ فقال: لا أقبل منها شيئاً إذا كان يمكن فيه الوهم، ولا أقبل إلا ما أشهد به على الله، كما أشهد بكتابه، الذى لا يسع أحداً الشك فى حرف منه. أو يجوز أن يقوم شئ مقام الإحاطة وليس بها؟ فقلت له: من علم اللسان الذى به كتاب الله وأحكام الله، دله علمه بهما على قبول أخبار الصادقين عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والفرق بين ما دل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الفرق بينه من أحكام الله. وعلم بذلك مكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذ كنت لم تشاهده خبر الخاصة وخبر العامة. قال: نعم. قلت: فقد رددتها إذ كنت تدين بما تقول! قال: أفتوجدنى مثل هذا، مما تقوم بذلك الحجة فى قبول الخبر؟ فإن أوجدته كانت أزيد فى إيضاح حجتك، وأثبت للحجة على من خالفك، وأطيب لنفس من رجع من قوله لقولك. ـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 803 فقلت: إن سلكت سبيل النصفة، كان فى بعض ما قلت دليل على أنك مقيم من قولك على ما يجب عليك الانتقال عنه. وأنت تعلم أن قد طالت غفلتك فيه عما لا ينبغى أن تغفل من أمر دينك. قال: فاذكر شيئاً إن حضرك؟ قلت: قال الله عزوجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} . قال: فقد علمنا أن الكتاب كتاب الله، فما الحكمة؟ قلت: سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: أفيحتمل أن يكون يعلمهم الكتاب جملة، والحكمة خاصة، وهى أحكامه؟ قلت: تعنى بأن يبين لهم عن الله عزوعلا مثل ما بين لهم فى جملة الفرائض، من الصلاة والزكاة والحج وغيرها، فيكون قد أحكم فرائض من فرائضه بكتابه، وبين كيف هى لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: إنه ليحتمل ذلك. قلت: فإن ذهبت هذا المذهب فهى فى معنى الأول قبله، الذى لا تصل إليه إلا بخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فإن ذهبت مذهب تكرير الكلام؟ قلت: وأيهم أولى به إذا ذكر الكتاب والحكمة: أن يكونا شيئين أو شيئاً واحداً؟ قال: يحتمل أن يكونا كما وصفت، كتاباً وسنة، فيكونا شيئين، ويحتمل أن يكونا شيئاً واحداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 804 قلت: فأظهرهما أولاهما فى القرآن دلالة على ما قلنا، وخلاف ما ذهبت إليه. قال: وأين هى؟ قلت: قول الله عزوجل: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} فأخبر أنه يتلى فى بيوتهن شيئان. قال: فهذا القرآن يتلى، فكيف تتلى الحكمة؟ قلت: إنما معنى التلاوة أن ينطق بالقرآن والسنة، كما ينطق بها. قال: فهذه أبين فى أن الحكمة غير القرآن من الأولى. وقلت: افترض الله علينا اتباع نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: وأين؟ قلت: قال الله عزوجل: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} . وقال عزوجل: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} . وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال: ما من شئ أولى بنا أن نقوله فى الحكمة: من أنها سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو كان بعض ما قال أصحابنا: أن الله أمر بالتسليم بحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحكمته إنما هو مما أنزله ـ لكان من لم يسلم، له أن ينسب إلى التسليم لحكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 805 قلت: لقد فرض الله عزوجل علينا اتباع أمره فقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} . قال: إنه لبين فى التنزيل أن علينا فرضاً أن نأخذ الذى أمرنا به، وننتهى عما نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: قلت: والفرض علينا وعلى من هو من قبلنا ومن بعدنا واحد؟ قال: نعم. قلت: فإن كان ذلك علينا فرضاً فى اتباع أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنحيط أنه إذا فرض علينا شيئاً فقد دلنا على الأمر الذى يؤخذ به فرضه؟ قال: نعم. قلت: فهل تجد السبيل إلى تأدية فرض الله عزوجل فى اتباع أوامر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أحد قبلك أو بعدك، ممن لم يشاهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بالخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وإن فى أن لا آخذ ذلك إلا بالخبر لما دلنى على أن الله أوجب على أن أقبل عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ***** قال: وقلت له أيضاً: يلزمك هذا فى ناسخ القرآن ومنسوخه. قال: فاذكر منه شيئاً؟ قلت ـ قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 806 وقال فى الفرائض: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} . فزعمنا بالخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن آية الفرائض نسخت الوصية للوالدين والأقربين. فلو كنا ممن لا يقبل الخبر فقال قائل: الوصية نسخت الفرائض، هل نجد الحجة عليه إلا بخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ! قال: هذا شبيه بالكتاب والحكمة، والحجة لك ثابتة بأن علينا قبول الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد صرت إلى: قبول الخبر لزم للمسلمين، لما ذكرت وما فى مثل معانيه من كتاب الله. وليست تدخلنى أنفة من إظهار الانتقال عما كنت أرى إلى غيره، إذا بانت الحجة فيه، بل أتدين بأن على الرجوع عما كنت أرى إلى ما رأيت الحق. ولكن أرأيت العام فى القرآن، كيف جعلته عاماً مرة، وخاصاً أخرى؟ قلت له: لسان العرب واسع. وقد تنطق بالشىء عاماً تريد به الخاص فيبين فى لفظها. ولست أصير فى ذلك بخبر إلا بخبر لازم. وكذلك أنزل فى القرآن، فبين فى القرآن مرة، وفى السنة أخرى. قال: فاذكر منها شيئاً؟ قلت: قال الله عزوجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} . فكان مخرجاً بالقول عاماً يراد به العام. وقال: {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . فكل نفس مخلوقه من ذكر وأنثى فهذا عام يراد به العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 807 وفيه الخصوص: وقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . فالتقوى وخلافها لا تكون إلا للبالغين غير المغلوبين على عقولهم. وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} . وقد أحاط العلم أن كل الناس فى زمان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكونوا يدعون من دونه شيئاً، لأن فيهم المؤمن. ومخرج الكلام عاماً فإنما أريد من كان هكذا. وقال: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعدُونَ فِي السَّبْتِ} دل على أن العادين فيه أهلها دونها. وذكرت له أشياء مما كتبت فى (كتابى) (1) . فقال: هو كما قلت كله. ولكن بين لى العام الذى لا يوجد فى كتاب الله أنه أريد به خاص؟ قلت فرض الله الصلاة. ألست تجدها على الناس عاماً؟ قال: بلى. قلت: وتجد الحيض مخرجات منه؟ قال: نعم. وقلت: وتجد الزكاة على الأموال عامة، وتجد بعض الأموال مخرجاً منها؟ قال: بلى.   (1) مراد الإمام الشافعى بكتابه: الرسالة. قال فى ص 62: " فابتدأ جل ثناؤه ذكر الأمر بمسألتهم عن القرية الحاضرة البحر، فلما قال: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} الآية ـ: دل ذلك على أنه إنما أراد أهل القرية، لأن القرية لا تكون عادية ولا فاسقة بالعدوان فى السبت ولا غيره، وأنه إنما أراد بالعدوان أهل القرية الذين بلاهم بما كانوا يفسقون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 808 قلت: وتجد الوصية للوالدين منسوخة بالفرائض؟ قال: نعم. قلت: وفرض المواريث للآباء وللأمهات والولد عاماً، ولم يورث المسلمون كافراً من مسلم، ولا عبداً من حر، ولا قاتلاً ممن قتل: بالسنة؟ قال: نعم. ونحن نقول ببعض هذا. قلت: فما دلك على هذا؟ قال: السنة. لأنه ليس فيه نص قرآن. قلت: فقد بان لك فى أحكام الله تعالى فى كتابه فرض الله طاعة رسوله، والموضع الذى وضعه الله عز وجل به، من الإبانة عنه: ما أنزل خاصاً وناسخاً ومنسوخاً؟ قال: نعم. وما زلت أقول بخلاف هذا، حتى بان لى خطأ من ذهب هذا المذهب. ولقد ذهب فيه أناس مذهبين: أحد الفريقين لا يقبل خبراً، وفى كتاب الله البيان. قلت: فما لزمه؟ قال: أفضى به ذلك إلى عظيم من الأمر، فقال: من جاء بما يقع عليه اسم " صلاة " وأقل ما يقع عليه اسم " زكاة " فقد أدى ما عليه، لا وقت فى ذلك، ولو صلى ركعتين فى كل يوم، أو قال: فى كل أيام! وقال: ما لم يكن فيه كتاب الله فليس على أحد فيه فرض! وقال غيره: ما كان فيه قرآن يقبل فيه الخبر! فقال بقريب من قوله فيما ليس فيه قرآن. فدخل عليه ما دخل على أو قريب منه. ودخل عليه أن صار إلى قبول الخبر بعد رده. وصار إلى أن لا يعرف ناسخاً ولا منسوخاً، ولا خاصاً ولا عاماً. والخطأ ومذهب الضلال فى هذين المذهبين واضح، لست أقول بواحد منهما. ولكن هل من حجة فى أن تبيح المحرم بإحاطة بغير إحاطة؟ قلت: نعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 809 قال: ما هو؟ قلت: ما تقول فى هذا، لرجل إلى جنبى، أمحرم الدم والمال؟ قال: نعم. قلت: فإن شهد عليه شاهدان بأنه قتل رجلاً وأخذ ماله، فهو هذا الذى فى يديه؟ قال: أقتله قوداً، وأدفع ماله الذى فى يديه إلى ورثة المشهود له. قال: قلت: أو يمكن فى الشاهدين أن يشهدا بالكذب والغلط؟ قال: نعم. قلت: فكيف أبحت الدم والمال، المحرمين بإحاطة ـ: بشاهدين، وليسا بإحاطة؟ قال: أمرت بقبول الشهادة. قلت: أفتجد فى كتاب الله تعالى نصاً أن تقبل الشهادة على القتل؟ قال: لا. ولكن استدلالاً أنى لا أؤمر بها إلا بمعنى. قلت: أفيحتمل ذلك المعنى أن يكون لحكم غير القتل، ما كان القتل يحتمل القود والدية؟ قال: فإن الحجة فى هذا: أن المسلمين إذا اجتمعوا أن القتل بشاهدين فقلنا: الكتاب محتمل لمعنى ما أجمعوا عليه، وأن لا تخطئ عامتهم معنى كتاب الله، وإن أخطأ بعضهم. فقلت له: أراك قد رجعت إلى قبول الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والإجماع دونه؟ ! قال: ذلك الواجب على. وقلت له: أتجدك إذا أبحت الدم والمال المحرمين بإحاطة ـ: بشهادة، وهى غير إحاطة؟ قال: كذلك أمرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 810 قلت: فإن كنت أمرت بذلك على صدق الشاهدين فى الظاهر، فقبلتهما على الظاهر، ولا يعلم الغيب إلا الله، وإنا لنطلب فى المحدث أكثر مما نطلب فى الشاهد، فنجيز شهادة بشر لا نقبل حديث واحد منهم. ونجد الدلالة على صدق المحدث وغلطه ممن شركه من الحفاظ، وبالكتاب والسنة. ففى هذا دلالات. ولا يمكن هذا فى الشهادات. قال: فأقام على ما وصفت من التفريق فى رد الخبر، وقبول بعضه مرة ورد مثله أخرى، مع ما وصفت فى بيان الخطأ فيه، وما يلزمهم اختلاف أقاويلهم. وفيما وصفنا ههنا، وفى الكتاب قبل هذا ـ دليل على الحجة عليهم وعلى غيرهم. فقال لى: قد قبلت منك أن أقبل الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلمت أن الدلالة على معنى ما أراد بما وصفت من فرض الله وطاعته، فأنا إذا قبلت خبره فعن الله قبلت ما أجمع عليه المسلمون فلم يختلفوا فيه، وعلمت ما ذكرت من أنهم لا يجتمعون ولا يختلفون إلا على حق، إن شاء الله تعالى ... إلخ. ***** بعد الإمام الشافعى هذا هو حوار الإمام الشافعى الذى هدى من حاوره بعد ضلال، ولكن هداية هذا الرجل لا تعنى عدم ضلال الطائفة. ويأتى القرن الثالث، الذى توفى الإمام الشافعى فى العام الرابع من بدايته، ليكون العصر الذهبى لجمع السنة وتنقيتها وتدوينها، حيث دون مسند الإمام أحمد، والصحيحان، وكتب السنن الأربعة، وغيرها من الكتب الأخرى: كسنن سعيد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 811 منصور، والدارمى، ومسانيد إسحاق بن راهويه، وبقى بن مخلد، والبزار، وأبى يعلى. غير أن ذاك القرن ضم أيضاً من حاول هدم السنة المطهرة. ننظر مثلاً إلى كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ، فنراه جعل كتابه فى الرد على أعداء أهل الحديث، والجمع بين الأخبار التى ادعوا عليها التناقض والاختلاف، والجواب عما أوردوه من الشبه على بعض الأخبار المتشابهة أو المشكلة بادئ الرأى. ولا يكتفى ابن قتيبة بالرد على الشبه، وبيان سوء فهم من أثاروا تلك الشبه، وإنما يتحدث عن الأشخاص أنفسهم الذين أثاروها حتى يعرف القارئ سبب عدائهم لأهل الحديث. فيذكر منهم النظام ويقول: وجدنا النظام شاطراً من الشطار، يغدو على سكر، ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها، ويدخل فى الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات ... إلخ. وذكر أن النظام خرج على إجماع الأمة، وطعن فى أبى بكر وعمر وعلى وابن مسعود وأبى هريرة، ثم عقب ابن قتيبة بعد هذا بقوله: هذا هو قوله ـ أى النظام ـ فى جلة أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورضى عنهم، كأنه لم يسمع بقول الله عز وجل فى كتابه الكريم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} إلى آخر السورة، ولم يسمع بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} (1) . وبعد حديثه عن النظام، ورده عليه يقول: ثم نصير إلى قول أبى هذيل العلاف فنجده كذاباً أفاكاً ... إلخ.   (1) راجع حديثه عن النظام، ومناقشته له فى ص 17: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 812 وهكذا استمر ابن قتيبة فى كتابه. وكان أسوأ وأشد خطراً من هؤلاء الذين تحدث عنهم، قوم اتخذوا لأنفسهم سنة خاصة تختلف عن مفهوم السنة عند الأمة، فأشركوا مع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى العصمة ووجوب الاتباع أشخاصاً اعتبروهم أئمة طائفتهم، ووضعوا الأخبار فى ظلمات هذا المفهوم، وفى ظلماته أيضاً كتبوا فى الجرح والتعديل. شهد القرن الثالث ثلاثة من كتب هؤلاء، وبالرجوع إليها نجد أنها تطعن فى خير الناس: صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رضى الله عنهم ورضوا عنه، وتذكر أن القرآن الكريم حرف نصاً ومعنى، وجاء الطعن والقول بالتحريف فى روايات مفتراه، اعتبروها صحيحة بمقياسهم. وألف كتاب رابع لتلميذ لأحد أصحاب الكتب الثلاثة، واعتبر هذا الكتاب الكتاب الأول فى الحديث عندهم، وعندما قرأته وجدت صاحبه قد ضل ضلالاً بعيداً، ووضع من المفتريات ما لا يستطيع أن يتصوره أى مسلم. وعندما رجعت لكتب الجرح والتعديل عندهم وجدت آثار هذه الظلمات: فصاحب الكتاب الرابع ثقة الإسلام! وشيخه ليس ثقة فحسب، بل كل من وثقهم وروى عنهم فهم ثقات! ولا يعتبر الحديث صحيحاً إلا إذا كان الرواة كلهم جميعاً من طائفتهم. والجرح عندهم سيئ للغاية، ولذلك أكتفى بالإشارة السريعة. فأذكر هذه النماذج: عثمان بن عفان الأموى خليفة العامة: ضعيف. عبد الله بن عمر بن الخطاب: الخبيث، ضعيف. عبد الرحمن بن عوف: من أضعف الضعفاء. المغيرة بن شعبة: صحابى فى غاية الضعف. محمد بن أبى بكر بن أبى قحافة: من أجلاء الثقات، وتربى فى بيت سوء. معاوية بن أبى سفيان: زندقته أشهر من كفر إبليس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 813 هذه نماذج قليلة، نجد منها أكثر من عشرة آلاف فى كتاب واحد، وهى مع قلتها تكشف ضلال هؤلاء فى جرحهم وتعديلهم. وأذكر هنا أن أحد هذه الكتب الثلاثة التى رزئ بها القرن الثالث وصل إليه المستشرقون، فاعتمدوا عليه فى طعنهم فى القرآن الكريم، وهكذا أخذ أعداء الله سلاحهم فى الطعن فى الإسلام من قوم انتسبوا للإسلام. وأذكر أيضاً أن معاوية بن أبى سفيان، وهو من الأمناء، أحد كتاب الوحى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قام ابن الوزير اليمانى من الشيعة الزيدية، بتتبع أحاديثه، فوجد أن ما صح عنه من أحاديث الأحكام ثلاثون حديثاً كلها صحيحة مروية من طرق أخرى ليس فيها معاوية، كما لم يصح أى حديث عنه، فيه طعن فى على بن أبى طالب ـ رضى الله تعالى عنهم جميعاً. ولعل فى هذا ما يدمغ أولئك الطاعنين. ***** فى عصر السيوطى وفى هذه العجالة التى لا تهدف إلى الحصر والاستقصاء، ننتقل من القرن الثالث إلى القرن التاسع، فنرى الإمام السيوطى يؤلف كتاباً تحت عنوان " مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة ". وبين سبب تأليف كتابه فقال: اعلموا ـ يرحمكم الله ـ أن من العلم كهيئة الدواء، ومن الآراء كهيئة الخلاء، لا تذكر إلا عند داعية الضرورة، وإن مما فاح ريحه فى هذا الزمان وكان دارساً ـ بحمد الله تعالى ـ منذ أزمان وهو أن قائلاً رافضياً زنديقاً أكثر فى كلامه أن السنة النبوية والأحاديث المروية ـ زادها الله علواً وشرفاً ـ لا يحتج بها، وأن الحجة فى القرآن خاصة، وأورد على ذلك حديث: " ما جاءكم عنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 814 من حديث فاعرضوه على القرآن , فإن وجدتم له أصلاً فخذوا به وإلا فردوه. " (1)   (1) ذكر الإمام الشافعى فى رسالته، تحت باب العلل فى الأحاديث، قول قائل: أفتجد حجة على من روى أن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " ما جاءكم عنى فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله "؟ وأجاب: فقلت له: ما روى هذا أحد يثبت حديثه فى شئ صغر ولا كبر، فيقال لنا: قد ثبتم حديث من روى هذا فى شىء. (الرسالة 224 ـ 225) . وقال السخاوى فى تخريج الحديث: قال الدارقطنى: إن أشعث تفرد به. انتهى وهو شديد الضعف، والحديث منكر جداً. استنكره العقيلى وقال: إنه ليس له إسناد يصح. (المقاصد الحسنة 1 / 36) . وذكر العجلونى قول السخاوى، وقال: قال الصغائى: هو موضوع (انظر كشف الخفاء 1 / 86) . وقال ابن حزم فى رواية لحديث عرض السنة على القرآن: رواه الحسين بن عبد الله، وهوساقط متهم بالزندقة. (الإحكام المجلد الأول ص 250) وفى رواية أخرى رواها أشعث قال: أشعث بن بزار كذاب ساقط لا يؤخذ حديثه. (ص 252) وتتبع الروايات المختلفه للحديث، وبين سبب رفضه لها، ثم قال: أول ما نعرض على القرآن الحديث الذى ذكرتموه، فلما عرضناه وجدنا القرآن يخالفه، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} . وقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} . وقال تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} . ونسأل قائل هذا القول الفاسد: فى أى قرآن وجد أن الظهر اربع ركعات؟ وأن المغرب ... إلخ (ص 252 ـ 253) ثم قال ابن حزم: ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا فى القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة، ولكن لا يلزمه إلا ركعه ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة، ولا حد للأكثر فى ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال، وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الأمة على كفرهم ". (ص 253 ـ 254 من الإحكام المجلد الأول) . *وقال الشيخ شاكر فى تخريج الحديث: هذا المعنى لم يرد فيه حديث صحيح ولا حسن، بل وردت فيه ألفاظ كثيرة، كلها موضوع أو بالغ الغاية فى الضعف، حتى لا يصلح شىء منها للاحتجاج أو الاستشهاد. ثم أفاض فى بيانه ـ انظر حاشية ص 224، 225 من الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 815 هكذا سمعت الكلام بجملته منه، وسمعه منه خلائق غيرى، فمنهم من لا يلقى لذلك بالاً، ومنهم من لا يعرف أصل هذا الكلام، ولا من أين جاء. فأردت أن أوضح للناس أصل ذلك، وأبين بطلانه، وأنه من أعظم المهالك. فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن من أنكر كون حديث النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولاً كان أو فعلاً بشرطه المعروف فى الأصول حجة، كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى، أو مع من شاء الله من فرق الكفرة. روى الإمام الشافعى ـ رضى الله عنه ـ يوماً حديثاً، وقال إنه صحيح، فقال له قائل: أتقول به يا أبا عبد الله؟ فاضطرب وقال: يا هذا! أرأيتنى خارجاً من كنيسة؟ أرأيت فى وسطى زناراً؟ أروى حديثاً عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أقول به؟ وأصل هذا الرأى الفاسد أن الزنادقة وطائفة من الرافضة ذهبوا إلى إنكار الاحتجاج بالسنة والاقتصار على القرآن، وهم فى ذلك مختلفو المقاصد، فمنهم من كان يعتقد أن النبوة لعلى وأن جبريل ـ عليه السلام ـ أخطأ فى نزوله إلى سيد المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ومنهم من أقر للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنبوة، ولكن قال: إن الخلافة كانت حقاً لعلى ... إلخ. ثم قال السيوطى بعد ذلك: وهذه آراء ما كنت أستحل حكايتها، لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد الذى كان الناس فى راحة منه من أعصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 816 وقد كان أهل هذا الرأى موجودين بكثرة فى زمن الأئمة الأربعة فمن بعدهم، وتصدى الأئمة الأربعة وأصحابهم فى دروسهم ومناظراتهم للرد عليهم، وسأسوق إن شاء الله جملة من ذلك، والله الموفق (1) . والكتاب طبع فى ستين ومائة صفحة، فارجع إليه. الطاعنون فى العصر الحديث وننتقل بعد هذا إلى عصرنا الحديث، حيث زادت الطامة، وكثر الطاعنون، وهم أصناف: فمنهم بقايا الفرق، وأشرت إلى بعضهم آنفاً. وهم لا يكتفون بما فى كتبهم من ضلال. ولكنهم من وقت لآخر يثيرون ما يريدون به هدم السنة: كالطعن فى صحابى جليل راوية، أو راو أجمعت الأمة على توثيقه. أو كتاب صحيح تلقته الأمة بالقبول ... إلخ ومنهم من يطعن لجهله ما يتصل بالسنة، فيتشكك ويشكك فى ثبوتها. وهو لا يدرى أن البشرية كلها فى تاريخها الطويل لم تعرف علماً نقل من جيل إلى جيل بالدقة التى نقل بها حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولو رجع إلى كتب مصطلح الحديث، وعلم الرجال، وشروح السنة لاستراح وأراح. ومنهم من دفعه هذا الجهل إلى القول بأن القرآن الكريم وحده يكفى، مستدلاً بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} ، وقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} . وهذا جهل بالكتاب والسنة معاً، ووقوع فيما حذر منه الله عز وجل، ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وردة إلى قول الطائفة التى ذكرها الإمام الشافعى. ولو أن هؤلاء قرأوا حوار الشافعى، وتدبروا ما ذكرنا من آيات كريمة، وأحاديث شريفة، لأدركوا   (1) انظر الكتاب المذكور ص 11 ـ 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 817 مدى ضلالهم وبعدهم عن سواء السبيل. والعجيب أن هؤلاء أسموا أنفسهم بالقرآنيين، والقرآن نفسه يشهد على بطلان دعواهم. ومنهم من جعل عقله حكماً لرفض أحاديث صحت سنداً ومتناً، بل فى أرقى مراتب الصحاح، كالأحاديث الثابتة المتعلقة بالغيبيات مثل الجنة، والنار، وعلامات الساعة، والملائكة، والجن. ومن المعلوم أن النقل الصحيح لا يتعارض مع العقل السليم، ولكن كيف نقيس الغائب على الشاهد، وكيف نحكم العقل فى أمور لا نعرف شيئاً عنها، إلا بالنقل الصحيح، فمتى ثبت النقل لزم التسليم. أحيانا ترى جاهلاً مغروراً يقف أمام حديث متفق عليه ويقول: هذا مرفوض عقلا! وكان عليه أن يسأل نفسه: أكان البخارى ومسلم وأحمد وغيرهم بلا عقول؟ بل أعاشت الأمة أربعة عشر قرناً بغير عقل حتى جاء بعقله ليستدرك عليها؟ ! ومن أسوأ الطاعنين فى عصرنا المستشرقون، وأشد منهم خطراً تلامذتهم المقلدون التابعون لهم. والمستشرقون طعنوا فى القرآن الكريم نفسه كما أشرت من قبل، أما السنة فقد أنكروا وجود سنة يتصل سندها إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا بأن أقصى اتصال الأسانيد ينقطع ويتوقف عند نهاية القرن الأول. ومعنى ذلك أن السنة بحسب زعمهم تعتبر اختراعاً من اختراعات المسلمين المتأخرين، أرادو أن يثبتوا أحكاماً فنسبوها للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم لم ينسوا أن يطعنوا فيمن كان لهم دور كبير فى السنة، فمثلا طعنوا فى أبى هريرة الصحابى الجليل رضى الله تعالى عنه، الذى روى عنه أكثر من ثمانمائة من الصحابة والتابعين، وهو كما قال الإمام الشافعى " أثبت من روى الحديث فى دهره "، وطعنوا فى ابن شهاب الزهرى، الإمام الحجة الثبت، أول من استجاب لعمر بن عبد العزيز فى جمع السنة ... . وهكذا. ثم ظهر اتجاه آخر عندهم، اعتبره بعضهم هدماً للفكر الاستشراقى، ولذلك ثاروا على القائلين به، مع أنه فى النهاية يصل إلى البهتان نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 818 ويقوم هذا الاتجاه الخبيث على الاعتراف أولاً بأن السنة لها أصل، وذلك حتى يضلل جهلة المسلمين بالتظاهر بأنه لا ينكر وجود أصل للسنة، ولكن بعد هذا الاعتراف تأتى محاولة الهدم، فيقولون: إن المدارس الإسلامية الأولى لم تستطع أن تحدد ما يعتبر من أقوال محمد وما لا يعتبر من أقواله، لأن السند لم يكن معروفاً عندهم، فكانت كلمة سنة تعنى الرأى المقبول لدى جمهور علماء المدرسة، ثم نسبوا هذه الأقوال المقبولة لدى المدرسة إلى الصحابة حتى تكون أكثر قبولاً، ثم نسبوها بعد ذلك إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) . ومعنى هذا أنهم يريدون أن يصلوا فى النهاية إلى التشكيك فى السنة كلها. هؤلاء القوم لا يعرفون الإسناد، فكتبهم المقدسة ذاتها بغير إسناد، ولذلك فهى محرفة مزورة، ولكن لا شك أنهم قرأوا عن جمع السنة وتنقيتها، وشروط رجال الحديث، وعرفوا أن الأمة الإسلامية فاقت الخلق جميعاً بهذا الإسناد، ولكن ماذا ننتظر من مستشرق يهودى أو صليبى حاقد على الإسلام وأهله، مريد هدمه ما استطاع إلى ذلك سبيلا؟ فلا ننتظر من أعداء الإسلام إلا مثل هذه المحاولات، وإن كنا مطمئنين تماماً إلى أنهم لن يصلوا إلى ما يريدون، فالله عز وجل لم يترك حفظ القرآن الكريم كما ترك غيره للأحبار والرهبان فضيعوه، وإنما تعهد بحفظه {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} كما تعهد ببيانه {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، ومن تمام حفظ القرآن الكريم حفظ السنة المطهرة وهى المبينة له.   (1) بين هذا الاتجاه مفصلاً الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا فى إحدى محاضرات رئاسة المحاكم الشرعية (لعام 1405 هـ) بدولة قطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 819 أهذا مفكر إسلامى؟ ! الأمر العجيب الغريب حقاً أن نجد من المسلمين من يردد قول المستشرقين، ومن يصبح لهم تبعاً، ومن يعجب بأقوالهم فيذكرها منسوبة إليهم، أو يذكرها وينسبها لنفسه! ذكر المرحوم الدكتور مصطفى السباعى أن الدكتور على حسن عبد القادر عندما ألف كتاباً، وذكر فيه شبه المستشرقين، وطعنهم فى الإمام الزهرى، فثار عليه الأزهر، قال له الأستاذ أحمد أمين: " إن الأزهر لا يقبل الآراء العلمية الحرة، فخير طريقة لبث ما تراه مناسباً من أقوال المستشرقين ألا تنسبها إليهم بصراحة، ولكن ادفعها إلى الأزهريين على أنها بحث منك، وألبسها ثوباً رقيقاً لا يزعجهم مسها، كما فعلت أنا فى فجر الإسلام وضحى الإسلام "! والشيخ السباعى رحمه الله ناقش المستشرقين وأتباعهم، وبين تهافت وسخف أقوالهم فى كتابه " السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى "، غير أنه لم يعش ليرى ثمرة غرس أحمد أمين، فقد ربى أبناءه فى هذه البيئة التى تتضح من نصيحته الدكتور عبد القادر، ولا شك أنه نصح ابنه نصائح أدهى وأمر، ولذلك جاء الابن أسوأ بكثير من أبيه. أخذ حسين بنصيحة أبيه أحمد أمين فى سرقة كلام المستشرقين، لكنه لم يختر ما يراه مناسباً بل لم يتردد فى أخذ أى شىء عندهم، ولا مانع من أن يزيد: ولذلك نراه يطعن فى القرآن الكريم وفى عقائد المسلمين، وهذا ما لم يفعله أبوه. وفى السنة يقول ما قاله المستشرقون تماماً! ويضيف إضافات تدل على جهله التام، وافترائه إلى غير حد. ولنذكر شيئاً قليلاً مما قاله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 820 أولاً: زعمه أن الشريعة قاصرة وأن الرسول غير معصوم!! للكاتب مقالات منشورة فى مجلات لها اتجاهات معلومة، وجمع أكثر هذه المقالات فى كتاب، إذا حملت نفسك على قراءته، وتصبرت ولم تقف عند المقدمات الخادعة، أدركت يقيناً أنك أمام مؤامرة خبيثة لئيمة لهدم الإسلام: وإن كنت ممن رزئ بقراءة هذا الكتاب، غير أننى سأقتصر على ذكر نماذج منه تكفى لكشف المؤامرة، وبيان حقيقة التآمر. وما جاء فى الكتاب لا يحتاج إلى مناقشة؛ فهو بعيد عن المنهج العلمى، والكاتب ينسب نفسه للإسلام ثم ينكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فكيف يناقش؟ مع غير المسلمين طالت المناقشات التى أثبتت حقائق الإسلام، ودمغت أباطيل خصومه، ودحضت شبههم، ولكن كيف تكون مثل هذه المناقشات مع من أطلق عليه المزيفون " المفكر الإسلامى، والكاتب الإسلامى"؟! أيمكن أن نتصور مسلماً يقول: إن القرآن الكريم جاء بشريعة قاصرة لا تصلح لكل زمان ومكان، وأرسل بها رسول غير معصوم؟ قال الكاتب فى ص 43: قد كان هذا القرآن وحده كافياً لأن يحكم أوضاع المجتمع الإسلامى فى صورته الأولى، وأن ينظم شئونه الدينية والاجتماعية والسياسية، بيد أنه ما انقضت فترة وجيزة على وفاة النبى حتى كان العرب قد انطلقوا من بيدائهم ... وباتوا يحكمون شعوباً شديدة التباين فى عاداتها وأخلاقها وبيئاتها وحضارتها عن أهل شبه الجزيرة، وأسسوا مدناً جديدة، أو سكنوا مدناً قائمة تزخر بسكان هم الآن فى حاجة إلى شريعة أكثر تعقيداً، وأوفى تفصيلاً من تلك التى كانت صالحة لأن تحكم مجتمعاً فى بساطة مجتمع مكة والمدينة وعن اتخاذ السنة مصدراً ثانياً للشريعة قال فى ص 44: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 821 إزاء هذا التوسع الجغرافى الهائل، وإزاء ضغط الظروف التاريخية الجديدة دائبة التغير، واختلاف المكان والزمان، تلمس المسلمون وفقهاؤهم الدليل ... الهادى ومع أن الرسول لم يدع قط أنه معصوم من الخطأ إلا حين يملى أو يتلو آيات ربه، بل ونبهه القرآن ذاته إلى أخطاء بدرت منه، فقد افترض أنصار الالتزام بالسنة أن العناية الإلهية إنما كانت توجه كل عمل أتى به، وكل كلمة صدرت عنه منذ بعثه الله رسولاً إلى قومه إلى أن مات. ومن ثم فقد رأوا أن أحكام السنة ملزمة فى الحالات التى لم يرد بصددها حكم قرآنى. ومما ذكره الكاتب هنا تظهر آراؤه الآتية: 1 ـ إنكار صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، فالقرآن الكريم جاء بشريعة قاصرة، لا تصلح لغير المجتمع الأول فى مكة والمدينة. 2 ـ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل إلى قومه، أى أنه لم يرسل إلى الناس كافة. 3 ـ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير معصوم، فلا يجب اتباعه. 4 ـ الذين رأوا وجوب اتباع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم طائفة فقط من المسلمين أسماهم الكاتب " أنصار الالتزام بالسنة ". وهذه الآراء تعارض الكتاب والسنة، وتنكر ما أجمعت عليه خير أمة أخرجت للناس، وما هو معلوم من الدين بالضرورة. والدراسة الموجزة السابقة فيها ما يكفى لبيان هذا، ومناقشة علماء الأمة لأعدائنا أبطلت مثل هذه المفتريات، ولكن العجب كل العجب أن تصدر هذه الآراء ممن ينسب نفسه أو ينسبه أحد إلى الإسلام! ثانياً: التشكيك فى كتاب الله المجيد يقول الكاتب فى ص 38: صحيح أننا نعلم أن الصحابى عبد الله بن مسعود ـ وكان يعتبر نفسه أحد الثقات الكبار فى القرآن ـ ذهب إلى أن نسخة القرآن التى أقرها الخليفة عثمان بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 822 عفان محرفة غير كاملة، واتهم زيد بن ثابت وأصحابه ممن جمعوا القرآن باستبعاد آيات تلعن الأمويين، غير أن هذا الاتهام غير مقبول، فقد كان على بن أبى طالب والكثيرون غيره من الصحابة أحياء وقت قيام زيد بمهمته، ولم نسمع أن أحدهم أيد زعم ابن مسعود، واحتج على استبعاد آيات. ثم يقول فى ص 48: وقد اتهمه ـ أى عثمان بن عفان رضى الله عنه ـ هؤلاء الخصوم بأنه قد حذف من مصحفه خمسمائة كلمة أوردتها مصاحف أخرى كمصحف الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود. وفى الصفحة ذاتها يقول: وقد حكى عن عبد الله بن مسعود أنه كان شديد الخشية من أن يغير من نص كلمات الرسول، فكان لا يحدث عنه إلا أضاف قوله: " والحديث إما فوق ذلك وإما قريب من ذلك، وإما دون ذلك. " ثم يقول فى ص 83: وقد أبى بعض مفكرى اليونان وروما الأقدمين ـ مثل فيثاغورث ونومابومبيليوس ـ أن يخلفوا نصوصاً تكبل فكر التابعين، فأحرقوا قبيل وفاتهم ما كتبوا أو أوصوا بأن تدفن كتاباتهم معهم، حتى يتيحوا لكل جيل فى كل قطر أن يخرج بفكر يناسب عصره وبيئته. وقد يقال إن نبى الإسلام أيضاً لم يأمر بجمع القرآن، بدليل أن الخليفة أبا بكر تردد حين عرض ابن الخطاب عليه الفكرة، قائلاً لعمر إنه لايستطيع أن يقدم علي ما لم يقدم عليه النبى، ولا أوصى به قبل وفاته. غير أن الافتراض الأساسى فى الدين ـ أى دين ـ هو أن تعاليمه الواردة في النص المقدس صالحة للكافة في كل زمان ومكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 823 ويقول فى الصفحات من131 إلى 133: كان الشكل الغالب للملكية فى شبه جزيرة العرب فى الجاهلية وفى زمن رسول الله عليه السلام هو الملكية المنقولة دون العقارية. وكان يمكن للبدوى أن يحمل راحلته كل ما يملكه وينتقل به من موطن إلى موطن سعياً وراء الماء والكلأ. وبالتالى فقد كان الاعتداء على السارى فى الصحراء بسرقة ناقته بما تحمل من ماء وغذاء وخيمة وسلاح، فى مصاف قتله. لذلك كان من المهم للغاية أن تقرر الشريعة عقوبة حازمة رادعة بالغة الشدة لجريمة السرقة فى مثل هذا المجتمع. أما وقد دخل الإسلام مجتمعات تعرف شكلاً من الملكية أهم من الملكية المنقولة، وأصبح سلب الرجل قربة مائة لا يعنى أمراً جللاً، فقد يجد المجتمع عقوبة لجريمة السرقة غير العقوبة فى المجتمع البدوى، دون أن يكون اختياره للعقوبة الثانية خروجاً على الإسلام وروحه. بالعكس، فإن الالتزام بروح الإسلام يقتضى منا اختيار هذه العقوبة الثانية، حيث إنها ـ فى المجتمع غير البدوى ـ تحقق نفس النتائج المرجوة التى توخاها الإسلام فى المجتمع البدوى. إن الشاعر يقول: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا بمعنى أن المعاملة الواحدة فى حالتين مختلفتين ستسفر حتماً عن نتيجتين متنافرتين. فى حين يعلم أى معلم صبيان مثلاً أن هناك وسائل متباينة لمعاملة صبية مختلفى الطباع والمستوى، للوصول إلى نتيجة واحدة، وهى التلقى الحسن للعلم. وكذلك بالنسبة للحجاب الذى فرض فى المدينة حيث كان النساء يلقين من المتسكعين من شبان المدينة كل مضايقة وعبث كلما خرجن وحدهن إلى الخلاء، فنزلت آية {يَا أَيُّها النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 824 جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (سورة الأحزاب 59) ، وذلك حتى يميز الشبان بين المحصنات وغير المحصنات. وقد يعزز من رأيى هذا: أن أحكاماً قرآنية معينة نسختها أحكام قرآنية تالية، حين تغيرت أوضاع المسلمين بالهجرة وانتشار الإسلام والفتح، وغير ذلك من التطورات التى حدثت خلال أقل من ربع قرن، واستلزمت مع ذلك نسخاً لبعض الأحكام. إن تسليمنا بأن روح الإسلام هى التى ينبغى أن تكون الهادى للسلوك، لن يدع مجالاً لاتهام الإسلام بمنافاة مقتضيات العصر والتطورات التاريخية التى حدثت بعد القرن السابع الميلادى. كذلك لن تكون الحكومات والفقهاء حينئذ فى حاجة إلى النفاق والمداراة، والالتواء والسفسطة، وغض الطرف عن تفسير ما يقعون فيه من تناقض حين يقررون مثلاً إلغاء الرق الذى أباحه الإسلام، أو يستبدلون عقوبة الحبس بعقوبة قطع يد السارق التى نصت عليها أحكام الشريعة. كذلك سيؤدى الأخذ بهذا المنحى من التفكير إلى الحد من عدد المتخلين من أبنائنا المثقفين عن الإسلام بأسره بدعوى أن الديانات والتقاليد إنما هى للمتاحف والسياح لا لمواجهة احتياجات العصر، وسيكون من الأسهل إقناعهم بأن هذه الديانات والتقاليد ليست عقبة فى سبيل التقدم، وإنما يمكن أن تكون وسيلته" أ. هـ. هذه أقوال الكاتب منقولة بنصها، ومنها نلحظ ما يأتى: 1 ـ أنه لجأ إلى التشكيك فى كتاب الله العزيز بطريقة خبيثة خادعة: فهو فى الصفحة الثامنة والثلاثين ينسب لابن مسعود القول بالتحريف، ونسبة هذا لابن مسعود من المفتريات التى لا أصل لها، فهو كغيره من الصحابة _ رضى الله تعالىعنهم وأرضاهم ـ يعرف كيف كتب الوحى بعد نزوله مباشرة بأمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإملائه، ويعرف معنى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 825 لَحَافِظُونَ} (9: الحجر) ، وقوله عزوجل: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} (64: يونس) . وقوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (41 ـ 42: فصلت) . وقوله جلت قدرته: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (16 ـ 19 القيامة) . ويعرف ابن مسعود كغيره كيف جمع القرآن الكريم بعد الرسولصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السطور والصدور ليكون بين دفتين فى مصحف واحد. ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن القرآن الكريم وصلنا متواتراً كما أنزل على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دون تغيير أو تحريف أو تبديل، أوإسقاط أو زيادة. من أنكر هذا فقد كذب كتاب الله العزيز نفسه. ولكن الكاتب يورد الكذب على ابن مسعود كأنه شىء ثابت مسلم حيث يقول " صحيح أننا نعلم ... إلخ ". ثم بعد هذه الفرية يظهر نفسه كأنه مدافع عن كتاب الله تعالى رافض (لزعم) ابن مسعود. وبعد عشر صفحات يذكر أن مصحف الصحابى الجليل عبد الله بن مسعود فيه خمسمائة كلمة ليست فى مصحف عثمان، وهو الذى نقل منه مصاحف المسلمين اليوم، ثم يضيف أن هذا الصحابى الجليل كان شديد الخشية من أن يغير من نص كلمات الرسولصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهكذا يحاول أن يصل إلى هدفه، فابن مسعود بلا شك له مكانته عند المسلمين قاطبة. وهو إذا كان يتحرى الدقة بالنسبة لكلمات الرسولصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن باب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 826 أولى أن يكون موقفه من القرآن الكريم، ولذلك فعنده خمسمائة كلمة ليست عند المسلمين اليوم. وظهور الكاتب كالمدافع فى المرة الأولى يساعده فى الوصول الى هدفه، فهو أولاً يحاول أن يبعد عن نفسه تهمة الكفر والردة إذا ظهر مشككاً فى كتاب الله تعالى غير مؤمن به فألصق التهمة بالصحابى الجليل، تهمة التشكيك، فإذا أخذ أى مسلم بروايات الكاتب فليس عليه من حرج أن يكون كالصحابى الجليل ابن مسعود الذى يعرف من قوله " كنا لا نتجاوز عشر آيات حتى نعلم ما بهن , ونعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعا " وإذا قال أحد: القرآن محرف أو سقط منه ما سقط فعلى مسلمى العصر أن يقبلوا قوله، فهو منسوب لصحابى يجلونه، وليس لهم أن يكفروا القائل، أو أن يحكموا بردته، وإلا كان حكماً بكفر وردة الصحابى الجليل 2 ـ ماذكره فى الصفحة الثالثة والثمانين يكشف عن خبيئة نفسه تجاه النصوص: فالنصوص تكبل فكر التابعين، لذلك أحسن أولئك المفكرون صنعاً بإحراق الكتابات أو دفنها حتى يتيحوا لكل جيل فى كل قطر أن يخرج بفكر يناسب عصره وبيئته. وإذا كان لايستطيع أن يصرح بوجوب إحراق أو دفن القرآن الكريم حتى لانتكبل بالنص، ونشرع لأنفسنا ما يناسب عصرنا وبيئتنا، إذا كان لا يستطيع هذا (المسلم) أن يصرح بهذا، فإنه يقوله بطريقته الملتوية الخبيثة: وقد يقال إن نبى الإسلام أيضاً لم يأمر بجمع القرآن ... إلخ، فهذا موقف المفكرين، ومثله موقف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالاعتصام بالكتاب العزيز، فضلاً عن السنة المطهرة، السبب فى أننا لم نستطع أن نختار ما يناسب جيلنا وبيئتنا، حيث كبلتنا النصوص. ومن قبل ذكر أن القرآن الكريم جاء بشريعة ناقصة غير عامة، فلم تستطع أن تسير المجتمع خارج مكة والمدينة، وهنا يقول قولته، وبعد هذا يصرح بوجوب ترك أحكام شرعية نص عليها القرآن الكريم، وهكذا يحاول أن يصل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 827 الهدف ولكن كما جاء فى ص 143 " هذه المواقف تبدو عند تسطيرها للنشر وقد تقنعت بألف قناع، وإذا هذه الآراء وقد أقدمت على إيصالها إلى جمهور المؤمنين تظهر مقمطة فى قماط المومياء، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، وكأنما هى تسعى فى آن واحد إلى أن تكشف عن نفسها وتستتر، وتسفر عن وجهها وتحتجب " ثم يحاول أن يهدم إيمان المسلمين بأن الإسلام الذى جاء بخير كتاب أنزل صالح لكل زمان ومكان، فيقول " غير أن الافتراض الأساسى فى الدين ـ أى دين ـ هو أن تعاليمه الواردة فى النص المقدس صالحة للكافة فى كل زمان ومكان " ومعلوم أن هذا الافتراض غير صحيح إلا فى الإسلام، فكل نبى جاء إلى قومه خاصة وجاء خاتم النبيين إلى الناس عامة، والكاتب يسوى بين الإسلام وغيره، ويجعل الصلاحية مجرد افتراض فى جميع الديانات. 3 ـ فى الصفحات الثلاث الأخيرة بعد أن مهد بأباطيله السابقة، يصل إلى ما يرمى إليه وهو ترك العمل بكتاب الله تعالى، ولكن لا يريد أن يعلن أنه خرج عن الإسلام كلية. وإنما هو مصلح دينى ثائر، ولذلك يظل حريصاً على اللجوء إلى الخداع والأساليب الملتوية الخبيثة، فهو عندما يأتى إلى حد السرقة، وأمرالله تعالى القطعى الثبوت القطعى الدلالة، فلا مجال فيه لاجتهاد مجتهد ولا تأويل متأول، نراه يتحدث عن البدوى والملكية المنقولة دون العقارية ويترك مجتمع مكة والمدينة الذى تحدث عنه من قبل. وكأن الإسلام جاء بهذا الحكم للسرقات التى هى فى مصاف القتل فى المجتمع البدوى، وأما غيره فحكم الله لا يصلح ولا يتناسب. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ولو أن الكاتب لم ينسب نفسه للإسلام لنبهناه إلى منهج القرآن الكريم حيث ينص على مبادئ عامة كلية لا جزئية فيما يتغير تبعاً للزمان والمكان كالمبادئ التى تتصل بالحكم، ويفصل فيما هو ثابت لا يتغير كأحكام الميراث وبعض ما يتصل بالزواج والفرقة بين الزوجين، والحدود والقصاص وغير ذلك مما يعرفه المسلمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 828 فالسارق هو السارق فى أى زمان وأى مكان، وقطع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى مجن لا تصل قيمته إلى دينار واحد، وليس المجن فى ذاته أمراً جللاً ولكن ذات السرقة هى الأمر الجلل، والمرأة المخزومية التى سرقت لم تسرق مثل ما تحدث عنه وأراد أن يبرر به إبطال حكم الله تعالى. ومما يؤكد عموم الحكم المعلوم قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها " ثم أمر بقطع يد المخزومية. وتنفيذ حكم الله تعالى يعنى صلاح الناس ودرء المفاسد، فهو الخالق سبحانه وتعالى {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ولو أن حكم السرقة كان لمجتمع محدود فى زمن محدود لما جاء بهذا العموم والتأكيد، فالله عزوجل الذى أرسل خاتم رسله كافة للناس بشيراً ونذيراً كان يعلم مدى انتشار الإسلام إلى يوم القيامة، والبيئات التى سيدخلها هذا الدين. ولو أن الكاتب لم ينسب نفسه للإسلام لبينا له الفرق بين الحد والتعزير , وكيف أن الحدود وضعت لهذا العدد القليل من الجرائم للحفاظ على الضرورات التى كفلها الإسلام ولا تقوم حياة ولاتصلح بغيرها، أما ماعدا هذه الجرائم فقد شرع الإسلام لها العقوبة التعزيرية، وهذه العقوبة التى شرعها القرآن الكريم وبينتها السنة النبوية المطهرة، وطبقها سلفنا الصالح، ومن تبعهم بإحسان، هذه العقوبة التعزيرية هى التى يمكن أن تختلف تبعاً لاختلاف الأحوال والزمان والمكان. وقول الكاتب " فقد يجد المجتمع عقوبة لجريمة السرقة غير العقوبة فى المجتمع البدوى " يبين أن الحكم ليس لله عز وجل، فليس هو المشرع وحده، وإنما المجتمع هو الذى يصنع الأحكام لنفسه، وأن هذا الحكم للمجتمع البدوى فقط، وليس حكماً إلهياً لكل الناس فى كل زمان ومكان. ومع أن هذا كفر صريح، حاول الكاتب أن يوهم المسلمين بأن هذا هو الإسلام، فأضاف " دون أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 829 يكون اختياره للعقوبة الثانية خروجاً عن الإسلام وروحه، وبالعكس فإن الالتزام بروح الإسلام يقتضى منا اختيار هذه العقوبة الثانية ". وإذا كان الكاتب يعتبر نفسه من المسلمين فإنا نسأله: ما ضوابط الإسلام؟ وعلى أى أساس تختار العقوبة الثانية؟ ومن الذى يختارها؟ ولماذا جعل الله عز وجل لعقوبة السرقة حداً ولم يجعلها من العقوبات التعزيرية مثل معظم العقوبات؟ وإذا قال ربنا عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} وقال أحد: لا، لا نقطع، فهل يكون مؤمناً بالله خاضعاً لحكمه؟ ولو جاز هذا فى السرقة، أفليس من الجائز أن يقال فى أى حكم آخر؟ وإذا كانت أحكام الله لا تنفذ فما الفرق بيننا وبين الكفار والمشركين الذين لا يتلقون حكماً من الله تعالى وإنما يضعون الأحكام لأنفسهم؟ 4 ـ فى حديثه عن الحجاب يؤكد ما أراده آنفاً، وهو ترك العمل بكتاب الله المجيد، فيذكر سبب نزول الآية التاسعة والخمسين من سورة الأحزاب، وكأنى به لا يدرى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، سواء أجهل هذا أم تجاهله فقد أراد إبطال العمل بكتاب الله العزيز: فجعل حكم السرقة لا يتعدى المجتمع البدوى فى زمن قصير محدود، والحجاب لا يتعدى مجتمع المدينة فى زمن محدود أيضاً، فالافتراض الذى ذكره من قبل ليضل به، وهو افتراض الصلاحية لكل زمان ومكان، يأتى هنا ليؤكد بطلان هذا الافتراض. والآية الكريمة التى ذكرها تتحدث عن التغطية بالجلباب، وهو الرداء فوق الخمار، وفسرها ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ بقوله: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن فى حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 830 ولم يشر الكاتب إلى الآية الكريمة التى ذكرت الخمار {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} ، وأظنه قرأ تفسيرها وعرف ما فعلته الصحابيات ـ رضى الله تعالى عنهن ـ من الاستجابة الفورية لأمر الله عز وجل {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} . والصحابيات ـ رضى الله تعالى عنهن، خير جيل عرفته البشرية، وضعن الخمر على رءوسهن ونحورهن عندما نزل الأمر الإلهى، وغطين الوجوه من فوق رءوسهن بالجلابيب. ونهاهن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن لبس النقاب والقفازين أثناء الإحرام، فكن يلبسن هذا وهن غير محرمات، فإذا أحرمن خلعن النقاب والقفازين. وروى أبو داود تحت باب فى المحرمة تغطى وجهها عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها قالت: " كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محرمات، فإذا جاوزنا كشفناه ". والأمر بالحجاب واضح وصريح، وطبقته الصحابيات فور نزوله، وأجمعت عليه أمة الإسلام خلال أربعة عشر قرناً من الزمان، ووقع الخلاف فقط فى الجزء المعفو عنه {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ولكن الخلاف لا يتعدى الوجه والكفين فى هذا الاستثناء. ومع هذا أراد الكاتب أن يشكك فى هذا الأمر المستقر نصاً وإجماعاً فقال فى حاشية ص 131 " وقد اختلف المفسرون حول آيات الحجاب وما إذا كانت تخاطب نساء النبى وحده، أم تلزم المسلمات طرا " ولا أدرى من أين اختلق هذا الاختلاق؟ وهل عمى عن قراءة الآية الكريمة التى ذكرها هو نفسه عند الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 831 هنا عن الحجاب وفيها {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ} نعم { ... فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . ثم يضيف فرية أخرى حيث يقول فى حاشيته " وعلى أى الأحوال فقد كانت كل من سكينة بنت الحسين بن على وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله من السافرات "، هكذا يقول هذا المفترى، ولو كان مسلماً حقاً وقرأ خبراً ساقطاً مثل هذا لكان عليه أن يرد هذا الإفك لكنه يأتى به كشىء مؤكد لينتقل منه إلى إفك جديد، فيهاجم المفسرين الأولين، ويذكر أنهم هم الذين فرضوا على كل نساء المسلمين ما فرضه القرآن على نساء النبى وبناته، ومرة أخرى أعمى هذا المفترى الكذاب عن قراءة] وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ} بعد قوله تعالى {قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ} ؟! وإذا كان هذا (المسلم) حزيناً لأن المرأة المسلمة التزمت بحجاب فرضه عليها ـ بحسب إفكه ـ المفسرون، وليس الوحى المنزل، فما الذى يريده حتى يذهب حزنه؟ نرى الإجابة على هذا السؤال فى بداية حديثه عن الموضوع الذى ذكر فيه الحجاب، وهو تحت عنوان" فرص نجاحنا فى إقامة مجتمعنا على أسس إسلامية ". قال فى ص 124: " كان تطوير الحضارة الأوربية، بصفة عامة تطوراً متصلاً متجانساً ". ثم قال فى ص 126: " لقد جاء تحرير المرأة فى الغرب ـ حريتها الجنسية (أى والله هكذا قال: الجنسية!) وحقوقها السياسية واستقلالها الاقتصادى ـ ثمرة لقرون طويلة من التطور والكفاح، وجاء فى مجتمعاتنا الإسلامية لا نتيجة لفكر أصيل عميق الجذور ... إلخ. ثم يضرب مثلاً لحرية المرأة العربية التى وصلت إليها دون تطور متصل متجانس ودون فكر أصيل عميق الجذور، ولذلك فهى حرية بعيدة عن روح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 832 الحضارة الغربية، يضرب هذا المثل بالفتاة العربية المرتدية البكينى على شاطىء البحر!! هكذا تتضح إجابة السؤال. والمسلمون يعرفون أن المرأة فى الإسلام شرع لها ربها كل ما يناسبها من الحقوق، فأخذت من الاستقلال الاقتصادى ما لم تصل إليه المرأة فى الغرب، وأخذت من الحقوق السياسية ما يتناسب معها ولا يخرجها عن طبيعهتا، غير أنها لم تأخذ ـ لا هى ولا الرجل ـ الحرية الجنسية التى أخذها سادة الكاتب الغربيون بل أربابه. والإسلام أوصل عقوبة الزنى إلى حد الرجم، ولما ترك الناس شرع الله عز وجل ووضعوا لأنفسهم القوانين، لم يروا الزنى جريمة فى ذاته، فالمتزوجة مثلاً إذا زنت فإنها لا تعاقب بأى عقوبة فضلاً عن الرجم ما دام الزوج رضى بمعاشرتها، أما إذا لم يرض ورغب فى عقوبتها، فأقصى حكم هو أن تحبس سنتين، وغير المتزوجة إذا زنت فهى لم تعتد على حقوق أحد، ولم ترتكب جريمة، وإنما لها حريتها الجنسية!! هكذا اختار الناس ما يناسب عصرهم، ولا يمكن أن يكون هذا باسم الإسلام إلا إذا أحرقت النصوص ودفنت حتى لا تكبل مثل هذا (المفكر الإسلامى والمصلح الدينى!!) فيعيدها جاهلية باسم روح الإسلام، بل كان أهل الجاهلية أقل فجوراً، وفسقاً من سادته الغربيين، وما زلنا نذكر القول المشهور: أو تزنى الحرة؟! وصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ يقول " تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا أبداً، كتاب الله وسنة نبيه ". ليس عجيباً أن نجد من ينادى بالحرية الجنسية، فقد وجدنا من ينادى بحرية الشذوذ الجنسى، ولكن العجيب الغريب أن نجد من يجعل هذا من الأسس الإسلامية التى يريد أن يقوم عليها مجتمعنا الحديث، والأشد غرابة ونكراً أن ينسب القائل نفسه أو أن ينسبه أحد إلى الإسلام، فما بالك إذا قيل بأنه مفكر إسلامى؟! إلا إذا كانت المعانى اضطربت، فأريد باللقب أنه مفكر فى هدم الإسلام ومحاربته وإفساد المجتمع المسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 833 5 - معلوم أن النسخ لا يكون إلا بأمر الله عزوجل، ولا نسخ بعد انقطاع الوحى. والكاتب بعد حديثه عن حرق النصوص أو دفنها يأتى إلى نسخها، والنتيجة واحدة، وهى ترك العمل بكتاب الله العزيز ما دام النسخ ليس من حق الله وحده. ويحاول أن يزين هذا الضلال، ضلال ترك العمل بكتاب الله العزيز بقوله " إن تسليمنا بأن روح الإسلام هى التى ينبغى أن تكون الهادى للسلوك لن يدع مجالاً لاتهام الإسلام بمنافاة مقتضيات العصر والتطورات التاريخية التى حدثت بعد القرن السابع الميلادى ". ومعنى هذا أن نصوص القرآن لا تصلح بعد ذلك القرن فقد فقدت صلاحيتها منذ ثلاثة عشر قرناً، وعلينا أن نحل مكانها ما أسماه بروح الإسلام، وحينئذ يكون حكماً إسلامياً شرعياً استبدال عقوبة الحبس بعقوبة قطع يد السارق التى نصت عليها أحكام الشريعة. لا يخفى علينا ما كتبه بعض أعلام المسلمين عن صلاحية الإسلام للتطبيق فى كل زمان ومكان، وعن الحدود وأثر تطبيقها فى المجتمع، وعن حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، ورد الشبهات التى أثارها أعداء الإسلام، ولكن هذا الكاتب لا يسلك مسلك المسلمين، بل يردد أقوال أعداء الإسلام وخصومه بل أكثر مما قاله الأعداء! وانظر إلى إشارته إلى الرق، وإلى إشارته الأخيره من أن الإسلام الذى استمدت أحكامه من النصوص، إنما هو للمتاحف والسياح لا لمواجهة احتياجات العصر، مما جعل الكثير من المسلمين المثقفين يتخلون عن الإسلام بأسره. فهو لا يريد الإسلام الذى ارتضاه الله لنا ديناً، وإنما يريد إسلاماً عصرياً، يبيح مثلاً الحرية الجنسية لا الاستعفاف، والبكينى لا الحجاب. والرد عليه يطول جداً، وهو مسطور فى كتب كثيرة، ولكن الذى أريده هنا أن أبين موقفه من القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 834 وبعد هذا البيان لنا أن نتساءل: أمسلم هو؟ أم أنه حزين لأن الله عزوجل قد حفظ القرآن وحفظ دينه؟ ولنا أيضاً أن نتساءل: لمصلحة من النفخ فيمن يحاول أن يهدم الإسلام؟ وكيف بمجلات تصدر فى بلاد الإسلام تفسح صدورها وصفحاتها لمثله وتلقبه بالمفكر الإسلامى؟! ثالثاً: موقفه من السنة المطهرة أوامر الله تبارك وتعالى جاءتنا فى كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله الأمين، والسنة وحى، وهى كالقرآن فى وجوب الاتباع، وذكرت ما بين هذا من قبل. والمستشرقون من اليهود والصليبيين والملاحدة، والحاقدون على الإسلام والمسلمين، حاولوا أن يدكوا صرح الإسلام بالطعن فى الوحى من الكتاب ... والسنة، وأهداف هؤلاء واضحة معلومة فلا عجب من مسلكهم، ولكن إن تعجب فعجب أن تجد ممن ينتسبون إلى الإسلام من مدهم بمعاول الهدم، ومن أصبح لهم تابعاً وبوقاً يردد أقواهم على أنها العلم الصحيح لا البهتان العظيم. فذلك على بن إبراهيم القمى، المتوفى سنة 307 هـ، وهو من الفرق الإسلامية، له كتاب فى التفسير، بينت ما به من ضلال وزيغ فى الباب السابق، وعندما طعن المستشرقون فى كتاب الله العزيز اعتمدوا على تفسير القمى كما صرح بهذا المستشرق اليهودى جول تسيهر. وهذا كاتبنا يردد أقوال سادته، ولكن لأن الأمر يتعلق بكتاب الله المجيد لجأ إلى طريقته التى أشرت إليها آنفاً. وأحمد أمين لم يأخذ بأقوال المستشرقين فى القرآن الكريم، ولكن أخذ شيئاً من أقوالهم فى السنة المطهرة ونسبه لنفسه كما صرح فى نصيحته للدكتور على حسن عبد القادر. أما شجرته الخبيثة، ابنه حسين، فقد كان أسوأ من المستشرقين وأشد خطراً. ولم يتورع أن يأخذ عنهم أى شىء قالوه فى السنة، بل أضاف من الأكاذيب والمفتريات ما لا يليق بذى بقية من دين، أو مسكة من عقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 835 وقد رأينا فريته بأن الشريعة الإسلامية قاصرة، والرسول غير معصوم، وهذا القول بداية حديثه عن السنة، ولو صح فلا سنة إذن عند المسلمين! ولا حاجة لكتبها، ولا وزن للصحيحين ولا لكتب السنن الأربعة ولا لغيرها، فالحديث إذا ثبت ثبوت التواتر، وقطعنا بأنه قول الرسول الكريم، فما قيمة هذا الحديث إذا كان لرجل غير معصوم؟ وإذا كان الكفار لا يرونه معصوماً لأنهم لا يرونه رسولاً، فكيف ينطق بهذا الكفر من ينسب نفسه أو ينسبه أحد إلى الإسلام؟ والله عزوجل تعهد بحفظ كتابه المجيد نصاً وبياناً، وكان من تمام حفظ الكتاب حفظ السنة، ولهذا هيأ الله تبارك وتعالى من يحفظ سنة رسوله المصطفى، فلم تعرف البشرية فى تاريخها علماً نقل من جيل إلى جيل بالدقة التى نقلت بها السنة المطهرة. قال الإمام مسلم فى كتاب التمييز (ص171) وهو كتابه فى العلل: " واعلم، رحمك الله، أن صناعة الحديث، ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم، إنما هى لأهل الحديث خاصة، لأنهم الحفاظ لروايات الناس العارفين دون غيرهم. إذ الأصل الذى يعتمدون لأديانهم السنن والآثار المنقولة، من عصر إلى عصر من لدن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عصرنا هذا. فلا سبيل لمن نابذهم من الناس، وخالفهم فى المذهب، إلى معرفة الحديث ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأعصار، من نقال الأخبار وحمال الآثار. وأهل الحديث هم الذين يعرفونهم ويميزونهم حتى ينزلوهم منازلهم فى التعديل والتجريح. وإنما اقتصصنا هذا الكلام، لكى ننبه من جهل مذهب أهل الحديث ممن يريد التعلم والتنبه، على تثبيت الرجال وتضعيفهم، فيعرف ما الشواهد عندهم، والدلائل التى بها ثبتوا الناقل للخبر من نقله، أو سقطوا من أسقطوا منهم، والكلام فى تفسير ذلك يكثر " ا. هـ. بمثل هذا نقل إلينا الكثير من حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأصحاب كتب الحديث منهم من لم يلتزم بالوقوف عند الصحيح، وإنما نقل الصحيح وغير الصحيح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 836 وفى بعض الكتب نجد أحاديث موضوعة، ولكن الجهابذة من الأئمة الأعلام وضعوا من الشروط وألفوا من الكتب ما يجعل علماء أى عصر يستطيعون معرفة درجة كل حديث، وأى مسلم يستطيع أن يدرك هذه الحقائق متى عرف كيف دونت السنة من قبل عصر التدوين إلى ما بعده، وبالاطلاع على ما كتب فى علوم الحديث، والجرح والتعديل. والذين أثاروا الشبه حول السنة تصدى لهم من بين زيفها وبطلانها، ورأينا كلام الإمام الشافعى الممتع المقنع الذى هدى الله تعالى به من حاوره بعد الضلال. وفى عصرنا بين كثير من العلماء أباطيل المستشرقين، أما الكاتب فنراه يأخذ بهذه الأباطيل، ويأخذ أيضاً بنصيحة أبيه، فيسطو على أقوالهم وينسبها لنفسه. بل سطا على أبيه (!!) فيما أخذه عنه عن المستشرقين، فلم يرده لأبيه ولا للمستشرقين. وأقوال المستشرقين التى أشرت إليها من قبل يرددها حيث يقول: " وقد شرع الجيل التالى للصحابة، جيل التابعين، يجمع روايات أقوال النبى وأفعاله. مما كان شائعاً فى عصره، واتخذ من هذه السنة مصدراً ثانياً للشريعة " ويقول بعد هذا: " ثم بذلت المحاولات بعد ذلك من أجل رفع أحكام السنة إلى مصاف الأحكام القرآنية فيما يتصل بالتشريع، وقيل إن النبى إنما استنها بأمر من الله تعالى، وأنها نزلت عليه كما أنزلت آيات الذكر " ـ ثم يقول: "أدرك الفقهاء أنه ما من فرصة أمام الرأى لأن يصادف القبول لدى جمهور المؤمنين ما لم يستند إلى سنة متواترة، أو يزعم أن له أصلاً فى الحديث، ومن ثم فقد لجأ الفقهاء والعلماء إلى تأييد كل رأى يرونه صالحاً ومرغوباً فيه بحديث يرفعونه إلى النبى ". هكذا ردد الكاتب أباطيلهم فرحاً بنسبتها لنفسه، منفذاً بحمق وجهل وصية أبيه، وهذا المسلم أما عرف موقف الصحابة الكرام من السنة المطهرة، وكيف أن أبا بكر الصديق توقف فى أحكام حتى وجدها فى السنة كمسألة الجدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 837 والفاروق عدل من أحكام عندما بلغته السنة؟ وغير الشيخين من الصحابة رضى الله عنهم ورضوا عنه، الذين اعتصموا بالكتاب والسنة معاً، فلا إسلام بدونهما، ولا حكم إلا لهما، فكيف إذن يقول مسلم بأن السنة ليست مصدراً من مصادر التشريع وإنما لجأ إلى هذا التابعون، والفقهاء والعلماء هم الذين كذبوا على الله ورسوله فاختلقوا السنة؟ ! كيف يقول هذا مسلم؟ ولكن لا غرابة بعد أن عرفنا رأيه فى القرآن الكريم نفسه. ولوضع الأحاديث واستباحة الكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسباب كثيرة تحدث عنها العلماء. وكان من نتائج هذا ما رأيناه من جهود الأئمة الأعلام لحفظ السنة المطهرة، وتنقيتها من هذا الزيف. ومنذ وقت مبكر بدأ النظر فى الإسناد، فكما قال ابن سيرين: ما كانوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم. أى أن الإسناد بدأوا ينظرون فيه فى عهد الخليفة الثالث ذى النورين رضى الله عنه عندما وقعت الفتنة، فإذا كان الراوى من ذوى الأهواء أو المجروحين لم يؤخذ عنه الحديث. وقال ابن سيرين أيضاً: لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. فليس الأمر كما قال المستشرقون وأبواقهم من أن السنة وضعت فى القرن الثانى، فالواقع العملى وكتب السنة، تشهد بكذبهم، ومن فضل الله سبحانه وتعالى على المسلمين أن وفق هؤلاء الأئمة، فكشفوا الوضّاعين، وبينوا علامات الوضع فى السند، وعلاماته فى المتن، وذكروا لنا كثيراً من هذه الأحاديث الموضوعة أفردت لها مؤلفات للتحذير منها، ونبه على بعضها فى مؤلفات أخرى جمعت بين الموضوع وغيره. والكاتب لا يسلك المنهج العلمى فى كلامه عن أسباب الوضع، وإنما يأخذ شيئاً قليلاً من الأسباب الحقيقية ويخلطه بكلام المستشرقين، فيطعن فى أئمة أثبات أعلام، بل فى صحابة كرام بررة، ويبدو مضطرباً كاللص وهو يأخذ من هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 838 وهناك، فيضرب أمثلة للوضع بأحاديث موضوعة وأخرى صحيحة، قد تصل إلى أعلى مراتب الصحيح، بعضها وصل إلى مرتبة التواتر، وفى موضع يطعن فى الإسناد ويقول: كان الاهتمام بالمتن، وفى موضع آخر يطعن فى المتن، ويقول: كان الاهتمام بالإسناد دون المتن. ويتحدث عن تزييف الأسانيد الصحيحة، وأن أى أحد يستطيع أن يقوم بهذا، وهو كلام يدل على جهل تام بعلم الإسناد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. والرد على ما بثه الكاتب من سموم وأكاذيب ومفتريات، يحتاج إلى سفر ضخم، ولكن بحسبنا أن نكشف حقيقته، ونبين موقفه من السنة الشريفة عند الله وعند المؤمنين، كما بينا موقفه المخزى من كتاب الله المجيد. ويمكن أن يذكر هنا أقوال علماء الإسلام فى السنة المطهرة، وأقوال المعاصرين منهم فى الرد على المستشرقين الذين سرق الكاتب أكاذيبهم وشبههم، وواضح أن هذا يطول جداً، ولذلك نكتفى بذكر بعض الأمثلة، ونكتفى أيضاً بأخذ هذه الأمثلة من كتاب السنة ومكانتها فى التشريع الإسلامى للشيخ الدكتور مصطفى السباعى رحمه الله، فقد أبطل باطل المستشرقين وأحمد أمين أبى الكاتب وناصحه الأمين. بدأ الدكتور السباعى حديثه عن السنة مع المستشرقين بعرض تاريخى لأغراض المستشرقين، وبين مدى خطر هؤلاء وأثرهم السيئ على من خدع بهم من المثقفين المسلمين. ثم قال رحمه الله: ننتقل من هذه المقدمة الضرورية إلى بيان موقف المستشرقين من السنة وشبههم التى أثاروها حولها، والتى تأثر بها كثير من الكتاب المسلمين كما رأيت، ولعل أشد المستشرقين خطراً وأوسعهم باعاً، وأكثرهم خبثاً وإفساداً فى هذا الميدان، هو المستشرق اليهودى المجرى " جولد تسيهر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 839 وذكر خلاصة قوله فى السنة وتشكيكه بها، ثم أخذ يفصل الجواب لهذه الخلاصة، دون تتبع لكل فقرة من الفقرات. فإن كتابه كما قال ـ يضيق عن الرد التفصيلى، وللعلم فإن الكتاب اقترب من خمسمائة صفحة. هل كان الحديث نتيجة لتطور المسلمين؟ قال الدكتور السباعى رحمه الله تحت عنوان: هل كان الحديث نتيجة لتطور المسلمين: " يقول جولد تسيهر: إن القسم الأكبر من الحديث ليس إلا نتيجة للتطور الدينى والسياسى والاجتماعى للإسلام فى القرنين الأول والثانى! ولا ندرى كيف يجرؤ على مثل هذه الدعوى، مع أن النقول الثابتة تكذبه " وأخذ يثبت كذب هذا المفترى الحاقد. أما ابن أحمد أمين فقد أخذ الفرية وصاغها بأسلوبه كأنه صاحبها. الأمويون وعلماء المدينة: وانتقل الدكتور السباعى بعد هذا للرد على افتراءات اليهودى الحاقد حول دور الأمويين وعلماء المدينة فى وضع الأحاديث، وأن العلماء الأتقياء استجازوا الكذب دفاعاً عن الدين. والمفتريات الذى ذكرها الدكتور السباعى وبين بطلانها وتهافتها أخذها (المفكر الإسلامى) كأنها من بنات أفكاره. الإمام الزهرى: قبل أن يتحدث الدكتور السباعى عن الإمام الزهرى ومكانته فى التاريخ، ليدفع الباطل قال رحمه الله: ـ وهنا نجد من حقنا وواجبنا أن نزيح الستار عن مؤامرة هذا اليهودى المستشرق على أكبر إمام من أئمة السنة فى عصرة، بل على أول من دون السنة من التابعين، لنرى ما فيها من لؤم وخبث ودس وتحريف، وإنها لخطة مبيتة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 840 هذا المستشرق أن يهاجم أركان السنة واحداً بعد الآخر، فلقد هاجم أكبر صحابى روى الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أبو هريرة رضى الله عنه. وسترى كيف ناقشنا هذه الاتهامات التى أوردها الأستاذ أحمد أمين فى فجر الإسلام وتابع فيها المستشرق احتساباً لغير وجه الله تعالى، حتى إذا فرغ من تهديم أبى هريرة على زعمه جاء هنا لهدم ركن السنة فى عصر التابعين، حتى إذا تم له انهارت السنة بعد أن وجه إليها المعاول من ناحيتين، ناحية رواتها وأئمتها، وناحية الشك بها جملة، كما ترى صنيعه هنا، ولكن الله غالب على أمره، ولابد للحق من هزيمة الباطل مهما أوى الباطل إلى ظل ظليل وركن متين " (ص 206) . والمؤامرة التى دبرها المستشرق وتابعه أحمد أمين فى جزء منها، أعادها كاملة غير منقوصة (المصلح الدينى!) ابن أحمد أمين " والله يعلم المصلح من المفسد ". حديث لا تشد الرحال: المثل الذى أراد الكاتب أن يصل به إلى هدفه السيئ فى الطعن فى الإمام الزهرى، العلم الثبت الحجة العدل الضابط الذى لم يطعن فيه أحد قبل اليهودى المستشرق، وهو حديث " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ... " وقال: حين أراد الخليفة عبد الملك بن مروان بن الحكم صد الناس عن الحج إلى مكة خشية أن يجبر عدوه عبد الله بن الزبير الحجاج الوافدين من الشام على مبايعته خليفة للمسلمين، أسند إلى الزهرى ـ وهو الفقيه التقى الصالح ـ مهمة البحث عن حديث (أو اختلاق حديث) يضع الحج إلى بيت المقدس، بمثابة الحج إلى مكة، فكان إذا اشتكى الناس من خطر الحج إلى مكة أجابهم عبد الملك بقوله: هذا ابن شهاب الزهرى يحدثكم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تشد الرحال.. إلخ. واختلاق أن الإمام ابن شهاب الزهرى ـ وحاشاه ـ اختلق هذا الحديث هو من كلام اليهودى الخبيث المفترى، وذكر الدكتور السباعى هذه الفرية وقال: " فهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 841 لعمرى عجب من أعاجيب الافتراء والتحريف والتلاعب بحقائق التاريخ " ثم أخذ يفند هذا الافتراء بأدلة منها سن الزهرى آنذاك، وأن نصوص التاريخ قاطعة بأنه فى عهد الزبير لم يكن يعرف عبد الملك ولا رآه بعد، وأهم من هذا أن الحديث روته كتب السنة كلها، وهو مروى عن طرق مختلفة غير طريق الزهرى: فقد أخرجه البخارى عن أبى سعيد الخدرى من غير طريق الزهرى، ورواه مسلم من ثلاث طرق إحداها من طريق الزهرى، وثانيتها من طريق جرير عن ابن عمير عن قزعه عن أبى سعيد، وثالثتها عن طريق ابن وهب عن عبد الحميد بن جعفر ابن عمران بن أبى أنس عن سلمان الأغر عن أبى هريرة، أى أن الإمام الزهرى لم ينفرد برواية الحديث كما زعم المستشرقون. ومع أن هذه الأدلة وغيرها تثبت سخف هذا الافتراء الذى اختلقه اليهودى، إلا أن هذا المسلم ابن أحمد يذكر الفرية كحقيقة مسلمة دون نسبتها لمفتريها الأول، ودون نظر إلى الأدلة الواضحة البينة، ودون أن يعبأ بعقول المسلمين ومشاعرهم تجاه إمام أجمعت الأمة على إمامته وعلمه وفضله. حديث اتخاذ الكلب للزرع: ـ روى ابن عمر رضى الله عنهما عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية انتقص من أجره كل يوم قيراطان، فقيل لابن عمر: إن أبا هريرة رضى الله عنهـ يزيد فى الرواية (أو كلب زرع) ، فقال ابن عمر: " إن لأبى هريرة زرعاً ". اعتبر جولد قول ابن عمر نقداً لأبى هريرة، وقال أحمد أمين: " وهذا نقد من ابن عمر لطيف فى الباعث النفسى ". وذكر الدكتور السباعى حديث أبى هريرة الذى ذكر فيه اتخاذ الكلب للزرع، وأشار إلى الكتب التى أخرجته كالصحيحين وغيرها، ثم قال: قد تعرض الشراح لزيادة أبى هريرة ومن وافقه فيها، وبينوا مراد ابن عمر من مقالته تلك فى أبى هريرة. قال الحافظ ابن حجر فى " فتح البارى " بعد أن بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 842 أن مراد ابن عمر تثبيت رواية أبى هريرة: " وقد وافق أبا هريرة على ذكر الزرع سفيان بن زهير وعبد الله بن مغفل، وهو عند مسلم. " وقال النووى عند قول ابن عمر، إن لأبى هريرة زرعا: " ليس هذا توهيناً لرواية أبى هريرة ولا شكا فيها، بل معناه أنه لما كان صاحب زرع وحرث اعتنى بذلك وحفظه وأتقنه، والعادة أن المبتلى بشىء يتقنه عن غيره ويتعرف من أحكامه ما لا يعرف غيره، وقد ذكر مسلم هذه الزيادة وهى اتخاذه للزرع من رواية ابن مغفل ومن رواية سفيان بن زهير. وذكرها أيضا من رواية ابن الحكم واسمه عبد الرحمن بن أبى نعيم البجلى عن ابن عمر. فيحتمل أن ابن عمر لما سمعها من أبى هريرة وتحققها عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواها عنه بعد ذلك، وزادها فى حديثه الذى كان يرويه بدونها، ويحتمل أنه تذكر فى وقت أنه سمعها من النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرواها، ونسيها فى وقت، فتركها. والحاصل أن أبا هريرة ليس منفردا بهذه الزيادة، بل وافقه جماعة من الصحابة فى روايتها عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو انفرد بها لكانت مقبولة مرضية مكرمة. ". وقال الدكتور السباعى بعد بيان الإمام النووى: هذا هو الوضع الصحيح للمسألة، ومنه تعلم أنه ليس فيها تكذيب ابن عمر لأبى هريرة فى تلك الزيادة، وبيان الباعث النفسى على اختلاقها ونسبتها إلى النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف يتصور هذا من ابن عمر وهو الذى اعترف بأن أبا هريرة كان أحفظهم لحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وسيأتى معنا مزيد بيان لمكان أبى هريرة فى نفس ابن عمر ونفوس الصحابة جميعاً. أم كيف يذكرالأئمة قول ابن عمر ويخرجونه فى صحاحهم لو كان تكذيباً منه لأبى هريرة؟ أم كيف يعمل الفقهاء برواية أبى هريرة ويبنون عليها أحكامهم لو كان مراد ابن عمر تكذيبها وإنكارها؟ . الواقع أنه ليس فى الأمر شىء من هذا، ولكن أمانة صاحب " فجر الإسلام " أبت عليه إلا أن يرى فيما صنع ابن عمر نقداً لطيفاً ... لأبى هريرة ... وبياناً للباعث له على هذه الزيادة، وتأبى عليه أمانته العلمية أيضا إلا أن يرشدنا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 843 موضوع هذا النقد من كتب الحديث، فيقول فى ذيل الصحيفة " انظر النووى على مسلم "، وأنت سمعت كلام النووى فهل سمعت فيه رائحة التكذيب من ابن عمر لأبى هريرة؟ بل ألم تره يرد على ما قد يخطر بالبال ردا قوياً واضحاً؟ ولك أن تتساءل بعد هذا: أهو لم يفهم عبارة النووى؟ أم فهمها ولكنه آثر رأى المستشرق اليهودى جولد تسيهر؟ (ص 287 ـ 289) . وابن أحمد أمين الذي ترعرع في هذه البيئة، جاء بعد كل هذا ليقول: روى البخارى حديثاً يأمر النبى فيه بقتل كل الكلاب إلا كلاب الصيد، فلما قيل لعبد الله بن عمر: إن أبا هريرة يضيف إلى الحديث عبارة " أو الزرع " رد ساخراً بأن أبا هريرة إنما أضافها بعد أن أصبح صاحب مزرعة! كذب الصالحين وتدليس المحدثين: ـ ذكر الدكتور السباعى هنا كلاماً للمستشرق اليهودى، ثم فنده، ومما قاله: " أما ما نقله جولد تسيهر من قول وكيع عن زياد بن عبد الله البكائى من أنه كان مع شرفه فى الحديث ـ كذوباً ـ فهذه إحدى تحريفات هذا المستشرق الخبيث، فأصل العبارة كما وردت فى التاريخ الكبير للإمام البخارى: وقال ابن عقبة السدوسى عن وكيع: هو (أى زياد بن عبد الله) أشرف من أن يكذب. فأنت ترى أن وكيعا ينفى عن زياد بن عبد الله الكذب مطلقاً لا فى الحديث فحسب، وأنه أشرف من أن يكذب، فحرفها هذا المستشرق اليهودى إلى أنه كان مع شرفه فى الحديث كذوباً. وهكذا تكون أمانة هذا المستشرق. هذا ما قاله الدكتور السباعى رحمه الله، أما حسين أحمد أمين فيقول: تحدث وكيع عن زياد بن عبد الله قائلاً: " إنه كان يكذب فى الحديث مع شرفه ". " وحسين لم ينسب هذا لليهودى حتى يمكن أن يقال مثلاً بأنه لم ينتبه لتحريفه وتضليله، ولكنه يذكر هذا كحقيقة يعرفها هو. فما أعظم أمانة اليهودى المستشرق وحسين معاً! وما أنبل هدفهما!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 844 وذكر الدكتور السباعى ما نقله المستشرق عن يزيد بن هارون " إن أهل الحديث بالكوفة فى عصره ما عدا واحداً كانوا مدلسين ". ثم أخذ الشيخ يبين المراد باصطلاح التدليس عند المحدثين، والمقبول منه والمرفوض، والكلام فى التدليس مفصل فى كتب مصطلح الحديث، والمدلسون معروفون، والكلام عنهم مفصل فى كتب الجرح والتعديل. وهذا المفكر المسلم كان أسوأ وأقبح من اليهودى اللعين، ويبدو أنه يجهل مفهوم التدليس، فبنى على ما قرأه لسيده المستشرق اليهودى قولاً يهدم ـ فى زعمه ـ كل صحيح ثابت ثبوت الجبال فى زعمه. فقال: " أما الإسناد الذى من شأنه أن يكسب القول وقاراً وينيله التصديق، فكان أمره هيناً وشكلياً محضاً، فبوسع أى مختلق أن يدلس حديثاً ويصدره بسلسلة ذهبية من الإسناد، يراعى فيها الاتصال بين المحدث وكاتب الحديث، أو حتى دون أن يراعيه ". (ص 51) فالكاتب يريد أن يهدم الإسناد الذى فاق به المسلمون البشرية جمعاء فيذكر هذا القول الجاهل. فالسلسلة الذهبية هى ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر، ولا تكون ذهبية إلا إذا كان من سمع من الإمام مالك عدلاً ضابطاً ثقة، وعادة لا يكون واحداً هو الذى سمع وإنما يكون الإمام أثبته فى الموطأ أو حدث به تلامذته، أو مجموعة من المسلمين. وإذا جاء مختلق ـ كما يقول الجاهل (المفكر المسلم!!) وقال: حدثنى مالك، فإن الحديث يكون موضوعاً غير مقبول لوجود هذا المختلق، فالحديث يحمل على أقل درجة فى رجال الإسناد. فإذا وجدنا حديثاً متصل الإسناد، وكل رواته فى أعلى مراتب التوثيق والعدالة والضبط ما عدا واحداً؛ وهذا الواحد مختلق، فالحديث يحمل على هذه الدرجة السفلى، فيحكم عليه علماء الحديث بأنه موضوع لا يجوز الاحتجاج به ولا يحل كتابته إلا على سبيل التحذير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 845 وإذا كان الإسناد غير متصل وخلا من الوضاعين، فالحديث مع هذا لا يكون صحيحا، فما بالك إذا كان فيه مختلق. وبعد: فلعل فى هذا ما يكفى لبيان موقف هذا الكاتب من سنة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واشتراكه فى المؤامرة الدنيئة التى حاكها المستشرقون، وأنه قام بدوره بغير هدى ولا علم ولا إسلام. رابعاً: موقفه من عقائد المسلمين موقف غير المسلمين من عقائدنا معلوم معروف، سواء أكانوا كفاراً أم يهود أم نصارى، أما أن نتحدث عن موقف كاتب من عقائدنا وهو منسوب لنا فهذا أمر غريب حقاً. ولكن ماذا نقول والإسلام فى تاريخه الطويل رزئ بمن انتسب إليه وحاول أن يهدمه من الداخل. وكان هؤلاء خطرهم أشد ممن عادى الإسلام صراحة، ومن هنا ندرك قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} . وما سبق يبين موقفه من عقيدة المسلمين في كتاب ربهم، وسنة نبيهم، والشريعة التامة الكاملة العامة. ومن العقائد الأساسية في الإسلام الإيمان بالقضاء والقدر، ولكنه يتحدث عن هذا الإيمان كنزعة لا عقيدة إسلامية، ثم يرد هذه النزعة عند البدوي إلي حياته في الصحراء وليس إلي إيمانه بالله عز وجل، أما هذه النزعة عند غير البدوي فيفسرها بقوله الفاجر: " ليس المسئول عن ذلك وحده اتصال الغازي البدوي به، وإنما لابد من إرجاعه كذلك إلي شكل الحكم الاستبدادي الذي ساد كافة الأقطار الإسلامية، والذي خلق للريفي وقاطن المدينة موقفاً شبيهاً بالموقف الذي يتعرض له البدوي في الصحراء ". (ص136) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 846 فالإيمان بقضاء الله تعالي وقدره لا يراها هذا (المصلح الديني!) عقيدة إسلامية مردها دخول الإيمان في القلوب، وإنما هي أثر من آثار سوء طبيعة البادية، وسوء الحكم في غيرها. ومعني هذا أنه لا يري الإيمان بقضاء الله ولا قدره متي عاش الإنسان في بيئه غير بدوية، وفي ظل حكم غير مستبد. ولعله هنا ينظر إلي سادته الغربيين فيقرهم علي عدم إيمانهم بالقضاء والقدر. ولذلك يقول بعد قليل في صفحة 139: " قد يكون بوسع الألماني أو السويسري أن يخطط من الآن لإجازة سنوية يقضيها في جزيرة مايوركا بعد خمس سنوات خلال النصف الثانى من شهر حزيران. أما عن عباد الله في أقطارنا، فلا تقولن لشئ إنى فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ". ولا أدري ممن يسخر وهو يذكر آيات كريمة يرددها عباد الله، وهي قوله تعالى في سورة الكهف (23: 24) : {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ} . وهل الإيمان بالمشيئة الإلهية يمنع التخطيط؟ وهل التخطيط يمنع المشيئة الإلهية؟ ويبقي أن نسأل: أيعتبر مسلماً من يستهزئ بقول الله تعالي، ولا يؤمن بمشيئته ولا بقضائه وقدره؟ خامساً: قوله الكذب بوثنية المسلمين!! الإسلام دين التوحيد الخالص، تلك حقيقة يعرفها كل مسلم، وكل من يدرس الإسلام دراسة صحيحة. ولكن كاتبنا المسلم يرى غير هذا! اقرأ معى قوله في صفحة 84: " وقد كان أشق ما فرضته عليهم الأديان السماوية تجريد مفهوم الرب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 847 فالعبادة في العالم القديم لم تكن بالتى يمكن تحليلها دون وثن أو صورة، وكانت آلهة الأقدمين دوماً محسوسة مجسدة، صنماً كانت أو كوكباً أو ملكاً أو ظاهرة طبيعية. فكان لابد إذن من مرور قرون طويلة حتى يرسخ هذا المفهوم الجديد للإله في الأذهان. غير أن الإحساس ظل قائماً لدى عامة البشر بالفجوة الهائلة التي باتت تفصل بينهم وبين إلههم، حتى إن صور لهم هذا الإله على أنه أب لهم، أو أقرب إليهم من حبل الوريد. وكان أن نشأت لديهم حاجة (وثنية) ملحة إلى ملء هذه الفجوة بأية وسيلة، أو اجتيازها بأية حيلة، وهى حاجة نفسية رأى بعض رجال الدين من الحكمة أن يستجيبوا لها بقدر محدود خشية أن تنصرف العامة عن الدين بأسره، أو حرصاً على بقاء سلطانهم، وسرعان ما حلت التماثيل الدينية والأيقونات مكان الوثن، وتقديس الأولياء محل عبادة الآلهة والملوك والأسلاف ". هذا ما قاله بالنص! وفكر في قوله: " فكان لابد إذن من مرور قرون طويلة حتى يرسخ هذا المفهوم الجديد للإله في الأذهان "، وما دام الأمر يحتاج إلى مرور قرون طويلة فعلى أقل تقدير يكون الصحابة رضى الله عنهم وأرضاهم، والتابعون لهم بإحسان، يكون خير الناس هؤلاء وثنيين! فإذا شهد الله سبحانه وتعالى وهو يخاطب هؤلاء المسلمين {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} . قال الكاتب: لا، بل كانت عندهم حاجة وثنية ملحة، وهى حاجة نفسية! التخلص منها يحتاج إلى مرور قرون طويلة حتى يؤمنوا بإله واحد أحد فرد صمد لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار. وطعنه في سلفنا الصالح لا يعنى أنه يريد أن يبرئ الخلف، وأن الوثنية انتهت بعد هذه القرون الطويلة، وإنما ينتقل من فرية إلى فرية، ليصل إلى ما رسمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 848 لنفسه إرضاء لسادته، أو ما رسمه له سادته من أعداء الإسلام فيتحدث عن الذين دخلوا فى دين الله أفواجاً فى البلاد التى فتحها المسلمون، ويصور الجزيه كما صورها الأعداء، ويرى أن الذين دخلوا فى الإسلام دخلوا بمعتقداتهم القديمة، وخدعوا المسلمين الفاتحين، بل أثروا في الدين نفسه، وأقرهم عدد من الفقهاء على وثنيتهم، وعلى هدم أركان إسلامية. وهذا الكاتب عنده جرأة عجيبة على الكذب والافتراء على الأموات وعلى الأحياء على السواء، اقرأ مثلاً قوله في صفحة 98: " فإن نحن قلنا بعد كل هذا إن شطراً من العامة في صعيد مصر يرى أن الطواف سبع مرات بقبر الشيخ القناوى بقنا (وهو طواف يبادر إليه الكثيرون فور وصولهم إلى تلك المدينة) ، فيه غناء عن أداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، وإن قلنا إن عدداً من الفقهاء قد أيد هذا الرأى استنكاراً منه لفكرة أن يفقر البعض نفسه بتحميل ما لايطيق من نفقات الحج إلى مكة، ثم إن نحن افترضنا بعد ذلك أن هذا الشيخ أسطورة، وأن القبر إنما أقيم على طلل معبد إله من آلهة القدماء المصريين، لوصلنا إذن إلى نتيجة غربيه وهى أن العامة قد أحلت محل ركن من أركان الإسلام الخمسة طقساً وثنياً خالصاً يرجع إلى زمن الفراعنة. وبهذا تكون شعوب الأقطار المفتوحة قد أفلحت في خداع الفاتحين " هذا كلامه عن أمر لا يزال موجوداً! ونسأل هنا: أين الكثيرون الذين يطوفون بالقبر سبعاً؟ ومَنْ مِنْ المسلمين رأي أن هذا يغني عن الحج؟ وما أسماء هؤلاء الفقهاء الذين أيدوا هذا الرأي وأحلوا الطقس الوثني محل ركن من أركان الإسلام؟ بل ما اسم فقيه واحد من هذا العدد؟ أي قارئ يستطيع أن يدرك مدى صفاقة هذا الكاتب في اختلاقه للأكاذيب ووضعه للإفك، ولكن انظر إلي ما يكشف عن خبيئة نفسه عندما يقول " استنكاراً منه لفكرة أن يفقر البعض نفسه بتحمل ما لا يطيق من نفقات الحج إلي مكة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 849 ومعلوم أن الحج فرض علي المستطيع فقط {وَلِلّهِ عَلَى الناسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} . فكان يكفى أن يبين هذا العدد من الفقهاء حكم الله تعالي، ولكن المفتري يري أنهم استنكروا فكرة الحج المكلف، فاستبدلوا به الطقس الوثنى. ومن كلام هذا الكاتب يتضح هدفه، فلا إسلام في أى عصر: فالعرب ظلوا علي وثنيتهم بعد دخولهم في الإسلام، والبلاد التي دخلها الإسلام ظل أهلها علي وثنياتهم القديمة وإن خدعوا الفاتحين وتظاهروا باعتناق الإسلام، ويضرب مثلاً لذلك بعامة من المصريين، وعدد من فقهائهم، لا يزالون علي وثنيتهم الفرعونية حتي عصرنا الحاضر. وهكذا يرضى الكاتب سادته وأربابه من دون الله، ويسخط الله ورسوله والمؤمنين. أبو هريرة رضي الله تعالي عنه وجدنا مؤامرة المستشرقين في محاولة هدم السنة المطهرة، وذلك بالتشكيك فيها جملة، والطعن في رواتها من الأئمة الأعلام. والكاتب غذي بهذا التضليل، فردده وزاد عليه. ورأينا فريته بأن الفقهاء والعلماء بعد عصر الصحابة هم الذين اخترعوا السنة. ولكن شياطينه زينت له أن هذا وحده لا يكفي، فأراد أن يطعن في خير جيل من خير أمة أخرجت للناس، شهد الله تعالي لهم، وشهد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولذلك أراد أن يكون الطعن هنا بأسلوبه الملتوي الخبيث. أثني علي بعضهم وشهد لهم، ولكن هذا يذكرنا بقول الله عز وجل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 850 {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} . وانتقل الكاتب من هذا الثناء إلي الطعن في بقية الصحابة الكرام ليقول بأنهم هم جذور المأساة: مأساة وضع واختلاق الأحاديث، أي أن هذا الجيل المثالي الغرة في جبين البشرية كلها، هو الذي بدأ الكذب علي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} . وهذا الكذاب الأشر لا يجد ما يؤيد به كذبته إلا ما ذكره المستشرق اليهودى، ثم أبوه أحمد أمين بعد هذا، وهو حديث كلب الزرع الذي سبق بيان ما يتصل به. وراوية الإسلام الأول كثير في عصرنا من سلك مسلك اليهودى المستشرق في الطعن فيه. وفي المؤتمر الثانى لجمعية إحياء التراث الإسلامي الذي عقد بالكويت في شوال سنة 1405 هـ، وخصص للسنة المطهرة، ألقيت محاضرة عن منزلة السنة وشبهات حول الحديث، وبعد المحاضرة ظهر أثر حملات التشكيك في أسئلة الحاضرين، وظهرت الحيرة فيما يتصل بهذا الصحابى الجليل. ولا أستطيع هنا أن أقدم ترجمة له، فسيرته العطرة أفردها أكثر من عالم في كتاب أو أكثر، وأكتفي بذكر بعض الحقائق من باب الذكرى، فإنها تنفع المؤمنين، حتي يعرف القارئ الكريم من قال فيهم الإمام ابن خزيمة " إنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمي الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار ". إسلامه: عاش أبو هريرة أكثر من ثلاثين سنة قبل إسلامه. ثم هداه الله عزوجل وشرح صدره للإسلام فى عام خيبر. والمعروف أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صار إلى خيبر فى المحرم، وتم فتحها فى صفر فى العام السابع من الهجرة، وقد شهدها أبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 851 هريرة وأسهم له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعنى هذا أن أبا هريرة رضى الله عنه أسلم فى بداية العام السابع. وقد عاش فى الإسلام خمسين عاماً، أو يزيد؛ لأنه مات سنة 59 هـ على الأشهر، وقيل بأنه مات قبل هذا بعام أو عامين. عريف أهل الصفة: عندما أسلم لزم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يفارقه مدة أربع سنوات إلا قليلاً. وساعد على هذه الملازمة أنه كان من أهل الصفة، ذلك المكان المظلل فى مسجد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذى كان يعتبر أول مدرسة فى المدينة المنورة، ومثوى لفقراء المسلمين. وبارك الله عزوجل لأبى هريرة فى هذه الفترة الزمنية القصيرة التى صحب فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحفظ الكثير من الحديث النبوى الشريف حتى أصبح أشهر من لجأ إلى الصفة وأعلم من تخرج فى تلك المدرسة وعريفها، بفضل دعاء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتفرغه وإخلاصه وجده فى طلب العلم. قال ابن عبد البر فى الاستيعاب (4 / 208) : " أسلم أبو هريرة عام خيبر، وشهدها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم لزمه وواظب عليه رغبة فى العلم، راضياً بشبع بطنه، فكانت يده مع يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يدور معه حيث دار. وكان من أحفظ أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان يحضر ما لا يحضر سائر المهاجرين والأنصار؛ لاشتغال المهاجرين بالتجارة، والأنصار بحوائطهم. فقد شهد له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه حريص على العلم والحديث. وقال له: يا رسول الله، إنى قد سمعت منك حديثاً كثيراً، وأنا أخشى أن أنسى. فقال: ابسط رداءك. قال فبسطته، فغرف بيده فيه، ثم قال: ضمه، فضممته، فما نسيت شيئاً بعد ". حديث بسط الرداء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 852 وحديث بسط الرداء ذكره البخارى فى كتاب المناقب من صحيحه، فى باب ملحق بباب علامات النبوة، ولفظ الحديث الشريف: " قلت: يا رسول الله، إنى سمعت منك حديثاً كثيراً فأنساه. قال: فأبسط رداءك، فبسطته، فغرف بيده فيه، ثم قال: ضمه، فضممته، فما نسيت حديثاً بعد ". وذكره الحميدى فى مسنده (2 / 483) ، وزاد: " وقام آخر فبسط رداءه، فقال النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبقك بها الغلام الدوسى ". روى الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: " إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مثل حديث أبى هريرة؟ وإن إخوتى من المهاجرين كان يشغلهم الصفق فى الأسواق، وكنت ألزم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ملء بطنى، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا. وكان يشغل إخوتى من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرأ مسكيناً من مساكين الصفة أعى حين ينسون؛ وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى حديث يحدثه: إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضى مقالتى هذه ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول، فبسطت نمرة على، حتى إذا قضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقالته جمعتها إلى صدرى، فما نسيت من مقالة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك من شئ ". وفى رواية " فما نسيت شيئاً سمعته بعد ". ويعقب الحافظ ابن حجر على هذا الخبر فيقول: " وهو من علامات النبوة، فإن أبا هريرة كان أحفظ من كل من يروى الحديث فى عصره، ولم يأت عن أحد من الصحابة كلهم ما جاء عنه ". وفى موضع آخر يقول: " والحديث المذكور من علامات النبوة، فإن أبا هريرة كان أحفظ الناس للأحاديث النبوية فى عصره ". ( الجزء: 1 ¦ الصفحة: 853 انظر قوله الأول فى تهذيب التهذيب 12 / 266، والآخر فى الإصابة 4 / 268، وراجع شرحه: فتح البارى) . شهادة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما شهادة خير البشر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبى هريرة التى أشار إليها ابن عبد البر فإنا نرى ما يبينها فى حديث شريف. ففى الجزء الثالث من المستدرك (ص 509) نقرأ ما يأتى: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدورى، ثنا أبو النضر، ثنا أبو الأحوص، عن زيد العمى، عن ابى الصديق الناجى، عن أبى سعيد الخدرى ـ رضى الله عنه ـ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: " أبو هريرة وعاء العلم " ولم يتكلم الحاكم على الحديث، قال الذهبى فى تلخيص المستدرك (1 / 3) : " لم أره يتكلم عن أحاديث جمة، بعضها جيد وبعضها واه ". والذهبى الذى تعقب الحاكم فى كثير من الأحاديث، وبين أنها ضعيفة أو موضوعه، لم يشر إلى أى وهى فى إسناد هذا الحديث الشريف. وربما كان هذا كافياً لقبوله، حيث إنه من أحاديث الفضائل؛ فقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا: "إذا روينا فى الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا فى الفضائل ونحوها تساهلنا ". (راجع ص 11 من كتاب: القول المسدد فى الذب عن المسند لابن حجر) . والذهبى نفسه قال فى سير أعلام النبلاء (2 / 594) : " كان حفظ أبى هريرة الخارق من معدودات النبوة "، واستدل باحاديث أشار إلى صحتها، وذكر من الأدلة ما يثبت ما ذهب إليه هو وغيره من الأئمة، ثم ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 854 هذا الحديث الشريف ولكن بلفظ: " أبو هريرة وعاء من العلم " بزيادة " من " وهذا يدل على قبوله وعدم رفضه، وإن لم ينص على صحته (1) .   (1) ومع هذا فلننظر إلى الإسناد، ونعرف برجاله. رجال الإسناد: 1 ـ أبو العباس محمد بن يعقوب: هو الأصم الإمام المفيد الثقة، محدث عصره بلا مدافعة، تفرد فى الدنيا بإجازته أبو نعيم الحافظ، لم يختلف فى صدقه. (انظر تذكرة الحفاظ للذهبى 3 / 860، وطبقات الحفاظ للسيوطى ص 354) . 2 ـ العباس بن محمد الدورى: هو أبو الفضل البغدادى الحافظ، متفق على عدالته. قال الأصم لم أر فى مشائخى أحسن حديثاً منه. قال ابن أبى حاتم: " سمعت منه مع أبى، وهو صدوق. نا عبد الرحمن قال: سئل أبى عنه فقل: صدوق (الجرح والتعديل 6 / 216) . روى عنه أصحاب السنن الأربعة وغيرهم، ووثقه النسائى ومسلمة وابن حبان، ولم يذكر فى ترجمته أى جرح له. (انظر ترجمته فى تهذيب التهذيب، وتذكرة الحفاظ 2 / 579، وطبقات الحفاظ ص 527) . 3 ـ ابو النضر: هو الإمام الحافظ شيخ الإسلام محمد بن محمد بن يوسف الطوسى. كان أحد الأعلام. لم أقرأ فى ترجمته ما يجرحه، أثنى عليه الحاكم والذهبى والسيوطى. (انظر تذكرة الحفاظ 3 / 893، وطبقات الحفاظ ص 365) . وقال الحافظ ابن كثير فى البداية والنهاية عند الحديث عنه (11 / 229) : كان عالماً عابداً، رحل فى طلب الحديث إلى الأقاليم النائية والبلدان المتباعدة. 4 ـ أبو الأحوص: هو محمد بن الهيثم بن حماد بن واقد الثقفى البغدادى القنطرى، قاضى عكبراء. قال ابن عقدة عن ابن خراش: كان من الأثبات المتقنين. وقال الدارقطنى: كان من الثقات الحفاظ. وقال أيضاً ثقة مأمون حافظ. * وقال الخطيب: كان من أهل الفضل والرحلة. وذكره ابن حبان فى الثقات، وقال: مستقيم الحديث. وقال مسلم بن قاسم: ثقة. (انظر ترجمته فى تهذيب التهذيب، وتذكرة الحفاظ 2 / 605، وطبقات الحفاظ ص 263) . 5 ـ زيد العمى: هو زيد بن الحوارى أبو الحوارى العمى البصرى قاضى هراة. مختلف فيه: قال الحسن بن سفيان: ثقة. وقال أحمد بن حنبل: صالح، روى عنه سفيان وشعبه وهو فوق يزيد الرقاشى، وفوق فضل بن عيسى. وقال الدارقطنى والبزار: صالح. وقال السعدى والجوزجانى: متماسك. وقال ابن معين: صالح. وقال مرة: لا شىء، ضعيف الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به، كان شعبة لا يحمد حفظه. وقال أبو حاتم وابن عدى: ضعيف، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الآجرى عن أبى داود: حدث عنه شعبة وليس بذاك. وقال الآجرى ايضاً: سألت أبا داود عنه فقال: ما سمعت إلا خيراً. وضعفه النسائى: وابن سعد، وابن المدينى، والعجلى. (انظر ترجمته فى ميزان الاعتدال، وتهذيب التهذيب، والجرح والتعديل 3 / 560) . 6 ـ أبو الصديق الناجى: هو بكر بن عمرو، وقيل: ابن قيس. جاء فى ترجمته فى تهذيب التهذيب (1 / 486) . قال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائى: ثقة. قلت: وذكره ابن حبان فى الثقات. وقال الذهبى فى الميزان (4 / 539) . صدوق. قال ابن سعد: يتكلمون فى أحاديثه يستنكرونها. وقال غيره: ثقة، تابعى، واحتج به فى الصحاح. * وأبو الصديق الناجى يروى الحديث الشريف عن الصحابى الجليل أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 855 ومن النظر فى رجال الإسناد نرى أن الحديث صحيح أو حسن على الأقل عند بعض الأئمة، وعند أكثرهم يعتبر ضعيفاً لا يحتج به فى الحلال والحرام، ولكن يكتب، وموضع الخلاف مرده إلى وجود زيد العمى، ومثله إن لم يحتج بحديثه، أخذ به فى الفضائل ونحوها، أى أن هذا الحديث يقبل من حيث الإسناد. أما المتن فله ما يعضده، ويشهد بصحته، وقد يكفى ما سبق من الأحاديث الشريفة الأخرى، وما بينته من الدلالات، وما أثبته الأئمة من أن حفظ أبى هريرة من علامات النبوة، ولكن فلنزد الأمر وضوحاً وتأكيداً. فى كتاب العلم فى صحيح البخارى نجد " باب حفظ العلم ". ونقرأ أحاديث الباب فنراها كلها تتعلق بحفظ أبى هريرة وحده. ويأتى الحافظ فى الفتح ليفسر مسلك الإمام البخارى فيقول: " لم يذكر فى الباب شيئاً عن غير أبى هريرة، وذلك لأنه كان أحفظ الصحابة للحديث، قال الشافعى رضى الله عنه: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث فى عصره وقد كان ابن عمر يترحم عليه فى جنازته ويقول: كان يحفظ على المسلمين حديث النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. هكذا فليكن الحفظ: ومما يثبت حفظه ما رواه الحاكم بسنده: " حدثنا الزعيزعه كاتب مروان بن الحكم، أن مروان دعا أبا هريرة، فأقعدنى خلف السرير، وجعل يسأله، وجعلت أكتب حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به فأقعده وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا أخر ". وصحح الحاكم الخبر، ووافقه الذهبى. (انظر المستدرك 3 / 510) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 857 وذكره الذهبى فى سير أعلام النبلاء (2 / 598) ثم عقب بقوله: " قلت: هكذا فليكن الحفظ. قال الشافعى: أبو هريرة ... إلخ. ". وذكره ابن حجر فى الإصابة (4 / 205) ، وابن كثير فى البداية والنهاية (8 / 106) . وبين لنا زيد بن ثابت رضى الله تعالى عنه سبب حفظ أبى هريرة رضى الله تعالى عنه: حدث محمد بن قيس بن مخرمة أن رجلاً جاء إلى زيد بن ثابت رضى الله تعالى عنه يسأله عن شئ فقال له زيد: " عليك بأبى هريرة فإنى بينما أنا وأبو هريرة وفلان فى المسجد ذات يوم ندعو الله تعالى ونذكره، إذ خرج علينا النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جلس إلينا، فسكتنا فقال: عودوا للذى كنتم فيه. قال زيد: فدعوت أنا وصاحبى قبل أبى هريرة، وجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤمن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إنى اسألك ما سألك صاحباى، وأسألك علماً لا ينسى. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمين. فقلنا يا رسول الله ونحن نسأل الله تعالى علماً لا ينسى، فقال: سبقكم بها الغلام الدوسى ". قال ابن حجر: " أخرجه النسائى بسند جيد فى العلم من كتاب السنن ". (الإصابة 4 / 208، وذكره فى التهذيب 12 / 266) وأخرجه الحاكم فى المستدرك (3 / 508) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ولكن الحاكم رواه عن طريق حماد بن شعيب، فتعقبه الذهبى وقال: قلت: حماد ضعيف. وفى سير أعلام النبلاء (2 / 600) ذكر هذا الخبر وقال: " أخرجه الحاكم، لكن حماد ضعيف ". وفى موضع آخر من السير (2 / 616) ذكر الخبر بإسناد آخر، فيه الفضل بن العلاء بدلاً من حماد، ثم قال: " تفرد به الفضل بن العلاء، وهو صدوق ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 858 وفى موضع ثالث (2 / 68) قال الذهبى: " وفى سنن النسائى أن أبا هريرة دعا لنفسه: اللهم إنى أسألك علماً لا ينسى. فقال النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. آمين ". شهادة ابن عمر: وابن عمر رضى الله تعالى عنهما بين حفظ أبى هريرة وعلمه وفضله، أما الذين ذكروا أنه كذبه وسخر منه فقد وقعوا فى خطأ جسيم، حيث أخذوا من الأخبار ما يشتهون وتركوا منها ما يثبت ما لا يريدون. ولننظر مثلاً إلى هذا الخبر الصحيح عن ابن عمر نفسه، فإنه: مر بأبى هريرة وهو يحدث عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط أعظم من أحد. فقال له ابن عمر: أبا هر، انظر ما تحدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!! فقام إليه أبو هريرة، حتى انطلق به إلى عائشة، فقال لها: يا أم المؤمنين، أنشدك بالله، أسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان؟ فقالت: اللهم نعم. فقال أبو هريرة: إنه لم يكن يشغلنى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غرس الودى ولا صفق بالأسواق، إنى إنما كنت أطلب من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمة يعلمنيها، وأكلة يطعمنيها. فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعلمنا بحديثه ". (انظر الخبر، وبيان الشيخ شاكر لصحة إسناده، فى المسند للإمام أحمد ج 6 ص 213، حديث رقم 4453 ط دار المعارف) . والخبر انتهى بشهادة ابن عمر، ولكن الطاعنين يذكرون الجزء الأول فقط!! أما غيرهم فإما أن يذكر الخبر كاملاً، أو يكتفى بذكر الشهادة، فهى المقصود من إيراد الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 859 فالحاكم يذكر الخبر كاملاً فى المستدرك (3 / 510 ـ 511) ، ويقول: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والذهبى فى تلخيص المستدرك يكتفى بشهادة ابن عمر، ويعقب بقوله: ... " صحيح " وفى سير أعلام النبلاء، يذكر الخبر بتمامه، ويقول: رواته ثقات ... (2 / 617) . وفى موضع آخر (2 / 629) يذكر الشهادة وحدها. ويضيف ابن حجر شهادة أخرى، وهى قول ابن عمر: " أبو هريرة خير منى وأعلم بما يحدث ". (الإصابة 4 / 208، وتهذيب التهذيب 12 / 267) . وذكر أيضاً أن ابن عمر قال: " أكثر أبو هريرة. فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئاً مما يقول؟ قال: لا، ولكنه اجترأ وجبنا. فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: ما ذنبى إن كنت حفظت ونسوا ". (انظر الإصابة 4 / 209) . حفظ ونسوا ومراجعة بعض الصحابة الكرام لأبى هريرة يرجع فى الغالب الأعم إلى حفظ أبى هريرة ونسيان غيره؛ فحفظه من معجزات النبوة كما رأينا، ويرجع إلى أنه سمع ما لم يسمعوه. روى الحاكم بسنده عن محمد بن عمرو بن حزم: أنه قعد فى مجلس فيه أبو هريرة، يحدثهم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ينكره بعضهم، ويعرفه البعض، حتى فعل ذلك مراراً، فعرفت يومئذ أن أبا هريرة أحفظ الناس عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولم يعقب الذهبى على هذا الخبر. (انظر المستدرك 3 / 511) . ولكن الذهبى فى سير أعلام النبلاء (2 / 617) ذكر الخبر وقال: رواه البخارى فى تاريخه، وهو عن محمد بن عمارة بن حزم الأنصارى، وفيه: " أنه قعد فى مجلس فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بضعة عشر رجلاً، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديث، فلا يعرفه بعضهم، ثم يتراجعون فيه، فيعرفه بعضهم، ثم يحدثهم بالحديث، فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 860 يعرفه بعضهم، ثم يعرفه، حتى فعل ذلك مراراً قال: فعرفت يومئذ أنه أحفظ الناس عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". وروى الترمذى والحاكم أن طلحة رضى الله تعالى عنه سئل عن كثرة أحاديث أبى هريرة فقال: " والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم نسمع وعلم ما لم نعلم. إنا كنا قوماً أغنياء لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرفى النهار ثم نرجع، وكان هو مسكيناً لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان يدور معه حيثما دار، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع ". وهذا الخبر ذكره أيضاً البخارى فى التاريخ وأبو يعلى (انظر تحفة الأحوذى 4 / 353) والذهبى فى السير (2 / 605، 606، وفى حاشية 606 بيان لصحة الإسناد) وابن كثير فى البداية والنهاية (8 / 109) ، وابن حجر فى أكثر من كتاب، وزاد فى الإصابة (4 / 209) قول طلحة: " قد سمعنا كما سمع، ولكنه حفظ ونسينا ". وقال ابن كثير فى البداية والنهاية (8 / 109) : " قال شعبة، عن أشعث بن سليم، عن أبيه، قال: سمعت أبا أيوب يحدث عن أبى هريرة، فقيل له: أنت صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتحدث عن أبى ... هريرة؟ ! فقال: إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع، وإنى إن أحدث عنه أحب إلى من أحدث عن رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعنى ما لم أسمعه منه ". والخبر أخرجه الحاكم فى المستدرك (3 / 512) ، وذكره الذهبى فى السير (2 / 606) . وقال ابن حجر فى الإصابة (4 / 205) : قال وكيع فى نسخته: حدثنا الأعمش عن أبى صالح قال: كان أبو هريرة أحفظ أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأخرجه البغوى من رواية أبى بكر بن عياش عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 861 الأعمش بلفظ: ما كان أفضلهم ولكنه كان أحفظ. (وانظر المستدرك 3 / 509، سير أعلام النبلاء 2 / 597) وابن حجر بعد أن ذكر عدة أخبار تبين حفظ وفضل هذا الصحابى الجليل، قال: والأخبار فى ذلك كثيرة (الإصابة 4 / 208) . وابن كثير ذكر قول أبى صالح بلفظ: " كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولم يكن بأفضلهم ". (البداية 8 / 106) . وفى موضع سابق (8 / 104) قال ابن كثير: " قد لزم أبو هريرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد إسلامه فلم يفارقه فى حضر ولا سفر، وكان أحرص شىء على سماع الحديث منه وتفقه عنه، وكان يلزمه على شبع بطنه ". ثم ذكر حديثاً رواه الإمام أحمد وفيه: " قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببنى وأمى إلى عباده المؤمنين، فقال: اللهم حبب عبدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما، قال أبو هريرة: فما خلق الله من مؤمن يسمع بى ولا يرانى أو يرى أمى إلا وهو يحبنى ". ثم عقب الحافظ ابن كثير على هذا الحديث بقوله: وقد رواه مسلم من حديث عكرمة عن عمار نحوه. وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس. قد شهر الله ذكره بما قدره أن يكون من روايته من إيراد هذا الخبر عنه على رؤوس الناس في الجوامع المتعددة في سائر الأقاليم في الإنصات يوم الجمعة بين يدى الخطبة والإمام على المنبر، وهذا من تقدير الله العزيز العليم، ومحبة الناس له رضى الله عنه. من أسباب كثرة مروياته: وهكذا نرى أن أبا هريرة رضى الله تعالى عنه قد بورك في الفترة الزمنية القصيرة التي شرف فيها بصحبة خير البشر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى جانب هذا فقد بارك الله سبحانه وتعالى له في باقى عمره في الإسلام حيث استطاع أن يعوض كثيراً مما فاته، فلم يكتف بالرواية عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وروى عن كبار الصحابة الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 862 أدركهم مثل: أبى بكر الصديق وعمر الفاروق وأبى بن كعب - أستاذ مدرسة التفسير بالمدينة في عصر التابعين - وأسامة بن زيد حب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأم المؤمنين عائشة، وغيرهم من الصحابة الكرام البررة رضى الله تعالى عنهم، وكان هذا من أسباب كثرة مروياته، حيث امتد عمره بعد عصر النبوة، واحتاج الناس إلى علمه. أما الذين رووا عنه فما أكثرهم!!! قال الإمام البخارى: روى عنه نحو من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم. (سير أعلام النبلاء 2/ 568، والبداية والنهاية 8 /103، والاستيعاب 4 /209، والإصابة 4 /205، وأضاف ابن حجر: وكان أحفظ من روى في عصره) . ترى: أيمكن أن يروى عنه مثل هذا العدد، وأن يثقوا به ويلجأوا إليه ما لم يجدوا عنده العلم الصحيح النافع. والكلم الطيب الثابت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وليس هذا فحسب، فإنه وجد في عصر لم يشع فيه التدوين، وقل من دون السنة الشريفة، ومع هذا بالبحث نجد أن عشرة قد دوَّنوا بعض ما سمعوا منه، وأول صحيفة كاملة وصلتنا هي صحيفة همام بن منبه كتبها عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه. (انظر من كتب عنه في ص 97: 99 من كتاب الدكتور محمد الأعظمى: دراسات في الحديث النبوى) . ونتيجة لهذا الاهتمام المشكور بالرواية عن هذا الصحابى الجليل وصلنا من الأخبار التي رويت عنه (5374) ، روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من هذه الأخبار (3848) ، واتفق الشيخان على (325) ، وانفرد الإمام البخارى بثلاثة وتسعين، والإمام مسلم بتسعة وثمانين ومائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 863 وهذه الروايات التي زادت على خمسة آلاف إنما هي بالمكرر، وذكر الدكتور الأعظمى في كتابه: أبو هريرة في ضوء مروياته (ص76) بأن أحاديثه في المسند والكتب الستة هي 1336 حديثاً فقط، وذلك بعد حذف الأسانيد المتكررة. وهذا القدر يستطيع طالب عادى أن يحفظه في أقل من عام، فما بالك بمن كان حفظه من معجزات النبوة. والفرق بينهما أن الطالب يبذل مجهوداً ليحفظ، ثم من طبيعته النسيان، أما الإعجاز فظهر في الحفظ بالسماع وعدم النسيان. من شهادات الأئمة أحب أن أختم هذه الكلمة الموجزة بذكر شئ من أقوال بعض الأئمة والحفاظ: قال الإمام الشافعى فى الرسالة (ص 281) : " أبو هريرة أحفظ من روى الحديث فى دهره ". وقال الحاكم فى مستدركه (3 / 512) : " قد تحريت الابتداء من فضائل أبى هريرة رضى الله عنه؛ لحفظه لحديث المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهادة الصحابة والتابعين له بذلك، فإن كل من طلب حفظ الحديث من أول الإسلام وإلى عصرنا هذا فإنهم من أتباعه وشيعته، إن هو أولهم، وأحقهم باسم الحفظ ". ثم قال: وفى الصفحة التالية ذكر اسماء الصحابة الذين رووا عنه، وعددهم ثمانية وعشرون، منهم: زيد بن ثابت، وأبو أيوب الأنصارى، وأبى بن كعب، وغيرهم من أكابر الصحابة رضى الله عنهم. وقال بعد ذكرهم " فأما التابعون فليس فيهم أجل ولا أشهر وأشرف وأعلم من أصحاب أبى هريرة، وذكرهم فى هذا الموضع يطول لكثرتهم، والله يعصمنا من مخالفة رسول رب العالمين، والصحابة المنتخبين، وأئمة الدين من التابعين ومن بعدهم من أئمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 864 المسلمين، رضى الله عنهم أجمعين، فى أمر الحافظ علينا شرائع الدين أبى هريرة رضى الله عنه ". وقال الذهبى فى سير أعلام النبلاء " كان حفظ أبى هريرة الخارق من معجزات النبوة ". (2 / 594) " احتج المسلمون قديماً وحديثاً بحديثه " (2 / 609) " إليه المنتهى فى حفظ ما سمعه من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأدائه بحروفه. " (2 / 619) " قد كان أبو هريرة وثيق الحفظ، ما علمنا أنه أخطأ فى حديث ". (2 / 621) " ... فهو رأس فى القرآن، وفى السنة، وفى الفقه ". (2 / 627) وقال ابن كثير فى البداية والنهاية (8 / 110) " قد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم ". خاتمة هذا هو أبو هريرة وعاء العلم، فكيف نجد فى عصرنا من ينسب نفسه للإسلام ويعرض عن قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصحابة والتابعين، والأئمة الأعلام الهداة المهديين، ويأخذ بقول الضالين المضلين؟ ! هذا المسلك يفسره العلامة المرحوم الشيخ أحمد شاكر فيقول: " وقد لهج أعداء السنة، أعداء الإسلام، فى عصرنا، وشغفوا بالطعن فى أبى هريرة، وتشكيك الناس فى صدقه وفى روايته. وما إلى ذلك أرادوا، وإنما أرادوا أن يصلوا ـ زعموا ـ إلى تشكيك الناس فى الإسلام، تبعاً لسادتهم المبشرين. وإن تظاهروا بالقصد إلى الاقتصار على الأخذ بالقرآن، أو الأخذ بما صح من الحديث ـ فى رأيهم، وما صح من الحديث فى رأيهم إلا ما وافق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 865 أهواءهم وما يتبعون من شعائر أوربة وشرائعها. ولن يتورع أحدهم عن تأويل القرآن، إلى ما يخرج الكلام عن معنى اللفظ فى اللغة التى نزل بها القرآن، ليوافق تأويلهم هواهم وما إليه يقصدون!! وما كانوا فى أول من حارب الإسلام من هذا الباب، ولهم فى ذلك سلف من أهل الأهواء قديماً. والإسلام يسير فى طريقه قدماً، وهم يصيحون ما شاءوا، لا يكاد الإسلام يسمعهم، بل هو إما يتخطاهم لا يشعر بهم، وإما يدمرهم تدميراً. ومن عجب أن تجد ما يقول هؤلاء المعاصرون، يكاد يرجع فى أصوله ومعناه إلى ما قال أولئك الأقدمون! بفرق واحد فقط: أن أولئك الأقدمين، زائغين كانوا أم ملحدين، كانوا علماء مطلعين، أكثرهم ممن أضله الله على علم!! أما هؤلاء المعاصرون، فليس إلا الجهل والجرأة، وامتضاغ ألفاظ لا يحسنونها، يقلدون فى الكفر، ثم يتعالون على كل من حاول وضعهم على الطريق القويم!! " ا. هـ. (المسند للإمام أحمد بشرحه 12 / 84 ـ 85) رحم الله تعالى أبا هريرة جزاء ما قدم للإسلام وأهله وجعلنا من محبيه، وجمعنا معه فى واسع جنته. هذا الصوت نعرفه هذا الكاتب لم يكتف بما جنته يداه، وما سطره فى كتابه من كفر صريح، بل استمر فى غيه وضلاله، وركز هجومه على أحكام الله تعالى التى شرعها لعباده ورضيها لهم بنص كتابه المجيد. فسخر من آيات الله عزوجل، وما جاءت به من أحكام، كجعل شهادة الرجل كشهادة امرأتين. والذين تصدوا لبيان ضلال الكاتب منهم من ذكر اسمه متأذياً، ومنهم من رأى ألا يذكر اسم اللعين. وقد اعجبتنى كلمة الأستاذ ثروت أباظة تحت عنوان: " هذا الصوت نعرفه "، وأحب أن أختم الموضوع بذكر شىء منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 866 بدأ الأستاذ كلمته بقوله: تصبح الشهرة عند بعض الناس نشيدة حياه، وأملاً يتخطفهم الموت فى سبيلها، ويبذلون من أجل رنينها كل ما يشرف الإنسان أن يتحلى به، حتى إذا أعيتهم الوسائل، ووقفت دون مقاصدهم العراقيل، بذلوا دينهم وإيمانهم، وأعلنوا إلحادهم مجاهرين به غير مخافتين.. صارخين به غير هامسين، يحدوهم الأمل الحقير أن يعود عليهم الكفر بما لم يدركوه فى ستار الإيمان. ولقد نعرف بعض هؤلاء اليوم، ولقد عرفنا أشباهاً لهم من قبل. ومنهم من عاصرناه. ومنهم من أكرمنا الله بعدم رؤيته، أو العيش معه فى زمن واحد. وربما لا يكون هؤلاء الملحدون شيوعيين. فالقاعدة المنطقية تقول: إن كل شيوعى ملحد وليس كل ملحد شيوعياً. فقد يكون الملحد إذن غير شيوعى، بل قد يكون رأسمالياً متطرفاً. ولكنه يظل مع ذلك ملحداً كافراً زنديقاً. وقد يصيب الملحد بإلحاده نصيباً من الشهرة، ولكنه ينسى أن الشهرة ليست فى ذاتها نوعاً من الشرف، بل قد تكون لوناً من حقارة الشأن وتفاهة الفكر وهوان الشأن. إن نوع الشهرة هو الذى يدعو الجمهور إلى احترام الشهير وليست الشهرة فى ذاتها.. فالناس لا تحترم القاتل الشهير ولا اللص الحقير مهما يكن بعيد الصيت.. ولا المرتشى الوضيع مهما يكن ذا منصب خطير. ونصيب الملحد ذى الشهرة أن يدوسه الناس بالأقدام، ويرجموه بالحجارة ثم قال: ومن هؤلاء من أدرك أن الهجوم على العباد مهما يكونوا أعلاماً خفاقة لن يصل بهم إلى الشهرة التى بها يحلمون وبمجدها يهيمون، فقالوا وما لنا لا نهاجم الدين نفسه ونعلن عدم إيماننا بكلام الله وهو الله؟ فما دامت مهاجمة الكتاب لم تأت لنا إلا بالشهرة المؤقته فلابد أن مهاجمة كلام الله ستأتى لنا بالشهرة الثابتة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 867 وظهرت كتب ملحدة صريحة فى إلحادها، وثار بها الناس وأصاب أصحابها الشهرة، ولكنها كانت شهرة نجسة بخيسة مرغت أسماءهم فى الدنس أياماً ثم زالت عنهم الشهرة وبقى لهم الدنس. وتعلم الملحدون ألا يعلنوا إلحادهم، واستفادوا من الدرس الذى رأوه رأى العين فيمن سبقهم.. ... .. ثم قال: ولكن رأينا فى الزمن الأخير بعض من لا نذكره، ومن يعف القلم عن أن يخط حروف اسمه، يعلن إلحاده فى وقاحة نعرفها لسابقيه فى الإلحاد. وانتقل الأستاذ ثروت أباظة بعد هذا لما أثاره هذا الكاتب فقال: والقضية التى ساقها هذا الملحد ليعلن بها عن إلحاده قضية متهاوية لا تحتمل أى نقاش. فالأمر فيها واضح غاية الوضوح، وقد شرحها الله تعالى بمحكم آياته ولكنه الملحد الجاهل يهاجم النص القرآنى فى جهالة رعناء ساذجة سذاجة ينفر منها الأطفال. ولو أننا قبلنا أن نناقش القضية لعقدنا مقارنة لا تنعقد بين كلام الله ـ وهو الله ـ وبين رأى فطير حقير لا يجوز له أن يذكر أو يناقش. وقد نسى هذا الجاهل فى حمأة جنونه بالشهرة أن هذا القرآن مر بألف وأربعمائة عام وتزيد، وحفظه مئات الملايين، وناقشه الأئمة الهداة.. وناقشه أيضاً الملحدون الباحثون عن الشهرة وتهجموا على قدسيته، فإذا بالقرآن الكريم يقف شامخاً سابقاً ميسوراً على الهداة، متأنياً إباء الجبال الشم على الملحدين الزنادقة، لم يستطيعوا أن يهزوا حرفاً من حروفه بتشكيك، أو يهزوا كلمة من محكم كلامه لأى أثر من حيرة. ومن هؤلاء الذين قرأوا القرآن علماء فى شتى ألوان العلوم: منهم علماء فى اللغة ومنهم علماء فى الفقه.. ومنهم علماء فى المنطق، ومنهم علماء فى علم الكلام، ومنهم من ولى القضاء، ومنهم رجال الشرع.. وهيهات أن يحيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 868 بالباحثين فى كتاب الله تحديد.. إنه معروض على الأزمان وعلماء هذه الأزمان على مدى ألف وأربعمائة عام. أولم يقدر هذا الملحد الجديد أن الذى عرض له تعرض لملايين البحوث، ولم يقل واحد منهم بما قال، لهوان ما قال وضآلته أن يثبت لتفكير على قدر ضئيل من الاستقامة. ومهما يكن مقدار جهلك فأنت تعلم هذا علم يقين.. ومهما يكن مقدار جهلك فأنت تعلم مقدار سخافة الرأى الذى سقته.. وأنت لا شك تقدر مدى الغضب الذى أثرته فى نفوس المسلمين كافة بما تقول.. وأنت أيضاً لا شك أردت أن تثير هذا الغضب بأمل منك سقيم أن تنال به ما تهفو إليه نفسك المريضة الساقطة من شهرة.. وقسماً لن أنيلك ما تصبو إليه من الشهرة المريضة وأنا أكتب هذا الحديث متوجهاً إلى علمائنا الأفاضل ألا يحاول أحد منهم أن يجعل منك صاحب رأى فيناقشه، فما تبقى أنت إلا أن يناقشك كرام الفقهاء وينزلوا بك سخطهم لتنال به شهرتك. وقد تفضل عالم جليل وتنازل وتناول رأيك بالتفنيد دون أن يذكر اسمك أو اسم مجلتك الحمراء الرعناء. وإنى أرى أنك أهون من هذا الذى فعل الشيخ الجليل. وعلى كل حال فحسبك هذا النقاش بل هو فوق الحسب.. وإنى أكاد أثق أن الفقهاء لن يذكروك بعد ذلك أبداً فإنهم ـ لا شك ـ أدركوا مقصدك، وإنهم من الذكاء واللماحية بحيث يجعلونك تعود من جولتك الملحدة بالخيبة وسوء المآب (1) . ولا شك أنك تعلم أن مثلك لا غفران له عند الله، فقد أشركت وما لمشرك غفران، ولو لم تنل إلا بعدك عن رحمة لكان هذا فى ذاته أوفى عقاب لو كنت   (1) هذا رأى وجيه، ولكن كيد اللعين لا يزال مستمراً لم يتوقف، وخدع الكثير من المسلمين، ودعى إلى مؤتمر إسلامى كمفكر إسلامى!! وجعلته إحدى الإذاعات شاهد عصر! لذا أرى أن يكشف ويعرى، والله سبحانه وتعالى هو الأعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 869 تملك من العقل صبابة.. ولكن من أين لك بها؟ ! وهل لمن يقدم على ما أقدمت عليه أى نصيب من عقل أو إحساس أو منطق أو فكر أو خلق؟ لقد صدمت الشعور العام لكل المسلمين، ولو أنك فعلت هذا وقلت شيئاً يستحق النقاش لقلنا ملحد ولكنه يحاول أن يفكر، أما أن تصنع هذا من أجل الشهرة وحدها بعد أن أخطأتها في كل ميدان سعيت إليها فيه فتلك إذن كبرى الكبائر.. وليكونن عقابك في الدنيا خزياً وفى الآخرة ناراً لا تموت فيها ولا تحيا. ربنا سبحانك وتعاليت وتقدست أسماؤك ... وما هم إلا عبادك وأنت وحدك تعلم الكافر منهم، وتعلم من اهتدى ... وأنت العدل المطلق القاهر على العباد الواحد القيوم الحق ... سبحانك لا تحاسبنا بما أتى السفهاء منا، فإنهم يا الله لا يعلمون ... وأنت وحدك سبحانك من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ... تعاليت.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 870 الجزء الرابع في أصول الفقه والفقه مقدمة إن الحمد كله لله، نحمده سبحانه وتعالي ونستعينه ونستهديه ونشكره أن وفقنا - بعظيم فضله وكرمه ومنه - إلى إنجاز هذا العمل الخالص لوجهه الكريم، ونسأله عز وجل أن ينفع به المسلمين، وينير به الطريق أمام الذين ضلوا وتأثروا بأباطيل الرافضة، وأن يجعله في ميزاننا يوم نلقاه سبحانه وتعالي، ونصلى ونسلم على رسوله المصطفي خير البشر، وعلى آله الأطهار، وصحبه الكرام الأبرار، وعلى من اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين. أما بعد: فمنذ عدة سنوات وأنا أتضرع إلى الله جلت قدرته لتحقيق هذا الهدف الكبير، هدف إخراج موسوعة علمية تبين للمسلمين حقيقة الشيعة والرافضة، وتناقش ما يتصل بالأصول والفروع في ضوء الكتاب والسنة والأدلة المعتبرة، كما تناقش أدلتهم الباطلة، وما يثيرونه من شبه واهية تمتلئ بها المئات من كتبهم المنتشرة بين المسلمين، وهذه الكتب غالباً توزع مجاناً، وتهدى إلى كل من يستطيعون الإهداء إليه لنشر عقيدتهم الباطلة، وآرائهم الضالة، ومن أوضح الأمثلة على ذلك كتاب المراجعات. فالحمد الكثير والشكر والثناء العظيم لله المنعم الوهاب الذي أعانني على الانتهاء من الجزء الرابع بعد أن أعانني على الانتهاء من الأجزاء الثلاثة السابقة. والجزء الأول تكفل بعقيدة الإمامة والعقائد التابعة للشيعة الاثنى عشرية، والثاني كان في التفسير المقارن وأصوله وكتبه، والجزء الثالث تناول الحديث وعلومه وكتبه، دراسة مقارنة. أما آخر أجزاء الموسوعة، وهو هذا الجزء الرابع، فيشتمل على أصول الفقه والفقه، دراسة مقارنة أيضاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 874 أصول الفقه عند الشيعة الاثنى عشرية أربعة هي: الكتاب، والسنة، والإجماع والعقل، وتحدثنا عما يتصل بالكتاب والسنة في الجزأين الثاني والثالث، ولذلك اكتفيت هنا بالإشارة السريعة إلى ما سبق بيانه ثم تحدثت عن الإجماع والعقل، وجعلت أصول الفقه في الباب الأول، أما الفقه فقد خصصته ببابين، يليهما خاتمة للكتاب كله بأجزائه الأربعة. والغاية من البابين الثاني والثالث أن نستخرج الأحكام الفقهية التي ذهب إليها الجعفرية الاثنا عشرية تأثراً بعقيدتهم في الإمامة، أي أنها أحكام لا تصح إلا بصحة الإمامة التي يعتقدونها. والجزء الأول تكفل بمناقشة الإمامة، وانتهينا منه إلى أن عقيدة الإمامة عند الجعفرية الاثنى عشرية لا مستند لها من كتاب ولا سنة، وأن الأدلة أثبتت غير ما ذهبوا إليه، وما دمنا قد انتهينا من بحثنا إلى هذه النتيجة فلا حاجة إذن إلى مناقشة ما نذكره من الآراء الفقهية المرتبطة بالإمامة عندهم، فما بنى على باطل فهو باطل. وقد يقال: إن هذه الآراء الفقهية ربما يكون لها أدلة استندوا إليها، وهذا يستدعى مناقشة الأدلة، فنقول: إن الآراء التي ستذكر في هذا الجزء لها أدلتها عندهم فعلاً ولكن الأدلة هي أيضاً أثر من آثار الإمامة، أي أنها مبنية على العقيدة التي أثبتنا عدم صحتها، مثال هذا ما ذكرناه في أواخر الجزء الثاني عن أثر الإمامة في الحج: من حيث الأحكام، والروايات التي وردت في كتب السنة عند الجعفرية الرافضة، وقد رأينا أن واضعي الروايات أكثر غلواً من واضعي الآراء الفقهية، وقد أثبتنا في الجزء الثالث أن جميع الأخبار المتصلة بأئمتهم الاثنى عشر وضعت في عصور متأخرة. فالآراء الفقهية التي تعتبر نتيجة التأثر أو الغلو في عقيدة الإمامة لا مستند لها من كتاب أو سنة، وإنما تستند إلى روايات ينسب أكثرها للأئمة، ومع أن الأدلة أثبتت عدم صحة إمامتهم بالطريقة التي يذهب إليها الجعفرية الرافضة، إلا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 875 الأئمة كانوا من التقوى والصلاح، من وجهة نظرنا، بحيث إننا نراهم أجل من أن يأتوا بمثل هذه الروايات المفتراة، وإنما افتراها على الأئمة غلاة الجعفرية الرافضة الضالون، المضلون، كما افتروا الكذب على الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومع أنه يكفي أن نذكر الآراء الفقهية التي ذهب إليها الجعفرية الرافضة تأثراً بعقيدتهم في الإمامة، ولا حاجة لمناقشتها، غير أنني ناقشت بعض النقاط بشيء من التفصيل في الفصلين الأول والثاني من الجزء الثاني كنموذج للمناقشات التفصيلية حتى لا يطول بنا الحديث، وبعد الفصلين اكتفيت بالإشارة إلى أهم ما جاء في فقههم تأثراً بعقيدتهم الباطلة، ثم ذكرت بعض الأخبار التي وضعوها لتأييد باطلهم (1) . وبتحديد هذه الآراء الفقهية نرى أن بقية الفقه الجعفري يمكن أن ينظر إليه كسائر المذاهب الفقهية، فتقبل الأحكام أو ترفض في ضوء الأدلة (2) ، وبذا نكون قد أوضحنا بعض معالم الطريق أمام دعاة التقريب، وهذا الفقه الذي تأثر واضعوه بعقيدتهم الباطلة، وبنى على ترجيح ما خالف جمهور المسلمين وإن وافق الكتاب والسنة، هذا الفقه لا يمكن معه التقريب إلا إذا تخلى الرافضة عن باطلهم. وفي مقدمة كتابى " فقه الشيعة الإمامية ... " ذكرت أنني اعتمدت على ثلاثة كتب لبيان الأحكام عند الجعفرية الاثنى عشرية: الأول: المختصر النافع في فقه الإمامية، ألفه أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلى الملقب بالمحقق.   (1) وضحت منهجى هذا في بداية الفصل الثالث من الباب الثاني قبيل الحديث عن الصيام والاعتكاف. (2) على أن يراعى ما ذكرناه في أصول فقههم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 876 الثاني: الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية لزين الدين الجبعى العاملى الملقب بالشهيد الثاني، واللمعة الدمشقية لمحمد بن جمال الدين مكى العاملى الملقب بالشهيد الأول. وذكرت ما يبين مكانة هذين الكتابين عند الجعفرية الاثنى عشرية. الثالث: مفتاح الكرامة شرح قواعد العلامة لمحمد الجواد بن محمد الحسين العاملى، والمقصود بالعلامة الحسن بن يوسف بن المطهر الحلى. ويعتبر هذا الكتاب من أكبر الموسوعات في الفقه الجعفري، أخذت منه ما تركه الكتابان الأولان، ورأيت أن لا حاجة إلى ذكره، وهو ليس بكثير، ولهذا كنت أشير إلى صفحاته فيما استخرجه منه. هذا ما سلكته لتحديد أحكام الطهارة والصلاة في ذلك الكتاب، وهنا سأستند إلى هذه الكتب الثلاثة أيضاً مع إضافة مرجع جديد هو " مستمسك العروة الوثقى " للسيد محسن الطباطبانى الحكيم، مرجع الجعفرية بالعراق قبل الخوئى، والكتاب موسوعة فقهية عصرية فهو يبين ما عليه الجعفرية الرافضة في عصرنا (1) ، وسوف أسلك نفس الطريقة في عدم ذكر صفحات ما هو موجود في الكتابين الأولين لكثرة المنقول منهما وسهولة استخراجه، ونكتفي بالإشارة إلى موضع ما نأخذه من الموسوعتين إلى جانب بعض الكتب الأخرى كالخلاف للطوسى وغيره (2) . وهذان البابان مقسمان حسب تقسيم الفقه عند الجعفرية الاثنى عشرية، قال الأستاذ محمد تقى القمي: " جرت العادة عند المؤلفين من فقهاء الإمامية أن يقسموا   (1) يقع الكتاب في أحد عشر مجلداً، وهو تقريبا في حجم كتاب المغنى لابن قدامة، ولكنه مع هذه الضخامة ينتهي قبيل الجهاد في العبادات. (2) في الستينيات التقيت بأحد علمائهم وهو السيد كاظم الكفائى، ووجهت إليه عدداً من الأسئلة أجاب عن بعضها بخطه، فصورت ما كتب وألحقته برسالتي للماجستير حيث رجعت إليه في بعض المسائل، ثم رأيت أن أجعله هنا أيضاً، وهو بعد الخاتمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 877 الموضوعات الفقهية إلى أربعة أقسام (العبادات، العقود، الإيقاعات، الأحكام) ولعل وجه الحصر أن المبحوث عنه في الفقه إما أن يتعلق بالأمور الأخروية؛ أي معاملة العبد ربه، أو الأمور الدنيوية: فإن كان الأول فهو عبادات، أما الثاني فإما أن يحتاج إلى صيغة أولاً، فغير المحتاج إلى صيغة هو الأحكام كالديات والميراث والقصاص والأطعمة، وما يحتاج إلى صيغة فقد يكون من الطرفين أو من طرف واحد: فمن طرف واحد يسمى الإيقاعات كالطلاق والعتق، ومن الطرفين يسمى العقود، ويدخل فيها المعاملات والنكاح، وتبدأ العبادات بكتاب الطهارة كمقدمة للعبادات " (1) . وبعد: فلقد بذلت ما استطعت لإخراج هذه الموسوعة العلمية بالصورة التي ترضي الله عز وجل، وترفع سخطه، ولقد أمسكت القلم عن التجريح فضلاً عن التكفير إلا إذا وجدت من يكفر أو يفسق خير البشر بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق – رضي الله عنهما وحشرنا معهما بفضله وكرمه، وخير جيل عرفته البشرية في تاريخها، وهو جيل الصحابة الكرام البررة، رضي الله تعالي عنهم ورضوا عنه، فمن طعن في هؤلاء الذين شهد لهم الله تعالي، والرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهم نقلة الإسلام والقرآن الكريم والسنة المطهرة، من طعن في هؤلاء فاعلم أنه زنديق أراد أن يجرح شهودنا كما قال الإمام أبو زرعة، وإذا لعنا هؤلاء الزنادقة أتباع عبد الله بن سبأ اللعين، فإننا لا نكون خرجنا على المنهج العلمي، بل اتبعنا سنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما روى ذلك شيعي غير رافضي، وهو الحاكم في مستدركه، بسنده الذي صححه ووافقه الذهبي ـ عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أنه قال: " إن الله تبارك وتعالي اختارني، واختار لي أصحاباً، فجعل لي منهم   (1) راجع تقديمه للمختصر النافع حاشية صفحتي: ل، م وانظر هذا التقسيم في مفتاح الكرامة: كتاب التجارة ص 2، 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 878 وزراء وأنصاراً وأصهاراً، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل " (3/632) . ولا شك أن الرافضة لن يرضوا عن هذه الموسوعة، وهذا يذكرنا بقول الحق تبارك وتعالي: "" وَلَن تَرضي عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ "". يكفي إذن أن نرضي الله عز وجل، والمؤمنين من جمهور المسلمين، ومن الشيعة غير الرافضة المعتدلين غير الغلاة. هذا ما أردته، فإن كنت قد أصبت فهذا من الله جلت قدرته وعظمته، وإن كنت قد أخطأت فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ومما أمرنا بتلاوته: "" ... رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ". (سورة البقرة) . "" رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ "" (89: الأعراف) . و" سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " (الصافات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 879 الباب الأول: أصول الفقه الفصل الأول: القرآن الكريم القرآن الكريم هو المصدر الأول من مصادر التشريع الإسلامي، وهذا بلا شك لا خلاف حوله، فهو كتاب ربنا عز وجل. وفي الجزء الثاني تحدثت عن هذا المصدر بالتفصيل، حيث قسمت الجزء إلى قسمين: الأول عن القرآن الكريم وعلومه عند جمهور المسلمين، حتى نتبين الفرق بين منهجهم ومنهج الشيعة الاثنى عشرية. والقسم الثاني جعلته للحديث عن هذا المصدر عند الشيعة الجعفرية الاثنى عشرية، ومن الدراسة ظهر تأثرهم تأثراً كبيراً بعقيدتهم الباطلة في موقفهم من القرآن الكريم، ولا حاجة إلى أن نعيد الحديث مرة أخرى، ولكن أوجز هنا ما يبين منهجهم، وأثر عقيدتهم في تناولهم لهذا المصدر وأثر هذه العقيدة الباطلة ظهر فيما يأتي: أولاً: اعتبروا القرآن الكريم قرآناً صامتاً، والإمام قرآناً ناطقاً، ودوره بالنسبة للقرآن الصامت كدور النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سواء بسواء، فله بيان القرآن الكريم، وتقييد مطلقه، وتخصيص عامه، بل نسخه عند فريق منهم، وما دام القرآن الكريم صامتاً فلابد من الرجوع إلى القرآن الناطق حتى يوضح مراد الله تعالي، ولهذا قال الإخباريون من الجعفرية ـ وهم قلة: لا يجوز العمل بظاهر القرآن الكريم، وقال جمهور الجعفرية ـ وهم الأصوليون ـ بحجية الظواهر، ولكنهم قالوا: لا يجوز الاستقلال في العمل بظاهر الكتاب بلا مراجعة الأخبار الواردة عن أئمتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 880 ثانيا: لما لم يجدوا من ظاهر القرآن الكريم ما يؤيد عقيدتهم لجئوا إلى التأويل، وقالوا بباطن القرآن، وتوسعوا في القول بالباطن إلى غير ما حد حتى أن فريقاً منهم اعتبر ثلث القرآن فيهم، وثلثه في عدوهم، وبذلك أخضعوا كتاب الله العزيز لأهوائهم، وحرفوه ليصبح أقرب ما يكون إلى كتاب من كتب الفرق، ولم يفترقوا كثيراً عن الإسماعيلية الباطنية. ثالثا: غلاة الجعفرية عز عليهم أن يخلوا القرآن الكريم من نصوص ظاهرة صريحة تؤيد عقيدتهم في الإمامة، فلم يكتفوا بالتأويلات الفاسدة بل أقدموا على جريمة مدبرة، فطعنوا في الصحابة الأكرمين، وعلى الأخص الخلفاء الراشدون الذين سبقوا الإمام علياً، أرادوا من هذا الطعن الافتراء عليهم بأنهم غير أمناء على تنفيذ الشريعة ونقلها، وحفظ كتاب الله، ولذا انتهوا من هذا الطعن إلى أنهم اغتصبوا الخلافة، وحرفوا القرآن الكريم حتى لا يفتضح أمرهم، ولا يظهر حق على في الخلافة والأئمة من بعده، ووجدت المعتدلين نسبيا من الجعفرية ـ في القديم والحديث ـ قد تصدوا لهؤلاء الغلاة وكشفوا القناع عن هذا الباطل، وفندوا مزاعم القائلين بالتحريف. رابعا: الجعفرية درجات بين الاعتدال والغلو، فليسوا سواء، لذا كان لزاماً علينا الرجوع إلى كتبهم المختلفة لنرى إلى أي مدى أثرت عقيدة الإمامة عندهم في تناولهم كتاب الله تعالي. وقد رجعت إلى الكثير من كتبهم، وقدمت دراسة لستة عشر كتاباً، مقتصراً على بيان أثر الإمامة في كل منها، ووجدت أن القرن الثالث ظهر فيه ثلاثة كتب هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 881 التفسير المنسوب للإمام العسكرى _ إمامهم الحادى عشر، وتفسير العياشى والقمي، وهذه الثلاثة تمثل جانب التطرف والغلو في المذهب الجعفري، ثم يأتى شيخ طائفتهم الطوسى (المتوفي سنة 460 هـ) فيخرج كتابه " التبيان في تفسير القرآن " وهو يمثل جانب الاعتدال إلى حد ما، ثم يليه الطبرسى ـ شيخ مفسريهم ـ ورأيناه قريباً من الطوسى. والجعفرية بعد هذا إلى عصرنا- كما ظهر من دراستى لباقى كتبهم ـ منهم من سلك أحد المسلكين، ومنهم من جمع بينهما، أو اقترب من أحدهما، وإن بدا لنا أن الكتب الضالة المضلة التي رزئ بها القرن الثالث كانت أقوى أثراً من غيرها، فمنها كتاب ينسب إلى إمام، وآخر لعلى بن إبراهيم القمي الذى يوثقونه كل توثيق، وأحد تلاميذه هو الكليني صاحب كتاب الحديث الأول عندهم، وقد نقل عن شيخه القمي مئات الروايات في التحريف والتكفير وغير ذلك مما يكشف عن غلو صاحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 882 الفصل الثاني: السنة المطهرة لا شك أن السنة النبوية المشرفة هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن الكريم. وإذا كان الجزء الثاني جعلته للمصدر الأول، فإن الجزء الثالث جعلته للمصدر الثاني، وقسمته أيضاً قسمين: القسم الأول: للحديث وعلومه عند جمهور المسلمين. القسم الثاني: للحديث وعلومه وكتبه عند الشيعة الاثنى عشرية. وتناول هذا القسم بياناً مفصلاً شافياً يتضح منه موقف الشيعة والرافضة من السنة المطهرة. وظهر من هذا البيان أثر عقيدتهم الباطلة في موقفهم منها، ويبدو هذا الأثر فيما يلي: أولاً: جعلوا الإمام كالنبى المرسل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فالعصمة لهم جميعًا، والسنة قول المعصوم أو فعله أو تقريره، يستوي في هذا كله أن يكون المعصوم هو الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن يكون أحد أئمة الرافضة، وبذلك أشركوا مع الرسول الكريم المصطفي هؤلاء الأئمة، وحتى يكون الإمام مصدراً للتشريع قائماً بذاته، جعلوا له الإلهام مقابلاً للوحى بالنسبة للرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعضهم ذهب إلى بقاء الوحي مع الأئمة وإن لم ينزل بقرآن جديد. ثانيا: في مراتب الحديث: الحديث عندهم لا يرقى لمرتبة الصحيح ما لم يكن الرواة من الجعفرية الاثنى عشرية في جميع الطبقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 883 ويأتي بعد الصحيح الحسن: فيشترطون إمامية الراوى، ويقبلون رواية الإمامي غير ثابت العدالة، ويرفضون رواية غير الإمامي كائناً من كان، ويقبلون رواية الإمامي الممدوح المقدوح أحياناً بشرط ألا يكون القدح بفساد المذهب، وفساد المذهب يعنى الخروج عن الخط الجعفري الرافضي فهذا قدح لا يغتفر!! ويأتي بعد الحسن الموثق لوجود غير الجعفرية في السند، والتوثيق لا يكون إلا من الجعفرية أنفسهم. وإذا دخل في السند غير جعفري لم يوثقه الجعفرية، فالحديث ضعيف، وعلى هذا الأساس يرفضون الأحاديث الثابتة عن الخلفاء الراشدين الثلاثة، وغيرهم من أجلاء الصحابة والتابعين وأئمة المحدثين والفقهاء، ما داموا لا يؤمنون بعقيدة الإمامية الاثنى عشرية! وذكرت بعض النماذج في الجرح والتعديل عندهم، وهي تبين مدى غلوهم وضلالهم، سيأتي شيىء منها في خاتمة الكتاب من هذا الجزء. ثالثا: في الترجيح: جعلوا المشهور عندهم مقدماً على غيره، حتى قدموه على ما وافق الكتاب والسنة. وجعلوا من المرجحات مخالفة العامة، أي عامة المسلمين، فما خالف الأمة الإسلامية أولى بالقبول عندهم مما وافقها، ولعل هذا من أخطر المبادئ التي جعلت بين الجعفرية الرافضة وسائر الأمة الإسلامية هوة سحيقة عميقة، فابتعد الاثنا عشرية الرافضة كثيراً عن المنهج الإسلامي الصحيح. رابعا: في كتب السنة المعتمدة عندهم: بدراسة أصول الكافي وروضته، وجدنا أن الكليني اتخذ من السنة ـ بمفهومها عنده ـ وسيلة لإثبات عقيدته في الإمامة، ورأيه في الأئمة وما يتصفون به، ووسيلة كذلك لبيان بطلان ما ذهب إليه غير الرافضة الذين لم يأخذوا بعقيدته في الإمامة، وإنهم مهما تعبدوا فهم في النار، فعبادتهم غير مقبولة في زعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 884 الكليني، على حين أن الرافضة جميعاً بغير استثناء سيدخلون الجنة، ولا تمسهم النار مهما ارتكبوا من الموبقات والآثام، ومهما كان خطؤهم في حق الله تعالي أو في حق عباده، والكليني من أجل هذا كله رأيناه يفترى آلاف الروايات وينسبها للرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولآل بيته الأطهار. والكليني اتخذ من السنة كذلك وسيلة لتحريف كتاب الله تعالي نصاً ومعنى، وقد نهج منهج شيخه على بن إبراهيم القمي ـ صاحب التفسير الضال المضل ـ في التحريف وفي الطعن في الصحابة الكرام: نقلة الشريعة وحملة رسالة الإسلام بعد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخص بمزيد من الطعن الذين تولوا الخلافة الراشدة قبل الخليفة الرابع الإمام على رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم. والكليني أقدم على ما لا يقل خطورة وضلالاً عن القول بتحريف القرآن الكريم ونقصه، حيث افترى على الله الكذب فزعم أنه ـ جل شأنه ـ أنزل كتباً من السماء بخط إلهي تؤيد فرقته، والكليني يضمن كتابه بعض الأحداث التاريخية، ويذكرها بحسب هواه ويفسرها بما يشتهي، وبما يشبع غيه وضلاله. ويبقى من الكافي الفروع، ومن كتب الحديث المعتمدة: الفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسى، وهذه كلها تشتمل على الروايات المتصلة بالأحكام الفقهية، لذا لم نتوسع في بيان أثر الإمامة فيها؛ فالفقه خصصناه بهذا الجزء: والآراء التي تأثرت بالإمامة تعتمد بصفة عامة على ما جاء في هذه الكتب، إذن يمكن القول بأن أثر الإمامة في الفقه - يبين إلى حد كبير أثر الإمامة في فروع الكافي والكتب الثلاثة الأخرى، وعرضت مثلاً انتهيت منه إلى أن ما يقال عن أثر الإمامة في الفقه الجعفري أقل مما يقال عن أثرها في هذه الكتب الأربعة، ففي الكتب مزيد من التأثر بالغلو في عقيدة الإمامة، كما أننى نقلت كثيراً من الروايات التي افتراها أصحاب هذه الكتب في البابين التاليين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 885 الفصل الثالث: الإجماع هو المصدر الثالث من مصادر التشريع عند الجعفرية الرافضة، وقد يظن هنا إذن أنهم متفقون مع جمهور المسلمين، ولكن الواقع غير هذا لأن الإجماع عندهم في مفهومه وحجيته لا يخرج عن النطاق الجعفري وأئمة الجعفرية الاثنى عشرية: - فالإجماع عند الجمهور يعنى " اتفاق المجتهدين من أمة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في عصر من العصور بعد وفاته على حكم، وهذا التعريف: يخرج المجتهد المبتدع بما يكفر فلا يعتد بقوله وإن لم يعلم بكفر نفسه، لأنه لا يعد من الأمة، ولا يؤتمن على شئونها، أما المبتدع بما لا يكفر فالمختار دخوله فيمن يعتد بآرائهم من المجتهدين" (1) . إذن الإجماع هنا ينظر فيه إلى الأمة التي قال عنها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لا تجتمع أمتى على ضلالة" (2) . هذا بالنسبة لجمهور المسلمين، أما الجعفرية الاثنا عشرية فالإجماع عندهم يعنى شيئاً آخر، لأنهم لا ينظرون إلى المجتهدين من أمة محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإنما ينظرون إلى من دان بإمامة الأئمة الاثنى عشر، شريطة أن يكون الإجماع كاشفاً عن رأي الإمام، ما لم يكن الإمام داخلا بنفسه في المجمعين.   (1) أصول التشريع الإسلامي ص 110. (2) "حديث مشهور المتن، ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة في المرفوع وغيره" المقاصد الحسنة للسخاوى ص 460 - وللجمهور أدلة كثيرة على حجية الإجماع لسنا بحاجة إلى ذكرها أو مناقشتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 886 وكى نتبين هذا الرأي ننظر أولاً إلى حجية الإجماع عند الجعفرية. جاء في فوائد الأصول للخراسانى (3/ 52) : " اختلفت مشارب الأعلام في مدرك حجية الإجماع المحصل (1) الذي هو أحد الأدلة الأربعة: فقيل إن الوجه في حجيته دخول شخص المعصوم في المجمعين، ويحكى ذلك عن السيد المرتضى. وقيل إن قاعدة اللطف تقتضي أن يكون المجمع عليه هو حكم الله الواقعي الذي أمر المعصوم بتبليغه إلى الأنام، ويحكى ذلك عن شيخ الطائفة، وقيل إن المدرك في حجيته هو الحدس برأيه ـ أي الإمام ـ ورضاه بما أجمع عليه للملازمة العادية بين اتفاق المرءوسين المنقادين على شيىء وبين رضا الرئيس بذلك الشيء، ويحكى ذلك عن بعض المتقدمين. وقيل إن حجيته لمكان تراكم الظنون من الفتاوى إلى حد يوجب القطع بالحكم كما هو الوجه في حصول القطع من الخبر المتواتر. وقيل إن الوجه في حجيته إنما هو لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر عند المجمعين ". من هذا نرى أنهم على اختلاف مشاربهم يربطون الإجماع بالإمام بشخصه أو برأيه، وكذا بالنسبة للدليل المعتبر عندهم لا يخرج عن هذا، فهم يقولون بأن المجمعين لا يخرج الدليل الذي استندوا إليه عن السنة (بالمفهوم الجعفري) فلا   (1) الإجماع في الاصطلاح عند الجعفرية ينقسم إلى قسمين: أـ الإجماع المحصل: والمقصود به الإجماع الذي يحصله الفقيه بتتبع أقوال أهل الفتوى. ب ـ الإجماع المنقول: والمقصود به الإجماع الذي لم يحصله الفقيه بنفسه وإنما ينقله له من حصله من الفقهاء، سواء أكان النقل له بواسطة أم بوسائط، ثم النقل تارة يقع على نحو التواتر، وهذا حكمه حكم المحصل من جهة الحجية. وأخرى يقع على نحو خبر الواحد، وإذا أطلق قول الإجماع المنقول في لسان الأصوليين فالمراد منه هذا الأخير وقد وقع الخلاف بينهم في حجيته على أقوال. (أصول الفقه للمظفر 3/101) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 887 يصح أن يكون هذا الإجماع كاشفاً عن وجود دليل معتمد من أي أصل من أصول الفقه الأخرى عندهم (1) . فالجعفرية الإمامية إذن ينظرون في الإجماع إلى الإمام نفسه لا إلى ذات الإجماع، قال علامتهم الحلى: " الإجماع إنما هو حجة عندنا لاشتماله على قول المعصوم، فكل جماعة كثرت أو قلت كان قول الإمام في جملة أقوالها فإجماعها حجة لأجله لا لأجل الإجماع " (2) . وقال غيره: " أما الإجماع فعندنا هو حجة بانضمام المعصوم، فلو خلا المائة من فقهائنا عن قوله لما كان حجة، ولو حصل في اثنين لكان قولهما حجة لا باعتبار اتفاقهما بل باعتبار قوله " (3) . ومادام الإمام عندهم يعتبر معصوماً وقوله سنة، فما جدوى الإجماع إذن؟ وما الفرق بينه وبين السنة؟ يوضح هذا أحد علمائهم إذ يقول: " إن الإجماع بما هو إجماع لا قيمة علمية له عند الإمامية ما لم يكشف عن قول المعصوم ... فإذا كشف على نحو القطع عن قوله فالحجة في الحقيقة هو المنكشف لا الكاشف فيدخل حينئذ في السنة ولا يكون دليلاً مستقلاً في مقابلها. و ... لم تثبت عندنا عصمة الأمة من الخطأ وإنما أقصى ما يثبت عندنا من اتفاق الأمة أنه يكشف عن رأي من له العصمة! فالعصمة في المنكشف لا في الكاشف. وعلى هذا فيكون الإجماع منزلته منزلة الخبر المتواتر الكاشف بنحو القطع عن قول المعصوم، فكما أن الخبر المتواتر ليس بنفسه دليلاً على الحكم الشرعي   (1) انظر أصول الفقه للمظفر 3 / 97 ـ 98. (2) تهذيب الوصول ص 70، وانظر في هذا المعنى: تجريد الأصول ص 75، وزبدة البيان ص 687 والحقائق في الجوامع والفوارق ص 1/75. (3) المعتبر ص 6 ويلقبون القائل بالمحقق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 888 رأساً بل هو دليل على الدليل على الحكم، فكذلك الإجماع ليس بنفسه دليلاً بل هو دليل على الدليل. غاية الأمر أن هناك فرقاً بين الإجماع والخبر المتواتر، فإن الخبر دليل لفظي على قول المعصوم، أي أنه يثبت به نفس كلام المعصوم ولفظه فيما إذا كان التواتر للفظ، أما الإجماع فهو دليل قطعي على نفس رأي المعصوم لا على لفظ خاص له، لأنه لا يثبت به ـ في أي حال ـ أن المعصوم قد تلفظ بلفظ خاص معين في بيانه للحكم. ولأجل هذا يسمى الإجماع بالدليل اللبى، نظير الدليل العقلي، يعنى أنه يثبت بهما نفس المعنى والمضمون من الحكم الشرعي الذي هو كاللب بالنسبة إلى اللفظ الحاكى عنه الذي هو كالقشر له " (1) . إذن فالإمام هو الأساس الذى ينبنى عليه الإجماع عند الجعفرية الإمامية. ومن هنا نستطيع أن ندرك سبب نظر المحدثين - من علماء الشيعة - إلى الإجماع نظرة تباين ما كان عليه الأقدمون منهم، قال عالمهم المعاصر الشيخ مغنية: " اتفق المتقدمون على أن مصادر التشريع أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وغالوا في الاعتماد على الإجماع حتى كادوا يجعلونه دليلاُ على كل أصل وكل فرع. وعد المتأخرون لفظ الإجماع مع هذه المصادر ولكنهم أهملوه عملياً، ولم يعتمدوا عليه إلا نادراً، بل لم يعتمدوا عليه إلا منضماً مع دليل أو أصل معتبر". (2) ثم قال: " والخلاصة أن الإجماع المنقول ليس بحجة، والإجماع المحصل حجة شريطة أن يحصل من الصدر الأول إلى العصر الأخير، وقد اشتهر على ألسنة   (1) أصول الفقه للمظفر 3/92. (2) أصول الفقه للشيعة الإمامية بين القديم والحديث – بحث بمجلة رسالة الإسلام السنة الثانية– العدد الثالث، والمنقول تجده في ص 284: 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 889 رجال الدين في هذا العصر، وذهب مذهب المثل القول بأن الإجماع المنقول ليس بحجة والمحصل غير حاصل " (1) . وقال الشيخ المظفر: " على كل حال لم تبق لنا ثقة بالإجماع فيما بعد عصر الإمام في استفادة قول الإمام على سبيل القطع واليقين " (2) .   (1) المرجع السابق ص 286. (2) كتابه " أصول الفقه 3/100 ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 890 الفصل الرابع: العقل المراد بالعقل الذي اتخذوه دليلاً على الحكم الشرعي ـ ما لم يوجد دليل من كتاب أو سنة أو إجماع ـ إنما هو أحكامه المستقل بها، مثل حكمه بوجوب دفع الضرر، واستحالة الترجيح بلا مرجح، وبقبح العقاب بلا بيان. ومما استدلوا عليه بالأول وجوب النظر والمعرفة، لأن ترك النظر ـ وكذلك ترك المعرفة ـ موجب للخوف وهو ضرر، ودفع الضرر واجب بالضرورة. وبالثاني على التخيير عند تعارض الأدلة مع عدم المرجح. وبالثالث على الحكم بإباحة ما لم يعلم من الشرع حرمته كالحكم بإباحة شرب القهوة لعدم ورود بيان من الشارع، وقبح العقاب بلا بيان ضروري (1) . وهذا الدليل ينبني على أساس التحسين والتقبيح العقليين، باعتبار أن الأشياء لها حسن ذاتي أو قبح ذاتي يمكن إدراكه بالعقل كالعدل والظلم، وكالصدق والكذب. " فإن العدل بما هو عدل لا يكون إلا حسناً أبداً: أي أنه متى ما صدق عنوان العدل فإنه لابد أن يمدح عليه فاعله عند العقلاء ويعد عندهم محسناً، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون إلا قبيحاً، أي أنه متى صدق عنوان الظلم، فإن فاعله مذموم ويعد مسيئاً " (2) ، " والصدق بما هو صدق فيه اقتضاء التأثير فى إدراك العقلاء بأنه مما ينبغى أن يفعل، ويمدحون فاعله عليه بخلاف الكذب فإنه مذموم لديهم. ولكن هذا التأثير لا يتم عادة مع وجود مزاحم له يمنع من تأثيره نظراً لأهميته كأن يكون فى الصدق ما يوجب قتل النفس المحترمة، أو انتهاك عرض، أو تسلط ظالم على مؤمن، وهكذا (3) .   (1) انظر الحقائق في الجوامع والفوارق جـ 1 ص 78. (2) الأصول العامة للفقه المقارن ص 286 (نقلاً عن أصول الفقه للمظفر) . (3) الأصول العامة للفقه المقارن ص 287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 891 وإذا كنا ندرك علاقة الحسن بالمصلحة، والقبح بالمضرة، أفيعنى هذا أن الشيعة يأخذون بالمصلحة؟ يقول أحد علمائهم المعاصرين (1) في تلخيص وتعقيب بعد دراسة مقارنة للمصالح المرسلة: إن تعاريف المصالح المرسلة مختلفة، فبعضها ينص على استفادة المصلحة من النصوص والقواعد العامة، ومقتضى هذا النوع من التعاريف إلحاقها بالسنة، والاجتهاد فيها إنما يكون من قبيل تحقيق المناط بقسمه الأول، أي تطبيق الكبرى على صغراها بعد التماسها أي الصغرى ـ بالطرق المجعولة من الشارع لذلك، ولا يضر في ذلك كونها غير منصوص عليها بالذات، إذ يكفي في إلحاقها بالسنة دخولها تحت مفاهيمها العامة. وأما على تعاريفها الأخرى فينحصر إدراكها بالعقل. والذي ينبغى أن يقال عنها أنها تختلف من حيث الحجية باختلاف ذلك الإدراك، فإن كان ذلك الإدراك كاملاً – أي إدراكاً للمصلحة بجميع ما يتعلق بها في عوالم تأثيرها في مقام جعل الحكم لها من قبل المشرع – فهي حجة. ورفض الأخذ بالمصلحة إذا لم يكن إدراك العقل لها كاملاً، كأن يدركها مع احتمال وجود مزاحم لها يمنع من جعل الحكم. وانتهي إلى قوله: " وبهذا يتضح أن الشيعة لا يقولون بالمصالح المرسلة إلا ما رجع منها إلى العقل على سبيل الجزم " (2) . ومما يتصل بهذا الأصل الرابع فتح الذرائع وسدها، حيث يعتبرون فتحها وسدها تابعاً للعقل أو السنة، " لأن اكتشاف حكم المقدمة إما أن يستفاد من العقل   (1) هو الشيخ محمد تقى الحكيم أستاذ الأصول والفقه المقارن في كلية الفقه بالنجف، انظر المصالح المرسلة في كتابه " الأصول العامة للفقه المقارن " ص 381-402 وانظر تلخيصه وتعقيبه ص 402-404. (2) ص 404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 892 بقاعدة الملازمة، بمعنى أن العقل يحكم بوجود ملازمة بين الحكم على شيىء والحكم على مقدمته، فإذا علمنا أن الشارع قد حكم على ذى المقدمة بالوجوب فقد علمنا بحكمه على المقدمة كذلك، وعندها تكون من صغريات حكم العقل وليست أصلاً برأسه، وإما أن يستفاد من طريق الملازمة اللفظية، أي من الدلالة الالتزامية لأدلة الأحكام، كما هو مبنى فريق بدعوى أن اللفظ الدال على وجوب الصلاة هو بنفسه يدل على لازمه وهو وجوب مقدماتها، وعليها يكون وجوب المقدمات مدلولاً للسنة، فتكون المسألة من صغريات دليل السنة " (1) . ويدخل تحت هذا الأصل كذلك الاستصحاب، ويعللون هذا بقولهم: "وجود الشيء في الحال يقتضي ظن وجوده في الاستقبال لقضاء العقل بذلك في أكثر الوقائع، ولأن الأحكام الشرعية مبنية عليه لأن الدليل إنما يتم لو لم يتطرق إليه المعارض من نسخ وغيره، وإنما يعلم نفي المعارض بالاستصحاب " (2) . أما القياس فقد رفضوا الأخذ به إلا ما كان منصوص العلة، وهم لا يرونه قياساً وإنما يرون ذلك من دليل العقل لحكمه بوجوب وجود الشيىء عند وجود علته، وما عدا ذلك من قياس الشبه وأمثاله فلا يعتبرونه من حكم العقل، ويرون أنه لا دليل على الأخذ به، وأن روايات أئمتهم كثيرة في المنع عنه. (3) وهناك قسم آخر اعتبره بعضهم من دليل العقل وهو ما يتوقف فيه على الخطاب وهو ثلاثة: فحوى الخطاب ولحن الخطاب ودليل الخطاب (4) (5)   (1) الأصول العامة للفقه المقارن ص 415. (2) تهذيب الوصول ص 105. (3) انظر: الحقائق في الجوامع والفوارق جـ 1 ص 79، وانظر مناقشة الشيخ أبوزهرة لأدلتهم في كتابه الإمام الصادق ص 515 وما بعدها. (4) انظر المعتبر ص 6، وأصول الفقه للمظفر 3/109. ولحن الخطاب: هو أن تدل قرينة عقلية على حذف لفظ. وفحوى الخطاب: يعنون به مفهوم الموافقة. * *ودليل الخطاب: يراد به مفهوم المخالفة. وهذه كلها تدخل في حجية الظهور، ولا علاقة لها بدليل العقل المقابل للكتاب والسنة. (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 893 وفي أصول الفقه للمظفر (3 / 19) قال المؤلف: " من تصريحات المحقق والشهيد الأول يظهر أنه لم تتجل فكرة الدليل العقلي في تلك العصور، فوسعوا في مفهومه إلى ما يشمل الظواهر اللفظية مثل: لحن الخطاب و000 إلخ ". والمحقق توفي سنة 676 هـ، والشهيد الأول توفي سنة 786 هـ. والجعفرية الاثنا عشرية ـ كما ذكرنا من قبل ـ ينقسمون إلى أصوليين وهم الكثرة الغالبة، وإخباريين وهم قلة قليلة، والذين اتخذوا من العقل دليلاً بعد الأدلة الثلاثة هم الأصوليون، أما الإخباريون فإنهم يأبون تحكيم العقل في الأمور الشرعية، ويكتفون بما ورد عن أئمتهم في كتب الحديث الأربعة. هذا هو الدليل الرابع عند الجعفرية الاثنى عشرية، وأثر الإمامة هنا لا يبدو واضحاً كما رأينا في الأدلة الثلاثة، ولكن يمكن القول بأن الإخباريين عندما رفضوا الأخذ بهذا الدليل تأثروا بعقيدتهم في الإمامة حيث اكتفوا بما ورد عن الأئمة. وهذا الاتجاه يتفق مع ما يراه جمهور الجعفرية من عدم الاجتهاد في زمن الأئمة حيث يرجع إليهم، وأقوالهم ليست اجتهاداً ـ في نظر الجعفرية ـ وإنما سنة كسنة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سبق بيانه، غير أن الإخباريين استمروا في المنع من الاجتهاد بعد عصر الأئمة، بل قالوا: " بالمنع عن الاحتياج إلى علم الأصول والمنع عن تدوينه، بل عن بعضهم أنه بدعة محرمة ". وقالوا: " إن هذا العلم مما أحدثه العامة – أي جمهور المسلمين- فسرى منهم إلى أصحابنا الإمامية في زمن الغيبة، ولم يكن يعرفه أصحاب الأئمة. فلولا أنه من البدع المستحدثة والطرق المخترعة الممنوع عنها في الشريعة لما أهمل بيانه أهل العصمة " (1) .   (1) الحاشية على الكفاية 2/211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 894 ولعل أهم ترابط بين الإمامة والعقل عند الجعفرية جميعاً أنهم حاولوا إثبات عقيدتهم في الإمامة بالعقل حتى " كانت الحركة الإخبارية تستبطن في رأي كثير من ناقديها تناقضاً، لأنها شجبت العقل من ناحية لكى تخلى ميدان التشريع والفقه للبيان الشرعي، وظلت من ناحية أخرى متمسكة به لإثبات عقائدها الدينية ". (1) وعقيدة الجعفرية الاثنى عشرية في الإمامة لم تثبت بالكتاب والسنة، بل ثبت خلاف ما ذهبوا إليه كما رأينا في الجزء الأول. إذن لا يمكن أن تثبت هذه العقيدة بالعقل، فلسنا في حاجة إلى مناقشة ما اعتبروه إثباتاً للإمامة بدليل العقل (2) .   (1) المعالم الجديدة للأصول: ص 45. (2) انظر مناقشة ابن تيمية لهم، ففيها إقناع وإمتاع: المنتقى ص 25 ـ 34، وص 482 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 895 الباب الثاني: العبادات الفصل الأول: الطهارة أولاً: حكم سؤر الآدمى أجمعت المذاهب الأربعةعلى طهارة سؤر الآدمى مسلماً كان أو كافراً (1) فالآدمى طاهر، ورأي الإماميون أن سؤر الكافر نجس، لأن الكافر ذاته نجس، وتوسعوا في مفهوم الكفر فحكموا بكفر كثير من المسلمين، بل كفر كل من لا يدين بدين الرافضة كما مر وسيأتى. استدل الشيعة الرافضة بقوله تعالي في سورة التوبة: "" إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا "" (الآية 28) . فالمشركون أنجاس، والنجاسة عينية لا حكمية. وردوا على من قال: إن كونهم نجساً أنهم لا يغتسلون من الجنابة، ولا يجتنبون النجاسات، أو كناية عن خبث أبدانهم سبعين مرة لم يزيدوا إلا نجاسة. وما دام المشركون أنجاساً، فأسآرهم نجسة تبعاً لذلك، ولا فرق بينهم وبين باقى الكفار، فإن كل من قال بنجاستهم عيناً قال بنجاسة كل كافر، وأهلالذمة مشركون لقوله تعالي: "" وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ. " إلى قوله تعالي: " سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " وكل مشرك نجس بالآية (2) .   (1) راجع المبسوط 1/47، والأم 1/5، وحاشية الدسوقى 1/44، والمغنى 1/43. (2) انظر كنز العرفان في فقه القرآن ص 21-22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 896 ورووا عن الإمام الصادق أنه سئل عن سؤر اليهودي والنصراني، فقال: " لا ". ورووا كذلك عنه أنه كره سؤر ولد الزنى، وسؤر اليهودي والنصراني والمشرك وكل من خالف الإسلام، وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصب (1) . وقد وافق الظاهرية الإمامية في الحكم بنجاسة المشركين نجاسة عينية، مستدلين بالآية الكريمة، وبحديث إنزاله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد ثقيف المسجد، وتقريره لقول الصحابة: قوم أنجاس، لما رأوه أنزلهم المسجد، وقوله لأبى ثعلبة لما قال له: يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل الكتاب أفناكل في آنيتهم؟ قال: " إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها " (2) . ويجاب عن ذلك كله بأن المراد من الآية الكريمة أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار، والحجة على صحة هذا التأويل: أن الله سبحانه أباح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن، ومع ذلك فلا يجب من غسل الكتابية إلا مثل ما يجب عليهم من غسل المسلمة. وحديث إنزال وفد ثقيف صريح في نفي النجاسة الحسية لا في إثباتها، فبعد قول الصحابة قوم أنجاس، قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " ليس على الأرض من أنجاس القوم شيء، إنما أنجاس القوم على أنفسهم ". وحديث أبى ثعلبة الأمر فيه بغسل الآنية ليس لتلوثها برطوباتهم بل لطبخهم الخنزير وشربهم الخمر فيها، يدل على ذلك ما عند أحمد وأبى داود من حديث أبى ثعلبة أيضاً بلفظ: " إن أرضنا أرض أهل الكتاب، وإنهم يأكلون لحم الخنزير، ويشربون الخمر، فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟ " وحديثه الأول مطلق، وهذا مقيد بآنية يطبخ فيها ما ذكر، ويشرب، فيحمل المطلق على المقيد، ويجوز حمله على كراهية الأكل في آنيتهم للاستقذار لا لكونها   (1) انظر الاستبصار 1 / 18. والوسائل 1 / 224. (2) انظر نيل الأوطار 1 / 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 897 نجسة، إذ لو كانت نجسة لم يجعله مشروطاً بعدم وجدان غيرها، إذ الإناء المتنجس بعد إزالة نجاسته هو وما لم يتنجس على سواء. وقد ثبت في الصحيحين أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ من مزادة مشركة، وربط ثمامة بن آثال ـ وهو مشرك ـ بسارية من سوارى المسجد. وأكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر. وأكل من الجبن المجلوب من بلاد النصارى، كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر، وأكل من خبز الشعير والإهالة (1) لما دعاه إلى ذلك يهودى ويستدل كذلك بتحليل طعام أهل الكتاب ونسائهم بآية المائدة، وهي آخر ما نزل، وإطعامه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه للوفد من الكفار من دون غسل الآنية ولا أمر به. فلو حرمت رطوبتهم لاستفاض بين الصحابة نقل توقيهم لها، لقلة المسلمين حينئذ، مع كثرة استعمالاتهم التي لا يخلو منها ملبوس ومطعوم، والعادة في مثل ذلك تقتضى بالاستفاضة. (2) وقد رد هذه الأدلة أحمد بن يحيى بن المرتضى في كتابه البحر الزخار (1/13) بقوله: (دليلنا أصرح لقوله تعالي: "" فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسجدَ الْحَرَامَ ""، ولأنها بعد الفتح فنسخت ما قبلها) . ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن الأدلة صريحة في نفي النجاسة العينية، مما دل على صحة تأويل الآية الكريمة، وأما دعوى النسخ فيعارضها آية المائدة، حيث لا نسخ بينهما، وهي صريحة في نفي النجاسة، فبتأويل آية التوبة يمكن الجمع بينها وبين آية المائدة، والأحاديث الموافقة لحكمها دون اضطرار لادعاء النسخ.   (1) الإهالة: الشحم والزيت وكل ما ائتدم به. (2) انظر نيل الأوطار 1/25-26 وسبل السلام 1 / 31: 33، وصحيح البخارى: كتاب الصلاة: باب دخول المشرك المسجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 898 وأما استدلال الإمامية بروايتهم عن الإمام الصادق، فالرواية الأولى تناقضها رواية أخرى عن الإمام نفسه أنه سئل عن الرجل هل يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب فيه على أنه يهودى، فقال: نعم، قيل: من ذلك الماء الذي يشرب منه، قال: نعم (1) . وحاول شيخ الطائفة الطوسى أن يوفق بين الروايتين فقال: " فالوجه في هذا الخبر أن نحمله على من يظن أنه كافر ولا يعرف على التحقيق، فإنه لا يحكم له بالنجاسة إلا مع العلم بحاله، ولا يعمل فيه على غلبة الظن، أو يحمل على من كان يهوديا فأسلم، فإنه لا بأس باستعمال سؤره ويكون حكم النجاسة زائلاً عنه " (2) . والرواية فيها تكرار للاستفسار، وتأكيد لإثبات الطهارة، فلو كانت المسألة مبنية على الظن لوضحها الإمام، واليهودى الذي يسلم لا يسمى يهودياً بل مسلماً. رأي صاحب وسائل الشيعة أن الخبر يمكن حمله على التقية. وقد روى عن الإمام مالك أنه قال " لا يتوضأ بسؤر النصرانى ولا بما أدخل يده فيه " (3) فلا حاجة إذن إلى التقية. ولو صحت الروايات الثلاثة عن الإمام الصادق، لأمكن تخريج الرواية الأولى على الكراهية حملاً لها على الرواية الثانية، ففيها النص بالكراهية، كما أن الجواز المفهوم من الرواية الثالثة لا يتعارض مع الكراهية، فلا تتعارض الأخبار، دون لجوء إلى تخريجات الطوسى والعاملى. فلا دليل في هذه الروايات على نجاسة الكافر وسؤره، وإن كنا نرى أن الرواية الثانية لا يمكن بحال أن تكون صادرة من الإمام الصادق؛ فلا يعقل أن ينزل إلى هذا الدرك الأسفل فيرى أن   (1) انظر الاستبصار 1/18، والوسائل 1/224. (2) الاستبصار 1/18. (3) انظر المدونة 1/14، والمذهب المالكى على خلاف هذا كما هو معلوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 899 سؤر الناصب من المسلمين أشد كراهية من سؤر اليهودى والنصرانى والمشرك وكل من خالف الإسلام. وهناك روايات أخرى عن الإمام الصادق تفيد طهارة أهل الكتاب، فقد سئل عن مؤاكلة اليهود والنصارى؟ قال: لا بأس إذا كان من طعامك. وعن زكريا بن إبراهيم أنه قال: كنت نصرانياً، فأسلمت فقلت للإمام الصادق: إن أهل بيتى على دين النصرانية، فأكون معهم في بيت واحد، وأكل من آنيتهم. فقال لى: أيأكلون لحم الخنزير؟ قلت لا. قال: لا بأس. وقيل للإمام الرضا حفيد الإمام الصادق: الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من جنابة. قال: لا بأس، تغسل يدها. إلى غير ذلك من الروايات (1) .   (1) انظر فقه الإمام جعفر الصادق للشيخ محمد جواد مغنية ص 31-33، وقد ذكر الروايات السابقة، وقال بأن القول بالطهارة ذهب إليه بعض من تقدم وجماعة ممن تأخر منهم صاحب المدارك والسبزوارى، وآخرون متسترون. وقال " أحدث القول بنجاسة أهل الكتاب مشكلة اجتماعية للشيعة، حيث أوجد هوة سحيقة عميقة بينهم وبين غيرهم، وأوقعهم في ضيق وشدة، خاصة إذا سافروا إلى بلد مسيحى كالغرب، أو كان فيه مسيحيون كلبنان، وبوجه أخص فى هذا العصر الذى أصبحت فيه الكرة الأرضية كالبيت الواحد، تسكنه الأسرة البشرية جمعاء. وليس من شك أن القول بالطهارة يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية السهلة السمحة، وأن القائل بها لا يحتاج إلى دليل، لأنها وفق الأصل الشرعي والعقلي والعرفي والطبيعى، أما القائل بالنجاسة فعليه الإثبات ". وناقش أدلة القائلين بالنجاسة، ونقضها، وعقب بقوله: " وعليه فلا دليل على النجاسة من نص، ولا إجماع، ولا عقل. ومازلت أذكر أن الأستاذ قال في الدرس ما نصه بالحرف: (إن أهل الكتاب طاهرون علمياً ـ أي نظرياً ـ نجسون عملياً) ، وأنى أجبته بالحرف أيضاً: (هذا اعتراف صريح بأن الحكم بالنجاسة عمل بلا علم) ، فضحك الأستاذ ورفاق الصف، وانتهي كل شيء. وقد عاصرت ثلاثة مراجع كبار من أهل الفتيا والتقليد، الأول كان في النجف الأشراف، وهو الشيخ محمد رضا آل يس، والثاني في قم، وهو السيد صدر الدين الصدر، والثالث في لبنان، وهو السيد محسن الأمين، وقد أفتوا جميعاً بالطهارة، وأسروا بذلك إلى من يثقون به، ولم يعلنوا خوفاً من المهوشين، على أن يس كان أجرأ الجميع* *وأنا على يقين بأن كثيراً من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة، ولكنهم يخشون أهل الجهل، والله أحق أن يخشوه ". وقد سألت السيد كاظم الكفائى عما سبق، فقال ـ دون أن يكتب ـ بأن الإمام الغطاء أفتى بالطهارة لخاصته. فقلت له: ولم لم يعلن ذلك؟ فقال: إن عقول العامة لا تحتمله ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! وهكذا يضيع العلم، ويفترى على الإسلام، لأن أناساً ائتمنوا على العلم فضيعوه وزيفوه، لأنهم يخشون الناس ولا يخشون الله. وإذا كان الشيخ مغنية قد كتب ما كتب فإنها جرأة فى الحق، ساعد عليها وجوده بلبنان، وهذا بالنسبة لأهل الكتاب ـ الذين قيل في حقهم فى القرآن الكريم ما قيل وبالذات اليهود ـ فما بالنا بالمسلمين الموحدين الأتقياء البررة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 900 ومع أن الأدلة تؤيد المذاهب الأربعة، إلا أن الخلاف بينها وبين الإمامية حول نجاسة المشرك والكافر خلاف مبنى على تعقل وتفكر، ونظر واستدلال من الجانبين، وفلو اقتصر الخلاف حول ذلك لهان الخطب، ولكن الإمامية في تحديدهم لمفهوم الكافر خرجوا كلية عن نصوص الإسلام وروحه إلى جهل الطائفية وعصبيتها الحمقاء، فحكموا بكفر الخوارج والغلاة والنواصب. وإذا كان الغلاة قد اشتطوا في آرائهم فخرجوا عن الإسلام، وإذا كان الخوارج قد كفروا سائر المسلمين، واستحلوا دماءهم وأموالهم فاستحقوا بذلك اللعنة، فمن أولئك النواصب الذين حكم عليهم بالكفر من الإمامية؟ رووا عن الإمام الصادق أنه قال: " ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت، لأنك لا تجد رجلاً يقول أنا أبغض محمداً أو آل محمد، ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولوننا، وأنكم من شيعتنا ". ورووا عن الإمام على الهادى (1) أن أحدهم كتب إليه يسأله عن الناصب: "   (1) هو إمامهم العاشر، اعتبروه إماماً وهو في الثامنة من عمره! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 901 هل أحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت (1) واعتقاد إمامتها؟ " فرجع الجواب: " من كان على هذا فهو ناصب " (2) . وبهذا يصبح كل المسلمين غير الرافضة نواصب أي كفاراً، نقلنا من قبل بعض الروايات التي عقب عليها المامقانى بقوله بأن غاية ما يستفاد منها جريان حكم الكافر والمشرك في الآخرة على من لم يكن اثنى عشريا (3) . وفي ظلمات هذا الجهل والزندقة نظم محمد باقر الطباطبائى منظومة منها: فمذهب الصادق خير مذهب ... وهو وبيت الله أولى بالنبى ذخرت حبى لهم ليوم لا ... ينفع للمرء سوى ما عملا وما أخذتم منهم وعنهم ... بل اتبعتم من هم دونهم حتى انتهي الأمر إلى التقليد في ... شرايع الدين القويم الحنفي قلدتم النعمان أو محمداً ... أو مالك بن أنس أو أحمداً فهل أتى الذكر به أو أوصى ... به النبى أو وجدتم نصاً (4) وعنوان كتابه هو: " الشهاب الثاقب في رد ما لفقه الناصب " (5) فأهل السنة جميعاً في رأيه نواصب. (6)   (1) يقصد السائل - لعنه الله ومن وافقه - بالجبت والطاغوت من أقاما دولة الإسلام بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهما الصديق والفاروق أفضل المسلمين قاطبة بعد الرسول الكريم كما قال الإمام على نفسه. ولذا نعتقد في مثل هذا الخبر أنه من وضع غلاة الشيعة الرافضة الزنادقة. (2) انظر الروايتين في تنقيح المقال ص 207، وفي وسائل الشيعة كما سيأتى. (3) راجع ص 65 من كتابى فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة جـ 1. (4) الشهاب الثاقب ص 119. (5) قيل في وصف مؤلفه: " العلامة حجة الإسلام وملاذ الأنام "! والإسلام براء منه ومن أمثاله وممن أثنى عليه. (6) فما رأي دعاة التقريب؟ ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 902 وقال صاحب مفتاح الكرامة: " إن الذى يظهر من السير والتواريخ أن كثيراً من الصحابة في زمن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعده وأكثر أهل مكة وغيرهم، كانوا في أشد العداوة لأمير المؤمنين، وذريته. مع أن مخالطتهم ومساورتهم لم تكن منكرة عند الشيعة أصلا ولو سراً ". يفهم من هذا أن هناك إشكالاً: فكيف أباح الشيعة مخالطة هؤلاء مع أنهم نجس لكفرهم بسبب هذا العداء؟ أجاب صاحب الكتاب عن هذا بقوله: " الحاصل أن طهارتهم مقرونة إما بالتقية، أو الحاجة وحيث ينتفيان فهم كافرون قطعا "! (1) فأكثر الصحابة، وغيرهم من السلف الصالح رضوان الله عليهم، ومن تبعهم بإحسان في نظر هؤلاء الرافضة، يعدون كافرين! وبعض الإمامية يرى أن النواصب هم الخوارج فقط، وبعضهم يرى أنهم المبغضون لأمير المؤمنين على وجه التدين به أو المتظاهرون بهذا البغض، إلى غير ذلك من الآراء! (2) . وحاول بعض الكتاب المعاصرين من الشيعة الإمامية أن يحدوا من سورة المغالين فقال بعضهم: " إن بين أهل السنة وبين الناصب بوناً شاسعاً، فأهل السنة لا ينصبون العداء لعلى وذريته " (3) . وقال آخر: الناصب في الحقيقة عبارة عمن ينصب العداوة لعلى ويظهرها، لا من يخالفه في الخلافة والفضيلة بحيث يشتهر في الشيعة بأنه ناصب. فمن ذكرهم صاحب مفتاح الكرامة لا يعدون كذلك، لأنهم لم يكونوا مشتهرين بهذا، ولا نجد في كل عصر من الأعصار إلا نفراً قليلاً.   (1) انظر ص 145 من الكتاب المذكور ـ كتاب الطهارة، ونكرر: ما رأي دعاة التقريب؟ (2) انظر مفتاح الكرامة ـ كتاب الطهارة ص 144 ـ 145. (3) انظر الدعوة الإسلامية ص 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 903 وعقب على الرواية المنسوبة للصادق " ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت 00 إلخ " قال: وحيث إن هذا المعنى موجود في أغلب المخالفين فلا محالة لا يكون النصب بهذا المعنى محكوماً بالنجاسة، وإنما يكون الموجب للنجاسة من يكون معلنا بالعداوة، وهم قليلون في كل عصر، ومعروفون بالنصب عند الشيعة، ولا دليل على مساورة الشيعة أو أئمتهم معهم، بل الأمر كان على العكس، فلقد كان معاوية من الناصبين ومن الذين يضمرون الشرك بالله تعالي ... وقد نقل أن ابن خلدون كان ناصباً (1) . هذه آراء متباينة، وأقوال متضاربة، ولا غرو، فهي مبنية على غير أساس من الشريعة أو العقل، وما ينسبونه لأئمتهم في هذا كذب وبهتان. وإذا كان لمثل هذه الآراء المنحرفة متنفس بين الشيعة وهم منعزلون عن سائر الأمة الإسلامية، فالواجب أن يقضى عليها الآن وهم يحاولون أن يجعلوا من طائفتهم مذهباً خامساً، فأولى بهم أن يطهروا أنفسهم أولاً من هذه الأدران قبل أن يلتصقوا بجسم الأمة الإسلامية. وأكرر هنا ما قاله محمد جواد مغنية، وهو يبين طهارة أهل الكتاب: " وأنا على يقين بأن كثيراً من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة، ولكنهم يخشون أهل الجهل والله أحق أن يخشوه ".   (1) انظر دليل العروة الوثقى 1/446-468، ولا أدرى كيف حكم على معاوية بأنه يضمر الشرك؟! وكيف يصل بهم التعصب والجهل والحمق إلى الحكم بنجاسة رائد من روادنا كابن خلدون؟ راجع كتاب تطهير الجنان واللسان عن الخطور والتفوه بثلب سيدنا معاوية بن أبى سفيان للمحدث أحمد بن حجر الهيتمى المكى (ملحق بكتاب الصواعق المحرقة للمؤلف) وراجع أيضاً كتاب عبد الرحمن بن خلدون للدكتور على عبد الواحد وافي، واقرأ فيه: إسفاف خصومه في حملاتهم عليه، وآراء المنصفين من معاصريه في حقه ص 126 وما بعدها. وهذا مع بعده عن الإسلام قول المعتدلين نسبيا، أما روايات الكتب المعتمدة عندهم تؤيد الغلاة الضالين الزنادقة الذين اتبعوا ابن سبأ اللعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 904 وفي كتاب وسائل الشيعة (1/96:90) تحت باب " بطلان العبادة بدون ولاية الأئمة، واعتقاد إمامتهم " يذكر تسعة عشر حديثاً في وجوب الإمامة، وكفر من لا يقول بها، ووجوب الرجوع في جميع الأحكام إلى الإمام، وإن ذلك شرط الايمان. فالتكفير إذن لا يتعلق بنصب العداء فقط، وإنما يتعداه ليشمل كل أمة الإسلام، خير أمة أخرجت للناس، ماداموا ليسوا من الرافضة الذين يرفضون إمامة الشيخين أبى بكر وعمر، ويرفضون القول بعدم تكفيرهما، وهما كما ثبت متواتراً خير البشر بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وما جاء هنا يتفق مع ما ذكرناه من قبل عند الحديث عن تفسير الحسن العسكرى وعلى بن إبراهيم القمي، والكافي للكلينى، وغيرها من كتب الكفر والضلال، ولذلك فهو ينقل منها ومن أمثالها، ويكثر النقل من كتاب الكافي كما يبدو لمن يقرأ الوسائل. والأخبار كلها تدور حول المعنى المراد من الباب، وضعها المفترون من غلاة الرافضة الضالين. وأعود هنا لتأكيد ما ذكرته من قبل من أن الغلو والضلال والكفر إنما هو للرواة وأصحاب الكتب الذين أرادوا أن يهدموا الإسلام من الداخل بتكفير نقلة الشريعة، وحملة الرسالة من خير البشر بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أما الإمام الصادق الذي يكثرون من نسبة الأقوال إليه، وغيره من الأئمة الأطهار الأبرار، فهم بريئون من هذه الأباطيل والمفتريات. وأذكر أن أحد الكتاب قابل هذا الغلو والضلال بمثله، فذكر خبراً من الأخبار التي وضعها غلاة الرافضة وزنادقتهم، غير أنه أثبت القول للإمام الصادق نفسه ـ وحاشاه ـ حيث قال: " قال صادقهم الكذب: "، وهذا ضلال لا يصح أن يصدر من مسلم، فالإمام الصادق ـ رضي الله عنه ـ أجل قدراً وأعظم منزلة من أن ينسب إليه الكذب، ولقد عبرت عن أسفي وحزنى، وذكرت هذا لشيخى الإمام محمد أبو زهرة ـ رحمه الله ـ فغضب غضباً شديداً، وعجب كيف يجرؤ أي مسلم على اتهام الإمام الصادق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 905 وفي مواضع أخرى من كتاب وسائل الشيعة نجد كثيراً من روايات غلاة الرافضة وزنادقتهم. ففي الجزء الأول (ص 158: 159) باب " كراهة الاغتسال بغسالة الحمام مع عدم العلم بنجاستها، وأن الماء النجس لا يطهر ببلوغه كراً ". وتحت الباب خمس روايات، كلها تذكر نجاسة الناصب، وأنه شر من غيره من النجاسات، ومن كل من خلق الله تعالي. وينسبون هذا الكفر والزندقة للأئمة الأطهار. فينسبون إليهم أنهم قالوا: " إن الله تعالي لم يخلق خلقاً شراً من الكلب، وإن الناصب أهون على الله تعالي من الكلب، وإن الله تعالي لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، وإن الناصب لأنجس منه "!! وفي ص 165 باب " نجاسة أسآر أصناف الكفار "، وفي الباب أن الناصب أشد من اليهودى، والنصرانى والمشرك وكل من خالف الإسلام!! وفي الجزء الثاني (ص 1018: 1021) باب نجاسة الكافر ولو ذمياً ولو ناصبياً. وبعد ذكر الروايات أشار المؤلف إلى ما سبق في الجزء الأول من نجاسة الناصب وغيره. ونحن لا نزال في بداية الفصل الأول من دراسة الفقه، بعد أن مررنا بالعقائد والأصول، نتساءل: ما الرأي في دعوة دار التقريب بالقاهرة لجعل الذين يأخذون فقههم من كتاب " وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة " لجعل هؤلاء القوم مذهباً خامساً يضاف للمذاهب الأربعة لأهل السنة؟ وما الرأي في فتوى الشيخ شلتوت ـ غفر الله تعالي له ـ بجواز التعبد بمذهب هؤلاء القوم؟ أكان يعلم هذه البلايا والرزايا عندما أفتى؟ أم أنه لم يقرأ وأخذ علمه بهم من أفواه من يدينون بالتقية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 906 وما الرأي فيما ذكر من كلام الشيخ الباقورى من أن الخلاف بينهم وبين المذاهب الأربعة كالخلاف بين أي مذهب وباقى المذاهب؟! ونكتفي هنا بالتساؤل دون إجابة أو تعقيب، والله عز وجل يحفظ دينه. ثانياً: اعتبار المذى والودى من موجبات الوضوء أجمعت المذاهب الأربعةعلى اعتبار المذى والودى من موجبات الوضوء (1) ، وخالفهم في ذلك الإمامية الرافضة. استدل الإمامية بروايات عن أئمتهم تفيد ما ذهبوا إليه. وبحديث عن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أن علياً كان رجلاً مذاء، فاستحيا أن يسأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكأن فاطمة، فأمر المقداد أن يسأله وهو جالس، فسأله، فقال له النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ليس بشيء (2) . وورد عن طريقهم أيضاً ما يعارض رأيهم فحملوه على التقية أو الاستحباب أو غير ذلك. من هذا ما رووه عن أحد أئمتهم أنه سئل عن المذى أينقض الوضوء؟ قال: إن كان من شهوة نقض (3) . فحمله شيخ الطائفة الطوسى على الاستحباب، ولكن نلاحظ أن كلمة " نقض " تنفي هذا الاحتمال، لأن النقض يوجب التطهر.   (1) انظر: المبسوط 1/67، المدونة 1/10، الأم 1/33 المغنى 1/165. (2) انظر: وسائل الشيعة 1/261-262 والاستبصار ص 91 جـ 1 وانظر كتاب الخلاف للطوسى 1 / 24. (3) انظر المرجعين السابقين: الأول ص 263، والثانى ص 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 907 ورووا عن أبى عبد الله أنه قال: ثلاث يخرجن من الإحليل، وهن المنى وفيه الغسل والودى فمنه الوضوء لأنه يخرج من دريرة البول. قال: والمذى ليس فيه وضوء، إنما هو بمنزلة ما يخرج من الأنف. (1) وأعجب تخريج لهذه الرواية هو حملها على التقية، فذلك الذي خاف على نفسه فقال تقية: إن الودى ينقض الوضوء، كيف ذهب عنه الروع وهو يخالف جمهور المسلمين بقوله: والمذى ليس فيه وضوء. إنما هو بمنزلة ما يخرج من الأنف. وحديث المقداد ـ الذي سبق ـ ورد عن طريقهم برواية خرى ـ هي " عن على - عليه السلام - قال: كنت رجلاً مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكان فاطمة عليها السلام بنته، لأنها عندى، فقلت للمقداد يمضى ويسأله، فسأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآله وسلم عن الرجل الذي ينزل المذي من النساء، فقال: يغسل طرف ذكره وأنثييه، وليتوضأ وضوءه للصلاة " (2) . وهذه الرواية توافق الرواية التي احتج بها أهل السنة، فقد روى عن " المقداد ابن الأسود أن على بن أبى طالب أمره أن يسأل له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذى، ماذا عليه؟ قال على: فإن عندى ابنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا استحى أن اسأله. قال المقداد: فسألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: إذا وجد ذلك أحدكم فلينضح فرجه، وليتوضأ وضوءه للصلاة " (3) .   (1) انظر الوسائل 1/263-264. (2) انظر وسائل الشيعة جـ 1: المستدرك ص 265. (3) أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الطهارة: باب الوضوء من المذى. وانظر صحيح ابن خزيمة 1/ 14: 16. ورواه غيرهما: انظر سبل السلام 1 / 64، ونيل الأوطار 1 / 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 908 ويؤيده من طريق أهل السنة ما روى عن سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذى شدة وعناء. وكنت أكثر من الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إنما يجزيك من ذلك الوضوء " رواه أبو داود وابن ماجه والترمذى وقال: حديث حسن صحيح (1) . وعن عبد الله بن سعد قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الماء يكون بعد الماء؟ فقال: " ذلك المذى، وكل فحل يمذى، فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك، وتوضأ وضوءك للصلاة " رواه أبو داود والترمذى وحسنه (2) . وحديث الوضوء من المذى متفق عليه (3) . ويؤيد ذلك أيضاً من طريق الإمامية، ماروى عن على قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن أمرت المقداد يسأله وهو يقول: ثلاثة أشياء: منى ووذى، وودى، فأما المذى فالرجل يلاعب امرأته فيمذى ففيه الوضوء. وأما الودى: فهو الذي يتبع البول يشبه المنى، ففيه الوضوء أيضاً. وأما المنى: فهو الماء الدافق الذي يكون منه الشهوة، ففيه الغسل (4) . وهذه الروايات لا يمكن حملها إلا على وجوب الوضوء، وقد صحت من الطريقين. أما ما روى من أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاب المقداد بقوله: " ليس بشيء "   (1) نيل الأوطار ص 62. (2) نفس المرجع 63. (3) انظر صحيح البخارى: كتاب الوضوء – باب من لم ير الوضوء الا من المخرجين من القبل والدبر، وكتاب الغسل – باب غسل المذى والوضوء منه، واقرأ شرح الحديث في فتح البارى. وصحيح مسلم: كتاب الحيض – باب المذى. (4) وسائل الشيعة ج 1: المستدرك ص 265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 909 فهذا لم يثبت من طريق أهل السنة، ولو صح لأمكن الجمع بينه وبين هذه الأخبار بأن نقول: إن قوله " ليس بشيء " متعلق بالغسل لا بالوضوء، أي أنه لا يوجب الغسل، ففي رواية سهل بن حنيف السابقة " كنت أكثر منه الاغتسال فذكرت ذلك لرسول الله "، ووقع عند أبى داود والنسائى وابن خزيمة عن على بلفظ " كنت رجلاً مذاء فجعلت أغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهرى " (1) . وبهذا يكون الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بين أن المذى لا يوجب الغسل، وهذا لا يتعارض مع وجوب الوضوء. ويؤيد ما ذهبت إليه ما رواه الشيعة عن على قال: " إنى لمذاء، وما أزيد على الوضوء " (2) . فأما ما رواه الشيعة عن أئمتهم من أن المذى لا يوجب الوضوء، فيمكن حمله على ما ذهب إليه الإمام مالك حيث قال: " إذا كان ذلك منه من سلس من برد أو ما أشبه ذلك قد استنكحه ودام به فلا أرى عليه الوضوء. وإن كان ذلك من طول عزبة إذا تذكر فخرج منه، أو كان إنما يخرج المرة بعد المرة، فأرى أن ينصرف فيغسل ما به ويعيد الوضوء " (3) . ويؤيد هذا من طريق الشيعة ما روى عن محمد بن إسماعيل، عن أبى الحسن الرضا قال: سألته عن المذى فأمرنى بالوضوء منه، ثم أعدت عليه سنة أخرى، فأمرنى بالوضوء منه، وقال: إن علياً - عليه السلام - أمر المقداد أن يسأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واستحيا أن يسأله، فقال: فيه الوضوء. قلت: وإن لم أتوضأ، قال لا بأس " (4) .   (1) انظر: سبل السلام 1/64. (2) وسائل الشيعة جـ 1 المستدرك ص 265. (3) المدونة 1/10، وقد ذهب الإمام إلى ذلك لأنه لا يوجب الوضوء على أصحاب الأعذار، كالمستحاضة، والسلس البول. (4) الوسائل 1/263، وانظر الاستبصار ص 92 جـ 1.* *وبهذه الرواية أيد السيد محسن الحكيم ـ مرجع الشيعة السابق بالعراق ـ ما ذهب إليه من حمل الروايات التى تذكر أن من المذى الوضوء على الاستحباب (انظر كتابه: مستمسك العروة الوثقى 2/217-218) ولكنا وجدنا فيما سبق عدم جواز هذا الحمل، ثم إن هذه الرواية يمكن تخريجها كما نرى في التعقيب عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 910 فكيف يخالف أمر رسول الله إذن ويبيح للسائل عدم الوضوء. مع أن الرسول قال: فيه الوضوء؟ فلعله ارتأي ما يراه الإمام مالك، ولا شك أن السائل لقى مشقة كبيرة، حيث سأل، ثم جاء بعد عام ليسأل مرة أخرى، وحيث قال: وإن لم أتوضأ بعد أن سمع حكم الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيلحق بأصحاب الأعذار الذين لا يوجب عليهم الوضوء في رأي الإمام مالك. بهذا يمكن الجمع بين أحاديث أهل السنة وأحاديث الشيعة ورواياتهم عن الأئمة، وإذا لم يمكن الجمع، فإنا بلا ريب نسقط روايات الأئمة، وتبقى أحاديث الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي صريحة نصاً في إيجاب الوضوء. ثالثاً: غسل الوجه اتفق الجميع على وجوب غسل الوجه، وانفرد الشيعة الرافضة برأيهم في تحديد الوجه، وطريقة غسله. ذهبت المذاهب الأربعة في تحديد الوجه بأنه من منابت شعر الرأس إلى الذقن إلى الأذنين (1) وروى عن مالك أن ما بين اللحية والأذن ليس من الوجه، وبذلك لا يجب غسله (2) . أما الشيعة فقد اتفقوا معهم في الطول، واختلفوا في العرض. حيث حددوه بما اشتمل عليه الإبهام والوسطى (3) .   (1) انظر المبسوط 1/6 وحاشية الدسوقى 1/85، والأم: 1/21، والمغنى 1/66. (2) انظر المغنى 1/97: وإن كان الراجح في المذهب خلاف ذلك. وانظر الهداية في تخريج أحاديث البداية 1/119. (3) انظر: كتاب الخلاف للطوسى 1 / 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 911 وأقرب الآراء إليهم كما نرى رأي الإمام مالك. ولكن فى تحديدهم إخراج لجزء كبير من الوجه وهذا يفتقر إلى الدليل. وإذا نظرنا إلى رواياتهم في الوضوء نجدها لا تسند إجماعهم، بل تعارضه، مثال ذلك: عن زرارة قال: حكى لنا أبو جعفر - عليه السلام - وضوء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآله، فدعا بقدح من ماء، فأخذ كفاً من ماء، فأسدله على وجهه. ثم مسح من الجانبين جميعاً. وفي رواية أخرى: فأخذ كفاً من ماء، فصبه على وجهه، ثم مسح جانبيه حتى مسحه كله. وفي رواية ثالثة: ثم غمس كفه اليمنى في التور، فغسل وجهه بها واستعان بيده اليسرى بكفه على غسل وجهه (1) . وهذه الروايات كلها معتبرة عندهم في الاحتجاج بكيفية الوضوء فعلى أي أساس بنى إجماعهم إذاً؟ ثم إن هذا الإجماع يعارضه أيضاً إجماع جمهور المسلمين بإيجاب غسل بعض الأجزاء التى أجمعوا على عدم غسلها استناداً إلى الأمر بغسل الوجه. فتحديد الوجه بهذه الصورة تحكم يحتاج إلى نظر من فقائهم بدلا من أن ينساقوا وراء قول يعارض كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والخلاف الثانى في طريقة الغسل، فقد أوجبوا الابتداء بغسل الوجه من الأعلى، وهذا هو المشهور من المذهب، ولكن هناك من لم يوجب ذلك ووجدنا   (1) انظر الوسائل جـ 1: باب كيفية الوضوء ص 369: الروايات: 6، 7، 11. والتور: إناء يشرب فيه ـ انظر مادة " تور" في القاموس المحيط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 912 من فقهاء الشيعة اليوم من يقول: " يلاحظ بأن الأمر بغسل الوجه مطلق، ولا نص على وجوب الابتداء بالأعلى، فيحصل الامتثال بالغسل كيف اتفق. أما ابتداء الإمام بالأعلى فغاية ما يدل عليه الجواز والمشروعية، لا الحصر والتعيين " (1) . وهذا يتفق مع المذاهب الأربعة، وبذا ينتفي الخلاف. رابعا: غسل اليدين الخلاف هنا في نقطتين: الأولى: إيجابهم الابتداء بالمرفقين. الثانية: إيجابهم كذلك الابتداء باليد اليمنى. فأما إيجاب الابتداء بالمرفق فهو خلاف الظاهر "" فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ "" فظاهر الآية الانتهاء إلى المرفق، فإذا لم ننظر إلي غسل اليدين على أنه مجرد الغسل الذي يعم اليد إلى المرفق، سواء ابتدأ به المتوضئ أو انتهي إليه وجب الانتهاء إلى المرفق لا الابتداء به. والذي دفع الشيعة إلى هذا القول ورود روايات عن الأئمة في الوضوء مبتدئين بالمرفقين. (2) ولكن هذه الروايات لا تتعارض مع ما ذهب إليه أصحاب المذاهب الأربعة، لأنه جائز، أما إيجاب الابتداء بهما فهو التحكم الذي لا دليل عليه. ويخالف ظاهر القرآن الكريم. وإجماع سائر المسلمين. وأما الابتداء باليمنى فلا شك أنه الأولى، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم " أخرجه الأربعة،   (1) فقه الإمام جعفر الصادق ص 64. (2) انظر وسائل الشيعة جـ 1: باب كيفية الوضوء ص 369، وانظر كذلك: المعتبر ص 37، والانتصار ص 11، والحقائق 1/168 وفقه الإمام جعفر الصادق ص 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 913 وصححه ابن خزيمة، وأخرجه أحمد وابن حبان والبيهقى وزاد فيه " وإذا لبستم " وقال ابن دقيق العيد: هو حقيق بأن يصحح (1) . وما روى عن وضوء الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن طريقى السنة والشيعة فيه أنه صلوات الله عليه كان يبدأ بالميامن، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره. وفي شأنه كله " متفق (2) . فلو جعلنا ذلك على الوجوب، لوجب في اليدين والرجلين، ولكنهم جميعا لا يقولون بذلك. فالشيعة يوجبونه في اليدين دون الرجلين، والمذاهب الأربعة لا توجبه، ولوجب كذلك في اللبس، ولا خلاف في عدم وجوبه، فيمكن حمله إذن على الاستحباب لا الإيجاب، وقول السيدة عائشة " يعجبه التيمن " تدل على هذا وكذلك التنعل والترجل وفي شأنه كله. فلا خلاف في عدم وجوب البدء بالميامن في ذلك.   (1) انظر سبل 1/50، ونيل الأوطار 1/213. (2) المرجعين السابقين: الأول ص 49 والثانى ص 212. وصحيح البخارى كتاب الوضوء: باب التيمن في الوضوء والغسل، وفتح البارى 1/289، وصحيح مسلم بشرح النووى كتاب الطهارة 1/554، وانظر صحيح ابن خزيمة 1/91 باب الأمر بالتيامن في الوضوء، أمر استحباب لا أمر إيجاب، وباب ذكر الدليل على أن الأمر بالبدء بالتيامن في الوضوء أمر استحباب واختيار لا أمر فرض وإيجاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 914 خامساً: مسح الرأس انفرد الإمامية بالقول بوجوب مسح مقدم الرأس ببقية البلل. وبعدم إجزاء الغسل على أي حال. فهم متفقون مع الحنفية والشافعية وبعض الحنابلة في جواز مسح بعض الرأس (1) ، ولكنهم يوجبون المقدم، ويختلفون مع الجميع في إيجاب المسح ببقية البلل. رووا عن الإمام أبى جعفر - وهو يحكى وضوء الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه " مسح مقدم رأسه، وظهر قدميه ببلة يساره، وبقية بلة يمناه ". وفي رواية أخرى " مسح بفضل يديه رأسه ورجليه ". وفي إحدى الروايات " مسح ببقية ما بقى فى يديه رأسه ورجليه، ولم يعدهما فى الإناء "، إلى غير ذلك من الروايات (2) . والرواية الأولى قد تكون بياناً للمجمل في الروايتين الأخيرتين، وقد تدل على جواز مسح المقدم، ولكنهم رووا عن الإمام أبى جعفر أيضاً بأن المتوضئ إذا مسح بشئ من رأسه فقد أجزأه (3) . مما يؤيد الاحتمال الثانى ـ وهو الجواز ـ ويرفض الاحتمال الأول. وقد استدل الإمام الشافعي بروايات أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح بمقدم رأسه، ومع هذا لم يوجب المقدم، وإنما رأي أن من مسح من رأسه شيئاً فقد مسح برأسه (4) .   (1) وذهب بعض الإمامية إلى حرمة مسح كل الرأس، وبعضهم إلى الكراهية، وآخرون إلى عدم الاستحباب، وفريق إلى الإجزاء (انظر: مفتاح الكرامة - كتاب الطهارة ص 248) . وقد روى أن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد مسح الرأس كله، وهو مستحب باتفاق العلماء، وأوجبه مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه (انظر: نيل الأوطار جـ 1: باب مسح الرأس كله، ... وصفته، وما جاء في مسح بعضه ص 191) . (2) انظر: الوسائل جـ 1 باب كيفية الوضوء ص 369. (3) انظر المستدرك من الوسائل 1/381. (4) انظر الأم 1/22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 915 وقد ورد عن طريق الشيعة روايات تفيد عدم إيجاب المقدم، فحاولوا تخريجها: (1) مثال ذلك ما روى عن الإمام الصادق أنه سئل عن الرجل يمسح رأسه من خلفه وعليه عمامة بأصبعه أيجزيه ذلك؟ فقال: نعم. فحمله الطوسى على أنه أدخل الأصبع من الخلف، فمسح بها مقدم الرأس، واحتمل أن يكون الخبر خرج مخرج التقية، لأن ذلك مذهب بعض العامة. ولا أدرى لم ترفع العمامة ويضع الإنسان يده من الخلف ليمسح المقدم؟ أهذا هو الذي فهمه الإمام الصادق من السائل فقال: نعم؟ أم أنه جبن فقال ذلك تقية لأنه مذهب بعض العامة؟ إنى أربأ بالصادق أن يكون بهذا الخلل من الفهم، أو بهذه المنزلة من الجبن. ورواية أخرى عن الإمام الصادق أيضاً أنه سئل عن المسح على الرأس فقال: كأنى أنظر إلى عكنة في قفاء أبى يمر عليها يده. وغير ذلك مما لم يستطع الطوسى تخريجه إلا على التقية، وهو تخريج لا يمكن أن يقبل بحال، فإذا كان السائل يسأل عن المسح فلو أجيب بمسح مقدم الرأس لوافقت الرواية روايات ثبتت عند كثير من أهل السنة، كتلك التى احتج بها الإمام الشافعي، ثم ما الذي يدعو إلى الكذب في قوله " كأني أنظر إلى عكنة في قفاء أبى "؟ فلم احتاج إلى الاستشهاد بهذا الدليل، ولم يكتف بتحديد موضع المسح ولو تقية؟ أهو الإيغال في الكذب والجبن؟ كان الأجدر بالطوسى أن يحمل هذه الأخبار جميعها على جواز المقدم وغيره، فينتفي التعارض، بدلاً من أن ينزل إلى هذا المستوى في تخريجاته. وروى عن الإمام الصادق " مسح الرأس واحدة من مقدم الرأس ومؤخره، ومسح القدمين ظاهرهما وباطنهما ". ومعلوم أن جمهور المسلمين يقول بغسل الرجلين لا مسحهما، ومع هذا حمل الخبر على التقية (2) ! .   (1) انظر الروايات، وتخريجها في: الاستبصار جـ 1 ص 60-61، والوسائل جـ 2 ص 14-15. (2) انظر الوسائل جـ 2 ص 17-18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 916 وأما إيجاب المسح ببقية البلل، فالخلاف بين أهل السنة على العكس من ذلك، فبعضهم أوجب ماء جديداً والآخرون أجازوا المسح ببقية البلل، وخلافهم مبنى على أساس الماء المستعمل: أهو مطهر أم غير مطهر؟ فظاهر مذهب الحنابلة أنه طاهر غير مطهر، وهو المشهور عن أبى حنيفة، وإحدى الروايتين عن مالك، وظاهر مذهب الشافعى، وعن أحمد رواية أخرى أنه طاهر مطهر، وهو الرواية الثانية لمالك، والقول الثانى للشافعى، وروى عن على وابن عمر وأبى أمامة فيمن نسى مسح رأسه إذا وجد بللاً في لحيته أجزأه أن يمسح رأسه بذلك البلل، وذهب أبو يوسف إلى نجاسته، وهو رواية عن أبى حنيفة. (1) ولكل من هؤلاء أدلته التي استند إليها (2) ، ولسنا بحاجة إلى مناقشتها ما دام فيهم من يوافق الإمامية على طهورية هذا الماء. ولكن ما الذي دفع الشيعة إلى القول بإيجاب بقية البلل، وبطلان الماء الجديد؟ فلو جف ماء الوضوء قبله أخذ من لحيته، وحاجبيه وأشفار عينيه مسح به، فإن لم يبق نداوة استأنف الوضوء (3) . لا خلاف في أن الماء الجديد طاهر مطهر، وأدلة الشيعة التي ذكرناها لو صحت (4) فغاية ما تدل عليه جواز المسح ببقية البلل، ويؤيد ذلك ما روى عن   (1) انظر المغنى جـ 1 ص 18 وما بعدها. (2) انظر ما سبق، وانظر كذلك: نيل الأوطار جـ 1 ص 23 باب طهارة الماء المتوضأ به، وص 27 باب بيان زوال تطهيره، والهداية في تخريج أحاديث البداية ـ الماء المستعمل: 1/273، وصحيح البخاري وشرحه فتح الباري ـ كتاب الوضوء: باب استعمال فضل وضوء الناس. (3) انظر: مفتاح الكرامة – كتاب الطهارة ص 258-259. (4) هذه الروايات توجب مسح الرأس والرجلين، وسنناقش ذلك فيما يأتى من نوع طهارة الرجلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 917 طريق أهل السنة من أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح رأسه بما بقى من وضوئه، أو من فضل ماء كان بيديه، وروايات أخرى أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح رأسه بماء غير فضل يديه، أو أنه أخذ لرأسه ماء جديدا (1) . ولا تعارض بين هذه الأخبار، فكل جائز، بل إننا نجد فيما روى عن طريق الشيعة ما يؤيد القائلين بإيجاب ماء جديد، جاء في الاستبصار: " سألت أبا الحسن - عليه السلام -: أيجوز للرجل أن يمسح قدميه بفضل رأسه؟ فقال: برأسه لا، فقلت: أبماء جديد؟ فقال: برأسه نعم. " ورواية أخرى: " سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن مسح الرأس قلت: أمسح بما في يدي من الندى رأسى فقال: لا بل تضع يدك في الماء ثم تمسح " (2) . وحاول شيخ الطائفة الطوسى أن يوفق بين هذين الخبرين والأخبار السابقة، فقال: " فالوجه في هذين الخبرين أن نحملهما على ضرب من التقية؛ لأنهما موافقان لمذاهب كثير من العامة، ويحتمل أن يكون المراد بهما إذا جفت أعضاء الطهارة بتفريط من جهته، فيحتاج أن يجدد غسلها، فيأخذ ماء جديداً، ويكون الأخذ بها أخذاً للمسح حسب ما تضمنه الخبر الأول. وأما الخبر الثانى فيحتمل أن يكون المراد بقوله: " بل تضع يدك في الماء " إنما أراد الماء الذي بقى في لحيته أو حاجبيه، وليس فيه أن يضع يده في الماء الذي في الإناء أو غيره. فإذا احتمل لذلك لم يعارض ما قدمناه من الأخبار" (3) . ولا شك أن هذا التخريج فيه من البطل ما فيه: فالخبر الأول يفيد ـ خلاف الماء الجديد ـ مسح الرجلين في الوضوء، وقد أجمعت المذاهب الأربعة على وجوب غسلهما. ولهذا أجاز الشيعة غسلهما للتقية مع إيجابهم المسح. فكيف إذن يحمل هذا الخبر على التقية لمجرد ذكر الماء الجديد مع إفادته مسح الرجلين؟   (1) انظر نيل الأوطار جـ 1 ص 29. (2) انظر ص 58-59 من الكتاب المذكور جـ 1. (3) الاستبصار جـ 1 ص 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 918 والتخريجات الأخرى غير مقبولة، فالخبران يفيدان عدم جفاف الأعضاء، فالأول فيه فضل الرأس، والثاني فيه ما في اليدين من الندى، ولو أراد بالثاني أخذ الماء من اللحية والحاجبين لقال: ضع يدك على اللحية والحاجبين، لا ضع يدك في الماء. وما الحاجة إلى ذلك مع وجود الندى ما لم يكن في حاجة إلى ماء جديد؟ وأخبار الشيعة لو صحت لأمكن الجمع بينها بالقول بجواز المسح ببقية الماء واستحباب الماء الجديد. وذلك أولى من القول بإيجاب المسح ببقية البلل، فذلك لا يستند إلى أي دليل (1) . ويرى الشيعة أن غسل الرأس لا يجزى عن مسحه، وهم إذا كانوا يشترطون في المسح أن يكون ببقية البلل، فمن باب أولى أن يرفضوا إجزاء الغسل. وأما المذاهب الأربعة فيرون أجزاءه، لأن فيه مسحاً وزيادة. اشترط بعض الحنابلة إمرار اليد على الرأس مع الغسل أو بعده للإتيان بالمسح (2) . ولا شك أن المسح أولى من الغسل، فهو الفرض بالنص، ولكن ليس معنى هذا أن الغسل يبطل الوضوء، لأن في الغسل إتياناً بالفرض وزيادة. وهذه الزيادة وإن لم تكن مستحبة إلا أنها ليست مبطلة، كمن غسل أعضاء الوضوء أربعاً، فإن   (1) بعضهم يذكر أدلة نتركها لتفاهتها، وعدم جدواها ووضوح ما بها من سفسطة: مثال ذلك هنا ما ذكره بعضهم من أن آية الوضوء فيها أمر بمسح الرأس والواجب الفور في امتثال أوامر الله، والإتيان بماء جديد للمسح ينافي الفور. انظر: الحقائق جـ ص 175. ولا شك أن الاشتغال بأخذ الماء لمسح العضو متعلق بمسح العضو نفسه، فالفورية في هذا الاشتغال فورية في المسح، ثم إن أخذ الماء مباشرة والمسح به أسرع من نشدانه بين اللحىوالحواجب وأشفار العيون، وسواء هذا أو ذاك فهو لا يستغرق وقتا يذكر حتى يقال إنه ينافى الفور. (2) انظر المبسوط جـ1 ص 64 وص 72، وحاشية الدسوقى ص 89 جـ1، وحاشية البجيرمى جـ 1 ص 78 والمغنى جـ 1 ص118-119، وأحكام القرآن لابن العربي ... جـ 2 ص 570-571. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 919 ذلك غير مستحب، لكنه لا يبطل الوضوء، وكمن اغتسل ينوى به الوضوء، فالشيعة يرون أن غسل الجنابة يجزى عن الوضوء، واختلفوا في غيره، فلم يجمعوا على عدم الإجزاء. إذا فالمسح أولى من الغسل ولكن الغسل لا يبطل، والله أعلم. سادساً: حكم الأذنين أجمع أصحاب المذاهب الأربعة على القول بمسح الأذنين، والخلاف بينهم حول وجوبه او استحبابه، أما الإمامية فلا يرون وجوب مسح الأذنين ولا استحبابه، واستدلوا بما روى عن الإمام الباقر " ليس عليهما غسل ولا مسح " (1) . ولكن هناك رواية أخرى. وهي " سألت أبا عبد الله - عليه السلام -: الأذنان من الرأس؟ قال نعم. قلت: فإذا مسحت رأسي مسحت أذني؟ قال: نعم، كأني أنظر إلى أبى في عنقه عكنة وكان يخفي رأسه إذا جزه، كأني أنظر والماء ينحدر على عنقه " (2) . ويمكن الجمع بين هذين الخبرين بأن يحمل الأول على عدم الوجوب بدلاً من حمل الثانى على التقية، أو على ما لا صلة له بالطهارة كمسح الرأس بعد الحلق! (3) . وعن طريق أهل السنة وردت روايات صحيحة بأن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح أذنيه (4) ورواية الباقر لا تنهض دليلاً على بطلان هذه الروايات، ورواية الصادق تؤيدها، والتوفيق بين الروايات ممكن، فلا حاجة إلى التشبث بما لم يقم عليه دليل.   (1) الوسائل جـ 2 ص 9، والاستبصار جـ 1 ص 63. (2) المرجع الأخير ص 63-64. (3) خرجوا: الأول على التقية، والثانى عليها أو على مسح الرأس بعد الحلق. (4) انظر نيل الأوطار جـ 1: باب مسح ظاهر الأذنين وباطنهما ص 201، وانظر كذلك المبسوط جـ 1 ص 5-6، والمدونة جـ 1 ص 16، وحاشية البجيرمى جـ1* *ص 88، والمغنى جـ 1 ص 120، الهداية في تخريج أحاديث البداية 1/147، وصحيح ابن خزيمة 1 /77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 920 وأما ما روى عن الإمام الصادق: " الأذنان ليسا من الوجه ولا من الرأس " فهو دليل على عدم الإيجاب، ولا يمنع الاستحباب، ويمكن أن يسقط بما ثبت من مسح الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأذنيه. سابعاً: نوع طهارة الرجلين أجمعت المذاهب الأربعة على وجوب غسل الرجلين، وأجمع الشيعة على وجوب مسحهما ببقية البلل إلا في حالة التقية. وسبب ذلك الخلاف أن آية المائدة قرئ فيها " أرجلكم " بالنصب والجر وثبت، لدى فريق أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغسلهما، ولدى الآخر أنه كان يمسحهما، فاستدل القائلون بالغسل بقراءة النصب وقالوا بالعطف على اليدين. واستدل الآخرون بقراءة الجر، وقالوا بالعطف على الرءوس. ولنذكر ذلك تفصيلا. استدل الشيعة (1) بالآية الكريمة، فقالوا: إن الاحتجاج بها في قراءة الجر واضح، وذلك أن للمعطوف حكم المعطوف عليه، فكما أنه يجب في الرءوس المسح من غير خلاف بين أحد فكذلك يجب في الأرجل إعطاء للمعطوف حكم المعطوف عليه. أما في قراءة النصب، فالوجه أن الأرجل معطوفة على الموضع من (برءوسكم) لا على اللفظ، وذلك أن برءوسكم منصوبة الموضع لأنها مفعول (لامسحوا) في المعنى، وإن كانت مجرورة بالباء في اللفظ. والعطف تارة يكون   (1) انظر أدلتهم في المراجع الآتية: وسائل الشيعة ومستدركاتها: 1/369-383، 2/22-25 والاستبصار 1/64-66 ومجمع البيان في تفسير القرآن 1/64-167 وكنز االعرفان في فقه القرآن 9-10 والمعتبر 38-39والانتصار 13-17 والحقائق في الجوامع والفوارق 1/176-182 والوضوء في الكتاب والسنة، وملحق به المسح على الأرجل أو غسلهما في الوضوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 921 على اللفظ، فيعطى المعطوف حكم المعطوف عليه، وتارة يكون على الموضع فله كذلك حكمه، وهو كثير في كلام العرب؛ قالوا: ليس فلان بقائم ولا ذاهباً، فجعلوا ذاهباً معطوفة على موضع بقائم مع أنها مجرورة اللفظ. وقال الشاعر: معاوى إننا بشر فأسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا فعطف الحديد على موضع الجبال لأن موضعها النصب، وإن كان لفظها مجروراً. وقال تأبط شراً: هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... وعبد رب أخا عون بن مخراق فعطف عبد على موضع دينار، فموضعه النصب على المفعولية لباعث، مع أنه مجرور اللفظ بالإضافة. وقال آخر: جئنى بمثل بنى بدر لقومهم ... أو مثل إخوة منظور بن سيار فعطف مثل الثانية على موضع بمثل الأولى. وعلى هذا ذهبوا إلى أن الآية تدل على وجوب المسح سواء أكان نزولها بالجر أو بالنصب، لأنها معطوفة على الرءوس في القراءتين. وذهب القائلون بالغسل إلى عكس ذلك؛ (1) فهم يرون أن النصب عطف على اليدين، وبذلك يجب غسل الرجلين، والعطف على محل الرءوس خلاف الظاهر،   (1) انظر أدلتهم في المراجع الآتية. صحيح البخارى - كتاب الوضوء: باب غسل الرجلين، ولا يمسح على القدمين، وفتح البارى 1/265-266، وصحيح مسلم - كتاب الطهارة: باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما وشرح النووي 1/525 -528، وصحيح ابن خزيمة 1/83-87، ونيل الأوطار جـ 1 ... ص 207- 212، والمبسوط جـ1 ص 8-9، والأم 1/27-28، والمغنى 1/121-125، ومختصر التحفة ص 25-28، وتفسير الطبرى 1/52-57، وتفسير ابن كثير 2/22-29، * *والجامع لأحكام القرآن للقرطبى 6/91-96، والكشاف للزمخشرى 1/248-249، وأحكام القرآن لابن العربى 2/574-576. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 922 وقراءة الجر لا تمنع العطف على اليدين، فهي مجرورة للمجاورة، وجر الجوار جائز في النعت وفي العطف، أما النعت فقوله تعالى: "" إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ "" (جر أليم) وهو صفة العذاب المنصوب لمجاورته المجرور. وأما العطف فكقوله تعالى: "" وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ "" ففي قراءة الجر لحور يكون ذلك لمجاورة " أكواب وأباريق " مع أنه معطوف على " ولدان مخلدون ". وقوله تعالى: "" عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ "". وقد وقع هذا الجر في كلام العرب العرباء، كقول امرئ القيس: وظل طهاة اللحم من بين منضج ... صفيف شواء أو قدير معجل جر قديراً مع العطف للمجاورة. وقول النابغة: لم يبق إلا أسير غير منفلت ... وموثق في عقال الأسر مكبول بجر " موثق " و" مكبول " بجوار " منفلت " مع أنهما معطوفان على أسير. وتقول العرب " جحر ضب خرب " بجر خرب بالجوار. وفائدة الجر بالجوار في الآية الإيماء إلى وجوب الاقتصاد في الماء بغسلهما غسلاً يقرب من المسح، لأنهما مظنة الإسراف فيه، ولبيان أنهما يمسحان حال الاختيار على حائل وهما الخفان بخلاف سائر الأعضاء، والفصل بقوله " برءوسكم " إشارة إلى الترتيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 923 والقول بأن الجر بالجوار إنما يصار إليه حيث الأمن من الالتباس فهنا كذلك، لأن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبين للناس ما نزل إليهم. (1) ويمكن في غير المجاورة أن يحمل المسح على الغسل، فذلك مستعمل في كلام العرب، قال أبو على الفارسى: العرب تسمى خفيف الغسل مسحاً، فيقولون: تمسحت للصلاة أي: توضأت، وقال أبو زيد الأنصارى نحو ذلك. ويؤيد هذا أنهما محدودان بحد ينتهي إليه، فأشبها اليدين. ثم إنه إذا اجتمع فعلان متقاربان بحسب المعنى جاز حذف أحدهما وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور، ومن ذلك قول لبيد: فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ... بالجلهتين ظباؤها ونعامها أي باضت نعامها، لأنها لا تلد. وقال آخر: تراه كأن الله يجدع أنفه ... وعينيه أن مولاه ثاب له وفر ومنه قول الأعرابي: علفتها تبناً وماء بارداً، أي: وسقيتها.   (1) فرح الشيعة بالإمام الرازى حين ذهب إلى بطلان الكسر على الجوار بقوله " إن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذى قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله يجب تنزيهه عنه، وإنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس، وهناغير حاصل، وكذلك إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حروف العطف فلم تتكلم به العرب". والأدلة السابقة فيها بطلان دعوى الرازى كما هو واضح. وبعد ذلك رأيناهم يهاجمونه عندما وصل إلى القول: " إن الأخبار الكثيرة ورددت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط، فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحها ". (انظر: المسح على الأرجل أو غسلها في الوضوء ص126وما بعدها، ورأي الفخر الرازى في تفسيره جـ 6 ص 368، وقد نقلوا عنه بتصرف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 924 وحاول الشيعة نقض احتجاجات القائلين بالغسل فقالوا بالمنع من الجر بالجوار مستدلين بما استدل به الإمام الرازى (1) ، وقد رأينا الإجابة عن هذه الاعتراضات. وقالوا: إن ذلك يجرى مجرى " ضربت زيداً وعمراً وأكرمت خالداً وبكراً " فإن رد بكر إلى خالد في الإكرام هو الوجه في الكلام الذي لا يسوغ سواه، ولا يجوز رده إلى الضرب الذي انقطع حكمه. ونلاحظ هنا بوناً شاسعاً بين هذه الجملة، وبين الآية الكريمة، فبكر لا يجوز فيه إلا النصب، ولا تقارب بين الضرب والإكرام، ولا حكمة وراء هذا الفصل، إلى غير ذلك مما يبين فساد هذا القياس (2) . وقالوا بأن حمل المسح على الغسل باطل، ففائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة، وقد فرق الله سبحانه بين الأعضاء المغسولة وبين الأعضاء الممسوحة. والعطف على الرءوس يعطى نفس الحكم. ولو كان المسح بمعنى الغسل لسقط استدلال القائلين بالغسل بأن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ وغسل رجليه، فيجوز حمل ذلك على المسح. وقولهم " تمسحت للصلاة " المعنى فيه لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز، ولم يجز أن يقولوا تغسلت للصلاة، لأن ذلك تشبيه بالغسل، قالوا بدلا من ذلك: تمسحت لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضاً، فتجوزوا لذلك تعويلا على أن المراد مفهوم، وهذا لا يقتضى أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل. وفي تحديد طهارة الرجلين قالوا: المسح أوجبته الشريعة كالغسل فلا ينكر تحديده، ولم توجب الغسل في اليدين للتحديد، بل للأمر به. ونلاحظ أن ردهم بأن " المغسول من الأعضاء ممسوح أيضاً فتجوزوا لذلك تعويلاً على أن المراد مفهوم "، من الواضح أنه يؤيد القائلين بحمل المسح على   (1) انظر المرجعين السابقين. (2) الشيعة – كما نعلم – لا يأخذون بمثل هذا القياس، ولكنه الانتصار للرأي وكفي! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 925 الغسل ولو مجازاً، والعكس غير صحيح، لأن الغسل مسح وزيادة، وتحديد طهارة الرجلين قرينة، وليست دلالة قائمة بذاتها. وقالوا في مثل " علفتها تبناً وماء بارداً " بأن ذلك إنما يجوز ـ على ضعفه إذا استحال حمله على ظاهره. ومما لا شك فيه أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بين أن المقصود هو المسح، أو الغسل، فإن الآية الكريمة لا تأبى ذلك ولا تعارضه. فكل من الفريقين إذا له ما يؤيد وجهة نظره، وبهذا لا تعد الآية الكريمة نصاً في إيجاب الغسل أو المسح إلا بالرجوع إلى صاحب الشريعة - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والشيعة يذهبون إلى أنه كان يمسحهما، والمذاهب الأربعة يذهبون إلى أنه واظب على غسلهما، فلننظر في أدلة كل منهما. يروى الشيعة (1) عن الأئمة عدة روايات أنهم حكوا وضوء الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمسحوا رءوسهم وأرجلهم ببقية البلل، لم يجددوا ماء. وعلى هذا ذهبوا إلى وجوب مسح الرجلين ببقية البلل. ووردت عن طريقهم أخبار تناقض ما ذهبوا إليه، من ذلك ما روى عن الإمام الصادق في الرجل يتوضأ الوضوء كله إلا رجليه، ثم يخوض الماء بهما خوضاً، فقالوا: أنه محمول على التقية (2) . وروى عن الإمام زيد بن على عن آبائه عن على كرم الله وجهه قال: جلست أتوضأ فأقبل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين ابتدأت في الوضوء فقال لى: تمضمض واستنشق واستن. ثم غسلت ثلاثاً فقال: قد يجزيك من ذلك المرتان، فغسلت   (1) أدلتهم تجدها في مراجعهم التي ذكرناها من قبل. (2) انظر: الاستبصار جـ 1 ص 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 926 ذراعي ومسحت برأسي مرتين فقال قد يجزيك من ذلك المرة. وغسلت قدمي فقال لي: يا على خلل بين الأصابع لا تخلل بالنار (1) . وحملهم هذا الخبر على التقية، مرفوض فما من مسلم ذي عقل يرى أن الإمام علياً قال ذلك كذباً وتقية من المسلمين، أما الرواة فما الذي يدعوهم إلى الكذب على الإمام وعلى الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ إذا كان هناك ما يدعو إلى التقية فكان يكفيهم أن يغسلوا أرجلهم. أو يقولوا بأن الغسل هو الواجب، دون أن يتعمدوا الافتراء على الله ورسوله. ثم إن هذه الرواية عن الإمام زيد بن على الذي خرج على الدولة الأموية، وقاتل من أجل حق ارتآه حتى استشهد، فكيف إذن يصل إلى هذا الجبن والكذب؟ ورفض الطوسى هذا الخبر لشيء آخر أيضاً، وهو أن رواة الخبر ليسوا إماميين، ورجال الزيدية وما يختصون بروايته لا يعمل به (2) . فالرواة ليسوا كذابين، ولا وضاعين، ولا مدلسين، وإنما جريمتهم التى تدعونا إلى تكذيبهم، وعدم الأخذ بروايتهم، أنهم زيديون وليسوا إماميين، والعترة الطاهرة وقف على الإمامية، ومن ليس من العترة فليس أهلا لأن يروى عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -! ولاشك أن الرسول وعترته بريئون من هذا الإسفاف. ولقد ناقشنا ذلك من قبل في بحثنا للسنة (3) .   (1) المرجع السابق، ص 65-66، والوسائل جـ 2 ص 24. (2) انظر: الاستبصار جـ ص 66. (3) انظر: الحديث الصحيح، ومناقشة اشتراط إمامية الراوى: في الجزء الثالث من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 927 ورووا عن الإمام الصادق أنه قال: إذا توضأت فامسح قدميك ظاهرهما وباطنهما. ثم قال: هكذا: فوضع يده على الكعب وضرب الأخرى على باطن قدميه، ثم مسحهما إلى الأصابع. فحملوا هذا الخبر على التقية أيضا (1) ، مع أنه قال امسح ولم يقل اغسل، وفيه أنه وضع يده على الكعب لا على الكعبين، فمذهبهم أن الرجل لها كعب واحد وهي قبة القدم، ولم يوافقهم في هذا التحديد إلا بعض الحنفية (2) ومع هذا حملوه على التقية لأنه يخالف ما ذهبوا إليه من عدم استيعاب الرجل في المسح. ورووا عنه أيضاً أنه قال في مسح الرأس ومسح القدمين، مسح الرأس واحدة من مقدم الرأس ومؤخره، ومسح القدمين ظاهرهما وباطنهما. وقد حملوه كالسابق   (1) انظر الوسائل 2/17. (2) ويرد هذا التحديد أنه خلاف المشهور في العرف، قال أبو عبيد: الكعب هو الذي في أصل القدم، منتهي الساق إليه، بمنزلة كعاب القنا، كل عقد منها يسمى كعبا، وقد روى أبو القاسم الجزلى عن النعمان بن بشير قال: كان أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه في الصلاة، ومنكبه بمنكب صاحبه. رواه الخلال، وقاله البخارى. وروى أن قريشا كانت ترمى كعبى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ورائه حتى تدميهما، ومشط القدم أمامه. وقد اعترض على ذلك بأن قوله تعالى {إِلَى الْكَعْبَينِ} يدل على أن في الرجلين كعبين لا غير، ولو كان لكل رجل كعبان لكانت كعاب الرجلين أربعة. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن المراد غسل كل رجل إلى الكعبين، إذ لو أراد كعاب جميع الأرجل لقال: " الكعاب " كما قال تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} . انظر: المغنى 1/125 –126: وانظر كذلك: المبسوط 1/9: حيث ذكر حديثا عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو: " ألصقوا الكعاب بالكعاب في الصلاة "، واستدل كذلك بقوله تعالى: {إِلَى الْكَعْبَينِ} ، وبين أن تفسير الكعب بأنه المفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك جاء عن طريق رواية رواها هشام عن محمد، وأن هذا سهو من هشام، وارجع إلى أحكام القرآن لابن العربى جـ 2 ص 577. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 928 على التقية " لأنهما موافقان لمذهب بعض العامة ممن يرى المسح ويقول باستيعاب الرجل " (1) . فالتعصب للرأي أدى إلى الاضطراب والتناقض في التخريج، فمن يخشى بعض الناس، وهم القلة النادرة، كيف يجرؤ على الوقوف أمام الكثرة الغالبة، ويخالف جمهور المسلمين القائلين بالغسل؟ وهناك رواية عن الإمام الصادق ذكرها الكليني في الكافي. والطوسى في كتابيه: التهذيب والاستبصار، استدلوا بها فيما استدلوا على وجوب الترتيب في الوضوء، وهذه الرواية هي: " عن أبى عبد الله - عليه السلام - قال: إن نسيت فغسلت ذراعيك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعيك بعد الوجه، فإن بدأت بذراعك (2) الأيسر فأعد على الأيمن ثم اغسل اليسار، وإن نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك " (3) . ولم يتكلم فيها الطوسى، وإنما استدل بها على وجوب الترتيب وكفي، فالرواية صحيحة في نظره، فماذا يقول في غسل الرجلين؟ لو حمل ذلك على التقية لشك الناس في عقليته وتفكيره، فهذه الرواية خالفت ما أجمع عليه المسلمون من عدم إيجاب الترتيب في اليدين، ولكن العاملى في وسائله وقع فيما لم يقع فيه الطوسى، وقال: " غسل الرجلين محمول على التقية " (4) . والتعصب للرأي الذي اقترن بالمذهب، والذي كان له أثره فيما وجدنا من الاضطراب في التفكير والتخريج، كان له أثر أسوأ من ذلك بكثير، وهو وضع الأحاديث.   (1) انظر: الوسائل 2/18. (2) انظر: الاستبصار 1/74. (3) الوسائل 2 / 52. (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 929 ونحن بهذا ـ علم الله ـ لا نريد الافتراء على الشيعة، إنما نذكر ما بدا لنا عند النظر في أدلتهم. ولنذكر أمثلة لذلك: يروون أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إن العبد إذا توضأ فغسل وجهه تناثرت ذنوب وجهه، وإذا غسل يديه إلى المرفقين، تناثرت عنه ذنوب يديه، وإذا مسح برأسه تناثرت عنه ذنوب رأسه، وإذا مسح رجليه أو غسلهما للتقية، تناثرت عنه ذنوب رجليه، وإن قال في أول وضوئه: بسم الله الرحمن الرحيم، طهرت أعضاؤه كلها من الذنوب، وإن قال في آخر وضوئه أو غسله من الجنابة: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك وأشهد أن علياً وليك وخليفتك بعد نبيك. وأن أولياءه خلفاؤهوأوصياؤه 000 إلخ " (1) . ويبدو أثر الوضع واضحاً في قوله: " أو غسلهما تقية " وفي قوله: " وأشهد أن علياً وليك وخليفتك بعد نبيك، وأن أولياءه خلفاؤه وأوصياؤه " فارتباط الرأي الفقهي بالمذهب جعل من لا خلاق لهم يضعون الأحاديث لنصرة الاثنين. ويؤيد هذا أيضا ما رووه عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال للمقداد وسلمان وأبى ذر: أتعرفون شرائع الإسلام؟ قالوا: نعرف ما عرفنا الله ورسوله، فقال: هي أكثر من أن تحصى: أشهدوني على أنفسكم بشهادة أن لا إله إلا الله ـ إلى أن قال: وأن القبلة قبلتي شطر المسجد الحرام لكم قبلة، وأن على بن أبى طالب وصى محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمير المؤمنين، وأن مودة أهل بيته مفروضة واجبة مع إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والخمس، وحج البيت، والجهاد في سبيل الله، وصوم شهر رمضان، وغسل الجنابة، والوضوء الكامل على الوجه واليدين والذراعين إلى المرافق،   (1) الوسائل 1 / 377 ـ 378. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 930 والمسح على الرأس والقدمين إلى الكعبين، لا على خف، ولا على خمار، ولا على عمامة - إلى أن قال: فهذه شروط الإسلام وقد بقى أكثر (1) . نخرج من هذا أن رواياتهم متناقضة، فبعضها فيه مسح جزء من الرجلين ببقية البلل، وبعضها فيه مسح مع استيعاب الرجلين، وروايات أخرى فيها الغسل. وهم يرون أن عدداً من الأخبار وضع للتقية ـ على حين رأينا روايات وضعت لنصرة المذهب، فرواياتهم إذن غير قاطعة بالمسح أو الغسل ـ وإن كانت ترجح الغسل، لأن روايات الغسل تخالف المذهب، ورأينا أن بعضها لا يحتمل التقية على الإطلاق، أما روايات المسح فيحتمل أنها موضوعة انتصاراً للمذهب كما وضح في الروايتين الأخيرتين. أما أهل السنة فقد رووا أحاديث صحيحة متعددة في الغسل (2) ومنهاحديث عثمان رضي الله عنه، وهو يحكى وضوء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ففيه " ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا " متفق عليه. وفي لفظ: " ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم غسل اليسرى مثل ذلك ". وعن الإمام على أنه حكى وضوء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً ثلاثاً ". وكذلك قالت الربيع بنت معوذ، والبراء بن عازب، وعبد الله بن عمر. وعن أبى هريرة أن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأي رجلاً لم يغسل عقبه، فقال: " ويل للأعقاب من النار " إلى غير ذلك من الروايات التى تصل إلى حد التواتر. وهي تبين أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغسل رجليه في الوضوء. وهذه الروايات كافية لإسقاط روايات الشيعة التى توجب المسح، بخاصة إذا نظرنا إلى رواياتهم القائلة بالغسل والتى لا تحتمل التقية، وإلى رواياتهم الأخرى   (1) الوسائل 1 / 379. (2) انظر مراجعهم التى ذكرناها من قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 931 التى ثبت أنها موضوعة انتصاراً للمذهب الجعفري، ولما ذهب إليه من آراء فقهية. وقد ورد عن طريق أهل السنة أيضاً روايات بالمسح، ولكنها لا تتعارض مع الروايات السابقة. مثال ذلك: ما روى عن الإمام على كرم الله وجهه أنه مسح برأسه ورجليه، وقد رأينا فيما رووا عن طريق أهل السنة والشيعة من أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره بتخليل الأصابع وهو يغسل رجليه، وأنه حكى وضوء الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فغسل الرجلين. ولا يمكن بحال أن يخالف الإمام أمر الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبم نعلل ذلك؟ من روايات المسح أن علياً صلى الظهر، ثم قعد للناس في الرحبة، ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه، ثم مسح برأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدث. ورواية أخرى أنه اكتال من حب فتوضأ وضوءاً فيه تجوز، فقال هذا وضوء من لم يحدث. وقال عكرمة: كان على رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ هذه الآية "" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ "". فالتجوز في وضوئه إذن لأنه لم يحدث، وأراد أن يجدد وضوءه (1) .   (1) ورد عن طريق الشيعة أن على بن أبى طالب – كرم الله وجهه – قال للناس في الرحبة: " ألا أدلكم على وضوء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآله؟ قالوا: بلى. فدعا بقعب فيه ماء فغسل وجهه وذراعيه، ومسح على رأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدث حدثا ". وعقب الكراكجى – أحد علمائهم – بقوله: " مراده أنه الوضوء الصحيح الذي كان يتوضؤه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس هو وضوء من غير، وأحدث في الشريعة ما ليس منها ". (انظر: الوسائل – المستدرك 1/381-382) وهذه الرواية تتفق مع ما ذكرنا، وتفسير الكراكجى باطل، فالإمام ذكر أنه وضوء الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا داعى لأن يذكر بعد ذلك أنه وضوء من لم يغير في الشريعة. ويحدث فيها ما ليس منها، وإنما الضرورة تلجئه أن يذكر أن هذا الوضوء في حالة تجديده ... فقط، دون أن يكون هناك حدث موجب له، ففي الحالة الأخرى – أي عند الحدث – بين الإمام* *نفسه كيفية الوضوء بغسل الرجلين كما ورد عن طريقى السنة والشيعة. ثم إذا ذكر الحدث في مجال الوضوء أفيفهم منه التغيير، أم الحدث الموجب للطهارة؟ إن إطلاق الحدث هنا يحتم المعنى الأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 932 ولعل مثل هذه الروايات هي التى جعلت الإمامية يظنون أن هذا مذهب الإمام، فتعصبوا له، وأعرضوا عن سائر الأدلة الثابتة التى ذكرت الغسل، ووجد أعداء الإسلام ـ الذين استتروا وراء قناع التشيع لآل البيت فرصتهم لإذكاء نار الفرقة بين المسلمين، ومحاولة طمس سنة سيد المرسلين، فأخذوا يكذبون عمداً على الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعلى الأئمة الكرام، مبينين أن المسح هو الواجب. ومن غسل فلا وضوء له. وقد رأينا أمثلة للوضع في أحاديثهم. ونزيد ذلك بياناً بهذه الرواية: قال أبو عبد الله - عليه السلام -: " يأتى على الرجل ستون وسبعون سنة ما قبل الله منه صلاة، قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأنه يغسل ما أمر الله بمسحه " (1) (2) فالإمام الصادق عاصر الإمامين أبا حنيفة ومالكاً، ويعلم أنهما أفتيا بوجوب الغسل نتيجة أدلة ثبتت لديهما، وتمسك بالغسل كل المسلمين، إلا القلة النادرة، وهم قريبو عهد من الرسول الكريم وصحابته، وفيهم كثير من تابعيه رضي الله عنهم أجمعين، ترى هل كان الإمام الصادق يرى أن هؤلاء جميعاً لا تقبل صلاتهم؟ لا يقول بذلك إلا عدو للإسلام والمسلمين. ومما ساعد على تفشى هذه الروايات المكذوبة التعصب للرأي، فيقبل ما وافقه، ويرفض كل ما خالفه، ولو أدى ذلك إلى إهمال العقل، واضطراب التفكير، وقد مرت أمثلة كثيرة لذلك.   (1) الاستبصار 1/14، والوسائل 2/22، وقد روى الحديث الكليني والصدوق والطوسى أصحاب كتب الحديث الأربعة. (2) تهذيب الوصول لعلامتهم الحلى ص 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 933 وقد رووا عن الإمام على أنه قال: " لولا أنى رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح ظاهر قدميه لظننت أن باطنها أولى بالمسح من ظاهرها ". ويستدلون بذلك فيما يستدلون به على مسح الرجلين. وفي موضع آخر يستدلون برواية عن الإمام في إبطال القياس، وهي: " لو كان الدين يؤخذ قياساً لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره " (1) . فروايات المسح إذن يمكن أن تحمل أيضاً على المسح على الخفين، وهذا واضح بمقابلة الروايتين، ولكنهم مع هذا يرفضون المسح على الخفين ويوجبون المسح على القدمين. وكذلك يمكن حمل هذه الروايات على الغسل الخفيف. فابن عباس الذي روى أنه قال بالمسح، جاء في حديثه عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أخذ ملء كف من ماء فمسح على قدميه "، والمسح يكون بالدلك لا برش الماء والشيعة يوجبونه ببقية البلل. وقد مرت مناقشة حول إطلاق المسح على الغسل، ورأينا إمكان ذلك، ويؤيده من جهة الشيعة ما روى عن الإمام موسى الكاظم: " لا تعمق في الوضوء، ولا تلطم وجهك بالماء لطماً، ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحاً، وكذلك فامسح الماء على ذراعيك ورأسك وقدميك ". قال العاملى: المسح هنا محمول أولاً على المجاز - بمعنى الغسل، ثم على الحقيقة (2) . فلما وجب الغسل للذراعين حمل المسح على معنى الغسل، فلماذا لا يكون كذلك بالنسبة للرجلين ما دامت أخبار الغسل ثابتة إلى حد التواتر؟ وروى عن ابن عباس وأنس والشعبى والإمام الباقر وغيرهم أن القرآن الكريم نزل بالمسح، ونجد في رواية أنس: " نزل القرآن الكريم بالمسح والسنة   (1) (2) انظر الوسائل 1 / 378. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 934 الغسل " فليس معنى ذلك أن السنة الشريفة عارضت القرآن الكريم فلا قائل بذلك، ولكن معنى هذا أن الذين نظروا إلى قراءة الجر رأوا أن الظاهر هو المسح ولكن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أن المقصود هو الغسل، وفي هذا إيجاب للغسل لا للمسح. (1) ونقل عن ابن جرير الطبرى أنه أوجب غسلهما للأحاديث، وأوجب مسحهما للآية، وقال ابن كثير تعقيباً على ذلك: " كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما، لكنه عبر عن الدلك بالمسح، فاعتقد من يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما (2) . وروى عن الحسن البصرى أن المضرور مخير بين الغسل والمسح (3) . ومعنى هذا أنه يرى جواز العدول عن أصل الطهارة وهو الغسل إلى رخصة المسح في حال الضرر. ونخرج من هذا البحث إلى أن الواجب في الوضوء غسل الرجلين لا مسحهما، والله سبحانه وتعالى أعلم. ثامنا: المسح على الخفين منع الشيعة المسح على الخفين سفراً وحضراً، وأجازه أصحاب المذاهب الأربعة، إلا في رواية عن مالك بالمنع في الحضر (4) .   (1) وروى مثل هذا أيضا عن الشعبى، قال: نزل القرآن بالمسح والغسل سنة، ومعنى أنه سنة هنا أي ثبت عن طريق السنة. (2) تفسير ابن كثير 2/26، وانظر تفسير الطبرى 10/61-80، وفيه رد على أحاديث المسح. (3) انظر المبسوط 1/8، وإن كان بعض الباحثين يروى عنه التخيير مطلقا، فلعله قد التبس عليهم. (4) انظر المبسوط جـ 1 ص 97، والمدونة جـ 1 ص 41، والأم جـ 1 ص 27، والمغنى جـ 1 ص 293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 935 وحجة من أجازه (1) ما روى عن جرير " أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم. رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال ثم توضأ ومسح على خفيه ". فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. متفق عليه، ورواه أبو داود، وزاد: فقال جرير لما سئل هل كان ذلك قبل المائدة أو بعدها: ما أسلمت إلا بعد المائدة، وكذلك رواه الترمذى. ووردت روايات أخرى تؤيد هذا، كرواية عبد الله بن عمر، والمغيرة بن شعبة، وغيرهم كثير. واستدل المانعون، بأن آية المائدة ناسخة له. وبروايات في المنع. ويبطل دعوى النسخ رواية جرير، فهي نص في الموضوع (2) ، ثم إنه لا تعارض بين   (1) انظر ما سبق، مع متابعة الأدلة في بعض الصفحات، وانظر كذلك: نيل الأوطار 1/221-226، وسبل السلام 1 / 56 ـ 60. (2) قال الموسوى - أحد علماء الشيعة - تعقيبا على ذلك: " بل أسلم قبل نزول المائدة، بدليل حضوره حجة الوداع مع رسول الله، وقد أمره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ - كما في ترجمته من الإصابة نقلا عن الصحيحين - أن يستنصت الناس، فإسلامه لابد أن يكون قبل تلك الحجة، ونزول المائدة لم يكن قبلها يقينا " (ص 144 المسح على الأرجل أو غسلها) . ولو سلمنا بذلك في بعض آيات من سورة المائدة، فلا نسلم بأن جميعها نزل بعد حجة الوداع أو إبانها، فمن الثابت أن بعضها نزل قبل ذلك يقينا، وجرير - وهو الثقة الذي روى عن الرسول الكريم - هو نفسه الذي قال بأن إسلامه لم يكن قبل آية الوضوء. (انظر صحيح ابن خزيمة 1 / 92 جماع أبواب المسح على الخفين وفيه المسح بعد نزول سورة المائدة، ... وراجع ما جاء في سورة المائدة في كتاب التفسير في صحيح البخاري، والاختلاف في آخر ما نزل في البرهان للزركشى 1/209-210، وراجع كذلك تعليق الشيخ شاكر على هذا الحديث في: سنن الترمذى جـ 1: حاشية ص 155-156، وانظر صحيح البخاري - كتاب الوضوء: باب المسح على الخفين، وشرح أحاديث الباب في فتح الباري 1 / 305: 309، وباب من ادخل رجليه وهما طاهرتان، وصحيح مسلم: كتاب الطهارة: باب المسح على الخفين، وشرح النووي 1/556) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 936 الآية والمسح على الخفين، فتخصيص العام، أو تقييد المطلق، أو تفسير المجمل لا يعد نسخاً. قال الإمام الشافعى بعد ذكر الآية: " فاحتمل أمر الله عز وجل بغسل القدمين أن يكون على كل متوضئ، واحتمل أن يكون على بعض المتوضئين دون بعض، فدل مسح رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الخفين أنها على من لا خفين عليه إذا هو لبسهما على كمال الطهارة، كما دل صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتين بوضوء واحد، وصلوات بوضوء واحد، على أن فرض الوضوء على من قام إلى الصلاة على بعض القائمين دون بعض، لا أن المسح خلاف لكتاب الله عز وجل، ولا الوضوء على القدمين " (1) . وروايات المنع المذكورة عن طريق السنة رفضها المجيزون، فما أخرجه ابن أبى شبيبة، عن على رضي الله عنه أنه قال: " سبق الكتاب الخفين " منقطع وقد روى عنه مسلم والنسائى القول به بعد موت النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخرج أبو داود عنه " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على ظاهر خفيه "، وهذا يذكرنا بما ذكره الشيعة عن أمير المؤمنين من قوله " لو كان الدين يؤخذ قياساً لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره ". وقلنا إنهم استدلوا به على بطلان القياس. ولكنهم يرفضون المسح على الخفين. (2) وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سلوا هؤلاء الذين يروون المسح، هل مسح رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد نزول المائدة؟ والله ما مسح رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد نزول المائدة، ولأن أمسح على ظهر عنز في الفلاة أحب إلى من أن أمسح على الخفين.   (1) الأم 1/27-28. (2) انظر ما ذكر آنفا في نوع طهارة الرجلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 937 وإنما قال جرير روايته المذكورة لما روى عن ابن عباس. وقد صح رجوعه عنه على ما قال عطاء بن أبى رباح رضي الله تعالى عنه: " لم يمت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حتى اتبع أصحابه في المسح على الخفين ". وروى عن عائشة رضي الله تعالى عنها: " لأن تقطع قدمأي أحب إلى من أن أمسح على الخفين "، وقد صح رجوعها عنه على ما روى شريح بن هانئ قال: سألت عائشة - رضي الله تعالى عنها - عن المسح على الخفين، فقالت: لا أدرى، سلوا علياً رضي الله تعالى عنه، فإنه كان أكثر سفراً مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألنا علياً رضي الله تعالى عنه فقال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على الخفين. وفي رواية: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها. فبلغ ذلك عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: هو أعلم (1) . ونجد الشيعة يروون المنع عن على وعائشة رضي الله عنهما. ويروون رواية المغيرة، ويقولون أنها منسوخة بآية الوضوء (2) . وقد تقدم الكلام في ذلك. ونجد روايات أخرى تحتم علينا أن نعيد ما قلناه من وضع الأحاديث لنصرة المذهب، وما ارتبط به من آراء فقهية، وقد ضربنا أمثلة لذلك، وفي رواية منها ذكر لعدم جواز المسح على الخفين (3) ، ونكتفي هنا بذكر هذه الرواية: " خطب أمير المؤمنين ـ - عليه السلام - ـ فقال: " قد عملت الولاة قبلى أعمالا خالفوا فيها رسول   (1) وروى عنها أنها قالت: لأن تقطعا أحب إلى من أن أمسح على القدمين بغير خفين (انظر: الكشاف للزمخشرى) فإن صحت هذه الرواية فهي تؤيد غسل الرجلين، والمسح على الخفين. (2) انظر الوسائل جـ 1: باب عدم جواز المسح على الخفين إلا لضرورة شديدة أو تقية عظيمة ص 55 وما بعدها. (3) راجع ما جاء من قبل في نوع طهارة الرجلين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 938 الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآله متعمدين لخلافه، ولوحملت الناس على تركها لتفرق عنى جندى، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي كان فيه (إلى أن قال) : وحرمت المسح على الخفين، وحددت على النبيذ، وأمرت بإحلال المتعتين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، (إلى أن قال) : إذا لتفرقوا عنى " (1) . ونحن نعلم جزاء من يخالف أمر الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال عز وجل: (2) "" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ "". والخلفاء الراشدون الثلاثة قد خالفوا الرسول متعمدين هذا الخلاف، والخليفة الرابع لا يخشى الله فيقيم حدوده، وإنما يخشى أن يتفرق عنه جنده لو أقام هذه الحدود! يدل الخبر على هذا المعنى الضال فكيف يقبله مسلم؟! أو لم يدرك هذا من سولت له نفسه أن يضع مثل هذه الأخبار؟ ومن تلقاها بالقبول؟! تاسعا: التوقيت في الغسل لم يوقت الإمام مالك في الوضوء مرة ولا ثلاثاً، وإنما قال بإسباغه، والمشهور في المذهب استحباب الثلاث، وباقى المذاهب الأربعة على إجزاء المرة، واستحباب الثلاث (3) . أما الشيعة فيرون إجزاء المرة، واستحباب المرتين، وأن الثالثة بدعة.   (1) الوسائل 2 / 56. (2) سورة النور: الآية (63) . (3) انظر: المبسوط 1/9، والمدونة 1/ 2 وحاشية الدسوقى 1/101، والأم 1/27، والمغنى 1/130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 939 والخلاف هنا يمكن أن يكون هيناً لو اكتفوا بالقول باستحباب المرتين فقد يكون الإسباغ بهما، بل بالمرة الواحدة، وهنا يتفقون مع الإمام مالك، ولكن القول بأن الثالثة بدعة يجعل الخلاف واضحاً، فغسل أعضاء الوضوء ثلاثاً روى عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كرواية عثمان الصحيحة، وقد روى عن على نفسه أنه حكى وضوء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال بالثلاث (1) . وقد استدل الشيعة بروايات عن أئمتهم بالغسل مرة ومرتين وحملوا ما عداها على التقية (2) . مثال ذلك ما روى عن داود الرقى قال: " دخلت على أبى عبد الله - عليه السلام -، فقلت له: جعلت فداك كم عدة الطهارة؟ فقال: ما أوجبه الله فواحدة، وأضاف إليها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدة لضعف الناس، ومن توضأ ثلاثاً ثلاثاً فلا صلاة له. أنا معه في ذا حتى جاءه داود بن زربى، فسأله عن عدة الطهارة، فقال له: ثلاثاً ثلاثاً. من نقص عنه لا صلاة له " (3) . فقوله لابن زربى إذن للتقية، ولكن لا أحد من المسلمين يقول ببطلان الصلاة لمن ينقص عن الثلاث، فمن الذى يتقيهم بقوله هذا؟ وبطلان الصلاة لمن يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً ينافي ما ثبت عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: إن خبر الثلاث مدنى، وقد اطرحه مالك ولم يصححه، وهو أمارة الضعف. ثم هو معارض بما روى (4) . ونلاحظ أنه لا تعارض بين روايات أهل السنة. فمجموعها يدل على جواز المرة والمرتين والثلاث. وتعارضها مع بعض روايات الشيعة يسقط هذا البعض،   (1) ارجع إلى هذه الروايات في نيل الأوطار 1/213-216، وانظر الوضوء في الكتب والسنة. (2) انظر: الاستبصار 1/69-72، والوسائل 3/38-46. (3) المرجع الأخير ص 44. (4) انظر المعتبر ص 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 940 والاستشهاد على الضعف بموقف الإمام مالك يجاب عنه بما جاء في المدونة (1) بعد ذكر رواية عثمان بن عفان، قال ابن شهاب: " وكان علماؤنا بالمدينة يقولون هذا الوضوء أسبغ ما توضأ به أحد للصلاة ". فالإمام مالك لم يضعف هذه الرواية، وإنما نظر إلى الروايات المختلفة ورأي أن المقصود هو الإسباغ، فقال به. وإن كان بالمرة أو المرتين أو الثلاث (2) والله أعلم. عاشراً: التولية اختياراً فرق الشيعة بين الاستعانة بالغير في الوضوء وبين التولية. فهم يرون أن الاستعانة هي صب الماء على يد المتوضئ، لا على أعضاء وضوئه، على أن يتولى هو بنفسه توزيع هذا الماء على الأعضاء. أما التولية فهي التوضئة بصب الغير الماء على أعضاء الوضوء كلاً أو بعضاً، وإن تولى هو الدلك. (3) وهم يكرهون الاستعانة، ويحرمون التولية اختياراً. وهم بهذا لا ينفردون بالقول بكراهة الاستعانة، وإنما بالتفرقة بين الاستعانة والتولية، وتحريم الأخيرة. والتولية بهذا المفهوم تعد استعانة تكره عند الشافعية والحنابلة، والمالكية لا يرون كراهتها، والحنفية لا يرون الكراهة إلا إذا لم يباشر المتوضئ بنفسه غسل الأعضاء ومسحها (4) .   (1) جـ 1 ص 3. (2) والمشهور في المذهب استحباب الثلاث كما ذكرنا. (3) انظر: مفتاح الكرامة - كتاب الطهارة ص 276-277. (4) انظر: حاشية ابن عابدين 1/131، وحاشية الدسوقى 1/104، وحاشية البجيرمى ... 1/89 والشرح الكبير /147-148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 941 وقد ورد عن طريقى السنة والشيعة ما يفيد جواز الصب في الوضوء، وفي روايات أخرى كراهة ذلك. وإن كان المروى في الكراهة عن طريق أهل السنة ضعيفاً. ولم يرد عن الطريقين ما يفيد التحريم (1) . فبم إذن استدل الشيعة على ماذهبوا إليه؟ احتجوا (2) بالوضوءات البيانية، وبظاهر الأوامر بالغسل والمسح فإنها تقتضى المباشرة، وإرادة كون الفعل مستنداً إلى المأمور به. وقوله تعالى: "" فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ "" خطاب لنا يجب علينا امتثاله، وإنما يتحقق الامتثال بوقوع الفعل منا، وصدوره عنا. وإذا صح ذلك فإنه يتعلق بمباشرة الغسل والمسح. فلم يثبت عن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه وكل غسل أعضاء وضوئه إلى أحد. أو قال بجواز ذلك. وهنا يكون الامتثال والاتيان بالفعل، أما الصب على اليد والصب على الأعضاء، فكله استعانة بجنس الصب، وهو ما أفادت الأدلة جوازه، كحديث المغيرة " فصببت عليه - أي على النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضوءه للصلاة "، وحديث صفوان بن عسال: " صببت الماء على النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر والحضر في الوضوء ". وعن طريق الشيعة رواية أبى عبيدة الحذاء " وضأت أبا جعفر - عليه السلام - بجمع وقد بال، فناولته الماء فاستنجى، ثم صببت عليه كفاً فغسل به وجهه، وكفاً غسل به ذراعه الأيمن، وكفا غسل به ذراعه الأيسر، ثم مسح بفضلة الندى رأسه ورجليه " (3) .   (1) انظر الموضع السابق من الشرح الكبير، وحاشية ابن عابدين، وانظر نيل الأوطار 1/219-220، وصحيح مسلم: باب المسح على الخفين، والنسائى: باب صفة الوضوء، وابن ماجه: باب الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه. (2) انظر في ذلك: الانتصار ص 17 -18، والحقائق 1/184-185. (3) الوسائل 1 / 273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 942 وأعجب ما قيل في هذه الرواية هو جواز حملها على التقية (1) . فذلك الذى استعان بغيره في الوضوء بصب الماء خوفاً وتقية من جمهور المسلمين، الذين يجيزون ذلك مع القول بالكراهة عند كثير منهم، ولم يوجبه أحد على الإطلاق، أفلا خافهم فغسل رجليه بدلا من مسحهما مخالفاً بذلك ما أجمعوا عليه؟ علماً بأن الشيعة يجيزون غسل الرجلين تقية. فلا دليل على التفرقة بين الاستعانة والتولية، وجعل الصب على الأعضاء تولية تحرم اختياراً. حادي عشر: غسل مخرج البول اتفق الشيعة مع المذاهب الأربعة في وجوب الماء لغسل موضع الغائط إذا تعدى المخرج، ونظر أصحاب المذاهب الأربعة أيضاً إلى تعدى المخرج في البول، فأوجبوا الماء حينئذ فقط كالغائط (2) . أما الشيعة فقد فرقوا بين البول والغائط ورأوا وجوب الماء لغسل مخرج البول عموماً. ولم يثبت عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ من طريقى السنة والشيعة ـ أنه أوجب الماء، ولكنهم استدلوا بروايات عن الأئمة مثل ما رووه عن الإمام الباقر: " لا صلاة إلا بطهور، ويجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار. بذلك جرت السنة من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأما البول فإنه لا بد من غسله " (3) . فإذا كانت السنة جرت بإجزاء الأحجار، فمن أين استمدوا الحكم الآخر؟   (1) انظر: الوسائل 2/77. (2) انظر: حاشية ابن عابدين 1/350، وحاشيتى القليوبى وعميرة 1/43، وحاشية الدسوقى 1/112، والمغنى 1 / 153. (3) الاستبصار جـ 1 ص 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 943 ورأي بعضهم أن التفرقة بين البول والغائط لأن الغائط قد لا يتعدى المخرج إذا كان يابساً، ويتعداه إذا كان بخلاف هذه الصفة، والبول مائع جار لابد من تعديه المخرج، وهو في تعديه أبلغ من دقيق الغائط، فوجب فيه ما وجب فيما تعدى المخرج من مائع الغائط، ولا خلاف في وجوب غسل ذلك (1) . وهذا التفسير، إن صح لما كان هناك خلاف، فالمذاهب الأربعة توجب الغسل إذا تعدى البول المخرج، ولكن المعروف أن البول لا يتعدى المخرج في جميع الحالات، ومن الشيعة أنفسهم من صرح بإيجاب الماء سواء تعدى البول المخرج أو لم يتعد (2) وهذا يناقض التفسير السابق. وقد رووا عن الإمام الصادق عن الرجل يبول ولا يكون عنده الماء، فيمسح ذكره بالحائط، قال: " كل شيىء يابس زكى ". قال صاحب وسائل الشيعة (3) : " هذا محمول على التقية لأنه عادة المخالفين، أو على الجواز لمنع تعدى النجاسة، وإن لم تحصل الطهارة، بل لا دلالة له عليها أصلا ". وأقول له: بل توجد الدلالة، فكلمة " زكى" توحى بهذه الطهارة، ولو كان المقصود غير ذلك لوضحه (4) ، أما التقية فإنها أسهل مركب للرفض وإن كان في البول! مع العلم بأنه لا خلاف في أفضلية الماء.   (1) انظر الحقائق 1/164. (2) انظر كنز العرفان ص 17. (3) جـ 1 ص 333. (4) وبهذا يرد على السيد محسن الحكيم حيث عقب على الرواية السابقة بقوله " لكن ظاهر الجواب عدم سراية نجاسة الذكر بعد المسح إلى ما يلاقيه لاطهارته بالمسح. ... (مستمسك العروة 2/174) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 944 ثاني عشر: الوطء في الدبر لا نتحدث هنا عن جواز الوطء في دبر المرأة أو عدم جوازه، وإنما عما يستتبعه من وجوب الغسل. فمن المعلوم أن الوطء يوجب الغسل، سواء أكان في موضع الحرث أم في غيره. وقال المحقق الحلى في المختصر النافع في فقه الإمامية (ص 32) أن الجماع في دبر المرأة يوجب الغسل على الأشبه. وقال في شرائع الإسلام (1/21) : " وإن جامع في الدبر ولم ينزل وجب الغسل على الأصح ". فاعتبر وجوب الغسل هو الأصح، ولم يلتفت للرأي الآخر. غير أن شيخ طائفتهم الطوسى قال في كتاب الخلاف (1/24) : " لأصحابنا في الدبر روايتان: إحداهما: أن عليه الغسل، وبه قال جميع الفقهاء - أي فقهاء الأمة من غير فرقته. والأخرى: لا غسل عليه ولا على المفعول به، ولا يوافقهم على هذه الرواية أحد ". وفي وسائل الشيعة (1/481) تحت باب: حكم الوطء في الدبر من غير إنزال، يذكر ثلاثة أخبار عن الإمام الصادق: الأول عن الرجل يأتى أهله من خلفها ـ قال: هو أحد المأتيين، فيه الغسل. والثانى عنه قال: إذا أتى الرجل المرأة في دبرها فلم ينزلا فلا غسل عليهما، وإن أنزل فعليه الغسل، ولا غسل عليها. والثالث عنه في الرجل يأتى المرأة في دبرها وهي صائمة قال: لا ينقض صومها ‍‍ (!!) وليس عليها غسل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 945 والخبر الأول يوجب الغسل خلافاً للخبرين الآخرين، فقال صاحب وسائل الشيعة: " قد حمل الشيخ ـ أي الطوسى ـ ‍‍ الأول على التقية " قلت: لو كان الإمام الصادق ـ حاشاه ـ على هذه الدرجة من الجبن والخوف فقال بوجوب الغسل، فكيف ذهب عنه الروع عندما خالف جمهور الأمة حيث أباح الإتيان قائلاً هو أحد المأتيين، فجعل الدبر كالقبل؟! ثالث عشر: الأغسال المندوبة توسع الشيعة في الأغسال المندوبة، حتى قال بعضهم باستحباب الغسل لكل شريف من الأماكن والمشاهد، والأيام والليالى، وعند ظهور الآثار في السماء، وعند كل فعل متقرب به إلى الله تعالى، ويلجأ إليه فيه (1) . وكثير من الأغسال التى يرون استحبابها تتعلق بمذهبهم الاثنى عشرى، فهم يرون استحباب الاغتسال لزيارة الأئمة، وفي ليلة النصف من شهر رمضان، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين منه: فالأولى وإن كانت احتفالا بانتصاف رمضان المعظم، فقد قيل بأن فيها ولد الإمام الثانى: الحسن بن على، والإمام التاسع محمد الجواد (2) . والليلة الثانية فيها ضرب الإمام على، ومات في الثالثة، والغدير يعدونه عيداً يحتفلون به، حيث يرون أن في مثل هذا اليوم وهو الثامن عشر من ذى الحجة كان حديث غدير خم المشهور، والذى يعد سندهم الأول في الإمامة. والاغتسال يوم المباهلة لنزول قول الله تعالى: (3) ""فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ "".   (1) انظر: مفتاح الكرامة - كتاب الطهارة ص 16. (2) انظر: المرجع السابق ص 15. (3) سورة آل عمران: الآية 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 946 والرسول عليه الصلاة والسلام دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين، فلم ينظر الشيعة إلى أن صلة القرابة لها مكانتها في مجال التضحية لا العبادة، وإنما رأوا أن هذه الآية الكريمة دليل على فضلهم وتقدمهم غيرهم، وهم يقولون بعصمة هؤلاء الأربعة، وبإمامة على وولديه. ويبدو العجب في قولهم بالاغتسال لنيروز الفرس، فهذا احتفال بعيدٌ كل البعد عن الإسلام، ولكن نجد من يقول بأنه يوم ظهور الإمام الثانى عشر القائم المنتظر (1) ، وقيل بأن في هذا اليوم أعلن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلافة على (2) . فالخلاف في هذه الاغسال تبع للخلاف في المذهب من أساسه، وما أهون هذا الخلاف إذا قيس بالخلاف في الإمامة! فهذه أغسال مستحبة، وليست شرطاً في عبادة من العبادات. وهذه الأغسال قد تتمشى مع منطق الشيعة الرافضة إلا فيروز الفرس، ففيه مشاركة لأعداء الإسلام. وإذا كان هذا اليوم قد ارتبط بناحية دينية عندهم، فالأولى تحويل ذلك إلى التاريخ الهجرى، فإذا كانت الخلافة بزعمهم لعلى قد أعلنها الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا اليوم فيكفيهم يوم الغدير، أما ظهور الإمام الثانى عشر فلو صح ذلك على خلاف ما يقطع به كل المسلمين قاطبة إلا الإمامية الرافضة فلا يعلم ميقاته إلا الله سبحانه وتعالى. وفي الجزء الثانى من وسائل الشيعة نجد أبواب الأغسال المسنونة، وتحت هذه الأبواب ينسبون للأئمة الأخيار القول بكل الأغسال التى ابتدعها غلاة الرافضة. ففي الباب الأول (ص 941:936) حصر أنواعها وأقسامها: ينسبون للإمام الصادق في الخبر الثالث أن غسل المباهلة واجب، وفي أكثر من خبر أنه قال بغسل الزيارة، أي زيارة الأئمة في قبورهم.   (1) انظر: مفتاح الكرامة - كتاب الطهارة ص 16. (2) انظر دائرة المعارف البريطانية ـ مجلد 12 ـ ص 711. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 947 حتى نيروز الفرس، الذى يدل على المجتمع المجوسى، وأن من شاركهم كان ممن يحن إلى المجوسية إن لم يكن مجوسياً، حتى هذا الغلو الواضح الفاضح ينسبونه كذباً للإمام الصادق المبرأ مما قالوا. ففي الباب الرابع والعشرين (ص 960) تحت عنوان " استحباب غسل يوم النيروز "، ينسبون للإمام الصادق أنه قال: " إذا كان يوم النيروز فاغتسل، والبس أنظف ثيابك "!! وفي الباب الثامن والعشرين (ص 961) " استحباب غسل يوم الغدير "، وتحت الباب يفترون على الإمام الصادق أنه قال: " صيام يوم غدير خم يعدل صيام عمر الدنيا "!! " ومن صلى فيه ركعتين يغتسل عند زوال الشمس عدلت عند الله تعالى مائة ألف حجة، ومائة الف عمرة "!!! وفي الباب الذى يليه " استحباب غسل الزيارة " ينسبون له أيضاً أنه قال " إذا أتيت قبر الحسين - عليه السلام - فأت الفرات واغتسل ". رابع عشر: قراءة القرآن الكريم ومس المصحف للجنب والحائض والنفساء يرى الشيعة تحريم قراءة العزائم الأربع للجنب والحائض والنفساء، وهذه العزائم هي السور التى بها السجدات الواجبة عندهم (1) . وهي: السجدة، وفصلت، والنجم، والعلق. ويكره عندهم كذلك قراءة ما زاد على سبع آيات من غير هذه السور. ويحرم مس كتابة القرآن الكريم. ويكره مس المصحف دون الكتابة، ويمنعون غير المتوضئ مس كتابة القرآن، ويجوز له مس المصحف دون الكتابة.   (1) وقع الخلاف بين المذاهب في حكم السجود، وفي عدد السجدات التى هي عزائم، انظر ذلك مثلا في: بداية المجتهد جـ 1 ص 226 وما بعدها، وفي كتب المذاهب المختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 948 أما المذاهب الأربعة فقد منعوا الثلاثة من قراءة القرآن مطلقاً، دون تفرقة بين العزائم وغيرها، ومن أباح منهم ذلك فبشرط ألا يزيد عن الآية، أو بغير قصد للقراءة، كأن يكون للدعاء أو الثناء، أو التعليم، إلى غير ذلك، وأباح المالكية القراءة للحائض والنفساء حال استرسال الدم، واشترطوا لمن يمس المصحف عموماً أن يكون متطهراً من الحدثين الأصغر والأكبر. وأباح المالكية المس للمعلمة والمتعلمة إذا كانت حائضاً أو نفساء (1) . والتفرقة بين السور الأربع وباقى القرآن الكريم لابد لثبوتها من دليل قاطع، فالقرآن كله له قدسيته وحرمته. وحكم السجود وعزائمه مختلف فيه، ولو صح كما ذهب الشيعة إليه من إيجاب السجود وتحديد عزائمه ـ لتعلقت الحرمة بمواضع السجود فقط، ولكنهم يحرمون السور الأربع كلها حتى البسملة إذا نواها منها، ثم إنهم لا يشترطون الطهارة لهذه السجدات. فإذا كانت الطهارة ليست شرطاً لسجود القرآن، فكيف تكون شرطاً فيما يؤدى إلى هذا السجود؟ وإذا نظرنا إلى رواياتهم نجد أنهم يروون ثلاثة أحاديث عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وباقى الروايات عن الأئمة (2) . فأما أحاديث الرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فالأول هو أن النبى ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال للإمام على: " يا على، من كان جنباً في الفراش مع امرأته فلا يقرأ القرآن، فإنى أخشى أن تنزل عليهما نار من السماء فتحرقهما ".   (1) انظر حاشية ابن عابدين 1/278-279، والمبسوط 3/152، وحاشية الدسوقى 1/125-126، ص 138-139، وص 174-175، وحاشية البجيرمى 1/52-54، ص 102-103 والمغنى 1/135-136 وص 136-141 وانظر كذلك بداية المجتهد 1/42-43 وص 50 ونيل الأوطار 1/259-261 وسبل السلام 1/69-70. (2) انظر جميع الروايات في الوسائل 2/296-298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 949 والحديث الثانى عن الإمام كرم الله وجهه: " كان رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يحجزه عن قراءة القرآن إلا الجنابة ". والحديث الثالث كالثانى وفيه: " لا يحجبه أو لا يحجزه ". وهذه الأحاديث الثلاثة تؤيد ما ذهب إليه أصحاب المذاهب الأربعة، وتخريج القراءة على أنها قراءة العزائم، أو احتمال النسخ (1) كل ذلك ينقصه الدليل. وما يتعارض مع أحاديث الرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ من أقوال للأئمة أو غيرهم ـ فإنا بلا ريب لا يمكن أن نأخذ بها. على أن الشيعة أنفسهم منهم من ذهب إلى تحريم القراءة مطلقاً كالمذاهب الأربعة، ومنهم من حرم ما زاد على سبع آيات (2) . وبالنسبة لمس المصحف فقد فرق الشيعة بين مسه ومس الكتابة، ورأوا أن المقصود من الضمير في قوله تعالى: "" لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ "" وهو القرآن الكريم، وهو غير المصحف، فالقرآن عبارة عن المقروء وهو نفس الكتابة، والمصحف إنما هو الكتاب الذى جعلت فيه الصحف (3) . ونلاحظ أن المصحف ما استمد قدسيته إلا بما فيه من الكتابة، وإذا كان بعض الشيعة الرافضة يرون حرمة مس أسماء الأئمة، فهل يرى هؤلاء أن المصحف لا يصل إلى هذه المرتبة؟ "" أَفَلَا يَعْقِلُونَ ""؟ وقد ورد عن طريقهم: " لا يجوز لك أن تمس المصحف وأنت جنب، ولا بأس أن يقلب لك الورق غيرك " (4) .   (1) انظر ذلك في الصفحة الأولى من الموضع السابق. (2) انظر مفتاح الكرامة - كتاب الطهارة ص 327. (3) انظر الحقائق 2/12. (4) الوسائل - المستدرك 2/295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 950 وقد استدل أحمد بحديث ابن عمر: " لا يمس المصحف إلا على طهارة " (1) . ففي هاتين الروايتين ذكر صريح للمصحف، والله أعلم بالصواب. وبعد هذا النقاش نأتى إلى رأي لا يحتاج إلى مناقشة، فهو يتصل بغلوهم في عقيدة الإمامة، حيث يجعلون بيوت أئمتهم تقترب من المساجد في الحكم فيمنع الجنب من دخولها، كما يجعلونها بيوت أنبياء: ونذكر هنا ما جاء في وسائل الشيعة (1/489-490) تحت باب " كراهة دخول الجنب بيوت النبى ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ والأئمة عليهم السلام ". نجد هنا خمس روايات: أربعة منها تذكر أن أبا بصير دخل ـ وهو جنب ـ على أبى عبد الله، أي الإمام الصادق، فقال له: " أما تعلم أنه لا ينبغى لجنب أن يدخل بيوت الأنبياء؟ " وفي رواية: " أما علمت أن بيوت الأنبياء وأولاد الأنبياء لا يدخلها الجنب ". وفي رواية أنه فعل ذلك عمداً ليعطيه من دلالة الإمامة مثل ما أعطاه أبوجعفر، أي الإمام الباقر. والكذاب يقصد هنا نسبة علم الغيب للأئمة، حيث عرف أنه جنب بمجرد أن رآه. وفي الرواية الأخيرة: " هكذا تدخل بيوت الأنبياء وأنت جنب "؟ وغير الأربعة رواية عن الحسين - عليه السلام -، أن أعرابياً دخل عليه فقال له: " أما تستحي يا أعرابي تدخل على إمامك وأنت جنب "؟!   (1) انظر نيل الأوطار 1/259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 951 خامس عشر: أقل الطهر بين الحيضتين وأكثر النفاس قال الشيعة بأن أقل الطهر بين الحيضتين عشرة أيام، وأكثر النفاس عشرة كذلك على المشهور، وقيل ثمانية عشر. وأقل الطهر عند الحنابلة ثلاثة عشر يوماً، وبقية المذاهب يرون أنه خمسة عشر، وأكثر النفاس عند المالكية والشافعية ستون يوماً. وغالبه أربعون يوماً فيما استقرأه الإمام الشافعى. وأكثره عند الحنفية والحنابلة أربعون (1) (2) وقد استدل الشيعة في أقل الطهر بروايات عن الأئمة تفيد ذلك (3) . وأرى ألا مانع من الأخذ بها، فلا تعارض بينها جميعاً، ولا علاقة لها بأصل المذهب حتى يخالجنا الشك بأنها موضوعة. وممن روى عنهم الإمامان الباقر والصادق، ولهما مكانتهما عند الفقهاء، ولم يرو عن طريق أهل السنة ما يعارض ذلك، فإن الرواية الوحيدة التى رواها الإمام أحمد عن أمير المؤمنين على، واستدل بها الحنابلة على صحة رأيهم، ورفضها باقي المذاهب، هذه الرواية تتفق مع ما ذهب إليه الشيعة (4) . ولم يرو غيرها عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو صحابته الأكرمين.   (1) انظر حاشية ابن عابدين 1 / 209 ـ 293، وحاشية الدسوقى 1/168-173، حاشيتى الدسوقى وعميرة 1/97-107، المغنى 1/326-327. وص 362-363. (2) انظر الوسائل 2/33-34. (3) تفيد الرواية إمكان وقوع ثلاث حيض في شهر واحد، وهذا لا يجىء إلا على قول الحنابلة من المذاهب الأربعة، حيث يذهبون إلى أن أقل الحيض يوم وليلة، وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوما. وهذا ممكن أيضا بالنسبة للشيعة، فهم يذهبون إلى أن أقل الحيض ثلاثة أيام، وأقل الطهر بين الحيضتين عشرة. (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 952 وقد روى عن الإمام مالك ثلاث روايات: إحداهن: عشرة أيام. (1) فإن ثبتت ينتفي انفراد الشيعة بما ذهبوا إليه من التحديد بعشرة أيام. وأما النفاس، فقد اضطربت فيه روايات الشيعة أيما اضطراب، (2) فإلى جانب الروايات التى تفيد أن أكثره عشرة، نجد روايات أخرى تفيد أنه سبع عشرة، وثمان عشرة، فحملوا ذلك على التقية، مع أن المذاهب الأربعة ترفض ذلك، والشيعة منهم من قال بأن أكثره ثمانية عشر يوماً، فكيف يحمل على ... التقية؟! ورووا عن الإمام على أنه قال: " النفساء تقعد أربعين يوماً فإن طهرت وإلا اغتسلت وصلت، ويأتيها زوجها، وكانت بمنزلة المستحاضة تصوم وتصلى ". ولا شك أن الإمام علياً لم يذق طعم التقية أبداً. وعن الإمام الصادق: " تقعد النفساء إذا لم ينقطع عنها الدم ثلاثين أو أربعين يوماً إلى الخمسين ". وعنه أيضاً: " كما كانت تكون مع ما مضى من أولادها وما جربت " قيل له: فلم تلد فيما مضى، فقال " بين الأربعين إلى الخمسين ". وعنه أيضاً: " أن نساءكم لسن كالنساء الأول، إن نساءكم أكثر لحماً وأكثر دماً، فلتقعد حتى تطهر ". وروايات الأربعين تتفق مع الروايات التى وردت عن طريق أهل السنة (3) ، ويمكن أن يقوى بعضها بعضاً، وأن نجعل هذا هو الغالب، كما ذهب إليه الإمام الشافعى نتيجة استقرائه، ونأخذ بالرواية الأخيرة للإمام الصادق، فالنساء يختلفن، وما أكثر الاختلاف كذلك باختلاف العصور! ولهذا فإن الإمام مالكاً بعد أن حدد   (1) انظر: بداية المجتهد 1/51. (2) انظر الروايات في: الوسائل 2/115-122، والاستبصار جـ 1 ص 150-154. (3) انظر نيل الأوطار 1 / 357 ـ 359، سبل السلام 1 / 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 953 أكثر النفاس بستين يوماً، رجع عن ذلك. وقال يسأل عن ذلك النساء. وأصحابه ثابتون على القول الأول (1) . والطب الحديث ـ وهو الخبير بما نحن فيه ـ يقرر أن النفاس يستمر إلى ستة أسابيع، وأنه قد يمتد إلى ثمانية أسابيع (2) ، مما يؤيد الروايات الأخيرة للشيعة التى رفضوا الأخذ بها، ويؤيد ما ذهب إليه المالكية والشافعية، ويدل على دقة ما أفتى به الإمام الشافعى، ويقطع برفض رأي الشيعة، الذى لا يتفق والروايات الأخيرة لهم. (3) سادس عشر: ما يتعلق بالميت من الأحكام الأحكام المختلف فيها تنقسم إلى قسمين (4) : الأول: مرجعه إلى مذهبهم الاثنى عشر الرافضي. الثانى: مرده إلى الخلاف في النظر والاستدلال. فمن النوع الأول: أنهم يرون ألا يغسل الكافر، وتوسعوا في مفهوم الكفار حتى حكموا بكفر كثير من المسلمين غير الإماميين، وقد ناقشنا ذلك من قبل عندما تناولنا حكم سؤر الآدمى. وفي تلقين الميت فإلى جانب تلقين الشهادتين يضيفون الإقرار بالأئمة.   (1) انظر بداية المجتهد 1/53. (2) انظر - A text Book For Midwives: John S.Fairbairn. p. 221 (3) راجع ما يتعلق بأحكام الميت عند السنة في المراجع الآتية: المبسوط 2/58 وما بعدها، حاشية ابن عابدين 1/888 وما بعدها، والمدونة 1/174 وما بعدها، وحاشية الدسوقى 1/407 وما بعدها، الأم 1/234 وما بعدها، وحاشية البجيرمى 1/294 وما بعدها، وكتابى المغنى والشرح الكبير 1/302 وما بعدها، سبل السلام 2/88 وما بعدها، وبداية المجتهد 1/230 وما بعدها. (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 954 وفي الكتابة يرون أن تكتب أسماء الأئمة بالتربة الحسينية، وأن يجعل مع الميت شيىء من هذه التربة. وفي نجاسة الإنسان بالموت، يخرجون الأئمة من هذا الحكم. وهذا القسم لا يصح إلا بصحة مذهبهم الذى يخالفه كل المسلمين غيرهم. وقد رأينا من قبل مدى التعصب والغلو والضلال، الذى دفعهم إلى تكفير الصحابة وغيرهم من المسلمين. وهنا نقطة أخرى نقف عندها قليلاً وهي التربة الحسينية، فقد جاء ذكرها هنا، وسيجىء لها ذكر في مواضع أخرى، فهم يفضلونها على بقاع الأرض جميعاً. وقد كتب أحد كبار علمائهم ـ وهو الإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء ـ رسالة بعنوان" الأرض والتربة الحسينية " (1) ، وذكر في هذه الرسالة فضل الأرض، ثم فضل التربة الحسينية بالذات، ومما جاء في هذه الرسالة: " لا يبعد أن تكون تربة العراق على الإجمال من أطيب بقاع الأرض في دماثة طينتها، وسعة سهولها، وكثرة أشجارها ونخيلها وجريان الرافدين عليها ... " (2) . وجاء أيضاً " إنما يعرف طيب كل شئ، بطيب آثاره، وكثرة منافعه، وغزارة فوائده. ويدل على طيب الأرض، وامتيازها على غيرها، طيب ثمارها، ورواء أشجارها، وقوة ينعها وريعها، وقد امتازت تربة كربلاء من حيث المادة والمنفعة بكثرة الفواكه وتنوعها، وجودتها وغزارتها حتى أنها في الغالب هي التى تمون أكثر حواضر العراق وبواديه بكثير من الثمار اليانعة التى تختصها، ولا توجد في غيرها. إذاً أفليس من صميم الحق والحق الصميم أن تكون أطيب بقعة في الأرض مرقداً أو ضريحاً لأكرم شخصية في الدهر؟   (1) الرسالة ملحقة بكتاب " الوضوء في الكتاب والسنة " ابتداء من ص 169. (2) ص 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 955 نعم لم تزل الدنيا تمخض لتلد أكمل فرد في الإنسانية، وأجمع ذات لأحسن ما يمكن من مزايا العبقرية في الطبيعة البشرية، وأسمى روح ملكوتية في أصقاع الملكوت، وجوامع الجبروت، فولدت نوراً واحداً شطرته نصفين: سيد الأنبياء محمداً، وسيد الأوصياء علياً، ثم جمعتهما ثانياً فكان الحسين مجمع النورين، وخلاصة الجوهرين كما قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حسين منى وأنا من حسين " (1) (2) وذكر فيما ذكر هذا البيت: ومن حديث كربلا والكعبة لكربلا بأن علو الرتبة (3) . وقال كذلك (4) " اتفق علماء الإمامية، وتضافرت الأخبار، بحرمة أكل الطين إلا من تربة قبر الحسين - عليه السلام - بآداب مخصوصه وبمقدار معين ". وذكر في موضع آخر رواية منسوبة للإمام الصادق وهي: " السجود على طين قبر الحسين ينور الأرضين السبع، ومن كانت معه سبحة من طين قبر الحسين كتب مسبحاً وإن لم يسبح " (5) . ونلاحظ ما يأتى: 1 ـ لو كان فضل هذا المكان لطيب الثمار، ورواء الأشجار إلى ما شابه ذلك، لوجدنا أماكن أخرى تشبهه أو تفضله في سائر بقاع الأرض، فضلًا عن أن هذا ليس من الأسس التى شرعها الإسلام في التفضيل من حيث السجود، أو التسبيح، أو غير ذلك من الأمور الدينية.   (1) ص 178. (2) (3) ص 179. (4) ص 180. (5) ص 185. آخر المنقول من " الأرض والتربة الحسينية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 956 2 ـ ولو كان فضل هذا المكان يرجع لكونه ضريحاً لأكرم شخصية في الدهر، فهناك من هو أكرم منه بكثير. أفلا يفضله من اصطفاه الله واجتباه، وأرسله رحمة للعالمين؟ 3 ـ إذا كان فضل الحسين يرجع لشرف انتسابه إلى الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلا يمكن أن يصل إلى صاحب الفضل. وإذا فسرنا " مجمع النورين " بأنه يفضل كل نور على حدة؛ أي أنه يفضل الرسول صلوات الله عليه، فلا أحد من المسلمين يقول به، ولا أظن الشيعة يقولونه، وإلا لخرجوا عن الإسلام. 4- تفضيل كربلاء على بيت الله الحرام غلو وأي غلو؟! وأين كربلاء من قول الله تعالى: (1) ""إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ "" ... وقال سبحانه: (2) "" أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا "" 5 - مذهبهم الاثنا عشرى ليس هو وحده الذى دفعهم إلى هذا الغلو، وإلا لفضلوا تربة أبى الأئمة كرم الله وجهه، وإنما الذى دفعهم إلى ذلك عقدة الشعور بالذنب، فالعراقِ هو الذى خدع الحسين رضي الله عنه، وأغراه بالخروج، ثم تخلى عنه، فكانَ سبباً في استشهاده ومن معه، فكأنهم يريدون أن يكفروا عن هذا الذنب، ولكِنهَم يفعلون ذلك بارتكاب ذنب آخر! وننتقل بعد ذلك إلى القسم الثانى من هذه الأحكام. وهو الذى يرجع إلى النظر والاستدلال، وإن كان لا يخلو من الطائفية المذهبية.   (1) سورة آل عمران: الآيتان (96، 97) . (2) سورة محمد: الآية (24) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 957 ومن هذا القسم نجد نقط الخلاف الآتية: 1 ـ تغسيل الميت بماء السدر ثم بماء الكافور، وإمساس أعضاء سجوده بالكافور، وكراهة تجمير الأكفان، أو تطييبه بغير الكافور والذريرة. 2 ـ يجعل مع الميت جريدتان. 3 ـ وجوب الغسل على من مس الميت. ولنناقش هذه النقاط: 1- فالشيعة قد خالفوا المذاهب الأربعة بإيجابهم تغسيل الميت بماء السدر ثم بماء الكافور، وإمساس أعضاء سجوده بالكافور، فلم يوجب ذلك أحد منهم وإن كان مستحباً. فقد نظر الشيعة إلى ما حدث على عهد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزلوه منزلة الإيجاب، ولذا أوجبوا ما سبق، وكرهوا التطييب بغير الكافور والذريرة، أما أهل السنة فقد أنزلوا ذلك منزلة الاستحباب، ورأوا جواز ما يؤدى نفس الغرض من التنقية والتطييب، ولهذا قال الإمام مالك " ليس في غسل الميت حد، يغسلون وينقون " (1) . وقال كذلك: وأحب إلى أن يغسل كما قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثاً أو خمساً بماء وسدر، ويجعل في الآخرة كافور إن تيسر ذلك " (2) . وسئل عن المسك والعنبر في الحنوط للميت فقال: " لا بأس بذلك " (3) . وعاب بعض الناس قوله الأول، وقال: سبحان الله! كيف لم يعرف أهل المدينة غسل الميت؟ ففسر الإمام الشافعى ذلك بأن الروايات فيه كثيرة، فرأي مالك معانيها على إنقاء الميت لأنها جاءت عن رجال غير واحد في عدد الغسل وما   (1) المدونة جـ 1 ص 184. (2) نفس المرجع ص 185. (3) المرجع السابق ص 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 958 يغسل به فقيل: غسل فلان فلاناً بكذا وكذا، وقيل بكذا وكذا، فهذا على قدر ما يحضرهم مما يغسل به الميت، وعلى قدر إنقائه لاختلاف الموتى في ذلك، واختلاف الحالات، وما يمكن الغاسلين ويتعذر عليهم، فقال مالك قولاً مجملاً: يغسل فينقى (1) . وإلى جانب ما ورد عن طريق السنة تأييداً لما ذهبوا إليه، ورد كذلك عن طريق الشيعة، فقد رووا أن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حنط بمثقال مسك سوى الكافور (2) . قالوا: " هذا محمول إما على بيان الجواز، أو على الاختصاص بالنبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو على التقية في الرواية ". فأما الجواز، فلو كان ذلك مكروهاً لما فعل، وأما الاختصاص فلا يوجد ما يدل عليه، وأما التقية فليس هناك ما يدعو الى الكذب فلا أحد يوجب المسك، ولو وجب لكفاهم الإتيان بذلك تقية بدلاً من الكذب على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعلى أهله الأطهار. ورووا عن أبى الحسن الثالث (3) أنه سئل: هل يقرب إلى الميت المسك والبخور؟ قال: " نعم ". وعن الإمام الباقر: أنه كان يجمر الميت (الكفن) بالعود فيه المسك وربما جعل على النعش الحنوط، وربما لم يجعله، وكان يكره أن يتبع الميت ... بالمجمرة (4) . وعن الإمام على أنه كان لا يرى بالمسك في الحنوط بأساً، وكان لا يرى بتجمير الميت بأساً وتجمير كفنه، والموضع الذى يغسل فيه ويكفن (5) .   (1) انظر: الأم 1 / 234. (2) الوسائل 3 / 344. (3) هو على الهادى، إمامهم العاشر. (4) الموضع السابق من الوسائل. (5) نفس المرجع ـ المستدرك ص 345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 959 ونرى أن في هذا كفاية. 2- وقد اتفق الشيعة مع كثير من السنة باستحباب وضع الجريد فوق القبر أو داخله، ولكنهم رأوا استحبابه أصلا داخل الكفن عن يمين الميت ويساره، ولا نظن في هذا كبير خلاف، ما دام مبدأ الاستحباب متفقاً عليه. 3- وأوجب الشيعة الغسل على من مس الميت بعد برده، وقبل غسله، ولم يوجبه أي من المذاهب الأربعة، وإنما جعلوا من الأغسال المستحبة غسل من غسل الميت ما عدا الحنفية، فلم يجعلوه واجباً ولا مستحباً، واختلفوا في إيجاب الوضوء منه (1) . والخلاف الذى وقع هنا بين الشيعة وأهل السنة لا يزيد عن الخلاف الذى وقع بين أهل السنة أنفسهم، فعلى حين نرى الحنفية لم يجعلوه حتى من الأغسال المستحبة، نرى المالكية والحنابلة يجعلونه مستحباً، ونرى الشافعية يكادون يجعلونه واجباً، فقد قال الإمام الشافعى: " أولى الغسل عندى أن يجب بعد غسل الجنابة من غسل الميت ولا أحب تركه بحال " وقال أيضاً: " إنما منعنى من إيجاب الغسل من غسل الميت أن في إسناده رجلاً لم أقع من معرفة ثبت حديثه إلى يومى هذا على ما يقنعنى، فإن وجدت ما يقنعنى من معرفة ثبت حديثه أوجبت الوضوء من مس الميت مفضياً إليه، فإنهما في حديث واحد " (2) . والحديث الذى رأي الإمام الشافعى أن الغسل لا يجب إلا أن يثبت هو حديث أبى هريرة أن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " من غسل ميتاً فليغتسل ". رواه الخمسة وأخرجه البيهقى، وفيه صالح مولى التوأمة وهو ضعيف. وبينما نجد من يضعف هذا الحديث، نجد الترمذى يحسنه، وابن حبان يصححه، والدارقطنى يرويه بسند رواته موثقون، وقدد صححه كذلك ابن حزم، وقال الحافظ: بأن الحاصل أن   (1) انظر: المبسوط جـ 1 ص 90، وحاشية الدسوقى جـ 1 ص 416، والأم 1 / 32، والمغنى والشرح الكبير 1 / 214، وبداية المجتهد 1 / 234. (2) الأم جـ 1 ص 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 960 الحديث أسوأ أحواله أن يكون حسناً لكثرة طرقه، وذكر المواردى أن بعض أصحاب الحديث خرج لهذا الحديث مائة وعشرين طريقاً (1) . وإذا نظرنا إلى أدلة أهل السنة نرى أنها تمنع إيجاب الغسل على من مس ميتاً، مثل " لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن ليس بنجس حياً ولا ميتاً "، وكذلك حديث " المؤمن لا ينجس "، بل إنها تمنع إيجابه من غسل الميت كحديث ابن عباس: " لا غسل عليكم من غسل الميت "، وكحديث " كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل، ومنا من لا يغتسل "، وما رواه الإمام مالك فى الموطأ عن عبد الله بن أبى بكر أن أسماء بنت عميس امرأة أبى بكر الصديق رضي الله عنه ـ غسلت أبا بكر حين توفى، ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين، فقالت: إن هذا يوم شديد البرد، وأنا صائمة، فهل على من غسل؟ قالوا: لا. وحديث أبى هريرة، إذا ثبت، يمكن حمله على الاستحباب. ويؤيد هذا من طرق الشيعة، ما روى عن الإمام على أنه قال: " الغسل من سبعة: من الجنابة وهو واجب، ومن غسل الميت، وإن تطهرت أجزأك " (2) ونجد من الشيعة من يرى استحباب هذا الغسل، وهو اختيار المرتضى، ورماه بعضهم بالضعف، وآخرون بالشذوذ (3) . وهكذا نجد خلافاً وقع بين الشيعة والسنة لا يزيد عن الخلاف الداخلى فى كل منهما، ولا غرو، فهو مبنى على اجتهاد واستدلال. فشتان بين هذا، وبين الخلاف الذى يبنى على التعصب المذهبى، فيخلق هوة سحيقة بينهما تمنع اللقاء.   (1) انظر نيل الأوطار جـ 1: باب الغسل من غسل الميت ص 297 وما بعدها. (2) الوسائل جـ 4 ص 225. (3) انظر: مفتاح الكرامة ـ كتاب الطهارة ص 512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 961 من أخبارهم في كتاب وسائل الشيعة: كل غلو عند الرافضة نراهم ينسبونه كذباً إلى الأئمة الأطهار، وفيما يتعلق بالميت من الأحكام نذكر بعض ما جاء فى الوسائل من الأخبار التى تبين غلوهم. فى الجزء الثانى (ص 665: 666) يذكر أربع روايات تحت باب " استحباب تلقى المحتضر الإقرار بالأئمة عليهم السلام وتسميتهم بأسمائهم "، ثلاث منها منسوبة لأبى جعفر الباقر: الأولى قوله: لو أدركت عكرمة عند الموت لنفعته. فقيل لأبى عبد الله ـ أي ابنه جعفر الصادق: بماذا كان ينفعه؟ قال: بلغته ما أنتم عليه. والثانية قوله: أما إني لو أدركت عكرمة قبل أن تقع النفس موقعها لعلمته كلمات ينتفع بها، ولكنى أدركته وقد وقعت موقعها. فقال أبو بصير: جعلت فداك، وما ذاك الكلام؟ قال: هو والله ما أنتم عليه، فلقنوا موتاكم عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله والولاية. وفى الثالثة: فلقنه كلمات الفرج والشهادتين، وتسمى له الإقرار بالأئمة عليهم السلام واحداً بعد واحد حتى ينقطع عنه الكلام. والرواية الأخيرة، أو الكذبة الرابعة، منسوبة للإمام الصادق (افتراء عليه) وهي قوله: والله لو أن عابد وثن وصف ما تصفون عند خروج نفسه ما طعمت النار من جسده شيئاً أبداً! هذه هي روايات الباب، وقولهم عن الصحابي عكرمة ـ رضي الله عنه ـ ليس غريباً بعد أن مر كثيراً تكفيرهم لخير الأمة، صحابة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والجرأة العجيبة فى نسبة الكذب على الله ـ عز وجل ـ للإمام الصادق رضي الله عنه: فلو أن عقيدة الإمامة الباطلة كانت صحيحة، بل لو كانت كالإيمان بالله سبحانه وتعالى سواء بسواء، فهل ينتفع عابد الوثن بالإيمان عند خروج نفسه؟! أو لم يؤمن فرعون قبل خروج نفسه؟ فهل نفعه إيمانه؟ . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 962 وفى الجزء الثانى أيضاً (ص 742: 743) باب " استحباب وضع التربة الحسينية مع الميت فى الحنوط والكفن وفى القبر ". وتحت الباب ثلاث روايات يكتفى بإثبات إحداها، وهي بالنص ما يأتى: " إن امرأة كانت تزنى وتوضع (هكذا) أولادها وتحرقهم بالنار خوفاً من أهلها، ولم يعلم به غير أمها. فلما ماتت دفنت فانكشف التراب عنها ولم تقبلها الأرض، فنقلت من ذلك المكان إلى غيره فجرى لها ذلك. فجاء أهلها إلى الصادق - عليه السلام - وحكوا له القصة، فقال لأمها: ما كانت تفعل هذه من المعاصي؟ فأخبرته بباطن أمرها، فقال الصادق - عليه السلام -: إن الأرض لا تقبل هذه، لأنها كانت تعذب خلق الله بعذاب الله، اجعلوا في قبرها شيئاً من تربة الحسين - عليه السلام -. ففعل ذلك بها، فسترها الله تعالى "!! انتهت القصة بدون تعليق! وفى الجزء نفسه (ص 757: 758) باب " استحباب كتابة اسم الميت على الكفن، وأنه يشهد أن لا إله إلا الله، ويكون ذلك بطين قبر الحسين - عليه السلام - ". وفى معنى الباب ثلاث روايات، نسبت إحداها إلى الإمام الثانى عشر الذى غاب منذ توليه الإمامة وهو طفل لم يكد يترك فترة الرضاعة إلا قليلاً، ولا يزال غائباً حتى عصرنا، وهو يرانا ولا نراه!! ويحج كل عام!! وسبق الحديث عن هذه الخرافة، وموقف الشيعة أنفسهم منها. وفى نهاية هذا الجزء بعد الخاتمة تجد ما قاله السيد كاظم الكفائى عن هذا الذى اعتبروه إماماً!! وتجد الحديث نفسه فى كتابى " فقه الشيعة الإمامية " (1 / 264 ـ 265) . وفى ص 869 نجد باباً عنوانه " كراهية البناء على القبر فى غير قبرالنبي ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ والأئمة عليهم السلام ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 963 وفى الواقع العملي نراهم يطوفون حول قبور الأئمة، ويدعون بأدعية مخصوصة فيها تكفير للصحابة الكرام البررة، وعلى الأخص أبو بكر وعمر خير الناس بعد رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ واللذان أقاما دولة الإسلام. وفى خاتمة الكتاب يأتى الحديث عن دعاء صنمى قريش. وموقف الرافضة منه فى عصرنا تبعاً لمن سبقوهم بالضلال والزندقة. وفى الجزء الثانى أيضاً من الوسائل (ص 842: 844) باب " استحباب قراءة الحمد والمعوذتين والإخلاص وآية الكرسي عند وضع الميت في قبره، وتلقينه الشهادتين، والإقرار بالأئمة عليهم السلام بأسمائهم حتى إمام زمانه ": ويضم الباب تسع روايات، والرواية لا تقف عند الكذب على الأئمة، بل تتعداهم لتصل إلى الصحابة الكرام، والرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فتنسب لابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما، أن النبي ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما وضع فاطمة بنت أم على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ فى قبرها زحف حتى صار عند رأسها، ثم قال: يا فاطمة إن أتاك منكر ونكير فسألاك عن ربك فقولى: " الله ربى، ومحمد نبيي، والإسلام دينى، والقرآن كتابى، وابنى إمامي ووليي ". والباب التالى " استحباب الدعاء بالمأثور للميت عند وضعه فى القبر، وجملة من أحكام الدفن. (ص 845 ـ 848) ويضم الباب ست روايات، الأخيرتان فيهما التلقين بأسماء الأئمة كالباب السابق. وفى باب آخر (ص 862: 863) عنوانه " استحباب تلقين الولى الميت الشهادتين، والإقرار بالأئمة عليهم السلام بأسمائهم بعد انصراف الناس "، نجد فيه ثلاث روايات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 964 سابع عشر: التيمم لا نجد بين الشيعة والسنة هنا إلا القليل من الخلاف وهو ينحصر في نقطتين: الأولى: وجوب الترتيب بين اليد اليمنى واليسرى. وقد ناقشنا ذلك من قبل عند مناقشتنا للترتيب فى الوضوء. الثانية: جواز التيمم لصلاة الجنازة مع وجود الماء ندباً. فإنهم لا يشترطون الطهارة لصلاة الجنازة، لأنهم لا يعدونها صلاة بالمعنى الحقيقى وإنما هي بمثابة دعاء، فلا ركوع ولا سجود، ويروون فى ذلك روايات منها: إن الإمام الصادق سئل عن الجنائز يصلى عليها على غير وضوء. فقال: " نعم، إنما هو تكبير وتسبيح وتحميد وتهليل، كما تكبر وتسبح فى بيتك على غير وضوء " (1) . وهم يعدون صلاة الجنازة من الصلوات الواجبة كالصلوات الخمس، والطهارة شرط لأي صلاة، فكيف إذن خرجوا بها عن مفهوم الصلاة لخلوها من الركوع والسجود، فهل التكبير والتسبيح فى البيت واجب كالصلوات الخمس، وبكيفية وشروط لابد منها كاشتراط تكبيرة الإحرام وغيرها من التكبيرات؟ نحن نصلى كما بين لنا الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس لنا أن نسقط شرطاً من شروط الصلاة إلا بأمر من المشرع نفسه، وهو الذى بين لنا أن صلاة الجنازة لا ركوع فيها ولا سجود، وألا صلاة بلا طهور، فهل استثنى من ذلك صلاة الجنازة كما ذهب الشيعة؟ ليس هناك عن طريق السنة ولا عن طريق الشيعة ما يثبت هذا الاستثناء من صاحب الشريعةr (2) . إنما ورد عن طريق الشيعة روايات عن الأئمة فقط   (1) الوسائل 3 / 453. (2) انظر المرجع السابق ص 452 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 965 كالرواية التي ذكرناها من قبل، ورواية واحدة عن الإمام على وهي أنه سئل عن الرجل يحضر الجنازة وهو على غير وضوء ولا يجد الماء؟ قال: يتيمم ويصلى عليها إذا خاف أن يفوته (1) . وهذه الرواية تتفق مع ما ذهب إليه السنة من اشتراط الطهارة لأنه لم يبح التيمم إلا مع عدم وجود الماء، وخوف الفوت. على أن من الشيعة أنفسهم من قيد جواز التيمم بخوف الفوت، ورد ما يخالف ذلك، ولم يعجب بعضهم هذا الرد، فقال: عمل الأصحاب بالرواية ـ أي رواية جواز التيمم مع وجود الماء ندباً ـ فلا يضر ضعفها (2) . وكيف لا يضر ضعفها، وهي تهدم مبدأ أساسياً من مبادئ العبادة وهو اشتراط الطهارة لأي صلاة، وعدم جواز التيمم لمن يستطيع الوضوء؟ إن صلاة الجنازة صلاة لا تجوز بغير طهور، والتيمم لها لا يجوز إلا بشروط كأي صلاة، والروايات التي تخالف ذلك لابد من إسقاطها وترك العمل بها، فإنها ـ مع ضعفها ـ تخالف الكتاب والسنة بإسقاطها شرطاً من شروط الصلاة، وإجازتها التيمم مع وجود الماء. ثامن عشر: النجاسات 1- يرى الشيعة الرافضة أن الكافر نجس، وقد ناقشنا ذلك من قبل وبينا ضلال غلاة الرافضة وكفرهم. 2- ويرون كذلك أن الميت ينجس الملاقى له مطلقاً. ولذلك أوجبوا الغسل على من مسه، وقد ناقشنا هذا أيضاً من قبل.   (1) المرجع السابق ص 454. (2) انظر مفتاح الكرامة ـ كتاب الطهارة ص 472 ـ 473. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 966 3- ويرون طهارة المذى والودى على خلاف المذاهب الأربعة (1) وأنهما لا ينقضان الوضوء. وقد أثبتنا من قبل نقضهما للوضوء. والأدلة التى استدلوا بها على طهارتهما تدخل ضمن ما احتجوا به على أنهما لا ينقضان الوضوء، وما استدل به على نجاستهما مما يستدل به على نقضهما للوضوء. وأضيف إلى ذلك ما ورد عن طريق الشيعة عن الإمام الصادق أنه سئل عن المذى يصيب الثوب؟ قال: إن عرفت مكانه فاغسله، وإن خفى عليك مكانه فاغسل الثوب كله. وفى رواية أخرى: يغسله ولا يتوضأ (2) . وحمل الروايتين على الاستحباب بعيد، فلو كان كذلك لكفى غسله إن عرف مكانه، دون مراعاة لتكلف غسل الثوب كله إن لم يعرف مكانه. وأما الحمل على التقية (3) فهو إلغاء للعقل، ففى الرواية الأخيرة " يغسله ولا يتوضأ "، والمذاهب الأربعة توجب الوضوء منه كما ذكرنا. والحنابلة وإن كانوا يرون أن حكم الودى حكم البول سواء، لأنه خارج من مخرجه، وجار مجراه، والمذى ظاهر المذهب أنه نجس، إلا أن هناك رواية عن الإمام أحمد أنه سئل عن المذى أشد أو المنى؟ قال: هما سواء، ليسا من مخرج البول، إنما هو من الصلب والترائب كما قال ابن عباس، هو عندى بمنزلة البصاق والمخاط (4) .   (1) انظر: حاشية ابن عابدين 1 / 327، وحاشية الدسوقى 1 / 56، وحاشيتى القليوبى وعميرة 1 / 69 ـ 70، والمغنى 1 / 7225. (2) انظر الوسائل 4 / 274 ـ 275. (3) انظر المرجع السابق ص 375. (4) انظر المغنى 1 / 735. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 967 وهذه الرواية تتفق مع الشيعة فى طهارة المذى. ولكنها تخالفهم فى حكم المنى. وسواء ألحقنا هذا أو ذاك بالبول أو المنى، فالشيعة يرون نجاستهما، فالأولى أن يلحق بهما المذى والودى. 4 ـ وفى النجاسة المعفو عنها فى الصلاة: فرق الشيعة بين الدم ودم الحيض، وبين ما يتم الصلاة فيه منفرداً، وما لا يتم فيه منفرداً: كالتكة، والجورب، والقلنسوة، ولم نجد هذه التفرقة عند المذاهب الأربعة (1) ، فهم يرون العفو عن يسير الدم مطلقاً فى ثياب المصلى. أما الشيعة فيرون أن دم الحيض تجب إزالته وإن قل، وألحق بعضهم به دم الاستحاضة والنفاس، وأجازوا الصلاة فيما لا يتم الصلاة فيه منفرداً مع نجاسته. واستدلوا بروايات عن أئمتهم، مثل ما رووه عن الإمام الصادق أو الباقر أنه قال: لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره، غير دم الحيض، فإن قليله وكثيره فى الثوب ـ إن رآه أو لم يره ـ سواء (2) . وعن زرارة قال: " قلت لأبى عبد الله - عليه السلام -: إن قلنسوتى وقعت فى بول فأخذتها فوضعتها على رأسى ثم صليت؟ فقال: لا بأس " (3) . وعن الإمام الصادق أيضاً: لا بأس بالصلاة فى الشيىء الذى لا تجوز الصلاة فيه وحده يصيب القذر، مثل: القلنسوة والتكة والجورب. وتبدو المشقة البالغة في الرواية الأولى، فدم الحيض القليل الذى لم يره المصلى مبطل لصلاته، على حين يظهر الاستهتار البالغ فى الرواية الثانية، فما   (1) انظر: حاشية ابن عابدين 1 / 325. وما بعدها، وحاشية الدسوقى 1 / 72، ... الأم 1 / 47، والمغنى 1 / 728 وما بعدها. (2) الوسائل 4 / 380. (3) المرجع السابق ص: 404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 968 الذى ألجأ زرارة إلى أن يأخذ قلنسوته من البول ويصلى بها؟ ولماذا لم يصل بدونها؟ ألا تندرج هذه من ضمن ما يشمله قوله تعالى: "" وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ""؟ ، ثم ألم تصب هذه القلنسوه بدنه بالنجاسة؟ إن هذه الرواية ـ وأمثالها ـ لا يمكن بحال أن تقبل، فهي تجيز الصلاة بنجاسة مغلظة يمكن تجنبها دون عسر ومشقة. أما ما يرونه من وجوب إزالة دم الحيض وإن قل، فإنا قد نجد ما يؤيدهم عن طريق أهل السنة (1) كحديث أسماء بنت أبى بكر قالت: " جاءت امرأة إلى النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيض ـ كيف تصنع؟ فقال: تحته، ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه، ثم تصلى فيه " متفق عليه. وفى حديث آخر: " فإذا طهرت فاغسلى موضع الدم، ثم صلى فيه ". وفى رواية: " حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر ". فهذه الأحاديث تفيد وجوب إزالة دم الحيض ـ وإن قل ـ لعمومها، ولكنا نجد رواية عن السيدة عائشة فى الحائض يصيب ثوبها الدم، قالت: " تغسله، فإن لم يذهب أثره فلتغيره بشئ من صفرة، قالت: ولقد كنت أحيض عند رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث حيض جميعاً لا أغسل لى ثوباً ". وفى رواية أخرى عنها قالت: " قد كان يكون لإحدانا الدرع فيه تحيض، وفيها تصيبها الجنابة، ثم ترى فيه قطرة من دم فتقصعه بريقها. وفى لفظ: ما كان لإحدانا إلا ثوب فيه تحيض فإن أصابه شيىء من دمها بلته بريقها ثم قصعته بظفرها ".   (1) انظر نيل الأوطار جـ 1 ص 47 وما بعدها ـ باب الحت والقرص والعفو عن الأثر بعدهما. وراجع صحيح البخارى: كتاب الحيض: باب غسل دم الحيض، وكتاب الوضوء: باب غسل الدم. وصحيح مسلم: كتاب الطهارة ـ باب نجاسة الدم وكيفية غسله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 969 وهذه الروايات ـ وما شاكلها ـ يمكن الجمع بينها دون تعارض بالعفو عن اليسير من دم الحيض، وتحمل الروايات التى أوجبت الغسل على غير اليسير تماماً كالدم بصفه عامة، والأحوط أن يغسل موضع الدم ما أمكن خروجاً من هذا الخلاف، والله سبحانه أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 970 الفصل الثاني: الصلاة أولاً: الجمع بين الصلاتين اختلف الشيعة فيما بينهم فى تحديد مواقيت الصلاة (1) والروايات التى رووها عن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تتفق مع روايات أهل السنة، كالرواية المشهورة عن جبريل - عليه السلام -، والروايات التى خالفت ذلك تنتهي إلى أئمتهم (2) . وهم فى اختلافهم لا ينفردون بالرأي، فمنهم من حدد المواقيت كالسنة، ولكنهم انفردوا بالقول دون المذاهب الأربعة، بإجازتهم الجمع بين الصلاتين بلا عذر، فلم يوافقهم أي مذهب منها (3) . وقد استدل الشيعة بعدة أحاديث مؤداها: أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، من غير خوف، ولا مطر، ولا سفر، توسعة لأمته، ومنعا للحرج عن المسلمين، إلى جانب روايات أخرى عن أئمتهم (4) . وإذا نظرنا في روايات السنة وجدنا ما يوافق أحاديثهم: كرواية ابن عباس رضي الله عنهما " أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالمدينة سبعا وثمانيا، الظهر والعصر، والمغرب والعشاء " متفق عليه، وفى رواية أخرى:   (1) انظر: مفتاح الكرامة ـ كتاب الصلاة 1/13 ـ29. (2) انظر وسائل الشيعة ومستدركاتها جـ 5 باب أوقات الصلوات الخمس ص166 ـ 177. (3) انظر: المبسوط 1 / 194 والموطأ 1 / 123 والأم 1 / 65 والمغنى 2 / 121. (4) انظر الوسائل ومستدركاتها جـ 5: باب جواز الجمع بين الصلاتين لغير عذر ص 225 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 971 " جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. قيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته " (1) . وقد خرج أصحاب المذاهب الأربعة مثل هذه الرواية على الجمع الصوري، بأن يصلى الظهر في آخر وقته، والعصر في أول وقته، وكذلك المغرب والعشاء، أو أن ذلك كان لعذر كمرض أو مطر، أو غير ذلك، ولهم ما يؤيد وجهة نظرهم (2) . ولكنا وجدنا آخرين: كابن سيرين وربيعة وابن المنذر وغيرهم، يستدلون بهذا على جواز الجمع مطلقا بشرط ألا يتخذ ذلك خلقا وعادة (3) ، ووجدنا من علماء السنة المعاصرين من يؤيد الأخذ برواية الجمع دفعا للحرج والمشقة (4) .   (1) راجع صحيح البخاري: كتاب مواقيت الصلاة: باب تأخير الظهر إلى العصر، وفتح البارى 2/ 24، وباب وقت المغرب، وكتاب التهجد: باب من لم يتطوع بعد المكتوبة، وفيه الجمع الصوري. وراجع صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها ـ باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، وانظر شرح النووي 2/356:359. وانظر نيل الأوطار 1/264 باب جمع المقيم لمطر أو غيره. (2) انظر مراجع أهل السنة السابقة، وبداية المجتهد 1 / 174 وما بعدها. (3) انظر الموضع السابق من نيل الأوطار. (4) أورد الشيخ أحمد شاكر ما حكى عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأسا أن يجمع بين الصلاتين إذا كانت حاجة أو شيء، ما لم يتخذه عادة، ثم قال: " وهذا هو الصحيح الذى يؤخذ من الحديث، وأما التأول بالمرض أو العذر أو غيره فإنه تكلف لا دليل عليه، وفى الأخذ بهذا رفع كثير من الحرج عن أناس قد تضطرهم أعمالهم، أو ظروف قاهرة، إلى الجمع بين الصلاتين، ويتأثمون من ذلك ويتحرجون، ففى هذا ترفيه لهم وإعانة على الطاعة، ما لم يتخذه عادة، كما قال ابن سيرين " (سنن الترمذى 1 / 358 ـ 359 الحاشية) . وقد ذكر الأستاذ الشيخ على الخفيف ما يؤخذ على المالكية من تركهم العمل بخبر الواحد إذا كان العمل في المدينة على خلافه، ومن هذه الأخبار حديث الجمع بين الصلاتين. (انظر: أسباب اختلاف الفقهاء ص 78 ـ 79) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 972 فلو اقتصر الشيعة على جواز الجمع دفعا للحرج "" َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ""، وتأسوا بالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حيث كان يفرق غالب الأوقات، وما كان يجمع إلا نادرا باعترافهم (1) ، لو فعلوا ذلك لكان لهم ما يؤيد مذهبهم، ولكنهم يجمعون دائما جماعة وفرادى كما يقول السيد كاظم الكفائى (2) ، بل يروون روايات تفيد استحباب الجمع، مثل: عن عياش الناقد قال: تفرق ما كان فى يدى، وتفرق عنى حرفائى، فشكوت ذلك إلى أبى محمد (ع) فقال لى: اجمع بين الصلاتين الظهر والعصر، ترى ما تحب " (3) . و" عن أمير المؤمنين - عليه السلام - قال: الجمع بين الصلاتين يزيد فىالرزق " (4) . فهذه مخالفة صريحة لما كان عليه الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولما أمر به سبحانه وتعالى فى قوله: "" إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ""، فالجمع بهذه الصورة مضيعة للمواقيت التى بينها جبريل والرسول عليهما السلام. وجاء عن طريقهم ـ غير حديث جبريل ـ روايات أخرى تفيد تحديد المواقيت الخمس، ولزوم المحافظة على هذه المواقيت، من ذلك ما كتبه الإمام على لمحمد بن أبى بكر عندما ولاه مصر: " وانظر إلى صلاتك كيف هي، فإنك إمام لقومك. ثم ارتقب وقت الصلاة فصلها لوقتها، ولا تعجل بها قبله لفراغ، ولا تؤخرها عنه لشغل، فإن رجلا سأل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أوقات الصلاة فقال: أتانى جبريل (ع) فأراني وقت الظهر حين زالت الشمس فكانت على حاجبه   (1) انظر: مفتاح الكرامة ـ كتاب الصلاة 1 / 23. (2) انظر حديثه بآخر هذا الجزء، وهذا ما رأيته في العراق والكويت. (3) الوسائل 5 / 227. (4) الوسائل 5 /227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 973 الأيمن، ثم أراني وقت العصر وكان ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين غربت الشمس، ثم صلى العشاء الآخرة حين غاب الشفق، ثم صلى الصبح فأغلس بها والنجوم مشتبكة، فصل لهذه الأوقات، والزم السنة المعروفة، والطريق الواضح " (1) . وقد احتج أحد علمائهم على مانعي الجمع لغير عذر بروايات السنة التي أباحت ذلك، وقال في آخر كلمته: " لا كلام في أن التفريق أفضل، ولذلك كان يؤثره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلا لعذر كما هي عادته في المستحبات كلها " (2) . فإذا كانت هذه حقيقة لا كلام فيها، فعلى أي أساس إذن يجمع الشيعة دائماً بين الصلاتين؟؟ ***** ثانيا: الأذان ينحصر الخلاف هنا في أن الشيعة يزيدون " حي على خير العمل " مرتين بعد " حي على الفلاح "، ويثنون لا إله إلا الله، وحاليا يزيدون الشهادة بالولاية بعد الشهادتين. وحجة الشيعة روايات عن أئمتهم تفيد ذلك (3) . وقالوا: إن " حى على خير العمل " كان موجوداً فى الأذان والإقامة إلى عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو الذى أسقطها رغبة منه فى إعلام الناس بأن خير العمل إنما هو الجهاد فى سبيل الله، وقد كان عصره عصر فتوحات، فلو   (1) انظر المرجع السابق ص 170. (2) انظر: رسالة الإسلام ـ العدد الثامن، السنة السابعة (رمضان سنة 1374) : الجمع بين الصلاتين للسيد شرف الدين الموسوى ص 148 وما بعدها. (3) انظر: الاستبصار جـ 1 ص 305 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 974 عرف الناس أن الصلاة خير العمل مع ما فيها من الدعة والسلامة لاقتصروا فى ابتغاء الثواب عليها، وأعرضوا عن خطر الجهاد المفضول بالنسبة إليها، وفتح الممالك لا يكون إلا بتشويق الجند إلى التورط فى سبيله بالمهالك، بحيث يشربون فى قلوبهم الجهاد، حتى يعتقدوا أنه خير عمل يرجونه يوم الميعاد، فقدم المصلحة على التعبد بما جاء به الشرع الأقدس، وقد تبعه فى إسقاطها عامة من تأخر عنه من المسلمين، حاشى أهل البيت ومن يرى رأيهم " (1) . وروى أن ابن عمر كان يؤذن بحى على خير العمل أحياناً، وعن على بن الحسين أنه قال: هو الأذان الأول، وعن زيد بن أرقم أنه أذن بذلك، وروى بذلك عن أمامة بن سهيل البدرى (2) . ويلعب الخيال الشيعى دوره، ويجد الوضاعون مجالا لهم هنا، فيروى أن الإمام السابع موسى الكاظم سئل عن (حي على خير العمل) لم تركت من الأذان؟ فقال: " أما العلة الظاهرة فلئلا يدع الناس الجهاد اتكالا على الصلاة، وأما الباطنة فإن خير العمل الولاية، فأراد من أمر بترك (حى على خير العمل) من الأذان ألا يقع حث عليها، ودعاء إليها " (3) . وسواء قال الإمام ذلك أو لم يقله، فهو طعن فى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتعصب جاهل لمبدأ دخيل، وإذا كانت الولاية خير العمل فلم لم يوضح ذلك الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وكيف حرم منها الصفوة الصافية من سلف المسلمين رضوان الله عليهم؟ وكيف أن عمر الفاروق يعلم بأن الولاية خير عمل فيقدم على أمر فيه مخالفة لله سبحانه ولرسوله عليه الصلاة والسلام؟ لقد ذكرنا من قبل أن الشيعة جميعهم ليس فيهم من يصل إلى مكانة عمر رضي الله عنه باعتراف أبى الأئمة على كرم الله وجهه، ولكن العداء للإسلام،   (1) انظر: الفصول المهمة ص 89 ـ 92. (2) انظر: نيل الأوطار 2 / 19. (3) الحقائق جـ 2 ص 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 975 ولرافعى رايته من خيرة المسلمين، هو الذى دفع هؤلاء إلى الطعن في شخصية ارتبط اسمها بالعدالة الإسلامية، وبالدفاع عن الدين، ونشره في العالمين. ويبقى بعد ذلك أن روايات الشيعة يعارضها الأحاديث الصحيحة في كتب السنة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فليس في شيء منها ما يدل على ثبوت حي على خير العمل، وليس فيها أن عمر رضوان الله عليه أو غيره هو الذى أسقط ذلك، فالأذان كما بينه الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتفق مع ما ذهب إليه أصحاب المذاهب الأربعة (1) . ولا خلاف في أن الأذان المشروع هو ما كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وليس لأحد أن يزيد فيه أو ينقص منه. ولكنني عندما سمعت آذانهم وجدتهم يزيدون بعد الشهادتين " أشهد أن علياً ولى الله، أشهد أن علياً أمير المؤمنين وأولاده المعصومين حجة الله ". بحثت فى كتاب " مستمسك العروة الوثقى " للمرجع السابق السيد محسن الحكيم، فوجدته يقرر أن الشهادة بالولاية ليست جزءاً من الأذان والإقامة بلا خلاف ولا إشكال، وينقل عن محكى الفقيه قوله: (هذا هو الأذان الصحيح، لا يزاد فيه ولا ينقص منه، والمفوضة لعنهم الله قد وضعوا أخبارا زادوا بها فى الأذان: " محمد وآل محمد خير البرية " مرتين، وفى بعض رواياتهم بعد " أشهد أن محمداً رسول الله " " أشهد أن علياً ولى الله " مرتين. ومنهم من روى بدل ذلك " أشهد أن علياً أمير المؤمنين حقاً " مرتين، ولا شك فى أن علياً ولى الله، وأمير المؤمنين حقاً، وأن محمداً وآله صلى الله عليهم خير البرية، لكن ليس ذلك فى أصل الأذان) .   (1) ارجع إلى: المبسوط 1 / 127 ـ 129، والمدونة 1 / 57 ـ 58، والأم 1 / 73 ـ 74، والمغنى 1 / 418 ـ 422، وانظر كذلك: نيل الأوطار 2 / 15 ـ 26. وصحيح مسلم ـ كتاب الصلاة: باب صفة الأذان، وصحيح البخارى ـ كتاب الأذان ـ وصحيح ابن خزيمة ـ جماع أبواب الأذان والإقامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 976 وقال: " وإنما ذكرت ذلك ليعرف بهذه الزيادة المتهمون بالتفويض المدلسون أنفسهم فى جملتنا ". وعن الشيخ فى محكى النهاية " فأما ما روى فى شواذ الأخبار من قول: أن علياً ولى الله وآل محمد خير البرية، فمما لا يعمل عليه فى الأذان والإقامة، فمن عمل به كان مخطئاً ". ونقل عن المبسوط: " وأما قول: أشهد أن علياً أمر المؤمنين وآل محمد خير البرية ـ على ما ورد في شواذ الأخبار ـ فليس بمعمول عليه في الأذان، ولو فعله الإنسان لم يأثم به، غير أنه ليس من فضيلة الأذان ولا كمال فصوله ". وعن المنتهي: " وأما ما روى من الشاذ من قوله: أن علياً ولى الله وأن محمدا وآله خير البرية ـ فمما لا يعول عليه " (1) . ولكن السيد الحكيم عقب على ذلك بقوله: " الظاهر من المبسوط إرادة نفى المشروعية بالخصوص، ولعله أيضا مراد غيره، لكن هذا المقدار لا يمنع من جريان قاعدة التسامح على تقدير تماميتها في نفسها، ومجرد الشهادة بكذب الراوي لا يمنع من احتمال الصدق الموجب لاحتمال المطلوبية، كما أنه لا بأس بالإتيان به بقصد الاستحباب المطلق لما في خبر الاحتجاج " إذا قال أحدكم: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فليقل: على أمير المؤمنين، بل ذلك في هذه الإعصار، معدود من شعائر الإيمان، ورمزا إلى التشيع، فيكون من هذه الجهة راجحاً شرعاً، بل قد يكون واجباً، لكن لا بعنوان الجزئية من الأذان. ومن ذلك يظهر وجه ما في البحار من أنه لا يبعد كون الشهادة بالولاية من الأجزاء المستحبة للأذان: بشهادة الشيخ والعلامة والشهيد وغيرهم بورود الأخبار بها " (2) .   (1) راجع ما سبق في مستمسك العروة الوثقى جـ 5 ص 437 ـ 438. والمبسوط، وغيره من الكتب التى ذكرت، لعلماء من الشيعة. (2) المرجع السابق 5 / 438. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 977 ولا أدرى لم استحق قوم اللعنة لأنهم زادوا " محمد وآل محمد خير البرية " ولم يستحق هذه اللعنة من زاد الشهادة بالولاية التي لا يقول بها أحد غير الإمامية الرافضة؟! ولنا أن نتساءل بعد هذا: أكل من ارتأي رأيا ـ ولو كان صحيحاً ـ فله أن يزيده فى الأذان؟ وكيف يكون الأذان إذن لو زاد كل ما ارتأي؟! إن الأذان شرع للصلاة، وليس اعلاناً عن المبادىء التي يراها كل فريق. فيجب أن يبقى كما بينه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فليس لأحد أن يشرع من بعده. وشيء آخر أحب أن أشير إليه هنا وهو أنهم أسقطوا أذانين!! فحرصهم على الجمع بين الصلاتين دائما جرفهم إلى الاكتفاء في مساجدهم بالأذان ثلاث مرات، وأسقطوا أذان العصر وأذان العشاء. ولا شك أن هذا يخالف ما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما أمر به"" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ... "". وأولى لمن يزعمون أنهم أتباع أهل البيت أن يتبعوا سنة صاحب البيت - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لا أن يهدموا البيت لبنة لبنة، أو يغيروا معالمه، فجمعهم الدائم وآذانهم فيهما هدم وتغيير. نسأل الله تعالى أن يهديهم سواء السبيل. ثالثا: المساجد لبيوت الله تعالى أحكامها الخاصة، فهي ليست كغيرها من البيوت. والشيعة الاثنا عشرية يتفقون مع جمهور المسلمين في تعظيم المساجد بصفة عامة، وفى الأحكام الخاصة بها، لكن الغلو والضلال لا يفارقهم، والوضاعون من غلاتهم وزنادقتهم يضعون من الأخبار ما يتفق مع ضلالهم. ونضرب أمثلة لبعض ما نراه من ضلالهم: اتخذ هؤلاء القوم قبور أئمتهم مساجد، ونراهم في الواقع العملي يزورون هذه القبور، ويطوفون حولها، ويصلون خلفها، أي يجعلون القبر قبلتهم. وفى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 978 زيارتهم وطوافهم يدعون بدعاء مخصوص، يعتبرونه مأثورا، فيه تكفير للصحابة الكرام ـ رضي الله تعالى عنهم ولعن أعداءهم، ويخصون خير الناس بعد رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهم الشيخان الصديق والفاروق، بمزيد من التكفير واللعن. ومسجد الكوفة أسسه سعد بن أبى وقاص ـ رضي الله عنه ـ فى العام السابع عشر من الهجرة، وأعيد بناؤه بعد ذلك. وفى هذا المسجد محراب أمير المؤمنين على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه وكرم وجهه، وفيه ضربه بالسيف الشقى اللعين عبد الرحمن بن ملجم (1) . ولهذا يغالون فى هذا المسجد، ويقدمونه على باقي بيوت الله تعالى عدا الحرمين الشريفين فقط، فالصلاة فيه بألف صلاة، أي كالصلاة في مسجد رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأفضل من المسجد الأقصى: أولى القبلتين، وثالث الحرمين. وسيأتي مزيد من الضلال في مروياتهم، ووصفهم لبعض مساجد الكوفة بأنها ملعونة ـ لعنوا بما قالوا. وفى مسجد رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بيت على وفاطمة رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما، فيرى هؤلاء القوم الضالون أن الصلاة في بيتهما أفضل من الصلاة في الروضة الشريفة. وننظر في كتاب وسائل الشيعة: في الجزء الثالث نجد عدة أبواب: منها: باب أنه يجوز لزائر الإمام أن يصلى خلف قبره، أو إلى جانبيه ولا يستدبره ولا يساويه ـ (ص 454: 456) . في الرواية الأولى: أما السجود على القبر فلا يجوز في نافلة ولا فريضة ولا زيارة، بل يضع خده الأيمن على القبر. وأما الصلاة فإنها خلفه ويجعله   (1) انظر: مساجد ومعاهد جـ 2: جامع الكوفة ص 219: 221 ـ بحث للدكتور السيد محمود عبد العزيز سالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 979 الإمام، ولا يجوز أن يصلى بين يديه، لأن الإمام لا يتقدم ويصلى عن يمينه وشماله. وفى الرواية الثانية: لا يجوز أن يصلى بين يديه، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، لأن الإمام لا يتقدم عليه ولا يساوى. وقال صاحب الوسائل: الأولى محمولة على الجواز، والثانية على الكراهة. قلت: أي أن المستحب أن يكون القبر قبلة فى الصلاة بركوعها وسجودها، أقرب ما يكون إلى عبادة الأصنام والأوثان!! ومع هذا ففى الرواية السادسة: من صلى خلفه صلاة واحدة يريد بها الله تعالى لقى الله تعالى يوم يلقاه وعليه من النور ما يغشى له كل شيىء يراه. وفى السابعة: يصلى خلفه ولا يتقدم عليه، فهما تأكيد لضلالهم السابق. أما الرواية الثالثة ففيها أن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: لا تتخذوا قبرى قبلة ولا مسجداً، فإن الله عز وجل لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. ومثلها الرواية الخامسة. فقال صاحب الوسائل: هذا محمول على الكراهة لما مر، ويحتمل النسخ، ويحتمل أن يريد بالقبلة أن يصلى إليه من جميع الجهات كالكعبة!! قلت: يا هذا كيف أن اللعن يحتمل الكراهة!! وكيف ينسخ؟!! أفبعد أن لعنهم الله عز وجل رضي عنهم عندما ظهر منهم ـ مثلا ـ عبد الله بن سبأ صاحب فكرة الوصى بعد النبى!! وكيف تكون الصلاة إلى جميع الجهات وهي لا تكون إلا إلى الكعبة؟ !! أي أن المصلى يجعل القبر بينه وبين شطر الكعبة؟! ومن هذه الأبواب باب ما يستحب الصلاة فيه من مساجد الكوفة، وما يكره منها (ص 519: 520) فى الرواية الأولى ينسب كذبا للإمام الباقر أنه قال: إن بالكوفة مساجد ملعونة، ومساجد مباركة ... إلخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 980 والروايات كلها تدور حول هذه الفكرة الضالة حيث جعلوا مساجد الرافضة مباركة، ومساجد غيرهم ملعونة. لعنوا بما قالوا، بل كلها بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيه اسمه تبارك وتعالى. أما مسجد الكوفة الذى بناه سعد بن أبى وقاص، وأشرت إليه آنفت فى الحديث عن المساجد فقد خصص له باب يضم ثمانية وعشرين خبرا من مروياتهم، وهو باب تأكد استحباب قصد مسجد الأعظم بالكوفة ولو من بعيد، وإكثار الصلاة فيه فرضاً ونفلاً، واختياره على غيره من المساجد إلا ما استثنى: (ص 520: 528) ويطول بنا الحديث لو أثبتنا هنا كل هذه الأكاذيب والضلالات، ولذا نكتفى ببعضها: الخبر الأول عن الإمام الباقر أنه قال: مسجد كوفان روضة من رياض الجنة، صلى فيه ألف نبى وسبعون نبياً، وميمنته رحمة، وميسرته مكرمة، فيه عصا موسى، وشجرة يقطين، وخاتم سليمان، ومنه فار التنور وبحرت السفينة، وهي صرة بابل ومجمع الأنبياء. وفى الخبر الثانى: صلى فيه ألف نبى وألف وصى: وفى الخبر الثالث: ما من عبد صالح ولا نبى إلا وقد صلى فى مسجد كوفان، حتى أن رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لما أسرى به قال له جبريل: أتدرى أين أنت الساعة يا رسول الله؟ أنت مقابل مسجد كوفان، قال: فاستأذن لي ربى حتى آتيه فأصلى ركعتين. فاستأذن الله ـ عز وجل ـ فأذن له.. (1) . وإن الصلاة المكتوبة فيه لتعدل بألف صلاة وإن النافلة فيه لتعدل بخمسمائة صلاة..   (1) هذه الفرية لها أثرها فى الواقع العملى عند الشيعة، فعندما زرت هذا المسجد وجدت محراباً يقولون عنه أنه محراب رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ الذى صلى فيه ليلة الإسراء!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 981 وفى عدد من الأخبار تأكيد أنه روضة من رياض الجنة، وأن الصلاة فيه بألف صلاة، ومن المعلوم أن هذا ليس إلا لمسجد الرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ بعد المسجد الحرام حيث تعدل مائة ألف صلاة، وقبل ثالث الحرمين وأولى القبلتين، المسجد الأقصى، فالصلاة فيه بخمسمائة صلاة. وفى بعض الأخبار أن آدم هو الذى خط هذا المسجد!! وفى بعضها أن النافلة فى هذا المسجد تعدل عمرة مع النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والفريضة تعدل حجة مع النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.. وفى بعضها: حجة مقبولة، وعمرة مقبولة.. وفى بعضها: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومسجد الكوفة! فوضع الكذابون مسجد الكوفة بدلاً من المسجد الأقصى كما جاء فى الحديث الصحيح المشتهر. وفى بعضها: مكة حرم الله ـ تعالى، وحرم رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحرم على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه.. والمدينة حرم الله، وحرم رسوله، وحرم على بن أبى طالب.. والكوفة حرم الله، وحرم رسوله، وحرم على بن أبى طالب.. وفى بعضها أن أمير المؤمنين قال: ياأهل الكوفة، لقد حباكم الله عز وجل بما لم يحب به أحدا، من فضل مصلاكم، بيت آدم، وبيت نوح، بيت إدريس، ومصلى إبراهيم الخليل، ومصلى أخى الخضر، ومصلأي. وإن مسجدكم هذا لأحد المساجد الأربعة التى اختارها الله عز وجل لأهلها، وكأنى به قد أتى به يوم القيامة فى ثوبين أبيضين يتشبه بالمحرم ويشفع لأهله ولمن يصلى فيه فلا ترد شفاعته، ولا تذهب الأيام والليالى حتى ينصب الحجر الأسود فيه، وليأتين عليه زمان يكون مصلى المهدى من ولدى، ومصلى كل مؤمن ... إلخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 982 وبعد: نكتفى بهذا القدر من أكاذيب هؤلاء الغلاة، والخبر الأخير يذكرنا بما فعله القرامطة، وهي فرقة من فرق الشيعة، أو من يسمون أنفسهم بأهل البيت، حيث نزعوا الحجر الأسود من مكانه بالكعبة المشرفة، وحملوه إلى ديارهم، إلى أن أعيد بعد ذلك. ولعل هؤلاء القوم يفكرون فى حمله إلى الكوفة كما فعل أسلافهم من القرامطة! وبعد الباب السابق يأتى " باب استحباب اختيار الإقامة فى مسجد الكوفة والصلاة فيه على السفر إلى زيارة المسجد الأقصى (ص 528: 529) . ويليه " باب عدم استحباب السفر للصلاة فى شيىء من المساجد إلا المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومسجد الكوفة (529: 530) . وفى ص 547 من الجزء الثالث نفسه يقع " باب استحباب اختيار الصلاة فى بيت على وفاطمة عليهما السلام، على الصلاة فى الروضة!! ولا حاجة لذكر الأخبار، فالأبواب السابقة يكفى قراءة العنوان لتدرك ضلال هؤلاء القوم. ***** رابعا: السجود على ما ليس بأرض يرى الشيعة عدم جواز السجود على ما ليس بأرض كالجلود والأصواف، ويجيزونه عليها وعلى نباتها غير المأكول والملبوس عادة، عدا الكتان والقطن ففيه خلاف. وهم كذلك يرون أفضلية السجود على التربة الحسينية، ولذا يضعون فى مساجدهم قطعا من هذه التربة معدة للسجود عليها، يضعونها تحت الجبهة، كما يحمل الكثيرون مثل هذه القطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 983 وقد خالفهم فى ذلك أصحاب المذاهب الأربعة، حيث أجازوا السجود على ما ليس بأرض ما دام طاهرا، ولكن، كان مالك يكره أن يسجد الرجل على الطنافس وبسط الشعر والثياب والأدم، وكان يقول: لا بأس أن يقوم عليها، ويركع عليها، ويقعد عليها، ولا يسجد عليها، ولا يضع كفيه عليها (1) . ومستند الشيعة فيما ذهبوا إليه روايات عن أئمتهم، مثل ما روى عن الإمام الصادق أنه قال: " لا تسجد إلا على الأرض، أو ما أنبتته الأرض، إلا القطن والكتان " (2) . وما روى عن هشام بن الحكم أنه قال للإمام الصادق: أخبرني عما يجوز السجود عليه وعما لا يجوز. قال: السجود لا يجوز إلا على الأرض أو على ما أنبتت الأرض، إلا ما أكل أو لبس. فقال له: جعلت فداك، ما العلة فى ذلك، قال: لأن السجود خضوع لله عز وجل، فلا ينبغى أن يكون على ما يؤكل ويلبس، لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون. والساجد فى سجوده فى عبادة الله عز وجل، فلا ينبغى أن يضع جبهته فى سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها (3) . ولكنا نجد روايات أخرى عن طريقهم تعارض هذا، مثل ما روى عن ياسر الخادم قال: " مربى أبو الحسن وأنا أصلى على الطبرى، وقد ألقيت عليه شيئاً أسجد عليه، فقال لى: مالك لا تسجد عليه، أليس هو من نبات الأرض؟ " (4) وسئل إمامهم العاشر أبو الحسن الثالث على الهادى: " هل يجوز السجود على الكتان والقطن من غير تقية؟ فقال: جائز " (5) .   (1) المدونة 1 / 75، وانظر: الأم 1 / 78، والمغنى 1 / 728. (2) الاستبصار جـ 1 ص 331. (3) انظر: الحقائق 2 / 140. (4) الموضع السابق من الاستبصار. (5) المرجع السابق ص 332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 984 وكتب إليه أحدهم يسأله عن السجود على القطن والكتان من غير تقية ولا ضرورة، فكتب إليه: ذلك جائز (1) . وأمام هذا الاضطراب فى الروايات، حمل بعضهم مثل الروايات الأخيرة على التقية أو الضرورة (2) ، مع أنها تنفى ذلك، ورأي آخرون الأخذ بها، فأجازوا السجود على القطن والكتان (3) . ورأينا بعضهم يجيز السجود على الحنطة والشعير (4) ، وهذا ينافى التعليل السابق فى الرواية الثانية من أن السجود لا ينبغى أن يكون على ما يؤكل ويلبس، لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، فأي شئ أقرب إلى الناس من القطن والكتان، والحنطة والشعير؟ ويعارض ما ذهب إليه الشيعة، ما روى عن طريق السنة من أن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على بساط، وكان يصلى على الحصير والفروة المدبوغة، وعن أبى الدرداء قال: ما أبالى لو صليت على خمس طنافس، وصلى ابن عباس على طنفسة (5) . فلم يثبت إذن عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لم يجز السجود على ما ليس بأرض، بل ثبت غير ذلك، كصلاته ـ - عليه السلام - ـ على الفروة المدبوغة.   (1) نفس المرجع ص 333. (2) انظر المواضع السابقة من الاستبصار. (3) انظر: مفتاح الكرامة ـ كتاب الصلاة 1 / 246 ـ 247. (4) انظر: المرجع السابق ص 245. (5) انظر: نيل الأوطار 2: باب الصلاة على الفراء والبسط وغيرهما من المفارش ... ص 127، وراجع صلاته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على البساط في صحيح البخاري ـ كتاب الأدب: باب الكنية للصبى، باب الزيارة، وارجع إلى صحيح مسلم بشرح النووي ـ كتاب المساجد باب جواز الجماعة في النافلة ـ والصلاة على الحصير وخمرة وثوب وغيرها من الطاهرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 985 ونجد في القرآن الكريم ما يؤيد ما ذهب إليه السنة، قال تعالى: في سورة النحل (آية 80) : "" وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ "". رأي الشيعة أن فى هذه الآية الكريمة دلالة على جواز اتخاذ الفرش والآلات من جلود الأنعام وأصوافها وأشعارها، وجواز الصلاة عليها إلا ما أخرجه الدليل من عدم جواز السجود على شئ من ذلك، بل إما على الأرض، أو ما ينبت فيها غير مأكول ولا ملبوس (1) . وقد رأينا ألا دليل على عدم جواز السجود على شئ من ذلك، بل ما روى عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتمشى مع مدلول هذه الآية الكريمة، فلا مناص إذن من رفض رواياتهم عن أئمتهم التى تعارض الكتاب والسنة. وأما تفضيل الشيعة السجود على التربة الحسينية، فيقول فى ذلك أحد أعلامهم: " ولعل السر فى التزام الشيعة الإمامية السجود على التربة الحسينية مضافاً إلى ما ورد فى فضلها من الأخبار، ومضافاً إلى أنها أسلم من حيث النظافة والنزاهة من السجود على سائر الأرض، وما يطرح عليها من الفرش والبوارى والحصر الملوثة، والمملوءة غالباً من الغبار والمكروبات الكامنة فيها، مضافاً إلى كل ذلك، لعل من جملة الأغراض العالية، والمقاصد السامية، أن يتذكر المصلى حين يضع جبهته على تلك التربة تضحية ذلك الإمام نفسه وآل بيته، والصفوة من أصحابه فى سبيل العقيدة والمبدأ، وتحطم هياكل الجور والفساد والظلم والاستبداد. ولما كان السجود أعظم أركان الصلاة، وفى الحديث (أقرب ما يكون العبد إلى ربه حال سجوده) ، فناسب أن يتذكر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية،   (1) انظر: كنز العرفان ص 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 986 أولئك الذين وضعوا أجسامهم عليها ضحايا للحق، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى، ليخشع ويخضع، ويتلازم الوضع والرفع، ويحتقر هذه الدنيا الزائفة، وزخارفها الزائلة، ولعل هذا هو المقصود من أن السجود عليها يخرق الحجب السبع " (1) . وقد ناقشنا ذلك من قبل في الفصل السابق (2) وبينا مدى مغالاة الشيعة في نظرتهم إلى التربة الحسينية، وحاولنا تعليل ذلك، فلا مدعاة إذن لتكرار ما ذكر. خامسا: التكلم في الصلاة اتفق الشيعة مع المذاهب الأربعة على منع التكلم فى أثناء الصلاة، ولكنهم اختلفوا فى نقاط ثلاث، فقد أجاز الشيعة تشميت العاطس وأوجبوا رد السلام، وحرموا قول آمين آخر الحمد على خلاف بينهم؛ فالكثرة الغالبة تذهب إلى القول بالتحريم وبطلان الصلاة، وذهب بعضهم إلى الحرمة دون البطلان، وقيل بالكراهية فقط (3) . أما المذاهب الأربعة فقد منعوا رد السلام، وتشميت العاطس واستحبوا قول آمين، إلا أن الإمام مالكا جعل التأمين للمأموم دون الإمام (4) .   (1) الأرض والتربة الحسينية للإمام محمد الحسين آل كاشف الغطاء: ص 170 ـ 180، ملحق بكتاب: الوضوء فى الكتاب والسنة. (2) انظر: " سادس عشر " من الفصل السابق. (3) انظر: مفتاح الكرامة ـ كتاب الصلاة: 1 / 367 ـ 369، 2 / 37 ـ 45. (4) انظر: المبسوط 1 / 32 ـ 33، و170 ـ 171، والمدونة 1 / 71، 99 ـ 100 والأم 1 / 94 ـ 95، و107، والمغنى 1 / 532 ـ 533، و715 ـ 716. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 987 واستدل الشيعة على وجوب رد السلام بقوله تعالى: "" وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا "" (1) . قال صاحب كنز العرفان: " إذا سلم أحد على المصلى وجب عليه الرد، لإطلاق الأمر بالرد المتبادل لحال الصلاة وغيرها، وليس هو من كلام الآدميين فيدخل تحت النهي، لأن هذه الصيغة وردت فى القرآن " (2) . واستدلوا كذلك بروايات عن أئمتهم، كرواية عثمان بن عيسى عن الإمام الصادق قال: " سألته عن الرجل يسلم عليه فى الصلاة، قال: يرد بقوله: سلام عليكم، ولا يقول: عليكم السلام، فإن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قائما يصلى، فمر به عمار بن ياسر، فسلم عليه، فرد عليه النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهكذا " (3) . وعن محمد بن مسلم قال: " دخلت على أبى جعفر - عليه السلام - وهو فى الصلاة، فقلت: السلام عليك. فقال: السلام عليك. قلت: كيف أصبحت؟ فسكت. فلما انصرف قلت له: أيرد السلام وهو فى الصلاة؟ قال: نعم مثل ما قيل له " (4) . وأجازوا تشميت العاطس، مستندين إلى روايات عن أئمتهم، مثل ما روى عن أبى بصير: " قلت له (أي للإمام الصادق) : أسمع العطسة، فأحمد الله، وأصلى على النبى وأنا فى الصلاة؟ قال نعم ولو كان بينك وبين صاحبك البحر " (5) .   (1) سورة النساء: الآية (86) . (2) ص 71، وانظر كذلك: المعتبر 198، والانتصار 27. (3) المعتبر ص 198. (4) المرجع السابق: 198. (5) المرجع السابق ص 197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 988 أما قول آمين فقد اعتبروه من الكلام المنهي عنه فى الصلاة، واحتجوا بما روى عن أئمتهم، كقول الإمام الصادق: " إذا كنت خلف إمام فقرأ الحمد، وفرغ من قراءتها، فقل أنت: الحمد لله رب العالمين، ولا تقل آمين (1) . ونلاحظ فيما سبق أن استدلالهم بالآية الكريمة يصح إذا لم يكن لها ما يخصصها، وأن آراءهم تتعلق بمدى صحة رواياتهم، والأخذ بها، وإلا فلا يمكن أن يكون التأمين كلاما منهيا عنه فى الصلاة، على حين يجوز تشميت العاطس، فالمسألة إذن تتعلق بالأدلة النقلية. ومن المعروف أن التكلم كان مباحا فى الصلاة، ثم نهي المسلمون عنه، فقد ثبت ما يفيد ذلك، كرواية زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم فى الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه فى الصلاة، حتى نزلت (وقوموا لله قانتين) فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام ". رواه الجماعة إلا ابن ماجه (2) . وينطبق هذا على رد السلام، وتشميت العاطس، فقد ثبت النهي عنهما، فعن ابن مسعود قال: " كنا نسلم على النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو فى الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشى، سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك فى الصلاة فترد علينا، فقال: " إن فى الصلاة لشغلا " متفق عليه. وفى رواية: " كنا نسلم على النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ كنا بمكة قبل أن نأتى أرض الحبشة، فلما قدمنا من أرض الحبشة أتيناه، فسلمنا عليه، فلم يرد، فأخذنى ما قرب وما بعد حتى قضوا الصلاة، فسألته، فقال: إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإنه   (1) الاستبصار 1 / 318. (2) انظر: نيل الأوطار 2 / 360. والبخارىـ كتاب العمل فى الصلاة: باب ما ينهي من الكلام فى الصلاة. ومسلم ـ كتاب المساجد ـ باب تحريم الكلام فى الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 989 قد أحدث من أمره أن لا نتكلم فى الصلاة " رواه أحمد والنسائى وأبو داود وابن حبان فى صحيحه (1) . وعن معاوية بن الحكم السلمى قال: " بينما أنا أصلى مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرمانى القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أماه! ما شأنكم تنظرون إلى؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتوننى لكنى سكت، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبأبى وأمى ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه، فو الله ما كهرنى، ولا ضربنى، ولا شتمنى، قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيىء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ". رواه أحمد ومسلم والنسائى وأبو داود، وأخرجه أيضا ابن حبان والبيهقى (2) . ومن الواضح أن روايات الشيعة حتى إذا صحت لا يؤخذ بها، فالأحاديث التى وردت عن طريق أهل السنة قد بينت أن ذلك كان مباحا ثم نهي عنه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3) . وأما التأمين فقد وردت عن طريق السنة عدة روايات تدل على مشروعيته، فعن أبى هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ". وقال ابن شهاب: " كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول آمين ". رواه الجماعة إلا أن الترمذى لم يذكر قول ابن شهاب، وفى رواية " إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول آمين، وإن الإمام يقول آمين، فمن وافق   (1) انظر نيل الأوطار 2 / 363. (2) نفس المرجع ص 363 ـ 364، وصمته: أسكته. والكهر: القهر، والانتهار، واستقبالك إنساناً بوجه عابس تهاوناً به. (انظر المادتين فى القاموس المحيط) . (3) يقول السيد محسن الحكيم فى تشميت العاطس: البناء على جوازه فى الصلاة محل تأمل أو منع اللهم إلا أن يكون إجماع، لكنه غير ثابت، ولا سيما بملاحظة استدلال كثير منهم على الحكم بأن الدعاء غير مبطل للصلاة، مما يوجب كون الإجماع معلوم المستند، فيسقط عن الحجية، ولا سيما بملاحظة خبر آيات عن جعفر: ... " فى رجل عطس فى الصلاة فسمته رجل "، فقال: " فسدت صلاة ذلك الرجل " (متمسك العروة الوثقى 6 / 492) . ولكنه ذهب إلى وجوب رد السلام فى الصلاة ـ انظر المرجع السابق 6 / 474 ـ 475. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 990 تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه أحمد والنسائى. وعن وائل بن حجر قال: " سمعت النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقال: آمين يمد بها صوته ". رواه أحمد وأبو داود والترمذى، وأخرجه أيضا الدارقطنى وابن حبان، إلى غير ذلك من الروايات التى تدل على مشرعية التأمين (1) . فالكلمة تدل على الدعاء، وليست كلاما خارجا عن الصلاة، ويؤيد مشروعيتها ما ورد عن طريق الشيعة من أن الإمام الصادق سئل عن قول الناس فى الصلاة جماعة حين يقرأ فاتحة الكتاب " آمين " قال: ما أحسنها؟ واخفض بها الصوت (2) . وقد حمل بعضهم هذه الرواية على التقية، وهذا بعيد، فلو كان القول تقية فلم خفض الصوت؟ فالأولى إذن إسقاط الروايات التى تنهي عن التأمين، بدلا من إسقاط هذه الرواية، أو حملها على التقية، فالأحاديث التى تدل على مشروعيته كثيرة، ووردت من طرق صحيحة مختلفة، ولا جدال أن الدعاء مشروع فى الصلاة، وكونها اسم فعل وليست بفعل لا يخرجها عن قصد الدعاء، وهذا هو السيد محسن   (1) انظر نيل الأوطار 2 / 244 ـ 247، وصحيح البخارى: كتاب الأذان باب جهر الإمام بالتأمين، وباب فضل التأمين، وباب جهر المأموم بالتأمين، وصحيح مسلم: كتاب الصلاة: باب التسميع والتحميد والتأمين، وأبو داود والترمذى: الصلاة: باب التأمين وراء الإمام، والنسائى: كتاب الإمامة، باب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم. (2) انظر الاستبصار 2 / 318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 991 الحكيم يعقب على قول المحتجين للمنع بأنها ليست دعاء وإنما هي اسم للدعاء بقوله (1) : " لو سلم ذلك لم تخرج عن كونها دعاء، لأن أسماء الأفعال حاكية عن نفس الأفعال بما هي حاكية عن معانيها ". ثم يقول: " فآمين إذا كان اسماً لـ " استجب " كان دعاء مثله، ولا يكون بذلك من كلام الآدميين. نعم كونه من الدعاء الجدى، موقوفاً عن فرض دعاء، ليطلب استجابته، وإلا كان لقلقة لسان، ويخرج بذلك عن كونه مناجاة لله تعالى، ومكالمة له سبحانه ". سادسا: صلاة الجمعة يشترط الشيعة لصلاة الجمعة ألا يقل العدد عن خمسة، وقيل سبعة. وهذا خلاف يسير، فإذا كان العدد كذلك فالصلاة صحيحة على مذهبهم ومذهب الحنفية، وإذا كان أقل من ذلك فلا جمعة لهم فى رأي الشيعة والمالكية والشافعية والحنابلة (2) ، فهم إذن لا ينفردون بقول فى كلتا الحالتين. أما الخلاف الأكبر هنا فهو أنهم يشترطون السلطان العادل أو نائبه، (3) ويقصدون بالسلطان العادل النبى عليه الصلاة والسلام، أو أحد أئمتهم الذين   (1) انظر كتابه مستمسك العروة الوثقى 6 / 507 ـ 508. (2) يشترط الإمام أبو حنيفة ألا يقل العدد عن أربعة، وقال أبو يوسف: تصح بثلاثة، والشافعية والحنابلة يشترطون أربعين، والإمام مالك رأي أنها تنعقد بمن يمكن أن تتقرى بهم قرية، وذلك ممكن بما دون الأربعين، لكنه غير ممكن بالثلاثة والأربعة. انظر المبسوط 2 / 24 ـ 25، المدونة 1 / 152 ـ 153، بداية: 1 / 161، 162، الأم 1 / 169، المغنى 2 / 172 ـ 173. (3) فى صلاة الجمعة خلف من لا يرضونه يرون تقديم الظهر عليها، أو الصلاة خلفه بنية الظهر، ثم القيام ـ بعد ركعتى الإمام ـ لإتمام الظهر، على خلاف بينهم فى أفضلية التقديم أو الإتمام (انظر: مفتاح الكرامة كتاب الصلاة 2 / 170 ـ 171) . وهم فى كلتا الحالتين مسقطون للجمعة، غير معتدين بها، يتظاهرون بصلاتها تقية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 992 يقولون بعصمتهم (1) ، ويشترطون فى النائب أن يكون مؤمنا، قالوا: " والإيمان إنما يتحقق بالاعتراف بإمامة الأئمة الاثنى عشر عليهم السلام، إلا من مات فى عهد أحدهم، فلا يشترط في إيمانه إلا معرفة إمام زمانه ومن قبله " (2) . وبعضهم يرى أن هذا شرط فى ماهية الجمعة ومشروعيتها، والكثيرون منهم يرونه شرطاً فى وجوبها، وآخرون ينكرون اشتراط هذا الشرط من أصله (3) . وفى زمن غيبة إمامهم الثانى عشر ـ كما يعتقدون ـ اختلفوا حول هذا الشرط اختلافا بلغ إلى أربعة أقوال: (4) الأول: أنها واجبة عينا. الثانى: أنها حرام. الثالث: أنها واجبة تخييراً (5) مع الفقيه الجامع لشرائط الافتاء. الرابع: أنها واجبة كذلك، لكن لا يشترط فى إمامها إلا شروط إمام الجماعة. وكان من الممكن أن نترك الشيعة الرافضة وما اشترطوا، لأنا لا نعدم أن نجد من يوافق أهل السنة، وكان من الممكن أيضاً لوانحصر فى زمن الأئمة أن نبين خطأ هذا الشرط، ونمر مرورا سريعاً، حيث ينتفى ضرره الآن، ولكن الواقع المؤلم هو أن شيعة اليوم لا يصلون الجمعة إلا قليلا منهم، مثال ذلك ما أخبرنا به السيد كاظم الكفائى فى حديثه قال: " فى العراق الآن الشيعة لا يصلون الجمعة إلا الشيخ الخالصى فى المسجد الصفوى فى الصحن الكاظمى " (6) .   (1) انظر: مفتاح الكرامة ـ كتاب الصلاة 2 / 56 ـ 57. (2) المرجع السابق ص 80. (3) انظر المرجع السابق ص 56. (4) نفس المرجع. انظر ص 56. (5) يقصدون بذلك استحباب الاجتماع ـ انظر المرجع السابق ص 59. (6) انظر حديثه بآخر هذا الجزء. * *وقد ذهبت إلى الكاظمية لألتقى بالشيخ الخالصى، ولكن سفره حال دون الملتقى. والعجيب أن سفره أيضاً منع إقامة الجمعة، وكأن أحداً لا يصلح لإقامتها! وفى الكويت لا يقيم الجمعة إلا الشيخ إبراهيم جمال الدين مرجع الإخباريين هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 993 فهذا موضوع جد خطير، لذا رأيت أن أبحث عن الدوافع التى دفعتهم إلى ترك فريضة من فرائض الله، وأن أناقش أدلتهم. وأحب هنا أن أوضح موقف الحنفية، فهم وحدهم ـ من المذاهب الأربعة ـ الذين اشترطوا السلطان عادلاً كان أم جائراً (1) . استدل الحنفية بحديث جابر رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال " أيها الناس، توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وتقربوا إلى الله بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وتحببوا إلى الله بالصدقة فى السر والعلانية تجبروا وتنصروا وترزقوا، واعلموا أن الله تعالى كتب عليكم الجمعة فى يومى هذا، فى شهرى هذا، فى مقامى هذا، فمن تركها تهاوناً بها، واستخفافاً بحقها، وله إمام جائر أو عادل، فلا جمع الله شمله، ألا فلا صلاة له، ألا فلا صوم له، إلا أن توب، فإن تاب تاب الله عليه " (2) . وقالوا أيضاً: جاء فى الأثر: أربع إلى الولاة منها الجمعة، لأن الناس يتركون الجماعات لإقامة الجمعة، ولو لم يشترط فيها السلطان أدى إلى الفتنة، لأنه يسبق بعض الناس إلى الجامع، فيقيمونها لغرض لهم، وتفوت على غيرهم، وفيه من الفتنة ما لا يخفى، فيجعل مفوضاً إلى الإمام الذى فوض إليه أحوال الناس والعدل بينهم، لأنه أقرب إلى تسكين الفتنة (3) .   (1) انظر: المبسوط 2 / 25، المدونة 1 / 152 ـ 153، الأم 1 / 170، المغنى 2 / 173 - 174. (2) المبسوط 2 / 21 - 22. (3) انظر المرجع السابق ص 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 994 ومعنى هذا أن الحنفية خافوا الفتنة عند ما لا يجتمع الناس على رأي، يسىء بعضهم إلى بعض، فاشترطوا إذن السلطان كائناً من كان، ولهذا قالوا: إذا صلى رجل الجمعة بالناس بغير إذن الإمام، أو خليفته، أو صاحب الشرط، أو القاضى، لم يجزئهم. وقالوا أيضاً: لو مات من يصلى الجمعة بالناس فاجتمعوا على رجل فصلى بهم الجمعة أجزأهم، لأن عثمان رحمه الله تعالى لما حصر اجتمع الناس على علي رضي الله عنه، فصلى بهم الجمعة، ولأن الخليفة إنما أمر بذلك نظراً منه لهم، فإذا نظروا لأنفسهم، واتفقوا عليه، كان ذلك بمنزلة أمر الخليفة إياه (1) . فالحنفية، وإن كانوا قد خالفوا باقى المذاهب الأربعة، غير أنهم لا يسقطون الجمعة إلا حين تخشى الفتنة، ولذا أجازوا الإذن حتى من صاحب الشرط، وأسقطوا هذا الشرط عند تعذره، واجتماع الناس على رجل يصلى بهم، وبهذا يتبين لنا أن الحنفية ما كانوا ليسقطوا فرضا من فرائض الله، فلننظر بعد ذلك فيما ذهب إليه الشيعة الاثنا عشرية. إن اشتراطهم الإمام أو نائبه فى زمن الحضور مستند أساساً إلى إجماعهم، فهم يرون أن هذا للإمام كحقه فى الخلافة، ولذا يروون " الجمعة والحكومة لإمام المسلمين " (2) فكما أنهم ينظرون إلى من تولى الحكم من غير المعصومين ـ فى اعتقادهم ـ نظرة من اغتصب حق الأئمة، فكذلك الجمعة، وهذا هو الذى دفعهم إلى هذا الاشتراط، حتى أن بعضهم رأي إسقاط الجمعة فى زمن الغيبة تحرزاً عن غصب منصب الإمام (3) .   (1) انظر نفس المرجع ص 34 ـ 35. (2) مفتاح الكرامة ـ كتاب الصلاة ـ 2 / 69. (3) انظر نفس المرجع ص 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 995 ولقد ناقشنا من قبل إجماعهم، وبينا عدم جدواه (1) . ثم إن هذا الإجماع محل نظر، حيث إن الشيعة أنفسهم منهم من لم يشترط هذا الشرط كما ذكرنا، وهو كذلك معارض بإجماع باقى المسلمين كافة، وهذا الموقف يعيد إلى الأذهان المأساة من جديد، فهم ينظرون إلى الخلفاء الراشدين الثلاثة: أبى بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله تعالى عنهم ـ على أنهم اغتصبوا الجمعة فيما اغتصبوا، ويرون أن الجمعة ليست واجبة على المسلمين فى زمنهم، لأنها ليست بإذن من الإمام المعصوم، فخير جيل بعد الرسول الكريم لم يكن ـ بناء على هذا الرأي الضال ـ يعرف أحكام دينه، حتى أنه فرض على نفسه فرضاً لم تفرضه الشريعة، وصلى الجمعة بإذن من غير المعصوم. وإذا كان هؤلاء الأكرمون لا يعرفون فمن ذا الذى يعرف من بعدهم؟ فياله من افتئات! ويالها من مأساة! وإذا كان الرافضة قد ارتكنوا إلى الإجماع فيما ذهبوا إليه سابقاً، فإن الخلاف قد ظهر بينهم فى زمن الغيبة حيث افتقدوا هذا السند الذى يسلمون به تسليمهم بالقرآن الكريم، بل إنهم يرون أن هذا الكتاب المجيد قرآن صامت، وأن الإمام ـ حجة الإجماع عندهم ـ قرآن ناطق. ولذا قال بعضهم: " لولا دعوى الأصحاب الإجماع على عدم الوجوب علينا لكان القول به فى غاية القوة " (2) . وهم فى خلافهم هنا يصلون إلى مرتبة لم نرها من قبل، حيث يؤدى بهم الخلاف إلى أن يصم بعضهم بعضا بالقصور والغرور، والجهل والغفلة، أو التجاهل والتغافل (3) .   (1) انظر الفصل الثالث من الباب الأول من هذا الجزء. (2) مفتاح الكرامة ـ كتاب الصلاة 2 / 60. (3) المرجع السابق ص 72، وانظر كذلك: جواهر الكلام للشيخ محمد حسن النجفى ... 11 / 178 ـ 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 996 والقائلون بالوجوب عينا فى زمن الغيبة عدد كبير، لهم مكانتهم عند الشيعة، منهم مثلا: الشيخ الصدوق صاحب كتاب " من لا يحضره الفقيه " أحد كتب الحديث الأربعة، وشيخ الطائفة فى زمانه الإمام الطوسى، صاحب كتابين من تلك الكتب، هما " التهذيب والاستبصار " والحر العاملى مؤلف كتاب " وسائل الشيعة "، وغيرهم كثير حتى أن بعضهم نسب هذا القول إلى أكثر المتقدمين (1) . بل إننا إذا نظرنا في أدلة الشيعة القائلين بعدم اشتراط الإمام المعصوم أصلاً نجدهم يحتجون فيما يحتجون بأقوال الأئمة، فهم يقولون (2) ، بأن الأصل والظاهر فيما ثبت وجوبه عينا عمومه لكافة المكلفين فى جميع الأزمان والأصقاع، إلا أن يدل دليل على التخصيص أو النسخ، وقد ثبت وجوب عقد الجمعة والاجتماع إليها عيناً بالإجماع والنصوص من الكتاب والسنة، ولم يعذر فيها سوى غير المكلفين والمرأة والمسافر وغيرهم ممن ذكروه فى الأخبار، ولم يذكر فيها ولا فى غيرها معذورية من لم يكن عنده الإمام أو من نصبه، وهي لإطلاقها إذن من الشارع فى فعلها، إيجاب لها على كل مكلف كان عنده الإمام أو منصوبه أو لم يكن، فلا حاجة إلى إذنه لواحد أو جماعة بخصوصهم، ونصبه لهم لخصوص الجمعة كسائر العبادات إلى أن يقوم دليل على امتيازها من سائر العبادات بافتقارها إلى هذا الإذن. أما الكتاب فقوله تعالى: "" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ "". وأما السنة (3) فمنها ما روى عن الإمام أبى جعفر الباقر: تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين، ولا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين أحدهم الإمام،   (1) انظر مفتاح الكرامة ـ كتاب الصلاة 2 / 57. (2) انظر أدلتهم فى المرجع السابق 72. (3) أقوال الأئمة عندهم يعدونها من السنة ـ انظر الجزء الثالث من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 997 فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمهم بعضهم وخطبهم، وقوله: من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات طبع الله على قلبه. وعن عبد الملك عن أبى جعفر قال: مثلك يهلك ولم يصل فريضة فرضها الله تعالى. قال: كيف أصنع؟ قال: صلوا جماعة. يعنى صلاة الجمعة. وعن الإمام الصادق قال: يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة إلى أن قال: والجمعة واجبة على كل أحد. وقال زرارة: حثنا أبو عبد الله على صلاة الجمعة حتى ظننت أنه يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك فقال: لا. إنما عنيت عندكم. وروى عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إن الله تعالى قد فرض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتى استخفافاً بها. أو جحوداً فلا جمع الله شمله ". وهذه الأدلة كما نرى صريحة الدلالة في وجوب الجمعة دون اشتراط الإمام المعصوم، ولكن القائلين بالمنع يردونها بأنها تنصرف إلى الجمعة الصحيحة بشرائطها، ولا تصح الجمعة بدون إذن الإمام أو نائبه، واستدلوا على ذلك بالسنة والعقل (1) . أما السنة فرووا عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " اعلموا أن الله تعالى قد افترض عليكم فرض الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي، وله إمام عادل استخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حج له، ألا ولا صوم له، ألا ولا بركة له حتى يتوب ". وقال " أربع للولاة: الفىء والحدود والجمعة والصدقات ". وقال كذلك: " الجمعة والحكومة لإمام المسلمين ". وقالوا بأن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعين لإمامة الجمعة كما يعين للقضاء، فكما لا يصح أن ينصب الإنسان نفسه قاضيا من دون إذن الإمام، فكذلك إمامة الجمعة.   (1) انظر أدلتهم في: مفتاح الكرامة ـ كتاب الصلاة 2 / 72 ـ 78، وكنز العرفان 78 ـ 79، والنور الساطع للشيخ على كاشف الغطاء 1 / 547 ـ 551، والمعتبر 202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 998 ومما رووه عن أئمتهم أن الإمام الصادق سئل عن الصلاة يوم الجمعة فقال: أما مع الإمام فركعتان، وأما لمن صلى وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر، يعنى إذا كان إمام يخطب فإن لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات وإن صلوا جماعة. وقال الإمام أبو جعفر: صلاة الجمعة فريضة، والاجتماع إليها فريضة مع الإمام. ورووا عن الإمام على رضي الله عنه أنه قال: " لا جمعة إلا فى مصر يقام فيه الحد " قال بعضهم: " ومن المعلوم أن المصر الذى يقام فيه الحد هو مصر الإمام أو نائبه، فيكون هذا التعبير كناية عن لزوم كونها مع الإمام أو نائبه " (1) . وأما الاستدلال بالعقل ففى قولهم: أن اشتراط عدل الإمام فلأن الاجتماع مظنة النزاع ومثار الفتن، فيجب أن يكون هناك حاكم عادل غير محتاج إلى مسدد، يرتدع بوجوده غيره، ويكون وجوده حاسماً لمادة النزاع، وقاطعاً لمثار الفتن. وهذه الأدلة لا تصل بهم إلى ما يريدون، فالحديث الأول روى عن طريقهم دون ذكر للإمام، وعن طريق أهل السنة وفيه. " وله إمام جائر أو عادل " وهو ما استدل به الحنفية كما ذكرنا من قبل. وهذا الحديث الشريف فيه من التهديد والوعيد ما يثير النفوس المؤمنة الزاكية. والحديثان الآخران لو صحا يدلان على أن الحكام عامة ينظمون إقامة الجمع فيما ينظمون، وليس معنى هذا أنهم محصورون فى الأئمة الاثنى عشر، وإنما هو يعنى حكام المسلمين إلى يوم القيامة، وكذلك ما روى من فعله عليه الصلاة والسلام. على أن ذلك لو سلمنا بصحته لكان دليلا على جواز ما وقع لا على تحريم غيره، كالحج يتولاه أئمة   (1) النور الساطع 1 / 548. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 999 المسلمين وليس بشرط فيه (1) . وفرق بين إمام الجمعة الذى يصلى بالناس، وبين القاضى الذى يحتاج إلى سلطة مستمدة من الإمام لتنفيذ أحكامه. وأما روايات الأئمة فإنها لا تزيد عن اشتراط الإمام الذى يخطب الناس يوم الجمعة، والأول نص على ذلك، وتفسير رواية الإمام على تحملها فوق ما تحتمل، ثم إنهم لا يشترطون للجمعة المصر، ولذا رفضوا الأخذ بهذه الرواية، وحملوها على التقية (2) . هذه الروايات إذن لا تنهض دليلاً على ما يزعمون، ولذا قال مؤلف " الروضة البهية " الذى تحدثنا عنه فى المقدة بأن إطلاق القرآن الكريم بالحث العظيم المؤكد بوجوه كثيرة، يضاف إليه النصوص المتضافرة على وجوب الجمعة بغير الشرط المذكور، بل فى بعضها ما يدل على عدمه (3) . واستدلالهم بالعقل لا يعنى وجوب الإمام المعصوم، بل إن أبا الأئمة نفسه لم يستطع أن يحسم مادة النزاع بين المسلمين، ويقطع ثائرة الفتنة، فكيف بمن جاءوا بعده ولا حول لهم ولا قوة؟ وهم لا يشترطون ذلك فى الحج، فأيهما أكثر مظنة للنزاع ومثاراً للفتن: اجتماع العدد القليل فى الجمعة، أم الجم الغفير فى موسم الحج؟ ثم إن هذا مبنى على الظن، وإن الظن لا يغنى عن الحق شيئا، ولا يقف دليلاً أمام نصوص القرآن الكريم، ولا الأحاديث الشريفة. وقد ورد عن طريق أهل السنة أحاديث كثيرة (4) ، منها أن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " الجمعة على من سمع النداء "، وقال: " رواح الجمعة واجب على كل محتلم "، وقال أيضاً: " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد   (1) انظر: المغنى 2 / 173 ـ 174. (2) انظر: الاستبصار 1 / 420. (3) انظر ص 89 ـ جـ 1 من الكتاب المذكور. (4) انظر: نيل الأوطار جـ 3: باب من تجب عليه ومن لا تجب ص 276، وراجع ما يتصل بالجمعة فى الصحيحين، وكتب السنن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1000 مملوك، أو امرأة، أو صبى، أو مريض " وغير ذلك من الأحاديث الشريفة التى تؤيد روايات الشيعة القائلين بوجوبها، دون اشتراط الإمام، فالقرآن الكريم والسنة الشريفة صريحان بإيجاب الجمعة دون هذا الشرط، بل إن روايات الأئمة تصرح بذلك كما ذكر من قبل، ولم ينقل أحد عن الأئمة أنهم كانوا ينصبون للناس إماماً للجمعة بالخصوص (1) . فالشيعة الذين أسقطوا الجمعة قد خالفوا كتاب الله، وسنة رسوله. وقد أثار ذلك الشيخ الخالصى الذى انفرد بإقامتها (2) دون سائر شيعة العراق، فألف كتاباً أسماه " الجمعة " ليثبت أنها واجبة عيناً فى جميع الأزمنة، وقد استطاع أن يثبت ذلك بما لا يدع لأي شيعى مجالاً للتردد فى إقامتها، إن كان يريد أن يطيع الله ورسوله. ذكر قول الله تعالى فى سورة الجمعة: "" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ "". وقال: اشتملت هذه الآيات على ضروب من التأكيدات، ووجوه من الدلالات، جعلتها نصاً على الوجوب التعيينى فى جميع الأزمنة (3) . وأخذ يبين هذه التأكيدات والدلالات، ومما ذكره أن: " الأحكام الواردة بعد الخطابات العامة فى القرآن كلها تشمل جميع المكلفين، وقد أوضحت ذلك السنة بقولها (حلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم   (1) انظر: فقه الإمام جعفر الصادق ص 267. (2) ومن بعده ابنه، ويقال له أيضاً: الشيخ الخالصى، ومحمد اسم كل منهما. (3) ص 4 من الكتاب المذكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1001 القيامة) ومن جملتها حكم صلاة الجمعة. فما الذى خصصه بزمان النبى والأئمة عليهم السلام، وأي شيىء أسقطه عمن كان فى زمن الغيبة؟ وما الذى استثناه من سائر الأحكام الخطابية حتى شملت المعدومين دونه؟ ومن جملة ضروب التأكيد توحيد الخطاب بالنداء إلى الذين آمنوا، إيماء إلى أن صلاة الجمعة من لوازم الإيمان، وإلا لم يبق فرق بين قوله: "" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا "" وقوله: "" يَا أَيُّهَا النَّاسُ "" والذين آمنوا لفظ يشمل جميع المؤمنين، إذ ليس الخطاب بمقصود كأمر، فما الذى أسقطها عن مؤمنى زمان الغيبة؟ ولو كان لها بدل فى زمان لما كان فعلها من لوازم الإيمان، إذ تركها حينئذ إلى بدل يكون جائزاً للمؤمنين. ومن جملتها " إذا " لفظ عام، وهو يدل على تحقق الجزاء عند تحقق الشرط، فالأمر بالسعى حاصل كلما تحقق النداء، فما الذى سوغ لأهل زمان الغيبة عدم امتثال أمر الله عند النداء؟ ومنها أن لفظ (نودى) فعل مبنى للمفعول، وترك فيه الفاعل ليدل على وجوب السعى عند أي مناد من غير اعتبار شرط فيه من عصمة أو غيرها، لأن حذف المتعلق دليل العموم كما تقرر فى البيان والأصول، ولو كان إذن الإمام شرطا لما كان بحذف المتعلق وجه. ومنها أن لفظ الصلاة عام، وذكرها تأكيدا لبيان اشتمال صلاة الجمعة على كل ما اشتملت عليه الصلاة من المصالح التى ذكرت لها: كالنهي عن الفحشاء والمنكر، وغير ذلك. إن وجوبها متعين على المكلفين بدون شرط إذن الامام كما هو كذلك فى ساير الصلوات، لأنها صلاة مثلها، فكيف أبيح تركها لأهل زمان الغيبة ولو إلى بدل؟ أو جعلت حراماً عليهم مع أنها صلاة بنص الكتاب؟ "" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1002 أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهي عَبْدًا إِذَا صَلَّى "" (1) . واستمر فى ذكر مثل هذه الدلالات ثم قال: وعلى كل حال فكيف يناسب هذا الاهتمام الشديد فى الكتاب المجيد سقوط الجمعة عن المسلمين فى زمان الغيبة، بل بعد خلافة الحسن بن على عليهما السلام، لأن الأئمة كانوا ممنوعين عن إقامتها، فلم تكن واجبة إلا عشر سنين زمن النبى، وأربع سنين زمن خلافة على والحسن عليهما السلام (2) . ولو قلنا إن الآيات تدل على الوجوب التعيينى المطلق فى كل زمان، والخبر الدال على سقوطه عن أهل زمان الغيبة، مخصص لها، فالأمر يكون أشكل، لأن ذلك يكون من باب النسخ، والقول بنسخ الكتاب بالخبر الواحد، ولا سيما غير النبوى، جرأة على الله ورسوله، والمدعى دلالته من الأخبار على السقوط ليس من الأخبار النبوية. على أن هذا مناف لكون حلال محمد حلالاً إلى يوم القيامة، وحرامه حراماً إلى يوم القيامة، ومستلزم لنزول الوحي على المهدى، لأنهم متفقون على وجود صلاة الجمعة زمانه، ولا دليل عليه، إذ الآيات مخصصة بزمان الغيبة، فلا يعود الحكم بغير الوحي، والقول بذلك ينافى الإيمان، فلا يتم القول بالسقوط إلا بادعاء شرطية الإذن للوجوب أو الصحة، وهو مخالف لنص الكتاب. فنحن فى غنى عن مراجعة الأخبار والبحث فى سندها ودلالتها، بعد قيام الحجة علينا فى وجوبها علينا بكتاب الله، ونحن ندينه ونتقرب إليه بإقامتها، ونسأله التوفيق لذلك، ولكل ما يرضيه عنا، وإنه أرحم الراحمين. هذا على سبيل التنزل، وفرض أن يكون فى الأحاديث ما يدل على السقوط عن أهل زمان الغيبة، وهذا الفرض مخالف للواقع، إذ السنة نطقت بما نطق به   (1) انظر ما سبق فى ص 5 ـ 7. (2) انظر ما سبق فى ص 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1003 الكتاب، ونصت على ما نص عليه، وليس فى الأحاديث ما يدل على شرطية الإمام أو إذنه، أو الحرمة أو التخيير فى زمن الغيبة، وقد تواترت الأحاديث بوجوبها التعيينى على كل مكلف، سواء فى زمن الغيبة أو الحضور (1) . وهذا بعض ما أورده الشيخ الخالصى فى كتابه (2) . ومن قبله آخرون ارتأوا هذا الرأي، واستدلوا عليه، منهم الشيخ ملا محسن المعروف بالفيض الكاشانى، ألف كتابا أسماه " الشهاب الثاقب فى تحقيق صلاة الجمعة ووجوبها العينى ". قال فى مقدمة كتابه: " هذه رسالة فى رفع الشبهة التى وقعت لبعض متأخرى أصحابنا فى حتمية وجوب صلاة الجمعة فى زمان الغيبة ابتغيت بتأليفها وجه الله سبحانه لما رأيت أنه قد ابتلى بالبلية أهل الإيمان فى هذا الزمان، وخذلهم بحده وعداوته الشيطان، حتى هدمت أعظم قواعد الدين بالشبهة لا بالبرهان، وحرمت أهم العبادات بالجهل والخذلان " (3) . وقال كذلك: " إن جميع علماء الإسلام طبقة بعد طبقة قاطعون بأن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استمر يفعلها على الوجوب العينى طول حياته المقدسة، وأن النسخ لا يكون بعده - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولم يذهب إلى اشتراط وجوبها بشرط يوجب سقوطها فى بعض الأزمان، إلا رجل واحد أو رجلان من متأخرى فقهائنا الذين هم أصحاب الرأي والاجتهاد،   (1) انظر ما سبق فى ص 17 ـ 18. (2) أورد بعد ذلك الأحاديث الموجبة للجمعة (ص 18 ـ 54) وذكر فيها أن أئمتهم كانوا أشد الناس مواظبة على صلاة الجمعة، وكانوا يصلونها مع الجائرين، ثم نفى التعارض بين الكتاب الكريم والأخبار فى أحكام الجمعة (ص 80 ـ 84) ورد على الشبهات التى تمسك بها القائلون بالوجوب التخييرى فى (ص 85 ـ 167) وكذلك على شبهات القائلين بحرمة الجمعة زمن الغيبة (ص 167 ـ 172) . (3) ص 15 من الكتاب المذكور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1004 دون القدماء الذين لا يتجاوزون مدلول ألفاظ الكتاب والسنة، وأخبار أهل البيت صلوات الله عليهم فإنه لا خلاف بينهم فى وجوبها الحتمى " (1) . ثم استدل بعد ذلك بكلام الله تعالى، وبالأحاديث المروية عن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبكلام الأئمة، وبالإجماع وبالوجوه العقلية. والسيد هبة الدين الحسينى، المعروف بآية الله الشهرستانى، فى كتيبه " وجوب صلاة الجمعة " استدل على هذا الوجوب، وذكر أسماء سبعة وأربعين من فقهاء الإمامية القائلين بالوجوب (2) . وفى كل هذا غنى وكفاية، فما الذى دعا معظم شيعة اليوم إلى ترك هذه الفريضة؟ وما الذى يخشونه لو استجابوا لنداء الله تعالى، ولم يضيعوا الجمعة التى تعد عيداً إسلامياً باعترافهم (3) . ولمَ لم يقيموها حتى فى مناطق تجمعهم؟ أرى أنهم فى ذلك على ضربين: ففريق منهم رأوا أنهم إن صلوا الجمعة قاموا مقام الإمام المعصوم، وأخذوا منصبه من غير إذنه، وجعلوا إمامهم من اغتصب هذا المنصب (4) . وهؤلاء فيما يظنونه خاصاً بالإمام يتعصبون تعصباً جاهلاً كل الجهل، ولهذا رأينا بعضهم يضع الجمعة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويعتبر الجمعة منكراً (5) .   (1) نفس الكتاب ص 15 ـ 16. (2) انظر الكتيب ص 16 ـ 22. (3) انظر: مفتاح الكرامة 2 / 70 كتاب الصلاة. وانظر كذلك: جواهر الكلام (11 / 131) حيث يقول مؤلفه عن يوم الجمعة: " ليس للمسلمين عيد ـ بعد يوم غدير خم ـ أولى منه، بل هو أعظم عند الله من يومى الفطر والأضحى " فهو يقدمه على العيدين ولكن الناحية المذهبية جعلته يضع كل هذه الأعياد بعد يوم الغدير! (4) انظر مفتاح الكرامة ـ كتاب الصلاة 2 / 67. (5) انظر نفس المرجع ص 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1005 والفريق الآخر: نظر إلى الجمعة نظرة دنيوية لا دينية، فقد نقل أحد علمائهم المعاصرين (1) عن صاحب الجواهر قوله: قيل " إن بعضهم كان يبالغ فى حرمتها ـ أي الجمعة ـ حال قصور يده، ولما ظهرت له كلمة بالغ فى وجوبها، ولولا خوف الملل لنقلنا أكثر كلماتهم فى هذه الوسائل، وأوقفنا على ما فيها من الفضائح والغرائب ". وعقب على ذلك بقوله: " ولا أدرى ماذا كان يسجل صاحب الجواهر لو رأي قضاة الشرع اليوم، الذين أعرضوا عن كتاب الله، وسنة نبيه، وإجماع العلماء والعقل والحياء، واتخذوا من شهواتهم وأهوائهم مقياسا للدين والشرعية، واستعاضوا عن مصادرها بالرشوات، وإغراء السيدات من ربات الحاجات، وبالشفاعات والوساطات، ووجاهة الوجهاء وأبناء الدنيا ". ا. هـ. وقد أردت من ذكر هذا قبيل توضيح الرأي أن أبين أن هذا الفريق يحكم الهوى والمصلحة الدنيوية، غير عابئ بأحكام الشرع المقدسة، ولهذا نظروا إلى " الخمس " (2) الذى يأخذ أئمة المساجد منه الآن النصيب الأوفى، ورأوا أنهم لو أقاموا الجمعة فسيقيمها في كل بلدة إمام واحد لاشتراط المسافة، وضرورة التجمع، ومعنى ذلك أن الأخماس ستنهال عليه دون الآخرين، فقنع كل بإقامة الظهر فى مسجده، واستغنوا عن العيد الإسلامي بمتاع دنيوي. هذا ما بدا لي، والله سبحانه أعلم بالصواب.   (1) هو الشيخ محمد جواد مغنية ـ انظر كتابه فقه الإمام جعفر الصادق ص 268 وانظر كذلك كتاب " جواهر الكلام " 11 / 178، 179. (2) يرى الشيعة إيجاب الخمس فى الغنائم والكنائز، وأرباح التجارات، وغيرها، ونصف هذا الخمس يعطى للإمام، واختلفوا فى زمن الغيبة لمن يعطى؟ وكثير منهم يعطيه أئمة المساجد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1006 سابعا: صلاة الجنازة رأينا من قبل كيف أن الشيعة أجازوا صلاة الجنازة بغير طهارة، وناقشناهم فيما ذهبوا إليه. وهنا نراهم يذهبون إلى أن عدد التكبيرات في الصلاة خمس، وأن الانصراف منها بلا تسليم. وإذا كان الحنفية والمالكية والشافعية يذهبون إلى أن التكبير أربع فقط، ففى رواية عن أبى يوسف أنها خمس، والحنابلة يذهبون إلى جواز ذلك، حيث إنهم لا يجيزون الزيادة على سبع ولا النقصان عن أربع، والأولى عندهم أربع لا يزاد عنها. وقد روى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أنه كبر أربعاً وخمساً وأكثر من ذلك، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع الصحابة حين اختلفوا في عدد التكبيرات، وقال لهم: إنكم اختلفتم، فمن يأتى بعدكم أشد اختلافاً، فانظروا آخر صلاة صلاها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جنازة فخذوا بذلك، فوجدوه صلى على امرأة كبر عليها أربعاً، فاتفقوا على ذلك، وكأن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة فى سائر الصلوات، وليس في المكتوبات زيادة على أربع ركعات، ولكن ابن أبى ليلى رحمه الله يقول: التكبيرة الأولى للافتتاح فينبغى أن يكون بعدها أربع تكبيرات، كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، وأكثر أهل العلم يرون التكبير أربعا، فمنهم ـ إلى جانب من ذكر ـ ابن عمر، وزيد بن ثابت، وجابر، وابن أبى أوفى، والحسن بن على، والبراء بن عازب، وأبو هريرة، وعقبة بن عامر، وابن الحنفية، وعطاء، والأوزاعي، والثوري، وقد ذهبوا إلى ذلك لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر على النجاشي أربعاً. متفق عليه. وكبر على قبر بعد ما دفن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1007 أربعاً، وكذلك آخر ما كبر على الجنائز كان أربعاً، وجمع عمر الناس على أربع كما سبق، ولأن أكثر الفرائض لا تزيد على أربع (1) . وكان من الممكن ألا نناقش هذا الخلاف، فمع أن الأربع رأي من ذكرنا وحجتهم واضحة، إلا أن الخمس قال بها أبو يوسف، وأجازها الحنابلة، وأخذ بها ابن أبى ليلى، وكل قد روى عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، حتى أن أصحاب عبد الله بن مسعود قالوا له: إن أصحاب معاذ يكبرون على الجنائز خمساً فلو وقت لنا وقتاً. فقال: إذا تقدمكم إمامكم فكبروا ما يكبر، فإنه لا وقت ولا عدد (2) . وروى عنه أنه قال: التكبير تسع وسبع وخمس وأربع، وكبر ما كبر الإمام (3) . مثل هذا أيضا قد روى عن طريق الشيعة، فقد رووا أن أبا جعفر الباقر سئل عن التكبير على الجنازة هل فيه شيء موقت؟ فقال: لا، كبر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحد عشر، وتسعاً، وسبعاً، وخمساً، وستاً، وأربعاً. ورووا عن الإمام على أنه كبر خمساً وأربعاً (4) . ومع هذا فهم يأبون إلا الخلاف؛ فقالوا بالخمس، وأجازوا ما زاد، ولم يجيزوا الأربع إلا مع التقية، أو كون الميت مخالفا لهم، لأن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ـ في زعمهم ـ يصلى على المؤمنين فيكبر خمساً، وعلى المنافقين فيكبر أربعاً (5) .   (1) انظر المبسوط 2 / 63، والأم 1 / 239، وحاشية الدسوقى 1 / 411، والمغنى ... 2 / 392 ـ 394، وبداية المجتهد 1 / 240، ونيل الأوطار 4 / 98 ـ 101، وسبل السلام 2 / 101 ـ 103. (2) انظر المغنى 2 / 293. (3) انظر: نيل الأوطار 4 / 100. (4) انظر: وسائل الشيعة 3 / 423، ص 416. (5) انظر المرجع السابق ص 410 – باب وجوب تكبيرات الخمس في صلاة الجنازة وإجزاء الأربع مع التقية، أو كون الميت مخالفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1008 فهم بذلك ينزلون المخالفين لهم من المسلمين كافة منزلة المنافقين الذين هم فى الدرك الأسفل من النار (1) . ويلعب الخيال الشيعى الوضاع هنا دوره كذلك فيروون روايات منها: إن علة التكبير على الميت خمساً أن الله أخذ من كل فريضة تكبيرة للميت، فأخذ من الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية، وإن العلة فى ترك العامة ـ يعنى باقى المسلمين ـ تكبيرة: أنهم أنكروا الولاية وتركوا تكبيرها (2) . ويحتج الشيعة هنا بإجماعهم، وبروايات منها ما يروونه عن الإمام الصادق: " لما مات آدم فبلغ إلى الصلاة عليه، فقال هبة الله لجبرئيل: تقدم يا رسول الله فصل على نبى الله، فقال جبرائيل: إن الله أمرنا بالسجود لأبيك، فلسنا نتقدم أبرار ولده، وأنت من أبرهم، فتقدم فكبر عليه خمساً عدة الصلوات التى فرضها الله على أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وهي السنة الجارية فى ولده إلى يوم القيامة " (3) . ومنها ما يروونه عن أئمتهم أنهم قالوا: " كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يصلى على المؤمنين ويكبر خمساً، ويصلى على أهل النفاق ـ سوى من ورد النهي عن الصلاة عليهم ـ فيكبر أربعاً، فرقاً بينهم وبين أهل الإيمان، وكانت الصحابة إذا رأته قد صلى على ميت وكبر أربعاً قطعوا عليه بالنفاق " (4) . ولهذا خرجوا الروايات التى تذكر الأربع على أن الصلاة كانت على منافقين، أو على التقية كما ذكرنا آنفا.   (1) يرون في الصلاة علي المنافق الدعاء عليه، وبعضهم يفسر المنافق بالناصب، وآخرون يرونه كل مخالف مطلقا (انظر مفتاح الكرامة، كتاب الطهارة ص 480) . (2) انظر نفس المرجع ص 417، وانظر المسح علي الخفين في الفصل السابق تجد رواية فيها التكبير علي الجنائز خمس تكبيرات، وقد بينا أنها موضوعة. (3) وسائل الشيعة 3 / 413. (4) نفس المرجع ص 416، وانظر لاستدلالاتهم كذلك: الحقائق جـ 2 45 ـ 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1009 ولا ندرى كيف أن الصلاة على آدم كانت بخمس تكبيرات، وأن هذه هي السنة إلى يوم القيامة؟ (1) ومن الذى عنده علم هذا ما دام الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لم يخبرنا به؟ وإذا كان الرسول يعلم هذا فلم يخرج على هذه السنة فيصلى بغير الخمس كما ورد عن الطريقين؟ ثم أنى للرسول الكريم أن يصلى على المنافقين بعد أن نهاه ربه سبحانه عن ذلك في قوله تعالى: "" وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ "" (2) فهذه الآية الكريمة تشمل المنافقين جميعا، فمن إذن أولئك المنافقون الذين لم يرد النهي بالصلاة عليهم؟ وإذا كان الصحابة يعلمون أن تكبير الأربع لا يكون إلا في الصلاة على المنافق، فكيف بهم إذن يجتمعون فى عهد عمر على الأربع (3) .   (1) وفي إحدي رواياتهم أن هبة الله كبر خمسا وسبعين تكبيرة بعدد صفوف الملائكة الذين صلوا عليه، وفي أخري أنه كبر خمسا وسبعين تكبيرة: سبعين لآدم، وخمسا لأولاده، وفي ثالثة أن السبعين تفضلا لآدم، والخمس للسنة (انظر الوسائل 3 / 423، 430) وهذا الاضطراب نتيجة حتمية لمن قال بغير علم. (2) 84: التوبة. (3) تري - معاذ الله - هل وهم هؤلاء أيضا، وظل هذا الوهم إلي أن اكتشفه صاحب كتاب الحقائق حيث يقول (2 / 48 - 49) : " تكبيره - أي الرسول الكريم - خمسا كان علي المؤمنين، وتكبيره أربعا كان علي المنافقين، ومن هنا وهم إخواننا فعملوا علي الأربع "! وفي رواية لابن عبد البر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن صلي علي النجاشي وكبر أربعا، ثبت علي هذا التكبير حتي توفاه الله (انظر: سبل السلام 2 / 103، وبداية المجتهد 1 / 240) فهل معني ذلك أن إخوانه السنة لم ينتبهوا إلي أن النجاشي ومن صلي عليهم الرسول بعده، كانوا جميعا منافقين؟! سبحانك ربي هذا بهتان عظيم! كان الأجدر بصاحب الحقائق أن يبحث عن الحقائق بحثا جادا نزيها بلا تعصب، بدلا من أن ينسب الوهم لجمهور المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1010 فما ذهب إليه الشيعة يرفضه الكتاب الكريم، والسنة الشريفة، وإجماع الكثيرين من الصحابة الأجلاء، وليس لهم من مستند إلا حب الخلاف، وإجماعهم الذى لا جدوى منه، والذى دفعهم إلى الوضع والتحريف. وأما إسقاطهم التسليم، فكما قلنا من قبل، عند إسقاطهم الطهارة بأن هذه صلاة مفروضة، والمشرع هو الذى أسقط الركوع والسجود، فليس من حق أحد غيره أن يسقط شيئا آخر (1) . على أنا إذا نظرنا فى روايات الشيعة وجدنا منها عددا يشترط التسليم، وحمل هذه الروايات على التقية فيه من التناقض ما لا يقبله العقل فإنها تذكر خمس تكبيرات، وبلا قراءة، وفيها دعاء للميت (2) . فمعنى هذا فى مذهبهم أنها صلاة على من ليس بمخالف، فلو كانت هذه الروايات وردت مورد التقية لاقتضى المذهب الشيعي أن تكون التكبيرات أربعاً، وأن تكون الصلاة بقراءة، فإنهم يجيزون الأربع والقراءة تقية، لأن ذلك مذهب أكثر السنة، فأما أن تأتى الروايات بالشروط التي يرونها كاملة، حتى إذا ما انتهت بالتسليم حملوه على التقية فهذا عين التناقض. وأعجب من هذا أن بعضهم يرى أن التسليم زيادة عن حمله على التقية يمكن كونه كناية عن الانصراف، ويحمل كونه سنة خارجة عن صلاة الجنازة لاستحباب التسليم عند المفارقة (3) . فأيهما أولى بالحمل على الكناية: أن نحمل " ثم تنصرف " التى وردت فى بعض رواياتهم على الانصراف المعهود وهو بالتسليم، أم أن نحمل التسليم على   (1) انظر ما سبق عن التيمم. (2) انظر: وسائل الشيعة 3 / 397: الرواية السادسة، وص 399: الروايتين العاشرة والحادية عشرة. (3) انظر المرجع السابق ص 435. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1011 الإنصراف بدون تسليم؟ على أن إحدى رواياتهم ورد فيها " فإذا فرغت من الصلاة على الميت انصرفت بتسليم ". ثم إذا كان التسليم سنة خارجة عن صلاة الجنازة فلم يذكر في بيان كيفية الصلاة؟ لابد إذن من التسليم كسائر الصلوات، ورواياتهم التى تعارض هذا لا يمكن الأخذ بها، فهي إلى جانب معارضتها بروايات لا تقل عنها، نرى في بعضها ظهور وضعه لنصرة الرأي، فمثلاً يروون عن أبى الحسن الرضا أنه سئل عن الصلاة على الميت فقال: " أما المؤمن فخمس تكبيرات، وأما المنافق فأربع، ولا سلام فيها ". وقد أثبتنا في التكبير خطأ هذا الرأي، مما يؤدى إلى إسقاط مثل هذه الرواية. وفى وسائل الشيعة (2/ 762: 819) نجد أبواب صلاة الجنازة، وفى الأخبار التي ينسبونها كذباً للأئمة الأطهار نرى ما يؤيد ما سبق من أقوالهم الضالة من كون التكبيرات لا تكون أربعاً إلا مع التقية أو كون الميت منافقاً، أو مخالفاً للشيعة الرافضة. وصلاة الجنازة إنما شرعت للدعاء للميت، وطلب الرحمة والمغفرة له، ولذلك نهي الله عز وجل، رسوله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عن الصلاة عمن لا يستحقون الرحمة والمغفرة وإن تظاهروا بالإسلام وهم المنافقون حيث قال جل شأنه في سورة التوبة (84) : "" وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ "". وكان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعامل المنافقين بحكم الظاهر معاملة المسلمين، حتى نزلت هذه الآية، فما صلى بعدها على منافق ولا قام على قبره حتى قبض - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ولكن الرافضة جعلوا الصلاة على غيرهم من الموتى على عكس ما شرعه الله تبارك وتعالى، وجاءوا إفكاً وزوراً بما لا يتفق مع أخلاق المسلمين، فضلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1012 عن خلق خير البشر صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، حيث جعلوا الصلاة للدعاء على الميت وليس الدعاء له ما دام الميت لم يكن من غلاة الرافضة وزنادقتهم. وأكتفي هنا بالنظر في باب واحد من هذه الأبواب، فإنه يكشف حقيقة هؤلاء القوم بما لا يدع مجالاً للشك أو التبرير. وهذا الباب هو " كيفية الصلاة على المخالف، وكراهة الفرار من جنازته إذا كان يظهر الإسلام ". (ص 769: 771) . فالباب إذن يتحدث عن كيفية الصلاة على من خالف الرافضة، فكيف تكون هذه الصلاة التى ابتدعها زنادقة هؤلاء القوم؟ يتضمن الباب سبع روايات، إحداها بلغ الوضاعون بها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والباقيات منسوبة للأئمة. والروايات الستة تتحدث عن المخالفين، لكن بعضهم يصف المخالف بالنفاق، وبعضها يذكر أن الميت كان من بنى أمية، وكلها تذكر الدعاء على الميت مثل ما نسبوه للإمام الصادق في الرواية الأولى: " اللهم فاحش قبره نارا واحش جوفه ناراً، وعجل به إلى النار، فإنه كان يوالى أعداءك، ويعادى أولياءك، ويبغض أهل بيت نبيك. اللهم ضيق عيه قبره ". وما نسبوه للإمام الحسين ـ رضي الله تعالى عنه ـ فى الرواية الثانية أنه رفع يديه فقال: " اللهم أخزِ عبدك في عبادك وبلادك، اللهم اصله أشد نارك، اللهم أذقه حر عذابك، فإنه كان يتولى أعداءك، ويعادى أولياءك، ويبغض أهل بيت نبيك ". وما نسبوه لأبى جعفر الباقر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه قال في الرواية الخامسة: " إن كان جاحداً للحق فقل: اللهم املأ جوفه ناراً، وقبره ناراً، وسلط عليه الحيات والعقارب ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1013 أما الرواية المرفوعة، وهي رقم (4) ، فتنسب للإمام الصادق أنه قال: " لما مات عبد الله بن أبى ابن سلول حضر النبى ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ـ جنازته، وقال عمر: يا رسول الله، ألم ينهك الله أن تقوم على قبره؟! فسكت، فقال: ألم ينهك الله أن تقوم على قبره؟! فقال له: ويلك وما يدريك ما قلت؟! إنى قلت: اللهم احش جوفه ناراً، واملأ قبره ناراً، وأصله ناراً. وضلال هذه الرواية المفتراة أوضح من أن يناقش.. هذا باب من الأبواب التى وضعها غلاة الرافضة وزنادقتهم، وسار عليها الشيعة الاثنا عشرية، فهذه مصادر تحصيل شريعتهم ولذلك نحذر جميع المسلمين من أن يشترك هؤلاء فى صلاة الجنازة، فإنهم سيدعون على الميت بمثل هذه الدعوات الآثمة الفاجرة!! ثامناً: النوافل ذكرنا في مناقشتنا للأغسال المندوبة أن كثيراً منها مما يرى الشيعة استحبابه يتعلق بمذهبهم، كالاغتسال لزيارة الأئمة، أو يوم الغدير، أو المباهلة، وتتكرر الصورة هنا فنرى صلاة الزيارة والغدير والمباهلة وهكذا. وهذا ـ كما قلنا هناك ـ تبع للخلاف فى المذهب من أساسه (1) . ونرى هنا كذلك صورة أخرى للصلاة تعمد إلى قراءة سور معينة مع الفاتحة، مع تكرار هذه السور لدرجة تجعل المصلى مشغولا بالعد والإحصاء أكثر من التدبر والتأمل والخشوع، كتكرار السورة مائة مرة بل ألف مرة، ومثل هذه لم تثبت عن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وقد نجد لها مكاناً فى الأحاديث الموضوعة (2) . والشيعة ينسبون بعضها إلى الإمام على أو السيدة فاطمة الزهراء أو غيرهما.   (1) راجع ص 74. (2) انظر مثلا: اللآلئ المصنوعة 2 / 48 - 62، والفوائد المجموعة 1 / 44- 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1014 وإذا كان هناك خلاف بين الشيعة والسنة حول السنن الراتبة فى اليوم والليلة أو غيرها، فإنا نجد الخلاف أيضا بين الشيعة أنفسهم. وكذلك السنة، حتى أن الإمام مالكا لم يوقت شيئاً معلوماً للسنن الرواتب وقال فى صلاة الليل والنهار: النافلة مثنى (1) . فقد اختلفت الآثار الواردة فى النوافل، وهي ـ كما قيل سابقاً ـ قربان كل تقى، وخير موضوع، فمن شاء استقل، ومن شاء استكثر. ولكن الذى يلفت النظر هنا هو موقف الشيعة من صلاة الضحى والتراويح، وما يروونه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لتأييد مذهبهم. فصلاة الضحى ثبت أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها، ولكنه لم يداوم عليها (2) وحتى لو لم يثبت ذلك فهي نافلة فى وقت غير منهي عنه، والشيعة وهم يستدلون على عدم مشروعيتها، يأتون بروايات ـ لو صحت ـ تدل على خطأ من ينهي عنها، مثل ما يروونه عن عبد الله بن المختار الأنصارى، عن أبى جعفر قال: سألته عن صلاة الضحى، فقال أول من صلاها قومك، إنهم كانوا من الغافلين فيصلونها، ولم يصلها رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: إن علياً مر على رجل وهو يصليها، فقال على: ما هذه الصلاة، فقال: أدعها يا أمير المؤمنين؟ فقال على: أكون أنهي عبداً إذا صلى " (3) . وأما صلاة التراويح فقد روى أن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ صلى في المسجد ذات ليلة من رمضان فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا   (1) انظر: المدونة 1 / 97 – 99. (2) انظر: الموطأ 1 / 127 – 130، والمغني 1 / 771 – 772، وسبل السلام ... 2 / 16 –17، والبخاري وشرحة فتح الباري – كتاب التهجد: باب صلاة الضحي في السفر، وباب من لم يصل الضحي ورآه واسعا، وباب صلاة الضحي في الحضر. (3) الوسائل 5 / 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1015 فى الليلة الثالثة فخرج إليهم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أصبح قال: " قد رأيت الذى صنعتم، ولم يمنعنى من الخروج إليكم إلا أنى خشيت أن تفرض عليكم "، وفى رواية للبخارى: " أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها " (1) . إلى جانب روايات أخرى، والثابت أنها لم تأخذ الصورة التى عليها الآن إلا فى عهد عمر بن الخطاب، حيث جمع الناس علَى أبىّ بن كعب، وأخرج القناديل إلى المسجد، فجعلهم جماعة واحدة بعد أن كانوا يصلونها جماعات، وفرادى. وفى عهد على بن أبى طالب بقيت هذه السنة ولم يمنع المسلمين منها، بل على العكس كان معجبا بما قام به عمر، وروى أنه قال نور الله على عمر قبره كما نور علينا مساجدنا (2) . ومع هذا نجد الإمام الشافعى ـ من المذاهب الأربعة ـ يرى عدم استحبابها جماعة، وإنما فرادى (3) ، فلو اقتصر الشيعة الاثنا عشرية على عدم استحبابها لما كان هناك خلاف يذكر، فهم يرون قيام رمضان فرادى. لكن الخلاف الذى استحق الذكر هو أنهم أخذوا برواية موضوعة نتيجة لدور عمر في صلاة التراويح، وهو الخليفة الثانى، وكان له أثره في بيعة الخليفتين الأول والثالث، والثلاثة في نظر الشيعة الرافضة قد أخذوا حق علي في الخلافة، وهذه الرواية هي أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا صلى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله، ثم يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيصلى. فخرج من أول ليلة في شهر رمضان ليصلى ما كان يصلى، فاصطف الناس خلفه، فهرب منهم إلى بيته فتركهم ففعلوا ثلاث ليال. فقام في   (1) انظر فتح الباري (3 / 10) رواية رقم 1129 وشرحها. (2) انظر: المبسوط 2 / 144 – 145، والموطأ 1 / 102 – 105، والمغني ... 1 / 801 – 804، وانظر كذلك: سبل السلام 2 / 9 – 11، والمنتقي ص 541 – 542، والبحر الزخار 2 / 35 وما في حاشيته من كتاب: جواهر الأخبار. (3) انظر الأم 1 / 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1016 اليوم الرابع على منبره فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: يا أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان في النافلة جماعة بدعة، صلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجتمعوا ليلاً في شهر رمضان لصلاة الليل، ولا تصلوا صلاة الضحى، فإن تلك معصية، ألا وإن كل بدعة ضلالة، وإن كل ضلالة سبيلها إلى النار، ثم نزل وهو يقول قليل في سنة خير من كثير في بدعة (1) . فهذه الرواية ينقضها ما سبق من صلاة الرسول عليه الصلاة والسلام، والصحابة والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وكيف تكون النافلة التى هي قربى إلى الله تعالى معصية وبدعة ضالة تؤدى إلى النار؟ وإذا وجدنا بدعة فإنما جمع الناس على إمام في جماعة واحدة بعد أن كانوا يؤدونها جماعات ووحدانا، وهذا الاجتماع لم يكن إلا بعد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو ما قصده عمر عندما خرج ذات ليلة بعد أن جمع المسلمين على أبى بن كعب ووجد اجتماعهم في الصلاة، فقال: " نعمت البدعة هذه ". فعمر لم يشرع صلاة جديدة، وإنما جعل الجماعات جماعة واحدة لخير ارتآه (2) ، والرسول - عليه السلام - لم يفعل ذلك رأفة بالمسلمين خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا كما روى عنه، فهذه طبيعته، وكما قالت أم المؤمنين عائشة: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يدع العمل وهو يحب أن يعمله، خشية أن   (1) انظر: الاستبصار 1 / 467 – 468، وقال محمد بن يحي بهران الصعدي، بعد أن ذكر حديثا قريبا من هذا: " الأقرب أنه موقوف علي علي - عليه السلام - إن صحت الرواية عنه " (انظر: جواهر الأخبار بحاشية البحر الزخار 2 / 34) . ونقول له: نربأ بعلي أن يقول هذا، فقد صلاهما رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (2) تحدث الأستاذ محمد مصطفي شلبي عن الأفعال التي فعلها الصحابة، ولم تكن علي عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبين علة ذلك، وضرب له الأمثال، مؤيدا صحة ما ذهبوا إليه (انظر كتابة: تعليل الأحكام ص 64 – 71) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1017 يعمل به الناس فيفرض عليهم (1) ، فهل يعد ما فعله عمر معصية وضلالة سبيلها إلى النار؟ وكيف خفي ذلك على إجلاء الصحابة؟ ولماذا لم يبطله على وهو بالكوفة؟ بل استحسنه أيما استحسان فأبقاه ودعا لعمر. ومع هذا فالضحى والتراويح نافلتان، فللمسلم أن يصليهما، وله أن يدعهما، وله أن يصلى التراويح فردا، أو في جماعة، ولكن ليس بمسلم من يتعمد الكذب على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليؤيد ما ذهب إليه، ويبطل ما ذهب إليه مخالفوه. ونجد في الجزء الثالث من وسائل الشيعة (ص 74 ـ 75) باب عدم استحباب صلاة الضحى، وعدم مشروعيتها. وتحت الباب ست روايات، منها الرواية التي ذكرتها من قبل، ومنها أن الرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ قال: " صلاة الضحى بدعة ". ومن وضع هذه الرواية المفتراة نسأله: من الذى يجيء بصلاة بدعة في عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فالهدف من هذا الباب برواياته هو مخالفة ما عليه جمهور المسلمين تبعا لأصول هذه الفرقة كما بينتها من قبل. وفى الجزء الخامس (ص 224 ـ 225) " باب استحباب صلاة يوم غدير ... " ومما جاء فيه: صيام يوم غدير خم يعدل صيام عمر الدنيا.. وهو عيد الله الأكبر، وما بعث الله نبيا إلا وتعبد فى هذا اليوم وعرف حرمته.. ومن صلى فيه ركعتين عدلت عند الله ـ عز وجل ـ مائة ألف حجة، ومائة ألف عمرة ... وما خلق عز وجل - يوما أعظم حرمة منه ... إلى آخر هذه الأباطيل والمفتريات العجيبة التى وضعها غلاة الرافضة.   (1) انظر: الموطأ 1 / 128، وفتح الباري (3 / 10) رواية رقم 1128 وشرح الرواية رقم 1129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1018 وفى الجزء الخامس أيضاً (ص 288: 289) نجد الحنين إلى المجوسية حيث يصادفنا " باب استحباب صلاة يوم النيروز، والغسل فيه، والصوم، ولبس أنظف الثياب، والطيب، وتعظيمه، وصب الماء فيه "!! وكل ضلالة ينسبها الغلاة والزنادقة إلى الأئمة الأطهار كذباً وبهتاناً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1019 الفصل الثالث: الصيام والاعتكاف بعد أن انتهينا من الحديث عن الطهارة والصلاة في الفصلين السابقين، وناقشنا بعض النقاط بشيء من التفصيل، نكتفي بهذا كنموذج للمناقشات التفصيلية حتى لا يطول بنا الحديث، فقليل جداً من فقه هؤلاء القوم الرافضة يخضع للمناقشة العلمية التي نراها في مجال الفقه المقارن. وهذا واضح من النموذج الذى قدمناه آنفاً، ويتضح أكثر من العرض الذى يبدأ من هنا إلى آخر أبواب الفقه. وفى هذا العرض نشير إلى أهم ما جاء في فقههم تأثراً بعقيدتهم الباطلة في الإمامة التي اخترعها ابن سبأ كما بينا في الجزء الأول، ثم نذكر بعض الأخبار التي وضعوها لتأييد ما ذهبوا إليه لبيان مدى غلوهم وضلالهم، وهذه الأخبار التي جاءت في كتبهم المختلفة جمعها الحر العاملى في كتابه " وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة "، وذكرت في الفصلين السابقين شيئاً من هذه الأخبار، والنقل من الوسائل يغنى عن الرجوع إلى الكتب التي نقل منها، وقد تحدثت عن هذه الكتب، وقدمت دراسة لأهمها في الجزأين الثانى والثالث. وننظر في كتب الفقه عندهم فنجد في الصيام ما يأتى: في رؤية الهلال يعتبرون البينة الشرعية خبر عدلين. يأخذون كذلك بحكم الحاكم، ولكن هذا لا يخرج عن النطاق الجعفري، الرافضي، أي أنهم لا يأخذون بشهادة غيرهم ولا بحكمه (1) .   (1) راجع مستمسك العروة 8 / 461 تجد ما يبين هذا، كما أن واقعهم يدل عليه، فهم لا يأخذون بما تعلنه الدول الإسلامية. وأذكر أننى زرت النجف يوم عيد وقال لى محدثى: " هذا عيد الحكومة أما عيدنا ففى الغد " بل وجدت من الذين يزورون مصر من يسلك نفس المسلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1020 وفى شرائط صحة الصوم يشترطون مع الإسلام الإيمان. ويقولون لا يصح الصوم من غير المؤمن (1) وقد عرفنا مرادهم بالإيمان، وقولهم بأن العبادة لا تصح من المخالف إجماعا. وفيما يجب الإمساك عنه في الصوم من المفطرات يجعلون من هذه المفطرات الكذب على أئمتهم، وألحق بعضهم بهم السيدة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها (2) . وفى المندوب من الصيام يجعلون من المؤكد صوم يومي الغدير والمباهلة، ويجعلون صوم عاشوراء حزناً (3) . هذا في الصيام، أما الاعتكاف فنجد فيه ما يأتى: يشترطون لصحة الاعتكاف الإيمان.. قال صاحب المستمسك (8 / 539) : " الاعتكاف من العبادات إجماعاً، وهي لا تصح من غير المؤمن للإجماع والنصوص كما سبق، مضافا إلى ما في الجواهر: من كون اللبث في المسجد حرام على الكافر والحرمة مانعة من صحة التعبد ".. وإذا أضفنا قوله هذا إلى قوله السابق عن الإيمان ظهر أنه ومن يرى رأيه ـ يعتقد أن المسلم غير الجعفري الرافضي كافر لا يحل لبثه في المسجد. والمؤلف   (1) قال الحكيم بأن هذا إجماع محقق (انظر المرجع السابق ص 402) . (2) إذن ليس مجرد الكذب هو المفطر، وإنما خصوه بالكذب على هؤلاء إلى جانب الكذب على الله تعالى ورسوله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالوا: الكذب على الفقهاء والمجتهدين والرواة لا يوجب بطلان الصوم، (انظر المرجع السابق ص 251 ـ 257) . ويبقى هنا تساؤل: فوضع الفرق للأحاديث التي تؤيد مبادئهم شيء معروف، وكتب الجعفرية الاثنى عشرية التى درسناها فى أجزاء سبقت رأينا وضوح الكذب والافتراء فيها، فلماذا إذن يجعلون هذا الكذب مفطراً؟ لعله من باب الإيهام بالصدق، والقناع الذى يستعين به الكذوب، أما الصادقون فإنهم لا يكذبون على هؤلاء ولا على غيرهم. (3) وذلك لأنه يوم استشهاد سيدنا الحسين ـ رضي الله تعالى عنه، وبالطبع صوم عاشوراء على عهد الرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لم يكن من أجل هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1021 هو محسن الحكيم ـ كان المرجع الأعلى للشيعة في العراق، وهو أحد الثلاثة الذين وجهوا الشيعة الرافضة في عصرنا كما سأبين في خاتمة الكتاب. وإلى جانب قولهم بصحة الاعتكاف في كل مسجد جامع، وجدنا منهم من يقول بأنه لا يصح إلا في أحد المساجد الأربعة: مكة والمدينة وجامع الكوفة والبصرة (1) . وقال آخرون: الأحوط مع الإمكان كونه في أحد المساجد الأربعة ... المذكورة (2) . ويرون أن الاعتكاف يفسده ما يفسد الصوم، أي يدخل فيه الكذب الذى تحدثنا عنه آنفاً. هذا بعض ما جاء فى كتب الفقه، أما " كتاب وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة " فإنا نجد فيه ما يأتى: الجزء السابع يشتمل على الصوم والاعتكاف.. وفى ص 20: 22 نجد باب وجوب إمساك الصائم عن الكذب على الله ـ عز وجل، وعلى رسوله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعلى الأئمة. ومن أحاديث الباب ما روى عن أبى بصير قال: سمعت أبا عبد الله ... (أي الإمام الصادق) يقول: الكذبة تنقض الوضوء وتفطر الصائم، قال: قلت له: هلكنا. قال: ليس حيث تذهب، إنما ذلك الكذب على الله تعالى، وعلى رسولهـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعلى الأئمة. ومما يضحك ـ ومن شر البلية ما يضحك! ـ أن هذا الحديث نفسه من الكذب على الأئمة!   (1) في هذه المرة مسجد البصرة بدلاً من مسجد كربلاء. (2) قال صاحب المستمسك (8 / 549) يعقب على القول بالأحوط: " خروجنا عن شبهة الخلاف المتقدم. أما مع عدم الإمكان فالأحوط الإتيان به فى غيرها برجاء المطلوبية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1022 وفى ص 94: 96 باب جواز الإفطار للتقية والخوف من القتل ونحوه ويجب القضاء. ومن أحاديث الباب: ما نسب إلى الصادق: " لو قلت: إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً ". وما نسب إليه أيضا: " لا دين لمن لا تقية له ". وما نسب لغيره: " وأما الرخصة التى صاحبها فيها بالخيار فإن الله تعالى نهي المؤمن أن يتخذ الكافر ولياً، ثم من عليه بإطلاق الرخصة له عند التقية فى الظاهر أن يصوم بصيامه، ويفطر بإفطاره، ويصلى بصلاته، ويعمل بعمله، ويظهر له استعمال ذلك موسعا عليه فيه. وعليه أن يدين الله سبحانه فى الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين ". ونلاحظ هنا أنه أطلق المؤمن على الرافضي، والكافر على من يخالف الرافضة! ومن خرافاتهم وأباطيلهم باب أن من نذر أن يصوم حتى يقوم القائم لزمه ووجب عليه صوم ما عدا الأيام المحرمة!! (ص 281: 282) أي أنه صيام دهر منذ أكثر من ألف ومائة عام! وفى ص 323: 329 باب استحباب صوم يوم الغدير، وهو ثامن عشر ذى الحجة، واتخاذه عيداً وفى روايات الباب أنه أعظم حرمة وأشرف من الفطر والأضحى، وأن صيامه يعدل صيام عمر الدنيا، ويعدل فى كل عام مائة حجة ومائة عمرة مبرورات متقبلات، وهو عيد الله الأكبر!! ومن صامه كان أفضل من عمل ستين سنة!! إلى غير ذلك من الضلال والزندقة مما زاد على ما ذهب إليه عبد الله بن سبأ هو نفسه صاحب فكرة الرافضة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1023 وفى ص 337: 339 باب استحباب صوم يوم التاسع والعاشر من المحرم حزنا.. والإفطار بعد العصر بساعة!! وفى ص 339: 342 باب عدم جواز صوم التاسع والعاشر من المحرم على وجه التبرك بهما. وفى ص 342 باب جواز صوم يوم الاثنين لا على وجه التبرك به. وفى ص 400: 403 باب اشتراط كون الاعتكاف فى المسجد الحرام، أو مسجد النبى ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو مسجد الكوفة، أو مسجد البصرة، أو فى مسجد جامع رجلا كان المعتكف أو امرأة. ومما جاء تحت الباب: عن الإمام الصادق: لا يصلح الاعتكاف إلا في المسجد الحرام، أو مسجد الرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو مسجد الكوفة، أو مسجد جماعة. وعنه: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة قد صلى فيه إمام عدل صلاة جماعة ولا بأس أن يعتكف في مسجد الكوفة والبصرة ومسجد المدينة ومسجد مكة. وروى أنه لا يكون الاعتكاف إلا في مسجد جمع فيه نبي، أو وصى نبي، وهي أربعة مساجد: المسجد الحرام، جمع فيه رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومسجد المدينة جمع فيه رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمير المؤمنين - عليه السلام -، ومسجد الكوفة ومسجد البصرة جمع فيهما أمير المؤمنين. قال صاحب الوسائل: هذا محمول على الفضل والكمال.. ونختم الكلام هنا ببيان حنين هؤلاء إلى المجوسية.. ففى ص 346 باب استحباب صوم يوم النيروز والغسل فيه ولبس أنظف الثياب والطيب!! ويفترون الكذب على الإمام الصادق أنه قال: إذا كان يوم النيروز فاغتسل والبس أنظف ثيابك، وتطيب بأطيب طيبك، وتكون ذلك اليوم صائماً!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1024 الفصل الرابع: الزكاة والخمس يرى الاثنا عشرية الرافضة أن الزكاة واجبة على الكافر، ولكنها لا تصح منه إذا أداها لاشتراطهم الإيمان ـ بحسب أهوائهم في تعريفه ـ ويرون أن من حق إمامهم أو نائبه أن يأخذ الزكاة من الكافر قهراً (1) . هذا بالنسبة لأخذها، ولكنها لا تعطى إلا للجعفري، الرافضي لأن مستحقها يجب أن يكون مؤمنا، والإيمان وقف على الجعفرية، ولذا يجيزون دفعها إلى الفساق، ومرتكبى الكبائر، وشاربى الخمر بعد كونهم فقراء من أهل الإيمان (2) . أما غير الجعفري الرافضي، فيجوز أن يأخذ ـ كما يأخذ الكفرة عادة ـ من سهم المؤلفة قلوبهم، وسهم سبيل الله في الجملة إذا كان هذا في مصلحة الجعفري (3) . ويرون أن غير المؤمن ـ أي غير الجعفري الرافضي ـ إذا أعطى زكاته أهل نحلته ثم أتبصر ـ أي أصبح رافضيا ـ أعادها. ولو كان قد دفع الزكاة إلى المؤمن ثم استبصر أجزأه، ويرون أن الأحوط الإعادة أيضا (4) .   (1) انظر مستمسك العروة 9 / 47 ـ 48، 377. (2) انظر المرجع السابق ص 274 ـ 275، 283 ـ 285. (3) قال في المرجع السابق (275) : " إذا كان الصرف على المخالف بملاحظة مصلحة المؤمن، لأنه في الحقيقة صرف على المؤمن لا على المخالف ... أما لو لم يكن كذلك فلا يجوز الصرف من السهم المذكور ". (4) انظر نفس المرجع 9 / 279 ـ 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1025 ويرون الزكاة يجب دفعها إلى الإمام إذا طلبها، ويستحب دفعها إليه ابتداء، ومع فقده إلى الفقيه المأمون من الرافضة لأنه أبصر بمواقعها. وحتى يحثوا الناس على دفعها للفقهاء قالوا: إذا قبضها الفقيه برئت ذمة المالك ولو تلفت. وقالوا: يجوز دفع الزكاة إلى الحاكم الشرعي بعنوان الوكالة عن المالك في الأداء، كما يجوز بعنوان الوكالة في الإيصال، ويجوز بعنوان أنه ولى عام على الفقراء (1) . وأثر عقيدتهم الباطلة في صدقة الفطر كأثرها في الزكاة بصفة عامة. هذا في الزكاة، وبعدها نأتي إلى الخمس وعند جمهور المسلمين لا نجد في الفقه كتاباً مستقلاً بعنوان الخمس، وإنما نرى الحديث عن خمس الغنائم في كتاب الجهاد، ونرى فى كتاب الزكاة الحديث عن خمس الركاز (2) ، وعن المعدن وما يجب فيه من خمس إلحاقا بالركاز، أو مقدار الزكاة لمن لم يلحقه بالركاز. ولكن نجد في الفقه الجعفري الاثنى عشري كتابا كاملا بعنوان الخمس، وقد حظي بعناية غير عادية، واعتبروه من الفرائض المهمة وقالوا: "من منع منه درهما ـ أو أقل ـ كان مندرجا في الظالمين لهم (أي لآل البيت) والغاصبين لحقهم، بل من كان مستحلا لذلك كان من الكافرين، ففى الخبر عن أبى بصير، قال: قلت لأبى جعفر: ما أيسر ما يدخل به العبد النار؟ قال: من أكل من مال اليتيم درهما ونحن اليتيم ... إلخ (3) . وتوسعوا فيما يجب فيه الخمس حتى جعلوه فيما يفضل عن مؤنة السنة من أرباح التجارات، ومن سائر التكسبات من الصناعات والزراعات، والإيجارات،   (1) المرجع السابق ص 350. (2) الركاز: هو ما أوجده الله تعالى فى باطن الأرض من المعادن فى حالتها الطبيعية ويطلق كذلك على الكنز، وعلى المال المدفون قبل الإسلام. (3) انظر المستمسك 9 / 442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1026 حتى الخياطة والكتابة والنجارة والصيد، وحيازة المباحات، وأجرة العبادات الاستئجارية من الحج والصوم والصلاة والزيارات، وتعليم الأطفال، وغير ذلك من الأعمال التى لها أجرة، وجعلوا الأحوط ثبوته فى مطلق الفائدة وإن لم تحصل بالاكتساب كالهبة والهدية والجائزة والمال الموصى به ونحوها، وجزم بعضهم بهذا (1) . كما جعلوا الأحوط إخراج خمس رأس المال وقالوا: لا إشكال في أن رأس المال ومالا يعد للصرف ويدخر للقنية كالفرش ونفس الضيعة وأمثال ذلك ـ لا يحسب من المؤنة. ثم قالوا: وعلى هذا يتعين تقويمه في آخر السنة وإخراج خمسه (2) بل قالوا: الأحوط إخراج الخمس في الآلات المحتاج إليها في الكسب مثل آلات النجارة للنجار وآلات النساجة للنساج، وآلات الزراعة للزارع وهكذا (3) . ومخرجو الخمس الآن يعطونه فقهاءهم لينفق بمعرفتهم، ولا يخرج عن النطاق الجعفري الرافضي ما يخرج من أيدى هؤلاء الفقهاء بعد الإنفاق على أنفسهم، ويتفاوت قدر هذا الإنفاق بقدر حاجة الفقهاء ومن ينفقون عليهم، وبقدر الإيمان أو النفاق والاستغلال وبقدر الخشية من الله تعالى أو الخشية من الناس (4) . وأثر عقيدتهم الباطلة في الخمس يبدو فيما يأتى:   (1) انظر المرجع السابق 9 / 515 ـ 523. (2) نفس المرجع ص 533 ـ 535. (3) المرجع السابق أيضاً ص 539. (4) اقرأ " وجوب دفع الخمس للفقيه زمن الغيبة " فى كتاب النور الساطع (1 / 439) واقرأ فيه: إن الفقيه يأخذ نصف الخمس لنفسه ويقسم النصف الآخر منه على قدر الكفاية فإن فضل كان له، وإن أعوز أتمه من نصيبه. ومن واقع الجعفرية الرافضة في هذه الأيام نجد أن من أراد أن يحج فعليه أن يقوم كل ممتلكاته جميعاً ثم يدفع خمس قيمتها إلى الفقهاء الذين أفتوا بوجوب هذا الخمس وعدم قبول حج من لم يدفع، واستحل هؤلاء الفقهاء أموال الناس بالباطل؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1027 لما كان الخمس مرتبطا بأئمتهم، أو من ينوب عنهم من الفقهاء، رأيناهم مع توسعهم الزائد فيما يجب فيه الخمس، يتشددون في إيجابه فيجعلون منع الدرهم ـ أو أقل ـ ظلما لآل البيت واغتصابا لحقهم، ويكفرون من يستحل ذلك كما سبق. وفيما يجب فيه الخمس يشترطون إذن أحد أئمتهم في القتال حتى يكون الواجب فى الغنائم هو الخمس فقط. أما إذا كان الغزو بغير إذن الإمام فإن كان في زمان الحضور، وإمكان الاستئذان منه، فالغنيمة للإمام، وإن كان في زمن الغيبة ـ أي غيبة إمامهم الثانى عشر، كما يعتقدون ـ فالأحوط إخراج الخمس. ولذا يقولون بأن ما يأخذه السلاطين (1) في هذه الأزمنة من الكفار بالمقاتلة معهم ـ من المنقول وغيره ـ يجب فيه الخمس على الأحوط. ويقولون: إذا أغار المسلمون على الكفار فأخذوا أموالهم، أو أخذوها بالسرقة والغيلة، فالأحوط بل الأقوى إخراج خمسها إذا كان بإذن الإمام، وإلا فهي له وإن كان فى زمن الغيبة. ويرون جواز أخذ مال الناصب أينما وجد، مع إخراج خمسه من باب الحيطة (2) . وقد عرفنا تحديد الكافر والناصب عند الجعفرية الرافضة وكيف أنه يشمل كثيرا من المسلمين إن لم يكن كل المسلمين عدا الرافضة، كما أنهم يرون كفر غير المسلمين، ومنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى. ومعنى هذا أن كل هؤلاء يباح للرافضى أخذ أموالهم بالإغارة أو بالسرقة والغلبة (3) .   (1) على حد تعبيرهم، لأنه لا يوجد حاكم شرعي من وجهة نظرهم. (2) راجع الأقوال السابقة فى المستمسك 9 / 442 ـ 451. (3) ماذا يريد علماء الشيعة الرافضة من إباحة السلب والنهب وهم المنتفعون قبل غيرهم بالخمس؟ والذى يبيح هذا أيمكن أن يكون دينا سماويا فضلا عن أن يكون الإسلام العظيم؟ وكيف ينسبون هذه المضلة لآل البيت الأطهار؟ وكيف يقولون بأن الإمام الصادق صح عنه أنه* *قال: " خذ مال الناصب حيثما وجدته، وادفع إلينا الخمس "!! إننا نرفض أن يصور سيدنا جعفر الصادق فى صورة زعيم عصابة تغير وتسرق ثم تتقاسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1028 وفى تقسيم الخمس قالوا (1) : يقسم ستة أسهم: سهم لله سبحانه وتعالى، وسهم للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسهم للإمام الجعفري. وهذه الثلاثة الآن لإمامهم الغائب الثانى عشر. والأسهم الثلاثة الأخرى للأيتام والمساكين وأبناء السبيل بشرط الإيمان ـ أي أن يكونوا من الرافضة، ولا يعتبر في المستحق العدالة، وهذا يذكرنا برأيهم في مستحق الزكاة. وقالوا: النصف من الخمس الذى للإمام أمره في زمان الغيبة راجع إلى نائبه، وهو المجتهد الجامع للشرائط (2) فلابد من الإيصال إليه أو الدفع إلى المستحقين بإذنه (3) . أما النصف الآخر ـ الذى للأصناف الثلاثة ـ فيجوز للمالك دفعه إليهم بنفسه لكن الأحوط فيه أيضا الدفع إلى المجتهد أو بإذنه (4) . وبالنسبة للأنفال قالوا بأنها بعد الرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ لأئمة الجعفرية الرافضة زيادة على مالهم من سهم الخمس (5) .   (1) انظر المستمسك 9 / 567 ـ 585. (2) انظر شرائط المجتهد فى المرجع السابق جـ 1 ص 40 وما بعدها، وفى النور الساطع في الفقه النافع جـ 1 ص 78 وما بعدها وجـ 2 ص 196 وما بعدها. (3) اختلف الجعفريه الاثنا عشرية فى هذا النصف: فمن ذاهب إلى إباحته للشيعة مطلقا، ومن ذاهب إلى وجوب عزله وإيداعه الوصية به عند الموت، ومن ذاهب إلى وجوب دفنه لاعتقاده أن الأرض تخرج كنوزها للإمام الثانى عشر عند ظهوره، ومن ذاهب إلى وجوب صرفه إلى المحتاجين من أهل البيت، إلى غير ذلك من الآراء. (انظر المستمسك 9 / 578 ـ 580) . (4) اختلفوا فى هذا النصف أيضا كوجوب دفنه إلى زمان ظهور إمامهم الأخير، أو الوصية به، أو غير ذلك، ولكن المشهور بين المتأخرين منهم والمتقدمين وجوب قسمته على الأصناف الثلاثة (انظر المرجع السابق ص 585) . (5) انظر نفس المرجع ص 596 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1029 ويبقى أن نقول: إن الخمس الذي ينادى به الجعفرية الاثنا عشرية لم يكن علي عهد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومن المقطوع به أن أبا الأئمة علي بن أبي طالب لم يأخذه ولم يفرضه، ولا ندري من أين تسللت هذه الفكرة إلي الفقه الجعفري؟! وإن كنا ندري أن الكليني وأمثاله تبعا لابن سبأ بذلوا ما استطاعوا من جهد لإبعاد الرافضة عن المنهج الإسلامي. ويبقى كذلك أن نقول: إن المسلمين اليوم إن أرادوا ألا يحكم عليهم رافضة العصر بالكفر فعليهم أن يجمعوا خمس مكاسبهم ورؤوس أموالهم ويبعثوا به إلي علماء الشيعة الرافضة!! وبعد كتب الفقه نأتي إلي كتاب وسائل الشيعة فنجد ما يأتي في الزكاه في الجزء السادس (ص 19) يروون عن الإمام الصادق أنه قال: " دمان في الإسلام حلال من الله – عز وجل، لا يقضي فيهما أحد حتي يبعث الله قائمنا أهل البيت، فإذا بعث الله – عز وجل – قائمنا أهل البيت حكم فيهما بحكم الله تعالى ذكره: الزانى المحصن يرجمه، ومانع الزكاه يضرب عنقه ". وهذه الرواية المفتراة علي الإمام الصادق تعني تعطيل إقامة حدود الله سبحانه وتعالى، وربط إقامتها بهذه الخرافة، خرافة الإمام الثانى عشر الذي مر علي غيابه – لو كان قد ولد – أكثر من ألف ومائة عام!! وفي الجزء السادس أيضاً نجد أبواب المستحقين للزكاه (ص 143: ... 220) : وللاستدلال علي ضلال هؤلاء القوم يكفى أن نقرأ عناوين بعض الأبواب دون حاجة إلي ذكر الروايات المفتراة علي الأئمة الأطهار. ومن هذه الأبواب: باب أن من دفع الزكاة إلي غير المستحق كغير المؤمن أو غير الفقير ونحوهما ضمنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1030 باب وجوب إعادة الزكاة إذا دفعها إلي غير المستحق كغير المؤمن ونحوه مخالفاً ثم استبصر باب اشتراط الإيمان والولاية في مستحق الزكاة إلا المؤلفة والرقاب والأطفال باب عدم جواز دفع الزكاة إلى المخالف في الاعتقاد الحق من الأصول كالمجسمة والمجبرة والواقفية والنواصب ونحوهم. هذه بعض الأبواب، وهي كافية لبيان غلو هؤلاء وضلالهم، بعد أن عرفنا أن مرادهم بالمؤمن، أي أن يكون رافضيا، وغير المؤمن أمة الإسلام كلها عدا الرافضة، والمخالف إذا استبصر أي إذا أصبح من الرافضة. وبعد الزكاة نأتي إلى الخمس: والحديث عن الخمس في الجزء السادس يبدأ من ص 336 والروايات هنا تتفق مع ما ذكرته آنفاً من ضلالهم، فلا حاجة لذكرها، ولكن نقف هنا عند نقطة واحدة وهي ما يتصل بالناصب: فعند بيان وجوب الخمس في مال الناصب كما أشرت من قبل بين المراد من الناصب فشمل أمة الإسلام كلها عدا الرافضة! ففى ص 339 رووا عن الإمام الصادق أنه قال: " ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت، لأنك لا تجد رجلا يقول: أنا أبغض محمدا وآل محمد، ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا ". وفى ص 341: 342 نسبوا للإمام العاشر على بن محمد الهادي أنهم كتبوا إليه يسألونه عن الناصب: هل نحتاج فى امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاد إمامتهما؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1031 فرجع الجواب: " من كان على هذا فهو ناصب ".. ويقصد هؤلاء الزنادقة بالجبت والطاغوت خير البشر ـ بعد رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهم خليفة رسول الله أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق ـ رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما. والرافضة إنما سموا رافضة لرفضهم إمامتهما والثناء عليهما، والمسلمون جميعاً ـ عدا الرافضة ـ يقدمون الشيخين ويقولون بإمامتهما، أي أنهم جميعا كلهم فى نظر الرافضة يعتبرون من النواصب الذين يستحلون أموالهم. فما رأي دعاة التقريب؟! أفيجوز أن نتعبد بهذا المذهب كما أفتى الشيخ شلتوت؟! وهل يمكن أن يكوّن هؤلاء القوم مذهبا خامسا كما نادى الشيخ الباقورى ودار التقريب بين المذاهب في القاهرة؟! ما رأيكم أيها السادة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1032 الفصل الخامس: الحج ذكرنا من قبل ما ذهب إليه هؤلاء الجعفرية الرافضة من بطلان عبادة المسلمين جميعا ما داموا ليسوا رافضة. ومحسن الحكيم يعود ليذكرنا بهذه المأساة من جديد فيقول: " لا ريب بشرطية الإيمان في صحة العبادة، وعليه فعبادة المخالف باطلة لا يترتب عليها الأحكام " (1) . ويقولون: إذا حج المخالف ثم استبصر ـ أي أصبح رافضيا ـ يستحب أن يعيد حجه. وفى الإنابة: يرون أن الجعفري الرافضي لا يجوز أن يحج عن المخالف إلا إذا كان أباه. وكذلك يشترط فى النائب الإيمان، أي أن يكون رافضياً (2) . ويقولون: إذا نذر ـ قبل حصول الاستطاعة ـ أن يزور الحسين فى عرفة، ثم حصلت الاستطاعة لم يجب عليه الحج (3) . وجعلوا من اللواحق إلى جانب زيارة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، استحباب الغسل وزيارة السيدة فاطمة الزهراء ـ رضي الله تعالى عنها ـ فى الروضة، وأئمتهم الذين دفنوا بالبقيع. وأثر عقيدة الإمامة هنا فى تخصيص هؤلاء بالزيارة، فمن دخل مسجد الرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ فلا يتجه صوب الشيخين، ومن ذهب إلى البقيع فليذهب إلى مراقد أئمة الجعفرية فقط، فلا أحد غيرهم يستحب زيارته فضلا عن الاغتسال للزيارة. وهم يجعلون الاستحباب هنا استحباباً مؤكداً.   (1) المستمسك 10 / 226. (2) قالوا: يشترط الإيمان لعدم صحة عمل غير المؤمن وإن كان معتقداً بوجوبه، وحصل منه نية القربى. وقال بعضهم بعدم اعتبار الإيمان وصحة نيابة المخالف اكتفاء باشتراط الإسلام. (انظر المرجع السابق 11 / 7) . (3) قال صاحب المستمسك (10 / 117) : يظهر من الأصحاب الاتفاق عليه، وراجع الجزء السابق حيث جعلوا زيارة قبر الحسين رضي الله تعالى عنه أفضل من الحج والعمرة؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1033 وفى الدعاء يستحبون أن يكون بالأدعية المأثورة. وإذا رجعنا إلى هذه الأدعية وجدنا أثر عقيدتهم الباطلة واضحاً في كثير منها (1) . هذا بعض ما وجدناه فى كتب الفقه عند هؤلاء القوم فماذا نجد في وسائل الشيعة؟ فى الحديث عن كتب السنة عند الشيعة، وهي أربعة، ضربت مثلا ببعض ما جاء فى هذه الكتب عن الحج لبيان مدى غلو هذه الفرقة وضلالها. وإذا أضفنا إلى ذلك البيان ما جاء آنفاً عن فقه الحج عندهم، وتأثرهم بعقيدتهم الباطلة، أرى أننا لسنا في حاجة إلى عرض ما جاء في الوسائل بالتفصيل، وإنما يكفى الإشارة إلى بعض الأبواب والأخبار، والحج يقع في ثلاثة أجزاء هي: الثامن والتاسع والعاشر، ومما جاء في هذه الأجزاء: 1ـ باب أن المسلم المخالف للحق إذا حج ثم استبصر لم يجب عليه إعادة الحج، بل يستحب (8 / 42) . فاعتبروا دعوة ابن سبأ التى ورثها الرافضة هي الحق، وأن أمة الإسلام على باطل، فمن أصبح رافضيا ـ والعياذ بالله ـ فالمستحب إعادة الحج. ومعلوم أن من أراد أن يحج من الرافضة فعليه أن يخرج خمس كل ما يملك إلىفقهائهم، ومن أجل هذا وجدناهم يحرصون كل الحرص على تضليل عامتهم، وتوسيع هوة الخلاف بينهم وبين غيرهم، وترهيبهم من ترك غلو الرفضوضلالهم، وإصدار صكوك الغفران ما داموا على ملة الرفض، ملتزمين بأداء الخمس!! 2ـ باب عدم جواز الحج عن الناصب إلا أن يكون أبا النائب، وعدم جواز الحج به. (8 / 135) .   (1) انظر شيئا منها فى الجزء السابق، وفى صلاة الجنازة فى الفصل الثانى من هذا الباب، وفى خاتمة الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1034 3ـ باب استحباب الطواف عن المعصومين عليهم السلام أحياء وأمواتاً (8/ 141) . 4ـ باب استحباب استصحاب التربة الحسينية فى السفر، وتقبيلها ووضعها علىالعينين، والدعاء بالمأثور. (8 / 313) . 5ـ باب تأكد استحباب زيارة النبى ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ والأئمة وخصوصاً بعد الحج (10 /252) . ومن أخبار الباب: " ليقضوا تفثهم ": التفث لقاء الإمام (ص 253) ... تمام ... الحج لقاء الإمام (أكثر من خبر) . وأخبار الباب تؤكد أن زيارة قبور الأئمة تؤدي إلى الجنة. 6ـ باب استحباب اختيار زيارة النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الحج ندبا. (10 / 273) . وفى الباب أن زيارة الحسين أيضاً مقدمة على الحج ندباً. 7ـ باب وجوب احترام مكة والمدينة والكوفة، واستحباب سكناها، والصدقة بها وكثرة الصلاة فيها، والإتمام سفراً بها. (10 / 282) . 8ـ باب استحباب الصلاة فى مسجد الغدير ولو نهاراً فى السفر. (10 / 292) 9ـ باب استحباب زيارة أمير المؤمنين على بن أبى طالب، وكراهة تركها. (10 / 293) . ومن أحاديث الباب ما نسبه غلاة الرافضة للإمام الصادق أنه قال: ما خلق الله ـ تعالى ـ خلقاً أكثر من الملائكة، وإنه لينزل كل يوم سبعون ألف ملك، فيأتون البيت المعمور فيطوفون به، فإذا هم طافوا به نزلوا فطافوا بالكعبة، فإذا طافوا بها أتوا قبر النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلموا عليه، ثم أتوا قبر أمير المؤمنين - عليه السلام - فسلموا عليه، ثم أتوا قبر الحسين عليه السلام فسلموا عليه، ثم عرجوا فينزل مثلهم أبدا إلى يوم القيامة. وقال: من زار قبر أمير المؤمنين عارفاً بحقه، غير متجبر ولا متكبر، كتب الله له أجر مائتى ألف شهيد و.. إلى آخر الفرية. ومن مفتريات الباب أيضاً عن الإمام الصادق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1035 من زاره عارفاً بحقه كتب الله له بكل خطوة حجة مقبولة وعمرة مبرورة. وعن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: من زار عليا بعد وفاته فله الجنة. 10ـ باب استحباب زيارة أمير المؤمنين - عليه السلام - ماشياً ذهاباً وعوداً. ... (10 /296) . وفى الباب: من زاره ماشياً كتب الله تعالى له بكل خطوة حجة وعمرة فإن رجع ماشياً كتب الله له بكل خطوة حجتين وعمرتين. 11ـ باب استحباب اختيار زيارة أمير المؤمنين ـ - عليه السلام - ـ على زيارة الحسين ـ - عليه السلام - ـ وعلى الحج والعمرة ندباً. (10 / 297) . قلت: ولماذا إذن الحج والعمرة ما دامت الخطوة الواحدة بحجتين وعمرتين؟! ولماذا أيضاً الجهاد فى سبيل الله تعالى ما دامت زيارة القبر تعدل أجر مائة ألف شهيد؟! يكفى الرافضي إذن أن يزور القبر، ويطوف حول المقام ويصلى إليه راكعا ساجداً، ولا يظن أحد أنه قد عاد إلى الوثنية، أو إلى المجوسية فجاء بما يعوضه عنها، فإن الكليني وأمثاله أخبروه عن المعصومين أن درجته لن يبلغها الحجاج والعمار والمجاهدون فى سبيل الله!! 12ـ باب استحباب عمارة مشهد أمير المؤمنين ومشاهد الأئمة، وتعهدها وكثرة زيارتها. (10 / 298) . وفى الباب أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلى رضي الله تعالى عنه: يا أبا الحسن، إن الله قد جعل قبرك وقبر ولدك بقاعاً من بقاع الجنة، وعرصة من عرصاتها. وإن الله تعالى ـ عز وجل ـ جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحن إليكم، وتحتمل الأذى والمذلة فيكم، فيعمرون قبوركم.. أولئك يا علىالمخصوصون بشفاعتى، والواردون حوضى، وهم زوارى غداً فى الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1036 يا على، من عمر قبوركم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك له ثواب سبعين حجة بعد حجة الإسلام.. ولكن حثالة من الناس يعيرون زوار قبوركم بزيارتكم كما تعيرون الزانية بزناها، أولئك شرار أمتى، لا أنالهم الله ـ تعالى ـ بشفاعتى، ولا يردون حوضى!!! (10 / 298 ـ 299) . قلت: أراد هؤلاء الغلاة الضالون من كذبهم على الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحثوا الرافضة على الإكثار من الطواف حول الأضرحة تحت القباب الذهبية، والصلاة والركوع والسجود إليها كعبدة الأوثان، ومعلوم أنهم يرددون منالدعاء ما يكفرون به خير أمة أخرجت للناس من الصحابة الكرام البررة، نقلة الشريعة وحملة الإسلام بعد الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومن أنكر هذه البدع والضلالات فهو من حثالة الناس ومن أهل النار!! انظركيف يفترون على الله الكذب!! 13ـ باب استحباب زيارة آدم ونوح وإبراهيم مع أمير المؤمنين (10 / 299) ومن مفتريات الباب ما نسبه الضالون للإمام الصادق أنه قال: الكوفة روضة من رياض الجنة، فيها قبر نوح وإبراهيم، وقبور ثلاثمائة نبى وسبعين نبياً، وستمائة وصى، وقبر سيد الأوصياء أمير المؤمنين. (10 / 301) . وفى الباب أيضاً: إذا زرت أمير المؤمنين فاعلم أنك زائر عظام آدم! (10 / 299) . 14ـ باب تأكد استحباب زيارة أمير المؤمنين يوم الغدير، وكثرة الصدقة فيه. (10 / 302) . وفى الباب خبر واحد، ومما جاء فيه: إن يوم الغدير فى السماء أشهر منه فى الأرض، إن لله تعالى فى ... الفردوس الأعلى قصراً: لبنة من فضة ولبنة من ذهب، يجتمع فيه الملائكة ... . أينما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين، فإن الله تعالى يغفر لكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1037 مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، ذنوب ستين سنة، ويعتق من النار ضعف ماأعتق فى شهر رمضان، وفى ليلة القدر، وليلة الفطر، والدرهم فيه بألفدرهم لإخوانك العارفين ... ... إلخ 15ـ باب استحباب الغسل لزيارة أمير المؤمنين وغيره من الأئمة، ثم يمشى إليه حافياً متطيباً و ... .. إلخ (10 / 303) وفى الباب: 000 قصر خطاك، وألق ذقنك إلى الأرض، يكتب لك بكل خطوة مائة ألف حسنة، وتمحى عنك مائة ألف سيئة، وترفع لك مائة ألف درجة، وتقضى لك مائة ألف حاجة، ويكتب لك ثواب كل صديق وشهيد مات أو قتل. (10/ 305) . 16ـ باب استحباب زيارة أمير المؤمنين والأئمة بالزيارات المأثورة. (10 / 305) . قلت: سنقف ـ إن شاء الله تعالى ـ وقفة خاصة عند الزيارات والدعاء المأثور عند الرافضة، وبيان ما فيه من كفر وزندقة وغلو، حيث إنهم يكفرون الصحابة الكرام، ويعتبرون الشيخين الصديق والفاروق مغتصبين لحق أبى الحسن، ولذلك يطلقون عليهما الجبت والطاغوت، وصنمى قريش، ومرشيىء من هذا أثناء عرض كتبهم فى التفسير والحديث. 17ـ باب استحباب زيارة هود وصالح عند قبر أمير المؤمنين. (10 / 308) 18ـ باب استحباب زيارة الحسين، ووجوبها كفاية. (10 / 318) . ويضم الباب ثمانية وأربعين خبرا.. منها: وكل الله تعالى بقبر الحسين أربعة آلاف ملك شعث غبر، يبكونه إلى يوم القيامة. فمن زاره عارفاً بحقه شيعوه حتى يبلغوه مأمنه، وإن مرض عادوه غدوة وعشية، وإن مات شهدوا جنازته واستغفروا له إلى يوم القيامة. (10 / 318، وانظر ص 327) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1038 ومنها: من زار قبره كان كمن زار الله ـ عز وجل ـ فوق عرشه!! (10 / 319) . ومنها: والله لقد تمنيت أنى كنت زرته ولم أحج. (10 / 321) . ومنها: إتيانه مفترض على كل مؤمن يقر له بالإمامة من الله تعالى. (10 / 322) . ومنها: إن أيام زائره لا تعد من آجالهم. (10 / 322، وانظر ... ص 329:330) . ومنها: ليس شيىء فى السموات إلا وهم يسألون الله سبحانه أن يؤذن لهم في زيارة الحسين، ففوج ينزل، وفوج يعرج. (10 / 322) . ومنها: وكل بالحسين سبعون ألف ملك شعثاً غبرا، يصلون عليه يوم قتل إلى ما شاء الله، يعنى قيام القائم. (10 / 323) . ومنها: ما بين قبره إلى السماء السابعة مختلف الملائكة. (10 / 323) . ومنها: إن زواره يدخلون الجنة قبل الناس بأربعين عاماً وساير الناس فى الحساب. (10 / 131) . ومنها: أربعة آلاف ملك هبطوا يريدون القتال مع الحسين لم يؤذن لهم في القتال، فرجعوا فى الاستيذان فهبطوا وقد قتل الحسين، فهم عند قبره شعث غبر يبكونه إلى يوم القيامة، رئيسهم ملك يقال له: منصور، فلا يزوره زائر إلا استقبلوه و.. إلخ (10 / 333) . 19ـ باب كراهة ترك زيارة الحسين. (10 / 333) . ويضم الباب واحداً وعشرين خبراً. منها: لو أن أحدكم حج دهره، ثم لم يزر الحسين لكان تاركاً حقاً من حقوق رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأن حق الحسين فريضة من الله تعالى واجبة على كل مسلم (10 / 333، وانظر ص 337) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1039 ومنها: من لم يأت قبر الحسين حتى يموت كان منتقص الإيمان، منتقص الدين. إن أدخل الجنة كان دون المؤمنين فيها. (10 / 335) . ومنها: من ترك زيارة قبره من غير علة كان من أهل النار. (10 / 337) . 20 ـ باب استحباب زيارة النساء الحسين وسائر الأئمة ـ ولو من سفر بعيد (10 / 339) . وفى الباب: قلت (أي للإمام الصادق) : إنى امرأة. فقال: لا بأس لمن كان مثلك أن تذهب إليه وتزوره. قالت: قلت: أي شيىء لنا فى زيارته؟ قال تعدل حجة وعمرة واعتكاف شهرين في المسجد الحرام، وصيامها، وخير منها. (10 / 339) . وفيه: زيارة الحسين واجبة على الرجال والنساء. (10 / 340) . 21 ـ باب استحباب تكرار زيارة الحسين بقدر الإمكان. (10 / 340) . وفى الباب: حق على الغنى أن يأتى قبره فى السنة مرتين، وعلى الفقير مرة. (10 / 340) . وفيه: من زاره فى كل شهر كان له ثواب مائة ألف شهيد، ومثل شهداء بدر (10 / 341) . 22 ـ باب استحباب المشى إلى زيارة الحسين وغيره. (10 / 341) . وبعد: فهذا الجزء العاشر يستمر إلى ص 470، وكله من مثل هذه الأباطيل المضلة التى تدل على أن غلاة الرافضة بلغوا من الكذب والكفر والزندقة ما لا يمكن تصوره إلا لمن يقرأ كتبهم. ولعل فيما نقلته ما يكفى لبيان ما أردنا حتى لا نطيل أكثر من هذا القدر. ومن أراد المزيد فليرجع إلى الجزء كله، فما نقلت منه إلا اليسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1040 الفصل السادس: الجهاد رأينا في الخمس أنهم يشترطون إذن أحد أئمتهم في القتال حتى يكون في الغنائم الخمس فقط، ومعنى هذا أنهم يرون أن القتال المشروع هو ما كان بإذن أئمتهم. لهذا قالوا بأن الجهاد واجب مع وجود الإمام العادل أو من نصبه لذلك ودعائه إليه، فلا يجوز مع الجائز إلا أن يدهم المسلمين من يخشى منه على بيضة الإسلام، أو يكون بين قوم ويغشاهم عدو فيقصد الدفع عن نفسه في الحالتين لا معاونة الجائر. وكل حاكم في زمن أئمتهم يعتبرونه جائراً مغتصباً للإمامة، بل في زمن الغيبة ما لم يكن جعفرياً رافضياً. ويقولون: يجب قتال من خرج على إمام عادل إذا دعا إليه أو من نصبه، والتأخر عنه كبيرة. ويسقط بقيام من فيه غنى مالم يستنهضه الإمام على التعيين، والفرار منه فى حربهم كالفرار فى حرب المشركين. وفى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قالوا: لو افتقر إلى الجراح أو القتل لم يجز إلا بإذن الإمام أو من نصبه. وكذا الحدود لا ينفذها إلا الإمام أو من نصبه. وإذا كان الجعفرية الاثنا عشرية اتفقوا على مشروعية الجهاد ووجوبه فى زمن حضور الأئمة مع الإذن فإنهم قد اختلفوا في زمن الغيبة: فرأي بعضهم مشروعيته ووجوبه بأمر المجتهد الجامع للشرائط، ورأي آخرون عدم الاكتفاء بالمجتهد وحرمة توليه لأمر الجهاد. (1) وبالنسبة لإقامة الحدود في زمن الغيبة قالوا: يقيمها الفقهاء إذا أمنوا ويجب على الناس مساعدتهم.   (1) انظر النور الساطع فى الفقه النافع 1 / 562 ـ 563. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1041 وبالجملة: الجهاد وما يتعلق به موكول إلى أئمة الجعفرية الرافضة وفقهائهم (1) هذا بعض ما جاء في كتب فقههم، وننتقل بعده إلى كتاب وسائل الشيعة، فماذا نجد في هذا الكتاب تأثراً بعقيدتهم التي وضعها عبد الله بن سبأ؟ نجد الجهاد والأمر بالمعروف في الجزء الحادي عشر. ومما جاء فيه ما يأتى: 1 ـ باب حكم المرابطة في سبيل الله، ومن أخذ شيئاً ليرابط به، وتحريم القتال مع الجائر إلا أن يدهم المسلمين من يخشى منه على بيضة الإسلام فيقاتل عن نفسه أو عن الإسلام. (ص 19) وفى الباب: قلت لأبى عبد الله ـ أي الإمام الصادق: جعلت فداك، ما تقول في هؤلاء الذين يقتلون في هذه الثغور؟ فقال: الويل: يتعجلون قتلة في الدنيا وقتلة في الآخرة! والله ما الشهيد إلا شيعتنا ولو ماتوا على فرشهم. (ص 21) 2 ـ باب من يجوز له جمع العساكر والخروج به إلى الجهاد. (ص 23) وفى الباب: جميع ما بين السماء والأرض لله عز وجل، ولرسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأتباعهم من المؤمنين من أهل هذه الصفة، فما كان عن الدنيا في أيدى المشركين والكفار والظلمة والفجار من أهل الخلاف لرسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ والمولى عن طاعتهما مما كان في أيديهم ظلموا فيه المؤمنين من أجل هذه الصفات ... .. إلخ (ص25) وفيه: إن لم يكن مستكملاً لشرائط الإيمان فهو ظالم ممن ينبغى ويجب جهاده حتى يتوب، وليس مثله مأذونا له في الجهاد ... (ص26) 3 ـ باب اشتراط وجوب الجهاد بأمر الإمام وإذنه، وتحريم الجهاد مع غير الإمام العادل. (ص32)   (1) راجع هذا بالتفصيل في المرجع السابق 1 / 563 ـ 566. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1042 4 ـ باب حكم الخروج بالسيف قبل قيام القائم. (ص35) وفيه: والله لا يخرج أحد منا قبل خروج القائم إلا كان مثله كمثل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه ... (ص36) وفيه: كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل. (ص37) قلت: ومادام الجهاد مرتبطاً بخرافة القائم الذى لن يقوم فقد أبطلوا الجهاد إلى يوم القيامة. ويكفى زيارة القبور والطواف بالأضرحة! 5 ـ باب حكم قتال البغاة. (ص59) وفى الباب: مال الناصب وكل شيء يملكه حلال إلا امرأته، فإن نكاح أهل الشرك غير جائز. (ص60) قلت: هذه الفرية الكبرى ينسبها غلاة الرافضة الزنادقة إلى الإمام المجتهد العلامة أبى عبد الله جعفر الصادق، برأه الله تعالى مما قالوا، وقد أشرت من قبل أنهم جعلوه كزعيم عصابة تغير وتسرق وتنهب ثم تعطيه الخمس! فأين دعاة التقريب؟ وأين معتدلو الشيعة؟ وأين المحبون لأهل البيت الأطهار؟ وكيف تلصق بهم هذه الأدناس المضلة؟ وسيأتي استحلال الدم أيضاً وليس المال فقط. وفى الباب أيضاً: لا يحل قتل أحد من النصاب والكفار في دار التقية إلا قاتل أو ساع فى فساد، وإذا لم تخف على نفسك وعلى أصحابك. (ص62) ومع هذه المضلات المهلكات جاء في رواية أن علياً رضي الله عنه وكرم وجهه، لم يكن ينسب أحداً من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق، ولكنه كان يقول: هم إخواننا بغوا علينا. (ص62) هذا هو ما يتفق مع الواقع، فكيف ينسب الشرك أو النفاق إلى أم المؤمنين، زوج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في الدنيا والآخرة، وإلى من شهد لهم الوحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1043 بأنهم من أهل الجنة، أفنكذب الله ـ عز وجل، ورسوله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وقوله يتفق مع ما جاء في كتاب الله العزيز في سورة الحجرات: "" وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ "" وصاحب كتاب وسائل الشيعة لم يطعن فى صحة الخبر ولا فى ثبوت ذلك عن الإمام على، وإنما قال: " هذا محمول على التقية " انتهي! قلت: وهذا طعن في الإمام نفسه، الشجاع الذى لا يخشى فى الله تعالى لومة لائم، والذى يضرب بشجاعته المثل، فكيف يصور بهذه الدرجة من الجبن والخوف وهو لم يذق طعم الجبن أبداً؟! إن محاولة هدم الإسلام من الداخل لم تترك أحدا من نقلة الوحي وحملة الشريعة، ولذلك كان موقف الإمام من ابن سبأ مؤسس حزب الرافضة. 6 ـ باب وجوب التقية مع الخوف إلى خروج صاحب الزمان. (ص459) ويضم الباب خمسة وثلاثين خبراً، كلها في التقية! منها ما هو تحريف لكتاب الله تعالى، مثل: ""أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا "" قال الإمام الصادق: بما صبروا على التقية "" وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ "" قال: الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة "" ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ "" قال: التي هي أحسن التقية. (ص459، 460) ، وفى أكثر من رواية أخرى: "" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1044 إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ "" قال: أشدكم تقية. (ص466) وكثير منها ينسب للأئمة قولهم: التقية من ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، ولا إيمان لمن لا تقية له. ومنها: عليكم بالتقية، فإنه ليس منا من لم يجعلها شعاره ودثاره مع من يأمنه لتكون سجية مع من يحذره. (ص466) ومنها: تارك التقية كتارك الصلاة. (ص466) والأشد غرابة ونكراً أن يفتري هذا على الرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ هو نفسه! حيث نسبوا إليه أنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: " لا إيمان لمن لا تقية له "! (ص467) 7 ـ باب وجوب عشرة العامة بالتقية. (ص470) والمقصود بالعامة هنا عامة المسلمين من غير الرافضة. 8 ـ باب وجوب طاعة السلطان للتقية. (ص471) 9 ـ باب وجوب التقية في الفتوى مع الضرورة. (ص482) 10 ـ باب وجوب كتم الدين عن غير أهله مع التقية. (ص483) 11 ـ باب وجوب كف اللسان على المخالفين وعن أئمتهم مع التقية. (ص498) قلت: من هذه الأبواب نستطيع تفسير معاملة الرافضة لجمهور المسلمين في عصرنا. ولذلك لم نعرف حقيقتهم إلا من قراءة كتبهم، أما مخالطتهم فلا تظهر شيئا من واقعهم، فقد يبدون لك المحبة والمودة والموافقة بغير خلاف يذكر، وهم يستحلون دمك ومالك! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1045 الباب الثالث: المعاملات الفصل الأول: العقود والإيقاعات في كتب فقه هؤلاء القوم نجد أثر عقيدتهم الباطلة التي وضعها ابن سبأ تظهر فيما يأتى: أولا: في التجارة: فيما يكتسب به يرون من الأعمال المحرمة حفظ كتب الضلال ونسخها لغير النقد أو الحجة (1) وقد عرفنا نظرتهم لغيرهم من سائر الأمة. ويرون من المحرم كذلك هجاء المؤمنين واغتيابهم وسبهم، والتشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة، ومعنى هذا أن التحريم خاص بالجعفرية الرافضة، ويحل الهجاء والغيبة والسب لغيرهم، وكذلك التشبيب. وقالوا: لا فرق في المؤمن ـ أي الرافضي ـ بين الفاسق وغيره (2) . وفى تولى الأعمال ـ كالقضاء والسياسة وتدبير النظام ونحوها ـ يرون أن الولاية من قبل العادل مستحبة، وقد تجب، ومن قبل الجائر تحرم الولاية إلا مع التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقسمة الصدقات والأخماس على   (1) لا خلاف بينهم حول هذا، ولكنهم اختلفوا حول الكتب التى يرون أنها تجمع بين الحق والضلال من وجهة نظرهم ـ راجع مفتاح الكرامة ـ كتاب التجارة: ص 62 ـ 63. (2) انظر المرجع السابق ص 63: 69، وانظر فيه ما ذهب إليه بعضهم من حرمة الغيبة مطلقاً بالنسبة للمسلم، ورد الآخرين بأن الإيمان خاص بالجعفرية الإمامية، وأن المخالف لهم ليس مؤمنا، وليس أخا، أي أن ما جاء في سورة الحجرات (آية 12) خاص بالرافضة! واقرأ فيه كذلك " سب غير أهل الإيمان من شرائط الإيمان "، وسيأتي في الحدود أنهم يرون قتل من يسب أحد أئمتهم. واقرأ أيضاً الآراء المختلفة حول هجاء الفاسق الجعفري وغيبته ـ حيث أباح بعضهم بالنسبة للفاسق المتظاهر، وحول التشبيب بغير الرافضية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1046 من يرون أنه مستحق لها، وصلة الإخوان من الجعفرية الإمامية (1) . ومعلوم أنهم يرون أن الحاكم ما لم يكن جعفريا رافضيا فهو جائر. وفى آداب البيع يرون استحباب ترك الربح للمؤمن إلا اليسير مع الحاجة، وعدم الدخول في سومه (2) ؛ أي أن هذا خاص ببيع الرافضي لأخيه الرافضي فقط. ثانياً: في الإجارة: يشترطون لانعقاد الإجارة أن تكون المنفعة مباحة، فلو استأجر العين لتعليم كفر ونحوه من المعلومات الباطلة بطل العقد. وقد لا يظهر أثر عقيدتهم هنا، ولكن إذا راجعنا مفهوم الكفر عند الشيعة الرافضة والمعلومات التي يعتبرونها باطلة ظهر الأثر. وهذا يعنى - مثلا - أنه لا يحل للرافضى أن يؤجر مكاناً لتعليم فقه غير الرافضة أو لبيع الكتب التي يسمونها كتب الضلال. ثالثاً: في الوكالة: اشترط بعض الجعفرية - كالطوسى وغيره - أن يكون الوكيل مؤمناً، فلا يصح عندهم توكيل المخالف، (3) أي غير الرافضي. رابعاً: في النكاح: يرى الرافضة أنه لا يصح نكاح الناصب ولا الناصبة، وأشرنا من قبل إلى المراد بالنواصب.   (1) انظر المرجع السابق: ص 113 ـ 114. (2) لهم تفصيلات راجعها فى المرجع السابق ص 134: 139 واقرأ فيه: " يحرم ـ أي الربح من الرافضي، ويكون رباً إذا ظهر الحق وقام قائمنا أهل البيت "، وعن الإمام الصادق: " ربح المؤمن على المؤمن حرام إلا أن يشترى بأكثر من مائة درهم فاربح قوت يومك، أو يشتريه لتجارة فاربحوا عليهم وارفقوا بهم ". (3) انظر مفتاح الكرامة 7 / 542، وأكثر الجعفرية الاثنى عشرية لم يشترطوا هذا الشرط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1047 وهل يجوز للمؤمنة التزويج بالمخالف من أي فرق الإسلام ولو كان من الشيعة غير الاثنى عشرية؟ قولان: أحدهما - وعليه معظم الجعفرية - المنع، والثاني: الجواز على كراهية. وبالنسبة للمولود: يرون استحباب تحنيكه (1) بتربة الإمام الحسين. ويرون أن أفضل الأسماء - إلى جانب أسماء الأنبياء - أسماء الأئمة (2) . أما نكاح المتعة وما فيه من البلايا والرزايا والفجور فسأكتفي بذكر بعض ما جاء في وسائل الشيعة من روايات، ثم أختم الفصل ببحث قيم لشيخنا الأستاذ على حسب الله رحمه الله إتماما للفائدة، وبعده بحث آخر لأحد علماء شيعة النجف. خامساً: في العتق والإيمان: لا نكاد نجد في الإيقاعات أثرا للإمامة غير أنهم في العتق يرون كراهة عتق المخالف، على حين يقولون: إذا أتى على المملوك المؤمن سبع سنين يستحب عتقه. وفى الأْيمان يرون أن من حلف على تخليص مؤمن لم يأثم وإن كان كاذباً، فعدم الإثم هنا لتخليص جعفري رافضي. سادساً: أخبارهم في العقود والإيقاعات بعد النظر في كتب فقههم نأتي إلى كتاب وسائل الشيعة لنرى أخبارهم التي وضعوها تأثراً بعقيدتهم الباطلة.   (1) المراد بالتحنيك: إدخال ذلك إلى حنكه، وهو أعلى داخل الفم. (2) ونسأل الرافضة: لماذا فضل الإمام على أسماء الخلفاء الراشدين الثلاثة فسمى ثلاثة من أولاده: أبو بكر وعمر وعثمان؟ ولماذا كان من أولاد الإمام الحسن أبو بكر وعمر؟ ولماذا سمى الإمام الحسين ابناً له باسم عمر؟ فمن الكافر الزنديق إذن: هؤلاء الثلاثة الأبرار الأطهار أو الذين يكفرونهم من الرافضة أتباع ابن سبأ؟ ( الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1048 ونقف هنا وقفة قصيرة عند آرائهم في النكاح بصفة عامة، ووقفة طويلة عند نكاح المتعة بصفة خاصة. والنكاح تناوله المؤلف في الجزء الرابع عشر، وأكمله في 265 صفحة من الجزء الخامس عشر، وبعده يبدأ الطلاق. ومما جاء في النكاح: باب جواز التزويج بغير بينة في الدائم والمنقطع، واستحباب الإشهاد والإعلان. (14 / 17) . وتحت الباب عشر روايات، والمراد بالمنقطع زواج المتعة. عن الإمام الصادق أنه قال: " إذا أتى الرجل المرأة في الدبر وهي صائمة لم ينقض صومها، وليس عليها غسل " (14 / 104) . باب تحريم الجماع والإنزال في المسجد لغير المعصوم. (14 / 192) وفى الباب رووا أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد إلا أنا وعلى وفاطمة والحسن والحسين ". باب حكم الجمع بين ثنتين من ولد فاطمة عليها السلام. (14 / 387) . وفى الباب: لا يحل لأحد أن يجمع بين ثنتين من ولد فاطمة عليها السلام، فإن ذلك يبلغها فيشق عليها. (14 / 388) . أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه. (14 / 410) . وهي خمسة عشر باباً: منها: باب تحريم مناكحة الكفار حتى أهل الكتاب. (410: 412) أخبار الباب تدل على هذا التحريم، وأن قوله تعالى: "" وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ "" نسخ بقوله تعالى: "" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1049 وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ""، وبقوله تعالى: "" وَلاَ تَنكحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ "". وسبق مراراً بيان مراد الرافضة بالكفار. وجاء ما يخالف ما سبق في الباب التالي، وهو باب جواز تزويج الكتابية عند الضرورة (14 / 412) ، فقال المؤلف: هذا محمول على التقية أو الضرورة أو المستضعفة. (ص 414) وفى باب جواز نكاح الكتابية المستضعفة (ص 414) روى أن زرارة قال: قلت لأبى جعفر - عليه السلام -: إنى أخشى أن لايحل لى أن أتزوج ممن لم يكن على أمرى، فقال: " وما يمنعك من البله؟ وهن المستضعفات من اللاتى لا ينصبن ولا يعرفن ما أنتم عليه "؟ (ص 414 ـ 415) . ومن أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه: باب تحريم تزويج الناصب بالمؤمنة، والناصبة بالمؤمن. (14 / 423) . ويضم الباب سبعة عشر خبراً تبين حقيقة هؤلاء الرافضة الغلاة، وسبق من قبل بيان أن تقديم الشيخين والاعتراف بخلافتهما يكفى ليكون المسلم ناصباً كافراً عند هؤلاء الرافضة. وأخبار الباب تذكر أحيانا كلمة الناصب والناصبة، مع التحريم: كما جاء في الأخبار الثلاثة الأولى (ص 423 - 424) . وبعضها تذكر أن المخالفة – أي مخالفة الرافضة – تعتبر كفراً. مثال هذا ما جاء في الخبر الرابع (ص 424) . قلت لأبى عبد الله: إن لامرأتي أختاً عارفة على رأينا، وليس على رأينا بالبصرة إلا قليل، فأزوجها ممن لا يرى رأيها؟ قال: لا ولا نعمة، إن الله – عز وجل – يقول: "" فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ "". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1050 وفى الخبر السادس اعتبر استنكار شتم السلف دليل النصب والكفر! (ص 425) . أي أن شتم سلفنا الصالح يعتبر عند هؤلاء الزنادقة من لوازم الإيمان، وإنكار هذا يعتبر كفراً. ومما يدل على حقد هؤلاء القوم على الإسلام وأهله ما نسبوه كذباً وزوراً للإمام الصادق إنه قال: تزوج اليهودية أفضل من أن تزوج الناصبى والناصبة ... (ص 426) . ومن أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه: باب جواز مناكحة الناصب عند الضرورة والتقية. (14 / 433) . ويشيرون في هذا الباب إلى زواج عمر – رضي الله تعالى عنه ـ من ابنة على ـ رضي الله تعالى عنه، فماذا قالوا؟ رووا عن الإمام الصادق في تزويج أم كلثوم أنه قال: " إن ذلك فرج غصبناه " (ص 433) . وبالطبع ليس في هذا إساءة سيدنا عمر فقط، بل إساءة أشد إلى سيدنا على رضي الله تعالى عنهما، فكيف غصب فرج ابنته؟ لا يكون إلا إذا كان ذليلا جبانا، في مجتمع جاهلى! وبهذا يرى هؤلاء الزنادقة من الرافضة أنهم يستطيعون أن يهدموا الإسلام من الداخل. بل حاول هؤلاء أن يصوروا خير أمة أخرجت للناس في صورة أسوأ من الجاهلية، فبعد الرواية السابقة ذكروا الراوية التالية: " لما خطب عمر إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - قال له: إنها صبية، فلقى - أي عمر - العباس، فقال: مالى؟ أبى بأس؟ فقال: وما ذاك؟ قال: خطبت إلى ابن أخيك فردنى. أما والله لأغورن زمزم، ولا أدع لكم مكرمة إلا هدمتها، ولأقيمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1051 عليه شاهدين بأنه سرق، ولأقطعن يمينه. فأتاه العباس فأخبره، وسأله أن يجعل الأمر إليه فجعله إليه " (14 / 433 / 434) . وهذه الرواية أيضا نسبها الزنادقة من الرافضة إلى الإمام الصادق ـ رضي الله تعالى عنه، والروايتان رواهما الكليني في الكافى. والرواية الثانية تضيف إلى سابقتها صورة مجتمع فاسد، وتبين مدى جبن على والعباس وما بهما من ذلة ومهانة، وتفشى شهادة الزور، أما عمر فسيجعل ماء زمزم غوراً، وسيستعين بشهداء الزور لإلصاق تهمة السرقة لعلى، ثم يقوم هو بتنفيذ الحد فيقطع يمينه، ثم سيفترى الكذب لهدم كل مكرمة لأهل بيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!! وعندئذ يخضع ويذل على والعباس!! . هذا ما يؤخذ من رواية الكليني الضال وأمثاله من الزنادقة، وإذا عرفنا أن هذا المجتمع هو الذى شهد له الله عزوجل حيث قال: "" كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ"" إلى جانب ما قاله في صحابة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الآيات البينات، وشهد له رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنه خير الناس " خير الناس قرنى " إلى جانب ما جاء متواتراً، وصحيحا، في فضل الصحابة، رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه، وعرفنا أن هؤلاء هم نقله كتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحملة الشريعة بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذا عرفنا هذا أدركنا هدف هؤلاء الزنادقة وهو هدم الإسلام من الداخل، وهو الهدف نفسه الذى رامه ابن سبأ اللعين، صاحب فكرة الوصى بعد النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والطعن في الصحابة الكرام البررة، فأين إذن المعتدلون من الشيعة في عصرنا؟ وما موقفهم من هذا الكفر والزندقة؟ ومن أصحاب هذه الكتب؟ ومن أين يستمدون عقيدتهم وشريعتهم؟ وبعد هذه البلايا والرزايا التي رزئ بها الإسلام نأتى إلى ما هو أدهي وأمر!! نأتى إلى الأخبار المتصلة بزواج المتعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1052 وأبواب المتعة في الجزء الرابع عشر، وتبدأ من ص 436، وتنتهي في ص496، وتضم ستة وأربعين باباً، ومما جاء تحت إباحتها " ليس منا من لم يؤمن بكرتنا، ولم يستحل متعتنا ". (ص 438) . فجعلوا استحلال زواج المتعة كالإيمان بالرجعة التي تحدثنا عنها عند بيان عقيدتهم ومبادئهم، فمن لم يستحلها فليس بمؤمن عند هؤلاء القوم. وجعلوها أيضاً من محض الإسلام مع شهادة أن لا إله إلا الله. (ص 439) . وافتروا على الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه تزوج متعة، فاطلع عليه بعض نسائه فاتهمته - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفاحشة! (ص 440) . وجاء في رواية عن على رضي الله تعالى عنه - أنه قال: " حرم رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة ". فقال صاحب ... الوسائل: حمله الشيخ - أي الطوسى - وغيره على التقية يعنى في الرواية، ... لأن إباحة المتعة من ضروريات مذهب الإمامية (ص 441) . ولم يقف الأمر عند جواز المتعة، فالباب الثانى من أبواب المتعة ... عنوانه " باب استحباب المتعة وما ينبغى قصده منها ". ومما جاء تحت هذا الباب: إن كان المتمتع يريد بذلك وجه الله تعالى، وخلافا على من أنكرها، لم يكلمها كلمة إلا كتب الله له حسنة، ولم يمد يده إليها إلا كتب الله له حسنة، فإذا دنا منها غفر الله له بذلك ذنباً، فإذا اغتسل غفر الله بقدر ما مر من الماء على شعره بعدد الشعر (ص 441) . وقالوا: إن جبريل - عليه السلام - لحق بالنبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الإسراء، وقال له: يا محمد، إن الله تبارك وتعالى يقول: إنى قد غفرت للمتمتعين من أمتك من النساء (ص 442) . وقالوا أيضاً: " المؤمن لا يكمل حتى يتمتع ". (ص 442) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1053 " يستحب للرجل أن يتزوج المتعة، وما أحب للرجل منكم أن يخرج من الدنيا حتى يتزوج المتعة ولو مرة ". (ص 443) . " ما من رجل تمتع ثم اغتسل إلا خلق الله من كل قطرة تقطر منه سبعين ملكا يستغفرون له إلى يوم القيامة، ويلعنون متجنبها إلى أن تقوم الساعة " ... (ص 444) . والباب الثالث عنوانه " باب استحباب المتعة، وإن عاهد الله تعالى على تركها أو جعل عليه نذرا ". (ص 444) . والروايات المفتراة على الأئمة كسابقتها - تدور حول معنى الباب، وإحداها منسوبة لإمامهم الثانى عشر، الطفل المشكوك في ولادته الذى تحدثنا عنه في بيان عقيدة هؤلاء القوم. والباب الرابع هو: " باب أنه يجوز أن يتمتع بأكثرمن أربع نساء وإن كان عنده أربع زوجات بالدائم " (ص 446) . ومما جاء تحت هذا الباب: " تزوج منهن ألفا، فإنهن مستأجرات ". (ص 446) . " المتعة ليست من الأربع، لأنها لا تطلق، ولا ترث، وإنما هيمستأجرة ". (ص 446) " صاحب الأربع نسوة يتزوج منهن ما شاء بغير ولى ولا شهود ". (ص 447) قلت: ما الفرق إذن بين هذا الفجور وبين الزنى، فكل من يخلو بامرأة ليزنى بأجر يكفيه أن يقول: " متعة "!! وإن كرر هذا مع ألف فاجرة، وإن جمع بين هؤلاء الفاجرات كلهن!! . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1054 والعجيب أنهم يجعلون هذا الفجور هو مراد الله تعالى من قوله: "" فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ "" مع تحريف الآية الكريمة بزيادة قولهم: إلى أجل مسمى. وسيأتى ما هو أشد نكرا. ونلاحظ أن الروايات التي رووها هم أنفسهم مخالفة لهذا الفجور رفضوا الأخذ بها، وحملوها على التقية أو غيرها، كما سبق في الرواية التي ذكر فيها - رضي الله تعالى عنه - أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرمها يوم خيبر، وهي ليست في كتبهم فقط بل رواها البخارى ومسلم وغيرهما. والحمل على الكذب تقية فيه طعن وأي طعن في الإمام على نفسه، وهو من هو شجاعة وقوة!! وفى رواية عن الإمام الباقر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه أحل المتعة، فقيل له: يسرك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن؟ فأعرض حيث ذكر السائل هؤلاء النساء (14 / 437) . فإذا كان الإمام لا يرضي هذا لأهله فكيف رضيه لغيرهن من المسلمات؟ ! وفى رواية عن الإمام الصادق - رضي الله عنه - قال: لا تتمتع بالمؤمنة فتذلها فقال الشيخ ـ أي الطوسى: هذا شاذ، ويحتمل أن يكون المراد به إذا كانت المرأة من أهل بيت الشرف يلحق أهلها العار، ويلحقها، ويكون ذلك مكروها. (14 / 452- 453) ، فكيف إذن ينسب إلى الإسلام أن يبيح ما يؤدى إلىالعار والذل؟! وعن الإمام الصادق أيضا في المتعة قال: ما يفعلها عندنا إلا الفواجر (14 / 456) ، فكيف يستحب، بل يثاب، ما يفعله هؤلاء الفواجر؟! أليس من الشيعة رجل رشيد يحارب هذا الفجور الذى قرنوه بالعقيدة فزادوها بطلانا وضلالا وغيا؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1055 ولا زلت أذكر أن أحد الشيعة سألنى عن المتعة فأجبته بالتحريم، فقال لى على الفور: أنت كافر!! مرة أخرى: أليس منهم رجل رشيد؟ وإليك ما هو أشد نكرا!! تحت " باب عدم تحريم التمتع بالزانية وإن أصرت " جاء ما يلى: قيل لأبى الحسن ـ رضي الله تعالى عنه: نساء أهل المدينة؟ قال: فواسق، قيل: فأتزوج منهن؟ قال: نعم (ص 455) . قلت: لقد أعظموا الفرية! وأساءوا أكبر إساءة للإمام نفسه، فما كان لينزل إلى هذا الدرك الأسفل فيحكم بفسق الطاهرات التقيات العابدات، نساء أهل المدينة المنورة من المهاجرات والأنصاريات وذرياتهن. وفى روايات نجد جواز التمتع بالمرأة المعروفة بالفجور، وبالعاهرات، واللائى يرفعن الرايات منهن (انظر ص 455) . وتحت " باب تصديق المرأة في نفى الزوج والعدة ونحوها، وعدم وجوب التفتيش والسؤال، ولا منها "، (ص 456) جاء ما يلى: قلت لأبى عبد الله ـ أي الإمام الصادق رضي الله تعالى عنه وأذل من افترى عليه: ألقى المرأة بالفلاة التي ليس فيها أحد فأقول لها: لك زوج؟ فتقول لا، فأتزوجها؟ قال: نعم، هي المصدقة على نفسها. وعن الرضا رضي الله عنه: المرأة تتزوج متعة فينقضى شرطها، وتتزوج رجلا آخر قبل أن تقضى عدتها، قال: وما عليك؟ إنما إثم ذلك عليها. وقيل لأبى عبد الله: إنى تزوجت امرأة متعة، فوقع فى نفسى أن لها زوجا، ففتشت عن ذلك فوجدت لها زوجا، قال: ولم فتشت؟ وقيل له أيضا: إن فلانا تزوج امرأة متعة، فقيل للرجل: إن لها زوجا فسألها، فقال أبو عبد الله: ولم سألها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1056 قلت: وهكذا أصبحت المتعة زنى مباحا حتى بالمتزوجات!! ويثاب فاعله عندما يغتسل بعدد شعر رأسه!! وتحت " باب حكم التمتع بالبكر بغير إذن أبيها " جاء ما يلى: سئل أبو عبد الله عن التمتع بالأبكار فقال ـ رضي الله عنه: هل جعل ذلك إلا لهن؟ فليستترن وليستعففن. (ص 458) . وقيل: جارية بكر بين أبويها تدعونى إلى نفسها سرا من أبويها فأفعل ذلك؟ قال رضي الله عنه: نعم واتق موضع الفرج فإنه عار على الأبكار. (ص 458 - 459) . وقال: لا بأس بتزويج البكر إذا رضيت من غير إذن أبويها ما لم يفتض ما هناك لتعف بذلك. (ص 459) . وهذه الروايات، بل الجرائم المفتريات على الأئمة الأطهار جاء ما يعارضها، فقال صاحب الوسائل بأن الشيخ حمل ذلك على التقية أو الكراهة. (انظر ص 459 - 460) . وتحت " باب عدم جواز التمتع بالبنت قبل البلوغ بغير ولى ". (ص 460) نقرأ قولهم: أجمعوا كلهم على أن ابنة تسع لا تستصبى إلا أن يكون في عقلها ضعف، وإلا فإذا بلغت تسعا فقد بلغت. قلت: أي خطر وكارثة أكبر من هذا؟ فيمكن أن تخرج الصغيرة في المرحلة الابتدائية وقد بلغت تسعا فلا تذهب إلى مدرستها، وإنما تذهب إلى من يزنى بها باسم المتعة والعفة!! أما في غير المرحلة الابتدائية فحدث ولا حرج!! ولعل المسلمين كافة يتنبهون إلى هذا الخطر متى وجدوا في بيئة يدنسها أي من هؤلاء الذين يستحلون الزنى بالصغيرات سرا دون علم أهلهن، وغير الصغيرات من المراهقات، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وحتى نخرج من هذه المنطقة العفنة الموبوءة أكتفى بذكر شيئين: - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1057 الأول: أن الاغتصاب والإكراه على الزنى جعلوه زواجا. الثانى: الإشارة السريعة إلى بعض ما تبقى من أبواب المتعة. وإليك الأول ويبينه ما يأتى: عن أبى عبد الله - عليه السلام - قال: جاءت امرأة إلى عمر فقالت: إنى زنيت فطهرنى، فأمر بها أن ترجم، فأخبر بذلك أمير المؤمنين - عليه السلام -، فقال: كيف زنيت؟ قالت: مررت بالبادية فأصابنى عطش شديد، فاستقيت أعرابيا فأبى أن يسقينى إلا أن أمكنه من نفسى. فلما أجهدنى العطش وخفت على نفسى سقانى فأمكنته من نفسى. فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: " تزويج ورب الكعبة "!! ؟ (ص 472) . هذا هو الخبر، نقلته كما هو، ونلحظ ما يأتى: كلمة عمر، وهو أمير المؤمنين أنذالك رضي الله تعالى عنه، ذكرت مجردة، وأخفى الرافضة في أنفسهم ما أخفوا، والكليني روى هذا الخبر، وقد عرفنا من دراستنا لكتابه " الكافى " تكفيره للصحابة الكرام البررة وعلى الأخص الثلاثة الخلفاء الراشدين. وعبارة " - عليه السلام - " التي تذكر عادة للأنبياء جعلت لأبى عبد الله أي جعفر الصادق - رضي الله تعالى عنه، ولأمير المؤمنين على - رضي الله تعالى عنه، وهذا قبل أن يصبح أميرا للمؤمنين. الاختلاف والكذب في القصة من أوضح ما يكون، فحفظ النفس مقدم على العرض فكيف ترجم من خافت، ولم تمكن الأعرابى من أن يزنى بها إلا وهي كارهة مضطرة، وعامة الناس يدرك هذا فكيف بمن لو كان نبى بعد خاتم الأنبياء - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكان هو عمر؟ ! إذا كان الهدف مما سبق من الكذب هو تجريح عمر الفاروق ـ رضي الله تعالى عنه وأرضاه وأذل شانئيه ـ فإن الكذب الأكبر والتجريح الأشد هو ما نسب لعلى رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه وبرأه مما قالوا، حيث جعل الإكراه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1058 الزنى واغتصاب امرأة توشك على الهلاك لحاجتها لشربة ماء، جعل هذا زواجا بأركانه وشروطه التي شرعها الله عز وجل، ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هدف أتباع ابن سبأ هدم الإسلام من الداخل، لذلك لم يتورعوا عن ذكر ما يسىء للإمام على هو نفسه ما دام ذلك يساعد على تحقيق هدفهم. وأحب هنا أن أعود إلى التذكير مرة أخرى بالخطأ الفادح الذى لا يجوز أن يصدر من مسلم، وهو التسليم بصحة نسبة هذه الأكاذيب للإمام الصادق - رضي الله تعالى عنه، ثم اتهامه هو ـ وحاشاه ثم حاشاه ـ بالكذب، حيث جاء في كتابات بعض من رد على الرافضة عبارة " قال صادقهم الكذاب "!! وقد كاد شيخى الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله - أن يكفر من اتهم الإمام الصادق بالكذب. كما أذكر أيضا بأن المعتدلين من الشيعة عليهم واجب أكبر في التصدى لهؤلاء الغلاة من الرافضة، وفضحهم، وبيان كيدهم للإسلام وأهله وأئمة المسلمين. وبعد ما سبق ننتقل إلى الإشارة السريعة إلى بعض ما تبقى من أبواب المتعة. " باب أنه لا حد للمهر ولا للأجل في المتعة قلة ولا كثرة " (ص 470) . وفى الباب بيان جواز الدرهم، وكف الطعام والسواك، وما شاء من الأجل. " باب ما يجب على المرأة من عدة المتعة ". (ص 473) : وفيه: إن كانت تحيض فحيضة، وإن كانت لا تحيض فشهر ونصف، فرقة بغير طلاق، ولذلك يمكن أن تتكرر الفرقة ألف مرة أو أكثر. " باب أن المرأة المتمتع بها مع الدخول لا يجوز لها أن تتزوج بغير الزوج إلا بعد العدة، ويجوز أن تتزوج به فيها " (ص 475) . وفيه: ليس بينهما عدة إلا لرجل سواه، إن شاءت تمتعت منه أبدا، وإن شاءت تمتعت من عشرين بعد أن تعتد من كل من فارقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1059 " باب وجوب كون الأجل في المتعة معلوما مضبوطا، وحكم الساعة والساعتين، فأنه يجوز اشتراط المرة والمرات مع تعيين الأجل ". (ص 478) وفيه: إن الساعة والساعتين لا يوقف على حدهما، ولكن يجوز أن يشرط الجماع مرة واحدة، فإذا فرغ فليحول وجهه ولا ينظر، ويجوز أن يشرط المرتين أو المرات مع تحديد الأجل. " باب أنه يجوز أن يتمتع بالمرأة الواحدة مراراً كثيرة، ولا تحرم في الثالثة ولا في التاسعة كالمطلقة، بل هي كالأمة ". (ص 480) . وفيه: ليس هذه مثل الحرة، هذه مستأجرة وهي بمنزلة الإماء. " باب جواز حبس المهر عن المرأة المتمتع بها يقدر ما تخلف من المدة إلا أيام حيضها فإنها لها " (ص 481) . وفيه: إذا اشترط أن تأتيه كل يوم حتى توفيه شرطه، يحاسبها على ما لم تأته من الأيام. فمهر البغاء الواضح الجلى - سرا أو علنا - يعتبرونه من شرع الله عز وجل! ولكن فلنستمر في الإشارة للأبواب وكفى. " باب أن المرأة المتمتع بها إذا ظهر لها زوج وقد بقى من مهرها شيىء سقط عن المتمتع وبطل العقد ". (ص 482) . " باب أنه لا يجب في المتعة الإشهاد ولا الإعلان بل يستحبان " (ص 484) . وفيه: صاحب الأربع نسوة يتزوج منهن ما شاء بغير ولى ولا شهود. " باب عدم ثبوت الميراث في المتعة للزوج ولا المرأة ". (ص 485) . " باب جواز العزل عن المتمتع بها ". (ص 489) . " باب جواز اشتراط الاستمتاع بما عدا الفرج في المتعة فيلزم الشرط " (ص 491) . " باب جواز التمتع بالهاشمية والقرشية ". (ص 491) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1060 " باب أن من أراد التمتع بامرأة فنسى العقد حتى وطأها فلا حد عليه، بل يتمتع بها، ويستغفر الله ". (ص 492) . " باب حكم من تمتع بامرأة على حكمه ". (ص 493) . وفيه: لا بأس ولكن لابد أن يعطيها شيئا لأنها لا ترثه. " باب حكم من تمتع بامرأة فزوجها أهلها رجلا آخر ". (ص 493) . " باب أن المتمتع بها تبين بانقضاء المدة وبهبتها ولا يقع بها طلاق " (ص 494) . " باب أنه لا نفقه ولا قسم ولا عدة على الرجل في المتعة ". (ص 495) . في " باب حكم من اشترى جارية حاملا " (14 / 505) جاء قولهم: " لك ما دون الفرج إلى أن تبلغ في حملها أربعة أشهر وعشرة أيام، فإذا جاز حملها أربعة أشهر وعشرة أيام فلا بأس بنكاحها في الفرج ". وجاءت روايات تبين النهي والتحريم، وبعضها مرفوع، فقال صاحب الوسائل: حمل الشيخ: أي الطوسى ـ وغيره النهي عن الوطء بعد أربعة أشهر وعشرة على الكراهة. (14 / 507) . وبعد ما رأيناه في المتعة لم يعد شيىء يستغرب يصدر عن هؤلاء القوم فإتيان الحبلى من غيره في دبرها وما دون الفرج قبل أربعة أشهر وعشرة أيام، ثم استباحة الفرج بعد هذه الفترة، كل هذا لم نعهده في الإسلام، دين النقاء والطهر. ثم بعد إجارة الفروج نفاجأ بإعارتها!! حيث يوجد " باب أنه يجوز للرجل أن يحل جاريته لأخيه فيحل له وطؤها بملك المنفعة " (14 / 531) . وفيه: إذا أحل الرجل لأخيه جاريته فهي له حلال، وفى رواية: يحل فرج جاريته لأخيه، وفى أخرى ينسبون للإمام الصادق ـ وحاشاه ـ أنه قال: يا محمد، خذ هذه الجارية تخدمك وتصيب منها، فإذا خرجت فأرددها إلينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1061 وهذا يعنى أن جواز مواقعة الجارية ليس قاصراً على مالكها، وإنما له أن يعيرها لمن يواقعها، ثم يردها إليه، وبالطبع يمكن أن يكرر هذه الإعارة لمن شاء، شأن أي متاع يعار فتوهب منفعته دون العين. ويمكن لأهل حى أن يشترى أحدهم جارية، ثم يستعيرها من شاء!! ويستحل فرجها لكل من استعارها للوطء!! وتحت الباب جاء ما يخالف هذا الفجور والمجون، فحملوه على التقية، ورفضوا الأخذ به. وإذا كان كل ما سبق ليس من الزنى فما مفهوم الزنى إذن عند هؤلاء القوم؟! وفى " باب جواز وطء الأمة وفى البيت من يرى ذلك ويسمع على كراهية " (14/ 548) : عن أبى عبد الله في الرجل ينكح الجارية من جواريه ومعه في البيت من يرى ذلك ويسمعه، قال: " لا بأس " ومن أبواب المهور: " باب أنه يجوز أن تشترط المرأة على الزوج استمتاعه منها بما دون الوطء، فلا يحل له إلا أن تأذن بعد ذلك. (15 / 45) . وفيه: " لا تدخل فرجك فى فرجى وتلذذ بما شئت، فإنى أخاف الفضيحة ". " رجل تزوج بجارية على أن لا يفتضها، ثم أذنت له بعد ذلك؟ قال: إذا أذنت له فلا بأس " قلت: أي فضيحة في الزواج؟ وكيف تظل الزوجة بكراً فيأتيها زوجها من الدبر وما دون الفرج؟ ! إن هذا لا يكون إلا في زنى السر الذى أسموه زواج المتعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1062 ومن أبواب أحكام الأولاد ما يأتى: " باب استحباب التسمية بأحمد والحسن والحسين وجعفر وطالب وعبد الله وحمزة وفاطمة " (15 / 128) . " وباب كراهة التسمية بالحكم وحكيم وخالد ومالك وحارث ويس وضرار ومرة وحرب وظالم وضريس وأسماء أعداء الأئمة عليهم السلام ". (15 / 130) . " وباب استحباب تحنيك المولود بالتمر وماء الفرات، وتربة قبر الحسين، - عليه السلام - ". (15 / 137) . و" باب كراهة استرضاع الناصبية ". (15/ 187) وفيه: رضاع اليهودية والنصرانية خير من رضاع الناصبية. وسبق من قبل بيان أن هؤلاء الرافضة يعتبرون من قال بتقديم الشيخين وصحة إمامتهما يعتبرونه ناصبيا. و" باب استحباب تعليم الأولاد في صغرهم الحديث قبل أن ينظروا في علوم العامة ". (15 / 196) . وفيه: إنا نأتى هؤلاء المخالفين فنسمع منهم الحديث فيكون حجة لنا عليهم، فقال ـ أي الإمام الصادق: لا تأتهم ولا تسمع منهم، لعنهم الله ولعن مللهم المشركة!! و" باب استحباب إكرام البنت التي اسمها فاطمة، وترك إهانتها " ... (15 / 200) . قلت: هؤلاء الرافضة الغلاة يفترون الكذب على الإمام الصادق رضي الله تعالى عنه، فينسبون له الحكم بأن غير الرافضة مشركون يستحقون اللعنة، أفلا يستحق زنادقة الرافضة لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين؟! ومن أعداء الأئمة الذين يكره التسمية بأسمائهم؟ إن الرافضة الذين رفضوا إمامة أبى بكر وعمر والثناء عليهما، وأجمعوا على كفر الخلفاء الراشدين الثلاثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1063 ومن تبعهم ولم يؤمن بعقيدتهم الباطلة، هؤلاء الرافضة يرون أن الخلفاء الراشدين كفروا لأنهم اغتصبوا الإمامة، فهم أعداء الأئمة. وقد ذكرت من قبل في هذا الفصل أسماء أبو بكر وعمر وعثمان من أبناء على بن أبى طالب، ومن أحفاده أبناء الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم جميعا، فماذا يقول هؤلاء القوم؟! أليسوا هم أنفسهم بالرفض يعتبرون بحسب الواقع الملموس أعداء الأئمة؟ وفى خاتمة الكتاب سنجد أن ثلاثة من الذين وجهوا الشيعة الاثنى عشرية في عصرنا لم يتأسوا بسيرة أهل البيت الأطهار، ولم يحدوا من غلو زنادقة الرافضة في موقفهم من المخالفين لهم، بل وجهوا الشيعة إلى أسوأ ما عليه الرافضة في أي عصر من العصور. وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. على كل حال بعد أن مررنا بهذه المنطقة العفنة، وتحملنا الآلام ونحن نقرأ ما قاله الرافضة في زواج المتعة، وهم الذين قال الإمام الشافعى فيهم: أشهد الناس بالزور الرافضة " ولذلك نسبوا للإسلام زورا وبهتانا أنه يقر الزنى والفجور، بالمتزوجة وغير المتزوجة، ويقر اغتصاب المرأة التي توشك على الهلاك مقابل إعطائها شربة ماء، وغير ذلك من الجرائم والموبقات التي جعلوها تحت اسم نكاح المتعة، بعد أن مررنا بهذه المنطقة بسرعة تاركين التفصيل لمن يشاء أن يرجع إلى الأصل، بعد هذا أنتقل إلى روايات العتق والأيْمان، ثم نختم هذا الفصل بالبحث القيم عن زواج المتعة لأستاذى الجليل الشيخ على حسب الله يرحمه الله تعالى، وببحث آخر لأحد علماء الشيعة المعتدلين. في كتاب العتق نجد " باب جواز عتق المستضعف ـ ولو في الواجب ـ دون المشرك والناصب ". (16 / 19) . وفى كتاب الأيمان نجد" باب تحريم الحلف بالبراءة من الله ورسوله صادقا كان أو كاذبا.." (16 /125) . " وباب تحريم الحلف بالبراءة من الأئمة عليهم السلام " (16 / 126) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1064 " وباب جواز الحلف باليمين الكاذبة للتقية ... " (16 / 134) وبينت من قبل مفهوم التقية عندهم. و" باب أن من حلف يمينا ثم رأي مخالفتها خيرا من الوفاء بها جاز له المخالفة بل استحبت، ولا كفارة عليه " (16 / 145) . ولو لم يقولوا بعدم الكفارة لوافقوا جمهور المسلمين، وهم لا يريدون هذا كما بينا في التعارض والترجيح، وما تقرر عند هؤلاء القوم من أن مخالفة العامة ـ أي عامة المسلمين - من علامات الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1065 خاتمة الفصل (بحثان) البحث الأول في زواج المتعة للأستاذ / على حسب الله منذ أكثر من ربع قرن كنت في الكويت، وسعدت بصحبة أستاذى الجليل الشيخ على حسب الله قبل وفاته يرحمه الله تعالى، وأخبرنى برغبته في كتابه بحث عن زواج المتعة، فسعدت بهذه الرغبة لما تميز به شيخنا من دقة وعمق في أبحاثة، يدرك هذا جميع طلبته ومن يقرأ كتبه. ونقلت هذه الرغبة لبعض إخواننا من الشيعة، حيث تم لقاء وحوار بينهم، كما أمكن الحصول على المراجع التي تتصل بالموضوع. وكنت مع شيخنا - يرحمه الله - طوال فترة كتابته للبحث، غير أننى لم أطلع على شيىء مما كتبه إلا بعد الانتهاء من الكتابة، فوجدته بحثا علميا دقيقا قيما، ومع هذا فلا زلت أذكر أن أحد الشيعة الذين زاروه أعطيته نسخة من البحث، ووجدته بعد اطلاعه غاضبا ثائرا، فذكرنى بقول الحق تبارك وتعالى: ""وَلَن تَرضي عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ "". والبحث جعله أستاذى في كتابه " الزواج في الشريعة الإسلامية "، وإتماما للفائدة المرجوة رأيت أن أنقله هنا كاملا تاما مع حاشيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1066 نص البحث زواج المتعة (1) : وجمهور المسلمين على أن العقد لا يصح، لأن المراد به مجرد الاستمتاع دون الولد، وقد ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهي عن زواج المتعة، وهو الزواج الذى لا يقصد به إلا الاستمتاع، سواء أعقد بلفظ المتعة أم عقد بغيره. وذلك لأن أهم مقاصد الزواج سكن الرجل إلى المرأة وبقاء النوع بالتناسل، وتكثير سواد المسلمين، قال تعالى "" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً "" (2) ، وقال تعالى: "" هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ   (1) وجدنا من بعض طلبتنا في جامعة الكويت – وخاصة من ينتسب إلى الشيعة منهم تطلعا إلى معرفة شيء عن حكم المتعة، واطلعنا على كتب ألفها بعض إخواننا من الشيعة في موضوعه فأطلنا في عرض قضيتها من وجهة نظرنا – على غير منهجنا في هذا الكتاب – لا لنقنع إخواننا الشيعة برأينا، فقد وجدناهم يدعون لأئمتهم العصمة، ويعتبرون أقوالهم نصوصاً كنصوص الكتاب والسنة، على حين نعتمد نحن على الكتاب الكريم وما صح من سنة النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا ندعى العصمة لأحد بعده، وتعد أقوال علماء المسلمين جميعا آراء اجتهادية: للمخطئ فيها أجر، وللمصيب أجران. وكذلك وجدناهم يعدون استباحة المتعة من أصول الدين، ويروون عن أبى عبد الله الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: ليس منا من لا يؤمن بكرتنا ولا يستبيح متعتنا (ص 85: المتعة في الإسلام للسيد حسين يوسف مكى العاملى الشيعى) . وإنما بسطنا القول فيها بعض البسط استجابة لرغبة أبنائنا، ولعلنا نجد في أثناء البحث ما قد يجرنا إلى تغيير رأينا، ثم نقول لإخواننا الشيعة: إنهم منا وإن خالفونا في هاتين المسألتين، وليس أحب إلينا من أن يحقق الله أملهم في الرجعة، فتمتلئ الدنيا عدلا كما ملئت ظلماً وجوراً، والله يهدى إلى الحق من يشاء ويعفو بفضله عن كثير. (2) الروم: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1067 حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ"" (1) وقال سبحانه: "" وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً "" (2) ، وعن معقل بن يسار أن رجلاً جاء إلى النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: " إنى أصبت امرأة ذات حسن وجمال، وإنها لاتلد، أفأتزوجها؟ قال: لا. ثم أتاه الثانية، فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال: تزوجوا الودود الولود، فإنى مكاثر بكم الأمم " (3) . وهذه المقاصد الشريفة لا تتم لبنى الإنسان على الوجه الأكمل إلا بزواج مستمر دائم، يتعاون فيه الزوجان على العناية بثمرة اجتماعهما. وإذا كان الخالق سبحانه قد وضع في الإنسان غريزة الجنس لتكون حافزاً إلى زواج يبقى به النوع، ويعمر به الكون ـ فلا شك في أن فتح باب المتعة يحول مجرى هذا الحافز، إذ يجعل كثيرا من الناس يكتفون في قضاء حاجتهم الجنسية بالمتعة، وينصرفون عن الزواج المطلوب بما فيه من تبعات وتكاليف. وذهب فريق من الشيعة إلى إباحة زواج المتعة، واستدلو لهذا: 1ـ بقوله تعالى: "" فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً "" (4) . فقد عبر بالاستمتاع دون النكاح، فدل على اعتبار عقد المتعة كما اعتبر عقد النكاح الدائم.   (1) الأعراف: 189. (2) النحل: 72. (3) ص 7 جـ 3: الترغيب والترهيب. (4) النساء: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1068 ويرشحه أنه عبر في الآية بالأجور دون المهور. 2ـ بما ثبت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أباح المتعة لأصحابه، ولم يثبت أنه نهي عنها، فبقيت إباحة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع دلالة الآية الكريمة دون أن يلحقهما ناسخ. 3ـ بما روى عن ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين من الإفتاء بحلها. (أ) فأما تفسيرهم للآية فيرده سياقها، حيث قال تعالى في بيان المحرمات: " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم والمحصنات من النساء "، أي حرم عليكم التزوج بهؤلاء.. يعنى ذلك الزواج الدائم المعهود في الإسلام، ثم عطف قوله تعالى: "" أُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ "" على قوله: "" حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ "". ومعنى قوله تعالى: "" وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ "" ـ أحل لكم أن تتزوجوا من عدا المحرمات المذكورات ... قبل (1) لتبتغوا النساء بأموالكم، أي لتتزوجوهن بالمهور قاصدين ما شرع الله النكاح لأجله، من الإحصان وتحصيل النسل دون مجرد سفح الماء وقضاء الشهوة، كما يفعل الزناة، ففى الآية نهي عن وضع المرأة موضع الذلة والمهانة يجعلها مستأجرة لمجرد سفح الماء، وإبعادها بهذا عن وظيفتها الكريمة في الحياة الإنسانية، ولا نزاع في أن الذى يعقد المتعة ليوم أو يومين ويجوز له أن يشترط العزل كما قالوا، لا يكون غرضه إلا سفح الماء وقضاء الشهوة الحيوانية.   (1) من قواعد الأصول أن أحكام الشارع لا تتعلق بذوات الأشياء، بل تتعلق بأفعال العباد، فإذا ورد الحكم متعلقا بذات فلابد من تقدير فعل إنساني مناسب للمقام؛ فقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ (معناه حرم عليكم أكلها، وقوله تعالى " (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ (معناه حرم عليكم التزوج، وقوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ (معناه أحل لكم التزوج بما وراء ذلكم، وهكذا! (راجع دلالة الاقتضاء في أصول التشريع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1069 وكما حرم الله المسافحة على الرجال في هذه الآية الكريمة - حرم المسافحة واتخاذ الأخدان على الرجال والنساء جميعا في قوله تعالى: ""مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ "" (1) ، وقوله سبحانه: "" ُمحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ "" (2) وأين الزواج المؤقت بليلة ونحوها من اتخاذ الأخدان؟ ثم رتب بالفاء على ذلك الزواج الذى يعقد للمقاصد التي أرادها الخالق سبحانه: من الإحصان وتحصيل النسل، دون المسافحة واتخاذ الأخدان، قوله تعالى: ... "" فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً "". وحقيقة الاستمتاع فيه تحصيل المتعة واللذة، ويشمل بإطلاقة الوطء والتقبيل وغيرهما، والمعنى استمعتم به ـ بوطء أو غيره ـ منهن، أي ممن تزوجتموهن مما أحله الله لكم ـ فقد وجب إعطاؤهن مهورهن كاملة. وروى عن ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: " إذا تزوج الرجل منكم المرأة، ثم نكحها مرة ـ فقد وجب صداقها كله ". فالآية دليل على أن المهر يجب أو يتأكد وجوبه كاملا بالاستمتاع، لا بعقد الزواج وحده (3) . ومن زعم أن الاستمتاع هنا مصروف عن معناه إلى عقد زواج مؤقت فعليه الدليل (4) .   (1) النساء: 25. (2) المائدة: 5. (3) راجع ما يتأكد به المهر فيما يأتى، وانظر ما قاله مالك وأحمد بن حنبل في ذلك، واقرأ ما قلناه في باب المتعة: كتابنا " الفرقة بين الزوجين " (4) يعبر القرآن الكريم عن إنشاء العلاقة الزوجية بأحد لفظين: النكاح وهو الكثير، والزواج أحياناً، ودلالة اللفظين على هذا المعنى لغوية وشرعية. أما الاستمتاع فلم يستعمل في* *عقد الزواج، فيبقى على معناه الحقيقى حتى يدل دليل على صرفه عنه إلى غيره، وقبول تفسيرهم للاستمتاع في الآية بعقد زواج مؤقت من غير دليل - هو أول خطأ يقع فيه الباحث في هذا الموضوع، وإذا سلم به تعذر عليه التخلص منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1070 وإنما سميت المهور في الآية أجوراً للإشعار بأنها تعطى في نظير منفعة للزوج، حثا على عدم المماطلة والتهاون في أدائها، وهي تسمية معهودة في الكتاب الكريم حيث قال تعالى في أزواج النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ "" (1) ، وقال سبحانه في التزوج بالمحصنات من المؤمنات ومن الكتابيات: "" الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ 000 وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ "" (2) ، وقال في التزوج بالإماء: "" فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ "" (3) . وهذا الذى قلناه في تفسير الآية هو المتبادر منها والموافق لما جعله الله تعالى صفة أصلية من صفات المؤمنين، وأنزله على رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الهجرة مرتين توكيدا له حيث قال تعالى في سورتى المعارج والمؤمنين "" وَالذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ   (1) الأحزاب: 50. (2) المائدة: 5. (3) النساء: 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1071 حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ "" (1) . وقد نزلت هذه الآيات الكريمة في وقت لا نجد في الكتاب ولا في السنة الصحيحة ما يعد اعترافا من الإسلام بنكاح المتعة فيه، فلا يراد بالأزواج فيه إلا الأزواج المعهودة في زواج دائم، ومن ادعى أن المتمتع بها تدخل في عداد الأزواج في هذه الآية فعليه الدليل. ولو كان ما ذهبوا إليه في تفسير الآية صحيحا لوجد في المسلمين من يقول لعمر ـ حينما أذاع حرمة المتعة كما سيأتى ـ: أنبأنا الله بغير ما قلت في قوله تعالى: ""فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ""، ولرجع عمر عن قوله واعترف بخطئه (2) ، ولاحتج بها ابن عباس على عبد الله بن الزبير في مناقشتهما الآتية. وبهذا لا ينبغى لأحد أن يتعلق في إباحة المتعة بشئ من الكتاب الكريم، ويحمل آياته ما لاتحتمل، انتصارا لمذهب اعتنقه، أو رأي قلد فيع غيره، فإن الكتاب الكريم فوق كل مذهب، وأعلى من كل رأي.   (1) 29 - 31: المعارج، 5- 7: المؤمنون. (2) وقد وقع مثل هذا حينما نهي عمر عن المغالاة في المهور وعارضته امرأة، وهي حادثة مشهورة، وراجع في التحريم المؤقت فيما يأتى – ما ورد في حرمة التزوج بالمعتدة، من إفتاء عمر بفتوى بلغت عليا رضي الله عنهما فانتقدها وأفتى بغيرها، فلما بلغ ذلك النقد عمر عد فتواه جهالة، وأمر الناس بالرجوع عنها إلى فتوى على فقال: يأيها الناس، ردوا الجهالات إلى السنة. وأغلب ظنى أن الاتجاه إلى آية النساء للاستدلال بها على إباحة المتعة لم يكن في زمن عمر ولا في زمن ابن عباس وابن الزبير، بل كان بعد ذلك حينما احتدم الجدل في المسألة وأريد تأييد المذهب بشئ من أي الكتاب الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1072 والكلام بعد هذا في مسألة النسخ لا يقوم على أساس، بل هو اشتغال بما لاحاجة إليه، ولا فائدة فيه. (ب) وأما قولهم: إن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح المتعة لأصحابه فهو حق، ولكنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أباحها بأمر الله لحاجة عارضة في فتح مكة استثناء من الأصل القرآنى العام، ثم نهي عنها عقب الإذن بها نهيا مؤبدا، كما استباح مكة بأمر الله ساعة من نهار، وكما منع إقامة حد السرقة في الحرب. ومن استعرض الآثار التي وردت في النهي عن المتعة مرتبة بحسب الزمن الذى تعلقت به، وحاول أن يصل منها إلى الحق لوجه الحق دون تأثر بمذهب تجلت له الحقيقة إن شاء الله تعالى، وإليك هذه الآثار بترتيبها الزمنى: - 1ـ روى البخارى ومسلم ومالك وغيرهم عن على رضي الله عنه - أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهي عن المتعة وعن الحمر الأهلية زمن خيبر (صفر سنة 7 هـ) . وروى محمد بن الحنفية عن على رضي الله عنه ـ أن منادى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نادى يوم خيبر ـ " ألا إن الله تعالى ورسوله ينهيانكم عن المتعة ". وليس في الحديثين كما ترى، ما يدل على أن المسلمين فعلوها في خيبر، ولا أن الرسول أمرهم بها حينئذ وليس فيها ولا في غيرها ما يدل على أنه أباحها لهم قبل ذلك، إلا ما روى عن ابن مسعود أنه قال: " كنا نغزو مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصى؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب، وفى رواية: " ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل "، وفى أخرى: " رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ففعلنا، ثم ترك ذلك "، وفى أخرى: " ثم جاء تحريمها بعد " وفى أخرى: " ثم نسخ " (1) . وقد يكون المراد بهذا الحديث - إذا اقتصرنا على الرواية الأولى - تيسير أمر الزواج بما قل من المهر، وإن صح ما بعد ذلك ـ فإنه يحمل على ما كان   (1) راجع ص 94، 138 جـ، فتح البارى، وص 268 جـ 6: نيل الأوطار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1073 من الغزوات قبل خيبر، وكان الناس قريبى عهد بالجاهلية التي كانت تستباح فيها الحرمات. فلما فتحت خيبر، وغنم المسلمون فيها مالا، وسبوا نساء - اغتنم النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الفرصة، فنهي عنها، اكتفاء بما أصابوا من سبايا، فنقل المسلمين في رفق مما كانوا عليه في الجاهلية إلى الأصل العام في صفات المؤمنين وكانت الفترة السابقة فترة تدرج في التشريع، على عادة الإسلام في التدرج في التشريع حتى يكمل الدين بتمام الرسالة، كما تدرج بهم في تحريم الخمر (1) . وروى أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهي عن المتعة في عمرة القضاء (ذى القعدة سنة 7 هـ) ، وقد ضعف بأنه من مراسيل الحسن، ومراسيله كلها ضعيفة، لأنه كان يأخذ عن كل أحد، ولعل الأمر اختلط على الراوى لأن عمرة القضاء كانت في عام خيبر، وإذا صح فإنه يكون من باب تكرار النهي في وقت تدعو الحاجة فيه إلى التذكير بالحرمة. ولا دلالة فيه على أن المتعة كانت مباحة كما قدمنا. 2ـ وروى مسلم بسنده عن سبرة بن معبد الجهنى - أنه غزا مع رسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتح مكة (رمضان سنة 8 هـ) ، فأذن لهم في المتعة، ثم نهي عنها فقال: " أيها الناس، إنى كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وقد حرم الله ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده شيىء منهن فليخل سبيله ولا تأخذوا مماآتيتموهن شيئا ".   (1) وقد توهم بعض الناس أن نهي النبي عن المتعة في وقت ما يدل على أنه كان قد أذن بها قبل هذا النهي، وهو وهم فاسد، وخطأ آخر يتعرض له الباحث في هذا الموضوع، والذين وقعوا فيه اضطروا إلى القول بأن المتعة أبيحت ثم نسخت عدة مرات، وليس في الأحاديث الصحيحة ما يدل على ذلك. وإنما تكرر النهي عنها تكرر الظروف التي تقتضي التذكير بحرمتها، وهل يدل تكرار النهي عن الزنى وغيره في الكتاب الكريم ... على إذن سابق بشيء من ذلك؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1074 وفى رواية أخرى عنه " أمرنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ولم نخرج منها حتى نهانا عنها ". وعن الربيع بن سبرة أنه قال: أباح رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتعة عام الفتح ثلاثة أيام، فجئت مع عم لى إلى باب امرأة ومع كل منا بردة وكانت بردة عمى أحسن من بردتى، فخرجت إلينا امرأة كأنها دمية عيطاء، فجعلت تنظر إلى شبابى وإلى بردته وقالت: هلا بردة كبردة هذا، أو شباب كشباب هذا؟ ثم آثرت شبابى على بردته، فبت عندها، فلما أصبحنا إذا منادى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينادى: " ألا إن الله ورسوله ينهيانكم عن المتعة "، فانتهي الناس عنها ـ وروى مسلم عن سلمة بن الأكوع أنه قال: " رخص رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام أوطاس في المتعة ثلاثة أيام، ثم نهي عنها ". ويلاحظ في هذا الحديث أن الراوى قال: " عام أوطاس "، ولم يقل: " في أوطاس "، وعام أوطاس هو عام الفتح، فقد كان الفتح في رمضان، وكانت أوطاس ـ أو حنين أو هوازن ـ عقب ذلك في شوال، ولأمر ما كانت أوطاس أقرب إلى ذهن الراوى فذكرها بدل الفتح، وإلا فليس من المعقول أن ينهي الرسول عن المتعة نهيا مؤبدا في رمضان، ثم يبيحها في شوال. هذا إلى أن حال المسلمين في أوطاس كحالهم في خيبر: غنموا مالا، وسبوا نساء، فكان لهم فيما سبوا ما يغنيهم عن المتعة، ولهذا اهتم الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسبايا أوطاس فقال فيهن: " لا توطأ حامل حتى تضع حملها ولا غير حامل حتى تحيض حيضة ". 3ـ أخرج الحازمى عن جابر أنه قال: خرجنا مع النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى غزوة تبوك (سنة 9 هـ) ، حتى إذا كنا عند العقبة مما يلى الشام جاءتنا نسوة ـ كنا تمتعنا بهن ـ يطفن برحالنا، فسألنا النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنهن فأخبرناه، فغضب وقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1075 إلينا خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم نهي عن المتعة، فتواعدنا يومئذ، فسميت ثنية الوداع. وأخرج ابن حبان مثله عن أبى هريرة، وفى آخره ... فقال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: - " هدم المتعةَ النكاحُ والطلاق والميراث ". وقد ضعف حديث جابر بأنه من طريق عباد بن كثير وهو متروك، وضعف حديث أبى هريرة بأنه من رواية مؤمل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمار، وفى كل منهما مقال. وعلى فرض صحتهما ليس فيهما إباحة المتعة، ولا التصريح بوقوعها فعلا بل فيهما تقرير التحريم من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيث خشى أن يقع فيها - أو أن يكون قد وقع فيها - بعض أصحابه. 4ـ وروى أحمد وأبو داود عن سبرة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهي عن المتعة في حجة الوداع (سنة 10هـ) . وقد ضعف بأنه لو وقع لنقله خلق كثير، ولعله من باب الخلط بين الفتح وحجة الوداع لتشابههما، وعلى فرض صحته يكون توكيدا للنهي السابق عام الفتح وليس منافيا له. ولعلك تلاحظ معى أن نهي النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المتعة كان يقع حينما تكون هناك تجمعات غير عادية، قد يعتبرها بعض الناس فرصة لاستباحتها كما كانوا يفعلون في الجاهلية. وإذا كان النهي عنها قد وقع في عدة مواقف - أولها ما روى عن على رضي الله عنه في خيبر - فإن الإذن بها لم يصح بغير علة - كما قال صاحب الفتح - إلا في غزوة الفتح، فهي التي صرح فيها بالإباحة، وهي التي وقع فيها النهي المؤبد عنها. وانتصار المسلمين في فتح مكة هو ذروة سنام انتصاراتهم في الغزوات السابقة، وبه زال الجفاء وارتفع العداء بين المدينتين العظيمتين، واتصل ما انقطع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1076 من الرحم بين أهلها، وأيامه أيام عيد كبير لا يقل عن الأعياد العادية التي أباح رسول الله فيها اللعب البرىء، وقال عنها: " إنها أيام أكل وشرب وبعال ". ولم يكن في فتح مكة مثل ما كان في خيبر وأوطاس من سبايا، فأباح - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتعة فيه من باب التوسعة وإدخال البهجة والسرور على نفوس جنود بعدوا عن أزواجهم وأهلهم في فرصة لا مثيل لها في تاريخهم، فالإباحة فى الواقع استثنائية، وترك بابها مفتوحا أبدا يعود على المشروع الأصلى بالنقض، إذ يؤدى إلى وضع العلاقة الزوجية موضع المسافحة، ويبعدها عن الغرض المقصود من الزواج الدائم، ولا أدل على هذا من أن يؤدى القول بإباحتها إلى القول بصحة تزوج الرجل المرأة متعة على عرد واحد كما سيأتى. ومن أجل هذا نهي الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها بعد ثلاث كما تقدم. وإذا كان هذا النهي لم يبلغ بعض الناس - كابن عباس وغيره - فبقى على القول بالحل مطلقا أو عند الضرورة فقد حمله إلى الأمة من تقوم به الحجة على مثله، ومتى صدر الحكم من الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسمعه من تقوم الحجة بسماعه ـ كان على من سمعه أن يبلغه، عملا بقوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع "، وعلى كل من علمه أن يعمل به، ومن لم يبلغه الخبر لا يكون حجة على من سمعه أو بلغه، فإن من عرف حجة على من لم يعرف، والإثبات مقدم على النفى. وليس بعجيب أن يجهل بعض الناس حكم المتعة، لأنها ليست من شعائر الإسلام، ولا من الأمور التي تعم بها البلوى، فيحتاج الناس جميعاً إلى معرفة حكمها كما يحتاجون إلى معرفة وجوب الصلاة وحرمة الزنى ونحو ذلك، فقد فتح الإسلام باب الزواج الذى يكون به الإحصان، وتتعلق به مصلحة بقاء النوع على مصراعيه، وحث الناس على ولوجه، فأغناهم عن قضاء وطرهم الجنسى بسواه، والذين أصلح الله قلوبهم بالإسلام، وهذب طباعهم بأدابه إنما يستجيبون لنداء الفطرة من هذا الطريق، ولا تحملهم شهوة جامحة على التطلع إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1077 غيره عملا بقوله تعالى: "" وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ "" (1) . وفى زمن عمر رضي الله عنه وقعت حوادث فردية دلت على أن في الناس من يفعل المتعة جاهلاً أن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أباحها لحاجة عارضة ثم حرمها تحريماً مؤبداً. ومن ذلك ما روى مالك في الموطأ عن عروة بن الزبير ـ أن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب فقالت: إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولدة فحملت منه. فخرج عمر فزعاً يجر رداءه وقال: " هذه المتعة لو تقدمت فيها لرجمت " يعنى لو أنى علمت الناس من أمرها ما جهلوا، وأذعت بينهم حرمتها ـ لرجمت من يفعلها (2) . ومنه ما أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن جابر- أنه قال: قدم عمرو بن حريث الكوفة، فاستمتع بمولاة، فأتى بها عمرو حبلى، فسأله فاعترف (3) . قال جابر: فذلك حين نهي عنها عمر. ولا يجوز في تقديرنا أن يكون ربيعة بن أمية أو عمرو بن حريث أو غيرهما- إذا صح أن غيرهما قد فعلها ـ لا يجوز أن يكون أحد من هؤلاء قد علم أن الرسول حرمها ثم يقدم على فعلها. لهذا خطب عمر الناس ـ فيما أخرج ابن ماجه عنه بسند صحيح فقال: " إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها، والله لا أعلم أحداً تمتع وهو   (1) النور: 33. (2) يدل اهتمام خولة بالأمر، ورفعها إياه إلى عمر، وفزعه منه، وقوله هذه المتعة – على أن هذا الفعل لم يكن ذائعاً بين الناس، ولهذا لا يقال: لم لم ينه عنه أبو بكر وعمر قبل ذلك. (3) قوله: فسأله فاعترف – يدل على أن من كان يفعل المتعة كان يتحرج من إظهارها وقد ينكرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1078 محصن إلا رجمته بالحجارة "، وروى ابن جرير بسنده، أن عمر بن الخطاب لما ولى أمر الناس خطب فقال " إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها، والله لا أعلم أحدا تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة إلا أن يأتينى بأربعة يشهدون أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحلها بعد أن حرمها، ولا أجد رجلا من المسلمين متمتعاً إلا جلدته مائة جلدة إلا أن يأتينى بأربعة يشهدون أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحلها بعد أن حرمها " (1) . قال عمر هذا منذراً ومعلناً في ملأ من الصحابة ولم يعارضه أحد، لا من الحاضرين الذين سمعوه، ولا من الغائبين الذين بلغهم الخبر، ولم يقل له أحد من المسلمين: إنك خالفت آية في كتاب الله، أو أمراً من أوامر رسول الله، مع أنه كان يقبل أن تعارضه امرأة ويرجع إلى قولها، فكان سكوتهم جميعاً تصديقاً له، وإذا عد عمله خروجاً على الدين فكل من سكت عليه يكون شريكاً له في ذلك حتى على رضي الله عنه، ولا نظن أحدا من المسلمين يرضي باتهام أحد من أصحاب رسول الله بالجبن في دين الله. وفى مسلم أن عمر رضي الله عنه قال في متعة النساء: " إن الله تعالى كان يحل لرسوله ما شاء، وإن القرآن قد نزل منازله (2) ، فأبتوا نكاح هذه النساء،   (1) يدل هذا الحديث على أن عمر يهدد بالعقوبة كل متمتع محصنا كان أو غيرمحصن، ومن عجب أن يورد بعض المؤلفين فى المتعة هذا النص بتمامه، ثم يستدل به على أن عمر كان يحرم المتعة على المحصن دون غيره (ص 21: المتعة في الإسلام) . (2) أي أنه في أثناء نزول الوحي وقبل كمال الشريعة كان الله تعالى يبيح لرسوله ما شاء بما شاء من أسباب عارضة تقتضى الإباحة، كإباحاته مكة ساعة من نهار ثم تحريمها إلى يوم القيامة، وإباحته المتعة ثم تحريمها تحريماً مؤبداً وبكمال الشريعة وانقطاع الوحي أخذت الأحكام وضعها الأصيل الدائم، فلا نسخ ولا استثناء بعد ذلك إلا بدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1079 أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة " (1) ، وقال في متعة الحج: " أتموا الحج والعمرة كما أمركم ربكم " وفى رواية: " افصلوا حجكم عن عمرتكم، فإنه أتم لحجكم، وأتم لعمرتكم ". ومن هذا ترى أن عمر رضي الله عنه ما كان يهدد بالعقوبة على متعة الحج بل كان يرشد الناس ـ مصيباً أو مخطئاً ـ إلى ما يراه أكمل لحجهم وعمرتهم، وأكثر ثواباُ لهم، من غير إلزام لأحد منهم، ولهذا قال عبد الله بن عمر - حينما أفتى في متعة الحج بغير ما أفتى أبوه، وسئل عن ذلك -: " إن عمر لم يقل إن المتعة في أشهر الحج حرام، بل قال إن أتم العمرة أن تفردوها من أشهر الحج، وإنما كان يبتغى بذلك الخير للناس، فلم تحرمون ما أحل الله وعمل به رسوله؟ أفسنة رسول الله أحق أن تتبعوا أم سنة عمر؟ " (2) . وقد تبين مما قدمنا أن عمر كان يعتمد في تحريم متعة النساء على تحريم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إياها، وهي التي كان يتهدد من يفعلها ولا عليه بعد هذا أن يقول أحياناً مشدداً ومتوعداً ومنفذاً لأحكام الشريعة التي نصب لإقامتها -: " أنا أحرم المتعة وأعاقب عليها "، فإن كل مسلم ـ فضلا عن ولى الأمر ـ يستطيع أن يقول   (1) قال الفقهاء: إن عمر ما كان يريد بقوله هذا إلا التهديد، لأنه ما كان يجهل أن الحدود تدرأ بالشبهات، وقد درأ هو الحد عن بغى بأجرة، ولعله درأ عنها الحد لأن الناس ما كانوا يجترءون على الزنى في زمنه جرأتهم عليه بعد أن عطلت الحدود. (2) راجع ص 67 حـ 7: المحلى، ويظهر أن الحزبية لعبت دوراً هاماً في هذه المسألة عن قصد أو غير قصد، وإلا فلماذا يصور عمر بصورة الطاغية العنيد الذى يعاقب بالحق وبالباطل وينقل قوله بصيغة توهم أنه يتحدى رسول الله، ويشرع من عند نفسه. فيحرم ما أحل الله ورسوله حيث يقول " متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما "، وإذا صح أن يعاقب على متعة النساء فكيف يعاقب على متعة الحج؟ ولماذا يكثر البحث في متعة النساء خاصة، وتؤلف فيها الكتب وليست إلا مسألة فرعية من مسائل الفقه الإسلامي، وما أكثر المسائل التي اختلف فيها الأئمة، وقال فيها بعضهم بالحل وبعضهم بالحرمة، وإذا كان الباعث على الاهتمام بها تعلقها بالأعراض - فما كان أولانا جميعا بالاتفاق على حرمتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1080 أنا أحرم الخمر وأحرم الزنى، يعنى أنه يدين بهذا ويعمل به، لا أنه ينشئ تحريماً من عند نفسه، فدعوى أن عمر رضي الله عنه يحرم من تلقاء نفسه دعوى هزيلة رخيصة. (ج) وأما قولهم: إن ابن عباس وغيره قد أفتوا بإباحتها، وإن من الصحابة من كان يفعلها، فتلك آراء فردية لا ترقى إلى رتبة المعارضة للآثار المروية عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا شك أن عمل بعض الناس بها في زمن الرسالة، فضلا عن عملهم بها في زمن أبى بكر وعمر - لا يكون حجة على الإباحة إلا إذا ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد علم به وأقره. وقد تقدم في حديث جابر وأبى هريرة عن غزوة تبوك أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حينما علم أن نسوة كن موضع متعة سابقة يطفن برحال الجنود - غضب ونهي عن المتعة، لأنه خشى أن تتوجه نفوس الجنود إليها، فلو أنه لم يعلم وتمتعوا بهن - فهل يكون فعلهم هذا حجة على الإباحة إذا قالوا بعد: لقد فعلنا المتعة على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وقد روى أن عليا رضي الله عنه لما سمع ابن عباس يلين في متعة النساء قال له: " مهلا يا بن عباس، إنك رجل تائه، فإنى سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهي عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية "، وروى البخارى بسنده عن على رضي الله عنه أنه قال لابن عباس: " إن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهي عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر". وروى مسلم بسنده عن عروة بن الزبير - أن عبد الله بن الزبير قام بمكة خطيباً فقال " إن ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم - يعرض بابن عباس وكان قد كف بصره ـ يفتون بحل المتعة "، فقال له ابن عباس: " إنك لجلف جاف، فلعمرى لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين " (1) ـ يعنى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -   (1) قول ابن عباس هذا لا حجة فيه على بقاء حل المتعة كما قدمنا، ولو كانت إباحتها تستند إلى شيء من الكتاب الكريم ما ترك ابن عباس الاستدلال به في هذا المقام، وهو من أعلم الناس بكتاب الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1081 فقال له ابن الزبير: " فجرب نفسك فوالله لإن فعلتها لأرجمنك بأحجارك". وقد روى ما يدل على أن فتوى ابن عباس كانت مقصورة على حال الضرورة، فقد روى البخارى عن أبى جمرة أنه قال: سمعت ابن عباس يسأل عن متعة النساء، فرخص فيها، فقال له مولى له (1) : إنما ذلك في الحال الشديدة وفى النساء قلة أو نحوه، فقال ابن عباس: نعم. وروى الحازمى بسنده عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن عباس، لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء، قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا: قد قلت للشيخ لما طال محبسه ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس وهل ترى رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال ابن عباس: سبحان الله! ما بهذا أفتيت، وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير، لا تحل إلا للمضطر. وقال الحازمى: إن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يبح المتعة للناس وهم في أوطانهم وبيوتهم، وإنما أباحها لهم في أوقات ضرورة، ثم حرمها عليهم تحريما مؤبدا، لم يخالف فيه إلا طائفة من الشيعة (2) .   (1) قال ابن حجر: أظن عكرمة. (2) راجع 768 - 274 حـ 6: نيل الأوطار، 170 حـ 3: سبل السلام، ... 385 حـ 2: فتح القدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1082 وروى البهيقى عن ابن شهاب الزهرى أنه قال: إن ابن عباس ما مات حتى رجع عن هذه الفتيا. ومن هذا يتبين: 1ـ أن الآية التي استدل بها الشيعة على الإباحة لا تدل له، بل هي حجة عليهم، ولو صح ما ذهبوا إليه في تفسيرها لعارض الناس بها عمر، ولرد بها ابن عباس على ابن الزبير. 2ـ وأن إباحة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها لم تثبت بغير علة إلا في غزوة الفتح، والنهي عنها وقع في عدة مواقف منها ما روى عن على رضي الله عنه، وقد رواه الشيعة في كتبهم، وكلها مواقف تجمعات غير عادية كما قدمنا 3ـ والذى روى إباحتها عام الفتح روى مع هذا أن النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرمها عقب ذلك تحريماً مؤبدا فكانت الإباحة استثناء من الأصل الأصيل في صفات المؤمنين، وكان التحريم رجوعا إلى ذلك الأصل كما قدمنا. 4ـ وبقاء بعض الناس على القول بالحل مطلقا أو عند الضرورة لعدم علمهم بالتحريم أو عدم ثبوته عندهم لا يؤثر في ثبوت الحكم بالحرمة عند الكافة، كما لايؤثر فيه عمل بعض الناس بها في زمن الرسول، فقد يكون عمله بها في وقت الإباحة الاستثنائية، والعمل بها فى هذا الوقت لا يكون حجة على الإباحة إلا إذا ثبت أن الرسول قد علم به وأقرهم عليه. ويؤيد هذا قوله تعالى: "" وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللهُ مِن فَضْلِهِ ""، وقول الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لا يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1083 فقد أمر الله تعالى من لايستطيع الزواج بأن يجاهد نفسه ويعف عن طلب المرأة، وأمره الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن يستعين على ذلك بالصوم، ولو كان هناك ذلك الزواج المؤقت على نحو ما ذكروا من اليسر والسهولة لكان فيه مندوحه عن ذلك. وروى البخاري بسنده عن أبى هريرة أنه قال: قلت يا رسول الله، إني رجل شاب وأنا أخاف على نفسي العنت، ولا أجد ما أتزوج به النساء فأذن لي اختصي، فسكت عنى، ثم قلت مثل ذلك فسكت عنى، ثم قلت مثل ذلك فسكت عنى، ثم قلت مثل ذلك فقال لي: " يا أبا هريرة، جف القلم بما أنت لاق، فاختص على ذلك أو ذر ". ولو كانت المتعة مباحة لنصح الرسول أبا هريرة - وقد وصلت به الحال إلى ما وصلت إليه - بزواج مؤقت لا يكلفه ما يكلف الزواج الدائم من أعباء. وإذا سلمنا جدلا بأن أدلة الإباحة تعادل أدلة الحرمة في القوة فإنها تكون متعارضة، ولا شك أن دليل الحرمة يقدم حينئذ على دليل الإباحة ـ كما تقرر في الأصول؛ لأن ترك المباح أولى من ارتكاب المحرم، وقد سئل على رضي الله عنه عن الجمع بين أختين وطئا بملك اليمين، فقال: (أحلتهما آية يعنى قوله تعالى: "" فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ "" ـ وحرمتهما آية ـ يعنى قوله تعالى "" وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ "" ـ والتحريم أحب إلينا) . وعلى هذا جمهور المسلمين في العالم والحمد لله. ولا نظن إخواننا من الشيعة يفعلون المتعة، لأنهم لايرضون أن يتمتعوا بالمؤمنة أو بالشريفة حتى لا يذلوها أو يلحقوا العار بأهلها كما قالوا، وهو ما لا يرضاه الله لأحد من عباده المؤمنين، ولعلهم يأنفون من التمتع بالوضيعة، ويأبون- كما يأبى كل شريف عاقل - أن يتمتع ناس ببناتهم، أو أخواتهم. ولا داعى حينئذ إلى جدل في مسألة ليس لها في الواقع العملى مجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1084 هذا - ومما نلاحظ على ما ورد في المتعة عند إخواننا الشيعة أمور (1) : - 1ـ أنهم رووا عن على رضي الله عنه ـ بسند يرضونه ـ ما روى الشيخان عنه: حرم رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وآله - لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة ثم قالوا: إن هذه رواية شاذة تحمل على التقية، لأنها موافقة لمذاهب العامة، فجعلوا الموافقة لمذاهب العامة حجة لشذوذ الخبر أو حمله على التقية، كأن مخالفة العامة أمر يقصد لذاته. ومن من كانت هذه التقية؟ وما الذى كان يتقيه أكان المتقى أحد الرواة؟ أم كان عليا رضي الله عنه، وحاشاه أن يخشى في الله لومة لائم وهو ما هو شجاعة وشدة بأس. قد تكون التقية بتجنب المتعة خوفا من معاقبة ولى الأمر، كالذى كان من ابن عباس أيام عبد الله بن الزبير، مع ملاحظة أنه لم يمنعه من الجهر برأيه في شدة وصرامة كما تقدم، أما أن تكون التقية بأن ينسب إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لم يقله - فهذا ما ننزه عنه عليا رضي الله عنه وشيعته رحمهم الله أجمعين. 2 ـ أنهم قالوا بحل المتعة بالبكر التي تعيش بين أبويها بإذن وليها إذا لم تبلغ سن العاشرة، وبغير إذنه إذا بلغت هذه السن، وندع التعليق على هذا للقارئ بعد أن يطلع على ما كتب عنه في كتاب الاستبصار، وندعو الله تعالى ألا نبتلى بصديق أو جار يتسبيح التمتمع ببناتنا أو أخواتنا - ليعفهن كما قالوا - بغير إذن منا. 3 ـ أنهم أفتوا بصحة تزوج الرجل المرأة متعة على عرد واحد أو أكثر (2) ، وقد يشترطون أن تقدر لذلك مدة كيوم أو يومين، لا ساعة أو ساعتين، لعدم انضباط الوقت، وأباحوا له أن يشترط العزل، ونحن لا نعرف الفرق بين الزنى وهذه المتعة، ولعل الفرق بينهما أن من اتفق مع المرأة على عرد واحد مثلا ً - يجب عليه بمجرد فراغه من المواقعه أن يحول وجهه ولا ينظر إليها كما قالوا، أفلا   (1) راجع ص 141 – 154 حـ 3: من كتاب " الاستبصار " للعالم الجليل والفقيه الشيعي أبى جعفر الطوسى المتوفى سنة 460هـ، وص 70 –80 حـ 11: فتح الباري. (2) أي مواقعه واحدة أو أكثر، وراجع معنى العرد – بفتح فسكون – في القاموس المحيط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1085 نكون معذورين في الجهل بهذا الفرق وقد روى البيهقى عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: " هي الزنى بعينه " (1) 4- أنهم رووا عن على رضي الله عنه أنه قال: " لولا ما سبقنى به ابن الخطاب ما زنى إلا شفا " (2) ، أي إلا قليل، وفى رواية إلا شقى، وإذا كان الأمر كذلك عنده، وكان هناك نص قرآنى في الموضوع - وهو أبو الحسن القادر على حل المشكلات وأفقه الفقهاء من غير منازع - فلماذا سكت عن عمرولم يعارضه؟ وهل هو أضعف أو أقل شأناً من المرأة التي عارضت عمر في المهر علناً وخضع لرأيها؟! وإذا كان السكوت تقية، وهو ما لا نرضاه لعلى رضي الله عنه ـ فلماذا لم يعلن رأيه، ويبين خطأ عمر فيما ذهب إليه بعد أن آل الأمر إليه؟ وما كان المعقول ـ والمتعة تجوز على عرد أو عردين كما قالوا ـ أن يقول الإمام رضي الله عنه: " لولا ما سبقنى به ابن الخطاب ما زنى أحد "، فإن كل زنى سيكون متعة عندهم، أو ليس الزنى مواقعة رجل لامرأة بتراضيهما؟ أم أن الزنى لا يكون إلا بإكراه؟ على أنا نستطيع أن نفهم هذا الذى روى عن على رضي الله عنه ـ على ضوء ما روى عنه من نهي النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المتعة، ومن إنكاره إباحتها على ابن عباس - رضي الله عنه - بأن معناه أن ما سبقنى به عمر من إعلان الناس بما خفى على بعضهم من حرمة المتعة وكان من الجائز أن أسبقه إليه وأنادى به ـ لولا هذا لادعى كل زان أنه يستمتع، فلا يعد زانيا ويقام عليه الحد إلا القليل الذى يغفل عن ادعاء المتعة، أي   (1) ص 77 حـ 11 ك فتح البارى، الشيعة يبطلون هذه الرواية لأنها منقطعة لم يذكر لها سند، وقد توفى الصادق سنة 148 هـ، وولد البيهقى سنة 384هـ، والخطب هين، لأن هذه الرواية مرسلة وليست دليلاً في الموضوع عندنا. (2) ص 85: المتعة في الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1086 لولا ما فعله عمر لانتشر الزنى بين الناس باسم المتعة، وما وقع تحت طائلة العقوبة إلا قليل، فالكلام موافقة على ما صنع عمر، ورضا به لا معارضة له. والله يهدينا جميعا سواء السبيل. انتهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1087 البحث الثانى شيخنا الأستاذ على حسب رحمه الله انتهي إلى عدم جواز زواج المتعة، والبحث الثانى لعالم شيعي من علماء النجف وهو السيد حسين الموسوى. قال تحت عنوان: (1) المتعة وما يتعلق بها كنت أود أن أجعل عنوان هذا الفصل " المرأة عند الشيعة " لكنى عدلت عن ذلك لأني رأيت أن كل الروايات التي روتها كتبنا ُتنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله، وإلى أمير المؤمنين، وأبى عبد الله - عليه السلام - وغيرهما من الأئمة. فما أردت أن يصيب الأئمة عليهم السلام أي طعن، لأن في تلك الروايات من قبيح الكلام ما لا يرضاه أحدنا لنفسه، فكيف يرضاه لرسول الله صلى الله عليه وآله وللأئمة عليهم السلام. لقد استُغلت المتعةُ أبشع استغلال، وأهينت المرأة شر إهانة، وصار الكثيرون يُشبعون رغباتهم الجنسية تحت ستار المتعة وباسم الدين، عملاً بقوله تعالى: "" فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً "" (النساء:24) لقد أوردوا روايات في الترغيب بالمتعة، وحددوا أو رتّبوا عليها الثواب، وعلى تاركها العقاب، بل اعتبروا كل من لم يعمل بها ليس مسلماً، اقرأ معي هذه النصوص: قال النبي صلى الله عليه وآله: " من تمتع بامرأة مؤمنة كأنما زار الكعبة سبعين مرة ". فهل الذى يتمتع كمن زار الكعبة سبعين مرة؟ وبِمَنْ؟ بامرأة مؤمنة؟ وروى الصدوق عن الصادق - عليه السلام - قال: "   (1) راجع كتابه كشف الأسرار وتبرئة الأئمة الأطهار ص 35 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1088 إن المتعة ديني ودين آبائي، فمن عمل بها عمل بديننا، ومن أنكرها أنكر ديننا واعتقد بغير ديننا " " من لا يحضره الفقيه " (3 / 366) ، وهذا تكفير لمن لم يقبل بالمتعة. وقيل لأبى عبد الله - عليه السلام -: هل للتمتع ثواب؟ قال: " إن كان يريد بذلك وجه الله لم يُكلمها كلمةً إلا كتب الله له بها حسنة، فإذا دنا منها غفر الله له بذلك ذنباً، فإذا اغتسل غفر الله له بقدر ما مر من الماء على شعره " " من لا يحضره الفقيه " (3 / 366) . وقال النبي صلى الله عليه وآله: " من تمتع مرة أَمِنَ سخط الجبار، ومن تمتع مرتين حُشر مع الأبرار، ومن تمتع ثلاث مرات زاحمني في الجنان " " من لا يحضره الفقيه " (3/366) . قلت: ورغبة في نيل هذا الثواب فإن علماء الحوزة في النجف وجميع الحسينيات ومشاهد الأئمة يتمتعون بكثرة، وأخص بالذكر منهم السيد الصدر والبروجردى والشيرازي والقزوينى والطباطبائي، والسيد المدني إضافة إلى الشاب الصاعد أبو الحارث الياسري وغيرهم، فإنهم يتمتعون بكثرة وكل يوم رغبة فى نيل هذا الثواب ومزاحمة النبي صلوات الله عليه في الجنان. وروى السيد فتح الله الكاشانى في " تفسير منهج الصادقين " عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " من تمتع مرة كانت درجته كدرجة الحسين - عليه السلام -، ومن تمتع مرتين فدرجته كدرجة الحسن - عليه السلام -، ومن تمتع ثلاث مرات كانت درجته كدرجة على بن أبى طالب - عليه السلام -، ومن تمتع أربع فدرجته كدرجتي ". لو فرضنا أن رجلاً قذراً تمتع مرة، أفتكون درجته كدرجة الحسين - عليه السلام -؟ وإذا تمتع مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً كانت درجته كدرجة الحسن وعلى والنبي عليهم السلام؟ أَمنزلةُ النبي صلوات الله عليه ومنزلة الأئمة هينة إلى هذا الحد؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1089 وحتى لو كان المتمتع هذا قد بلغ فى الإيمان مرتبة عالية، أيكون كدرجة الحسين؟ أو أخيه؟ أو أبيه؟ أو جده؟ إن مقام الحسين أسمى وأعلى من أن يبلغه أحد، مهما كان قوى الإيمان، ودرجة الحسن وعلى والنبى عليهم السلام جميعا لايبلغها أحد، مهما سما وعلا إيمانه. لقد أجازوا التمتع حتى بالهاشمية، كما روى ذلك الطوسى فى" التهذيب " (2/193) . أقول: مكانة الهاشميات أرفع من أن يتمع بهن، فهن سليلات النبوة ومن أهل البيت، فحاشا لهن ذلك، وسيأتى السبب إن شاء الله، وقد بين الكليني أن المتعة تجوز ولو لضجعة واحدة بين الرجل والمرأة، وهذا منصوص عليه فى " فروع الكافى " (5/460) . ولايشترط أن تكون الُمتَّمتعُ بها بالغةً راشدة، بل قالوا: يمكن التمتع بمن فى العاشرة من العمر ولهذا روى الكليني فى " الفروع " (5/463) ، والطوسى فى " التهذيب " (7/255) ، أنه قيل لأبى عبد الله - عليه السلام -: " الجارية الصغيرة هل يتمتع بها الرجل؟ فقال: نعم، إلا أن تكون صبية تُخدع قيل: وما الحد الذى إذا بلغته لم تخدع؟ قال: عشر سنين ". وهذه النصوص كلها سيأتى الرد عليها إن شاء الله، ولكنى أقول: إن ما نُسبَ إلى أبى عبد الله - عليه السلام - فى جواز التمتع بمن كانت فى العاشرة من عمرها. أقول: قد ذهب بعضهم إلى جواز التمتع بمن هي دون هذا السن. لما كان الإمام الخمينى مقيماً فى العراق كنا نتردد إليه ونطلب منه العلم حتى صارت علاقتنا معه وثيقة جداً، وقد اتفق مرة أن وُجَّهَتْ إليه دعوة من مدينة تلعفر، وهي مدينة تقع غرب الموصل على مسيرة ساعة ونصف تقريباً بالسيارة، فطلبنى للسفر معه فسافرت معه، فاستقبلونا وأكرمونا غاية الكرم مدة بقائنا، عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1090 إحدى العوائل الشيعية المقيمة هناك، وقد قطعوا عهداً بنشر التشيع فى تلك الأرجاء، وما زالوا يحتفظون بصورة تذكارية لنا تَمَّ تصويرها فى دارهم. ولما انتهت مدة السفر رجعنا، وفى طريق عودتنا ومرورنا فى بغداد أراد الإمام أن نرتاح من عناء السفر، فأمر بالتوجه إلى منطقة العطيفية حيث يسكن هناك رجل إيرانى الأصل يقال له سيد صاحب، كانت بينه وبين الإمام معرفة قوية. فرح سيد صاحب بمجيئنا وكان وصولنا عند الظهر، فصنع لنا غداء فاخراً واتصل ببعض أقاربه فحضروا، وازدحم منزله احتفاء بنا، وطلب سيد صاحب إلينا المبيت عنده تلك الليلة فوافق الإمام، ثم لما كان العشاء أتونا بالعشاء وكان الحاضرون يقبلون يد الإمام ويسألونه ويجيب عن أسئلتهم، ولما حان وقت النوم وكان الحاضرون قد انصرفوا إلا أهل الدار، أبصر الإمام الخمينى صبية بعمر أربع سنوات أو خمس، ولكنها جميلة جداً، فطلب الإمام من أبيها سيد صاحب إحضارها للتمتع بها، فوافق أبوها بفرح بالغ، فبات الإمام الخمينى والصبية فى حضنه ونحن نسمع بكاءها وصريخها. المهم أنه أمضى تلك الليلة، فلما أصبح الصباح وجلسنا لتناول الأفطار، نظر إلى فوجد علامات الإنكار واضحة فى وجهي؛ إذ كيف يتمتع بهذه الطفلة الصغيرة، وفى الدار شابات بالغات راشدات، كان بإمكانه التمتع بإحداهن، فلم يفعل؟ فقال لى: سيد حسين ما تقول فى التمتع بالطفلة؟ قلت له: سيد القول قولك، والصواب فعلك، وأنت إمام مجتهد ولا يمكن لمثلى أن يرى أو يقول إلا ما تراه أو تقوله، ومعلوم أنى لا يمكننى الاعتراض وقتذاك. فقال: سيد حسين؛ إن التمتع بها جائز، ولكن بالمداعبة والتقبيل والتفخيذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1091 أما الجماع فإنها لا تقوى عليه. وكان الإمام الخمينى يرى جواز التمتع حتى بالرضيعة، فقال: " لا بأس بالتمتع بالرضيعة، ضماً وتفخيذاً ـ أي يضع ذكره بين فخذيها ـ وتقبيلاً " انظر كتابه " تحرير الوسيلة " (2 / 241) مسألة رقم (12) . جلست مرة عند الإمام الخوئى فى مكتبه فدخل عليه شابان يبدو أنهما اختلفا فى مسألة فاتفقا على سؤال االإمام الخوئى ليدلهما على الجواب. فسأله أحدهما قائلاً: سيد ما تقول فى المتعة أحلال هي أم حرام؟ نظر إليه الإمام الخوئى وقد أوجس من سؤاله أمراً، ثم قال له: أين تسكن؟ قال الشاب السائل: أسكن الموصل، وأقيم هنا فى النجف منذ شهرين تقريباً. قال له الإمام: أنت سنى إذن؟ قال الشاب: نعم. قال الإمام: المتعة عندنا حلال وعندكم حرام. فقال له الشاب: أنا هنا منذ شهرين تقريباً، غريب فى هذه الديار، فهلاَّ زوجتنى ابنتك لأتمتع بها ريثما أعود إلى أهلى؟ فحملق فيه الإمام هنيهة ثم قال له: أنا سيد، وهذا حرام على السادة وحلال عند عوام الشيعة. ونظر الشاب إلى السيد الخوئى وهو مبتسم، ونظرته توحى أنه علم أن الخوئى قد عمل بالتقية. ثم قاما فانصرفا، فاستأذنت الإمام الخوئى فى الخروج، فلحقت بالشابين، فعلمت أن السائل سني وصاحبه شيعى اختلفا فى المتعة أحلال أم حرام، فاتفقا على سؤال المرجع الدينى الإمام الخوئى، فلما حادثت الشابين انفجر الشاب الشيعى قائلاً: يا مجرمين تبيحون لأنفسكم التمتع ببناتنا وتخبروننا بأنه حلال وأنكم تتقربون بذلك إلى الله، وتحرمون علينا التمتع ببناتكم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1092 وراح يسب ويشتم، وأقسم أنه سيتحول إلى مذهب أهل السنة، فأخذت أُهدِّئُ به ثم أقسمت له أن المتعة حرام وبينت له الأدلة على ذلك. إن المتعة كانت مباحة فى العصر الجاهلى، ولما جاء الإسلام أبقى عليها مدة، ثم حرمت يوم خيبر، لكن المتعارف عليه عند الشيعة، عند جماهير فقهائنا، أن عمر بن الخطاب هو الذى حرمها، وهذا ما يرويه بعض فقهائنا. والصواب فى المسألة أنها حُرمت يوم خيبر. قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: " حرم رسول الله صلى اله عليه وآله يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة " انظر " التهذيب " (2/186) ، " الاستبصار " (3/142) ، " وسائل الشيعة " (14/441) . وسئل أبو عبد الله - عليه السلام -: " كان المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله يتزوجون بغير بينة؟ قال: لا " انظر " التهذيب " (2/189) . وعلق الطوسى على ذلك بقوله: إنه لم يُرد من ذلك النكاح الدائم، بل أراد منه المتعة، ولهذا أورد هذا النص فى باب المتعة. لاشك أن هذين النصين حجة قاطعة فى نسخ حكم المتعة وإبطاله. وأمير المؤمنين صلوات الله عليه نقل تحريمها عن النبى صلى الله عليه وآله، وهذا يعنى أن أمير المؤمنين قد قال بحرمتها من يوم خيبر، ولاشك أن الأئمة من بعده قد عرفوا حكم المتعة بعد علمهم بتحريمها، وهنا نقفُ بين أخبارٍ منقولة وصريحة فى تحريم المتعة، وبين أخبار منسوبة إلى الأئمة فى الحث عليها وعلى العمل بها. وهذه مشكله يحتار المسلم إزاءها أيتمتع أم لا؟ إن الصواب هو ترك المتعة، لأنها حرام كما ثبت نقله عن أمير المؤمنين - عليه السلام -، وأما الأخبار التى نسبت إلى الأئمة؛ فلا شك أن نسبتها إليهم غير صحيحة، بل هي أخبار مفتراة عليهم، إذ ما كان للأئمة عليهم السلام أن يخالفوا أمراً حرمه رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1093 وسار عليه أمير المؤمنين من بعده، وهم ـ أي الأئمة ـ الذين تلقوا هذا العلم كابراً عن كابر، لأنهم ذرية بعضهم من بعض. لما سئل أبو عبد الله - عليه السلام -: " كان المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله يتزوجون بغير بينة؟ قال: لا "، فلولا علمه بتحريم المتعة لما قال: لا، خصوصاً وأن الخبر صحيح فى أن السؤال كان عن المتعة، وأن أبا جعفر الطوسي راوى الخبر أورده فى باب المتعة كما أسلفنا. وما كان لأبى عبد الله والأئمة من قبله ومن بعده أن يخالفوا أمر رسول الله صلوات الله عليه، أو أن يُحلَّوا أمرا حرمه، أو أن يبتدعوا شيئاً ما كان معروفا فى عهده - عليه السلام -. وبذلك يتبّين أن الأخبار التى تحث على التمتع، ما قال الأئمةُ منها حرفاً واحداً، بل افتراها وتَقولَّها عليهم أناسٌ زنادقة، أرادوا الطعن بأهل البيت الكرام والإساءة إليهم، وإلا بِم تُفسر إباحتهم التمتع بالهاشمية، وتكفيرهم لمن لا يتمتع؟ مع أن الأئمة عليهم السلام لم يُنقل عن واحد منهم نقلُ ثابت أنه تمتع مرة أو قال بحلّية المتعة، أيكونون قد دانوا بغير دين الإسلام؟ فإذا توضح لنا هذا ندرك أن الذين وضعوا تلك الأخبار هم قوم زنادقة أرادوا الطعن بأهل البيت والأئمة عليهم السلام، لأن العمل بتلك الأخبار فيه تكفير للأئمة ... فتنبه. روى الكليني عن أبى عبد الله - عليه السلام - أن امرأة جاءت إلى عمر بن الخطاب فقالت: " إنى زنيت، فأمر أن تُرجم، فأخبر أمير المؤمنين - عليه السلام - فقال: كيف زنيت؟ فقالت: مررت بالبادية فأصابنى عطش شديد، فاستسقيت أعرابياً فأبى إلا إنْ مَكَّنتةُ من نفسى، فلما أجهدنى العطش وخفت على نفسى سقانى فأمكنته من نفسى، فقال أمير المؤمنين - عليه السلام - تَزويجٌ ورب الكعبة ". (الفروع 2 / 198) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1094 إن المتعه كما هو معروف تكون عن تَراضٍ بين الطرفين وعن رغبة منهما. أما فى هذه الرواية فإن المرأة المذكورة مضطرة ومجبورة، فساومها على نفسها مقابل شربة ماء، وليست هي فى حكم الزانية حتى تطلب من عمر أن يطهرها وفوق ذلك ـ وهذا مهم ـ أن أمير المؤمنين - عليه السلام - هو الذى روى تحريم المتعة فى نقله عن النبى صلى الله عليه وآله يوم خيبر، فكيف يفتى هنا بأن هذا نكاح متعة؟! وفتواه على سبيل الحِلَّ والإقرار والرضا منه بفعل الرجل والمرأة؟ إن هذه الفتوى لو قالها أحد طلاب العلم لَعُدَّت سقطة، بل غلطة يعاب عليه بسببها، فكيف تنسب لأمير المؤمنين - عليه السلام -، وهو مَنْ هو فى العلم والفتيا؟ إن الذى نسب هذه الفتوى لأمير المؤمنين، إما حاقد أراد الطعن به، وإما ذو غرض وهوى، اخترع هذه القصة فنسبها لأمير المؤمنين ليضفى الشرعية على المتعة، كى يسوغ لنفسه ولأمثاله استباحة الفروج باسم الدين، حتى وإن أدى ذلك إلى الكذب على الأئمة عليهم السلام، بل على النبى صلوات الله عليه. إن المفاسد المترتبة على المتعة كبيرة ومتعددة الجوانب: 1 ـ فهي مخالفة للنصوص الشرعية لأنها تحليلُ لما حرم الله. 2 ـ لقد ترتب على هذا، اختلاق الروايات الكاذبة ونسبتها إلى الأئمة عليهم السلام، مع ما فى تلك الروايات من مطاعن قاسية لا يرضاها لهم من كان قلبه مثقال ذرة من إيمان. 3 ـ ومن مفاسدها؛ إباحة التمتع بالمرأة المحصنة - أي المتزوجة - رغم أنها فى عصمة رجل دون علم زوجها، وفى هذه الحالة لا يأمن الأزواج على زوجاتهم، فقد تتزوج المرأة متعة دون علم زوجها الشرعي ودون رضاه، وهذه مفسدة ما بعدها مفسدة، انظر " فروع الكافى " (5 / 463) ، " تهذيب الأحكام " (7 /554) ، " الاستبصار " ... (3/145) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1095 وليت شعرى ما رأي الرجل وما شعوره إذا اكتشف أن امرأته التى فى عصمته متزوجة من رجلٍ آخَر غيرهِ زواجَ متعة؟ ! 4 ـ والآباء أيضاً لا يأمنون على بناتهم الباكرات إذ قد يتزوجن متعة دون علم آبائهن، وقد يفاجأ الأب أن ابنته الباكر قد حملت، ... . لم؟ كيف؟ لا يدرى .... ممن؟ لا يدرى أيضاً، فقد تزوجت من واحد فمن هو؟ لا أحد يدرى لأنه تركها وذهب. 5 ـ إن أغلب الذين يتمتعون، يبيحون لأنفسهم التمتع ببنات الناس، ولكن إذا تقدم أحد لخطبة بناتهم أو قريباتهم فأراد أن يتزوجها متعة، لَمَا وافق ولما رضي، لأنه يرى هذا الزواج أشبه بالزنى، وإن هذا عار عليه، وهو يشعر بهذا من خلال تمتعه ببنات الناس، فلا شك أنه يمتنع عن تزويج بناته للآخرين متعة، أي أنه يبيح لنفسه التمتع ببنات الناس وفى المقابل يحرم على الناس أن يتمتعوا ببناته. إذا كانت المتعة مشروعة أو أمراً مباحاً، فلمَ هذا التحرج فى إباحة تمتع الغرباء ببناته وقريباته؟ 6 ـ إن المتعة ليس فيها إشهادُ ولا إعلان ولا رضا ولى أمر المخطوبة، ولا يقع شيىء من ميراث المتمتع للمُتمتَّع بها، إنما هي مستأجرة (1) ، كما نسب ذلك القول إلى أبى عبد الله - عليه السلام -، فكيف يمكن إباحتها وإشاعتها بين الناس؟ 7 ـ   (1) انظر فى ذلك " الاستبصار " لشيخ الطائفة الطوسى ح 3 /147 حيث أورد تحت باب " يجوز الجمع بين أكثر من أربع فى المتعة " ما يلى: " عنه عن الحسين بن محمد عن أحمد بن إسحاق عن سعدان بن مسلم عن عبيد بن زرارة عن أبيه عن أبى عبد الله - عليه السلام - قال: ذكر له المتعة أهي من الأربع؟ قال: تزوجْ منهن ألفاً فإنهن مستأجرات "!؟ وفى حديث آخر أنها لا تطلق، ولا ترث، ولا تورث وإنما هي مستأجرة!؟ وانظر أيضاً التهذيب ح 2 /188، والكافى للكلينى ح 2 /43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1096 إن المتعة فتحت المجال أمام الساقطين والساقطات من الشباب والشابات فى لصق ما عندهم من فجور بالدين، وأدى ذلك إلى تشويه صورة الدين والمتدينين. وبذلك يتبين لنا أضرار المتعة دينياً واجتماعياً وخلقياً، ولهذا حُرّمت المتعة، ولو كان فيها مصالح لما حُرّمت، ولكن لما كانت كثيرة المفاسد، حرّمها رسول الله صلى الله عليه وآله، وحرّمها أمير المؤمنين - عليه السلام -. تنبيه سألت الإمام الخوئى عن قول أمير المؤمنين فى تحريم المتعة يوم خيبر، وعن قول أبى عبد الله فى إجابة السائل عن الزواج بغير بينة أكان معروفاً على عهد النبى - عليه السلام -؟ فقال: إن قول أمير المؤمنين - عليه السلام - فى تحريم المتعة يوم خيبر إنما يشمل تحريمها فى ذلك اليوم فقط لا يتعدى إلى ما بعده. وأما قول أبى عبد الله للسائل، فقال الإمام الخوئى: إنما قال أبو عبد الله ذلك تقية وهذا متفق عليه بين فقهائنا. قلت: والحق أن قول فقهائنا لم يكن صائباً، ذلك أن تحريم المتعة يوم خيبر صاحبه تحريمُ لحوم الحمر الأهلية، وتحريم لحوم الحمر الأهلية جرى العمل عليه من يوم خيبر وإلى يومنا هذا وسيبقى إلى قيام الساعة. دعوى تخصيص تحريم المتعة بيوم خيبر فقط دعوى مجردة لم يقم عليها دليل، خصوصاً وأن حرمة لحوم الحمر الأهلية والتى هي قرينة المتعة فى التحريم بقىَ العملُ عليها إلى يومنا هذا. وفوق ذلك لو كان تحريم المتعة خاصاً بيوم خيبر فقط لورد التصريح من النبى صلى الله عليه وآله بنسخ تلك الحرمة، على أنه يجب أن لا يغيب عن بالنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1097 أن علة إباحة المتعة هي السفر والحرب، فكيف تحرم فى تلك الحرب والمقاتل أحوج ما يكون إليها، خصوصاً وأنه فى غربة من أهله وما ملكت يمينيه، ثم تباح فى السلم؟ إن معنى قوله - عليه السلام - إنها حُرّمت يوم خيبر، أي: إن بداية تحريمها كان يوم خيبر، وأما أقوال فقهائنا إنما هي تلاعب بالنصوص لا أكثر. فالحق أن تحريم المتعة ولحوم الحمر الأهلية متلازمان، نزل الحكم بحرمتهما يوم خيبر وهو باق إلى قيام الساعة، وليس هناك من داع لتأويل كلام أمير المؤمنين - عليه السلام - من أجل إشباع رغبات النفس وشهواتها فى البحث الدائم عن الجميلات والفاتنات من النساء للتمتع بهن والتلذذ باسم الدين وعلى حسابه. وأما أن قول أبى عبد الله - عليه السلام - فى جوابه للسائل كان تقية، أقول: إن السائل كان من شيعة أبى عبد الله، فليس هناك ما يبرر القول بالتقية، خصوصاً وأنه يوافق الخبر المنقول عن أمير المؤمنين - عليه السلام - فى تحريم المتعة يوم خيبر. إن المتعة التى أباحها فقهاؤنا تعطى الحق للرجل فى أن يتمتع بعدد لا حصرله من النسوة، ولو بألف امرأة وفى وقت واحد. وكم من متمتع جمع بين المرأة وأمها، وبين المرأة وأختها، وبين المرأة وعمتها أو خالتها وهو لايدرى. جاءتنى امرأة تستفسر منى عن حادثة حصلت معها، إذ أخبرتنى أن أحد السادة وهو السيد حسين الصدر كان قد تمتع بها قبل أكثر من عشرين سنة فحملت منه، فلما أشبع رغبته منها فارقها، وبعد مدة رزقت ببنت، وأقسمت أنها حملت منه هو، إذ لم يتمتع بها وقتذاك أحد غيره. وبعد أن كبرت البنت وصارت شابة جميلة متأهلة للزواج، اكتشفت الأم أن ابنتها حبلى، فلما سألتها عن سبب حملها، أخبرتها البنت أن السيد المذكور استمتع بها فحملت منه، فدهشت الأم وفقدت صوابها، إذ أخبرت ابنتها أن هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1098 السيد هو أبوها، وأخبرتها القصة، فكيف يتمتع بالأم واليوم يأتى ليتمتع بابنتها التى هي ابنته هو؟ ثم جاءتنى مستفسرة عن موقف السيد المذكور منها ومن ابنتها التى ولدتها منه. إن الحوادث من هذا النوع كثيرة جداً. فقد تمتع أحدهم بفتاة تبين لهم فيما بعد أنها أخته من المتعة، ومنهم من تمتع بامرأة أبيه. وفى إيران الحوادث من هذا القبيل لا يستطيع أحد حصرها. وقد رأينا ذلك بقوله تعالى: "" وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ "" (النور: 23) ، فمن لم يتمكن من الزواج الشرعي بسبب قلة ذات اليد، فعليه بالاستعفاف ريثما يرزقه الله من فضله كى يستطيع الزواج. فلو كانت المتعة حلالاً لما أمره بالاستعفاف والانتظار ريثما تتيسر أمور الزواج بل لأرشده إلى المتعة كى يقضى وطره بدلاً من المكوث والتحرق بنار الشهوة. وقال الله تعالى: "" وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ "" إلى قوله تعالى: "" ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "" (النساء 25) . فأرشد الذين لا يستطيعون الزواج لقلة ذات اليد أن يتزوجوا ما ملكت أيمانهم، ومن عجز حتى عن ملك اليمين؛ أمره بالصبر، ولو كانت المتعة حلالاً لأرشده إليها. ولابد لنا أن ننقل نصوصاً أخرى عن الأئمة عليهم السلام فى إثبات تحريم المتعة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1099 عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن المتعة فقال: " لا تُدَنسْ نفسك بها " " بحار الأنوار " (110 / 318) . وهذا صريح في قول أبى عبد الله - عليه السلام -: إن المتعة تدنس النفس، ولو كانت حلالاً لما صارت في هذا الحكم، ولم يكتف الصادق - عليه السلام - بذلك بل صرح بتحريمها: عن عمار قال: قال أبو عبد الله - عليه السلام - لي ولسليمان بن خالد: " قد حرمت عليكما المتعة " " فروع الكافى " (2 / 48) ، " وسائل الشيعة " (14 / 450) . وكان - عليه السلام - يوبخ أصحابه ويحذرهم من المتعة فقال: " أما يستحى أحدكم أن يرى فى موضع، فيحمل ذلك على صالحى إخوانه وأصحابه؟ " " الفروع " (2 / 44) ، " وسائل الشيعة " (14 / 450) . ولما سأل على بن يقطين أبا الحسن - عليه السلام - عن المتعه أجابه: " ما أنت وذلك؟ قد أغناك الله عنها " " الفروع " (2 / 43) ، " الوسائل " (14 / 449) . نعم، إن الله تعالى أغنى الناس عن المتعة بالزواج الشرعي الدائم. ولهذا لم ينقل أن أحداً تمتع بامرأة من أهل البيت عليهم السلام، فلو كان حلالاً لفعلن، ويؤيد ذلك أن عبد الله بن عمير قال لأبى جعفر - عليه السلام -: " يسرك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن؟ ـ أي يتمتعن ـ فأعرض عنه أبو جعفر - عليه السلام - حين ذكر نساءه وبنات عمه " " الفروع " (2 / 42) ، " التهذيب " (2 / 186) . وبهذا يتأكد لكل مسلم عاقل أن المتعة حرام، لمخالفتها لنصوص القرآن الكريم وللسنة ولأقوال الأئمة عليهم السلام. والناظر للآيات القرآنية الكريمة والنصوص المتقدمة فى تحريم المتعة ـ إن كان طالباً للحق محباً له ـ لا يملك إلا أن يحكم ببطلان تلك الروايات التى تحث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1100 على المتعة لمعارضتها لصريح القرآن وصريح السنة المنقولة عن أهل البيت عليهم السلام، ولما يترتب عليها من مفاسد لا حصر لها، بينا شيئاً منها فيما مضى. إن من المعلوم أن دين الإسلام جاء ليحث على الفضائل وينهي عن الرذائل، وجاء ليحقق للعباد المصالح التى تستقيم بها حياتهم، ولا شك أن المتعة مما لا تستقيم بها الحياة؛ إن حققت للفرد مصلحة واحدة ـ افتراضاً ـ فإنها تسبب له مفاسد جمة، أجملناها فى النقاط الماضية. إن انتشار العمل بالمتعة جر إلى إعارة الفرج، وإعارة الفرج معناها أن يعطى الرجل امرأته أو أمته إلى رجل آخر، فيحل له أن يتمتع بها أو أن يصنع بها ما يريد، فإذا ما أراد رجل ما أن يسافر أودع امرأته عند جاره أو صديقه أو أي شخص كان يختاره، فيبيح له أن يصنع بها ما يشاء طيلة مدة سفره. والسبب معلوم حتى يطمئن الزوج على امرأته لئلا تزنى فى غيابه (!!) . وهناك طريقه ثانية لإعارة الفرج، إذا نزل أحد ضيفاً عند قوم وأرادوا إكرامه فإن صاحب الدار يعير امرأته للضيف طيلة مدة إقامته عندهم، فيحل له منها كل شئ، وللأسف يروون فى ذلك روايات ينسبونها إلى الإمام الصادق - عليه السلام - وإلى أبيه أبى جعفر سلام الله عليه. روى الطوسى عن محمد بن أبى جعفر - عليه السلام - قال: قلت: الرجلُ يُحُل لأخيه فرج جاريته؟ قال: نعم لا بأس به له ما أَحلَّ له منها " الاستبصار " (3/ 136) . وروى الكليني والطوسى عن محمد بن مضارب قال: قال لى أبو عبد الله - عليه السلام -: " يا محمد! خذ هذه الجارية تخدمك وتصيب منها، فإذا خرجت فارددها إلينا " " الكافى، الفروع " (2 / 200) ، الاستبصار " (3 /136) . قلت: لو اجتمعت البشرية بأسرها، فأقسمت أن الإمامين الصادق والباقر عليهما السلام قالا هذا الكلام ما أنا بمصدَّق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1101 إن الإمامين سلام الله عليهما أجلُّ وأعظم من أن يقولا مثل هذا الكلام الباطل، أو يبيحا هذا العمل المقزز الذى يتنافى مع الخلق الإسلامي الرفيع، بل هذه هي الدياثة. ولا شك أن الأئمة سلامُ الله عليهم ورثوا هذا العلم كابرا عن كابر، فنسبة هذا القول وهذا العمل إليهما! إنما هو نسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فهو إذن تشريع إلهي. فى زيارتنا للهند ولقائنا بأئمة الشيعة هناك كالسيد النقوى وغيره، مررنا بجماعة من الهندوس وعبدة البقر والسيخ وغيرهم من أتباع الديانات الوثنية، وقرأنا كثيراً، فما وجدنا ديناً من تلك الأديان الباطلة يبيح هذا العمل ويحله لأتباعه. فكيف يمكن لدين الإسلام أن يبيح مثل هذا العمل الخسيس الذى يتنافى مع أبسط مقومات الأخلاق؟ زرنا الحوزة القائمية فى إيران فوجدنا السادة هناك يبيحون إعارة الفروج، وممن أفتى بإباحة ذلك السيد لطف الله الصافى وغيره، ولذا فإن موضوع إعارة الفروج منتشر فى عموم إيران، واستمر العمل به حتى بعد الإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوى ومجىء آية الله العظمى الإمام الخمينى الموسوى، وبعد رحيل الإمام الخمينى أيضاً استمر العمل عليه، وكان هذا أحد الأسباب (1) التى أدت إلى فشل أول دولة شيعية فى العصر الحديث، كان الشيعة فى عموم بلاد العالم يتطلعون إليها، مما حدا بمعظم السادة إلى التبرؤ منها، بل ومهاجمتها أيضاً، فهذا   (1) لقد خاب ظنى وظن كثير من السادة بحكومة الإمام الخمينى، فكنا نتوقع أن تكون إيران معقل الإسلام، ولكن للأسف فقد بدأت تصفية المعارضين وإراقة دمائهم مع عوائلهم، وصارت أنهار الدماء تجرى بلا رحمة، وكان يفترض أن يتم القضاء على ما أحدثه آل بهلوى من فساد، ولكن الفساد استمر حتى بعد مجىء الإمام الخمينى، فالحمامات مختلطة رجالاً ونساء، والزنى كان علناً أصبح سراً ولكن بصورة أوسع، والتبرج بقى كما هو بحيث تخرج المرأة بالبنطال وبكامل زينتها وقد وضعت فقط غطاء الرأس، عدا الرشوة والسرقة وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1102 صديقنا العلامة السيد موسى الموسوى سماها (الثورة البائسة) وألف كتباً وبحوثاً، ونشر مقالات فى مهاجمتها وبيان أخطائها. وقال السيد جواد الموسوى: إن الثورة الإسلامية فى إيران ليس لها من الإسلام إلا الاسم. وكان آية الله العظمى السيد محمد كاظم شريعتمدارى من أشد المعارضين لها، لما رآه من انحراف واضح عن جادة الإسلام. وهناك كثير من السادة ممن أعرفهم معرفة شخصية انتقدوا حكومة الإمام الخمينى ونفروا منها. ومما يؤسف له أن السادة هنا أفتوا بجواز إعارة الفرج، وهناك كثير من العوائل فى جنوب العراق وفى بغداد فى منطقة الثورة ممن يمارس هذا الفعل بناء على فتاوى كثير من السادة، منهم: السيستانى والصدر والشيرازى والطباطبائى والبروجردى وغيرهم، وكثير منهم إذا حل ضيفاً عند أحد منهم استعار امرأته إذا رآها جميلة، وتبقى مستعارة عنده حتى مغادرته. إن الواجب أن نحذر العوام من هذا الفعل الشنيع، وأن لا يقبلوا فتاوى السادة بإباحة هذا العمل المقزز، الذى كان للأصابع الخفية التى تعمل من وراء الكواليس الدور الكبير فى دسه فى الدين ونشره بين الناس. ولم يقتصر الأمر على هذا، بل أباحوا اللواطة بالنساء، ورووا أيضاً روايات نسبوها إلى الأئمة سلام الله عليهم، فقد روى الطوسى عن عبد الله بن أبى اليعفور قال: " سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الرجل يأتى المرأة من دبرها، قال: لا بأس إذا رضيت، قلت: فأين قول الله تعالى ""فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ""؟ فقال: هذا فى طلب الولد، فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله، إن الله تعالى يقول: "" نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ "" " الاستبصار " (3 / 234) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1103 وروى الطوسى أيضاً عن موسى بن عبد الملك عن رجل قال: " سألت أبا الحسن الرضا - عليه السلام - عن إتيان الرجل المرأة من خلفها فى دبرها فقال: أحلتها آية من كتاب الله؛ قول لوط - عليه السلام -: "" هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ""، فقد علم أنهم لا يريدون الفرج " " الاستبصار " (3 / 243) . وروى الطوسى عن على بن الحكم قال: سمعت صفوان يقول: قلت للرضا - عليه السلام -: " إن رجلاً من مواليك أمرنى أن أسألك عن مسألة فهابك واستحيا منك أن يسألك، قال: ما هي؟ قال: للرجل أن يأتى امرأته فى دبرها؟ قال: نعم ذلك له " المصدر السابق ". لا شك أن هذه الأخبار معارضة لنص القرآن إذ يقول الله تعالى "" وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ "" (البقرة: 222) ، فلو كان إتيان الدبر مباحاً لأمر اعتزال الفرج فقط ولقال: (فاعتزلوا فروج النساء فى المحيض) ، ولكن لما كان الدبر محرماً إتيانه أمر باعتزال الفروج والأدبار فى محيض النساء، بقوله: "" وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ "" ... ثم بين الله تعالى بعد ذلك من أن يأتى الرجل امرأته فقال تعالى: "" فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ "" (البقرة: 222) . والله تعالى أمر بإتيان الفروج فقال: "" نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ "" (البقرة: 223) ، والحرث هو موضع طلب الولد. إن رواية أبى اليعفور عن أبى عبد الله مفهومها أن طلب الولد يكون فى الفروج لقوله فى قوله تعالى: "" نسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ""، هذا فى طلب الولد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1104 كمفهوم الرواية تخصيص الفروج لطلب الولد، وأما قضاء الوطر والشهوة فهو فى الأدبار، وسياق الرواية واضح فى إعطاء هذا المفهوم. وهذا غلط لأن الفروج ليست مخصصة لطلب الولد فقط، بل لقضاء الوطر والشهوة أيضاً، وهذا واقع العشرة بين الأزواج من لدن آدم - عليه السلام - وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأبو عبد الله أجل وأرفع من أن يقول هذا القول الباطل. ولو افترضنا جواز إتيان الدبر لما كان هناك معنى للآية الكريمة: ""فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ ""، لأنه قد علم ـ على الافتراض المذكور ـ أن الإتيان يكون فى القبل والدبر، وليس هناك موضع ثالث يمكن إتيانه. فلم يبق أي معنى للآية ولا للأمر الوارد فيها. ولكن لما كان أحد الموضعين محرما لا يجوز إتيانه، والآخر حلالاً احتيج إلى بيان الموضع الذى يجب أن يؤتى، فكان أمر الله تعالى بإتيان الحرث، والحرث هو موضع طلب الولد، وهذا الموضع يؤتى لطلب الولد ولقضاء الوطر أيضاً. أما الرواية المنسوبة إلى الرضا - عليه السلام - فى إباحة اللواطة بالنساء واستدلاله بقول لوط - عليه السلام -: أقول: إن تفسير الآية؛ قول الله تعالى: "" هَؤُلاءبَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ "" (هود: 78) ، قد ورد فى آية أخرى فى قوله تعالى: "" وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ. أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ "" (العنكبوت: 28) ، وقطع السبيل لا يعنى ما يفعله قُطاعُ الطرق وحدهم. لا، وإنما معناه أيضاً قطع النسل فى الإتيان فى غير موضع طلب الولد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1105 أي فى الأدبار، فلو استمر الناس فى إتيان الأدبار ـ أدبار الرجال والنساء ـ وتركوا أيضاً طلب الولد لانقرضت البشرية وانقطع النسل. فالآية الكريمة تعطى هذا المعنى أيضاً وبخاصة إذا لاحظنا سياق الآية مما قبلها. ولا مرية أن هذا لا يخفى على الإمام الرضا - عليه السلام -، فثبت بذلك كذب نسبة تلك الرواية إليه. إن إتيان النساء فى أدبارهن لم يقل به إلا الشيعة، وبالذات الإمامية الاثنا عشرية. اعلم أن جميع السادة فى حوزة النجف والحوزات الأخرى، بل وفى كل مكان، يمارسون هذا الفعل. وكان صديقنا الحجة السيد أحمد الوائلى يقول بأنه منذ أن اطلع على هذه الروايات بدأ ممارسة هذا الفعل وقليلاً ما يأتى امرأة فى قبلها. وكلما التقيت واحداً من السادة وفى كل مكان فإنى أسأله فى حرمة إتيان النساء فى الأدبار أو حله، فيقول لى بأنه حلال، ويذكر الروايات فى حليتها، منها الروايات التى تقدمت الإشارة إليها. ولم يكتفوا بإباحية اللواطة بالنساء بل أباح كثير منهم حتى اللواطة بالذكور وبالذات المردان. كنا فى أحد الأيام فى الحوزة فوردت الأخبار بأن سماحة السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوى قد وصل بغداد، وسيصل إلى الحوزة ليلتقى سماحة الإمام آل كاشف الغطاء، وكان السيد شرف الدين قد سطع نجمه عند عوام الشيعة وخواصهم، خاصة بعد أن صدر بعض مؤلفاته كالمراجعات، والنص والاجتهاد. ولما وصل النجف زار الحوزة، فكان الاحتفاء به عظيماً من قبل الكادر الحوزى علماء وطلاباً، وفى جلسة له فى مكتب السيد آل كاشف الغطاء ضمت عدداً من السادة وبعض طلاب الحوزة، وكنت أحد الحاضرين، وفى أثناء هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1106 الجلسة دخل شاب فى عنفوان شبابه فسلم فرد الحاضرون السلام، فقال للسيد آل كاشف الغطاء: سيد عندى سؤال: فقال له السيد: وجه سؤالك إلى السيد شرف الدين ـ فأحاله إلى ضيفه السيد شرف الدين تقديراً وإكراماً له ـ. قال السائل: سيد أنا أدرس فى لندن للحصول على الدكتوراه، وأنا ما زلت أعزب غير متزوج، وأريد امرأة تعيننى هناك ـ لم يفصح عن قصده أول ... الأمر ـ. فقال له السيد شرف الدين: تزوج ثم خذ زوجتك معك. فقال الرجل: صعب على أن تسكن امرأة من بلادى معى هناك. فعرف السيد شرف الدين قصده، فقال له: تريد أن تتزوج امرأة بريطانية إذن؟ قال الرجل: نعم، قال له شرف الدين: هذا لا يجوز، فالزواج باليهودية أو النصرانية حرام. فقال الرجل: كيف أصنع إذن؟ فقال له السيد شرف الدين: ابحث عن مسلمة مقيمة هناك عربية أو هندية أو أي جنسية أخرى بشرط أن تكون مسلمة. فقال الرجل: بحثت كثيراً فلم أجد مسلمات مقيمات هناك تصلح إحداهن زوجة لى. وحتى أردت أن أتمتع فلم أجد، وليس أمامى خيار، إما الزنى وإما الزواج وكلاهما متعذر على. أما الزنى فإني مبتعد عنه لأنه حرام، وأما الزواج فمتعذر على كما ترى، وأنا أبقى هناك سنة كاملة أو أكثر، ثم أعود إجازة لمدة شهر، وهذا كما تعلم سفر طويل، فماذا أفعل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1107 سكت (1) السيد شرف الدين قليلاً ثم قال: إن وضعك هذا محرج فعلاً ... على أية حال أذكر أنى قرأت رواية للإمام جعفر الصادق - عليه السلام -، إذ جاء رجل يسافر كثيراً ويتعذر عليه اصطحاب امرأته أو التمتع في البلد الذى يسافر إليه، بحيث أنه يعانى مثلما تعانى أنت، فقال له أبو عبد الله - عليه السلام -: " إذا طال بك السفر فعليك بنكح الذكر " (2) . هذا جواب سؤالك. خرج الرجل وعليه علامات الارتياب من هذا الجواب، وأما الحاضرون ومنهم السيد زعيم الحوزة فلم ينبس أحد منهم ببنت شفة. ضبط أحد السادة في الحوزة وهو يلوط بصبي أمرد من الدارسين في الحوزة. وصل الخبر إلى أسماع الكثيرين، وفى اليوم التالي، بينما كان السيد المشار إليه يتمشى في الرواق، اقترب منه سيد آخر من علماء الحوزة أيضاً ـ وكان قد بلغه الخبر ـ فخاطبه بالفصحى مازحاً: سيد ما تقول في ضرب الحلق (3) ؟ فأجابه السيد الأول بمزاح أشد قائلاً له وبالفصحى أيضاً: يستحسن إدخال الحشفة فقط، وقهقه الاثنان بقوة!!؟؟ وهناك سيد من علماء الحوزة مشهور باللواطة، رأي صبياً يمشى مع سيد آخر من علماء الحوزة أيضاً، فسأله: من هذا الصبى الذى معك؟   (1) يبدو أنه احتار فى جواب السائل، فلما سنحت لى فرصة الانفراد بالسيد آل كاشف الغطاء سألته عن هذه الرواية التى ذكرها السيد شرف الدين فقال لى: لم أقف عليها فيما قرأت، ومنذ ذلك الوقت وأنا أحاول أن أجد مصدر تلك الرواية فى كل ما قرأت وما وقع بيدى من كتب الأخبار فلم أعثر على مصدر لها، وأظن أنه ارتجلها لئلا يحرج بالجواب أمام الحاضرين. (2) أخبرنى بعض تلاميذ السيد شرف الدين أنه فى زيارته بأوربا كان يتمتع بالأوربيات كثيراً، وبخاصة الجميلات منهن فكان يستأجر كل يوم واحدة، وكان متزوجاً من شابة مسيحية مارونيه اسمها نهار كتابيات أيضاً، فلماذا يحل لنفسه ما يحرمه على غيره؟ (3) يريد بذلك حلقة الدبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1108 فاجابه: هذا ابنى فلان. فقال له: لم لا ترسله إلينا لنقوم بتدريسه وتعليمه كى يصبح عالماً مثلك؟ فأجابه ساخراً: أيها السافل الحقير أتريد ان آتيك به لتفعل به (كذا وكذا) !؟ وهذه الحادثة حدثني بها أحد الثقات من أساتذة الحوزة (1) . لقد رأينا الكثير من هذه الحوادث، وما سمعناه أكثر بكثير حتى أن صديقنا المفضال السيد عباس جمع حوادث كثيرة جداً ودونها بتفاصيلها وتواريخها وأسماء أصحابها، وهو ينوى إصدارها في كتاب أراد أن يسميه " فضائح الحوزة العلمية فى النجف "، لأن الواجب كشف الحقائق للعوام من الشيعة أولئك المساكين الذين لا يعلمون ما يجرى وراء الكواليس، ولا يعلمون ما يفعله السادة، فيرسل أحدهم امرأته أو بنته أو أخته لغرض الزيارة أو لطلب الولد أو لتقديم (مراد الحسين) ، فيستلمها السادة وخاصة إذا كانت جميلة ليفجروا بها ويفعلوا بها كل منكر!! ولا حول ولا قوة إلا بالله. انتهي بحث السيد حسين الموسوى من علماء الشيعة بالنجف.   (1) وليس بغريب ولا عجيب، فإن بعض المنظومات التى كنا نقرؤها تنص على ذلك نصاً لا شبهة له، ألم يقل الناظم: " وجائز نكاح الغلام الأمرد ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1109 الفصل الثاني: الأحكام بالرجوع إلى كتب الفقه عندهم نجد أثر عقيدتهم الباطلة التي نادى بها ابن سبأ تبدو فيما يأتى: أولا: فى الذبائح: يرى الرافضة حرمة ذبيحة الناصب بلا خلاف بينهم، واختلفوا في ذبيحة غير الجعفري: فقصر بعضهم الحل على ما يذبحه الجعفري الاثنى عشرى، ورأي الباقون كراهة ذبيحة المخالف. ثانيا: فى الأطعمة: يرون حرمة أكل الطين إلا طين قبر الحسين، فيزعمون أن فيه شفاء من كل داء، وأمنا من كل خوف، فيجوز الاستشفاء منه بقدر الحمصة المعهودة المتوسطة. ثالثا: فى إحياء الموات من الأرض اتفقوا على أن الموات للإمام خاصة لا يملكه أحد وإن أحياه ـ ما لم يأذن له الإمام، فيملكه ـ إن كان مسلماً ـ بالإحياء إذا أذن له الإمام. هذا بالنسبة لزمن حضور أئمتهم. وقالوا كذلك: كل أرض لم يجر عليها ملك مسلم، أو ليس لها مالك معين، فهي للإمام. أما في زمن غيبة إمامهم فقد اختلفوا: فرأي بعضهم أن الأرض لمن أحياها، فإذا ظهر الثانى عشر ـ كما يعتقدون ـ كان له إقرار ملكية المحيى للأرض، أو إزالة يده (1) .   (1) انظر ما سبق في مفتاح الكرامة 7 / 4 - 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1110 رابعا: فى اللقطة يرون أن اللقيط العبد، إذا لم يتول أحدا، فعاقله (1) ووارثه الإمام إذا لم يكن له وارث. خامسا: فى الميراث يرون من موانع الإرث الكفر، ولكنهم يفسرون الكفر، بقولهم: هو كل ما يخرج به معتقده من دين الإسلام: سواء أكان حربياً، أم ذمياً، أم مرتداً، أم على ظاهر الإسلام إذا جحد ما يعلم ثبوته من الدين ضرورة، كالخوارج والغلاة والنواصب. وهم بعد هذا يختلفون في التوارث بين الجعفرية، وغيرهم، فأكثرهم يرى أن المسلمين يتوارثون وإن اختلفوا في المذاهب، ويذهب بعضهم إلى ان جاحد الإمامة لا يرث المؤمن، أي الجعفري الرافضي، على حين يرث المؤمن غيره كما يرث المسلم الكافر (2) . ويرون أن الابن الأكبر يأخذ بغير عوض بعض الأشياء الخاصة بالأب كمصحفه وسيفه، ولكن فريقا من الجعفرية يشترطون لهذه الحبوة ألا يكون الابن فاسد المذهب (3) ، أي أن يكون جعفرياً رافضياً. وفى الميراث بسبب الولاء يقولون بولاء الإمامة أي أن الإمام يرث من لا وارث له ـ ما عدا الزوجين ـ ومن في حكمه: كالمسلم والمرتد بغير وارث مسلم، والمقتول بغير وارث إلا القاتل، وهكذا. أما بالنسبة للزوجين: اختلف الجعفرية الاثنا عشرية عند انفراد أحدهما: فذهب بعضهم إلى أن الزوج - أو الزوجة - يأخذ نصيبه والباقى للإمام، وذهب آخرون إلى أن الإمام لا يرث وباقى   (1) العاقل دافع الدية. (2) انظر مفتاح الكرامة - كتاب الفرائض: ص 17 - 18، 34 -35، وراجع مفهوم الكفر عند الرافضة في بداية الباب الثانى وفى أكثر من موضع من هذا الكتاب. (3) انظر المرجع السابق: ص 134 - 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1111 التركة يرد على الوارث منهما، وفرق بعضهم بين زمن حضور أئمتهم وزمن الغيبة بالنسبة للزوجة، فقالوا بإرث الإمام الظاهر، وبالرد زمن الغيبة (1) . واتفقوا على أن الإمام الظاهر يأخذ إرثه يصنع به ما شاء، واختلفوا في زمن الغيبة، فقيل: يحفظ للإمام لحين ظهوره، وقيل يصرف على المحتاجين من الجعفرية، وقيل كما ذكرنا في إحياء الموات: إنه ملك لفقهاء الشيعة الاثنى عشرية. وهم متفقون على أن هذا المال لايعطى ـ مع الأمن ـ الحكام الجائرين، أي الحكام من غير الرافضة. سادسا: فى القضاء اتفق الإمامية الرافضة على أن القاضى لابد أن يكون منهم، وأن يكون بإذن الإمام لا بنصب العوام. وفى الغيبة يكون القضاء للفقيه الجعفري الجامع للشرائط (2) سابعا: فى الشهادات لا يقبلون شهادة غير الرافضي، وأشرنا إلى هذا من قبل في الصيام. ثامنا: في الحدود والتعزيرات ذكرنا في الجهاد أن الحدود لا ينفذها إلا الإمام أو من نصبه، وفى زمان الغيبة يقيمها فقهاء الرافضة إذا أمنوا ويجب على الناس مساعدتهم.   (1) انظر نفس المرجع: ص 20-28، 47، 64، 179 - 183، 205 - 212، 267 وانظر النور الساطع 1 / 425 - 427. (2) ذكر الشيخ على كاشف الغطاء: أن من ضرورة المذهب الجعفري أن القضاء من مناصب النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وأئمتهم بالأصالة لكونه من شئون الرياسة العامة والولاية التامة الثابتة لهم، وأن ثبوت هذا المنصب لغيرهم إنما هو من قبلهم وبواسطتهم، وأنهم قد أثبتوه للمجتهد العادل الجامع لشرائط الافتاء. (انظر النور الساطع 1 / 576) . والجعفرية الاثنا عشرية الآن لهم محاكم خاصة بالبلاد التي يكثر عددهم فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1112 ونجد أثر عقيدة الإمامة هنا كذلك في قولهم: من زنى في زمان شريف، أو مكان شريف عوقب زيادة على الحد، فأثر الإمامة في تحديد الأزمنة والأمكنة الشريفة عندهم، وأشرنا إليها من قبل في الحديث عن الطهارة والصلاة، حيث وجدنا الغدير ومراقد الأئمة إلى غير ذلك مما يتصل بعقيدتهم. ولعل أخطر أثر هنا قولهم بقتل من سب أحد أئمتهم وحل دمه لكل سامع إذا أمن (1) . تاسعا: فى القصاص: يقولون: لا يقتل مسلم بكافر، ولسنا في حاجة إلى التذكير بمفهوم الكفر عند الرافضة من الشيعة. عاشراً: فى الديات: يقولون: لا دية لأهل الكفر ما عدا الذمى، ولا تجب الكفارة بقتل الكافر. ويرون أن الإمام ولى دم من لا ولى له. وأن الإمام يأخذ الدية من الأب الذى يقتل ولده عمدا وإذا لم يكن للولد من يرثه. وبعد: فقبل أن ننتهي من كتب الفقه في هذا الباب، أورد هنا بعض ما ذكره عالم النجف المعاصر الشيخ على كاشف الغطاء في الولاية العامة للمجتهد، حيث أنه يكشف عن الاتجاه السائد في الوسط الجعفري في عصرنا، وإن كان كثيراً مما ذكره سبق مجيئه مبثوثاً في هذا الجزء، وسيأتى نظيره عن الخمينى في خاتمة الكتاب .   (1) لا ندرى كيف أباحوا لأنفسهم هذا القتل، وفى الوقت ذاته أباحوا سب الخلفاء الراشدين الثلاثة والصحابة الكرام؟ ! بل وجدنا منهم من يقول ـ والعياذ بالله ـ بأن الله ورسوله وكل نبى مجاب لعنوا الصديق والفاروق لموقفهما من العترة وأحاديث الإمامة ولذا فلا يتصور عقوبة ما لمن سبهما!! (انظر منهاج الشريعة 1/ 112- 113، 293 -294) . غلاة في الجانبين، وأن وجدنا من شيعة اليوم من يستنكر السب، ولكنا لم نجد من يستنكر القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1113 قال كاشف الغطاء: " وقع النزاع بين الفقهاء في أن الولاية المجعوله للفقيه الجامع لشرائط المرجعية هي الولاية الخاصة في موارد مخصوصة: كالرجوع إليه في الفتيا، وقطع الخصومات، وكل مورد قام الدليل على ولاية الفقية فيه، بحيث لو شك في مورد أنه له الولاية فالأصل عدمها. أو أن المجعول للفقيه الولاية العامة، بمعنى أن المجعول له هو الولاية العامة المجعولة للإمام بحيث تكون الولاية ثابتة له في كل مورد إلا إذا قام الدليل على عدمها " (1) . ثم قال: " والحق هو الثانى، وأن الفقيه الجامع للشرائط قد جعل الله له من الولاية ما جعله للإمام، فيثبت للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة المقدار الثابت للإمام: من السلطة الدينية، والسلطة الزمنية، والولاية العامة لأمور الناس، والرياسة المكلفة، والزعامة الشاملة فيما يخص تدبير شئون المسلمين العامة: الداخلية والخارجية، الدينية والدنيوية، وما يرجع لمصالحهم، وما يتوقف عليه نظم البلاد وانتظام العباد ورفع الفساد بالنحو الذى هو ثابت للإمام في الموارد التي يكون للإمام الإذن فيها يكون للفقيه الإذن فيها، وفى الموارد التي يكون للإمام التصرف فيها يكون الفقيه ذلك. والحاصل أنه قد جعل الله تعالى للفقيه الجامع الشرائط في عصر الغيبة الكبرى كل ما جعله تعالى للإمام بما هو إمام يرجع إليه فى شئون تدبير الملة دينا ودنيا، لا بما هو مبلغ لأحكام الله تعالى، فإنه بالصفة الثانية لابد من إظهار المعجزة لصدقه، والعصمة لعدم خطئه، وإزالة حب الدنيا عن نفسه، لرفع التهمة عنه في التبليغ، ولا بما يرجع لتعظيمه واحترامه ومحض إكرامه. وإنما جعل الله تعالى للفقيه كل ما جعله للإمام من حيث رياسته على كافة الأنام، وسلطنته على سائر العباد وإدارته لأمور الملة، وإمامته لقيادة الأمة، لتنفيذ القوانين الدينية، وتدبير الشئون الحيوية.   (1) النور الساطع 1 / 341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1114 والفقهاء عبروا عن هذه الحيثية للإمام بالولاية، وهي التي من آثارها الإفتاء والقضاء، وقبض ما يعود لمصالح المسلمين: كأموال الخراج، والمقاسمة، والأوقاف العامة والنذور، والجزية، والصدقات، ومجهول المالك، واللقطة قبل التعريف، وقبض ما يعود للإمام من الأموال: كحق الإمام والأنفال وإرث من لا وارث له (1) . والتولى للوصايا مع فقد الوصى، وللأوقاف مع فقد المتولى، وحقظ أموال الغائبين واليتامى، والمجانين والسفهاء، والتصرف بما فيه المصلحة لهم حفظاً أو إدارة أو بيعا أو نحو ذلك، وجعل بيت المال، ونصب الولاة على الأمصار والوكلاء والنواب والعمال المعبر عنهم في لسان الفقهاء بالأمناء. وتجنيد الجنود والشرطة: للجهاد، ولحفظ الثغور ومنع التعديات وحماية الدين وإقامة الحدود على المعاصى والتعزيزات على المخالفات وإعاشتهم وتقدير أرزاقهم وتعيين رواتبهم. ونصب القضاء لرفع الخصومات وحمل الناس على مصالحهم الدينية والدنيوية: كمنع الغش والتدليس في المعايش والكاييل والموازين، وكمنع   (1) من الأموال التي ذكر أنها ملك للإمام وأنها تعود للفقيه في زمن الغيبة يصرفها على نفسه وشئونه ما يأتى: المعادن، البحار (في رأي الكليني وغيره، والمشهور عدم عدها من أمواله) ، والأرض التي استولى عليها المسلمون من غير قتال، والأرض الميتة والأرض التي لا مالك لها، ورءوس الجبال، وتبعها ما يكون فيها من حجارة أو شجر أو معدن أو عين ماء ونحو ذلك حتى ولو كانت مملوكة لشخص معين، وبطون الأودية بما فيها، والآجام، وصفو الغنيمة: وهو ما يصطفيه الإمام لنفسه قبل القسمة مما يحب ويشتهي كالجارية الحسناء والسيف القاطع، وما كان في الغنيمة من المال الخالص لسلطان المحاربين، والغنيمة بغير إذن الإمام. انظر النور الساطع 1 / 405 - 432 واقرأ فيه كذلك: الأمور التي للفقيه الولاية عليها في صرفها في مواردها في زمن الغيبة: ص 433 - 470، وتذنيب فيما ذكره الفقهاء للمجتهد من الولايات الخاصة ص 383 - 528. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1115 المضايقات في الطرقات، ومنع أهل الوسائط من تحميلها أكثر من قابليتها، والحكم على المبانى المتداعية بهدمها أو إزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة. وضرب السكة، وإمامة الصلاة، وإجبار الممتنع عن أداء الحقوق الخالقية والمخلوقية وقيامه مقامه في أدائها. وإجبار المحتكر والراهن على الأداء والبيع، وإجبار الشريك على القسمة، وإجبار الممتنع عن حضور مجلس الترافع والخصومة. وتسيير الحج، وتعيين يوم طلوع الأهلة، والجهاد في سبيل الله، وإصلاح الجسور وفتح الطرق وحفر الترع وصنع المستشفيات وسياسة الرعية وإعطاء الراية والعلم واللواء وتقسيم الغنيمة والأمر بالمعروف والنهي عن ... المنكر (1) . هذا ما ذكره العالم الجعفري الإمامي المعاصر، وإذا كان ما جعله لأئمته غير صحيح ـ كما أثبتنا ـ فمن باب أولى أنه لا يثبت لفقهائهم، ولا خلاف بين الجعفرية حول جعل الولاية للأئمة وإنما الخلاف في جعلها للفقهاء (2) ، فالفقهاء من جانبهم حاولوا إثباتها لأنفسهم ليقنعوا شيعتهم، ويبدو أنهم أقنعوهم. وإذ كانت الحكومات تتولى هذه الولاية العامة فلا ضير، لأن الأموال ـ من الخمس وغيره ـ التي استحلها الفقهاء لأنفسهم جاءتهم وفيرة غزيرة، وأعتقد أنه لولا هذه الأموال لما ظل الخلاف قائما بين الجعفرية الرافضة وسائر الأمة الإسلامية إلى هذا الحد، فكثير من فقائهم يحرصون على إذكاء هذا الخلاف حرصهم على هذه الأموال. والله سبحانه وتعالى أعلم، ونسأله عز وجل أن يطيب مطعمنا، ويهدينا الصراط المستقيم.   (1) المرجع السابق 1 / 341 -343. (2) سواء أثبتت الولاية لأئمة الجعفرية أم لم تثبت فهم من آل البيت الأطهار الكرام البررة، أما الفقهاء - في كل عصر ومصر - فمنهم من يعبد الله تعالى، ومنهم من يعبد المال ويتخذ إلهه هواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1116 وسائل الشيعة بعد هذه النظرة وهذا العرض لما جاء في كتب فقه الرافضة تأثراً بعقيدتهم الباطلة في الأحكام نأتى إلى كتاب وسائل الشيعة لنرى ماذا فيه من الأبواب والروايات المفتراة. في كتاب الصيد والذبائح نجد " تحريم ذبائح الكفار من أهل الكتاب وغيرهم سواء سموا عليها أم لم يسموا إلا مع التقية " ـ (16 /282) . و" باب إباحة ذبائح أقسام المسلمين وتحريم ذبيحة الناصب والمرتد إلا للضرورة والتقية ". (16 / 292) . وأبواب في تحريم السمك إذا مات في الماء، أو خارج الماء إلا إذا أدركه الإنسان وهو يتحرك. (انظر ج 16 ص 300: 304) . وفى كتاب الأطعمة والأشربة نجد تحريم السمك الذى ليس له قشور، وأنواع أخرى من السمك. (انظر ج 16 ص 329 وما بعدها) . و" باب تحريم أكل الطين والمدر " (16 / 391) . و" باب عدم تحريم أكل طين قبر الحسين (ع) بقصد الشفاء.." ـ ... (16 / 395) . و" باب عدم جواز إطعام الكافر إلا ما استثنى " ـ (16 / 429) ، وفى هذا الباب نجد قولهم: ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت، لأنك لا تجد أحدا يقول: أنا أبغض محمدا وآل محمد، ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وتبرءون من أعدائنا. ثم قال - عليه السلام -: أي الإمام الصادق: من أشبع عدوا لنا فقد قتل وليا لنا " (16 / 430) . و" باب استحباب اختيار إطعام الشيعة على إطعام غيرهم ". (16 / 478) وفى الباب أن إطعام الشيعى أحب إلى أئمتهم من إطعام مائة ألف من غيرهم. (انظر 16 / 479) . و" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1117 باب استحباب الشرب من ماء الفرات، والاستشفاء به، وتحنيك الأولادبه " (17 / 211) . وفى الباب: " يصب فيه ميزابان من ميازيب الجنة ". " لو كان بيننا وبينه أميال لأتيناه فنستشفى به " " أما إن أهل الكوفة لو حنكوا أولادهم بماء الفرات لكانوا شيعة لنا " " إن ملكا من السماء يهبط في كل ليلة معه ثلاثة مثاقيل مسكا من مسك الجنة فيطرحها في الفرات، وما من نهر في شرق الأرض ولا غربها أعظم بركة منه " (17 / 211 ـ 212) . و" باب الشرب من نيل مصر وماء العقيق وسيحان وجيجان، وكراهة اختيار ماء دجلة وماء بلخ للشرب ". (17 / 214) . وفيه: " نهران مؤمنان ونهران كافران، فالمؤمنان: الفرات ونيل مصر، وأما الكافران: فدجلة وماء بلخ " (17/215) . و" باب استحباب ذكر الحسين - عليه السلام -، ولعن قاتله عند الشرب " (17 /216) . وفى الباب أن من فعل هذا كتب الله عز وجل له مائة ألف حسنة، وحط عنه مائة ألف سيئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنما أعتق مائة ألف نسمة. وفى كتاب الفرائض والمواريث نجد ما يأتى: " باب أن البنت إذا انفردت ورثت المال كله ... ". (17 / 441) و" باب أنه لا يرث الإخوة ولا الأعمام ولا العصبة ولا غيرهم سوى الأبوين والزوجين مع الأولاد شيئا " (17 / 444) . وفى الباب الأول: " ورث على - عليه السلام - علم رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وورثت فاطمة عليها السلام تركته ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1118 وأخبار البابين تدور حول عنوانيهما خلافا لما ثبت عن الرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخذ به الصحابة الكرام ومن جاء بعدهم. " وباب أن الإخوة يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس بشرط كونهم للأبوين أو أب، لا من الأم وحدها ". (17 / 454) . و" باب أنه إذا اجتمع الأعمام والأخوال فللأعمام الثلثان ولو واحدا، ويرثون بالتفاضل، وللأخوال الثلث ولو واحدا بالسوية ". (17 / 504) . وفيه: إن لها الربع، والباقى للإمام. " وباب أن الزوجة إذا لم يكن لها منه ولد لا ترث من العقار والدور والسلاح والدواب شيئا ... ". (17 /517) . والجزء الثامن عشر من وسائل الشيعة يبدأ بكتاب القضاء، وأوله أبواب صفات القاضى وما يقضى به، وهي أربعة عشر بابا، تقع في 153 صفحة. وجلها، إن لم يكن كلها، فيه الغلو والتطرف والضلال مثل الذى رأيناه في عقيدتهم في الإمامة، وذلك لاتصال القضاء بالإمامة. ولا نستطيع هنا أن ننقل هذه الصفحات، ولكن نكتفى بذكر شيىء منها. فالباب الأول هو " باب أنه يشترط فيه الإيمان والعدالة، فلا يجوز الترافع إلى قضاة الجور وحكامهم إلا مع التقية والخوف، ولا يمضى حكمهم وإن وافق الحق ". (ص 2: 5) . وهم يحصرون الإيمان في الرافضة وحدهم دون المسلمين جميعا كما سبق في أكثر من موضع، ولهذا لا يجيزون الترافع إلى غيرهم وهو ما عبروا عنه بقضاة الجور وحكامهم. وفى الباب أكثر من رواية أن من ترافع إلى غيرهم كان ممن حاكم إلى الطاغوت، وبمنزلة من قال الله تعالى فيهم: "" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ "" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1119 والثالث " باب أنه لا يجوز لأحد أن يحكم إلا الإمام أو من يروى حكم الإمام فيحكم به ". (ص 6: 9) . وفيه ينسبون لأمير المؤمنين على كرم الله وجهه أنه قال: إن مجلس القضاء لا يجلسه إلا نبى، أو وصى نبى، أو شقى. ويفترون الكذب كذلك على غيره أيضا، فيروون عن الإمام الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: يغدو الناس على ثلاثة أصناف: عالم، ومتعلم، وغثاء: فنحن العلماء وشيعتنا المتعلمون، وسائر الناس غثاء. وأنه استنكر أن يقضى بقضاء أبى بكر وعمر مع قضاء على، رضي الله تعالى عنهم جميعا ورضوا عنه. والرابع " باب عدم جواز القضاء والإفتاء بغير علم بورود الحكم عن المعصومين عليهم السلام ". (ص 9: 17) . وهنا يستمرون في الافتراء على الأئمة الأبرار، طعنا في الصحابة الكرام الأطهار: فمن المشهور أن زيد بن ثابت - رضي الله تعالى عنه - أعلم الأمة بالفرائض كما شهد له الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رواه الإمام أحمد في مسنده (3 / 184، 281) ، فإذا بالرافضة يفترون الكذب على الإمام الباقر رضي الله عنه، وينسبون له أنه قال: " أشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية ". وفى الباب السادس يفترون روايات تفيد عدم جواز تقليد غير أئمتهم، وبطلان القياس حتى القياس الجلى قياس الأولوية، وعدم حجية الإجماع ما لم يدخل فيه قول الإمام، وعدم الأخذ بظاهر القرآن الكريم وتفسيره إلا ما نسبوه ـ كذبا - إلى أئمتهم. (ص 20: 41) . وقد رأينا من قبل الرزايا والبلايا عند عرض كتب التفسير عندهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1120 والسابع " باب وجوب الرجوع في جميع الأحكام إلى الأئمة المعصومين عليهم السلام ". (ص 41: 52) . وفيه يذكرون تحريم العمل بقول العامة وطريقتهم، أي عامة المسلمين غير الرافضة. والثامن " باب وجوب العمل بأحاديث النبى صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام المنقولة في الكتب المعتمدة وروايتها وصحتها وثبوتها " (ص 52: 75) . والإشارات السابقة لما نقله صاحب كتاب الوسائل من تلك الكتب المعتمدة عندهم تبين مدى ما عليه هؤلاء الرافضة من الضلال، بل الكفر والزندقة، حيث يذهبون إلى تكفير هذه الأمة الوسط خير أمة أخرجت للناس بدءا بخير الناس بعد الرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما، وعن الصحابة الكرام البررة. يا هؤلاء: كيف إذن يكون التقريب؟ ! انظروا إلى ما مضى وما سيأتى! والتاسع " باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة وكيفية العمل بها ". ... (ص 75: 89) . وفى الباب بيان الترجيح عند التعارض، ويكون بالأخذ بإجماعهم ـ أي الرافضة ـ والشهرة بينهم، ومخالفة العامة، أي عامة المسلمين غير الرافضة، ومخالفة المشهور عندهم، والأمر بسؤال علماء العامة عما لا نص فيه، والعمل بخلافهم: (انظروا: بخلافهم) ! . وإلى دعاة التقريب أذكر بعض ما جاء من روايات هذا الباب منسوبة كذبا إلى الأئمة الأطهار: في الرواية الأولي قال الراوى: سألت أبا عبد الله - عليه السلام -: فإن كان الخبران عنكم مشهورين، قد رواهما الثقات عنكم؟ قال: ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1121 فيؤخذ به، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة، ووافق العامة. قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة، والآخر مخالفا لهم، بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامة ففيه الرشاد. فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جمعيا؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل حكامهم وقضاتهم، فيترك ويؤخذ بالآخر ... إلخ. وفي الرواية التاسعة عشرة، وكذلك في الثلاثين، والحادية والثلاثين، وغيرها: دعوا ما وافق القوم، فإن الرشد في خلافهم. وفي الثالثة والعشرين: قلت للرضا - عليه السلام -: يحدث الأمر لا أجد بدا من معرفته، وليس فى البلد الذى أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك؟ فقال: ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإن الحق فيه. وفي الحاشية عقب أحد علمائهم المعاصرين ـ فقال: من جمله نعماء الله على هذه الطائفة المحقة أنة خلى بين الشيطان وبين علماء العامة ليضلهم عن الحق في كل مسألة نظرية، فيكون الأخذ بخلافهم ضابطة للشيعة. وفي الرواية الرابعة والعشرين: قال أبو عبد الله - عليه السلام -: أتدرى لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامة؟ فقلت: لا أدرى. فقال: إن عليا عليه السلام لم يكن يدين الله بدين إلا خالف عليه الأمة إلى غيره إرادة لإبطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين - عليه السلام - عن الشيء الذى لا يعلمونه، فإذا أفتاهم جعلوا له ضدا من عندهم ليلتبسوا على الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1122 وفي الثانية والثلاثين: والله ما جعل الله لأحد خيرة في اتباع غيرنا، وأن من وافقنا خالف عدونا، ومن وافق عدونا في قول أو عمل فليس منا ولا نحن منهم. وفي السادسة والأربعين: قال أبوعبد الله - عليه السلام -: ما سمعته منى يشبه قول الناس فيه التقية، وما سمعت منى لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه. والحادي عشر " باب وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة فيما رووه عن الأئمة عليهم السلام من أحكام الشريعة " (ص 98-111) . والثالث عشر " باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من كلام الأئمة عليهم السلام " (ص129-152) . والرابع عشر " باب عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر كلام النبي ـ صلي الله عليه وآله ـ المروى من غير جهة الأئمة عليهم السلام ما لم يعلم تفسيره منهم " (ص 152- 154) . هذا عرض سريع مختصر جدا، ومنه ومن عناوين الأبواب الأخيرة يتبين لنا أنهم يرون وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى كتبهم في التفسير، وكتب الحديث المعتمدة عندهم، وقد قدمت دراسة وافية لهذه الكتب، وبينت ما فيها من ضلال وكفروزندقة. وهذه الكتب توجب مخالفة الأمة الإسلامية كلها عداهم، لو جعلنا الرافضة من هذه الأمة، واتضح هذا جليا حتى عند التعارض والترجيح وما ليس فيه نص. وإذا كنا نرى وجوب عدم تكفير طائفة تنتسب للإسلام مادامت لم تجمع على الكفر، وعدم تكفير أشخاص بأعيانهم ما لم يتضح كفرهم، إلا أن الأخذ بهذه الكتب المشار إليها يؤدى حتما إلى الكفر. ولذا لا نعجب عندما نجد أمثال الشيخ محب الدين الخطيب ـ رحمه الله ـ يذهبون إلى أن الرافضة لهم دين آخر غير دين الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1123 وفى الحدود التعزيرات نجد ما يأتي: من أبواب حد الزنى: الباب الثاني " باب ثبوت الإحصان الموجب للرجم في الزنى بأن يكون له فرج حرة أو أمة يغدو عليه ويروح بعقد دائم أو ملك يمين مع الدخول. وعدم ثبوت الإحصان بالمتعة " (ص 351: 354) . والثالث " باب عدم ثبوت الإحصان مع وجود الزوجة الغائبة، ولا الحاضرة التي لا يقدر على الوصول إليها، فلا يجب الرجم على أحدهما بالزنى" (ص355: 356) والرابع " باب حد السفر المنافي للإحصان " (ص356: 357) . وفيه: إذا قصر وأفطر فليس بمحصن. والتاسع " باب أن غير البالغ إذا زنى بالبالغة فعليه التعزير وعليها الجلد لا الرجم وإن كانت محصنة، وكذا البالغ مع غير البالغة " (ص362: 363) . والثاني والأربعون " باب أن من أراد أن يتمتع بامرأة فنسى العقد حتى واقعها لم يكن عليه حد " (ص411: 412) . ومن أبواب حد القذف: " باب قتل من سب عليا - عليه السلام -، أو غيره من الأئمة عليهم السلام، ومطلق الناصب مع الأمن " (ص461: 464) . وروايات الباب تنسب للأئمة ـ كذبا ـ أن من سب أحدهم فهو حلال الدم، ولكنها لا تقف عند هذا الحد، بل تضيف جرائم أكبر وأشد خطرا على أمة الإسلام، حيث تبيح دم كل من ليس على ملة الرافضة، وإليك كلامهم ننقله بنصه. في الراوية الخامسة قال أحد رواتهم: " قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: ما تقول في قتل الناصب؟ فقال: حلال الدم، ولكنى أتقى عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1124 حائطا أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل. قلت: فما ترى في ماله؟ قال: نوّه ما قدرت عليه " وفي الرواية السادسة: " إنى سمعت محمد بن بشير يقول: إنك لست موسى ابن جعفرالذى أنت إمامنا وحجتنا فيما بيننا وبين الله؟ فقال ـ أي الإمام: " لعنه الله ـ ثلاثا، أذاقه الله حر الحديد، قتله الله أخبث ما يكون من قتلة. فقلت له: إذا سمعت ذلك منه أوليس حلال لي دمه؟ مباح كما أبيح دم السباب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآله والأمام؟ قال: نعم حل والله، حل والله دمه، وأباحه لك ولمن سمع ذلك منه ... فقلت: أرأيت إذا أنا لم أخف أن أغمر بذلك بريئا ثم لم أفعل ولم اقتله، ما على من الوزر؟ فقال: يكون عليك وزره أضعافا مضاعفة من غير أن ينقص من وزره شيىء ". هذه بعض نصوصهم واضحة جلية في أن مجرد عدم الأخذ بقولهم في الإمامة يبيح دم المسلم، ويوجب قتله، ومن استطاع أن يقتله ولم يفعل كانت جريمته أكبر ممن أحل دمه.. هكذا!! ومن أبواب حد المحارب " باب قتل الدعاة إلى البدع " (ص 542 ـ543) وبالطبع المراد بالبدع ما خالف ضلال الرافضة والذين هم أهل البدع والزندقة، فمن عض بالنواجذ على سنة رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين كما أمر رسول الله ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أصبح عند هولاء الرافضة داعيا إلى البدع حلال الدم. ومن أبواب حد المرتد " باب حكم الزنديق والمنافق والناصب " (ص551-552) . وسبق بيان معنى الناصب عند الرافضة، فهو يشمل الأمة الإسلامية كلها التي لم تضل ضلالهم، ولم تأخذ بقول عبد الله بن سبأ في الوصي بعد النبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1125 وآخر الأبواب " باب جملة مما يثبت به الكفر والارتداد " (ص557-570) وهذا هو أكبر الأبواب، فيه سبع وخمسون رواية، والتفصيل هنا يبين ما سبق الإشارة إليه من أنهم يكفرون غيرهم بدءا من الصحابة الكرام، حملة الإسلام. فالأمة كلها تقول بإمامة الشيخين الصديق والفاروق، رضي الله تعالى عنهما، ولا تقول بإمامه على ـ رضي الله تعالى عنه ـ إلا بعدهما، ولاتقول بخرافاتهم وأوهامهم وضلالاتهم في عقيدة الإمامة، وما تقوله الأمة يثبت به الكفر والارتداد وحل الدم والمال، عند هؤلاء القوم الذين رزئ بهم الإسلام. ولننقل شيئا مما جاء في هذا الباب: في الرواية الثانية نسب لموسى بن جعفر أنه قال عن ابنه على وهو في حجره بأنه الإمام من بعده: "من أطاعه رشد، ومن عصاه كفر ". وفي الثامنة نسب للإ مام الصادق أنه قال بكفر من ادعى إماما ليست إمامته من الله، ومن جحد إماما إمامته من عند الله. وإليه نسب في الحادية عشرة أنه قال: منا الإمام المفروض طاعته، من جحده مات يهوديا أو نصرانيا. وفي الثانية عشرة أنه قال: مدمن الخمر كعابد وثن، والناصب لآل محمد شر منه. إن الله تعالي جعل عليا - عليه السلام - علما بينه وبين خلقه، ليس بينهم وبينه علم غيره: فمن تبعه كان مؤمنا، ومن جحده كان كافرا، ومن شك فيه كان مشركا. وفي الرابعة عشرة: على باب هدى، من خالفه كان كافرا، ومن أنكره دخل النار. وفي الخامسة عشرة: من ادعى الإمامة وليس من أهلها فهو كافر. وفي الثامنة عشرة: الإمام علم فيما بين الله عز وجل وبين خلقه، فمن عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا. والتاسعة عشرة تؤكد المعنى السابق، وتذكر عليا، ومن بعده الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1126 وفى العشرين: من شك فى كفر أعدائنا والظالمين لنا فهو كافر. وفي الحادية والعشرين: لا يرد على علي بن أبي طالب - عليه السلام - أحد ما قال فيه النبي صلى الله عليه وآله إلا كافر. وفي الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين: حبنا إيمان، وبغضنا كفر. وفي الخامسة والعشرين: لما نزلت الولاية لعلى - عليه السلام - قام رجل من جانب الناس فقال: لقد عقد هذا الرسول لهذا الرجل عقدة لا يحلها إلا كافر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا جبرئيل - عليه السلام -. وفي السابعة والعشرين ينسبون للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: الأئمة بعدى اثنا عشر، أولهم على بن أبي طالب، وآخرهم القائم.. المقر بهم مؤمن، والمنكر لهم ... كافر. وفي التاسعة والعشرين: من أبغضنا وردنا أو رد واحدا منا فهو كافر بالله وبآياته. وفي الثلاثين: كفر من قال رؤية الله تعالي بالبصر. وفى الثانية والثلاثين: من المحتوم الذى لا تبديل له عند الله تعالى قيام قائمنا، فمن شك فيما أقول لقى الله وهو به كافر وله جاحد. وفي الثالثة والثلاثين إلى التاسعة والثلاثين نجد تكفير من جحد إماما من أئمتهم، أو ادعى الإمامة من غير الرافضة. وفي الأربعين نجدهم يكفرون إحدى فرق الشيعة التي خالفتهم، مع اشتراكها معهم في سبعة من الأئمة. وفي الثانية والأربعين: من طعن في دينكم هذا فقد كفر. وفي روايات كثيرة بعد هذا نجد تأكيد ما سبق من ربط الإيمان والكفر بقولهم في الإمامة، وما ذكرناه يكفي لبيان حقيقة هؤلاء القوم، ومدى خطرهم على الأمة الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1127 وفي الجزء التاسع عشر من الوسائل نجد القصاص والديات. ومن أبواب القصاص " باب عدم ثبوت القصاص على المؤمن بقتل الناصب وتفسيره " (ص99ـ100) . ومعنى الباب واضح بعد ما سبق من أن مرادهم بالمؤمن من كان من الرافضة فقط، والناصب من كان من غيرهم. وأكدوا هذا المعنى بما كرروه هنا من تفسير الناصب، وهو من نصب للشيعة الرافضة، ومن قدم الجبت والطاغوت واعتقد إمامتهما، وجاء هذا في بيان مفهوم الناصب عندهم الذي تحدثنا عنه من قبل، وتفسير الجبت والطاغوت بخير الناس بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أي بالصديق والفاروق رضي الله تعالي عنهما، ولعن شانئيهم من أمثال هؤلاء الكفرة الزنادقة أتباع ابن سبأ. أي أنهم يعتبرون الأمة كلها التي رضيت بإمامة الشيخين بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يعتبرونها من النواصب الكفار حيث قدمت الجبت والطاغوت، ورضيت بإمامتهما. ومن أبواب الديات " باب دية الناصب إذا قتل بغير إذن الإمام ". (ص 169: 171) . وفي الباب أن ديته شاة تذبح بمنى لأن القتل بغير إذن الإمام، فلو كان بإذن الإمام فلا شيىء على القاتل. وفيه أيضا كيف كان القتل، حيث قال القاتل: منهم من كنت أصعد سطحه بسلم حتى أقتله، ومنهم من دعوته بالليل على بابه فإذا خرج قتلته، ومنهم من كنت أصحبه في الطريق فإذا خلا لى قتلته. ومن الأبواب " باب حكم ضمان الناصب وديته ". (ص204: 205) وهو كسابقه غير أنه جعل الدية هنا كبشا بدلا من الشاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1128 خاتمة الكتاب هذا الكتاب بأجزائه الأربعة يقدم دراسة متكاملة علمية مجردة عن الهوى والتشهي بإذن الله عز وجل، الذى نسأله سبحانه وتعالي أن يجعله في ميزاننا يوم نلقاه. وهذه الدراسة تبين حقيقة الشيعة الاثنى عشرية الرافضة، ففى الجزء الأول تناولنا عقيدتهم، والجزء الثانى يتصل بموقفهم من كتاب الله تعالي، والثالث كان موضوعه الحديث وعلومه وكتبه، وألحقنا به بحثا عن السنة، وهذا الجزء الرابع وهو الأخير ـ تناول الفقه وأصوله. والسؤال الذي يتردد في أيامنا في أوساط المسلمين من غير الرافضة هو: لماذا مثل هذه الدراسة لموضوع أصبح في ذمة التاريخ، وإثارته تؤدى إلى الفرقة بين المسلمين في وقت نحن في أشد الحاجة إلى التعاون والتآزر والتآخى لنقف صفا وأحدا أمام أعداء الإسلام؟ وقد يبدو السؤال وجيها ولكن لا يردده إلا من لا يعرف حقيقة الشيعة الرافضة في عصرنا، ولهذا رأيت أن أبين في خاتمة الكتاب بعد الانتهاء من الدراسة كلها موقف علمائهم المعاصرين، فلو كان الأمر في ذمة التاريخ لما جاز إثارته من جديد، أما إذا كان الغلو والضلال، والدعوة إلى عقيدتهم الباطلة التي تعد هدما للإسلام من أساسه، إذا كان كل هذا هو ما نراه عند الشيعة الرافضة في عصرنا يصبح من فروض الكفاية بيان حقيقة هؤلاء القوم لنحذرهم ونتقى شرهم، ونكون على بصيرة من عوامل الهدم التي يلجئون إليها حتى نتمكن من الدفاع عن ديننا، وليتبين لعامة الشيعة غير الرافضة مدى تضليل علماء الرافضة لهم، تحت شعار حب آل البيت، وآل البيت الأطهار براء منهم. وبنظرة سريعة إلى جانب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1129 وبنظرة سريعة إلى جانب من سيرة آل البيت يتضح بجلاء لأولى الألباب أن الرافضة أعداء آل البيت وإن زعموا كذبا وزورا أنهم أتباعهم وأحباؤهم. انظر مثلا إلى تزويج على بن أبي طالب ابنته عمر بن الخطاب، ودلالة هذا التزويج، وإذا بالرافضة يقولون " ذاك فرج غصبناه " وهذا طعن وتجريح لعلى أكثر منه لعمر! ولا شك أن الإنسان يختار أحب الأسماء إلى نفسه عند تسمية أولاده، وهذا أمر فطرى ليس موضوع جدل، وإذا رجعنا إلى أسماء آل البيت وجدنا من أبناء على ابن أبي طالب أبو بكر وعمر وعثمان، ومن أحفاده أبو بكر وعمر ابني الحسن، وعمر بن الحسين، وعمر بن على بن الحسين. ... فماذا يقول الرافضة في عصرنا؟ أهم أتباع آل البيت وأحباؤه أم أعداؤه وشانئوه؟ إذا كان بيان حقيقة الشيعة الرافضة فرض كفاية فقد يصبح فرض عين على بعض الشيعة من العلماء غير الرافضة. وما حقيقة الشيعة الاثنى عشرية في عصرنا؟ أهم من معتدلي الشيعة أم من غلاة الرافضة؟ فلننظر إلى كبار علمائهم الذين بلغوا مرتبة " المرجع الأعلى " وتولوا توجيه الشيعة في عصرنا، وإلي غيرهم من علمائهم البارزين. الحكيم والخوئي والخميني: كان السيد محسن الحكيم المرجع الديني الأعلى للشيعة في العراق، وجاء بعده السيد أبو القاسم الخوئى. أما الخميني فقصته معروفة. هؤلاء الثلاثة الذين وجهوا الشيعة الاثنى عشرية في عصرنا ما دورهم الذى قاموا به؟ أجعلوا الرفض مسألة تاريخية، وحاربوا الغلو والتطرف والضلال الذى رأينا منه شيئا في الدراسة التي قدمناها في هذه الأجزاء الأربعة، ودعوا أتباعهم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1130 الصراط المستقيم، أم أنهم ظلوا في طريق الضلال نفسه، ودعوا أتباعهم ليتبعوا سبيلهم؟ هذا ما نبينه في هذه الخاتمة ليحيا من حي عن بينه ويهلك من هلك عن بينة، وليتضح لكل مسلم أن هذا الكتاب ليس دارسة لموضوع أصبح في ذمة التاريخ، فما أكثر دعاته في عصرنا الذين يسلكون شتى الطرق لاحياء دعوة ابن سبأ، وما تصدير الثورة الذى نادى به الخميني وسعى إليه إلا إحياء لهذه الدعوة، ونشاطهم في أنحاء العالم معلوم ملحوظ، يخدعون المسلمين بزعمهم الكاذب بأنهم أتباع أهل البيت الأطهار، ويستغلون حاجتهم، ويغرون بالمال والنساء عن طريق ما يسمى زواج المتعة. على كل حال لننظر إلى جهود وفكر الثلاثة الكبار الذين وجهوا الشيعة في عصرنا، وإلى غيرهم من علمائهم البارزين. دعاء صنمي قريش: سبق ذكر ما جاء متواترا عن على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ من أن خير الناس بعد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو أبو بكر، ثم عمر، ورأينا ما يبين مدى حب علىّ للخلفاء الراشدين الثلاثة الذي سبقوه، مما يثبت بجلاء أن الرافضة أعداء آل البيت خلافا لزعمهم الكاذب. فما موقف علمائهم المعاصرين، أتأسوا بعلي والحسن والحسين أم ظلوا في طريق الضلال والزندقة. من الدعاء المشهور عند الرافضة ما يسمى بدعاء صنمي قريش، ويقصد هؤلاء الزنادقة بالصنمين الشيخين أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله تعالي عنهما وأخزى أعداءهما: في الجزء الثاني من هذا الكتاب (ص235-241) تحدثنا عن كتاب بحار الأنوار للمجلسى، ونقلنا تكفيره لغير الرافضة، وتخصيصه بابا كاملا للخلفاء الراشدين الثلاثة جعل عنوانه " باب كفر الثلاثة ونفاقهم وفضائح أعمالهم " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1131 مثل هذا السبئى الزنديق لا نعجب عندما يذكر دعاء صنمي قريش ويشرحه، ويفترى الكذب على أهل البيت الأطهار حيث يروى عن ابن عباس أن على بن أبي طالب كان يقنت به، وقال: أن الداعي به كالرامى مع النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بدر وأحد وحنين بألف ألف سهم. والدعاء لا يقف عند الشيخين بل يذكر ابنتيهما: أي أم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين حفصة رضي الله تعالى عنهما، بل يذكر أنصارهما ويشمل أمة الإسلام كلها التي أحبت الشيخين، واقتدت بهما امتثالا لأمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما أخرجه أحمد والترمذى وابن ماجه والطبرانى: " اقتدوا باللذين من بعدى أبي بكر وعمر " (انظر كشف الخفاء 1/160) . وما جاء في الحديث الصحيح المشهور " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ " (انظر تخريجه للشيخ الألباني في صحيح ابن ماجه: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين) وفي الجزء السابق مر قول الكليني في روضة الكافي بأن الشيخين كافران منافقان وأنهما صنما هذه الأمة. وإليك نص دعاء هؤلاء الزنادقة الفجرة من الرافضة: نص دعاء صنمى قريش اللهم العن صنمي قريش وجبتيها وطاغوتيها وإفكيها، وابنتيهما، اللذين خالفا أمرك وأنكرا وحيك، وجحدا إنعامك، وعصيا رسولك، وقلبا دينك، وحرفا كتابك، وعطلا أحكامك، وأبطلا فرائضك، وألحدا في آياتك، وعاديا أولياءك وواليا أعداءك، وخربا بلادك وأفسدا عبادك. اللهم العنهما وأنصارهما فقد أخربا بيت النبوة، وردما بابه، ونقضا سقفه، وألحقا سماءه بأرضه، وعاليه بسافله، وظاهره بباطنه، استأصلا أهله، وأبادا أنصاره وقتلا أطفاله، وأخليا منبره من وصيه ووارثه، وجحدا نبوته، وأشركا بربهما، فعظم ذنبهما وخلدهما في سقر وما أدارك ما سقر؟ لا تبقي ولا تذر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1132 اللهم العنهما بعدد كل منكر أتوه، وحق أخفوه، ومنبر علوه، ومنافق ولوه، ومؤمن أرجوه، وولي آذوه، وطريد آووه، وصادق طردوه، وكافر نصروه، وإمام قهروه، وفرض غيروه، وأثر أنكروه، وشر أضمروه، ودم أراقوه، وخبر بدلوه، وحكم قلبوه، وكفر أبدعوه، وكذب دلسوه، وإرث غصبوه، وفىء اقتطعوه، وسحت أكلوه، وخمس استحلوه، وباطل أسسوه، وجور بسطوه، وظلم نشروه، ووعد أخلفوه، وعهد نقضوه، وحلال حرموه، وحرام حللوه، ونفاق أسروه، وغدر أضمروه، وبطن فتقوه، وضلع كسروه، وصك مزقوه، وشمل بددوه، وذليل أعزوه، وعزيز أذلوه، وحق منعوه، وإمام خالفوه. اللهم العنهما بكل آية حرفوها، وفريضة تركوها، وسنة غيروها، وأحكام عطلوها، وأرحام قطعوها، وشهادات كتموها، ووصية ضيعوها، وأيمان نكثوها، ودعوى أبطلوها وبينة أنكروها، وحيلة أحدثوها، وخيانة أوردوها، وعقبة ارتقوها، وأزياف لزموها، وأمانة خانوها. اللهم العنهما في مكنون السر وظاهر العلانية لعنا كثيرا دائبا أبدا دائما سر مدا لاانقطاع لأمده، ولانفاذ لعدده، يغدو أوله ولا يروح آخره، لهم ولأعوانهم وأنصارهم ومحبيهم ومواليهم والمسلمين لهم، والمائلين إليهم والناهضين بأجنحتهم والمقتدين بكلامهم، والمصدقين بأحكامهم. ثم يقول: اللهم عذبهم عذابا يستغيث منه أهل النار آمين رب العالمين، أربع مرات، ودعا - عليه السلام - في قنوته: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، واقنعني بحلالك عن حرامك وأعذني من الفقر، إنى أسأت وظلمت نفسي، واعترفت بذنوبي، فها أنا واقف بين يديك، فخذ لنفسك رضاها من نفسي، لك العتبى لا أعود، فإن عدت فعد على بالمغفرة والعفو، ثم قال - عليه السلام -: العفو والعفو مائه مرة، ثم قال: أستغفر الله العظيم من ظلمي وجرمي وإسرافي على نفسي وأتوب إليه، مائة مرة، فلما فرغ عليه السلام من الاستغفار ركع وسجد وتشهد وسلم " ا. هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1133 انتهي نص دعاء صنمي قريش الذي وضعه أعداء الله تعالي من الزنادقة أتباع عبد الله بن سبأ لعنهم الله لعنا كبيرا ونحن نلعنهم هنا اتباعا لسنة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما روى ذلك شيعي غير رافضي وهو الحاكم في مستدركه (3/632) ، بسنده عن الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: ... " إن الله تبارك وتعالي اختارني، واختار لي أصحابا، فجعل لي منهم وزراء وأنصارا وأصهارا. فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل " قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وما ذكره المجلسى وغيره من شرح لهذا الدعاء الفاجر طويل، ونحن في غنى عنه، فبعض ما جاء في نص الدعاء يكفى لبيان حقيقة هؤلاء الرافضة. وبعد هذا نأتي إلي موضوعنا. أوقف هذا الدعاء عند المجلسى المتوفى سنة 1111 هـ ومن سبقه من زنادقة الرافضة أم استمر الأخذ به بعدهم إلي عصرنا؟ وما موقف الحكيم والخوئي والخميني من هذا الدعاء؟ (1) نجد نص الدعاء باللغة العربية في كتاب باللغة الأردية عنوانه " تحفة العوام مقبول "والكتاب مطابق لفتاوى الثلاثة وثلاثة آخرين مذكورين. وإليك صورة لصدر الكتاب، وفيه أسماء الستة الذين طابق الكتاب فتواهم، وصورة الدعاء بالنص العربي، وهو يثبت بجلاء ووضوح أن رافضة العصر كرافضة القرون السابقة منذ دعوة عبد الله بن سبأ.   (1) ذكر الدعاء السيد حسين الموسوى العالم الشيعى، ثم قال: هذا دعاء منصوص عليه فى الكتب المعتبرة، وكان الإمام الخمينى يقوله بعد صلاة صبح كل يوم. ... (راجع كشف الأسرار ص 93) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1134 وقد يكون هذا الدعاء كافيا لاثبات أن موضوع كتابنا ليس مسألة تاريخية، وأن دعوة الرفض السبئية مستمرة، غير أننا لانكتفي بهذا بل نذكر المزيد لتأكيد هذا المعنى. في هذا الجزء الأخير من الكتاب نقلت بعض آراء محسن الحكيم من كتابه " مستمسك العروة الوثقى "، وهي تبين أنه يرى كغيره من الرافضة أن الأمة الإسلامية كلها ـ ماعداهم ـ عبادتهم كلها باطلة، فلا تصح صلاتهم ولا صيامهم ولا زكاتهم ولا حجهم، واعتكافهم ليس باطلا فقط، بل لايحل مكثهم في المسجد باعتبارهم كفارا وآراء هذا الرافضي نقلت نصها من كتابه مع ذكر الجزء والصفحه. هذا محسن الحكيم، ونأتي إلى الخوئى فنرى العجب الغريب! وبيان موقفه يحتاج إلى وقفه طويلة، وأشرت إلى شيىء منه في الجزء الثاني من هذا الكتاب: ففي (ص275-276) : تحدثت عن تفسيره المسمى " البيان "، وذكرت أنه يمثل جانب الاعتدال، والبعد عن الغلو، حيث إن الخوئي أسهب وأفاض في إثبات صيانة القرآن الكريم من التحريف، وهو لا يكفر المخالفين، بل يرى ويروى أن الإسلام يدور مدار الإقرار بالشهادتين، وأفاض كذلك في الحديث عن حجية ظواهر القرآن وفي صفحات أخرى نقلت ما يناقض أقواله في تفسيره. ففي كتابه معجم رجال الحديث (1/3: 64) ذهب إلي صحة تفسير على بن إبراهيم القمي، وقال بأن روايات الكتاب " ثابتة وصادرة من المعصومين عليهم السلام، وأنها انتهت إلية بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة ". وتفسير القمي قدمت دارسة عنه في (ص175: 200) في الجزء الثاني نفسه، وفيه من البلايا والرزايا ما يبين كفر من يعتقد ما جاء فيه، وما يتعارض كل التعارض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1138 مع ما قاله الخوئي في تفسيره، حيث يقول بتحريف القرآن الكريم نصا ومعنى، فلا يأخذ بظواهره، ويطعن في الصحابة الكرام ويكفرهم. فكيف نجمع بين ما قاله الخوئي في تفسيره، وبين توثيقه لكل ما جاء في تفسير القمي وتوثيقه لدعاء صنمي قريش؟ ! ويقول الخوئي في تفسيره (ص225) : " القول بعدم التحريف هو المشهور، بل المتسالم عليه بين علماء الشيعة ومحققيهم "! فكيف نجمع بين هذا أيضا وبين قوله في القمي وتفسيره؟ ! وبينه وبين القول بالتحريف الذي ذهب إليه معظم علمائهم غير القمي كالعياشى والكليني والنعمانى والمجلسى وغيرهم؟ ! ولم ينكر التحريف منهم إلا القلة النادرة! وأشهر من قال بعدم التحريف من علمائهم القدامى محمد بن بابوية القمي الملقب بالصدوق المتوفى سنه 381 هـ، ومع هذا نراه في كتابه " معاني الأخبار " يحرف القرآن الكريم نصا ومعنى: ففي قول الله تعالى في سورة البقرة (210) : " هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ " يحرفه بقوله: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام "" هكذا نزلت (ص 13) . وفي سورة النور (35) : "" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ "" يقول ابن بابوية القمي: الزجاجة كأنه كوكب درى وبعد تحريف النص يأتي إلي تحريف المعنى فيجعل المراد هنا على بن أبي طالب: (انظر ص 15) . وتحريف المعنى لاتسل عنه ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍: فهو كالقمي والعياشى والكليني وغيرهم من زنادقة الرافضة الضالين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1139 وإليك بعض النماذج: يروى المؤلف في معنى بسم الله الرحمن الرحيم: بسم: الباء بهاء الله، والسين سناء الله، والميم ملك الله. الله: الألف: آلاء الله على خلقه من النعم بولايتنا، واللام: إلزام الله خلقه ولايتنا، والهاء: هوان لمن خالف محمدا وآل محمد صلوات الله عليهم. (انظر ص 3) وفي باب آخر: معنى قول القائل " بسم الله ": أي اسم علىّ نفسي سمة من سمات الله عز وجل وهي العبادة. (ص3) وفي ص13: كل شئ هالك إلا وجهه: قال الإمام الصادق: نحن. وفي ص16: إن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم القيامة آخذ بحجزة الله، ونحن آخذون بحجزة نبينا، وشيعتنا آخذون بحجزتنا، والحجزة النور.. إن لله عز وجل خلقا خلقهم من نوره، ورحمة من رحمته لرحمته وهم الأوصياء - يقصد هذا الرافضي الأئمة الاثنى عشر ـ فهم عين الله الناظرة، وأذنه السامعة، ولسانه الناطق في خلقه بإذنه، وأمناؤه على ما أنزل من عذر أو نذر أو حجة، فبهم يمحو الله السيئات، وبهم يدفع الضيم، وبهم ينزل الرحمة، وبهم يحيي ميتا ويميت حيا.. إلخ وأنا حبل الله المتين، وأنا عروة الله الوثقى، وكلمة الله التقوى، وأنا عين الله، ولسانه الصادق، ويده، وأنا جنب الله الذي يقول: " أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّه ِ" وأنا يد الله المبسوطة على عباده بالرحمة والمغفرة، وأنا باب حطة، من عرفني وعرف حقي فقد عرف ربه، لأني وصى نبيه في أرضه، وحجته على خلقه، لا ينكر هذا إلا راد على الله وعلى رسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1140 وبعد أن انتهي من معاني ألفاظ وردت في التوحيد، انتقل إلى بيان معنى رضا الله وسخطه، فقال في ص 19: إن الله تعالى لا يأسف كأسفنا، ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون، فجعل رضاهم لنفسه رضا، وسخطهم لنفسه سخطا.. إلخ. وفي ص23: " ألم ": هو حرف من حروف اسم الله الأعظم، المقطع في القرآن، الذي يؤلفه النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والإمام فإذا دعا به أجيب. " ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ " بيان لشيعتنا. " الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ": مما علمناهم ينبئون، ومما علمناهم من القرآن يتلون. وفي ص52 يكذب على الإمام الصادق أنه قال في معنى " ألم " ما يأتى: " الألف " حرف من حروف قول الله، دل بالألف على قولك الله، ودل باللام على قولك المالك العظيم القاهر للخلق أجمعين، ودل بالميم على أنه المجيد المحمود في كل أفعاله، وجعل هذا القول حجة على اليهود، وذلك أن الله لما بعث موسى بن عمران ثم من بعده من الأنبياء إلى بنى إسرائيل لم يكن فيهم أحد إلا أخذوا عليهم العهود والمواثيق ليؤمنن بمحمد العربي الأمي المبعوث بمكة الذى يهاجر إلى المدينة، يأتي بكتاب من الحروف المقطعة فى افتتاح بعض سوره، يحفظه أمته فيقرءونه قياما وقعودا ومشاة وعلى كل الأحوال، يسهل الله عز وجل حفظه عليهم، ويقرنون بمحمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخاه ووصيه على بن أبي طالب - عليه السلام - الآخذ عنه علومه التي علمها، والمتقلد عنه الأمانة التي قدرها، ومذلل كل من عاندمحمدا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسيفه الباتر، ويفحم كل من جادله وخاصمه بدليله الظاهر، يقاتل عباد الله على تنزيل كتاب الله حتى يقودهم إلي قبوله طائعين وكارهين، ثم إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1141 صار محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلي رضوان الله عز وجل، وارتد كثير ممن كان أعطاه ظاهر الإيمان، وحرفوا تأويلاته وغيروا معانيه، ووضعوها على خلاف وجوهها قاتلهم ـ أي على بن أبي طالب ـ بعد ذلك على تأويله وفي معنى الحروف المقطعة يقول في " ألم " أيضا: إن على بن أبي طالب اختلف مع اليهود في معناها، فقال اليهود: مالنا حجة فيما نقول، ولا لكم حجة فيما تقولون، فقال على: لاسواء إن لنا حجة هي المعجزة الباهرة، ثم نادى جمال اليهود: يأيتها الجمال اشهدى لمحمد ولوصيه. فتبادر الجمال: صدقت صدقت، يا وصى محمد وكذب هؤلاء اليهود، فقال على: هؤلاء جنس من الشهود، يا ثياب اليهود التي عليهم: اشهدى لمحمد ولوصيه. فنطقت ثيابهم كلها: صدقت صدقت يا على نشهد أن محمدا رسول الله حقا، وأنك يا على وصيه حقا، لم يثبت محمدا قدما في مكرمة إلا وطأت على موضوع قدمه بمثل مكرمته، وأنتما شقيقان من إشراق أنوار الله فميزتما اثنين وأنتما في الفضائل شريكان إلا أنه لا نبي بعد محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!! فعند ذلك خرست اليهود وآمن بعض النظارة منهم برسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فغلب الشقاء على اليهود وسائر النظارة الآخرين، فذلك ما قال الله: " لاريب فيه " أنه كما قال محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووصى محمد عن قول محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قول رب العالمين، ثم قال " هدى " بيان وشفاء " للمتقين " من شيعة محمد وعلى، أنهم اتقوا أنواع الكفر فتركوها، واتقوا الذنوب الموبقات فرفضوها، واتقوا إظهار أسرار الله سبحانه وأسرار أزكياء عباده الأوصياء بعد محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكتموها وفي ص 28 عن " كهيعص ": " كاف ": كاف لشيعتنا، " ها " هادى: لهم، " يا ": ولي لهم، " عين " عالم بأهل طاعتنا، " صاد " صادق لهم وعْدَهم حتى يبلغ بهم المنزلة التي وعدها إياهم في بطن القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1142 هذا بعض ما جاء في بداية كتابه، ولسنا في حاجة للسير مع هذا الرافضي إلي نهاية كتابه، فبعض هذه النماذج فيه غنى وكفاية، وإن كان الكتاب أقل ضلالا وزندقة من كتاب الكافي للكلينى وتفسير على بن إبراهيم ألقمي، وتفسير العياشى وأمثالها من كتب الكفر والزندقة. وبعد: فهذا هو المفترى الكذاب الملقب عند الرافضة بالصدوق، أشهر علمائهم القدامى الذين نفوا القول بالتحريف، وأنكروا نسبة هذا إلي فرقتهم. ويأتي الخوئي في عصرنا لينكر نسبة القول بالتحريف إلي فرقته، ثم في جرأة عجيبة يقول في تفسيره (ص244) : " القول بالتحريف هو مذهب أكثر علماء أهل السنة "!! إذن ليس الهدف هو صيانة كتاب الله تعالي وإنما الهدف هو تبرئة الشيعة الرافضة من هذه الجريمة النكراء!! وزاد الخوئي إلصاقها بجمهور المسلمين!! (راجع موضوع القرآن الكريم والتحريف في الجزء الثاني من هذا الكتاب ص151 وما بعدها، واقرأ مناقشتنا لهراء الخوئى ص160، 161) . فالخوئي أمره عجيب غريب، فتراه مرة يرتدى ثياب الاعتدال والبعد عن الغلو والزندقة، ومرات على خلاف ذلك تماما! ولمزيد من التوضيح نكرر النظر في كتابه معجم رجال الحديث. في ترجمه عبد الله بن سبأ نقل قول الكشى: " ذكر بعض أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم، ووالي عليا - عليه السلام -، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصى موسى بالغلو، فقال فى إسلامه بعد وفاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في على - عليه السلام - مثل ذلك، وكان أول من شهر القول بفرض إمامة على، وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه وأكفرهم، فمن ها هنا قال من خالف الشيعة: أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهودية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1143 وعقب الخوئى على ذلك بقوله (11/207) : " بطلان من خالف الشيعه واضح وناشئ من العصبية العمياء، فإن أصل التشيع والرفض مأخوذ من الله عز وجل حيث قال سبحانه "" إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ "" والرسول الأعظم صلوات الله عليه ... " فالخوئى هنا لم يكرر قول الغلاة بأن التشيع مأخوذ من الكتاب والسنة، وإنما زاد وسلك مسلك أشدهم غلوا وضلالا فأضاف إلي التشيع الرفض، وقوله في الرفض هنا يتسق مع قوله بدعاء صنمي قريش، وبتوثيقه لتفسير القمي وجميع رواياته. ونرى الضلال والزندقة بوضوح في ترجمة الخوئي لمحمد بن أبي بكر الصديق، حيث ذكر ست روايات مفتريا الكذب على الإمامين الطاهرين الباقر والصادق: ففي الرواية الأولي عن الصادق: " أتته النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس ". وعنه في الثالثة أن محمد بن أبي بكر قال في بيعته لعلى بن أبي طالب " أشهد أنك إمام مفترض طاعتك، وأن أبى فى النار " فقال أبو عبد الله: " كان النجابة من قبل أمه أسماء بنت عميس رحمة الله عليها، لامن قبل أبيه ". وعنه أيضا في السادسة: " ما من أهل بيت إلا ومنهم نجيب من أنفسهم، وأنجب النجباء من أهل بيت سوء منهم: محمد بن أبى بكر ". وعن الإمام الباقر في الرواية الرابعة: " محمد بن أبي بكر بايع عليا - عليه السلام - على البراءة من أبيه "، وفي الخامسة " على البراءة من الثاني ". أي الخليفة عمر. وقال الخوئى: " هذه الروايات وإن كان بعضها ضعيف السند، إلا أن في الصحيح منها كفاية ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1144 أيها الخوئى: إذا كان أبو بكر في النار فهل الجنة لابن سبأ وأتباعه من زنادقة الرافضة؟ ! أليس من يعتقد هذا يعتبر كافرا زنديقا؟ ألا يكفى هذا لبيان ضلال الخوئى وزندقته؟ فكيف نجمع بين هذا وبين قوله في تفسيره؟ على كل حال فلنستمر في النظر في كتابه معجم رجال الحديث، فمن تراجمه: عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي: قال الخوئى: مر عمر بعلي بن الحسين فقال: لن يموت هذا الفاسق حتى يلى الناس، ولا يلبث فيهم إلا يسيرا حتى يموت، فإذا مات لعنه أهل السماء، واستغفر له أهل الأرض!! (نقله الخوئى من بصائر الدرجات: باب أن الأئمة عندهم الكتب التي فيها أسماء الملوك الذين يملكون، ولم يذكر أي تعقيب) خالد بن الوليد: قال الخوئى: مخازيه مشهورة في كتب الفريقين، منها أنه أمر بقتل على - عليه السلام -، لكن أبا بكر ندم، فنهاه عن ذلك!! وفي طلحة بن عبيد الله قال الخوئى: مرعلى - عليه السلام - على طلحة بعد قتله فأمر بإجلاسه ثم قال: ياطلحة قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فهل وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ! وفي عبد الله بن عمر قال: مات منكوثا؟ ! وفي عمرو بن العاص قال: هو الذى قال: إني لأشنأ محمدا فنزل "" إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ""!! وإن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن عمرو بن العاص!! وفي سفينة البحار عدة من مخازى هذا الخبيث الفاجر، وهو من هجاه الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1145 هذا هو موقف الخوئى من الصحابة الكرام البررة، ومفترياته وأكاذبيه الفاجرة المنكرة. وما جاء في كتابه في الرجال، وتكرر في مواضع كثيرة ذكرنا بعضها، ويؤكده قوله في تفسير القمي، إضافة لتوثيقه لدعاء صنمي قريش، كل هذا يؤكد بما لا يحتاج إلى مزيد من البيان أن غلو الرافضة، وضلالهم وزندقتهم، وسيرهم على خطا ابن سبأ، وكل هذا ليس في ذمة التاريخ بل لايزال هذا التيار مستمرا متدفقا، فموضوع كتابنا هذا إذن موضوع قديم جديد. الخميني وننتقل من الحديث عن الخوئى إلي الخميني الذى غطى على غيره في عصرنا، حيث قام بثورة شيعية كان لها آثارها في داخل إيران وخارجها، ووضع المال والسلاح لتصدير الثورة، أي الدعوة لاعتناق عقيدة الشيعة الرافضة، وهو ثالث الذين وثقوا دعاء صنمي قريش، وما كتبه يتفق مع هذا التوثيق: ففي كتابه " الحكومة الإسلامية " (ص52-35) يقول تحت عنوان الولاية التكوينية " وثبوت الولاية والحاكمية للإمام (ع) لا تعنى تجرده عن منزلته التى هي له عند الله، ولا تجعله مثل من عداه من الحكام. فإن للإمام مقاما محمودا ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون. وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل. وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول الأعظم (ص) والأئمة (ع) كانوا قبل هذا العالم أنوارا فجعلهم الله بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفي مالا يعلمه إلا الله. وقد قال جبرئيل ـ كما ورد في روايات المعراج ـ: لو دنوت أنملة لاحترقت. وقد ورد عنهم (ع) : إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل. ومثل هذه المنزلة موجودة لفاطمة الزهراء عليها السلام لا بمعنى أنها خليفة أو حاكمه أو قاضيه، فهذه المنزلة شيىء آخر وراء الولاية والخلافة والإمرة، وحين نقول: أن فاطمة (ع) لم تكن قاضية أو حاكمة أو خليفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1146 فليس يعنى ذلك تجردها عن تلك المنزلة المقربة، كما لايعنى ذلك أنها امرأة عادية من أمثال ما عندنا ". ا. هـ والخميني هنا وقد بلغ ذروة الضلال يبين أن هذا هو واقع الرافضة الذي لاينفك عنهم كقوله: " من ضروريات مذهبنا " وقوله: " وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث " وفي ص78-79 يقول: " حجة الله تعنى أن الإمام مرجع للناس في جميع الأمور، والله قد عينه، وأناط به كل تصرف وتدبير من شأنه أن ينفع الناس ويسعدهم، وكذلك الفقهاء، فهم مراجع الأمة وقادتها. فحجة الله هو الذي عينه الله للقيام بأمور المسلمين، فتكون أفعاله وأقواله حجة على المسلمين، يجب إنفاذها ولا يسمح بالتخلف عنها، في إقامة الحدود، وجباية الخمس والزكاة والخراج والغنائم وإنفاقها، وذلك يعنى أنكم إذا راجعتم ـ مع وجود الحجة ـ حكام الجور فأنتم محاسبون على ذلك ومعاقبون عليه يوم القيامة. فالله ـ سبحانه ـ يحتج بأمير المؤمنين (ع) على الذين خرجوا عليه، وخالفوا عن أمره، كما يحتج على معاوية وحكام بنى أمية وبنى العباس وأعوانهم ومساعديهم، بما غصبوه من الحق، بما اشغلوه من المنصب الذي ليسوا له بأهل ". ا. هـ ويقول في ص 80: " فالفقهاء اليوم هم الحجة على الناس، كما كان الرسول (ص) حجة الله عليهم، وكل ما كان يناط بالنبي (ص) فقد أناطه الأئمة بالفقهاء من بعدهم، فهم المرجع في جميع الأمور والمشكلات والمعضلات، وإليهم قد فوضت الحكومة وولاية الناس وسياستهم والجبابة والإنفاق، وكل من يتخلف عن طاعتهم، فإن الله يؤاخذه ويحاسبه على ذلك " ا. هـ في الجزء الأول من هذا الكتاب بينت عقيدة الإمامة عند الاثنى عشرية وذكرت أنهم يجعلون أئمتهم كالرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ في العصمة ووجوب الاتباع كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1147 أمر الله عز وجل. والخمينى هنا يخطو خطوة أشد ضلالا وبعدا عن الإسلام حيث جعل فقهاء الرافضة أيضا كالرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سواء بسواء!! ويجعل الخلفاء الراشدين الثلاثة - ومن باب أولي غيرهم ـ حكام جور، غصبوا الحق، وشغلوا منصبا ليسوا له بأهل، وهذا يتفق مع زندقة الخمينى وضلاله الذي رأيناه في دعاء صنمي قريش. ثم هو يجعل خير أمة أخرجت للناس، وخير جيل عرفته البشرية في تاريخها، وهو جيل الصحابة الكرام الذين اقتدوا بسنة الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، جعل هذا الجيل المثالي محاسبا معاقبا مخالفا أمر الله عز وجل بسبب هذا الاقتداء، وعدم الأخذ بما نادى به ابن سبأ. وبعد هذا الضلال يأتي إلي كتاب الله تعالي ليحرفه تأييدا لضلاله، فيذكر قول الله عز وجل في سورة النساء (58) : "" إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا"" فيقول في ص 18: " أمر الله الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برد الأمانة ـ أي الإمامة ـ إلى أهلها، وهو أمير المؤمنين (ع) وعليه هو أن يردها إلي من يليه، وهكذا ". ونستمر مع الخمينى فى كتابه الحكومة الإسلامية لنصل إلي ص 128 فنجد ما يبين مدى عداء الخمينى للإسلام والمسلمين: فالخواجة نصير الدين الطوسى اتصل بهولاكو، وأصبح مقربا عنده، وأشار عليه بقتل المستعصم، وذبح المسلمين ببغداد. وفي الفصل الرابع من الجزء الأول نقلت حديث ابن القيم عنه حيث قال: إنه نصير الشرك والكفر الملحد، وزير الملاحدة، شفي إخوانه من الملا حدة، واشتفى هو، فقتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين ثم قال: وبالجملة فكان هذا الملحد هو وأتباعه من الملحدين الكافرين بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1148 وقال أيضاً: وكان هؤلاء زنادقة، يتسترون بالرفض، ويبطنون الإلحاد المحض، وينتسبون إلي أهل بيت الرسول ـ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ـ وهو وأهل بيته براء منهم نسبا ودينا، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان، ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، لا يحرمون حراما، ولا يحلون حلالا ". (انظر إغاثة اللهفان ص 260، 601) ومن تلامذة هذا الملحد ابن المطهر الحلي، الملقب عند الرافضة بالعلامة، وهو الذي ذهب إلي تكفير الصحابة الكرام، وصاحب كتاب " منهاج الكرامة " الذي أبطله شيخ الإسلام ابن تيميه بكتاب " منهاج السنة " وبين ما فيه من ضلال وزندقة، وبينت هذا بشيء من التفصيل في الفصل الرابع من الجزء الأول. وهو صاحب القواعد التي شرحها العاملي في كتاب " مفتاح الكرامة شرح قواعد العلامة "، الذى نقلنا عنه فى أكثر من موضع في هذا الجزء قوله بكفر الصحابة الكرام البررة، بل قال بأنهم كافرون قطعا!! ولم يستثن منهم إلا القليل النادر، أو قل بضعة نفر يذكرونهم بأسمائهم. هذان الزنديقان ... ما موقف الخمينى منهما؟ في ص128 من كتابه الحكومة الإ سلامية نرى الخمينى يقف مع الخواجه فرحا بمذابح أولئك المسلمين على أيدي الكفار، ويترحم على عدو الله سبحانه ويتحسر على فقدانه هو وأضرابه فيقول بعد أن ذكر ما يحدث بفقد الإمام الحسين والأئمة من بعده: " ويشعر الناس بالخسارة أيضا بفقدان الخواجة نصير الدين الطوسى، والعلامة، وأضرابهم ممن قدم خدمات جليلة للإسلام "!! فالخدمات الجليلة عند الخمينى هي قتل المسلمين وعلمائهم على أيدي التتار! وتأليف الكتب في تكفير الصحابة وسبهم كما فعل علامة الرافضة الزنادقة! فإجلال الخمينى وتعظيمه لمن كفر الصحابة وعلى الأخص أبو بكر وعمر يتفق مع توثيقه لدعاء صنمي قريش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1149 والعجيب أن يقرن هذين الزنديقين بالإمام الحسين وغيره من الأئمة الأطهار. إلي هنا نرى أن توثيق الخمينى للدعاء المذكور، وما نقلناه من كتابه " الحكومة الإسلامية " فيه الكفاية لبيان استمرار ضلال الرافضة وغلوهم، ولكن لننظر إلي شيىء مما جاء في بعض كتبه الأخرى لمزيد تأكيد ما أردنا إثباته. في محاضرات طبعت في تفسير آية البسملة قال في ص 31 تحت عنوان: على (ع) التجلي الإلهي العظيم: " إذا أنشد قصيدة في مدح الأمير على (ع) فهو يريد أن يقول إنه يدرك أنها لله، لأن الإمام عليه السلام هو التجلي العظيم لله، ولكونه كذلك لذا فإن ما فرضتموه مدحا له فهو مدح لله من خلال مدح تجليه " ويقول في ص 49: " ضربة على يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين "! وله كتاب " كشف أسرار " باللغة الفارسية، وقد تفضل أحد الإخوة فجمع مجموعة من نصوصه وذكر كل نص بالفارسية وترجمته بالعربية، ولطوله أكتفي بذكر بعض التراجم العربية أو خلاصتها: في ص 30 يقول: الاستعانة والاستمداد من الأموات ليس بشرك، لأن الشرك هو الاستعانة والاستمداد من دون الله معتقدا بأنه هو الله، وإن لم يكن كذلك فليس بشرك ولا فرق في ذلك بين الحي والميت، حتى لو طلب حاجة من حجر أو مدر مع أن هذا لغو وباطل. ونحن نستعين ونستمد من أرواح الأنبياء والأئمة لأن الله أعطاهم القدرة والتصرف وفي ص 40-41 يقول: إذا استشفي أحد بقبر أو أي شيىء اعتقادا بأنه هو الله أو مستقل بالتأثير مثل الله فهذا شرك، أما إذا كان يعتقد بأن هذا الشخص له مكانة عند الله لأنه كان يقدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1150 الله ويضحى بنفسه في سبيله، ولذلك جعل الله في تربته شفاء، فإن الاستشفاء بالقبر لا يكون شركا وكفرا أبدا!! ويقول في ص 44، 45: من أكبر مظاهر التواضع وعلامات الخضوع السجدة التي لا نجيزها لغير الله تعالي لوجود النهي الإلهي عن ذلك، وهذه السجدة إذا لم يقصد بها العبادة لا تعتبر شركا إذا كانت لغير الله!! ويقول في ص 60، 61: إذا كان بناء القبب والعتبات والأضرحة لعبادة الأصنام والأنبياء والأئمة فهذا شرك وكفر، أما إذا كان القصد من ذلك احترامهم واستراحة القادمين للزيارة فهذا ليس بشرك. وفي الكتاب يذكر مثل ما نقلناه من الحكومة الإسلامية غلوا في الأئمة، ويطعن في الصحابة الكرام وعلى الأخص أبو بكر وعمر وعثمان، ويرى أنهم أظهروا الإسلام طمعا في الرياسة، وأنهم خالفوا القرآن الكريم، وأن تصرف عمر في مرض النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدل على الكفر والزندقة، وأن الله عز وجل لو ذكر أسماء أئمة الرافضة في القرآن الكريم لحرفه الصحابة، ولذلك كان الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخشى ذكر الآيات التي تنص على إمامة على بالاسم مخافة أن يقع بين المسلمين شجار بعده، وتحريف في القرآن ... إلخ. (انظر على سبيل المثال في الصفحات التالية 68، 112، 114، 115، 117، 130) وفي بداية هذا الجزء وفي غير موضع تحدثت عن المراد بالنواصب عند الرافضة، والخمينى كالغلاة السابقين، بل من أشدهم غلوا، فتراه في " تحرير الوسيلة " يقول: " وأما النواصب والخوارج لعنهم الله تعالى فهما نجسان من غير توقف ذلك إلي جحودهما الراجع إلي إنكار الرسالة ". (1/118) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1151 ويقول: " فلو أرسل ـ أي كلب الصيد ـ كافر بجميع أنواعه أو من كان بحكمه كالنواصب لعنهم الله لم يحل ما قتله " (1/136) " فتحل ذبيحة جميع فرق الإسلام عدا الناصب وإن أظهر الإسلام " (1/146) . ويقول: " ولا تجوز ـ الصلاة ـ على الكافر بأقسامه حتى المرتد ومن حكم بكفره ممن انتحل الإسلام كالنواصب والخوارج ". (1/79) ويقول: " والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما اغتنم منهم وتعلق الخمس به، بل الظاهر أخذ ماله أينما وجد وبأي نحو كان، ووجوب إخراج خمسه ". (1/352) وهكذا كفر أمة الإسلام التي رضيت بخلافة أبى بكر وعمر ولم تأخذ بقول ابن سبأ، ولعن خير أمة أخرجت للناس، وحكم بنجاستهم، واستباح أموالهم وأخذها بطريقة قطاع الطرق، ومع إعطاء الخمس لزعيم عصابة المجرمين ولمعرفة المزيد راجع كتاب " وجاء دور المجوس "، المبحث السابع: الخمينى والنواصب. ص185 وما بعدها. ومجلة المجاهد ـ الأعداد من الثالث والأربعين إلي السادس والأربعين ـ موضوع " الرفض ... الشر المستطير ". هؤلاء هم أكبر ثلاثة وجهوا الشيعة الاثنى عشرية في عصرنا، فجعلوهم امتداداً لغلاة الرافضة وزنادقتهم بدءا من أتباع دعوة عبد الله بن سبأ، وابتعدوا بهم عن منهج الاعتدال، وبهذا يستيقن قارئ هذا الكتاب بأن الموضوع الذي يعالجه قديم معاصر متصل الحلقات من ابن سبأ إلي الحكيم والخوئى والخمينى مرورا بالقمي والعياشى والكليني وغيرهم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1152 وفي هذا الكتاب مر ذكر غيرهؤلاء الثلاثة من غلاة الرافضة في عصرنا، وما أكثر من ذكر! أما من لم يذكر فهم أشد كثرة. وعلى سبيل المثال وجدنا عبد الحسين شرف الدين الموسوى يقدم في اللقاءات التي عقدها الشيعة للتقريب بين الشيعة وأهل السنة على أنه من دعاة التقريب! وهو صاحب كتاب المراجعات الذي رددت علية بكتابي " المراجعات المفتراة على شيخ الأزهر البشرى "، وأثبت أنه من أشد الرافضة غلوا وضلالا وزندقة، حيث حرف القرآن الكريم نصا ومعنى، وبين أن الكتب الأربعة عندهم مقدسة، ورواياتها مضمونها متواتر، وهي كتب الحديث عندهم التي تحدثت عنها في الفصل الرابع من الجزء الثالث، ونقلت منها شيئا مما جاء فيها من الكفر والضلال والزندقة، وذهب إلي إسقاط كتب الحديث عند جمهور المسلمين. وقد مر ما يبين هذا في الفصل الرابع من الجزء الأول. وعبد الحسين هذا هو أيضا صاحب كتاب " الفصول المهمة في تأليف ... الأمة "، والتأليف الذي أراده هذا الزنديق هو أن ترتد أمة الإسلام فتصبح كلها رافضة تابعة لدعوة عبد الله بن سبأ، وتجتمع كلها على التحريف والتكفير..!! هذا علم من أعلام دعاة ـ التقريب الشيعة، وهذا هو منهج التقريب الذى يسلكه الشيعة بعد التحذير من الفرقة والاختلاف! فما رأي دعاة التقريب من جمهور المسلمين؟ أفيدونا أفادكم الله تعالى.. نسأل الله جلت قدرته أنه يجمع المسلمين على الحق، وأن يكفينا شر اعداء الإسلام، وأن يهدينا جمعيا سواء السبيل، وأن يفتح بيننا وبين إخواننا بالحق، إنه نعم المولي ونعم النصير، وهو المستعان. "" سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "". ‍‍‍‍‍‍‍‍‍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1153 السيد حسين الموسوى عالم شيعى من علماء النجف، له كتاب كشف الأسرار وتبرئة الأئمة الأطهار، وهو مرجع سبق ذكره فى بعض المواضع، وننقل هنا خاتمة هذا الكتاب. قال المؤلف: بعد هذه الرحلة المرهقة فى بيان تلك الحقائق المؤلمة، ما الذى يجب على فعله؟ هل أبقى فى مكانى ومنصبى وأجمع الأموال الضخمة من البسطاء والسذج باسم الخمس والتبرعات للمشاهد، وأركب السيارات الفاخرة (!!) وأتمتع بالجميلات؟ أم أترك عرض الدنيا الزائل وأبتعد عن هذه المحرمات، وأصدع بالحق ـ لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس؟ لقد عرفت أن عبد الله بن سبأ اليهودى هو الذى أسس التشيع. وفرق المسلمين وجعل العداوة والبغضاء بينهم، بعد أن كان الحب والإيمان يجمع بينهم ويؤلف قلوبهم، وعرفت أيضاً ما صنعه أجدادنا ـ أهل الكوفة ـ بأهل البيت، وما روته كتبنا فى نبذ الأئمة والطعن بهم، وضجر أهل البيت من شيعتهم كما سبق القول، ويكفى قول أمير المؤمنين - عليه السلام - فى بيان حقيقتهم: " لو ميزت شيعتى لما وجدتهم إلا واصفة، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين، ولو تمحصتهم لما خلص من الألف واحد " " الكافى " (8 / 338) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1154 وعرفت أنهم يكذبون على الله تعالى، فإن الله تعالى بين أن القرآن الكريم لم تعبث به الأيادى، ولن تقدر، لأن الله تكفل بحفظه، وأما فقهاؤنا فيقولون إن القرآن محرف، فيردون بذلك قول الله تعالى، فمن أصدق؟ أأصدقهم؟ أم أصدق الله تعالى؟ وعرفت أن المتعة محرمة، ولكن فقهاءنا أباحوها، وجرت إباحتها، إلى إباحة غيرها، كان آخرها اللواطة بالمردان من الشباب. وعرفت أن الخمس لا يجب على الشيعة دفعه ولا إعطاؤه للفقهاء المجتهدين، بل هو حل لهم حتى يقوم القائم، ولكن فقهاءنا هم الذين أوجبوا على الناس دفعه وإخراجه وذلك لمآربهم ـ أي الفقهاء ـ الشخصية ومنافعهم الذاتية. وعرفت أن التشيع قد عبث به أياد خفية، هي التى صنعت فيه ما صنعت كما أوضحنا فى الفصول السابقة، فما الذى يبقينى فى التشيع بعد ذلك؟ ولهذا ورد عن محمد بن سليمان عن أبيه قال: قلت لأبى عبد الله - عليه السلام -: " جعلت فداك، فإنا قد نبزنا نبزاً أثقل ظهورنا، وماتت له أفئدتنا، واستحلت له الولاة دماءنا، فى حديث رواه لهم فقهاؤهم. قال أبو عبد الله - عليه السلام -: الرافضة؟ فقلت: نعم. قال: " لا والله ما هم سموكم به، ولكن الله سماكم به "، " روضة ... الكافى " (5 / 34) . فإذا كان أبو عبد الله قد شهد عليهم بأنهم رافضة ـ لرفضهم أهل البيت ـ وأن الله تعالى سماهم به فما الذى يبقينى معهم؟ وعن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله يقول: " لو قام قائمنا بدأ بكذابى الشيعة فقتلهم "، " رجال الكشى " (ص 253) ، ترجمة ابن الخطاب. لماذا يبدأ بكذابى الشيعة فيقتلهم؟ يقتلهم قبل غيرهم لقباحة ما افتروه وجعلوه ديناً يتقربون به إلى الله تعالى به، كقولهم بإباحة المتعة واللواطة، وقولهم بوجوب إخراج خمس الأموال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1155 وكقولهم بتحريف القرآن، والبداء لله تعالى، ورجعة الأئمة، وكل السادة الفقهاء والمجتهدين يؤمنون بهذه العقائد وغيرها، فمن منهم سينجو من سيف القائم ـ عجل الله فرجه ـ؟؟ وعن أبى عبد الله - عليه السلام - قال: " ما أنزل الله سبحانه آية فى المنافقين إلا وهي فيمن ينتحل التشيع "، " رجال الكشى " (ص 254) ، أبى الخطاب. صدق أبو عبد الله بأبى هو وأمى، فإذا كانت الآيات التى نزلت فى المنافقين منطبقة على من ينتحل التشيع، فكيف يمكننى أن أبقى معهم؟؟ وهل يصح بعد هذا أن يدعوا أنهم على مذهب أهل البيت؟؟ ، وهل يصح أن يدعوا محبة أهل البيت؟ لقد عرفت الآن أجوبة تلك الأسئلة التى كانت تحيرنى وتشغل بالى. بعد وقوفى على هذه الحقائق وعلى غيرها، أخذت أبحث عن سبب كونى ولدت شيعياً، وعن سبب تشيع أهلى وأقربائى، فعرفت أن عشيرتى كانت على مذهب أهل السنة، ولكن قبل حوالى مئة وخمسين سنة جاء من إيران بعض دعاة التشيع إلى جنوب العراق فاتصلوا ببعض رؤساء العشائر واستغلوا طيب قلوبهم وقلة علمهم فخدعوهم بزخرف القول، فكان ذلك سبب دخولهم فى المنهج الشيعى. فهناك الكثير من العشائر والبطون تشيعت بهذه الطريقة بعد أن كانت على مذهب أهل السنة. ومن الضرورى أن أذكر بعض هذه العشائر أداء لأمانة العلم: فمنهم بنو ربيعة، بنو تميم، الخزاعل، الزبيدات، العمير وهم بطن من تميم، الخزرج، شرطوكة الدوار، الدفافعة، آل محمد وهم من عشائر العمارة، عشائر الديوانية وهم آل أقرع وآل بدير وعفج والجبور والجليحة، وعشيرة كعب، وبنو لام، وغيرها كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1156 وهؤلاء العشائر كلهم من العشائر العراقية الأصيلة المعروفة فى العراق، وهم معروفون بشجاعتهم وكرمهم ونخوتهم، وهم عشائر كبيرة لها وزنها وثقلها، إذ هم من العشائر العربية الأصيلة، ولكن مع الأسف تشيعوا منذ أكثر من مئة وخمسين سنة، بسبب موجات دعاة الشيعة الذين وفدوا إليهم من إيران، فاحتالوا عليهم وشيعوهم بطريقة أو بأخرى. ونسيت هذه العشائر الباسلة ـ رغم تشيعها ـ فإن سيف القائم ينتظر رقابهم ليفتك بهم كما مر بيانه، إذ أن الإمام الثانى عشر المعروف بالقائم، سيقتل العرب شر قتلة، رغم كونهم من شيعته، وهذا ما صرحت به كتبنا ـ معاشر الشيعة ـ فلتنتظر تلك العشائر سيف القائم ليفتك بها. لقد أخذ الله تعالى العهد على أهل العلم أن يبينوا للناس الحق، وها أنا ذا أبينه للناس، وأوقظ النيام الغافلين، وأدعو هذه العشائر العربية الأصيلة أن ترجع إلى أصلها، وألا تبقى تحت تأثير أصحاب العمائم، الذين يأخذون منهم أموالهم باسم الخمس والتبرعات للمشاهد، ويعتدون على شرف نسائهم باسم المتعة، وكل من الخمس والمتعة محرم كما سبق بيانه، وأدعو هذه العشائر الأصيلة لمراجعة تاريخها وتاريخ أسلافها ليقفوا على الحقيقة التى طمسها الفقهاء والمجتهدون وأصحاب العمائم، حرصاً منهم على بقاء منافعهم الشخصية. وبهذا أكون قد أديت جزءاً من الواجب. اللهم أسألك بمحبتى لنبيك المختار وبمحبتى لأهل بيته الأطهار أن تضع لهذا الكتاب القبول فى الدنيا والآخرة، وأن تجعله خالصاً لوجهك الكريم، وأن تنفع به النفع العميم، والحمد لله من قبل ومن بعد. انتهي كلام السيد حسين الموسوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1157 مراجع الكتاب بعد القرآن الكريم 1- الإتقان في علوم القرآن: جلال الدين عبد الرحمن السيوطى - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - مكتبة ومطبعة المشهد الحسينى - الطبعة الأولى. 2- أجوبة المسائل الدينية: نشرة شهرية تصدر عن لجنة الثقافة الدينية في كربلاء. 3- أجود التقريرات في الأصول: السيد أبو القاسم الخوئى - مكتبة المصطفوى في قم. 4- أحكام القرآن: أبو بكر أحمد بن على الرازى الجصاص - دار الكتاب العربى بيروت - طبعة مصورة عن الطبعة الأولى سنة 1335 هـ. 5- أحكام القرآن: لأبى بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربى - تحقيق على محمد البيجاوى - الطبعة الأولى - دار إحياء الكتب العربية بمصر. 6- إحياء علوم الدين: أبو حامد محمد بن محمد الغزالى - دار الشعب بالقاهرة. 7- إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب المعروف بمعجم الأدباء: ياقوت الرومى الحموى - مطبعة هندية بمصر - الطبعة الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1160 8- الأرض والتربة الحسينية: محمد الحسين آل كاشف الغطاء - ملحق بكتاب الوضوء لنجم الدين العسكرى - الطبعة الأولى - مطبعة دار التأليف. 9- أساس البلاغة: جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشرى. 10- أساس التأويل: النعمان بن حيون التميمى - تحقيق وتقديم عارف تامر - دار الثقافة بيروت. 11- أسباب اختلاف الفقهاء: على الخفيف - مطبعة الرسالة سنة 1375 هـ. 12- الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى - دار الكتب الإسلامية - طهران - الطبعة الثالثة. 13- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: يوسف بن عبد الله محمد بن عبد البر - الطبعة الأولى سنة 1328 هـ بهامش الإصابة. 14- الإصابة في تمييز الصحابة: ابن حجر العسقلانى - الطبعة الأولى سنة 1328 هـ. 15- أصل الشيعة وأصولها: محمد الحسين آل كاشف الغطاء - المطبعة العربية بالقاهرة - الطبعة العاشرة. 16- أصول التشريع الإسلامي: على حسب الله - الطبعة الرابعة - دار المعارف بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1161 17- الأصول العامة للفقه المقارن: محمد تقى الحكيم - دار الأندلس ببيروت - الطبعة الأولى. 18- أصول الفقه: محمد الخضرى - مطبعة الاستقامة - الطبعة الثالثة. 19- أصول الفقه: محمد رضا المظفر - طبع النجف - سنة 1382 هـ. 20- الأضواء: نشرة إسلامية عامة تشرف عليها اللجنة التوجيهية لجماعة العلماء بالنجف. 21- الأعلام: خير الدين الزركلى - الطبعة الخامسة سنة 1980. 22- أعلام الموقعين عن رب العالمين: ابن قيم الجوزية - دار الكتب الحديثة سنة 1389 هـ. 23- الألفين في إمامة أمير المؤمنين: الحسن بن يوسف بن المطهر الحلى - تعليق محمد الحسين المظفر - المطبعة الحيدرية في النجف سنة 1372 هـ. 24- الإمام الصادق: محمد أبو زهرة - دار الفكر العربى. 25- الأم: للإمام أبى عبد الله محمد بن إدريس الشافعى - الطبعة الأولى بالمطبعة الكبرى الأميرية سنة 1321 هـ. 26- الأموال: حميد بن زنجوية - تحقيق شاكر ذيب فياض - الطبعة الأولى 1406 هـ. 27 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1162 الأموال لأبى عبيد: أبو عبيد القاسم بن سلام - تحقيق محمد خليل هراس - الطبعة الثانية 1395 هـ. 28- الانتصار: للسيد الشريف علم الهدى أبى القاسم المرتضى - طبع حجر. 29- أنساب الأشراف: للبلاذرى أحمد بن يحيى - نسخة مصورة بمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالقاهرة رقم 32 ملكية. 30- أنوار التنزيل وأسرار التأويل: (تفسير البيضاوى) - المطبعة العثمانية سنة 1305 هـ. 31- الإيقاظ من الهجعة: للحر العاملى - المطبعة العلمية بقم. 32- آية التطهير بين أمهات المؤمنين وأهل الكساد: د. على أحمد السالوس - مكتبة ابن تيمية بالكويت - الطبعة الأولى. 33- الباعث الحثيث: شرح اختصار علوم الحديث للحافظ ابن كثير. أحمد محمد شاكر - الطبعة الثانية سنة 1370 هـ. 34- بحار الأنوار: المولى محمد باقر المجلسى - دار الكتب الإسلامية - طهران سنة 1385 هـ (والجز ءالثامن طبع حجر) . 35- البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار: أحمد بن يحيى بن المرتضى - الطبعة الأولى - مطبعة السعادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1163 36- البحر المحيط: أبو عبد الله محمد بن يوسف بن على بن يوسف بن حبان الأندلسى الشهير بأبى حيان - الطبعة الأولى سنة 1328 هـ - مطبعة السعادة. 37- بداية المجتهد ونهاية المقتصد: لأبى الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبى - مكتبة الكليات الأزهرية سنة 1386 هـ. 38 - البداية والنهاية: أبو الفداء إسماعيل بن كثير - الطبعة الثانية، مكتبة المعارف بيروت. 39- البرهان في تفسير القرآن: السيد هاشم البحرانى - الطبعة الثانية - طهران. 40- البرهان في علوم القرآن: بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشى - تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم - الطبعة الأولى - عيسى البابى الحلبى. 41 - البيان في تفسير القرآن: السيد أبو القاسم الموسوى الخوئى - طبع الآداب في النجف - الطبعة الثانية. 42- تاج العروس: محب الدين أبو الفيض السيد محمد مرتضى الزبيدى. 43- تاريخ المذاهب الإسلامية: محمد أبو زهرة - دار الفكر العربى. 44- تأويل الآيات الباهرة في فضل العترة الطاهرة: شرف الدين بن على النجفى - نسخة مصورة بمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالقاهرة - رقم 97 تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1164 45- التبيان في تفسير القرآن: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى - طبع النجف سنة 1376 هـ. 46- تجريد الأصول: المولى محمد مهدى - مطبعة السيد مرتضى سنة 1317 هـ. 47- تحرير الوسيلة: للخمينى. 48- التحفة الاثنا عشرية (أصله بالفارسية) : للمولى غلام حكيم بن الشيخ قطب الدين أحمد بن أبى الفيض الدهلوى. وترجمه إلى العربية المولى غلام محمد بن محيى الدين بن الشيخ عمر المدعو بالأسلمى. (مخطوط بدار الكتب: عقائد تيمور رقم 332) . 49- تدريب الراوى في شرح تقريب النواوى: جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى - تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف - الطبعة الثانية - منشورات المكتبة العلمية بالمدينة المنورة. 50- تطهير الجنان واللسان عن المحظور والتفوه بثلب سيدنا معاوية بن أبى سفيان: للمحدث أحمد بن حجر الهيتمى المكى (ملحق بكتابة الصواعق المحرقة) - خرج أحاديثه د. عبد الوهاب عبد اللطيف - الطبعة الثانية - شركة الطباعة الفنية المتحدة. 51- تعليق على مقال: إبراهيم جمال الدين - طبع سنة 1960م. 52 - تعليل الأحكام: د. محمد مصطقى شلبى - مطبعة الأزهر سنة 1947 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1165 53- تفسير الإمام الحسن العسكرى: طبع حجر بإيران سنة 1315 هـ. 54 - تفسير القرآن العظيم: أبو الفداء إسماعيل بن كثير - طبع عيسى البابى الحلبى. 55 - تفسير القمي: أبو الحسن على بن إبراهيم القمي - تقديم وتعليق: السيد طيب الموسوى الجزائرى - مطبعة النجف سنة 1386 هـ. 56 - التفسير الكاشف: محمد جواد مغنية - دار العلم للملايين - بيروت: الطبعة الأولى سنة 1986 م. 57 - تفسير الماتريدى المسمى تأويلات أهل السنة: أبو منصور محمد بن محمد الماتريدى - طبع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية سنة 1391 هـ. 58 - تفسير مجاهد: تحقيق عبد الرحمن الطاهر السورتى - مجمع البحوث الإسلامية - باكستان. نسخة أخرى: تحقيق الدكتور محمد عبد السلام. 59 - تفسير شبر: السيد عبد الله شبر. 60- التفسير ورجاله: محمد الفاضل بن عاشور. 61 - التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبى - دار الكتب الحديثة - الطبعة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1166 62 - تلخيص الشافى: للشيخ أبى جعفر محمد بن الحسن بن على الطوسى - ملحق بكتاب الشافى للسيد المرتضى أبو القاسم على بن الحسن بن موسى - طبع حجر. 63 - تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة: لأبى الحسن على بن محمد عرق الكتانى - تحقيق عبد الوهاب عبد الله وعبد الله محمد الصديق. 64 - تنقيح المقال: عبد الله المامقانى - المطبعة المرتضوية بالنجف سنة 1352 هـ. 65 - تهذيب الاثار: أبو حعفر محمد بن جرير الطبرى - تحقيق د. ناصر بن مسعد الرشيد وعبد القيوم عبدرب النبى - مطابع الصف مكة المكرمة سنة 1402 هـ. 66- تهذيب التهذيب: أبو الفضل أحمد بن على بن حجر العسقلانى - طبعة أولى بالهند سنة 1326هـ. 67 - تهذيب الوصول إلى علم الأصول: حسن بن يوسف بن على بن المطهر الحلى - دار الخلافة بطهران سنة 1308 هـ. 68 - توجيه النظر إلى أصول الأثر: طاهر بن صالح بن أحمد الجزائرى الدمشقي - المطبعة الجمالية بمصر - الطبعة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1167 69 - جامع البيان عن تأويل أي القرآن (تفسير الطبرى) : أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى - حققه وعلق حواشيه: محمود محمد شاكر - دار المعارف: 16 جزءا - ج 22، 29: طبعة الحلبى - الطبعة الثانية) . 70 - جامع الرسائل: لابن تيمية أبى العباس تقى الدين أحمد بن عبد الحليم - المجموعة الأولى تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم - مطبعة المدنى بالقاهرة. 71 - الجامع الصحيح: وهو سنن الترمذى لأبى عيسى بن سورة - بتحقيق أحمد محمد شاكر - مطبعة مصطفى البابى الحلبى وأولاده. (طبعة أخرى مع شرحه: تحفة الأحوذى للمبار كفورى) . 72 - الجرح والتعديل: لابن أبى حاتم الرازى - الطبعة الأولى. 73 - الجمعة: للشيخ محمد الخالصى - مطبعة المعارف - بغداد سنة 1369 هـ. 74- جوامع الجامع: أبو على الفضل بن الحسن الطبرسى - مطبعة مصباحى بتبريز إيران سنة 1379 هـ. 75- جوامع الكلم: للشيخ أحمد بن زين الدين الإحسائى - طبع حجر. 76 - جواهر الأخبار والآثار المستخرجة من لجة البحر الزخار: محمد بن يحيى بهران الصعيدى (ملحق بكتاب البحر الزخار) . 77- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1168 جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام: الشيخ محمد حسن النجفى - مطبعة النجف بالنجف - الطبعة السادسة سنة 1381 هـ. 78 - حاشية البجيرمى على شرح الخطيب المسماة تحفة الحبيب على شرح الخطيب - طبع بولاق سنة 1294 هـ. 79 - حاشية السيد محمد أمين بن عمر الشهير بابن عابدين المسماة رد المحتار على الدر المختار - طبع بولاق سنة 1272 هـ. 80- حاشية الشيخ محمد عرفة الدسوقى على الشرح الكبير لأبى البركات أحمد الدردير - المطبعة الأزهرية سنة 1350 هـ. 81 - الحاشية على الكفاية: محمد على القمي - المطبعة المرتضوية في النجف سنة 1345 هـ. 82 - حجة النبى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما رواها عنه جابر رضي الله عنه: محمد ناصر الدين ألبانى - منشورات المكتب الإسلامي - الطبعة الثالثة. 83 - الحقائق في الجوامع والفوارق: حبيب آل إبراهيم - مطبعة العرفان بصيدا سنة 1356 هـ. 84 - الحكومة الإسلامية: الخمينى - الطبعة الرابعة. 85 - الخطط المقريزية المسماة بالمواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار: تقى الدين أحمد بن على المعروف بالمقريزى - مطبعة النيل بمصر سنة 1326 هـ. 86 - الخلاف في الفقه: لشيخ الطائفة الطوسى - الطبعة الثانية 1377 هـ. 87 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1169 خلفاء الرسول الاثنا عشر: السيد محمد على - مطبعة أهل البيت بكربلاء سنة 1382هـ. 88 - الخوارج والشيعة: يوليوس قلهزون - ترجمة عبد الرحمن بدوى - مكتبة النهضة المصرية سنة 1958 م. 89 - دائرة المعارف الإسلامية: يصدرها باللغة العربية أحمد الشنتناوى وإبراهيم زكى خورشيد وعبد الحميد يونس. 90 - دراسات في الحديث النبوى وتاريخ تدوينه: د. محمد مصطفى الأعظمى - مطابع جامعة الرياض. 91 - دراسات في الكافى للكلينى والصحيح للبخارى: هاشم معروف الحسنى - مطبعة صور الحديثة بلبنان - الطبعة الأولى. 92 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين السيوطى وبهامشه تنوير المقباس تفسير ابن عباس - دار المعرفة ااطباعة والنشر - بيروت. 93- الدعوة الإسلامية إلى وحدة أهل السنة والإمامية: للإمام أبو الحسن الخنيزى - الطبعة الأولى. 94- دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية: د. محمد السيد الجليند. 95- دليل العروة الوثقى: حسن السعيد - مطبعة النجف سنة 1379 هـ. 96- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1170 الدين والإسلام: محمد الحسين آل كاشف الغطاء - مطبعة العرفان صيدا سنة 1330 هـ -الطبعة الثانية. 97- الذريعة إلى تصانيف الشيعة: آغا برزك الطهرانى. 98- ذو النورين عثمان بن عفان: محب الدين الخطيب - الطبعة الأولى 1394هـ. 99- الرسالة: للإمام الشافعى - تحقيق أحمد محمد شاكر. 100- رسالة أبى داود إلى أهل مكة في وصف سننه: حققها محمد الصباغ - طبع بيروت سنة 1394هـ - الطبعة الثانية. 101- رسالة الإسلام: مجلة تصدر عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة. 102- رسالة للصدوق في الاعتقادات: أبو جعفر محمد بن على بن بابويه القمي - ملحق بكتاب النافع يوم الحشر للسيورى. 103- روح الإسلام: سيد أمير على - نقله إلى العربية عمر الديراوى- دار العلم للملايين بيروت - الطبعة الأولى. 104- روح المعانى في تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى: السيد محمود الآلوسى البغدادى - المطبعة الأميرية ببولاق - الطبعة الأولى. 105- الروض الباسم في الذب عن سنة أبى القاسم: أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الوزير اليمانى - إدارة الطباعة المنيرية بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1171 106- الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية: اللمعة لمحمد بن جمال الدين مكى العاملى (الشهيد الأول) والروضة لزين الدين الجبعى العاملى (الشهيد الثانى) - مطابع دار الكتاب العربى بمصر. 107- زاد المسير في علم التفسير: أبو الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن على بن محمد الجوزى - المكتب الإسلامي- الطبعة الأولى سنة 1384 هـ. 108- زبدة البيان في أحكام القرآن: أحمد بن محمد الشهير بالمقدس الأردبيلى - حققه وعلق عليه محمد الباقر البهبودى - المكتبة المرتضوية - طهران - طبع المطبعة الحيدرية. 109- الزواج في الشريعة الإسلامية: على حسب الله - الطبعة الأولى. 110 - سبل الإسلام: لمحمد بن إسماعيل الكحلانى ثم الصنعانى المعروف بالأمير - المكتبة التجارية. 111- سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة: محمد ناصر الدين الألبانى. 112- السنة والشيعة أو الوهايبة والرافضة: للسيد الإمام محمد رشيد رضا - الطبعة الثانية - دار المنار. 113 - السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: الدكتور مصطفى السباعى - مطبعة المدنى - الطبعة الأولى سنة 1380 هـ. 114- سنن الدارمى: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمى - طبع المدينة المنورة سنة 1386. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1172 115- سنن الحافظ أبى عبد الله محمد بن يزيد القزوينى بن ماجه: حققه وعلق عليه محمد فؤاد عبد الباقى - عيسى البابى الحلبى سنة 1372. 116- سنن النسائى: أبو عبد الرحمن أحمد بن سعيد بن على بن بحر النسائى - بشرح الحافظ جلال الدين السيوطى وحاشية الإمام السندى -الطبعة الأولى سنة 1348 هـ، المكتبة التجارية الكبرى بمصر. 117- سير أعلام النبلاء: شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبى - تحقيق شعيب الأرنؤوط - مؤسسة الرسالة بيروت - الطبعة الثالثة. 118- السيرة النبوية: أبو محمد عبد الله بن هشام - مطبعة مصطفى البابى الحلبى - الطبعة الثانية. 119- شرائع الإسلام: للمحقق الحلى - الطبعة الثانية سنة 1409هـ. 120- الشرح الكبير: لأبى الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسى - ملحق بكتاب المغنى لابن قدامة. 121 - الشهاب الثاقب في تحقيق صلوة الجمعة ووجوبها العينى: الشيخ ملا محسن المعروف بالفيض الكاشانى - المطبعة العلمية بالنجف سنة 1368 هـ. 122 - الشهاب الثاقب في رد ما لفقه الناصب: محمد باقر الطباطبائى - مطبعة المباركة المرتضوية في النجفة. 123- الشيعة والتشيع: محمد جواد مغنية - دار الكتاب اللبنانى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1173 124 - الشيعة في التاريخ: محمد حسن الزين العاملى - مطبعة العرفان صيدا - سنة 1357 هـ. 125- الصافى: محمد بن مرتضى المدعو بمحسن - مخطوط بدار الكتب 20310. 126- صحيح ابن خزيمة: أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة - تحقيق د. محمد مصطفى الأعظمى، المكتب الإسلامي. 127- صحيح البخارى: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى. وشرحه فتح البارى لابن حجر العسقلانى. 128- صحيح الجامع الصغير: محمد ناصر الدين الألبانى. 129- صحيح مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيرى النيسابورى. 130 - الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة: لابن حجر الهيتمى - الطبعة الثانية - تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف. 131- ضحى الإسلام: أحمد أمين - مكتبة النهضة المصرية - الطبعة الثالثة. 132- ضياء الدراية: السيد ضياء الدين العلامة - مطبعة الحكم في قم سنة 1378 هـ. 133- عبد الرحمن بن خلدون: للدكتور على عبد الواحد وافى - سلسلة أعلام العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1174 134- عبقرية الصديق: عباس محمود العقاد - دار المعارف بمصر - الطبعة الثامنة. 135- عبقرية عمر: عباس محمود العقاد - مطابع دار الهلال بالقاهرة سنة 1388 هـ. 136- عصمة الأنبياء: للإمام فخر الدين الرازى - إدارة الطباعة المنيرية سنة 1355 هـ. 137- عقائد الإمامية: محمد رضا المظفر - مطبعة النعمان بالنجف - الطبعة الثالثة. 138- عقيدة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية: د. على أحمد السالوس - دار الاعتصام بالقاهرة. 139- العقيدة والشريعة في الإسلام: المستشرق أجناس جولد تسهير - نقله إلى العربية محمد يوسف موسى وآخرون - الطبعة الثانية - مطابع دار الكتاب العربى بمصر. 140- على وبنوة: طه حسين - دار المعارف بمصر - الطبعة السابعة. 141- غاية النهاية في طبقات القراء: شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن الجزرى - مكتبة الخانجى - طبعة أولى. 142- الغدير في الكتاب والسنة والأداب: عبد الحسين أحمد الأمينى - دار الكتاب العربى ببيروت - الطبعة الثالثة. 143- الغنية لطالبى طريق الحق عز وجل: سيدى عبد القادر الجيلانى - طبع بولاق سنة 1288 هـ. 144- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1175 فجر الإسلام: أحمد أمين - مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر - الطبعة الرابعة. 145- فرق الشيعة: الحسن بن موسى النوبختى وسعد بن عبد الله القمي - حققه د. عبد المنعم الحفنى - الطبعة الأولى 1412 هـ. 146- الفرق بين الفرق: أبو منصور عبد القادر بن طاهر البغدادى - مكتب نشر الثقافة الإسلامية سنة 1367 هـ. 147- فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب: حسين بن محمد تقى النورى الطبرسى - طبع حجر. 148- الفصل في الملل والأهواء والنحل: أبو محمد على بن أحمد بن حزم - مطبعة التمدن - الطبعة الأولى. 149- الفصول المهمة في تأليف الأمة: عبد الحسين شرف الدين الموسوى العاملى - مطبعة العرفان صيدا سنة 1330 هـ. 150- فضائل الإمام على: محمد جواد مغنية - مطبعة الآداب بالنجف. 151- فقه الإمام جعفر الصادق: محمد جواد مغنية - دار العلم للملايين - بيروت - طبعة أولى سنة1365 هـ. 152- فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة: د. على أحمد السالوس - الطبعة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1176 153- الفقه على المذاهب الخمسة: محمد جواد مغنية - الطبعة الثانية - دار العلم للملايين - بيروت. 154- فقيه من لا يحضره الفقيه: أبو جعفر الصدوق محمد بن على الحسين بن بابويه القمي - دار الكتب الإسلامية، تهران - الطبعة الخامسة. 155- الفهرست: أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى - المطبعة الحيدرية بالنجف سنة 1356هـ. 156- فوائد الأصول: محمد على الكاظمى الخراسانى - مكتبة الصدر - تهران خيابان ناصر خسرو. 157 - الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: محمد بن على الشوكانى - مطبعة السنة المحمدية - الطبعة الأولى. 158- فيض القدير شرح الجامع الصغير: الجامع الصغير للسيوطى، وفيض القدير للمناوى - الطبعة الثانية سنة 1391 هـ. 159- القاموس المحيط: لمجد الدين الفيروز بادى. 160- قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث: محمد جمال الدين القاسمى - تحقيق محمد بهجة البيطار - طبع عيسى البابى الحلبى بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1177 161- قواعد في علوم الحديث: ظفر أحمد العثمانى التهانوى - تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة - الطبعة الثالثة - مطابع دار القلم - بيروت. 162- القول المسدد في الذب عن المسند: أحمد بن على بن محمد المعروف بابن حجر العسقلانى - الطبعة الأولى سنة 1319 هـ. 163 - الكافى: أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازى - صححه وعلق عليه: على أكبر الغفارى - دار الكتب الإسلامية بطهران - الطبعة الثالثة. 164- الكامل فى اللغة والأدب: أبو العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرد - مطبعة الاستقامة سنة 1365 هـ. 165- كتاب التفسير " تفسير العياشى ": أبو النضر محمد بن مسعود بن عياش السلمى المعروف بالعياشى - المكتبة العلمية الإسلامية - طهران. 166- كتاب التمييز: للإمام مسلم - حققه د. مصطفى الأعظمى - مطبوعات جامعة الرياض. 167- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل: أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشرى - طبع مصطفى البابى الحلبى سنة 1385 هـ. 168- كشف الأسرار: الخمينى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1178 169- كشف الأسرار وتبرئة الأئمة الأطهار: السيد حسين الموسوى. 170- كشف الخفاء ومزيل الألباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس: إسماعيل بن محمد العجلونى - دار إحياء التراث العربى بيروت - الطبعة الثانية. 171- كشف الظنون عن أسامى الكتب والفنون: مصطفى بن عبد الله " حاجى خليفة ". 172- كشف المراد فى شرح تجريد الاعتقاد: الحسن بن يوسف بن المطهر الحلى - مكتبة المصطفوى فى قم. 173- الكفاية فى علم الرواية: أبو بكر أحمد بن على بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادى - المكتبة العلمية بالمدينة المنورة. 174- كنز العرفان فى فقه القرآن: مقداد بن عبد الله بن محمد الحلى السيورى - طبع حجر. 175- اللآلئ المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة: جلال الدين عبد الرحمن السيوطى - المكتبة الحسينية المصرية بالأزهر - الطبعة الأولى. 176- لسان العرب: جمال الدين المعروف بابن منظور المصرى. 177- لسان الميزان: الحافظ ابن حجر العسقلانى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1179 178- المبسوط: لشمس الدين السرخى - مطبعة السعادة سنة 1324 هـ. 179- مجمع البيان فى تفسير القرآن: أبو على الفضل بن الحسن الطبرسى - شركة المعارف الإسلامية سنة 1383هـ. (الأجزاء الناقصة التي أشير إلى طبعتها: طبع دار مكتبة الحياة سنة 1380هـ) . 180- مجلة المجاهد: بباكستان. 181- مجموع فتاوى: شيخ الإسلام ابن تيمية. 182 - المجموع المغيث فى غريبى القرآن والحديث: أبو موسى محمد بن أبى بكر المدينى الأصفهانى - من مطبوعات جامعة أم القرى - الطبعة الأولى سنة 1406 هـ. 183- مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة: د. محمد حميد الله - الطبعة الخامسة. 184- محاضرات فى تفسير آية البسملة: الخمينى. 185- مختصر التحفة الاثنى عشرية: اختصره وهذبه السيد محمود شكرى الآلوسى - حقق حواشيه: محب الدين الخطيب - المطبعة السلفية سنة 1373هـ. 186- المختصر النافع فى فقه الإمامية: أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي - مطبعة وزارة ... الأوقاف بمصر- الطبعة الثانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1180 187- مختصر صحيح مسلم: تحقيق محمد ناصر الدين الألبانى. 188- المدونة الكبرى: للإمام مالك بن أنس - مطبعة السعادة سنة 1323 هـ. 189- المراجعات: عبد الحسين شرف الدين الموسوي - دار النعمان بالنجف - الطبعة السادسة. 190- مساجد ومعاهد: كتاب الشعب (78) . 191- المستدرك: لأبى عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بالحاكم. فى ذيله تلخيص المستدرك للذهبى - دار الباز للنشر بمكة المكرمة. 192- مستمسك العروة الوثقى: السيد محسن الطباطبائى الحكيم - مطبعة الآداب بالنجف - الطبعة الرابعة. 193- المسح على الأرجل أو غسلها فى الوضوء: السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي. ملحق بكتاب الوضوء فى الكتاب والسنة لنجم الدين العسكرى. 194- المسند: الإمام أحمد بن حنبل - شرحه وصنع فهارسه: أحمد محمد شاكر - دار المعارف بمصر (الأجزاء غير مخرجه الأحاديث: طبع المطبعة الميمنية، إدارة السيد أحمد البابى الحلبى سنة 1313 هـ) . 195- مشكاة المصابيح: الخطيب التبريزى - تحقيق محمد ناصر الدين الألبانى - المكتب الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1181 196- مشكل الآثار: أبو جعفر الطحاوى أحمد بن محمد سلامة بن سلمة الأرذى - الطبعة الأولى بالهند سنة 1333 هـ. 197- مصباح الهداية فى إثبات الولاية: على الموسوي البهبانى - ناشر: أصفهان كتابفروش دين ودانش - جاب دون - مطبعة ربانى. 198- المعالم الجديدة للأصول: محمد باقر الصدر - مطبعة النعمان بالنجف سنة 1385هـ. 199- معانى الأخبار: لابن بابويه القمي الملقب بالصدوق - طبع فى بيروت سنة 1399هـ. 200- معانى القرآن: أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء - عالم الكتب - بيروت الطبعة الثانية سنة 1980م. 201- معجم ألفاظ القرآن الكريم: مجمع اللغة العربية. 202- معجم رجال الحديث: السيد أبو القاسم الموسوي الخوئى - مطبعة الآداب فى النجف سنة 1390هـ - 1970م. 203- المعجم الكبير: للطبرانى 204- معجم المؤلفين: عمر رضا كحالة - مطبعة الترقى بدمشق 1381هـ - 1961م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1182 205- المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوى: ونسنك وآخرون بمشاركة محمد فؤاد عبد الباقى. 206- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقى. 207- المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية. 208- المعتبر: أبوالقاسم الحلى - طبع حجر. 209- معرفة علوم الحديث: للحاكم - تعليق د. السيد معظم حسين - طبع بيروت. 210- المغنى: لأبى محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة - تعليق السيد محمد رشيد رضا، طبعة أخرى تحقيق د. عبد الله التركى ود. عبد الفتاح الحلو. 211- المغنى في الضعفاء للذهبى: تحقيق نور الدين عتر. 212- مفاتيح الغيب المشتهر بالتفسير الكبير: للإمام محمد الرازى فخر الدين - الطبعة الأولى بمصر سنة 1380 هـ. 213- مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة: للسيوطى. 214- مفتاح الكرامة شرح قواعد العلامة: محمد الجواد بن محمد الحسينى العاملى - طبع الأجزاء ما بين سنة 1323 -1331 هـ. 215- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1183 مفتاح كنوز السنة: ترجمة محمد فؤاد عبد الباقى. 216- المقاصد الحسنة: شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوى - دار الأدب العربى للطباعة سنة 1375هـ. 217- مقباس الهداية في علم الدراية: عبد الله المامقانى - ملحق بكتابه تنقيح المقال. 218- مقدمة العلامة ابن خلدون: عبد الرحمن بن خلدون - مطبعة مصطفى محمد صاحب المكتبة التجارية. 219- مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث: دار الباز للنشر بمكة المكرمة سنة 1398هـ. 220- مقدمة في أصول التفسير: ابن تيمية: أبو العباس تقى الدين أحمد بن عبد الحليم. المطبعة السلفية سنة 1370هـ. 221- الملل والنحل: أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستانى - تحقيق محمد سيد كيلانى - مطبعة مصفى البابى الحلبى سنة 1287هـ. 222- المنتقى من منهاج الاعتدال: وهو مختصر منهاج السنة لابن تيمية: اختصره أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبى - تعليق محب الدين الخطيب: المطبعة السلفية سنة 1374هـ. 223- منهاج السنة النبوية: لابن تيمية - تحقيق د. محمد رشاد سالم - طبع جامعة الإمام محمد محمد بن سعود سنة 1406 هـ. 224 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1184 منهاج الشريعة: السيد محمد مهدى الكاظمى القزوينى - النجف سنة 1346 هـ. 225- المهدية في الإسلام: سعد محمد حسن - مطابع دار الكتاب العربى بمصر سنة 1373هـ. 226- الموطأ: للإمام مالك وشرحه تنوير الحوالك للسيوطى - مطبعة مصطفى البابى الحلبى سنة 1370هـ. 227- ميزان الاعتدال في نقد الرجال: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبى - الطبعة الأولى سنة 1325هـ. 228- الميزان في تفسير القرآن: السيد محمد حسين الطباطبائى - دار الكتب الإسلامية بطهران - الطبعة الثانية. 229- النافع يوم الحشر في شرح باب الحادى عشر: جمال الدين المقداد بن عبد الله السيورى - طبع حجر بإيران سنة 1370هـ. 230- النسخ في القرآن الكريم: الدكتور مصطفى زيد - دار الفكر العربى - الطبعة الأولى. 231- النظريات السياسية الإسلامية: محمد ضياء الدين الريس - الطبعة الثانية سنة 1975م - مكتبة الأنجلو المصرية. 232- نظرية الإمامة لدى الشيعة الاثنى عشر: الدكتور أحمد محمود صبحى - دار المعارف بمصر سنة 1969 م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1185 233- النكت والعيون (تفسير المارودى) : أبو الحسن على بن حبيب المارودى - مطابع مقهوى بالكويت الطبعة الأولى سنة 1402هـ. 234- نهج البلاغة: اختاره الشريف الرضي من كلام الإمام على شرح الشيخ محمد عبده - دار ومطابع الشعب - طبعة أخرى تحقيق وتوثيق د. صبرى إبراهيم السيد سنة 1406 هـ. 235- النور الساطع في الفقه النافع: على كاشف الغطاء - مطبعة الآداب بالنجف سنة 1381هـ. 236- نيل الأوطار: محمد بن على بن محمد الشوكانى - مطبعة مصطفى البابى الحلبى - الطبعة الثانية. 237- الهداية في تخريج أحاديث البداية: أبو الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغمارى - تحقيق يوسف المرعشلى وعدنان شلاق. 238- هدية العارفين: إسماعيل باشا البغدادي - طبع بالأوفست على طبعة إستنابول سنة 1951 م. منشورات مكتبة المثنى ببغداد. 239- هدى السارى: أحمد بن على بن حجر العسقلانى - المطبعة السلفية بالقاهرة. 240- وجاء دور المجوس: د. عبد الله محمد الغريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1186 241- وجوب صلاة الجمعة: للسيد هبة الدين الحسينى المعروف بآية الله الشهرستانى - الطبعة الخامسة - مطبعة أهل البيت بكربلاء. 242- وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة: للشيخ محمد بن الحسن الشهير بالحر العاملى - ومعه مستدرك الوسائل للميرزا حسين النورى - الطبعة الأولى - مطبوعات النجاح بالقاهرة (خمسة أجزاء) وطبعة أخرى بدون المستدرك: بيروت - الطبعة الرابعة 1391 هـ (20 مجلدا) . 243- الوشيعة في نقد عقائد الشيعة: موسى جار الله - مكتبة الخانجى بمصر سنة 1355 هـ. 244- الوضوء في الكتاب والسنة: نجم الدين العسكرى - الطبعة الأولى - مطبعة دار التأليف. 245- وفيات الأعيان: لابن خلكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1187